أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - لحسن لحمادي - بحث حول تحديد المفاهيم التالية: نظرية المعرفة، فلسفة العلم، المعرفة العلمية وتبيان لأسس المعرفة العلمية















المزيد.....



بحث حول تحديد المفاهيم التالية: نظرية المعرفة، فلسفة العلم، المعرفة العلمية وتبيان لأسس المعرفة العلمية


لحسن لحمادي

الحوار المتمدن-العدد: 4871 - 2015 / 7 / 19 - 12:52
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    




في الوقت الذي كان فيه العلم يعيش أزهى أيامه، عندما شهد العالم طفرة معرفية انعكست على جميع الأصعدة، نعم في ذلك الوقت ظهر اتجاه فلسفي ونقدي سيبرز وسيسائل ذات نظرية المعرفة، وذات فلسفة المعرفة، وذات ما يسمى بالمعارف العلمية.
"عالم اليوم يبدو عالما يمكن التنبؤ بأحداثه ويمكن التحكم فيه أكثر مما كان في الماضي، ومن ثم أصبح أكثر أمانا لنا مما كان لأسلافنا ونحن إذا فهمنا اليوم أن البرق نتيجة حركة جسيمات دقيقة محملة بشحنات كهربية وليس نتيجة غضب الأرباب فإن هذا الفهم من شأنه أن يغير سبل تفكيرنا؛ إن عالما مفهوما لنا هو عالم أقل خطرا علينا، لذا فإن فهم العالم هو في النهاية هدف العلم"
إن العلم كما هو معروف وعلى خلاف العلوم الإنسانية كلها، توسل دائما السعي لبلوغ القرب المعرفي من المتلقي الذي يسعى للاقتناع بوجه تلك المعرفة العلمية وتفرسه؛ لذا كان الجهد منصب على"النظرية العلمية التي لا تطمح لأن تكون بسيطة بل يجب أن تكون أبسط ما يكون. جانب أخر منح العلم القوة و الاستمرارية هو التقويم و التعديل المستمر لنظرياته و ليس هناك إصرار على قبول نظرية قاصرة لأي سبب كان مقابل أخرى جديدة أفضل و أوسع تفسيرا من سابقتها. حيث لا تقديس في العلم و لا إمكانات اجتماعيه أو أو..." .وهذا ما سعى نقاد المشارب العلمية الحقة على تبيانه وتفسيره، لقد تحقق على مضض أن رجالا رادوا هذا المجال الواسع من تبيان ثغور العلم ومكنوناته، وما علق وأصبح عسيرا عن التفسير والتبيان.
بعد الخوض في مدى أهمية العلم في محيانا، سننتقل للنظر في أهمية أخرى لا تنفك عن الإطار الأكاديمي الذي يؤطر بحثنا هذا الصغير؛ نعم إنها أهمية ربط بحثنا هذا بمجال المادة التي ندرسها لدى الأستاذ حمادي هباد، المعنونة ب"أسس المعرفة العلمية". ما اضطرني بالإضافة إلى ما سبق إلى الحديث في مادتنا بشكل كبير هو قول أحد مجالات بحثنا هذا وهو العالم الفرنسي كلود برنار والذي قال في إطار أهمية تحديد معالم الصورة العلمية لكل عمل فكري "إن الذي لا يدري عما يبحث لا يعرف ماذا يجد". لقد وجدت أن الإشكالية التي يجب عليها بناء هذا البحث هي إشكالية التمييز بين المفاهيم المشكلة لحقول علمية وتدرس العلم، نعم تلك النقط أو المفاهيم الثلاثة التي أرشدنا الأستاذ إلى فحص بعدها؛ كل واحدة على حدى.
وكامتثال لحكمة كلود برنار متعددة الأوجه، سأضيف تبيان المفاهيم التالية:نظرية المعرفة، فلسفة المعرفة، المعرفة العلمية، وما يمكن أن نضيف لهذه المفاهيم الجديدة والكبر من مفاهيم أخرى. القضية الأخرى هي السعي قدر الإمكان ربط هذه المفاهيم والإشكالات المحيطة بها مع عنوان المادة.
قبل الخوض في هذا الفصل المفاهيمي الواسع لابد من إدراج تحديد للالند حيث يقول:" ينبغي أن نميز الابستمولوجيا عن نظرية المعرفة بالرغم من أنها تمهيد لها وعمل مساعد لا غنى عنه من حيث كونها تقوم بدراسة المعرفة بتفصيل وبكيفية بعدية من خلال تنوع العلوم والموضوعات لا من خلال وحدة الفكر.
نظرية المعرفة
إن نظرية المعرفة من أهم المباحث الفلسفية التي تأثرت بنتائج العلم المعاصر، حتى أنها قد تحولت في صورتها الأخيرة لدى عديد من الكتابإلى نقد للمعرفة العلمية بوصفها من أهم أنواع المعرفة الإنسانية.
theory of knowledgeإن نظرية المعرفة
"تعني تلك النظرية التي تبحث في مبادئ المعرفة الإنسانية وطبيعتها ومصدرها وقيمتها وحدودها وفي الصلة بين الذات المدركة والموضوع المدرك، ومدى مطابقة تصوراتنا لما يؤخذ فعلا مستقبلا عن الذهن" .
إن نظرية المعرفة تدرس وتبحث في المعرفة بشكل عام، كما تدرس تاريخ العلوم من خلال الوقوف على انعكاسات وتطورات العلوم على ابتكار المفاهيم العلمية، ويعود زمن نشأتها إلى الأزمات التي حدثت في العلوم منذ منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. خصوصا ما يعرف بأزمة الأسس في الرياضيات وكذا ظهور الميكروفيزياء.
فنظرية المعرفة مبحث يهتم بمشاكل معرفية مثل مصدر المعرفة والأدوات الموصلة إلى الحقيقة، فما هي علاقة المعرفة بالحقيقة؟
إن علاقة المعرفة بالحقيقة لها مواقف عدة مع فلاسفة كثر ولهذا سنذكر ما قاله ميشيل فوكو في ارتباط المعرفة بالحقيقة حيث اعتبر أن الحقيقة دنيوية وهي نتاج للعديد من الضوابط. فلكل مجتمع نظامه للحقيقة وسياسته العامة لها، وهذا يعني تلك الأنماط من الخطاب التي يغذيها ويجعلها تقوم مقام الحقيقة، أي تلك الآليات وتلك الحالات التي تجعل الفرد يميز بين العبارات الصحيحة والخاطئة وكذا الطريقة التي تقيم بها. إنها التقنيات والإجراءات التي تثمن للحصول على الحقيقة. أي مركز ومكانة أولئك الذين يُكلَّفون بقول ما يعتبر حقيقة. فالحقيقة إذن هنا شيئ من صنع وإنتاج المجتمعات بدل أن تكون شيئا متساميا عنها.وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إننا أمام معارف وحقائق شتى، بالمعنى الذي نقر فيه بوجود طب صيني وطب حديث أو طب تقليدي، وهما معا على كل حال أبعد من ممارسات المشعوذين وبائعي الرحمة الربانية بالتقسيط عبر التعاويذ والتمائم... بحيث يبقى الهدف هنا تعريف المعرفة العلمية بخاصة، دون أن يعني ذلك عدم وجود معارف أخرى لها قواعدها ومسلماتها الخاصة كما يوحي بذلك الوحي الديني والكشف الصوفي أو ما يتوافق عليه الجامع المشترك بين الناس بحكم العادة أو العرف.
إن نظرية المعرفة عكس الإبستيمولوجيا التي تهتم بالعلوم فقط، لقيتا على العموم أصولا حددتهما معا، إن هذا المستوى من بناء عالم وعلوم التخصصات لعله بدأ حين، أثير هذا الموضوع كسابقة ولو بشكل تمهيدي حين بدأ الحديث عن التمييز بين الأمور الحسية والأمور العقلية، هذا التمييز الذي سينتهي بظهور وجهة عقلانية تماما مع أفلاطون وأرسطو، فأصبح العقل أداة للمعرفة مزودة بالقدرة على تحصيل الحقيقة المطلقة. وجاء ديكارت بعد ما يقارب الألفين سنة ليحدد معالم المذهب العقلي أكثر وقد جعل من الفكرة هي كل ما يستطيع العقل إدراكه مباشرة والأفكار الواضحة والمتميزة هي ما تؤلف الحقيقة.
