أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - نضال الربضي - قراءة في الوجود – 5 - الوعي كوعاء للعقل و الإحساس و ما دونه.















المزيد.....


قراءة في الوجود – 5 - الوعي كوعاء للعقل و الإحساس و ما دونه.


نضال الربضي

الحوار المتمدن-العدد: 4888 - 2015 / 8 / 6 - 10:20
المحور: الطب , والعلوم
    




نظرنا في الأجزاء الأربع ِ الأولى من هذه السلسلة إلى الحياة و الموت و الوعي بحسبِ كونها جميعا ً تجليات ٍ للمادة ِ و لتحولاتِها الفيزيائية ِ المختلفة، و بحسب ِ كونها تمظهُرا ً لـ "طبيعة ِ هذه المادة" و "انعكاسا ً لماهيتها"، و ذهبت ُ معكم إلى أبعد َ من ذلك لأبين الفروق بين "الوعي العاقل" و الذي أطلق عليه كلمة َ الوعي بمطلق الحرِّية، و بين "الوعي غير العاقل" و الذي أرى أن الكلمة َ هنا مجرد ُ استعارة ٍ لما يظهر ُ من سلوكه فيبدو فيه أنه وعي، مع التأكيد أنه ليس كذلك، كما هو في سلوك ِ المادة غير الحية، و التي تتصرفُ كتعبير ٍ عن ذاتها و جوهر و ماهيتها لا أكثر.

و سأخوضُ اليوم في المنطقة ِ الشائكة للوعي غير البشري، و هي المنطقة ُ التي نجد ُ فيها الحيوانات ِ على اختلاف ِ أنواعها و درجات ِ ذكائها، لنتعمَّق َ ساعين لتشكيل ِ ملامِح ِ تعريف ِ الوعي على أدق ما نستطيع، مع الاعتراف بقصور ِ العلم عن القطع و التحديد النهائي، و اختلاف الآراء ِ و الاعتقادات ِ و المشارب ِ و التوجهات بين الباحثين و الدارسين. و سأبدأ من الإنسان كنقطة مرجعية لقبول ما هو "وعي" انحدارا ً نحو الحيوان لإيقاع القياس.

في الإنسان
----------
يقوم ُ الوعي في الإنسان على الإدراك ِ العاقل Sapience، و هو الذي بواسطته يستطيع ُ أن يُفكــِّر و يستنبط َ العلاقات بين الأشياء ِ و الكائنات، و يتخيل المواقف و يأخذ القرارات بناء ً على الحقيقة الواقعة و الممكنات التي يحتملُ أن تقع. فهذا الجزء الإدراكي العقلي هو مستوى متقدم من الوعي نعلم ُ أنه نتيجة مباشرة لوجود الدماغ البشري و لشبكته العصبية و للتفاعلات البيولوجية الكيميائية بداخله.

ينضوي الوعي في الإنسان على إدراك ٍ أبسط َ و أكثر بدائيـَّة ً من الإدراك العاقل، و هو الإدراك الحسي Sentience، الذي يؤسِّس ُ لوجود العقل، فيستجيب ُ له الأخير و يعمل ُ عليه ، و يتفاعل ُ معه، و يفسره، و يعطيه المعنى، و يوظفه، و يخرج ُ نتائجَه ُ بحسب العمليات السابقة تفاعلات ٍ يومية على المستويات: الشخصية، الاجتماعية، الوظيفية: كلها بشكل ٍ خاص، و الحياتية بشكل عام ٍ. فما هو الإدراك الحسي؟

الإدراك الحسي هو القدرة على "الاختبار"، بالمعنى الذي يستقبل ُ فيها جسد ُ الكائن الحي "مؤثرا ً" خارجيا ً مثل: رائحة ِ وردة، أو ملمس ِ غصن ِ شجرة، أو مشهد َ نهر ٍ ينساب. يُطلق على كل اختبار ٍ من هذه الاختبارات لفظ Quale (كــْــوَالـِـي) . و يعرِّف ُ البروفسور دانيل دينيت كل اختبار (Quale) منها بشكل ٍ مبسَّط ٍ فيقول عن المصطلح أنه:

"مصطلح غير مألوف يعبر عن شئ شديد الألفة بالنسبة لنا: يعبر عن الطريقة التي تبدو فيها الأشياء لنا"

أو بعبارة أبسط (بحسب صياغتي): الكوالي هي الخبرة التي نكتسبها مع كل حدث.

