أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد رفعت الدومي - اسهار بعد اسهار (5) : ديكتاتورية العم ياسين














المزيد.....

اسهار بعد اسهار (5) : ديكتاتورية العم ياسين


محمد رفعت الدومي

الحوار المتمدن-العدد: 4879 - 2015 / 7 / 27 - 08:38
المحور: الادب والفن
    


لا يمكن التغاضي عن تذبذبات النفس الحادة حيال العواطف الإنسانية ، التي تجد التعبير عنها بشكلٍ واضح ٍ ، وتواجه إلغائها بالغموض نفسه ، وبالصرامة نفسها أيضاً ، برغم هذا ، وربما بفضله ، يظل القليل من العواطف حبيساً ، في غرف مغلقةٍ ، يتشبث بجذور التحامه ، بلا مشروعية ، بأشياء بعينها بشكل خاص .

تتبدل الرغبات والمخاوف وسطوح الأحلام ومنظومة الإدراك الذاتيِّ ، صعوداً وانخفاضاً ، وتبقي راسخة ذلك الرسوخ الانفعاليِّ كخنجر معلق في البال ، وبالنسبة لي أنا .

هضمَت قشرة ُطفولتي عبثيتها ، وحلَّ الشبابُ تمائمي ، ونضجتُ في أدني بقعة ٍ من ظلِّ الألم ، آلاف المرات ، وكراهيتي حيال يوم الجمعة تتمسك بامتلائها .

قد يتردد الفراغ من حين لحين في النفس كالمكيدة ، ولكن يضيع ، حتي يمكنني أن أعتبر كراهية هذا اليوم تناذري الخاص ، غير أني أستطيع أن أمسك بيدي أشجار ذاك التناذر ببساطة ، السماد الذي عتَّقَ تلك الأشجار داخل العمق الأليف لروحيَ الصغيرة أيضاً .

ربما كان أطوله تخصيباً وحضورا ذلك التحذير من ذلك اليوم تحديداً، الذي يجثم علي ألسنة الأمهات جثوم العادة ، وما ينطوي عليه من ساعة نحس ، تسرح فيها الجنيَّات ، لكي يعكِّرن سلام الأمهات ، فينخرط الفقد في لهجاتهن ، وهو اعتقادٌ لا يتحد بالموضوعية أبداً .. وبرغم ذلك ، وربما بفضله ، أجد يوم الجمعة يجد التعبير عنه بغابةٍ من النبض الأكيد في أوردة الفواجع التي تتصدر لائحة التراث الدومي الحزين ، بطول اللوحة المرسومة علي جدران الذاكرة ، وبعرض حصارها الصحيِّ .

لا أظنُّ الأمرَ ينطوي علي شئِّ من الغرابة ، ذلك أن الفلسفة الشعبية تعقيبٌ صادقٌ علي غابة من التجارب الإنسانية السحيقة .

هناك سببٌ آخر أتمُّ امتلاءاً ، لا يزال يوم الجمعة عطلة تجمِّد الحياة المدرسية ، ويكرس نفسه جداراً يفصلنا عن يوم السبت ، أقسي أيام الأسبوع المدرسيِّ وأطولها ، لذلك كنا نحب ليلته أكثر من نهاره ، حيث يكون الجدار في عنفوانه ، وحيث يمتد غابة من الساعات تفصلنا عن الإلتزامات المدرسية ، وتفصلنا أيضاً عن ديكتاتورية العم ياسين ، فراش مدرسة الدومة ، وسلبية الناظر حيالها .

العم ياسين الذي كنت أخافه أكثر من مخافتي الناظر ، والأستاذ فريد ، والأستاذ عمر والآخرين ، طوله الفارع ، بطنه المنتفخة ، عيناه العدائيتان .
العم ياسين ، ذلك المارد الذي يزعم الدوميون أنه أكل جرناً صغيراً من الفطير وخمسة من كيلوات الدهن البقري الخالص في وجبة واحدة !
لقد أصابني الغثيان لمجرد كتابة هذه الوشاية الرائجة ، وأقسم علي هذا .

العم ياسين ، ذلك العاشق الذي انخرطتُ في سره ، ذات صباح ، خلف انتباهه ، فضبطته في لحظة رغبةٍ واضحةٍ ، يفكر بصوت مرتفع :

- آه لو قطمة ف خدك يا كوثر !

المرحوم ياسين ، ذلك الطيب الذي كنت أسبقه غالباً إلي المدرسة ، في الصباحات الشتائية بشكل خاص ، فأجد الباب مغلقاً ، وأتسلل إلي بيت الخالة لطيفة ، لأنعم بحرارة الشاي وعطاء النار ، ويدهم سلام البيت فجأة .. فتطوق المكان في عينيَّ هالة ٌمن التوتر ، وأهم بالنهوض ، وأنا ألعنه في سري . فيردني بصوت مسور بالرقة ، ويفتح بيني وبينه بوابة الحنان لبعض الوقت ، ثم .. بمجرد الدخول إلي سياج المدرسة ، يعود وجهه إلي مائدته الأولي، كأنما خلق الرجلُ خلقاً جديداً .