وفي ذكرنا لهذا المقتطف لديكارت سنعي مدى أهمية هذا الرجل في فتح العلم المعاصر على باب تحديد رؤية نقدية للعلم وللعالم، حيث يقول"يكفي أن أوجه انتباهي كي أدرك ما لا نهاية له من الخصائص المتعلقة بالأعداد، والأشكال والحركات، والأشياء الأخرى متشابهة، تظهر حقيقتها بينة وتتفق تماما مع طبيعتي بحيث أنني حين أبدأ في اكتشافها لا يبدو لي أنني أتعلم شيئا جديدا بل بالأحرى أتذكر ما كنت أعرفه من قبل، أعني أنني أدرك أشياء كانت من قبل في عقلي وإن كنت لم أوجه بعد فكري نحوها". هكذا إذا أصل ديكارت لمسألة إنتاج المعرفة أو التفاعل معها.


فلسفة العلم
فلسفة المعرفة أو فلسفة العلم، كلاهما يصبان في منحى الإبستيمولوجيا، وهذه الأخيرة يعرفها لالندبقوله:"الابستمولوجيا هي فلسفة العلوم، ولكن بمعنى أكثر دقة، فهي ليست دراسة خاصة لمناهج العلوم لأن هذه الدراسة هي موضوع الميثودولوجيا، وهي جزء من المنطق، كما أنها ليست تركيبا أو توقعا حدسيا للقوانين العلمية، إنها بصفة جوهرية الدراسة النقدية للمبادئ والفرضيات والنتائج العلمية، إنها الدراسة الهادفة إلى بيان أصلها المنطقي لا النفسي وقيمتها الموضوعية. وينبغي أن نميز الابستمولوجيا عن نظرية المعرفة بالرغم من أنها تمهيد لها وعمل مساعد لا غنى عنه من حيث كونها تقوم بدراسة المعرفة بتفصيل وبكيفية بعدية من خلال تنوع العلوم والموضوعات لا من خلال وحدة الفكر".
لقد عرف القرن 19 تطورات مهمة في ميدان الرياضيات أدت إلى وضع أسس المذهب الاكسيوماتيكي باعتباره منهجا فرضيا واستنباطيا، وتم تجاوز بعض البراهين الرياضية الكلاسيكية مثل برهان للخلد، وكذلك الأمر في ميدان العلوم الطبيعية وعلى الخصوص في مجال الفيزياء، خاصة مع اكتشاف عالم الذرة الجزئية المتناهية في الصغر، انطلاقا من نظريات كوانطو الطاقة الذي وضعها ماكس بلونك، ثم النظرية النسبية التي جاء بها اينشتاين. تلك الاكتشافات أبانت عن قصور المنهج التجريبي الكلاسيكي: (من الملاحظة إلى الفرضية، والتجربة، وصياغة القانون) فوجد العلماء أنفسهم مضطرين إلى إتباع طرق جديدة للبحث أدت إلى تغيير جذري في المفاهيم. وهو الشيء الذي جعل السؤال الوضعي الكلاسيكي مع أوكست كونت، ما الجدوى من البحث في الميتافيزيقا يستعيد تاريخيته على ضوء الثورات التي شهدتها العلوم الطبيعية. وهكذا نلاحظ في الأوساط العلمية والفلسفية أن الإشكال المنهجي لن يعود يعالج بالطريقة الكلاسيكية، أي بالطريقة الرتبية التحديدية وكذلك التصنيفية، بل بدأ يعالج بطريقة ابستمولوجيا. فماذا نقصد باللفظ ابستيمولوجيا؟ .
نلاحظ من خلال تعريف لالوند وجود خلط بين مصطلح الابستمولوجيا والحقول المعرفية الأخرى كنظرية المعرفة ومناهج العلوم وفلسفة العلوم وكذلك تاريخ العلوم. ينطلق تعريف لالوند من هذاالتمهيد وذلك من خلال: 1- الابستمولوجيا ومناهج العلوم: الابستمولوجيا هي الدراسة النقدية والعلمية لكل مناهج العلوم ومبادئها ونتائجها وكذلك قوانينها ونظرياتها بينما تهدف مناهج العلوم إلى دراسة وصفية تحليلية لبيان مراحل الكشف العلمي عن مختلف المناهج المتبعة في العلوم.
2- الابستمولوجيا والفلسفة الوضعية: هنا نجد أن الابستمولوجيا هي أوسع وأعمق من المهام التي انيطت بالفلسفة الوضعية، التي تعد أول طرح لإمكان قيام تفكير ابستمولوجي، فهي تمهيد لها حيث كان هدفها خلق بديل من ميتافيزيقا، وذلك بخلق اختصاص علمي جديد يدرس التعميمات العلمية ويهتم بإيجاد العلاقات بين الميادين المعرفية الأخرى، وربط الاكتشافات العلمية بمجموع المعارف الوضعية، وكذلك تلخيص جميع العلوم بمبادئ قليلة مشتركة وعامة، معتبرا أن الثقافة العلمية ضرورية لكل باحث وعالم في قضية المعرفة.
3- الابستمولوجيا وفلسفة العلوم: الابستمولوجيا لا تهدف إلى بلورة نظرية خاصة عن الحياة أو التنبؤ بحقائق معينة انطلاقا من نتائج العلوم بل هي دراسة دقيقة ومحددة، في حين أن فلسفة العلوم هي مفهوم غامض وعام يهدف إلى الدراسة التأملية في العلوم ونتائجه من اجل تكوين نظرة تركيبية لقوانين هذا العلم أو ذاك، إلا أنهما ينطلقان معا من العلم لكن غايتهما في البحث مختلفان حيث تسعى فلسفة العلوم إلى بلورة نظرية شمولية توحد فيها مختلف العلوم ومعناها في ذلك هو الرجوع إلى روح الفلسفة القديمة، أي ذلك المسعى الميتافيزيقي الباحث دوما عن حقيقة مكتملة تشمل مختلف العلوم.
4- الابستمولوجيا ونظرية المعرفة: يظهر هنا أن موضوع الابستمولوجيا أوسع نطاقا من نظرية المعرفة، وأن اهتمامات الابستمولوجي بالمعرفة العلمية .تجعله فقط ينطلق من العلم في معالجة مشاكل العلم بينما تهتم نظرية المعرفة بمصدر المعرفة، وكذلك تهتم بمعيار وصدق الحقيقة العلمية. وفلاسفة العلم ينطلقون من التأمل الفلسفي ذي طابع الميتافيزيقي لمعالجة الإشكالات الكبرى للقضايا المتعلقة بنشأة المعرفة وكذلك طبيعة الحقيقة في شموليتها.
5- الابستمولوجيا وتاريخ العلوم: الابستمولوجيا تشمل تاريخ العلوم فهو جزء من الكل فهي أوسع نطاقا وأعم من موضوع تاريخ العلوم، والدراسة التاريخية للعلم تقدم المادة الأولية للدراسة النقدية التي يقوم بها الابستمولوجي من جهة، ويحاول تقديم إطار تفسيري لتطورات العلم عبر التاريخ، أما تاريخ العلوم فإنه يتمتع بأهمية قصوى باعتباره المجال الذي تتجلى فيه التطورات الطارئة على مختلف العلوم وانعكاساتها على تصورات العلماء وتقنياتهم العقلية والعلمية المختلفة، وتاريخ العلوم يبين كيف انتقل الإنسان من التفسير الميتافيزيقي إلى التفسير العلمي، ثم كيف حصلت التطورات على المنهج العلمي في إطار العلوم الطبيعية، فباشلار يعتبر تاريخ العلوم هو تاريخ الأزمات وكذلك تاريخ الوقوع في الأخطاء، وإعادة تصحيحها باستمرار الشيء الذي جعله يرى في تاريخ العلوم هو دعوة مستمرة لإعادة صياغة الفكر العلمي باستمرار.