إن الإدراك الحسي Sentience (في الإنسان تحديدا ً) متطلب ٌ يجب توفره ليتمكن الإدراك العقلي من التواجد، فلا يمكن أن يتواجد العقل بدون المادة الدماغية التي ينطلق ُ منها، و هي بدورها لا يمكن ُ أن تتواجد َ إلا في الكائنات العضوية ِ المتطورة، و هذه الأخيرة كائنات ٌ ناتجة عن ضغط ٍ انتخابي تطوري ٍّ Evolutionary Selection Pressure بفعل ظروف و عوامل البيئة، أي إنها كائنات ٌ ناتجة عن "التــَّـفاعـُـل" و "التــَّـبدل" و "التــَّـكيــُّـف" و كلها أحداث ٌ لا يمكن ُ أن يقوم بها سوى "كائن ٌ لديه إحساس".

إذا ً و مما سبق أذهب ُ إلى أن الوعي ُ في الإنسان ِ يشتمل ُ على إدراكين هما: العقلي و الحسي.

في الحيوان
-----------
تمتلك الحيوانات الإدراك الحسي Sentience و الذي هو جزء ٌ من الوعي، و الذي على الرغم من كونه لا ينطق باسمه و لا يعبِّرُ عن شمولية ِ حقيقة ِ ماهيته أو جوهره، إلا أنه وعي ٌ (أو هكذا يبدو) بدرجات ٍ أقل من وعي الإنسان، مثلما نشاهد ُ في قردة ِ البونوبو و الشيمبانزيات التي يمكن ُ أن يبلغ َ ذكاؤها مبلغ َ ذكاء ِ طفل ٍ بشري في عمر الأربع ِ سنوات. و تستطيع ُ أن تختبر َ المواقف َ و الأحداث و تتفاعل معها، و تكوِّن (الكواليات) الخاصة بها. و هنا لا بدَّ أن نتوقف َ لنسأل:

هل هذا الذكاء ُ القِردِي يكفي لكي نصنِّف َ القرود العليا على أنها "واعية"؟

إن احتمالي الإجابة: أ- "النعم" وب- الـ "لا"، بابان واسعان لأسئلة ٍ أخرى ستلي بالضرورة:

أ -
فإن قلنا: لا، ليست واعية، فسنخوض ُ حربا ً فكرية ً ضارية ٍ شرسة، لأن هذا الجواب يعني و بكل بساطة: إذا كان ذكاء ُ القرد ِ الأعلى (شيمبانزي، بونوبو) و الذي يماثلُ ذكاء َ طفل السنوات الأربعة ِ لا يكفي لكي نصنــّـِـفه ُ واعيا ً فإننا عندها نصنِّف ُ أطفال َ البشر في الأعمار الصغيرة: الأربعة ِ و ما تحتها، على أنهم "غير ُ واعين"، و سيستتبعُ المعنى بالضرورة سؤالا ً أخلاقيا ً "هل هم أدنى قيمة ً إنسانية من البالغين؟"، و سنجعل ُ الأسئلة َ أكثر صعوبة ً و تشابكا ً و تعقيدا ً لنسأل أيضا ً "ماذا عن المعاقين الفاقدين للأهلية ِ العقلية، هل هم بشر ٌ أم أقل؟ ما هي حقوقهم؟" و ربما سننجرف ُ أكثر َ نحو أسئلة ٍ أخرى من شاكلة "إذا كنت ُ أكثر َ ذكاء ً من غيري (و إن كان ذكيا ً جدا ً) فهل أنا أكثر ُ وعيا ً منه و أفضل ُ منه؟ و ما الحقُّ الذي لي بقوة ِ وجود ذكائي و الذي ليس له؟"

و عندها ستكون ُ إجابات ُ الأسئلة السابقة مُستقاة ً من الفلسفات الوجودية، و الأخلاقية، و الإجتماعية، لأننا سنضطر ُ أن نتحدثَ عن طفل الإنسان بحسب أنه "عاقل ٌ في طور الاكتمال" و بالتالي "إنسان كامل بحسب ما سيكون عليه" لا بحسب "ما هو في تلك المرحلة " لكن مع كامل الاحترام الإنساني، أي أننا سنستخدم ُ وعينا العقلي كبالغين، و معتقدنا الأخلاقي، و قيمنا الفـُـضلى و المُـثلى لنتجاوز "الواقع" مستشرفين "المستقبل" فنحكم َ على الأول في ضوء ِ الأخير. و قس على ذلك إجابات ِ باقي الأسئلة ِ السابقة.