ديكتاتورية العم السادات أيضاً ، فراش المدرسة .

كان يأتي من البطحة علي حمارةٍ رماديةٍ قصيرة ، جثم نهيقها بمجرد الاقتراب من المنحني المفضي إلي المدرسة جثوم العادة ، وما إن ترفع رأسها ، وينتصب ذيلها ، وتغور خاصرتاها وتصيح :

- هي هان ، هي هان ، هي هان ، هئ !

يتزاحم المنافقون من الصغار علي الترحيب بوفادتها ، وربطها في مربطها للحصول علي نصيب أوفر من التغذية المدرسية التي يوزعها الرجل .
العم السادات الذي رأيته ذات ضحي ، يدخل حقل قصب قريب ٍ ، ويعود بسلة من الجراء العمياء ، تحت درع معتني به تماماً ، من غياب أمهم ، ثم وضعهما بمأمن خلف انتباه الناظر ، وعاد ليوزع التغذية ، تملكني إحساس بالرغبة في القئ ، لمجرد إحساسي بتداخل الخبز والجبن برائحة الجراء العمياء ، وأفضيت بسرِّي إلي قريب القاع ، زميلي "عبادة" ، فذهب مباشرةً ، وأطلع الرجل علي سري ، طمعاً في الحصول علي نصيبي من التغذية .
طاردني العم السادات ، وفشل في اللحاق بذعري ، فقذفني برغيف خبز ، أصاب مباشرة وجهي ، تألمت وسط شعوري بالحرج من ضحكات الرفاق ، فعدوت مذعوراً، لأستدعي أبي ليستعيد لي كرامتي الضائعة ، فارتطمت ، فجأة ، بتحفز الكلبة الأم ، ونباحها العصبيِّ ، لقد فكَّت شفرة رائحة جرائها ، تملكني الرعب التام الدوائر، وتراجعت راضياً بالمقاربة المخزية .

المرحوم السادات ، الذي انخرطت في سر أيامه الأخيرة، لقد كابد المسكين في شيخوخته الكثير من أصداء الآلام الشاقة .

وجمال المرحوم مرعي أيضاً ، فراش المدرسة ، لقد وجد الرجل حبه في قلوبنا الصغيرة التعبير عنه منذ البداية ، عندما انصرف الرجل منذ البداية عن ضربنا إلي ضرب المدرسين مباشرة ، وأقسم علي هذا ، كانوا يخافون أعصابه العارية علي الدوام ، وكانوا يقولون عنه أنه غشيم ، من الممكن أن يضرب خصمه في ساعة الغضب ، بأي شئ تقع عليه يداه دون مراقبة العواقب .

هناك سماد آخر وحديث ، وأكيد ، يغذي أشجار ذلك التناذر ، لقد تجاوزت فاجعة أبي التي لم أتجاوزها حتي الآن ، وأظن أني لن أتجاوزها إلي الأبد ، العتبة النقية لبيتنا العتيق ، بين الساعة التاسعة والساعة العاشرة ، لابد أن ساعة النحس المظنونة تختبئ بين التاسعة والعاشرة ، وهي ساعة نسبية بالتأكيد ، وكان من الممكن أن تواجه إلغائها .

لولا أن شبه أبي البشريَّ ، خرج من بيتنا محمولاً علي سواعد الرجال دون أن يخبِّئ في نيته كالعادة خط الرجعة ، بين الساعة التاسعة والساعة العاشرة من صباح يوم جمعة أيضاً .

محمد رفعت الدومي



#محمد_رفعت_الدومي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اسهار بعد اسهار (4) : ورم
- اسهار بعد اسهار (3) : علي جسر اللوزية
- اسهار بعد اسهار (2) : ولادة مبكرة
- اسهار بعد اسهار (1): أدينُ بدين الحبّ
- نبّوت عبد الناصر المزيف
- إعدام الماضي / إعدام المستقبل
- الأردوغانية والأعراب
- النبيُّ ابراهيم.. الزِفَري آخر موضة!
- أوَّلُ المكيدة إنحناءة
- وداعًا فريناز خسرواني
- إن إزاري مُرَعْبل!
- إسم الله عليه.. إسم الله عليه
- حمير مصر
- الأنوثة للرغبة لا المرأة
- حبيبة
- بلطاي - مرسي!
- ويحبُّ ناقتها (بشيري)!
- خمسون درجة من الرمادي.. أو.. رماد النور!
- واذكر في الكتاب إسماعيل!
- وديارٌ كانت قديمًا ديارا


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد رفعت الدومي - اسهار بعد اسهار (5) : ديكتاتورية العم ياسين