أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - رحيل معلن إلى رحاب المطلق الأزلي ! رواية . الجزء الأول















المزيد.....



رحيل معلن إلى رحاب المطلق الأزلي ! رواية . الجزء الأول


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4861 - 2015 / 7 / 9 - 23:01
المحور: الادب والفن
    


(1) ما قبل الإنتحار!
وهو يتأمل المسدس الذي ابتاعه لينتحر به ، بعد أن ضاقت الدنيا برحابتها في وجهة ، مثلت في مخيلة الأديب محمود أبو الجدايل ، صورته وهو ينحشرفي قبو مطار دمشق مع مئات الفارين من جحيم الحرب المستعرة في سوريا منذ أكثر من عام .
لم يتصور يوما أنه سيجد نفسه في هذا الوضع المزري مع مئات النساء والرجال والأطفال، وسط لهيب حر خانق ، وازدحام شديد.
حين استيقظ من النوم متأخرا ذلك اليوم ، الثامن عشر من تموز ، تناهى إلى مسمعه قصف مدفعي عنيف ناحية الميدان والتضامن. ألقى نظرة عبر باب الصالون . شاهد نسقا منتظما من دخان القذائف يزداد طولا كلما سقطت قذيفة جديدة .لم يسمع أو ير مثل هذا القصف طوال ستة عشر شهرا على بدء الاحداث في سوريا .
سارع إلى عمل الشاي الذي اعتاد أن يبدأ نهاره به ، وفيما هو يحتسيه جاءه هاتف من ابنه في عمان يطلب إليه مغادرة دمشق فورا. ولم تمر سوى دقائق حتى جاءه هاتف من ابنته في الكويت تحثه على المغادرة وجوا لأن طريق البر ليست آمنة . واخبرته أنها ستحجز له على الأردنية .
" لم يفكر حتى حينه في ترك بيته مهما حدث . كان يفضل الموت فيه على مغادرته . ففيه روحه وأحلامه وعقله ، ذاكرته وذكرياته ، مؤلفاته ومخطوطاته ، لوحاته ومنحوتاته ، ،تحفه ومقتنياته . مكتبته الهائلة الزاخرة بأهم الكتب التي يحتاج إليها ، وخاصة تلك المتعلقة بالفلسفة وبأبحاثه في المعتقدات الدينية والأساطير لدى الشعوب .كان يفضل الموت مع عالمه هذا على أن يغادره عاريا من كل شيء ، إلا من دماغ يحتاج إلى دهر لاستعادة بعض ما يختزنه من معرفة وذكريات إلى النور . وماذا عن دمشق ، دمشق المدينة التي فضل العيش فيها على أجمل مدن العالم ، هل سيترك دمشق ؟ محال ! بل مستحيل ! "
" لكن مكالمة ابنه جعلته يدرك أكثر من أي وقت آخر أن ينجو بنفسه ، فما الذي سيجنيه من الموت مع أعماله ؟ ليكسب نفسه على الأقل ، وإن كانت بلا ذاكرة ، وبلا روح ، وبلا حبيبة ، دمشق ! وبلا أم ، دمشق ! وبلا حضن ، دمشق ! مجرد هيكل جسدي آيل إلى السقوط .."
ولم يجد نفسه إلا وهو يهتف بلوعة من أعماق دخيلته ودمعتان تتدحرجان على وجنتيه "آه يا دمشق ! آ......ه ي....ا دمشق ! آه يا أمي ، آه يا حبيبتي ، آه ياحزني الكبير"
كانت دمشق بالنسبة إليه أمه بالرضاعة ، كما كان يقول في بعض حواراته الصحفية ، أما القدس فلم تكن إلا أمه بالولادة ، لكنها لم ترضعه قطرة من حليبها ، ولم يعرف طعمه رغم محبته لها، دمشق هي من ألقمته ثديها منذ أن لجأ إليها قبل أكثر من أربعين عاما ، ومنحته كل حنان الأمومة ، وأغدقت عليه معرفتها الشاملة ، حتى كونت شخصيته .
( 2) الهروب !
اعتاد العيش وحيدا منذ قرابة عقدين من الزمن . ألف الوحده إلى حد لا يوصف . وشك في أنه سيكون قادرا على العيش مع ابنه وزوجته . زفر نفسا عميقا وهو يحتسي آخر جرعة من الشاي ، ونهض .غسل وجهه وارتدى ملابسه . لا بد من تحويل بعض النقود إلى عمان . له نقود على ابنه منذ أكثر من عقد من الزمن ، لكنه قد لا يعطيه إياها . سبق له أن احتاج إلى نقود
وطلب منه . ادعى أنه لا يملك نقودا .. ومنذ ذلك اليوم قرر أن يبقي نقوده تحت تصرفه . شرع في سحب بعض نقوده من البنك على دفعات ، حين أدرك أن البنك لن يعطيه كامل نقوده دفعة واحدة ، وهي لم تكن تتجاوز الخمسين ألف دولار جمعها من ريع لوحاته ، التي كان يعرضها في محلين في دمشق القديمة ، أغلقهما منذ بدء الأزمة . كما أنه أقام بعض المعارض في باريس وبرلين وبلدان أخرى .. كانت نقوده موضوعة بالدولار واليورو .. سحب معظمها ولم يبق إلا على خمسة آلاف يورو وبعض الدولارات.
حين ذهب أول مرة لسحب جزء من النقود استدعته مديرة البنك لتقول له " المواطن الشريف لا يسحب نقوده في هذه الظروف التي تمر بها البلد "
اضطر أن يخبرها أن دخله توقف وأنه لن يسحب إلا ما يكفيه لمصروفه !
كان يحتفظ بالنقود داخل كتب ويركنها إلى المكتبة . شرع في تناول بعض الكتب وأخذ المغلفات منها . ثمة نقود لم يضعها في البنك من الريال السعودي والدرهم الإماراتي والجنيه الإسترليني وغيرها من النقود . معظم زبائنه كانوا يدفعون له بعملاتهم . و وجود نبذة عنه
في أشهر الكتب السياحية العالمية عن سورية ولبنان وتحديد موقعه على خارطة دمشق القديمة جعل معرضية محطة لبعض الزائرين لا بد منها . وكان يقوم بتصوير بعض قصصه ورواياته المترجمة ويبيعها لمن يريد من السياح . ونظرا لأن النبذة عنه في كتاب ( لونلي بلانت ) السياحي كانت بعنوان " الفيلسوف ، الشاعر ، الرسام " إضافة إلى عشرات الحوارات والكتابات بلغات مختلفة التي كان يعلقها على جدران المحل ، فقد كان معظم الزائرين يرغبون في التعرف على فلسفته ، وهذا ما دفع راهبا دانمركيا يعمل مسؤولا لكنيسة في الكويت أن يحاوره على مدار يومين ليتعرف على فكر مختلف لم يعرفه أو يسمع عنه من قبل .وليتمنى لو أنه في مقدوره أن يبوح بهذا الفكر لرواد الكنيسة .
وهو يقترب من اوتوستراد الزاهرة الجديدة المؤدي إلى الصناعة وهدير المدافع يتناهى إلى مسامعه من ناحية الميدان والزاهرة والتضامن ، سمع صراخا قادما من ناحية الجسر المحلق .
أسرع الخطا ليطل على الشارع . هاله ما رأى ، كان بحرا بشريا يفر مذعورا من مناطق القتال عبر الاوتوستراد . أطفال . فتيات. شباب . رجال. نساء. شيوخ . يجرون أو يسيرون بسرعة هاربين من جحيم الحرب .رجال ونساء يحملون أطفالا صغارا ويعدون . بعضهم يقودون أطفالا ويحملون أطفالا آخرين . بعضهم يصرخون ، وبعضهم يتأوهون أو يتحسرون ،
وبعضهم يفرون بصمت . وجوههم تعكس رعبا فظيعا ، ألما ، حزنا ، غضبا ، جنونا . وثمة حافلات تطلق أبواقها بين الجموع لعل فسحة تفتح لها لتمر .
أطبق بيديه على أنفه وفمه ومقدمة الهلع تقترب منه وبعض الفارين من الشباب يتجاوزونه .
أين سيجد حافلة تقله إلى السوق في هذا الجحيم ؟ وهؤلاء الناس إلى أين سيهربون ؟ هل لهم أقارب في وسط المدينة ؟ أم سيلجأون إلى المدارس والحدائق والطرقات ؟
تأوه من أعماقه وأطلق العنان لساقيه ، حين أدرك أنه سيذهب إلى السوق سيرا على الأقدام ، فيما كانت دخيلته تصطرع بالغضب والجنون والألم والرعب .
(3) الحشر!
لم تكن تلك المرة الأولى التي يشعر فيها الأديب محمود أبو الجدايل بالرعب . ونظرا لأن بيته في المنطقة المحاذية للمحلق الجنوبي في الزاهرة الجديدة ، فقد عايش كل الإنفجارات التي حدثت على المحلق .
يوم الإنفجارين الأخيرين كان قد نام متأخرا بعد أن أخذ حبة منوم تساعده على النوم ، وحين هز الإنفجار الأول البناء وجد نفسه يقفز عن السرير ويهرع إلى النافذة ، وما أن فتحها حتى دوى الإنفجار الثاني ليتعفر وجهه بالتراب والهواء الساخن ! سارع إلى الإبتعاد عن النافذة والهروع إلى الحمام ، لم يكن هناك جروح في وجهه مجرد تراب خفيف . غسل وجهه . دخل المطبخ ليجد أن بابه قد فتح من جراء الإنفجار ، فيما تناثرت شظايا صغيرة من قطع خشبية على الأرضية . لم تكن الشظايا من باب بيته ، لكن كيف دخلت حين ارتطمت بالباب ليفتح ؟ لا شك أن قوة ضغط الإنفجارسبقت الشظايا ، ففتحت الباب لها ! جيد أنك لم تكن في المطبخ يا محمود . كان باب المطبخ هو الوحيد من نوافذ وأبواب البيت المواجه لمكان الإنفجار .
خرج إلى الشرفة رأى بشرا يهرعون ناحية مكان الإنفجار . وثمة هرج بين الناس . أحدهم يقول زجاج النوافذ المواجهة للإنفجار تحطم .هناك بعض الجرحى من الأطفال والنساء اللواتي كن في المطابخ !
**********
بعد قرابة أربعين دقيقة من الخطو السريع بلغ الصراف الذي يقصده في الحريقة ، ليحول له نقودا إلى عمان . راح يخرج عملات مختلفة من مغلفات أخرجها من حقيبة كتفه ، فيما الصراف يقوم بتحويلها إلى دولار.
- تسعة عشر ألفا وخمسمائة دولار. قال الصراف .
- كنت أظن أنني حملت أكثر . قال محمود ، وتابع :
"خذ حقوقك من الخمسمائة وحول لي على اسمي تسعة عشر ألفا ".
أخذ الصراف أجرة ليرة واحدة مقابل كل دولار. أي تسعة عشر ألفا .