6- تحديد طبيعة الابستمولوجيا: يطرح البحث الابستمولوجي إشكالات متعددة من بينها: هل تنتمي الابستمولوجيا إلى مجال العلم؟ أم إلى مجال الفلسفة؟ هنا نجد رأيين مختلفين: الأول يدعوا الابستمولوجيا إلى قطع كل صلة لها بالفلسفة، وكذلك التخلص من جذورها الفلسفية إن أرادت أن تصبح علما، ملتزمة بالموضوعية والمنهج العلمي، وذلك على اعتبار أن المعرفة العلمية هي المعرفة الحقيقية، هذه النزعة الوضعية ترى أن موضوع العلم هو الطبيعة، أما الابستمولوجيا فموضوعها هو الدراسة المنطقية في لغة الخطاب العلمي، ونظرا لما يتسم به المنطق الرمزي الحديث من دقة ووضوح ويقين، أدخلت المدرسة المنطقية التجريبية مفاهيم وقضايا المنطق الرياضي الحديث إلى حقل الابستمولوجيا. أما الرأي الثاني فيرى أن الابستمولوجيا هي البديل العلمي المعاصر للفلسفة التقليدية، إلا انه هو الآخر يتسم بنوع من الوضعية، إذ يعتبر أن المعرفة العلمية هي المعرفة الحقيقية، مما يعني عدم مشروعية نظرية أخرى تحاول توحيد نتائج العلوم في رؤية علمية شاملة.
أهم الاتجاهات الإبستيمولوجية المعاصرة
1- الفلسفة المفتوحة عند كونزيب: تدخل فلسفةكونزيبفي إطار الفلسفة المفتوحة وذلك باتسامها بمجموعة من الخصائص والمميزات أهمها: .تماسكها بالعقل وبالجدل الديالكتيكي أي الجدل، وتركز هذه الفلسفة أساسا على الإقناع بضرورة إخضاع المباحث والنتائج العلمية للتجربة، الشيء الذي يؤدي إلى إعادة النظر في مفهوم الحقيقة العلمية خاصة، واعتبارها خلافا لما كانت تدعيه العلوم السابقة والفلسفات التقليدية حقيقة مجملة وأنها في حالة صيرورة، ففلسفة كونزيب تقوم على إعادة تنظيم مستمر للمعطيات والظواهر ولا تؤمن بالمواقف المعيارية الجاهزة فهي تدعوا إذن إلى ترك الفكر مفتوحا والى الاستعداد الدائم لقبول أفكار جديدة، التي قد تختلف وتتعارض معرفيا مع ما سبقها. فالمبدأ الأساسي في هاته الابستمولوجيا هو الرفض المطلق والعام في المعرفة العلمية واعتماد مبدأ القابلية للمراجعة، بمعنى آخر القدرة على مراجعة المفاهيم والمبادئ والمناهج وكذلك النتائج العلمية بما يتلاءم والتجارب الجديدة. ومن جهة أخرى يتمسك كونزيب بمبدأ الثنائية، حيث يعتبر أن المعرفة هي في الأصل تجريبية وعقلية في آن واحد لذلك لا يمكن الفصل بين ماهو تجريبي وعقلي في المعرفة، ففي كل عملية تجريب عنصر نقدي وكذلك في كل معرفة عقلية شيء واقعي يحيل إلى التجربة.
2- الابستمولوجيا التكوينية عند جون بياجي: يرى بياجي أن الابستمولوجيا تدرس مشكل المعرفة في الممارسة العلمية بعيدا عن..الإطار السابق الذي اشتغلت فيه نظريات المعرفة التقليدية. لذلك فالابستمولوجيا مدعوة بقوة إلى أن تحدد بدقة طبيعة تناولها لموضوع المعرفة بشكل يقطع نهائيا مع التصورات الفلسفية التقليدية، بمعنى آخر هو أن تحدد الابستمولوجيا نوعية الأسئلة والمشكلات المعرفية التي ينبغي لها دراستها وحصر مجال موضوعها. فهذا التحديد الجيد للموضوع هو الذي سيقودها إلى الابتعاد عن الفلسفة والاستقلال عنها كما حصل بالنسبة للعلوم الإنسانية – علم الاجتماع، والنفس والتاريخ- التي أصبحت قائمة بذاتها. ويرى بياجي أن الخطوة الهامة في هذا الاتجاه هي أن تتجنب الابستمولوجيا المعاصرة طرح السؤال: ماهي المعرفة ؟ لان طرحه بهذه الطريقة يلقي موضوع المعرفة في إطار الفلسفة. إن ما يميز الابستمولوجيا عن الفلسفة هو أنها لا تعالج مسالة المعرفة من زاوية الماهية التي هي وجهة النظر الفلسفية.
3_ العقلانية المطبقة لدى باشلار: يطلق باشلار على الفلسفة اسم العقلانية المطبقة كما يصفها بالعقلانية العلمية الجدلية، ويعتبرها مخالفة للعقلانية المطلقة، كما يسميها أيضا "الابستمولوجيا اللاديكارتية" أو "فلسفة النفي". وينطلق باشلار في بنائه لهذه الفلسفة من ملاحظة أساسية، ميزت علاقة الفلسفة بالعلم، وهي أن الخطاب الفلسفي حول العلم، ظل متخلفا جدا عن الممارسة العلمية وما طرأ عليها من تحولات، وما عرفته من ثورات معرفية غيرت من منطلقات العلم ومفاهيمه الرئيسية. فالخطاب الفلسفي ظل يفكر في إشكالات العلم والممارسة العلمية، اعتمادا على مبادئ ومنطلقات تقليدية، لذلك كان غير قادر على متابعة العلم في حركيته وتطوره وبالتالي كان عاجزا عن تقديم الفلسفة الذي يحتاج فيه العلم المعاصر وهي في نظر باشلار "الفلسفة المطبقة". وعلى الرغم من أن الموقف الفلسفي الذي يقدمه هو موقف عقلاني، إلا انه يعتقد أن الفلسفة مسؤولة عن التعبير عن صورة العلم المعاصر، دون الارتباط بموقف فلسفي جاهز أو مسبق، لان هذا الأمر سيعيدنا إلى ما سقطت فيه الفلسفات التقليدية في مواكبتها للعلم. إن المهم في نظر باشلار هو قدرة فلسفة العلم على الرصد الموضوعي لكل مؤشرات الفكر المعاصر، وكذلك على التخلص من الاكراهات والتعقيدات التي تفرضها الأنساق الفلسفية المغلقة واللغة الفلسفية الضيقة. ليس المهم هو التماسك المنطقي للخطاب الفلسفي حول العلم على حاسة إجرائية المفاهيم التي يستخدمها، وما يترتب عنها من تعقيدات داخل النسق الفلسفي، فواقع العلم المعاصر أصبح بعد الثورات الكبرى يقترب أكثر من الواقع، وهو الأمر الذي تحقق بفضل تطور التكنولوجيا المرتبطة بالعلوم الطبيعية. • ومن أهم خصائص العقلانية المطبقة عند باشلار:
أولا: أهم خاصية مميزة للعقلانية المطبقة عند باشلار هي ارتباطها وملاحقتها للعلم ، دون الانطلاق من موقف فلسفي مسبق ومغلق، ذلك أن البحث في مشكلات المعرفة العلمية وانجازاتها ينبغي أن ينصب أولا وقبل كل شيء على النتائج التفصيلية للعلوم المختلطة قبل الانتقال إلى استخلاص القيم المعرفية والثقافية التي تنطوي عليها المعرفة العلمية المعاصرة. وفي معنى آخر أن الخطاب الفلسفي حول العلم في نظر باشلار ينبغي أن يكون حديثا لاحقا وذلك لكي لا يفرض الفيلسوف قيما على العلم من خارج الممارسة العلمية، إذ لا معنى من اعتماد خطاب شمولي ونهائي لقيمة العلم، في الوقت الذي تتجدد فيه هذه القيمة تبعا لتطور المعرفة العلمية وإحداثها لثورات حاسمة في تاريخ العلوم الطبيعية.