سنقول ُ في كل إجاباتنا أن جوهر الإنسان واحد و قيمته الإنسانية واحدة ٌ محفوظة، سواء ً كان صغيرا ً أو كبيرا ً، معاقا ً أو سويَّاً، شديد الذكاء أو متوسِّطَه ُ أو ضعيفَه ُ، هذا ما اتفقنا عليه بحسب مواثيق حقوق الإنسان، و الدساتير العلمانية، و الأحكام الأخلاقية التي تجعل من جنسنا عظيما ً بحق مُتجاوزا ً طبيعته ُ الحيوانية بدون أن ينفصل َ عنها، و هو ما سيؤيدني فيه معظم القرَّاء ِ الكرام (لا أقول ُ الجميع) دون شك.

لكن في كل الأحوال لا يجب ُ أن ننسى أو نتجاهل َ أن الجواب َ السابق ليس جوابا ً علميا ً أبدا ً، إنما جواب ٌ أخلاقيٌّ بالدرجة الأولى، أسعفنا حينما لم يسعفنا العلم، أو ربَّما أن العلم أسعفنا فأخبرنا بضعف عقل الطفل و المعاق فتجاوزنا - قاصدين – البحث َ في الوعي َ و الأهلية َ لخطورة ِ ما يمكن أن نجد، لنضع مكانهما الإنسانية، فأحللنا الأخلاق قاضيا ً حينما كان جواب العلم ِ الجامد و البارد مُتعارضا ً مع المشاعر ِ الإنسانية ِ و خبرات ِ الشعوب ِ الاجتماعية و قيمها الحضارية المتراكمة. أي أننا اتخذنا مسارين متداخلين مترادفين تبادليين لإصدار الأحكام: أحدهما مسار العلم و ثانيهما مسار الأخلاق.

سؤال ٌ علميٌّ آخر سيلحُّ علينا بشدة أيضا ً: "إذا كان طفل الإنسان غير واع ٍ ثم يصبح ُ واعيا ً، أليس معنى هذا أن الوعي كامن ٌ في الكائن، و يتجلى مع النمو (التغير) البيولوجي؟" و هو سؤال ٌ إذا أعدنا صياغته يمكن أن يقول َ ما يلي: "كيف يمكننا أن نحكم على الوعي حكما ً صحيحا ً إذا كان الوعي ُ نفسه متحركا ً متغيرا ً ديناميكيا ً ناميا ً مُتأثرا ً بالبيولوجيا و العصبونات الدماغية؟"، إننا هنا عزيزي القارئ أمام مأزِق ٍ زئبقي له ملامح ُ تتغير، مأزق ٍ مُلحٍّ شديد التــَّـطلــّـُـب ِ، له معاير لا نعرفها، و لا نُحسن قياسها كاملة ً لأننا لا نحيط بها، إنه مأزق ُ "الكامن ِ الذي يتجلى"، فهل الكائن ُ واع ٍ حتى في كمونِ الوعي دون ظهوره؟ فإن أقررنا فكيف َ نقيس ُ ما هو كامن؟ بل قل كيف نعرف ُ أنه كامن ُ أصلا ً؟ أما إذا نفينا أفلا نكون ُ عندها مجافين للمُعطى العلمي؟ و غص أيها القارئ الكريم أكثر و أكثر و استخرج أسئلتك َ التي ستلحُّ عليك كلما أعملت َ الذهن َ فيما عرضتُه ُ أمامك.