خرج من عند الصراف ليعود إلى البيت . ولم يعرف كيف وجد نفسه يسير في اتجاه الحميدية والمسجد الأموي ، مع أنه كان يجب أن يسير في الإتجاه المعاكس ، حتى أنه لم يدر وهو يجتاز الحريقة ويدخل البزورية مارا بقصر العظم ، أنه يودع الأماكن التي عاش فيها وألفها ، وربما يودعها لآخر مرة .كان عقله منشغلا بإمكانية السفر . وحين أصبح في مواجهة الباب الجنوبي للأموي لم ينحرف يمينا في شارع القباقبية كما يجب أن يفعل ، بل ذهب يسارا ليلج إلى ساحة الأموي ومدخل الحميدية الشرقي . اجتاز أسرابا من الحمام كانت تحط في الساحة باحثة عما تأكله . توقف إلى جانب الأعمدة الأثرية على مدخل الحميدية واستدار ليواجه جدار المسجد الغربي . سار في اتجاه قبر صلاح الدين ، وحين بلغ الباب المؤدي إلى الضريح أدرك أنه يسير في الإتجاه الخطأ ويضيع الوقت .
عاد أدراجه ليجتاز القبابية فالنوفرة . أبطأ قليلا وهو ينزل الدرجات الصاعدة إلى باب المسجد الشرقي والنازلة إلى النوفرة . طوال ستة أعوام كان يعرض لوحاته على جدران هذا المقهى الذي يستحيل أن يأتي سائح إلى دمشق دون أن يمر فيه . من هنا عرف في معظم أنحاء العالم .
وباع آلاف اللوحات .
لم يكن هناك إلا القليل من الرواد يجلسون في الخارج يدخنون الأراجيل . حيا بحركة من يده وهو يجتاز الشارع في اتجاه القيمرية . وبدلا من عبورالقيمرية في اتجاه باب توما كما كان يفعل كثيرا ، صعد إلىى اليمين حيث حي مكتب عنبر . تمهل قليلا وهو يمر من أمام محله المغلق . كم من الذكريات له خلف هذا الباب. تنفس بعمق وتأوه ..تذكر آخر من التقاهم في هذا المعرض من الأصدقاء :الراحل عمر أميرلاي ، المخرج السينمائي ، سمير ذكرى المخرج أيضا ، ميشيل كيلو السياسي صديق العمر ، منى أتاسي صاحبة جالري أتاسي ،
نبيل المالح المخرج السينمائي أيضا ، الفنانة منى واصف ، الفنان عبد الحكيم قطيفان ، الفنان الموسيقارصفوان بهلوان ، الفنان يوسف عبد لكي ، الفنان موفق قات ،الأديب حسن يوسف ، الأديب خليل صويلح ،الفنان أيمن زيدان ، الفنان جهاد سعد ، الفنان ماهر صليبي ، الفنانة ندى حمصي ، الفنانة سحر فوزي ، الفنان أيمن رضا ، حيث أهداهم جميعا نسخا من آخر روايتين له : الملك لقمان ، وغوايات شيطانية .
وهو يجتاز سوق مدحت باشا مر من أمام محله الثاني ليجد أنه تحول إلى صالون حلاقة لأبو فادي الذي كان يشغل محلا يواجه محله الآخر. سلم على أبو فادي وتابع طريقه . لم يدخل إلى
حي الأمين من شارعه الرئيسي . تابع طريقه في اتجاه الكنيسة المريمية ثم انعطف يمينا ليلج إلى حارة اليهود .
حاول أن يأخذ تاكسي من حي الأمين دون جدوى . لم يقبل أي سائق التوجه جنوبا حيث يحتدم القتال الضاري. حث خطاه ليعود سيرا .. اجتاز شارع ابن عساكر إلى الصناعة .مر من بستان الدور على عجل . أخذ صوت القصف يتناهى إليه . كان قد ازداد فظاعة . الهاتف يرن . " هلو بابا حجزت لك على الأردنية في الثامنة صباح الغد ، افتح الإيميل لتأخذ رقم التذكرة ورقم الرحلة " " تشكري بابا "
(4) الفراق !
وصل إلى حارته في حي الزاهرة الجديدة التي تبعد عن المتحلق الجنوبي قرابة ثلاثمائة متر . كان ثمة مدافع تقصف من المتحلق في اتجاه الجنوب .أمام البناء الذي يقطن فيه شاهد جاره أبو محمد . أخبره أن يحضر حاله ليقله إلى المطار . وافق أبو محمد دون أي نقاش .
دخل بيته . سارع إلى الكومبيوتر .شكر الله حين وجد أن النت غير معطل . طبع رقم الرحلة ورقم التذكرة على ورقة . نهض يجمع أشياءه . كان قد حضر من قبل ثلاث حقائب للوحات كبيرة ومتوسطة وصغيرة غير مبروظة . لم تكن الملابس تعنيه كثيرا . وضع القليل منها في حقيبة . كان قد أنزل من قبل اللوحات المهمة عن الجدران ووضعها تحت الأسرة لعلها تسلم من الدمارإذا ما سقطت قذيفة على البيت ، لوحات زيتية كبيرة مشغولة بالرسم والحفر والزخرفة . علق بدلا منها لوحات أقل أهمية .
دخل إلى المكتبة وراح يبحث عن الكتب التي تحوي نقودا . أخبره ابنه أن لا يحمل معه نقودا كثيرة فقد يأخذونها منه في المطار . اكتفى بخمسة آلاف دولار . وضعها في مغلف ، وضعه في جيب داخلي لسترته . وكان لديه قرابة عشرين ألف سوري . هناك كتب ما تزال تحوي نقودا . عدها . ثمانية آلاف دولار. سيبقيها في البيت . سجل عناوين الكتب التي وضعها فيها .
والرف الذي وضعها فيه في المكتبة . دس الورقة في جيبه . القصف يزداد حدة . الأبنية تكاد تهتز . لم يسمع أخبارا طوال اليوم ولم يعرف ماذا يجري غير القتال الشرس الذي ينبئ به القصف .
سمع صراخا وضجيجا وهتافات . ألقى نظرة من باب الصالون . شاهد إطارات مشتعلة تقطع الشارع الداخل إلى الحي من الجنوب ، ومجموعة من الشباب ينطلقون مسرعين بسيارة سوزوكي مكشوفة وهم يهتفون ويجوبون الحي . لم يعرف بماذا يهتفون .لكنه أدرك أنهم من المعارضة .
لم يكن قد أكل شيئا حتى حينه . ولا نفس له في تناول الطعام .لكنه شعر بحاجته إلى جرعة ماء.
عرف الجيران أنه سيغادر فقرعوا الباب يسألون . أطفال ونساء وفتيات لم يكن يراهن إلا محجبات وباللباس الشرعي ، وهاهن الآن سافرات وبملابس النوم أو ملابس البيت . وجوه كئيبة . عيون تغرورق بالدموع . اندفعت أم محمد إلى داخل البيت حاملة كأس لبن ، ليندفع معها قرابة عشرة أطفال من أحفادها . اعتذر من أم محمد لأنه لا يستطيع أن يشرب شيئا وطلب إليها أن تخرج الأطفال ليتمكن من ترتيب أغراضه التي سيأخذها . طبق الباب قليلا دون أن يغلقه .أخذ يقرب الحقائب من الباب . هذه حقيبة ثقيلة جدا . فتحها . تناول رزمة من اللوحات الصغيرة موضوعة في كيس وقذف بها إلى داخل البيت . لم يعرف أنه قذف أجمل رزمة من اللوحات الصغيرة . قياس 25*17 سم.
تفقد أشياءه . جواز السفر الأردني .معجون الأسنان والفرشاة . الكاميرا . صابون . ألة الحلاقة . مقص الشعر . لم يأخذ زجاجة العطور . وثمة زجاجة هدية من ابنته لم يفتحها بعد . لم يأخذها أيضا . توقف قليلا ليتفقد كل شيء . كل شيء جاهز . ثلاث حقائب لوحات . حقيبة صغيرة ملابس ومناشف, حقيبة كتف . لم يخطر بباله أن يحمل أيا من مؤلفاته.
فتح الباب . كان الجيران يتجمهرون خلف الباب . اقترب من أم محمد . أعطاها رزمة نقود قدر أنها اثنا عشر ألفا لتدفع فواتير الكهرباء والهاتف والماء في غيابه . أخرج الحقائب أمام البيت . أقفل الباب . أعطى المفتاح لأم محمد ، واضعا البيت في أمانتها . مشيرا إليها أن تأخذ كل ما في البيت من خضار وفواكه ولحوم وحبوب ومعلبات.
- هذه النقود أكثر من 12 ألف . هتفت أم محمد .
- معلش ! قال .
كان أبو محمد قد شرع في انزال الحقائب من الطابق الثالث .
ألقى نظرة خاطفة على جمهور الجيران وهو يحمل آخر حقيبة لوحات ويهم بالنزول . حياهم بحركة من يده دون أن يتفوه بكلمة متحاشيا النظر إلى وجوه الفتيات اللواتي شرعن في النحيب .
****************
(5) الرحيل !

غادرا الحي من حارات جانبية خلفية لأن الإطارات المشتعلة كانت تغلق مداخله الرئيسة ومظاهرة صاخبة تجوب أحياءه معلنة سقوط النظام !
وصلا المطار بسلام قبل الغروب . ودع أبو محمد وأوصاه بالبيت . كان آلاف البشر يتكدسون في ردهات المطار.جلس في مطعم وطلب طعاما وشرابا ، فهو لم يأكل شيئا طوال النهار . لم يكن هناك بيرة . أحضر له النادل كأسا صغيرا من الجن بالكاد يكفي لبل شفتيه !
في حوالي التاسعة ليلا اهتز زجاج الجدار الأمامي للمطار جراء ثلاثة انفجارات حدثت فجأة أمامه .هرب الناس إلى عمق الردهات ، فيما راح رجال أمن يفتحون أبواب المصاعد ويصرخون بالناس أن ينزلوا إلى الأقبية السفلية . ساق عربة حقائبه ونزل بصعوبة مع النازلين . حشر المئات في قبو . انزوى في قرنة وقرفص إلى جانب حقائبه وهو يتأوه من أعماقه ويردد لا حول الله " وشاب تبين له أنه عنصر أمن يلقي نحوه نظرات مرتابة بين فترة وأخرى ..
بعد قرابة ساعتين تعالت أصوات تطلب الخروج من الأقبية . هتف الشاب للناس بالخروج . وما أن صعدوا حتى طلب إليهم الخروج من المطار والدخول ثانية لتفتيش الحقائب من جديد . خرجوا واصطفوا في رتل طويل .. تأمل المكان من حوله ، لم يكن هناك أية آثار لقصف أو انفجارات . كل شيء كان كما هو .. سأل أحد عناصر الأمن الواقفين : ماذا كان القصف ؟ قال : قصف هاون من بعيد ! هاون ولا يترك أي أثر ؟ تساءل في نفسه ! أدرك أن الأمر ليس أكثر من تمرين تدريبي يختبر فيه رجال الأمن قدرتهم على التصرف في حال حدوث هجوم على المطار ، والإنفجارات لم تكن إلا مفرقعات قوية الصوت .
بعد منتصف الليل بقليل ألقى نظرة على لوحة الرحلات في المطار ليكتشف أن الأردنية ألغت رحلتها إلى عمان ، ولن تحضر . مادت الدنيا في عينيه وأحسس أن قلبه هبط إلى ركبتيه لينشق إلى نصفين ، نصف يستقر في الركبة اليمنى ونصف في اليسرى !! ألقى نفسه على البلاط وراح يردد في دخيلته :
" آه يا تعبي ! آه يا أمي التي لم أرها منذ تهويد القدس ! آه يا أمي التي رحلت دون أن أراها ، دون أن تراني ! ماذا سأفعل بحق السماء ؟ "
راح يبحث عن طائرة مصرية أو سورية متجهة إلى مصر أو عمان دون جدوى . الطائرات محجوزة ولا يوجد محلات . هذا ما يقوله موظفو المكاتب في المطار .