ثانيا: تتسم الابستمولوجيةالباشلارية بسعيها إلى التطابق مع الواقع أي بعلاقتها الجدلية بالواقع، وذلك على عكس العقلانيات المثالية التي كانت تقدم نفسها كفلسفات متعالية، لا تكتسب قيمتها من سعيها إلى التطابق مع الواقع، بل بقدرتها على التخلص من محدودية التجربة، وضيق الواقع، أما فلسفة العقلانية المطبقة فهي عبارة عن برنامج عمل، يسعى دوما إلى الانطلاق من الواقع والتحقق في التجربة، فهي إذن عقلانية غير مفارقة للواقع، كما أنها ليست فلسفة مبادئ قبلية ثابتة، فهي دائما تغير من منطلقاتها ومسلماتها ونتائجها كذلك، حسب تغير الواقع وتجدد مفاهيمه، وتعيد البناء في كل مرة يفرض عليها ذلك.
المعرفة العلمية
ما يمكن أن نعثر عليه كتحديد لهذا المفهوم هو أن المعارف العلمية هو كتاب لجيمس تريفيل يعالج فيه قضايا علمية مهمة،whyscince ?
تتخد طابع تعليمي بالضرورة، واقتطفت هذه الفكرة التابعة لعنوان الفصل السادس من الكتاب، والمعنون ب"حالة المعارف الأولية العلمية".
إن إطار المعارف الأولية العلمية والتي تتشكل من ثلاثة عناصر:
1.معرفة المفترضات الذهنية العلمية الأساسية.
2.فهم عمليات العلم.
3.فهم تأثيراتها.
أسس المعرفة العلمية
تخلى فلاسفة العلم عن المفهوم الكلاسيكي للعلم؛ تخلوا عن الاستدلال والبرهان، وأعادوا النظر في ما يسمى بالحقيقة العلمية. ولعل أبرز من قاد هذه الثورة التحديثية للعلم. نذكر ديكارت؛ الذي قام بدمج منهجين اثنين هما الاستقراء حيث ينتقل فيه من الخاص إلى العام، والاستنباط الذي ينتقل فيه من العام إلى الخاص. فد قام بدمج هذين المنهجين السائدين في التقليد الفلسفي، ليخرج لنا بمنهجه المعروف. حيث أن الدقة المطلوبة في صياغة قضايا العلم تطلبت الصياغة أو الصياغات الرياضية الأكسيوماتية(النظرية الاستنتاجية). وبهذا تحولت لغة العلم إلى لغة رياضية. وبعد هذا ظهر اتجاه قال، بأن الدقة المطلوبة في العلوم لا تشترط الرموز الرياضية أو المنطقية؛ فدائما عندما نصوغ قانون معين لظاهرة معينة، فلا يعني هذا أن العالم لم يتوصل لدقة كافية لوضع هذه القواعد. فالعالم يمكن أن يصوغ العلم بطريقة رياضية لكن لم يراعي والتي تعني الظروف الدنيا T=0 ظروف تلك التجربة. هذا هو معنى
لقيام تلك التجربة. كالشمس حرارتها كذا وكذا، والرياح سرعتها كذا وكذا.
لقد كثر خوف العقلانية منذ ظهور الإبستيمولوجيا والتي كرست نفسها للدراسة النقدية للمبادئ والفرضيات والنتائج العلمية، إنها الدراسة الهادفة إلى بيان أصل النتائج العلمية المنطقي لا النفسي وقيمتها الموضوعية. ولعل أبرز الإبستيمولوجيين المعاصرين نذكر غاستونباشلار والذي قال: أن بلوغ العلم لمستوى معين تكثيف النتائج العلمية ومراكمتها يؤدي في الأخير إلى نهاية تنفرز فيها الأخطاء والزلل العلمي.
إشكال الأسس العلمية للمعرفة أو أسس المعرفة العلمية. إن المعرفة التي نقصد على وجه التحديد، هي تلك المعرفة المرتبطة بـ"الشرح" سواء تعلق الأمر بوقوع حدث أو شيئ، إن ما يفصل بين المعرفة العلميةشئنا هوالتحديدالذي قلنا أننا نتوخاه في هذه المعرفة العليمة "الشرح بالأسباب" من حيث ارتباط السبب بالمسبب وتقرير الدليل لإثبات المدلول في الظواهر الطبيعية، كما يحصل من تطبيقات قواعد الاستدلال والمسلّمات التي تدعم نظاما صوريا تبنى عليه أي نظرية علمية.
وهنا لا نتساءل عن ماهية الطبيعة وأصل العالم الفيزيائي الذي يطلق عليه في الفلسفة "الأنطولوجيا" أو علم الكائن، بقدر ما نكتفي بالتساؤل حول مصداقية الشروح العلمية المقدمة في استخداماتها ووظائفها، أي أن المعرفة العلمية التي تقدمها هذه المسلمات والفرضيات وقواعد الاستدلال تقدم بدورها للإنسان سلطة كبيرة في تطويع الطبيعة وتحقيق تطلعاته أحيانا بنسبة قد تتوفر على حظوظ مناسبة للتحق..
إن المعرفة العلمية تشرح الظواهر، والظواهر هنا تعني الأشياء والأحداث أو الوقائع، بحيث لا يمكن للإنسان أن يدركها عقليا إلاّ عن طريق الإدراك الحسي المؤدي إلى تشكيل معنى عبر القيام بعملية قياس. فمن خلال الحواس الخمسة، ثمة عنصرين يشاركان بصفة مباشرة في ذلك ، بخاصة من خلاله ما نلمسه "حاسة اللمس" وما نراه "العين"، وهذا ما دفع أفلاطون قديما في حديثه عن العالم المادي أن يتكلم عن العالم وترجمته تعني"مرئي وملموس" " horatoskaihaptos"في نصه هذا قبل أن يؤكد أرسطو ويضيف بأن العلم لا يمكن أن يكون فقط عن طريق الإدراك الحسي، ثم يتطور الأمر اليوم على ضوء أبحاث البرمجة اللغوية العصبية في العلوم الذهنية، ما يشي بالقول أن المعرفة المكتسبة عن طريق الحواس يمكن أن تكون مدببة ومشوشة على أكثر من صعيد، منه مثلا أنه إذا أخذنا بيدنا أنبوبا يمر به ماء بارد جدا، فإننا سنشعر بالبرودة، والعكس صحيح. لكن إذا مر بنفس الأنبوب تيار من الماء البارد والماء الساخن، لأحسسنا بالماء الساخن، وهو نوع من خداع الحواس. زد على ذلك أن المعرفة التي تتم عن طريق الحواس تمر عبر الدماغ. وبالتالي تفرز في معنى معين يتم تمثيله عبر النطق من خلال اللغة. ناهيك أن اللغة أحيانا تعجز عن التعبير نقصا أو تبالغ فيه زيادة. هذا قبل أن يكشف فلاسفة اللغة والمنطق اللغوي واللسانيات أن المعاني غير محشوة في الكلمات، فنحن من يقرر معانيها بالاستعمالات المرصودة لها، وهنا قد تختلف الاستعمالات بالمصطلحات والكلمات والمفاهيم داخل اللغة ذاتها.
إن سائر الظواهر المادية تنساب في الزمن، فضلا أن رؤيتها ذاتها تخضع بالضرورة لظرف الزمان والمكان، بحيث إن هذا التدفق يجعل من الزمن مفهوما صعب التعريف، ما دام أنه يجبرنا أن نفصل بين ما هو كائن وما سيكون. بحيث إن هذا الفصل على قدر كبير من الأهمية عندما تطرح قضية تحديد ما نعني بالمعرفة العلمية.
إن ما يميز العالم المادي أن أحداثه قائمة في الآن والحال، فهي ليست مستودعة في الماضي، بل ممتدة في المضارع والمستقبل، إن لم تتحول باستمرار بما يجعل التحول شيء متسم بعالم المحسوس.أحد صفات.
والحال أننا لا زلنا نجهل الشيء الكثير من تاريخ الإنسان، بالقياس إلى أن عمر الكون 13 مليار سنة من منظار الفيزياء الكمية، بينما لا يعود تاريخ الإنسان إلى أكثر من سبعة ملايين سنة، والذي لم يكن هو وحده الذي عمَّر الكون بل مشى على أديم الأرض أكثر من عشرة أنواع انقرضت كلها بما فيها إنسان نيادرتال الذي ظهر قبل 150 ألف سنة.