ب -
أما إن قلنا نعم: إنها واعية، وجب َ علينا أن نمد َّ الخيط َ على استقامتِه ِ لنسأل عندها: "ماذا عن حيوانات ٍ مثل الدلافين، الخنازير، الكلاب، الفيلة، و كلها تبدي شكلا ً من أشكال ِ الذكاء ملحوظا ً واضحا ً مثيرا ً للإنتباه، أين نرسم ُ الخطّ َّ الفاصل َ بين الواعي و غير الواعي؟" و سنسأل ُ أيضا ً "ما هي حقوق ُ هذه الحيوانات؟"

ما هو الجواب على السؤال إذا ً؟

كمحاولة ٍ للإجابة ِ على هذا السؤال سأستخدم ُ البحث المنشور في موقع دوريات أكسفورد على الرابط الذي تجدون توثيقه في أسفل المقال تحت المُعرِّف: م1، و الذي يرتكز ُ على نتائج دراسات عملية لعالمة النفس و خبيرة الكائنات الرئيسية (Primates: الإنسان، القردة العليا، القرود الأخرى) الدكتورة: "سو سافج رامبو" خلال السنوات: 2006 و حتى 2013.

كبداية ٍ يجب ُ أن نعترف َ أننا لا نعلم بدقة و تحديد و بشكل قطعي جازم: "ما هو الوعي" و "كيف يجب أن ندرسه" و "ما هو الخط الفاصل بين ما هو واعي و ما هو غير واعي"، و أن َّ دراسة الوعي تتطلب خوضا ً في التفاصيل الدقيقة للخبرات الموضوعية مع ابتعاد ٍ قاطع عن المناهج الاختزالية Reductive Approaches التي تنحى بالدراسة عن التفاصيل الصغيرة و الخفية و المتداخلة و تشغلها فقط بالكبيرة و الظاهرة و البسيطة، فتشابكُ مفردات: الوعي الإدراك العقل الحس، يتطلب فحصا ً دقيقا ً لكل ما من شأنه أن يؤثر في تحديد الوعي.

يذهب البحث ُ ليُبرز أهمية البيئة الثقافية في تسريع عملية تطور الوعي، و ظهور شكل الوعي، و الطريقة التي يعبر فيها الكائن عن الوعي، فيما يُطلق عليه اسم "العامل المُوحِّد" للوعي. إن هذه الثقافة التي أثرت في التشكيل و التعبير هي ذاتها التي تسمح للأجناس المتعددة أن تتخاطب فيما بينها، فهي التي تعتمد اللغة عند البشر، و هي التي تجعلنا ندرس ذكاء القرود العليا و وعيها باستخدام نفس الأداة: اللغة حيث أُخُضعت القرود العليا لتجارب تعلـّـُـمـِها و أثبتت بالقطع أنها قادرة على تميز: الحروف، الكلمات، و التراكيب اللغوية المختلفة، و هي قدرات أساسية في العقل البشري الواعي، مما يشي بوضوح شديد بوجود جذور الوعي في هذه الكائنات، و وجود الوعي نفسه بدرجة أقل من تلك الموجودة في الإنسان.

تكمن ُ أهمِّية التجارب السابقة لا فقط في المشاركة الفاعلة في اكتشاف ماهية الوعي لكن في تقديمها لأداة كاشفة له، أداة نستطيع تميز الوعي بواسطتها، أداة قياس، وسيلة تعرُّف، ضوء كاشف يخبرنا عن الوعي، ما دام أننا نُشرك في ثقافتنا (و هي هنا اللغة و نمط التفكير المرتبط بها) القرد الأعلى، و نلاحظ تفاعله معها، و ندرس استجابته للمعطيات و نحلل المخرجات التي تصدر عنه. إننا الآن على أرضية ثقافية لغوية مشتركة ندرس بواسطتها الوعي، و يتفاعل معنا الكائن ُ القردي المدروس و يزودنا بما يمكن قياسه و الحكم عليه.

للتوضيح دعونا ننظر إلى التجربة التالية التي تم إجراؤها على شيمبانزيين باسم: أوستين و شيرمان:
- وُضع الشيمبانزي أوستين في غرفة بزاوية تسمح له برؤية الباحث كلما فتح الثلاجة، و آخذ منها طعاما ً معينا ً.