مر أول يوم . نام لليوم الثاني في المطار . ولا يمكن لأحد أن يحسده على الحال التي هو فيها . طعام رديء ناشف . كل شيء نار بأسعاره . لا نوم على الإطلاق . شكرجسمه الذي تكيف مع الوضع تماما ، ولم يطلب إليه الذهاب إلى التواليت إلا ما ندر وللتبول فقط .
جاء إلى المطار مساء الأربعاء وبقي حتى مساء الجمعة . ظهيرة الجمعة اصطحب لوحة بحجم 35 * 50 سم وصعدإلى مكتب المصرية . قال لمدير المكتب وهو يعرض اللوحة أمامه " هذه اللوحة هدية لك إذا دبرت لي مكانا على الطائرة إلى القاهرة " بدا واضحا أن اللوحة أعجبته . قال : ألن تهديني إياها الآن ؟ قال : لا . حين تكون التذكرة بين يدي .
وعد المدير بأن يجد له مكانا على طائرة الخامسة مساء .
صعد إلى المكتب حين جاءت الطائرة . لم يجد المدير وجد نائبه . وعده بلوحة هو الآخر .
طلب إليه أن يصطف مع الداخلين ، وإذا ما سئل عن التذكرة يقول أنها عنده . وأعطاه اسمه .
تم الأمر بنجاح . حصل على التذكرة بثمن باهظ دفعه بالدولار . وأبقى اللوحتين مع المدير لأن نائبه لم يكن موجودا عند وزن الحقائب . نادى المدير وهمس له بضع كلمات " إياك أن تبيع اللوحة ببضعة جنيهات أو دولارات ، لا تبعها حتى لو دفع لك مليون " ولا يعرف إذا استند إلى ثقة عمياء بمستقبل فنه أو ماذا حين قال له ذلك ، والمديربدوره لم يدرك أن تكون اللوحة ثمينة إلى هذا الحد وهو يفرط بها مقابل تذكرة طائرة مدفوعة الثمن ! فبدا مندهشا للحظات !
شرطي الجوازات اعترض على سفره دون تأشيرة خروج من إدارة الجوازات، وراح يمطمط ويماطل . تساءل في نفسه " لا أعرف لماذا تأشيرة خروج وأنا أحمل جوازا أردنيا ، هل أحتاج إلى إذن مسبق لأسافر ؟ "طالت المطمطة إلى أن أنهاها بخمسة دولارات ألقاها أمام الشرطي.

تنفس الصعداء وهو يصعد إلى الطائرة مع حقيبتي لوحاته دون أية مشكلة ، إلا مع شرطي آخر ادعى أن اللوحات أثرية ، تخلص منه دون خمسة دولارات . أشارت إليه المضيفة بوضع الحقيبتين خلف أخر المقاعد في الطائرة .
******
(6) القاهرة
السائق الذي أقله من مطار القاهرة أخذه إلى فندق في مصر الجديدة مع أنه قال له أن يأخذه إلى فندق في وسط القاهرة .
لم يعرف أنه سيآتي إلى القاهرة وإلا لأحضر معه هواتف وعناوين أصدقاء . فقد فكر في أن يبقى في القاهرة لبعض الوقت إذا ما تمكن من إقامة معرض . وله في القاهرة قرابة مائتي لوحة ما بين مباع ومهدى لأدباء وفنانين وأصدقاء . وله فيها ذكريات حين التحق فيها بدورات في الصحافة والإعلام عامي 72 و75 من القرن الماضي .. أيام الراحل كامل زهيري.. صبيحة السبت أخذ تكسي إلى شارع الصحافة . دخل إلى إدارة صحيفة الأخبار . سأل موظفا كان يجلس في الاستقبال عن جمال الغيطاني . قال أن اليوم عطلة .. سأله عن هاتفه قال أنه لا يعرفه . سأله عما إذا كان يعرف هاتف أحمد فؤاد نجم . ولا يمكن لأحد أن يتصور مدى دهشته حين تساءل الموظف" هوه مين نجم دا" ؟! صدم . كان سيسأله عن هاتف صنع الله ابراهيم أو محمد كامل القليوبي ، فأحجم ..
خرج يجوب شارع الصحافة سائلا في المكاتب والإدارات عن رقم هاتف لأديب أو فنان دون جدوى . لم يعرف كيف قادته خطاه إلى فندق شبرد . وجدها فرصة ليتغدى ويحتسي زجاجتي بيرة على الأقل ، ليطرح عن كاهله ثقل الأيام السابقة كلها . دخل إلى مطعم ضمن صالون الفندق وجلس إلى جوار نافذة مطلة على النيل . جاء النادل . طلب بيرة باردة . ذهب النادل ليعود شاب آخر يسأله عما إذا كان أجنبيا . فوجئ بالسؤال . قال أنه أردني . طلب الشاب أن يرى جواز سفره . تساءل بدهشة" هوه فيه أيه " وكان يظن أنه رجل اشتبه به . قال النادل: " الخمر ممنوع على المصريين في رمضان يا فندم " ولم يعرف أو أنه نسي أنه في رمضان إلا حينها . قال وهو يخرج جواز سفره ويمده نحوه " هوه مرسي أمر بدا " ؟! لم يجب النادل ، وما أن رأى الجواز من الخارج حتى أعاده إليه دون أن يفتحه .
ابتسم وهو يجد نفسه يتحدث المصرية مع النادل . حين يأتي العربي إلى مصر يجد نفسه يتحدث المصرية ، وخاصة أبناء بلاد الشام ، أما حين يذهب المصري إلى أرض العرب لا يستطيع تقليد لهجاتهم فيظل يتحدث المصرية . تذكر ما عاناه حين عمل في فلم مصري رديء عن الإنتفاضة الفلسطينية ، رممه وحول لهجته إلى فلسطينية ، درب الممثلين عليها .وحين وقفت أمينة رزق أمام الكاميرا راحت تتحدث صعيدية قح ! أيقن أنه من المحال ان يتقن الممثلون الفلسطينية ، فتخلى عن التدريب وترك العمل . وفي فيلم آخر عن ناجي العلي رفض المشاركة فيه . كانت اللهجة مضحكة !
للبيرة نكهة مختلفة . قد تكون ألذ نكهة بيرة شربها في حياته . ليس لأنها مختلفة أو أطيب من غيرها ، بل لأن من يشربها هو أشبه بإنسان نجح في الهروب من الموت ، أو في الخروج من قبر . ولو كان يعرف أنه يودع شرب البيرة بالزجاجتين اللتين شربهما لاستلذ بهما أكثر ، لغلاء البيرة والخمور بشكل في عام في عمان .
طلب أرخص طبق شاهده في قائمة الطعام وهو سباجيتي !
أمضى صبيحة اليوم التالي وهو يجري اتصالات مع الصحف لعله يعثرعلى هاتف صديق دون جدوى . ولم يجد نفسه إلا هو يحزم حقائبه ويذهب إلى المطار .
وجد مكانا على المصرية إلى عمان مساء . حدثت مشكلة قبل الصعود إلى الطائرة فهناك من يريد تفتيش حقيبتي اللوحات وهناك من يرفض نقلهما على الطائرة ويريد وضعهما مع الحقائب . كان قد رزم الحقيبتين ببلاستك بعد تفتيشهما عند دخوله إلى المطار . وفتحهما ليس سهلا .
أرى الشرطة هوية اتحاد الكتاب العرب ليثبت لهم أن لا علاقة له بالمهربات والمخدرات . لم يقبلوا عذره . وحين انفعل وأشار إليهم أن يفتحوهما ، مهددا بأنه سيفضحهم ، تخلوا عن الأمر !!!
رافقه أحد الموظفين إلى باب الطائرة لإصراره على وضع اللوحات مع الحقائب . تبادل مع الموظف الهرج على مقربة من الباب ،هو يرفض والموظف يصر ، إلى أن تنبهت المضيفة المسؤولة عن الطائرة للأمر . تساءلت فأجاب . أشارت بيدها وهي تهتف : هاتهم ؟ ولم تعر أي اهتمام لذاك الموظف ، الذي انصرف منكسا رأسه مدندلا أذنيه . يبدو أنه كان يطمح في دولار ما ، فتحامق ولم يعطه .
كان مقعده إلى جانب طالبة أمريكية فاتنة تدرس العربية في عمان . لم يعرف كيف مرت الرحلة إلى عمان وهو يتحدث إليها عن فلسفته في فهم الخلق والخالق ، بحيث أبدت إعجابها بها .
كانت الفتاة قد تنبهت إلى مشادته مع الموظف أمام باب الطائرة ورأت كيف ادخلته المضيفة بيسر وأشارت إلي أين يضع الحقيبتين ، فسألها عما إذا كان من اللائق أن يكرم المضيفة
بقليل من النقود لقاء لطفها معه . أشارت بالإيجاب . وهو يهم بالنزول وضع في يده اليمنى
بضعة دولارات وحين مدت المضيفة يدها لمصافحته مد يده ليضع النقود في راحة يدها أولا ومن ثم يطبق على يدها مصافحا. فوجئت المضيفة وهي تعيد النقود إليه مرددة مستحيل مستحيل !
شكرها من قلبه ، وتابع نزوله .
كان متخوفا من استدعائه في مطار عمان والطلب إليه مراجعة المخابرات . لم يحدث أي شيء
على الإطلاق . قرابة دقيقة لا أكثر ختم الموظف جوازه وأعاده إليه دون أن يتفوه بكلمة .
لم يصدق نفسه . يبدو أن كل شيء قد تغير هنا . ورغم أنه طوال عمره يحس ويعيش الحياة كفلسطيني ، إلا أنه ولأول مرة راح يشعر بأردنيته . في مقابلات صحفية معه كما سبق ، كان يذكر دمشق أكثر مما يذكر عمان .: " إذا كانت القدس أمي بالولادة فدمشق أمي بالرضاعة ، فقد عشت فيها أكثر من أربعين عاما كونت فيها ثقافتي وشخصيتي وكتبت مؤلفاتي ورسمت قرابة عشرة آلاف لوحة ، ولم أعش في القدس إلا قرابة عشرين عاما في بداية عمري، أما عمان فلم أعش فيها إلا أقل من ثلاثة أعوام "
**************
(7) عمان .