غير أن المعرفة التي يبحث عنها المفكر ورجل العلم يجب أن تلتزم بطابع الضرورة " يعني ذلك ارتباط السبب بالمسبب على وجه العلة أو القوة..." كما هو متضمَّن مثلا في مفهوم قانون الطبيعة وجاذبية نيوتن..
وبالتالي نجد أنفسنا في معضلة أساسية عندما نتكلم عن المعرفة العلمية، فمن جهة نجد أن ظواهر هذا العالم الخاضع للزمن، متحولة باستمرار، ومن جهة أخرى إن محاولة الشرح الذي نريد تقديمه يجنح إلى عالم مثالي ومعادلات ثابتة، موضوع "عقل خالص"، حيث تجد البناءات النظرية والرياضية فقط مكانها. ومن ثم كيف السبيل أن نجد شروحا الظواهرالتي تخضع إلى تحولدائم، حيث ليس هناك من شيئ يثبت على حاله، ما دام ديدن الطبيعة تقضي بأن كل من فيها فان، وفي تحول مستمر.
ويمكن أن ننبه أيضا بأن المعرفة العلمية غير المعرفة الشرعية، لأنها تؤكد اليوم ما كان البارحة في تعداد الخيال الجامح، وهي أيضا قد تنفي ما كانت تؤكده البارحة، كما يمكن أن تؤكد ما كانت تنفيه البارحة، لذا لا ينام طلاب العلم على جانب من الحقائق ويهملون أخرى... فهم في حيرة وحذر دائمين. مفاد هذا القول بأن العلم ليس له مسوح دينية، إثنية أو طائفية يستعرض أزياءها..
ولذلك كانت حركة العلم عبر التاريخ تنمو وتتطور بالحذف والإضافة والتجريب والنقض والتراكم، أو بالرفع والدفع كما يقول أهل الجدل، فالنظريات العلمية ومسلماتها معروضة على قارعة الطريق، يمكن تطويرها... أو نقضها ودحضها من قبل سائر الناس، ما يؤكد أن حركة العلم وإنتاجه التقني لا تتوقف... ولا ينبغي لها ذلك، مهما كانت التبريرات والتعليلات..
وعلى ضوء هذا الاقتضاء، إن المختبرات والتجارب الإنسانية منذ القدم لا تعرف التوقف والاستراحة والاستقالة.
ومن ثم إن مع تطور العلم تطورت الرؤية إلى الكون، حيث عرفنا مع غاليليو ونيوتن أنها تدور "دوران الأرض حول الشمس"، لكن مع الفيزياء الحديثة وميكانيكا الكم والنسبية والكوسمولوجيا الحديثة، عرفنا أن الدوران أهليلجي وأن السرعة تزداد مع الاقتراب من الشمس وبطيئة عندما تبتعد عنها، كما عرفنا أيضا بأن طبيعة الدوران مستقيمة على الخط ولولبية حول امتداده.
والواقع أن المعرفة العلمية انطلقت في بدايتها بالضرورة من شروح تخضع إلى قواعد كونية كما تفرض ذلك المنهجية البرهانية أو الاستنباطية، فهي من تؤدي في الأخير إلى بناءات صورية يطلق عليها نظريات علمية، بحيث تخضع هذه البناءات الصورية والنظريات العلمية في النهاية إلى مجموع المسلمات المقبولة في أي نموذج علمي وقواعد الاستدلال، كالمنطق والرياضيات.
غير أن ما بين هذين العالمين، نقصد عالم التحول المادي وعالم الأشكال الثابتة والمستقرة، أو إذا شئنا بلغة أخرى عالم الكينونة وعالم النظريات الرياضية، فليس هناك أي علاقة منطقية بين العالمين. لذا سنركز على هذه المفارقة على وجه التحديد التي اعترضت المفكرين منذ أفلاطون وصولا إلى أينشتاين، بحيث ليس هناك من علاقة منطقية بين نظام المسلَّمات الصوري الذي يعتبر في النهاية قاعدة أو بمثابة البناء المثالي الذي نطلق عليه "الشرح العلمي"، وما يمكن لحواسنا عبر عملية قياس أن تقدمه لنا كمعلومات تجريبية. إذ نجد أينشتاين نفسه يعترف بغياب أي علاقة منطقية بين ما يمكن أن نسميه مجموعة قضايا نظرية نطلق عليها "س" ومستوى "أ" الخاص بالإدراك الحسي..
ومن ثم إذا كانت المنهجية العلمية قد أكدت خصوبتها وقوتها كما وقع طوال القرن العشرين، علينا أن نوضح أسباب النقاش الدائر بخصوص الفجوة غير العقلانية بين العقلي والحسي، بحيث نضع على قدم المساواة مكتسبات أحدث النظريات العلمية والنتائج التي ما زالت صالحة وأساسية في أبحاث أكبر فلاسفة الإغريق والعرب قديما. ما دام لا مفر من مواجهة مشكلة الفجوة غير العقلانية بين العقلي والحسي التي قد تصادف أي بحث في أي معرفة علمية.
والحال بالعودة إلى الفلسفة نجد أن أفلاطون والفارابي وابن رشد وابن سينا هم من طرحوا لأول مرة في تاريخ الإنسانية مشكلة المعرفة العلمية والمقصود بها:
أ‌- يخضع الشرح العلمي إلى طابع الضرورة والمثالية، فضلا عن استحالة استنباطه بطريقة مباشرة عبر معطيات الإدراك الحسي، لأن هذه الأخيرة ذاتية وانطباعية وتختلف من شخص إلى آخر.
ب‌- يعمد أفلاطون ومن بعده المتكلمين والفلاسفة العرب إلى وسيلة جديدة ستحظى فيما بعد بالإجماع، كونها المنهجية المتبعة في أي بحث يريد أن يكون علميا، بحيث تفرض هذه المنهجية بداية تقديم لائحة من الفرضيات والمسلمات، يجري التحقق منها عبر الاعتماد على قواعد الاستدلال المقبولة والمعروفة فيها، مما يفترض من القضايا المستنبطة من مسلماتها أن تكون متطابقة وملائمة ومعقولة وتدعمها معطيات الملاحظة.
يعمد أفلاطون ومن بعده الفلاسفة العرب لأول مرة في تاريخ العلم إلى الرياضيات كوسيلة تتيح لهم التعبير واستنباط النتائج الصادرة عن المسلمات. ومن ثم تم الاعتراف بأبعاد النظرية العلمية القائمة على المنهج الفرضي الاستنباطي. وهو بمثابة الأداة الصورية المتبعة في علم الكونيات منذ أرسطو إلى عصر النهضة.
إجمالا يفترض أفلاطون والفلاسفة العرب أن هذا الكون من صنع صانع شاء أن يبنيه انطلاقا من عناصر قليلة أساسية وبسيطة ورياضية، حيث تجد ظواهره شرحها العلمي في انتظام هذا الفضاء إذا اكتشفنا تلك المعادلة الرياضية التي استعملها الله في تجميع عناصر الكون. هذا على افتراض بأن الله استعمل رياضيات يستطيع البشر فهمها، لكن أفلاطون يقر بأنه لا يمكن للعقل البشري أن يفهم من الظواهر غير ما نصت عليه المعادلة الرياضية التي تعبر عن تغيره وتحوله في الزمان، لا غير. وهو ما ذهبت إليه أحدث التصورات العلمية من خلال نموذج "الانفجار العظيم" في علم الفلك الحديث، ما دام أن الاتفاق حصل اليوم بما يشبه الإجماع أو يكاد بين العلماء بأنه يستحيل على أي نموذج علمي تقديم وصف كامل للكون برمته.