- وضع شيمبانزي آخر اسمه شيرمان بزاوية تسمح له برؤية الشخص و هو يفتح الثلاجة لكن دون أن يستطيع رؤية ما تم أخذه من طعام.

- كان المطلوب من أوستين أن يستخدم لوحة مفاتيح للتخاطب مع شيرمان، ليخبره بنوع الطعام الذي أخذه الباحث.

- و المطلوب من شيرمان أن يتخاطب باستخدام لوحة مفاتيحه مع الباحث، لطلب نوع الطعام الذي أخبره عنه أوستين.

- كلما كان الطلب صحيحا ً يقوم الباحث بمكافأتهما بتقديم الطعام لهما.

أكدت نتائج التجربة أن الاستخدام اللغوي الناجح بين أوستين و شيرمان اعتمد أساسا ً على فهم ٍ مشترك لحقيقة الموقف و المطلوب كبداية، و أن النجاح اعتمد على توظيف اللغة لخدمة الفهم، أي أن الإدراك و الفهم هنا هما الأساس و أن الاستخدام اللغوي كان الأداة، بمعنى آخر: إن المخرجات اللغوية و النجاح في التعامل مع الموقف، و الذي يشي بوضوح شديد بوجود وعي معين لدى الكائن القردي، استند على أساس دماغ مادي عصبي عضوي مشترك. فإذا ما مددنا الخيط على استقامته و عدنا إلى السجل التطوري لنوعنا البشري و قارناه بالسجل التطوري لهذه القردة، أدركنا أن الوعي كامن ٌ فيها من حيث ُ كونِ المادة العضوية أساسا ً لكل ما يمكن أن ينتج عنها تطوريا ً، و بدون تعارض ٍ كذلك َ ظاهر ٌ (أي الوعي) بأشكال مختلفة لا ترتقي (حتى الآن) لمستوى الوعي البشري. إننا هنا نفتح الباب واسعا ً أمام احتمالات التطور المختلفة مستشرفين مئات أو آلاف السنين القادمة، إننا ننتجاوز ُ السؤال: "هل الحيوانات واعية؟" لنقول: "ما هي احتمالات تطور الوعي عند الحيوانات، و كم سيلزم بعض أنواعها لظهور وعي مشابه لما عند الإنسان؟" بل يمكننا أن نذهب إلى أبعد من ذلك لنسأل: "هل سنشهد ظهور وعي حيواني متقدم ليس بالضرورة مشابها ً لوعينا، لكن من نوع ٍ آخر؟" و سنعود للفقرة التي أبرزت ُ فيها دور الثقافة في تزويدنا بأداة مشتركة مع الكائنات الأخرى لدراسة الوعي لنسأل: "هل ستكون ثقافتنا أداة ً مناسبة لدراسة ذلك الوعي الجديد؟ أم سيتعين علينا أن نجد ثقافة أخرى مشتركة إن وُجدت؟"

و ربما أن الجملة التالية تعبر بشكل ٍ مختصر - لكنه مثير ٌ بحق - عن الوعي كما يخبرنا عنه استخدام اللغة في تجربة أوستين و شيرمان كقردة عليا، و في حياتنا كبشر:
“Language was not reducible to its internal structure alone. It required two participants able to mean and to intend, locked into a social context of communicative exchange.”

"لا يمكننا اختزال (اختصار، حصر) اللغة ببنائها الداخلي (اللغوي). إنها (استخدام اللغة في التجربة السابقة) تطلبت مشاركــَـيـْن اثنين قادرَيـْن على فهم و تكوين معنى و اتخاذ قصد، ضمن سياق (إطار) اجتماعي لخطاب متبادل" (الترجمة: نضال الربضي).