ها هي عمان بجبالها السبعة تفرد احضانها له . وها هويشحذ خطاه في شوارعها جارا خلفه أثقال سبعة وستين عاما من التشرد والقلق والمعاناة وتعب السنين وهاجس الثقافة ، بحثا عما يغني روحه ويرمم جراحها . في هذه المكتبة يجد روايتين ليحيى يخلف : جنة ونار ، وماء السماء . يحيى صديق عمر ولا بد أن يقرأ إلى أين وصل .. وهذه رواية لرشاد ابو شاور في مكتبة أخرى " سأرى بعينيك يا حبيبي " رشاد صديق عمرأيضا وأول من استقبله في عمان ودعاه على الغداء . وهذه مكتبة يجد فيها كتابا واحدا أحب أن يشتريه مع أنه قرأه " النبي ابراهيم والتاريخ المجهول " سيد محمود القمني . "اعذرني يا سيد تركت كل كتبك القيمة هناك في دمشق ." اوه ! وفي هذه المكتبة يجد كتب من أحبهم كثيرا في حياته . نصر حامد ابو زيد . آه يا عزيزي ، يا جرحا غائرا في قلبي وفي أحشاء هذه الامة الحمقاء التي لم تقدرك حق قدرك . سيبقى مكانك في القلب يا عزيزي ، ويبقى فكرك في العقل . نادم يا عزيزي لأنني لم أهدك لوحة حين التقيتكما أنت وفيصل دراج في المقهى الذي كنت أعرض فيه لوحاتي في دمشق القديمة .لم أعرف أنك سترحل بهذه السرعة يا نصر وإلا لأهديتك قلبي . تحدثت هذا المساء مع فيصل الذي يشاركني قلقي ، بعد أن جار الزمان علي يا نصر وأصبحت مشردا .. .. أنا متعب يا عزيزي نصر ، متعب .. كتبك كلها ظلت هناك في دمشق .. وسأكتفي الآن بشراء " هكذا تكلم ابن عربي " و" الإتجاه العقلي في التفسير ، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة " هل تعرف يا عزيزي أنني لم أفهم ابن عربي جيدا إلا بعد أن قرأت كتبك . لكن ما يزعجني يا عزيزي هو أنني أجد معظم ما فكرت وأفكر فيه ، قد سبقني ابن عربي إليه قبل قرابة 800 عام .صحيح أنني أتيت ببعض ما هو جديد وبما يختلف معه ، لكنه يظل في نظري شخصية فذة لم ينجب العقل الإسلامي قبلها ولا بعدها من هو بمستواها في فهم ليس الإسلام وحده بل الفكر الإنساني كله حتى حينه . "
"لقد جرد ابن عربي مفهوم الحقيقة الإلهية إلى أبعد حدود المطلق ، بحيث جعلها القدرة أو الطاقة السارية في الكون والكائنات ، ولا يمكن لشيء مهما كان ،حتى لو كان رمشة جفن ، أن يتم دونها . بهذا الفهم وضع البشرية كلها ضمن حدود الإيمان ، أيا كان الخالق الذي تتوجه إليه وشكل تقربها إليه ، وأيا كان الفكر الذي تؤمن به حتى لو كان إلحادا !! أي عقل هذا يا نصر ؟"

" لا تعلم يا نصر أنني لم أضم في حياتي إلا كتابا واحدا إلى صدري حين فرغت منه . إنه " "المسيح يصلب من جديد " لنيكوس كازنتزاكي . وكتبك يا عزيزي نصر هي نفائس ثمينة ليست جديرة بالضم إلى الصدور فحسب ، بل بالحفظ في القلوب ."
"هذه مكتبة أخرى يا نصر ثمة كتب يمكن أن يكون فيها بعض ما هو مفيد ، لكن ما أحمله من نقود أوشك على النفاد "
تنبه إلى نفسه تهذي مع نصرحامد أبو زيد . قرر أن يتوقف عن الهذيان ويتصل بمن عرف هواتفهم من الكتاب ليمدوه بآخر نتاجاتهم .
. ابراهيم نصر الله . لم يمده بعملين له فحسب ، بل دعاه على العشاء مع بعض الأصدقاء . " قناديل ملك الجليل " و" زمن الخيول البيضاء " .
كان ابراهيم نصر الله أهم مفاجأة له بين كل ما قرأ. راح ابراهيم يوغل في الزمن ليعود إلى شخصية تاريخية عاشت بين أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر ( ظاهر العمر الزيداني ) الذي ثارعلى السلطة العثمانية ، لينشئ أول كيان سياسي عربي شمل " عكا ويافا وحيفا والجليل وبلاد اربد وعجلون وأجزاء من سورية وحوران وصيدا وسواها، في حين أن صور كانت في يد حلفائه المتاولة ، وبيروت في يد حلفائه الشهابيين "
رجل رحلت أمه عند ولادته فأرضعته فرس ( حليمة) فكانت أمه بالرضاعة ، وربته زوجة أبيه (نجمة) فكانت أمه بالتربية . تعلم الفروسية منذ صغرة وشارك في أول حرب وهو لم يتجاوز سن الطفولة .
رجل لم ينته من معركة إلا ليشرع في أخرى ، ولم يطو أوجاع حرب إلا لتنزل عليه حرب أخرى فظائعها ، ليمضي عمره محاربا حتى سن الخامسة والثمانين .
ليقتل في النهاية على يد أحد قادته الذي خانه ( أحمد الدنكزلي ).
لقد قدم ابراهيم نصرالله عملا أدبيا تاريخيا لم يكتب مثله أو بمستواه وعلى الإطلاق في الأدب الفلسطيني كله ، إن لم يكن في الأدب العربي .ورسم لنا بنجاح باهر شخصية البطل الفلسطيني كما لم يرسمها كاتب من قبل .
البطل الفارس ، الذي يحارب بشجاعة ويحقق انتصارات ، لكنه يهزم ويستشهد في النهاية ، وكأن القدر قد رسم له مسبقا هذه النهاية التراجيدية . وهذه هي حال البطل الفلسطيني بدءا بجليات وانتهاء بياسر عرفات .
المفاجأة الثانية له كان محمود شقير الذي أهداه روايته أيضا " فرس العائلة " عمل متعه وأفرحه وأضحكه ، خاصة وأنه ومحمود ينتميان إلى العشيرة التي استوحى منها محمود روايته ( عرب السواحرة ).
كتب عن الرواية الكثير وكتب هو عنها أيضا . رواية مكتوبة بخفة دم ، وصفاء روح ، ومحبة " في أكثر من ثلاثمائة صفحة يحدثنا محمود شقير عن رحلة عشيرة ( العبد اللات ) من البرية إلى مشارف مدينة القدس ، يحدثنا عن التحول من البداوة والدخول في المدنية ، عن هجر مضارب بيوت الشعر إلى البيت الحجري الحديث، عن ترك الرعي والزراعة ولو جزئيا للعمل في مرافق المدينة المختلفة . عن هجرالدراسة عند الشيوخ ببيضة ورغيف إلى المدرسة الحديثة ، عن ترك الثوب البدوي إلى الفستان ،عن اشعال النار بالحطب إلى موقد الكاز ( البابور ) عن التحول من الحكم التركي إلى الحكم الإنكليزي . عن رجال ارغموا على خوض الحرب إلى جانب الأتراك ليعودوا جثثا أو يختفون ، وعن رجال حاربوا مع الإنكليز ليعودوا محملين قتلى على ظهور البغال "
" يحدثنا محمود شقير عن رجال مزواجين يعشقون النساء والأبناء ، ويحبون الحكايات الشعبية والخرافات والبطولات والفروسية . يحدثنا عن نساء يعشقن وينجبن ويحببن دون حدود ، ويحلمن بالجن والشياطين ، أو يهرب بعضهن مع عشاقهن . عن الشحادين والباعة المتجولين
عن الجبليين وقرودهم التي ترقص للنساء ، عن الغجر وهجراتهم وفنونهم ،عن ثورات مجهضة وبطولات فردية .عن عادات وتقاليد وطقوس ومشاعر وأحاسيس وصلوات وأغان ترسم نسيج أرواح هؤلاء الناس ، وتسبر خفايا نفوسهم "
"يحدثنا محمود بمحبة لا تخلومن طرافة عن طقوس الخصب عند هؤلاء الناس ، ليوحد بين خصب الأرض وخصب الأنثى . المواقعة الجنسية مع المرأة قد تتم في حقل الحراثة ،على ظهر البغل أو استلقاء على الأرض، ليبدو فعل الحرث مشتركا بين الأرض والمرأة . فكلاهما حرث ينتج عنه خصب ، لنجد أنفسنا وكأننا أمام طقس تموزي من طقوس ما قبل التاريخ "
المفاجأة الثالثة كانت مع جمال ناجي الذي أهداه آخر رواياته أيضا ( غريب النهر )
"يعود جمال إلى الشتات الفلسطيني ليرسم لنا واقع أسرة فلسطينية من بلدة العباسية قرب يافا وتشرد أبنائها من يافا إلى اسطنبول مرورا بالأردن وسوريا ولبنان .. ينقلنا جمال في فضاء جغرافي شاسع ليقص علينا بمهنية رفيعة سيرة عائلة ( أبو حلة ) الفلسطينية ، لزمن يمتد لقرابة قرن ، نبحر فيه مع آلام هذه الأسرة وآمالها ، مع أفراحها وأتراحها ، في تشردها وكدحها ، في حكاياتها وتحولاتها ، من اسرة مشردة ، إلى مالكة بيارة في أغوار الأردن "
"يوظف جمال خبرة في فن الروي دامت لقرابة أربعة عقود ، يحرك فيها أكثر من خمسين شخصية على أكثر من مائتي صفحة ، بنفس ملحمي يقارب فضاء الميثولوجيا دون أن يوغل فيه ، ليظل واقع حال الشخصيات هو الماثل في صفحات الرواية "
المفاجأة الرابعة له كانت مع رواية رشاد أبو شاور " سأرى بعينيك يا حبيبي " التي تناولت التطرف الديني في مواجهة التحرر والإعتدال .لينهزم التطرف وتستمر الحياة في تقدمها وتطورها رغم كل المعيقات .
ثمة صديق شاعر وعده بمجموعة كتب ، هو عبد الله رضوان ، الذي يدير منتدى الرواد الكبار ، أقام حفل غداء على شرفه دعا إليه بعض الأدباء والفنانين ، مما أشعره ببعض الطمأنينة رغم كل ما يعيشه من تشرد وقلق شديد على دمشق وسورية وبيته ومقتنياته وأعماله .
رغم جمال ما قرأه من روايات فلسطينية حتى حينه ، أشعره بتطور الرواية الفلسطينية ، غير أنه ظل يطمح في رؤية الرواية الفلسطينية القادرة على الخروج من عبء التاريخ ، والواقع الإجتماعي السياسي ، لتدخل أعماق النفس الإنسانية ، وتنتج المعادل للمأساة ، وما أثمرته ، وليس ما سارت عليه ، ولا شك أنه لمس البوادر الأولى في ما قرأ لولوج هذا الإتجاه .
*******
(8) كعب الحذاء !!
لم يكن محمود أبو الجدايل يوما عدوانياً ، كان مسا لماً ومتواضعاً ومحباً للناس إلى أبعد الحدود ، لكن حين كانت كرامته تمس بما يتجاوز قدرته على التسامح وبما يجرح كبرياءه نتيجة لحسه المفرط وشعوره المرهف ، كان يبدي انفعالا يوحي بقدر ما من العدوانية السلبية، فيضطر إلى الدفاع عن كرامته بما يعيد لها هيبتها ، فذات يوم حين تعرض لإهانة من قبل أحدهم في مقهى النوفرة الذي كان يعرض فيه لوحاته ،وجد نفسه يرفع رجله أمام الناس ويشير بسبابته إلى كعب حذائه مخاطباً من أهانه بانفعال شديد: أترى كعب حذائي هذا، لو أنك عشت مائة عام لن تستطيع بلوغ مستواه . فما كان من الآخر إلا الهرب إلى داخل المقهى والإختفاء . وكان يصنف بعض المترددين من الزعران والبلطجية وعديمي الأخلاق على المقهى وغير المترددين تحت هذا التصنيف ، وأفضلهم كان يحصل على لقب حذاء كترقية له عن الكعب !