والحال أن قصور العلم إذا كان في القرن السابع عشر وصولا إلى القرن العشرين أمر لا يمكن أن يستسيغه الفهم، فهو اليوم محل قبول واسع من قبل العلماء أنفسهم، بل الأكثر من ذلك إن طلب النجدة من العلم لا يجدي أحيانا، هذا إن لم يكن تطوراته أحيانا وراء كوارث لا تبقي ولا تذر. لذلك إن العلم يجب أن يهتم بالوقائع والظواهر دون المعايير. فإذا كان بإمكانه أن يقول لنا كيف نحن، فإنه لا يمكن له أن يقول لنا ما هو الذي لا يسير على ما يرام في كينونتنا، لأنه لا يمكن أن يوجد علم الوضع البشري. هكذا إذا كان من المسلم به أن أحكام القيمة منذ الفيلسوف هيوم لا يمكن اختزالها في أحكام الواقع، فإن هذه المسلمة أصبحت مثار انتقادات كبيرة، لأن ما يجري اليوم في العالم يدل على أن العالم مصاب بالحمق في كثير من تصرفاته، بحيث إن العقل الذي ورثناه عن الإنسان البدائي لم يتطور بالشكل التام لكي يمكن أن يتكيف مع العالم، إذ أن نوع العقل على ضوء نظرية التطور في النشوء والارتقاء تم اصطفاؤه لكي يعالج جملة من المشاكل التي كان يتعرض لها الإنسان البدائي في صيده وقطفه الثمار منذ ثلاثين ألف سنة، بحيث كانت المشاكل التي تعترض آنذاك ساكنة قليلة العدد تحاول قدر إمكانها أن تعيش وتضمن استمرارية والحفاظ على النوع وسط محيط بيئي تميزه قلة الموارد. لكن هذا النوع من العقل الذي ورثناه لا يمكن أن يؤدي وظيفته كاملا في الألفية الثالثة، بخاصة وسط مدن مزدحمة تعج بالسيارات والخوف من أن يقع لك شيئ في الطريق، سواء كنت متجها للعمل أو عائدا منه! بخلاف أن الواحد منا يدرك أنه لا يمكنه أن يلد أطفالا كثيرون، ما دام يعلم علم اليقين استحالة أن يضمن تربيتهم تربية جيدة ويضمن لهم كلهم مقعدا في الجامعة.
هذا ليس لأن مشاكلنا اليوم أكثر حدة من أسلافنا، بل ما هي الأداة التي يمكن أن نقيس بها كل ما يقع؟ فهي غائبة تمام إن لم تكن عاجزة عن التكيف مع مجريات الواقع المتحولة بشكل سريع جدا.
ذلك أن الجهاز الذهني الذي ورثناه عن أسلافنا البدائيين يوجد في منقطع الطرق، فهو من جهة مقبل على المجهول أمام ما ينتظره من تداعيات قد تخلفها تكنولوجيا المعلومات، الهندسة الوراثية، النانوية والاستنساخ... بحيث لا يصلح هذا العقل الذي ورثناه ولا يتطابق مع الذي نود استعماله منه اليوم. لذلك ليس من المدهش والغريب أن نجد تصرفات عبثية ومدمرة، إن لم يكن العقل البشري المعاصر يهذي ويرتكب حماقات تلو الأخرى. ناهيك عن تكاثر الأمراض النفسية من انفصام ومازوخية وسادية ونرجسية وازدواج في الشخصية... ألخ.
والسؤال الأساسي الذي يعترض سبيلنا في تطبيق فتوحات العلم وأسسه المنطقية والتجريبية والمادية على نشأة هذا العالم مثلا، يبدأ من معضلة القول بأن الكون كان موجودا منذ الأزل، ما يجعل وضع العالم في الوقت الحالي لا يمكن تفسيره بصورة تامة بالركون إلى الحالات الأسبق، لأن كل ما رجعنا إلى سبب امتدت خطوط الرجعة إلى الخلف بدون نهاية وبدون انقطاع في سلسلة السببية، وبالتالي كل ما رجعنا إلى الخلف سنجد نقطة أخرى إلى ما لانهاية. وبالتالي سنظل ندور وندور إلى ما لانهاية...
ومن جهة أخرى إذا قلنا بأن الكون ظهر إلى الوجود في لحظة معينة من الماضي، فإن اللحظة الأولى تصبح فريدة من نوعها، لكن هنا كيف نربط بين الوجود والعدم؟ يبدو أن شيئا هناك ما وراء القوانين العلمية ـ شيئا فوق طبيعي ـ ينبغى الرجوع إليه عندما كان الزمن يساوي صفرا. والسؤال ما هو هذا الشيء غير الطبيعي؟ وهنا بالذات نكون قد وضعنا قدمنا خارج التفسير العلمي، وهو أمر غير مرغوب فيه على الإطلاق.
ثمة تصور ثالث يقول أنه لا هذا ولا ذاك، بمعنى أنه لم يكن هناك كون منذ الأزل، ولا كون ظهر على حين غرة وفجأة. ومن ثم إمكانية وجود طريق ثالث بين الطريقين السالفين الذكر، هو أن الكون لم يوجد دائما، ولم يظهر على نحو مفاجئ في لحظة زمنية خلق فيها، بل ظهر تدريجيا كما يعنيه زمن بلانك " أي 10 -43 من الثانية". وهذه الإمكانية يمكن أن نتبناها على ضوء ميكانيك الكم والفيزياء النووية، حيث مبدأ اللايقين لهايزنبرغ، ما يعرف بعامل اللاحتمية في الطبيعة.
وهذا يعني أن الأحداث والوقائع على المستوى المجهري على الأقل، يمكن أن تكون تلقائية، أي أنها تحدث بلا أسباب سابقة تامة التحديد وحتمية على هذا الوجه أو ذاك، مما يترك لهذه اللاحتمية أن توفر للكون فرصة الظهور دون أن يخلق أو "يسبب" بطريقة فيزيائية خاصة. الأمر الذي يؤدي إلى القول بأن الظهور التلقائي للكون يتماشى مع قوانين فيزياء الكم " فيزياء الذرة"، بينما في الفيزياء الكلاسيكية يعتبر ذلك معجزة، ولا يمكن تفسيرها علميا.
إجمالا، تحاول النظرية النسبية العامة أو المقصورة وصف الظواهر المرئية، ولا يمكنها في هذا المسعى أن تحسم النزاع بين المثالية والمادية، كما يخطئ من يرى بأنها قادرة أن تحسم النزاع بين الدين وخصومه. لكن نظرية النسبية مهيأة أكثر من غيرها بأن تتضمن تفسيرات فلسفية أو روحية. الأمر الذي دفع البعض للقول بأن نظرية النسبية انتصار نهائي لمذهب المثالية على المادية، بينما اعتبرها البعض شكل من أشكال المادية.
وعلى ضوء هذا الاقتضاء يمكن أن نعتبر بأن الزمان والمكان في النظرية النسبية ليسا حقيقة موضوعية، "فالمكان ليس حقيقة موضوعية سوى أنه ترتيب للأشياء التي نشهدها فيه، كما أن الزمان ليس له وجود مستقل سوى ترتيب الأحداث التي نقيسه بها". الأمر الذي ينجم عنه تأويلين متناقضين:
- إذا اعتبرنا بأن المكان والزمان شيئين روحيين، بحيث حل محلهما في النظرية النسبية قراءات على ساعات أو مساطر مادية، فهذا يعني تفسيرا ماديا.
- أما إذا اعتبرنا بأن مبدأ بقاء المادة لم يعد مقبولا، نظرا لكون المادة في منظور الفيزياء النووية يمكن أن تتحول إلى شيئ غير مادي، وهو الطاقة. اعتبر ذلك دلالة على أن المادة ليست فيها حياة أو حقيقة أو ذكاء أو جوهر، وبالتالي اعتبر ذلك إنجازا ضخما ضد المادية.
والواقع أن كلا الموقفين يتحكم فيه منطلق الملاحظ، بحيث لا يمكن على ضوء الفيزياء النووية القول بأن قانون السببية يجرنا إلى تبني حتمية نيوتن ولابلاس القائمة على تعريف الحالة التي يمكن أن يبقى فيها الشيئ الذري "صلب المادة" في موضع وسرعة محددتين، بحيث أثبتت التجرية بأن ثمة لا يقين على وجه التأكيد حتى يمكن أن نتنبأ بموقع الذرة في سرعتها المستقبلي على وجه التأكيد، إذ أقصى ما يمكن أن نبلغه هو قياس إحصائي لمجمل القيم المستقبلية إذا عرفنا قيمتها الحالية.