في تجربة ٍ أخرى مع قرد البونوبو كانزي، اعتمد الباحث منهجا ً يرتكزُ على الفهم ضمن الإطار الثقافي التلقائي أكثر من تلقين اللغة، فجاءت النتائج مدهشة ً بحق. لقد تم وضع كانزي في بيئة تشبه بيئته في الغابة مع أم ٍ ولدت إخوة آخرين له، كوّنوا مجتمعا ً من قردة البونوبو، في نفس الوقت الذي كان يتعامل فيه كانزي باستمرار مع الباحثين و المعتنين به من البشر، و حراس المكان، و يشاهد حيوانات أخرى مثل الكلاب التي تحرس المختبر. لقد كانت بيئة ثنائية: بونوبو و بشر، وفرت سياقا ً جديدا ً للغة لتعمل فيه، سياقا ً فريدا ً أبدى فيه كانزي مهارات مدهشة في فهم صعوبة تعامل والدته البونوبو مع البشر و عدم فهمها لهم ، و الذين بدورهم أبدوا عدم فهمهم لمقاصدها أيضا ً، فكان َ أن عمل َ كانزي وسيطا ً ناجحا ً بين الطرفين، يفهم والدته و احتياجاتها، و يفهم ُ البشر و متطلباتهم، و يُدرك الوسيلة و يتقنها ليتخاطب مع البشر ناقلا ً لهم هذه الاحتياجات و حاصلا ً منهم عليها ليقدمها لأمه و كذلك لأخوته الذين كانوا يفشلون في طلبها.

يخلص البحث ُ إلى إقراره بوجود وعي لدى القردة العليا، و بامتلاكها لـ"شخصيات". كما و يركز بشكل واضح و صريح على أهمية الثقافة و البيئة في تطوير الوعي بقوة ِ أثرهما على المكون البيولوجي العصبي الأساسي (أي على الدماغ). إننا هنا أمام عصر ٍ جديد نعترف ُ فيه بأن الوعي فينا و في الحيوانات يرتكز ُ على أرضية بيولوجية عصبية مشتركة هي الدماغ الذي نعرفُ بفضل علوم التطور و الجينات و الأحافير أنه في تغير مستمر و ارتقاء ٍ و نشوء لا يتوقفان. و أرى أن العرض السابق إجابة وافية على سؤالنا.

الخلاصة
----------
- يستند الوعي على مكونه العضوي العصبي (الدماغ)، و تؤثر الثقافة و البيئة في تطوير الوعي بشكل رئيسي.


- على الرغم أننا لا نستطيع أن نحدد بدقة ماهية الوعي إلا أننا نمتلك مناهجَ و مؤشرات ٍ على وجوده، و طرقا ً لقياسه، تتطور باستمرار.


- بحسب هذه المناهج و الطرق و المؤشرات، تمتلك ُ بعض الحيوانات الذكية مثل القردة العليا الوعي.


- نستنتج بالقياس على القردة العليا، و بدراسة بعض الحيوانات الأخرى مثل الدلافين أن مفهوم الوعي يمتدُّ ليشملها أيضا ً. (م2، م3: مقالتان عن الدلافين، أنظر توثيقهما في الأسفل)


- يفتح ُ السابق ُ الباب واسعا ً أمام مزيد ٍ من البحث و التدقيق و مراجعة المفاهيم القديمة للذكاء و الوعي، و انتهاج طرق جديدة لمراقبتهما و قياسهما، للوصول إلى تعريف ٍ مُرضٍ للوعي و أشكاله.


- يشجع ُ هذا الجزء من سلسلة "قراءة في الوجود" القراء َ الكرام ليقوموا بأبحاثهم الخاصة و يتساءلوا و يتحرروا من سطوة الأفكار التقليدية ليستطيعوا أن يدركوا الجامع البيولوجي المشترك بين الكائنات، و يميزوا الوعي فيها، ليكوِّنوا قناعاتهم الخاصة المرتكزة على ما تقدمه لنا الأبحاث و الاكتشافات، بهدف الاقتراب أكثر من الحقيقة.