وذات مرة استفزه أحدهم على شبكة النت بأن فتح شريطا مضادا على الشبكة يسخر من فكره الفلسفي الذي كان ينشره في جمل وفقرات مختصرة. كان ذاك يرد في شريطه على كل جملة بلغة بذيئة وغير أخلاقية وتتنافى مع أبسط حدود المنطق والعقلانية . كان يتجاهله ولم يرد عليه
إلى أن شعر أنه تجاوز الحدود كلها ، فرد عليه في فقرة تحمل الرقم (619) : " ثمة حمقى يحاولون الإلتصاق بكعبي حذائي بأن يفتحوا أشرطة على شبكة النت مستغلين قامتي السامقة ليستدرجوني وأصدقاء إلى حوار مغلق معهم ، حول حقهم في أن يكونوا غبارا يحط على كعبي
حذائي ليبنوا لهم مجدا افتراضيا من خلالهما !! هنيئا لهم بكعبي حذائي ، فقد أتحتهما لهم إلى الأبد ، وإن كنت مضطرا في بعض الأحيان إلى أن أنفض كعبي حذائي من غبارهم بدواعي النظافة " !!!
ومرة أخرى استفزه أحدهم على النت بأن شتمه كثيرا ، فما كان منه إلا أن استل قاموسه اللغوي
وخاطبه كصرصار خارج من مجرى ما يحاول تسلق كعب حذائه !
لم يتصور يوما أنه سيصنف أقرب الناس إليه ضمن هذا التصنيف . القى بالمسدس الذي ابتاعه لينتحر به على السرير وألقى نفسه بطنا إلى جانبه وهو يحاول أن لا يتذكر دون جدوى .
منذ اللحظات الأولى له في بيت ابنه ( حسام ) - الذي ساهم معه بقرابة ربع ثمنه - فوجئ بمنعه من التدخين . طبق الأمر وراح يدخن في الشرفة أو إلى جانب النافذة في أفضل الأحوال !واحتمل كل ملاحظات ابنه حول مضار التدخين وإرشاداته أن في البيت طفلة صغيرة سيضرها التدخين وشكواه من أنه ما زال يعاني من جراء استنشاقه للدخان الذي كان ينفثه أصدقاء أبيه في البيت الذي كانوا يقيمون فيه وهو صغير .احتمل كل هذه المسائل رغم أنه يدرك تماما مضار التدخين لكنه يدرك بالمقابل أنه الان في السابعة والستين من عمره ويدخن منذ كان عمره اثنتي عشرة سنة وحتى الآن لم يصب بأي مرض داخلي ، عدا الأسنان .
بعد ثلاثة أيام على وجوده في بيت ابنه ، بدأت تحرشات ابنه به تزداد " أنت اليوم قليت شيئا على الغداء ولم تنظف الغاز جيدا " قال حسام ." أجل قليت بطاطا وسمكا لكني نظفت الغاز كما لم أنظفه في بيتي " "لا يا أبي هنا ليس بيتك ، والتنظيف هنا مختلف تماما ، تعال لأريك " كان ثمة بضع نقط على أطراف الغازلا يتجاوز حجم الواحدة رأس الشعرة بالكاد ترى بالعين المجردة " في المرة القادمة تغطي الوعاء الذي ستقلي به جيدا ، وتنظف الغاز بشكل جيد "
وهز محمود رأسه بحركات خفيفة أعلى وأسفل معبرا عن موافقته .
حين هاتفه ابنه من عمان وهو في دمشق طالبا إليه أن يغادر دمشق فورا ، قال له أنه لن يتكلف شيئا ، سيأكل مما يأكلون ، وغرفة نومه جاهزه ، وكومبيوتر متوفر ونت سريع ، وكل ما يلزمك موجود . اطمأن حينها إلى كلمات ابنه كأب ، فعاطفة الأبوة تجعل الآباء ينسون كما هي الحال مع
عاطفة الأمومة . فقد سبق وأن قال لابنه على أثر مشادة صغيرة بعد أن طلب من ابنه أن يسده بعض ما عليه لحاجته إلى نقود ، فادعى أنه لا يملك ، قال له : آمل ان لا تتبول على قبري حين أموت !
ابنته (مجد ) لم تكن كذلك فما أن شكا إليها حاله حتى سارعت إلى ارسال قرابة ستة آلاف دولار له ، لكنه أعادها إليها حين لم يتمكن من جمع نقود تكفي لشراء محل يعرض فيه لوحاته .

والحق أن ابنته كانت تكفر عن ذنب ارتكبته تجاهه حين كانت تحادث خطيبها في الكويت على الهاتف ما لا يقل عن ست ساعات يوميا ، كما أنها كانت تنتقم من أبيها بعد أن طلق أمها .
قال حينذاك عن ابنته في رواية كان يكتبها وضمن قصيدة يتطهر فيها من عذابات الحياة ليهرب إلى عالم آخر :
" لا أريد العودة إلى ظبية رعيتها ثلاثة وعشرين عاما بأهداب الجفون وحين احتجت إلى حنانها مزقت قلبي بطعن المرهفات "
حين جاءته أول فاتورة هاتف بعد زواجها كانت بحوالي 300 دولار .. اضطر إلى بيع لوحة بربع ثمنها لتاجر يهودي ليدفع الفاتورة . كانت فواتير الهاتف تتأخر لأكثر من عام حتى يتم تحصيلها ، وكانت إدارة الهاتف لا تضع حدا أعلى للمكالمات لتقطع الخط إذا لم يتم التسديد ، فتترك الخط مفتوحا وكأن الناس يملكون بنوكا .. أوجس محمود من مكالمات ابنته ذلك الحين وقدم طلبا بإلغاء الخط الدولي ، واطمأن على ذلك .
جاءته الفاتورة الثانية وكانت باهظة جدا فلم يدفعها وقطع الهاتف . وجاءته الثالثة والرابعة وكانتا أرقاما خيالية كمكالمات هاتفية .. وبقي دون هاتف وهو في أمس الحاجة إليه ، لبداية تحوله بالرسم من الهواية إلى التسويق والبيع . أحست ابنته بذنبها وحاولت أن تصلح الأمر مع أبيها وتتتذكره بين حين وآخر وترسل له الهدايا ، وخاصة حين وجدت أنه لا يوجد انسان في الدنيا لها غيره ، وحين اكتشفت أن الحبيب الذي اختارته زوجا هو أسوأ انسان يمكن أن تتزوج به ، فطلقته . بعد قرابة خمسة عشر عاما بلغ محمود بحكم قضائي بحق صاحب خط الهاتف الأصلي الذي كان صديقا له وعضوا في مجلس الشعب ، ساعده في الحصول على خط الهاتف ، وكان قد رحل عن الدنيا وظل الهاتف باسمه . كان في مقدور محمود أن يتجاهل الحكم حسب رأي المحامي ، غير أن ضميره لم يطاوعه ، رغم ادراكه الكامل بخطأ إدارة الهاتف في ترك الخط مفتوحا وعدم فصلها الخط الدولي بناء على طلبه كوكيل له . طالب بتقسيط المبلغ وأوعز إلى ابنته أن تدفع الأقساط . . وظل يدفع إلى أن غادر سوريا على أثر الحرب .
صباح اليوم التالي لوجوده في بيت ابنه نزل إلى سوبر ماركت قريب وابتاع كل شيء : لحوم منوعة . فواكه، خضار . حبوب . سكر. شاي. بن . وراح يطبخ لنفسه ويعمل كل شيء بنفسه
ويجلي جليه . لم تتدخل زوجة ابنه في شؤونه على الإطلاق ، وبدا له أنها سيدة طيبة ، كانت تسأله بين يوم وآخر إن كان يحتاج شيئا . ولم يجر غير هذا بينها وبينه .
لاحظ أن ابنه يراقب حركاته ويتفقد كل أرجاء البيت حين يعود من عمله كسائق في شركة ملحقة بالسفارة الفرنسية ، كان أحد أصدقائه قد وفره له . يتفقد المطبخ. الحمام . التواليت .الماكرويف . التلفاز . الكنبات . وبالتأكيد غرف النوم التي لا يدخلها. أسوأ التفقدات كانت على النت فقد تبين لابنه أنه يدخل على مواقع مشبوهة حسب رأيه ، فحرمه من الكومبيوتر وطلب إليه أن يذهب إلى مقهى نت .
لم يبال كثيرا بقطع النت ، فقد وجدها فرصة لأن يتمشى قليلا ويغير جو ، ويكتشف أحياء عمان .المشكلة التالية كانت مع الجلي فقد ادعى ابنه أنه لا يجلي الملاعق والشوك والصحون بشكل جيد، احتمل الأمر . بعد يوم ادعى ابنه انه لم يوظف المكروويف ، إلى أن جاءت الشعرة ما قبل الأخيرة التي "قصمت ظهر البعير" ، فقد ادعى ابنه أن ثمة شعرة من شعرات ذقن أبيه على برطاشة المغسلة !!
وحين أبلغ أباه بالأمر انفعل ، لكنه كتم غيظة وراح يعبر عن انفعاله بسخرية مرة. لم يكن محمود أبو الجدايل يرغب الذقون الطويلة ، فأطول شعرة في ذقنه لا يتجاوز طولها سنتمترا واحدا ، ولنفترض أن شعرة طارت ووقعت على البرطاشة التي تعلو المغسلة وهو يقصقص ذقنه ، فهل تحتاج إلى تنبيه من ابنه لكي لا يكررها ثانية ؟ ابنه الذي كان يمسح برازه في بعض الأحيان
ويركبه على كتفيه ويدور به الشوارع والحارات والحدائق لينزهه ، و يركبه على ظهره ليعمل له حمارا يمتطيه ليضفي البهجة على نفسه ويحبه من أعماق قلبه ويرعاه بجفون عينيه ، ولا يترك عيد ميلاد له أو لأخته يمر دون أن يملأ البيت بالفرح وهدايا الأصدقاء . ابنه هذا يحاسبه
الآن على شعرة من ذقنه وقعت على برطاشة المغسلة . هتف له وهو يتذكر قصة يابانية يقود الإبن فيها الأب إلى شرفة المنزل وعند دخول الشرفة يهتف الأب لابنه بما معناه : توقف فقد ألقيت جدك من هنا !!
" شعرة ؟ شعرة يا رجل وتحتملني حتى الآن ، كم أنت انساني ونبيل يا بني ، لو كان أحد غيرك لألقى بي من شرفة بيته ، لمسح بي البلاط ، لألقى بي في حاوية قمامة ، لأوقفني رأسا على عقب وأبقاني على الحائط لثلاثة أيام . لحرمني من الطعام والشراب لشهر ، وفي أحسن الأحوال لطردني من البيت لثلاثة أشهر "
أدرك ابنه أنه سيجن عليه إن بقي واقفا أمامه فغاب عن وجهه .
دخل محمود ابو الجدايل إ.لى غرفته حزينا كئيبا غاضبا مدمرا أمام فظاعة ابنه . تمنى لو أن في مقدوره مغادرة البيت فورا ولو إلى الجحيم . وندم كثيرا على الإذعان لابنه وابنته بمغادرة دمشق . كان لم يمض على وجوده في بيت ابنه أكثر من ثلاثة أسابيع ، وقد طرح فكرة أن يستأجر بيتا لأنه يعشق الوحدة ، ويريد أن يكتب ويرسم ويقرأ دون أن يزعجه أحد ودون أن يزعج هو أحدا . فما كان من ابنه -الذي ابتاع بيتا ثانيا بعد أن أخذ قرضا من الشركة الفرنسية ستين ألف دينار مدعيا أنه لا يملك بيتا - إلا أن استغل الفرصة واقترح عليه أن يستأجر بيته الحالي بخمسة آلاف دينار في العام بدلا من أن يستأجر عند آخرين وتذهب نقوده إليهم !!