وطبقا للنظرية الإحصائية للاحتمالات، يمكن قبول تلك النظرية العلمية التي تبدي اتفاقا مع الوقائع المرئية أكبر ما تبديه نظريات أخرى. لكن في هذه النقطة بالذات نعلم بأن ذلك يعني هو أن أحسن نظرية هي النظرية التي تجيد وصف الوقائع، لكن ذلك للأسف لا يمكن أن يشكل نظرية على وجه الإطلاق.
وعلى أية حال يمكن إضافة مقومات البساطة الرياضية، الاقتصاد في الجهد والوقت والاتفاق مع الفطرة السليمة في سمات النظرية العلمية التي تتجنب معادلاتها التعقيد وتجعل العلم أكثر ديناميكية. فضلا عن كون أن السؤال حول قبول هذه النظرية العلمية بدل أخرى في زمن ومكان ما، ليس له علاقة وثيقة بكونها صحيحة أو مثالية، بحيث لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلا إذا دققنا النظر في الهدف الذي تريد أن تخدمه النظرية.
هل التنبؤ بما سيجري ويدور مستقبلا؟ أو استنتاج أكبر عدد من الظواهر والأحداث من مبادئ بسيطة؟ فضلا عن ذلك، هل الغرض هو استغلالها كدعامة في دفع الناس نحو تبني نمط من العيش أو تبني هذا السلوك ورفض ذاك؟
كل ذلك يفي بأنه لا يمكن الفصل بين القيمة التكنولوجية والاجتماعية في أي نظرية علمية، بخاصة أن السلوك البشري يتأثر بالقيمة الاجتماعية، ما دامت هذه الأخيرة تنطوي على آراء دينية وسياسية... أما التأثير التكنولوجي على السلوك البشري... فهو موجود ... وإن كان غير مباشر. بيد أن الكل يعلم اليوم بأن التغيرات التكنولوجية تحدث تغيرات اجتماعية تظهر بالتدريج في شكل سلوك اجتماعي.
ومن ثم نستخلص مثلا بأن المسكوت عنه بالصريح المباشر في الفيزياء النووية وفق الصيغة المعروضة في مبادئ نظرية الكم، ترفض إدخال الحتمية في التفكير والإبداع والجزم بالقطعية والحتمية في الأفكار، بحيث إن خلفيتها تتماشى كليا مع منطق "الإرادة الحرة" للإنسان التي لا تأتلف مطلقا مع النظرية النيوتونية التي كانت تنظر إلى الكون من نافذة الحتمية. فاليقين يقابله اللايقين، والاحتمالات مشرعة على جميع الاتجاهات والافتراضات، بحيث يمكن القول أن العلم يمكن أن يكون له تفسيرا ميتافيزيقيا شئنا أم أبينا. لذلك صدق من قال: "هناك ثلاث درجات للمعرفة، وأدنى الدرجات هي المعرفة بالنظر الحس. وأرفع الدرجات هي المعرفة بالعقل البحت، فهي تتأمل الكائنات الخالدة، وتتأمل، فوق كل شيء، الفضيلة المطلقة"؟
والحال أن ذلك يعيد للأذهان سؤال من الأسبق الدجاجة أم البيضة على النحو الذي رسمه القديس أوغستين في تساؤله عن من هو الأول في الكون، بحيث يلتقي مع نظرية أينشتاين العلمية.
في مجال المعرفة العلمية تأخد التجربة دلالة خاصة، إنها مجموعة من الإجراءات والخطوات النظرية والعلمية التي يقوم بها العالم بصفة مقصودة. فما الصورة التي يأخدها التجريب في العلم؟ ما الخطاطة المقترحة عند القيام التجربة؟
يقترح "كلود برنار"عالم فرنسي شهير يعتبر مؤسس المدرسة التجريبية العلمية وصاحب عدة بحوث هامة أدت إلى اكتشاف وفهم الوسط الداخلي. والاستتباب.
في كتابه "المدخل لدراسة تطور الطب التجريبي" الصورة المثلى لعالم تجريبي يجمع بين الفكر النظري والممارسة التجريبية. في البداية على العالم أن تكون لديه فكرة يخضعها للفحص، والذي هو لحظة التأكد من الفكرة؛ فعليه إذا أن يكون ملاحظا ومجربا. وتقتضي الملاحظة العلمية معاينة الظاهرة وتعريفها تعريفا صحيحا، ومن شروطها الموضوعية والدقة في المعاينة؛ فالعالم الموضوعي ينصت إلى الطبيعة وينتقل ماهو موجود في الواقع، ثم بعد الملاحظة تأتي الفكرة أو الفرضية التي من خلالها يبحث العالم عن تفسير لأسباب حدوث الظاهرة، فيلتجئ إلى التأكد من الفرضية بواسطة التجربة التي هي لحظة التحقق من تخمينه ومشروعه الفكري.
هذه الخطاطة النظرية تعتمد على خطوات منهجية أساسية هي:الملاحظة والفرضية والتجربة وقد قام العلم الكلاسيكي على أسس ومبادئ هذا المنهج.
وفي الأخير نذكر بيوغرافية مقتطفة من ويكبيديا الموسوعة الحرة، حول العالم الألماني رودولف كارناب، وهو فيلسوف ومنطقي ألماني، يهودي الأصل، وأحد أبرز زعماء الفلسفة التجريبية أو الوضعية المنطقية،إحدى مشكلات الفلسفة في القرن العشرين هي تحديد وظيفة الفلسفة في ظل اكتساح العلوم الطبيعية. كان هذا أحد الهموم الرئيسية للألماني رودولف كارناب في كتابه: لغة الفيزياء بصفتها اللغة الكونية للعلم 1934، الذي يقترح فيه أن الوظيفة المناسبة والصحيحة للفلسفة هي تحليل وتمحيص المفاهيم العلمية، وهذا هو أسهامها الرئيس في العلم.
يزعم كارناب أن العديد من المشكلات الفلسفية العميقة، منها المشكلات الميتافيزيقية، عديمة المعنى، لأنه لايمكن البرهنة عليها ولا يمكن دحضها بواسطة التجربة، ويضيف أنها في حقيقتها مشكلات زائفة، ناتجة عن التباس منطقي في استخدامنا للغة.
تقوم أصالة كارناب في اتجاهه المنهجي الذي يصوغ به نسقاً تقنياً يطبقه على بعض مسائل الفلسفة بهدف حلها، فقد سعى في مؤلفه الرئيسي «البناء المنطقي للعالم» إلى تطبيق ـ على مجمل الموضوعات ـ المنهج المنطقي الذي طبقه رسل على الموضوعات الرياضية، كي ينحّي جانباً الميتافيزيقاMetaphysics، وينفي دور الفلسفة كعلم كلي، انطلاقاً من ورفض كل عنصر تركيبي قبلي في المعرفة، واعتقاداً بأن القضايا العلمية دائماً بعدية، تستمد معناها من النسق المنطقي الذي تندرج فيه، فيرد الفلسفة إلى تحليل منطقي للغة العلم يقوم على المنطق الرياضي. ويذهب إلى أن المعرفة النظرية التي يقوم عليها هذا التحليل تمثل مزيجاً من التجريبية المثالية في تفسير المنطق والرياضيات، فالمفهوم الفلسفي للوضعية الجديدة في مذهبه متداخل مع دراسات نظرية المنطق والتحليل القائم على المنطق ومنهج البحث العلمي.
ويمكن تمييز مرحلتين أساسيتين في تطور فكر كارناب بصدد طبيعة المنهج المنطقي: الأولى هي مرحلة الاهتمام بالبناء اللفظي، حينما يهتم منطق العلم بالبناء اللفظي المنطقي للغة العلم؛ والثانية هي مرحلة الاهتمام بالمدلول اللفظي، حينما يهتم منطق لغة العلم بالمعنى والمدلول.
ويقوم منهجه، في المرحلة الأولى، على نظريته في البناء أو التركيب constitution´-or-construction theoryويستعين فيه بالمناهج التي سبقه إليها إرنست ماخر] Ernest Mach ورسل وفتغنشتاين، وتدور النظرية حول مبدأ قابلية القضايا للردprinciple of reducibilityبتعريف الحدود التي يشمل بناؤها أي تعريفها البنائيconstitutionaldefinition، وترتيب التعريفات في نسق بنائيconstitutional system.