-----------------------------------------------------------------------------------------------------------
المصادر:
م1: بحث منشور في موقع دوريات أكسفورد على الرابط التالي:
http://icb.oxfordjournals.org/content/40/6/910.full?sid=64ce99e1-b1a0-45c6-a741-e40183c4062a
(التعريف بالباحثة: https://en.wikipedia.org/wiki/Sue_Savage-Rumbaugh )


م2: مقال عن ذكاء و سلوك الدلافين.
http://understanddolphins.tripod.com/dolphinbrainandintelligence.html


م3: مقال عن ذكاء الدلافين.
http://www.whalefacts.org/dolphin-intellegence/



روابط أخرى ذات فائدة:
الحياة الاجتماعية لقردة البونوبو.
http://www.thedailytransmission.com/2015/05/14/bonobos-make-love-not-war/


ضوء على ذكاء الخنازير و صفاتها الاجتماعية.
http://www.huffingtonpost.com/2015/06/15/are-pigs-intelligent_n_7585582.html


ممارسات ذكاء و وعي عند الفيلة.
http://mentalfloss.com/article/55640/7-behaviors-prove-elephants-are-incredibly-smart


صورة حداد لأنثى فيل على موت فيل آخر (قارنها بسلوك توديع الميت عندنا، و سلوك احتضان الأصدقاء لأهل الميت)
http://travel.nationalgeographic.com/travel/traveler-magazine/photo-contest/2012/entries/149266/view/



#نضال_الربضي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في الوجود – 4 – بين وعي المادة و هدفها.
- بوح في جدليات – 11 – في مديح ِ عشتار - نحن ُ الإنسان!ّ
- قراءة في اللادينية – 6 – مقدِّمة في مظاهر ما قبل الدين عند ا ...
- بوح في جدليات – 10 – ثلاثة ُ أيام ٍ بعد.
- قراءة في اللادينية – 5 – جذورُ: الإحيائية، الطوطم و التابو ف ...
- قراءة من سفر التطور – 5 – من ال 24 إلى ال 23
- قراءة من سفر التطور – 4 – من ال SIV إلى ال HIV
- المرأة الفلسطينية – بين الأمومة و السياسة.
- بوح في جدليات - 9 - ديك أسكليبيوس.
- عشتار - 4 – انبثاقُ الحياة.
- عمَّا بين النقد المُنفلت و نجاعة التأثير - 2
- الفيلا في وسط الغابة –الياكيم، باراك، أوباما و التاريخ.
- في نجوى معاذ
- عمَّا بين النقد المُنفلت و نجاعة التأثير.
- قراءة في القداسة - 3 - عن المقدس و الطاهر و العلاقة بينهما.
- ذات َ كأس ِ قهوة - 2
- قراءة في القداسة - 2 - عن المقدس و الطاهر و العلاقة بينهما.
- قراءة مغايرة في إرهاب شارلي إبدو.
- قراءة في القداسة – عن المقدس و الطاهر و العلاقة بينهما.
- ذات َ كأس ِ قهوة


المزيد.....




- لولو صارت شرطية.. تردد قناة وناسه بيبي الجديدة 2024 على جميع ...
- الشاي السيرلانكي مقابل التكنولوجيا الايرانية
- هل تنتقل المواجهات النووية إلى الفضاء؟.. وما خطورة نظام النب ...
- شاهد: ارتفاع قياسي في مستويات المياه تزامنًا مع فيضانات تضرب ...
- ريابكوف: روسيا تعد مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي يدعو لمنع س ...
- كيف أثر التغير المناخي على شدة أمطار الإمارات وعُمان؟ دراسة ...
- الرواد الروس يخرجون بأول مهمة إلى الفضاء المفتوح لهذا العام ...
- انفجار هائل يغطّي مجرّة بأكملها.. تبعد عنا 12 مليون سنة ضوئي ...
- مشاحنات روسية أميركية بمجلس الأمن بشأن تسليح الفضاء
- الإمارات: حالات -محدودة- مرضت بسبب التأثر بالمياه الناجمة عن ...


المزيد.....

- المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B / أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
- ‫-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط ... / هيثم الفقى
- بعض الحقائق العلمية الحديثة / جواد بشارة
- هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟ / مصعب قاسم عزاوي
- المادة البيضاء والمرض / عاهد جمعة الخطيب
- بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت ... / عاهد جمعة الخطيب
- المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض / عاهد جمعة الخطيب
- الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين / عاهد جمعة الخطيب
- دور المايكروبات في المناعة الذاتية / عاهد جمعة الخطيب
- الماركسية وأزمة البيولوجيا المُعاصرة / مالك ابوعليا


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - نضال الربضي - قراءة في الوجود – 5 - الوعي كوعاء للعقل و الإحساس و ما دونه.