أدرك محمود ابو الجدايل أن ابنه يخطط لابتلاع خمسة آلاف دينار أخرى منه ، فلم تكفه الخمسة الأولى التي دفعها له من ثمن البيت . ولم تكفه الخمسمائة دينار التي دفعها له هدية لزواجه . لم يكفه كل هذا ويريد أن يستولي على ما لدى أبيه من نقود تقيه في تشرده . وما كل تحرشاته إلا لدفعه إلى القبول .
. " آه آه .. آه يا حزني . آه يا دمشق ، خيبتي في ابني كبيرة ، تكاد تكون بحجم مأساتي فيك يا دمشق .آه من ظلم ذوي القربى يا دمشق ، حقا إنه أثقل من وقع الحسام على النفس ، مؤلم أكثر من طعن الخناجر .. آه يا قدري الذي طالما انتصرت عليه ، هل ستنتصر علي هذه المرة ؟! "
لم يمر أكثر من ثلاثة أيام حين جاءت "الشعرة التي قصمت ظهر البعير" . فقد كان ابنه متعجلا لقبض الخمسة آلاف دينار ليفرش البيت الجديد ويترك هذا البيت ليؤجره لأبيه .
جاء إلى البيت ضيوف وحين عرفوا ان أبا حسام رسام أحبوا أن يطلعوا على بعض لوحاته .
جاء بلوحة كبيرة أوقفها على حافة كنبة وظل ممسكا بها إلى أن تفرجوا عليها لدقائق . أعادها إلى مكانها في حقيبة اللوحات .
حوالي منتصف الليل انصرف الضيوف . فوجىء بابنه يدخل عليه غرفته ليقول له " لقد نزعت الكنبة " فوجىء محمود فتساءل " أي كنبة وكيف ؟" الكنبة التي وضعت عليها اللوحة " !
" كيف " " لقد شققتها " " أف اللوحة شقتها ؟ هل هي سكين " ؟!
وراح يظن أن ابنه قد شق الكنبة ليبتليه . نهض وهرع إلى الصالون حيث الكنبة . لم يكن فيها شيء . نظر جيدا حيث أوقف اللوحة لم ير شيئا . عاد إلى الغرفة وأحضر نظاراته . تأمل مكان اللوحة جيدا ، وبعد طول تدقيق رأى خدشا خفيفا أقل من سمك شعرة وبطول لا يتجاوز السنتمتر . أدرك أن الخدش قديم خاصة وأنه يدرك نوايا ابنه جيدا .شعر بالدماء تغلي في عروقه . في رأسه ، في قلبه ، في كبده ، في رئتيه في كل جزء من جسده ، وكتم في دخيلته صرخة بحجم زلزال ، ولم يتنبه لنفسه إلا وهو يرتجف من قمة رأسه إلى أخمصي قدميه . سارع إلى غرفته وهو يرتجف . وشرع في وضع أغراضه في حقيبته . دخل ابنه عليه وسأله عما يفعله . وقف ليجيبه متمالكا أعصابه قدر الإمكان " لن أهين طهارتي بأن تبقى في بيت نجسته قذارتك ، ولا رغبة لها في تطهيره من آثامك ، أغرب عن وجهي ولا ترني وجهك ما دمت حيا ، وإذا ما مت إياك أن تمشي في جنازتي ، وإياك أن أراك فيها ، لأنني قد أنهض من موتي لأتبول عليك "
وسارع إلى نقل أغراضه أمام الباب . اختفى ابنه داخل البيت وأرسل زوجته لتقنعه بالبقاء . هتف لها ." أشكرك عمو ، أنت سيدة طيبة ولا تستحقين أن يكون هذا القذر زوجك ،ألم يسبق له أن جعل أخته وأولادها يغادرون منزله في هذا الوقت حتى لا يخرب أولادها أثاث البيت ، نسي كم خرب في بيتي من أسرة وأبواب وشبابيك وهواتف وأجهزة تلفازوأشياء لا تحصى ) دون أن يحاسبه أحد .
وحين أدركت الكنة أنه لن يتراجع عن قراره سارعت إلى مساعدته في إنزال الحقائب من الطابق الرابع إلى الأول ، حيث لم يكن هناك مصعد . كانت الكنة بملابس النوم . أشارت عليه أن ينتظرها إلى ان تلبس وتعود لتأخذه في السيارة إلى حيث يريد . رفض لأن السيارة لابنه وليست لها .
بقي واقفا لبضع دقائق . لم تمر ولا سيارة . كانت الساعة تقترب من الثانية صباحا . راح يحمل حقيبتين إلى مسافة عشرين أو ثلاثين مترا ثم يضعهما ويعود إلى الحقيبتين الباقيتين .متخوفا من أن يتنبه له لص ما ويهرب بالحقيبتين اللتين يتركهما خلفه ، فكان يلتفت كل بضعة أمتار ، تماما كما حدث معه في مطار القاهرة حين لم يجد عربة مطار لكثرة القادمين من دمشق .
ظل يتنقل بحقائبه لأكثر من ساعة . حين جاء تكسي وتوقف له .
- إلى أين ؟ هتف السائق .
- إلى فندق في اللويبدة يكون قريبا من ساحة باريس .
- خمسة دنانير لأن الوقت متأخر وأنا آخذ ضعف العداد في هذا الوقت .
- ماشي الحال .
حاول السائق كعادة أمثاله أن يعرف أسرار هذا الرجل في هذا الوقت المتأخر من الليل ، غير أنه قطع عليه الطريق حين قال " أنا متعب جدا ولا أريد أن أتكلم أرجوك لا تسألني شيئا "
لحسن الحظ وجد غرفة في الفندق . وما أن أدخل حقائبه إلى الغرفة بمساعدة عامل في الفندق . حتى ألقى نفسه بطنا على السرير ، وهو يدرك إلى حد لم يبلغه من قبل إلى أي مدى يعني فقدانه
وتركه لبيته ودمشق . تمنى من الله شيئا واحدا فقط أن يتيح له أن يبكي ، ولم يكد ينهي تخاطره مع الله إلا والدموع تنزل من عينيه مدرارا .. وراح يبكي ويبكي ويبكي .. يبكي حاله ، ويبكي دمشق ، ويبكي بيته ، ويبكي الحياة برمتها .
************
( 9) أبو الجدايل الملك !!
في طفولته ، وحين أخرجه ابو الجدايل الأب من المدرسة ليرعى قطيع المعز والنعاج الذي يملكه ، لم يمانع محمود أبو الجدايل على الإطلاق ، فقد كان معقدا من الرياضيات ، عقدة أوجدها معلم سادي للرياضيات في السنين الثلاث الثانية للدراسة ، كانت حزمة العصي تسبقه إلى درس الرياضيات ، ليكسرها على ظهور الأطفال ومؤخراتهم ، فكان محمود أبو الجدايل يستأذن استاذ الدرس السابق لدرس الرياضيات ليخرج لقضاء حاجته ، ولا يعود إلا بعد انتهاء الدرس ، وهكذا أنهى المرحلة الإبتدائية دون أن يفهم من الرياضيات إلا جدول الضرب الذي ظل يحفظه طوال حياته دون أن ينساه ، وبالكاد حتى يتذكر الزائد والناقص والقسمة . ولم يتخلص من هذه العقدة إلا بعد قرابة عشرين عاما حين تعلم لعبة الشطرنج وأدمنها لبضعة أعوام، ولم يكن يهزم إلا نادرا ومن قبل بعض أبطال الدول أو النوابغ في اللعبة . قبل محمود أبو الجدايل مهنة الرعي مع أنه لم يحلم ولو للحظة أن يكون راعيا . كان يحلم بأن يكون ملكا بعد أن تجاوز أحلام الطفولة الأولى بأن يكون معلما لتأثره ببعض المعلمين .. ورغم أنه كان يسترسل في أحلام اليقظة هذه ويقيم مملكته وينصب نفسه ملكا عليها ويركب أفراسا تطير ويتزوج من أجمل بنات البلدة : ( ثريا ) الراعية الصغيرة التي تحولت إلى ملكة في خياله ،إلا أنه كان يعي تماما أنه يحلم ، فيعود إلى واقعه مع القطيع حين يتطلب الأمر التوقف عن الأحلام والعودة إلى عالم الرعاة ، حتى لا يحدث له ما حدث لحسن الملك وأسعد حمدان ، وهما اثنان من رعاة البلدة جنا بالملكية وحاولا ممارستها في الواقع ، فالأول راح يدعي أمام الناس أنه ملك ، وإذا ما خاطبه أحدهم بغير لقب الملكية كان يأخذ حجرا ويقذفه به ، إلى أن اعتاد الناس مخاطبته بالملك .لكن ، وبين فترة وأخرى كان يظهر من يهين الملك فيقذفه الملك بحجر فيرد الآخر بحجر أيضا أو يشكوالملك إلى أهله ، لينتهي مقيدا بالحبال وملقى في خرابة بئر لبضعة أيام ، يعود بعدها مرغما لممارسة حياة طبيعية إلى أن تأتيه النوبة ثانية لينتهي إلى الخرابة نفسها ،وهكذا دواليك .
المجنون الثاني كان نادرا ما يؤذي أحدا ، غير أنه كان كثيرا ما يترك القطيع فجأة ويعدو على غير هدى رافعا رأسه نحو السماء ، وعلى ذمة الطفل الملك أيضا حينذاك محمود أبو الجدايل
أن الملك أسعد حمدان كان يعدو ليلحق بفرج محبوبته حليمه المحلق في السماء ، وما أن يلحق به ويتملكه حتى يتوقف عن العدو ويعود إلى القطيع . لكن في إحدى المرات جاء الملك ضيوف كثر فنهض مستلا خنجره وشرع في ذبح كبش ليغدي ضيوفه . كان الضيوف في خياله أما ذبح الكبش فقد تم في الواقع . انتهى به الامر إلى الخرابة نفسها التي كان يتناوبها مع حسن الملك .