وبتأثير أبحاث كارل بوبرسعى كارناب إلى تصحيح فهم تركيب المعرفة التجريبية، بوضع تصور جديد لمعيار المعنى التجريبي، وقواعد خاصة به. وتمكن بهذا أن يفرق بين القضايا التجريبية التي يمكن التحقق من صدقها وتخضع لمبدأ التحققprinciple of verifiability، أي بالإمكان اختبارهاtestabilityأو التثبت منهاconfirmability وهي قضايا علمية، وبين القضايا الميتافيزيقية وما شابهها التي لايمكن التحقق من معناها تجريبياً ولا تقوم على معطيات حسية، ويصفها بأنها قضايا فارغة أو أشباه قضايا pseudo statementsلامعنى لها. ويقصر لغة الواقع والعلم على القضايا العلمية، ويسميها لغة ظاهراتيةphenomenalisticلأنها تقتصر على وصف الظواهر، ثم يؤثر أن يسميها لغة فيزيائيةphysicalisticلتكون لغة العلوم كلها، كونها لغة وصفية كمية، وعباراتها تقريريةreport sentences، أو لأنها لغة محددة المعاني والعبارات، بها تصاغ الحقائق العلمية التجريبية.
ويفرق كارناب بين ما يسميه لغة الموضوعobjectlanguageالتي تعبر عن موضوعات العالم ووقائعه (مثال: إن الوردة حمراء)، وبين اللغة الشارحة أو لغة ماوراء اللغةMetalanguage، التي هي صورية وتعبر عن اللغة التي يعبر بها عن لغة الموضوع أو تشرحه، كالقول: إن عبارة إن الكرة حمراء تتكون من ثلاث كلمات، فالعبارة «إن الوردة حمراء» موضوعية حقيقية، أما العبارة «إن الوردة شيء» فهي شبه موضوعية، وغامضة وتخلط بين العبارة المادية والعبارة الصورية. ويبين أن الخلافات في الفلسفة ترجع إلى سوء فهم أو سوء تحليل التصورات الفلسفية، وعنه ينجم الخلط بين الأحكام المصوغة بلغة الموضوع والأحكام المصوغة بعبارات اللغة الشارحة أو لغة ما وراء اللغة، فيؤدي ذلك إلى خلافات بين الآراء أو المذاهب الفلسفية حول بعض المسائل. لذلك يقترح كارناب ترجمة وتأويل العبارات الفلسفية شبه الموضوعية من شكلها المادي إلى الشكل الصوري بإعادة صياغتها في عبارات تركيبية.
ويحاول كارناب في المرحلة الثانية من تطوره الفكري في مؤلفه «المدخل إلى السيمانطيقا» ثم في «المدخل إلى المنطق الرمزي» أن يبني، على أساس من المفاهيم المبدئية المدلولات اللفظية المنطقية، نسقاً واحداً من المنطق الشكلي، فيقدم مبدأ يطلق عليه مبدأ التسامحprinciple of tolerance، يكفل به حرية التعبير، ويؤكد أن عمل فلاسفة اللغة ليس بوضع قيود على الاستعمالات اللغوية، بل الاهتمام بتحديد الشروط التي بها تصدق العبارات منطقياً وتتحدد بها مدلولاتها، ومن ثم ينتقل كارناب من التركيب المنطقيsyntaxللعبارة إلى معناها وصدقها، فيقوم بتحليل الدلالات ووضع نظرية في اللغة تربط الرموز بالموضوعات التي تدل عليها، فالعبارة صادقة عندما يكون محمولهاpredicateمتوافقاً مع نسقها، بمعنى أن صدقها لا يقاس باعتبارات عملية، ولا يرتبط بأي معتقدات قابلة للتحقق، ولا يبحث عن أسبابه خارج نسق العبارة نفسها، والنسق السيمانطيقي هو تلك القواعد التي بها تتحدد شروط صدق العبارة، والعلم المعني به هو علم السيمانطيقا أو علم دلالات الألفاظ وتطورهاsemantics، ومهمة الفلسفة هي تحليل اللغة تحليلاً سيميوطيقياًsemiotic، أي تحليلها من حيث هي رموز لبناء الكلام المعرفي، وعلى هذا النحو تستعيد الميتافيزيقا دورها الدلالي في التعبير عن أحوال وجدانية.

وختاما نذكرقول للقديس أو غستين فيه حكمة

"إذا استغرب أي عقل مختل أنك أيها الإله القدير العظيم المعز، صانع السموات والأرض، قد أمسكت طوال هذه الأجيال التي لا تحصى عن صنع هذا العمل الكبير الذي صنعته، فليستيقظ هذا العقل ويدرك أنه يستغرب عن وهم زائف. فمهما تعددت الأجيال التي صنعتها، فأنت مؤلف الأجيال جميعا وأنت خالقها. أين هي تلك الأزمنة التي لم تصنعها؟ أو كيف تمر هذه الأزمنة إذا لم تكن أنت صانعها؟ أما وقد رأينا أنك خالق كل زمان، فكيف نقول إنك امتنعت عن العمل في أي زمن يكون قد سبق خلقك للسموات والأرض؟ أما إذا لم يكن هناك زمن قبل خلقك للسموات والأرض، فكيف يسأل: " ماذا صنعت وقتئذ؟".

المراجع:
1 جيمس تريفيل، لماذا العلم، ترجمة شوقي جلال، الصفحة 18.
2محمد عزالدين الصندوق،مقال بعنوان "قوة المعرفة العلمية وحدودها".
3المعجم الفلسفي، نظرية المعرفة، الصفحة 203
4الاستاذ الحوزي،مقال حول تعريف الإبستيمولوجيا.
5 جيمس تريفيل، لماذا العلم،ترجمة شوقي جلال،الصفحة 112 وما بعدها. عالم المعرفة
6من كتاب منهجي، يخص أصحاب الباكالوريا.مسمى بتوب الصفحة 28



#لحسن_لحمادي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نيتشه والإغريق
- قراءة نيتشه لأطروحات أرسطو:
- نيتشه أبيقور* والأبيقورية وزينون والرواقية:
- هيراقليطس(الحكيم الأفزي)* بعيون نيتشه :
- التربية على القيم من خلال كتاب -قيمة القيم- للمهدي المنجرة
- كيف تصبح مفكرا؟
- عندما يكتب المفكر عن اللامفكر فيه
- القلم المغربي
- كيف يحب المفكر؟
- أين المفكر؟
- سياسة المحافظة، حفظ دون فهم
- الفلسفة في مراكش
- نزول المفكر للمجتمع
- الدين والزمان
- السياسيات المقارنة
- قراءة في كتاب -فلسفة العلم، الصلة بين الفلسفة والعلم- لمؤلفه ...
- قراءة في كتاب -فلسفة العلم، مقدمة معاصرة- لمؤلفه أليكس روزنب ...
- التراجيديا من منظور نيتشه


المزيد.....




- بالأرقام.. حصة كل دولة بحزمة المساعدات الأمريكية لإسرائيل وأ ...
- مصر تستعيد رأس تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني
- شابة تصادف -وحيد قرن البحر- شديد الندرة في المالديف
- -عقبة أمام حل الدولتين-.. بيلوسي تدعو نتنياهو للاستقالة
- من يقف وراء الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل في الجامعات الأمريك ...
- فلسطينيون يستهدفون قوات إسرائيلية في نابلس وقلقيلية ومستوطنو ...
- نتيجة صواريخ -حزب الله-.. انقطاع التيار الكهربائي عن مستوطنت ...
- ماهي منظومة -إس – 500- التي أعلن وزير الدفاع الروسي عن دخوله ...
- مستشار أمريكي سابق: المساعدة الجديدة من واشنطن ستطيل أمد إرا ...
- حزب الله: -استهدفنا مستوطنة -شوميرا- بعشرات صواريخ ‌‏الكاتيو ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - لحسن لحمادي - بحث حول تحديد المفاهيم التالية: نظرية المعرفة، فلسفة العلم، المعرفة العلمية وتبيان لأسس المعرفة العلمية