الأعوام الثمانية التي أمضاها محمود أبو الجدايل في المدرسة خلفت عنده أمرا جميلا وهو عشق القراءة مع القطيع . لم تكن عزبة أبو الجدايل الأب تحوي إلا القليل جدا من الكتب الصفراء القديمة التي احتواها في طفولته بعد أن تعلم القراءة عند شيخ بقرص جبنة وبيضتين
وثلاثة أرغفة من خبز الطابون ، وهذا أغلى ثمن كان يدفع للشيخ مقابل قضاء وقت أطول في التدريس . وكان أبو الجدايل الجد يدفع هذا الثمن عن طيب خاطر لتدريس أبو الجدايل الإبن . كانت هذه الكتب ملحوشة في سحارة قديمة مشلخة . من ضمن هذه الكتب : تغريبة بني هلال . الزير سالم . سيف بن ذي يزن . محمد الغريب . ديوان أبو النواس . عبرات المنفلوطي . هضم محمود أبو الجدايل (الحفيد )هذه الكتب في بضعة أيام . وكاد ينسى الحلم بالملكية وهو يتمثل شخصية أبو زيد الهلالي . والحق أنه كان محيرا بين شخصية أبو زيد الهلالي وذياب بن غانم ، فتارة يكون هذا وتارة يكون ذاك .كما أن عشق عزيزة بنت الوهيدي ( أحد أمراء تونس ) ليونس ابن السلطان حسن الهلالي ، جعله يكون يونس لبضعة أيام ليغرق في هذا الجمال الخارق الذي تصورعزيزة نفسها فيه .أما سعدة بنت الزناتي خليفه فلم تدفعه لأن يكون مرعي ! وحين قرأ سيف بن ذي يزن وجد فيه شخصية مؤثرة أكثر بأفعالها الخارقة فتقمصها لبضعة أيام إلى أن طردتها شخصية الزير أبو ليلى المهلهل . غير أن اكتشافه لألف ليلة وليلة والغرق في قراءتها رسخ أحلامه بالملكية ولم يعد في الإمكان إزالتها من دماغه . ورغم أنه هجر القطيع على أثر ضربة بهراوة فأس من أبو الجدايل الأب ، وعمل في أعمال شتى : عتال . حفار . مساعد طاه . جرسون . فدائي . طالب حر من جديد ، ليدرس : الصحافة . اللغة الألمانية . اللغة الفرنسية . اللغة الإنكليزية (التي كان يعشقها وكان الأول فيها في المدرسة .) اللغة العربية . السكرتاريا وإدارة الأعمال . التصوير . السيناريو السينمائي .الرسم ، إضافة إلى مطالعاته الخاصة في الأدب والشعر والفلسفة والعقائد والأساطير وعلم النفس والتاريخ ، والسياسة والفكر ، وتحوله إلى كاتب ، ونشر العديد من المؤلفات ، رغم كل ذلك ، وجد أن أحلامه بالملكية التي رسخها ملوك وجن وعفاريت ألف ليلة وليلة ، ما تزال راسخة في لا وعية ، حين شرع في كتابة ملحمة ( الملك لقمان ) ، ليجد نفسه يستنهض أحلام الطفولة ثانية دون أن يدري .. أدرك ذلك بعد أن قطع شوطا طويلا في كتابتها . ليجد نفسه ملكا وأي ملك ؟ الملك القادر على زلزلة الكون !! والحق أن الزلزلة لم تكن غايته ، كان يبحث عن الله ، ، ليضع نفسه بقربه ، أقصى حلم يمكن أن يتخيله إنسان أو يحلم به . والحق أن تأثره فيما بعد بشخصية النبي محمد على أثر قراءة سيرة ابن هشام ، وتأثره بالفكر الصوفي الإسلامي وخاصة كما هو في فهم ابن عربي ، قد دفعه في هذا الإتجاه ، غير أن قراءته للفلسفة و العقائد والأساطيرالبشرية ومواكبته لتطور العلوم ، ساهمت في عدم تحوله إلى متصوف وفيلسوف تقليدي ، فقد شكل فلسفته وتصوفه الخاصين به ، متخذا من مذهب وحدة الوجود لابن عربي مبدءا لتصوفه ، دون أن يتجاهل العلم والدين ، أو المادة والروح ، لذلك كان يفضل ان يقال عن فلسفته أنها مادية روحية .وهذا ما دفعه إلى تجاوز الكثير من اطروحات ابن عربي التي لم ترق له أو لم يقتنع بها كمسائل الحساب والعقاب والجنة والنار ، فقد نزه الخالق عن العذاب وجعله محبة مطلقة .غير أن ابن عربي والنبي محمد ظلا يحتلان في نفسه مكانة سامية لم يبلغها أحد قط .
******
قرابة ثلاثة أعوام في الرعي استثمرها محمود أبو الجدايل أيضا في تعلم العزف على الناي والشبابة والمجوز والأرغول ، أتقن العزف إلى حد أنه كان يطوع الاغنام على عزفه ، فما أن تسمع رجع صدى أرغوله يتردد من سفوح الأودية حتى تتخلى عن اضطرابها وتستكين إلى الهدوء وتنتشر على السفوح بحثا عن الكلأ دون أن تبتعد عن حوله . وكان أخوه الأكبر منه (حميد ) يعجب بعزفه ويستمع إليه بين فترة وأخرى ، وحين عرف شغفه بالقراءة راح يستعير له كتبا من مكتبة المدرسة الرشيدية في القدس التي كان يدرس فيها . ، وكان أول كتاب أحضره له ، هو ألف ليلة وليلة . الذي جعله يحلق بعيدا في عالم الخيال ، ليفتح له آفاقا جديدة لم يكن خياله قادرا على تصورها قبل ذلك ، وهو ما رسخ أحلامه بالملكية . غير أنه لم يحلم بأن يكون شهريار أو هارون الرشيد أو أيا من ملوك الف ليلة الآخرين . لم يكن يعرف حينها في الواقع إلا الملك حسين ، فراح يتمثله ، ويتقمص شخصيته أحيانا ، أو يتقمص شخصية خارقة أحبها الملك . وكثيرا ما كان الملك يتنازل له عن العرش الأردني الفلسطيني حينذاك ، غير أن شهامته كانت تأبى ذلك ، فيضع نفسه في مكانة مقربة جدا منه ، وتمون على كل شيء . وحين عمل نادلا بعد بضعة أعوام ليجد نفسه في مواجهة الملك لم يصدق نفسه أنه أمام الملك مثله الأعلى الذي كان يتمثله في خياله .
حين شرع في كتابة الملك لقمان كان في الثامنة وأربعين من عمره ،وكان قد أصدر قبلها ثلاث روايات وثلاث مجموعات قصصية عدا كتبه الأخرى في الصحافة إضافة إلى العديد من المقالات والدراسات في النقد الأدبي والمخطوطات الأدبية التي منعت من النشر .. كان في حالة يأس عادية لا تشكل شيئا أمام الحال التي هو فيها الآن بعد اندلاع الثورة السورية . وكانت أوضاعه المادية البائسة قد دفعته إلى بيع البالة لأكثر من عامين . وحين وجد أن حياته تحولت إلى مجرد باحث عن لقمة العيش ، أشعل عود ثقاب وألقاه على مجموعة من فساتين النساء وراح يرقب احتراقها إلى أن أتت النار عليها كلها . فأشعل النار في دفعة أخرى من التنانير .. وهكذا راح يحرق الملابس دفعة دفعة ، إلى أن أجهز عليها كلها . أغلق المحل وعاد إلى البيت . أغلق الباب على نفسه في غرفة النوم واستلقى بطنا على السرير . ارتاح لدقائق ، ثم تناول من جانبه دفترا وقلما وشرع في الكتابة .
تخيل نفسه أديبا وفيلسوفا يدعى لقمان ، ينوي الإنتحار قبل أن يغدو ملكا ، وهذه ( أل يغدو ) ربما تشير إلى أنه لم ينتحر ، ونأمل أن لا ينتحر محمود أبو الجدايل في زمن الثورة السورية المعاصرة ، بهذا المسدس الذي ابتاعه لينتحر به . والحق أن قصصه مع الإنتحار وحالات اليأس كثيرة ، بعضها لا يمت له بصلة ، كإحدى رواياته التي أطلق عليها عنوان ( الهجرة إلى الجحيم ) وهي تسرد قصة يهودي بولندي هاجر مع طفليه إلى اسرائيل لينتهوا قتلى في حقل ألغام مع مجموعة من المقاتلين الفلسطينيين في جنوب لبنان . أما ما يمت له بصلة ، فكان يأسه في إحدى ليالي رأس السنة من أواخر القرن الماضي ، حين لم يجد من يتذكره فيها ، ولم يكن معه ما يكفي من نقود حتى للإنتحار، فظهر له الشيطان ودعاه إلى حفل رأس السنة في بحر معلق في السماء !! أطلق على كتابه هذا ( غوايات شيطانية ، سهرة مع ابليس ) اعتبره الألمان حين ترجموه تأترا بفاوست غوته ! وهو في الحقيقة لم يكن كذلك ، وفي مرة أخرى حاول أن ينتحر بأن ألقى نفسه من سطح أعلى بناية في دمشق ، غير أنه وقبل أن يرتطم بالأرض فوجىء بيدين طريتين ناعمتين تتلقفانه ، لم تكونا إلا يدي ملاك الموت عزرائيل الذي أبلغه أن ساعته لم تحن بعد ، واصطحبة في رحلة ترفيهية إلى الجنة ليقنعه أنه لن يحظى بنعيمها إذا ما انتحر !
في روايته أو ملحمته هذه بتعبير أدق ( الملك لقمان ) لم يخطر بباله أنه سيغدو ملكا ، بعد أن قاد أديبه اليائس المحظور من أبسط الحقوق الإنسانية حتى حقه في أن يفكر بحرية ، قاده إلى الصحراء لينتحر فيها ، وفيما كان يحفر قبرا لنفسه عثر على قمقم من عهد الملك سليمان ، قشط التراب عنه وفتحه ليخرج له عمود من الدخان تجلى عن جني عملاق ليس إلا ملك ملوك ، سجنه الملك سليمان بعد أن وجده في وضع نكاحي مع إحدي نسائه الفلسطينيات ، قطع سليمان رأسها ودفنها إلى جواره :
( أمر مولاي العظيم لقمان محرر أرواح الجان ، عبدك المطيع ودرعك المنيع شمنهور الجبارملك ملوك الجن الحمر في سائر الاكوان والأمصار )
لم يصدق لقمان نفسه فهو وحتى حينه لم يكن مؤمنا إلى هذا الحد بوجود إله وجن وشياطين ، وإن كان مؤمنا بوجود خالق وخلق . وبعد حوار شبه عقلاني مع ملك الملوك ، عدل عن الإنتحار ، شريطة أن يصحبه الجني إلى السماء في رحلة بحث مضنية عن الله .
أعد له ملك الملوك مائدة طعام ملكية تحف بها حور العين الجنيات وسط حدائق خلابة ، وقدم له الحورية الملكة نور السماء التي تزوج منها لقمان فيما بعد ، وتوج ملكا على ممالك الجن والشياطين قاطبة ، وبايعه هؤلاء جميعا حتى الشيطان ابليس نفسه الذي راح يشكو همومه مع الله له .
وكان اول طلب له من الجني ملك الملوك أن ينزع الاسلحة من كوكب الأرض دون أن يؤذي
أحدا .أقام ملك الملوك الدنيا وأقعدها وأرسل مليار جني إلى كافة جهات الارض ، لم يتركوا سلاحا إلا وقذفوا به على سطح القمر ، بحيث لم يعد القمر قادرا على تحمل هذا الثقل الهائل للأسلحة التي قذفت عليه . وضجت دول الأرض بالتساؤل عما يجري ، إلى أن وجه الملك لقمان من الفضاء رسالة سلمية إلى البشرية يدعوها فيها إلى السلم والسلام والمحبة والتعاون !!
طاف ملك الملوك بالملك لقمان على متن مركبة فضائية جنية ، أكوانا وكواكب كثيرة ،
رأى فيها لقمان عوالم عجيبة مختلفة ، وأسقط نظما دكتاتورية وأقام نظما علمانية ديمقراطية ، لكنه لم يعثر على الله ! إلى أن جاء إلى كوكب يحكمه طاغية يدعي الألوهة يسمى داجون . كانت مركبته تحلق فوق محيط من الحمم البركانية الملتهبة ، تجمعت في منخفض شاسع من جراء الأنهار البركانية التي كانت تنبعث من جبال وهضاب بعيدة مختلفة وتصب في هذا المنخفض لتجعل منه محيطا ملتهبا . وليجعل منه الطاغية جهنما يحرق فيها معارضيه والثائرين على طغيانه .
كانت مئات الأرتال والطوابير من المعذبين تصطف أعالي جروف صخرية ، وكان أعوان الطاغية يقطعون رؤوس بعضهم بالسيوف ويلقون بالأجساد في جهنم فيما يبعثون بالرؤوس إلى
جبال الجماجم التي كانت مقامة على مسافة بضعة أميال من المحرقة . وكان هؤلاء محكومين بقطع الرؤوس أما من حكموا بالإلقاء في المحرقة الجهنمية فلم تكن تقطع رؤوسهم ، كانوا يلقون أحياء .
أوقف الملك لقمان بمساعدة الجن أعمال القتل والتعذيب ، ونزل إلى الأرض برفقة الملكة نور السماء ، وراح يستعرض أرتال المعذبين والمعذبات ويسألهم عما ارتكبوه من أفعال حتى كان مصيرهم جهنم . كان معظمهم من الثائرين على الطاغية الإله أو من المتمردين على عبادته ،
أو الذين كانوا يطالبون بتخفيف طقوس العبادة ، كجعل الصلاة مرة واحدة في الأسبوع بدلا من ثلاث صلوات في اليوم .
أعاد الملك لقمان لهم صحتهم وعافيتهم وحممهم وألبسهم أجمل الملابس .
ما حير الملك لقمان وجود رتل لأطفال لا يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا شيئا ، فبعضهم كانوا رضعا ، فماذا ارتكبوا ليحرقوا ؟ توقف الملك أمام الرتل وراح يتأمله ، لم يستطع أن يرى آخر الرتل الذي امتد لآلاف الأمتار . تقدم من طفلة فائقة الجمال في حدود الخامسة من عمرها كانت أختها الأكبر منها تحملها في حضنها وتنوء بثقلها . أخذها الملك لقمان وحملها عنها . ضمها إلى صدره وقبلها ، وراح يربت على ظهرها ليهدئ من روعها ويوقف نشيجها وتنشغها
خلص حبيبتي خلص ، يلعن أبوه داجون كان بده يحرقك في النار ؟"
أجابت الطفلة وهي تنشج وتتنشغ :
" آه. آه .آه "
" خلص حبيبتي لا تبك . لن أدعه يحرقك يا حبيبتي "
أحست الطفلة بشيء من الطمأنينة فطوقت عنق الملك لقمان بيديها ، وأخذت تخفف من نشيجها . تساءل الملك لقمان :
" أين بابا وماما يا حبيبتي "
أجابت الطفلة بجملة قطعتها نشجة واحدة :
" رماهم داجون في النار "
كبت الملك لقمان انفعالاته بقوة خارقة :
" يلعن أبوه يا حبيبتي ليش رماهم في النار "
" لأنهم ما بحبوه " !!
هتف أحد السفاحين الموكلين بحرق الناس :
" هؤلاء يا مولاي أطفال الثائرين والمعارضين والكارهين للإله داجون ، الذين أحرقوا ، يحرقهم داجون حتى لا يثأروا لآبائهم حين يكبرون "
نزلت كلمات السفاح على قلب الملك لقمان كطعن السكاكين . كبت انفعالاته وطار محلقا بالطفلة فوق الملايين من البشر والجن والمحيط الجهنمي ، وراح يخاطب الطفلة التي استكانت
إلى أحضانه وألقت رأسها على كتفه وهي ما تزال تنشج بين لحظة وأخرى :
" ماذا تريدين يا حبيبتي أن أحضر لك ، فأنا عندي هدايا كثيرة ، عندي خيول وحصن وحوريات وعرائس وغزلان وقطط وكلاب وخراف وسخال وقصور وكل شيء ، وكل شيء تطلبينه سأهديه لك "
راحت الطفلة تستعرض الهدايا في مخيلتها وهي تستكين إلى كتفه وتسهم بعينيها نحو حشود البشر تارة ونحو جهنم تارة أخرى لترقب فورانها وغليانها والبخار المتصاعد منها دون أن تجيب . تساءل الملك لقمان :
" لماذا لا تجيبين يا حبيبتي ؟ "
وما لبثت الطفلة " نسمة " ان هتفت بجملة قطعتها نشجة عميقة ونشغة أعمق ، وكأنها تعوض بهما عن كل الهدايا "
" ما بدي هدايا ، بدي بابا وماما "
احتواها الملك لقمان إلى حضنه وكأنه يريد أن يدخلها بين ضلوعه أو في قلبه ، وانفجر بالبكاء وهو يحلق بها عاليا ، وعيناه تجوبان عبر الدموع الجبال البركانية وأنهار وينابيع الحمم المتدفقة منها ، ثم المصبات الهادرة في المحيط الجهنمي ، وما لبث أن هتف صارخا في أعماقه مستنجدا بالله ، مستعينا بكل أصوات البشر والقوى الجنية التي لديه والتي يعرفها :
" إلهي ! ما قطعت ملايين السنين الضوئية بحثا عنك ، إلا ويحدوني أمل أنك موجود ، وأنك قادر ، فإن كنت موجودا وقادرا ، أتوسل إليك أن تعيد الحياة إلى كل من أحرق في جهنم هذه "
سمعت الملكة نور السماء . وسمع ملك الملوك . وسمع جميع الجن والشياطين صرخة الملك لقمان ، فصرخوا معه وتوسلوا إلى الله معه ، وهم يحتشدون في السماء من حول الملك لقمان والطفلة نسمة وأختها والملكة نور السماء . ولم تمر إلا لحظات لتقوم القيامة . راحت البراكين والينابيع البركانية تقذف ماء باردا شكل أنهارا تصب في المحيط ، وتفجرت من بعض الجبال أنهار تقذف ماء فراتا ، وزلزلت الأرض في كوكب داجون وهي تتفجر بالأنهارالعذبة التي راحت تطارد الحمم البركانية لتصب في جحيم داجون . ارتفع الدخان وعلا من جراء إطفاء الحمم الملتهبة ، واختلط بالضباب والسحب المنخفضة وتعالت أصوات الجن والبشر في كوكب داجون بالصراخ ، فيما الملك لقمان يحلق بالطفلة عاليا ، تتبعه الملكة نور السماء ضامة أختها إلى حضنها .هتفت نسمة :
" إلى اين تأخذني يا عماه "
رد عليها الملك لقمان بثقة عالية ومن خلال دموعه :
" إلى بابا وماما يا عماه "

أخذ الدخان يتبدد ، والضباب يتلاشى وراح الماء العذب يتجمع في المحيط بعد أن أطفأ وجرف الحمم البركانية بعيدا ، ليرتفع إلى أعالي الجروف العالية المحيطة به .وشرع الملك لقمان في الهبوط محلقا فوق مياه المحيط ، وهو ما زال يتوسل في نفسه إلى الله .
وفيما كان يهتف ويحدق عبر دموعه إلى مياه المحيط الفسيح ، لمح بعض الأيدي البشرية تتخبط في الماء ، وما لبث أن شاهد بعض الرؤوس ، ثم مئات الأيدي ثم مئات الرؤوس ، ثم آلاف الأيدي ثم آلاف الرؤوس ، وأخذ المحيط يمتلئ بأيدي ورؤوس البشر ، والأجساد مقطوعة الرؤوس . آلاف آلاف الأجساد مقطوعة الرؤوس ، كانت تظهر للحظات ثم تختفي
لتظهر ثانية . صرخ الملك لقمان بالجن أن يقفوا مع الله ويلقوا بجبال الجماجم إلى مياه المحيط .
هرع ملايين الجن وحملوا جبال الجماجم وألقوا بها ..أخذت أجسام بشرية كاملة تندفع عموديا من الماء وترتفع إلى أعلى وما تلبث أن تسقط لتحاول الصعود ثانية وهي تتخبط في الماء مقاومة الغرق . صرخ الملك لقمان بالجن لينقذوا البشر ويرفعوهم إلى الفضاء . اندفع ملايين الجن إلى مياه المحيط وهم يرددون اسم الله . وانطلقت أصوات الملايين من البشر تردد اسم الله ، لتعم الأصوات كوكب داجون كله .
أخذت ملايين الاجسام البشرية العارية تندفع من الماء بشكل عمودي إلى أعلى لتصعد إلى فضاء المحيط وتحلق فيه .أجسام أطفال ونساء ورجال وشباب وشابات وكهول اندفعت لتحلق في الفضاء . ملايين الأجساد اندفعت . وراحت تردد اسم الله . فيما الملكة نور السماء تخلع عليها أجمل الملابس .
هتف الملك لقمان لنسمة :
" الآن سنعثر على ماما وبابا يا حبيبتي ، ابحثي معي عنهما بين الناس "
رفعت نسمة رأسها عن كتفه وراحت تجوب بنظراتها بين الناس المحلقين ، وما لبثت أن اعتدلت وراحت تبحث بين المحلقين من أمام الملك وليس من خلفه . وشاءت الإرادة الإلهية
ان لا يبحثا طويلا بين الناس ، فما لبثت نسمة أن شاهدت أمها فصرخت : ماما ، ثم شاهدت أباها ، فصرخت : بابا .
هرعت الأم متقدمة الأب ، ألقى الملك لقمان نسمة بين أحضانها ، فيما أسلمت الملكة نور السماء أختها إلى أحضان الأب .
هبط الملك لقمان على الفورإلى الأرض ، وجثا على ركبتيه لأول مرة في رحلته السماوية ،
واضعا يديه فوقهما ، شاخصا بعينيه إلى السماء ، فهبط خلفه الملايين من البشر والجن , على اختلاف مذاهبهم وأديانهم ، وجثوا مثله من حوله. وحين خفض بصره ، خفض الملايين أبصارهم ، وراحت العيون، كل العيون ، عيون الإنس والجن ، تنظر إليه آملة كلمة منه ، فهتف وعيناه تغرورقان بالدموع ، بجملة صعب على الكثيرين فهمها :
" حين لا يكون هناك إله فليس ثمة إلا الله " !!
******
(10 ) ألملك لقمان أبو الجدايل !!
وهو يرقب آلاف النسور الضخمة تحمل الطاغية داجون وأعوأنه وتحلق بهم في سماء مدينة العرش الداجوني لينالوا بعض ما يستحقون من عقاب جراء ما اقترفوه من آثام ، تذكرالأديب الملك لقمان أبو الجدايل يوم مولده كما روته له أمه ، وتذكر نبوءات الأفعى لأمه بأن وليدها سيكون ملكاعظيما يحكم الكون ! وهاهي النبوءة تتحقق ، فها هو يجلس على منصة العرش الداجوني ونسمة تستكين إلى حضنه وتعبث بشعر ذقنه فيما تجلس الملكة نور السماء وملك الملوك شمنهور الجبار إلى جانبيه ومن حولهم الملك ابليس ومئات ملوك وملكات الجن والشياطين وبعض أبناء الكوكب الداجوني . وهو الآن يملك من القدرات ما يمكنه من أن يتبوأ عرش الأكوان كلها .
كانت أمه تحصد في حقل القمح برفقة أبو الجدايل الأب وآخرين ، حين دهمها المخاض . وضعت يدها على بطنها وتأوهت وما لبثت أن انطرحت أرضا وراحت تزحر وموجات الطلق تدهمها واحدة إثر أخرى . اندفع الوليد من فرجها وراح يصرخ باكيا حين اصطدم رأسه بالأرض . أخذته أمه ومسحته وأرضعته من ثديها ولفعته . مددته على حذل بين غمور الحصاد ، وظللته بمنديل فرشته على عيدان نصبتها من القصب لتعمل له خصا يقيه حر القيظ ، ونهضت لمتابعة الحصاد .
حين هرعت لتطمئن عليه بعد فترة وجيزة ، وجدت أفعى في حذله . كانت الأفعى تلتف فوق رجليه وتتمدد لتلقي رأسها على صدره . لم تقدر على الصراخ أوعلى فعل أي شيء ، راحت تدور حول الخص حانية ظهرها والرعب يجتاح كيانها والصرخات تكبت في دخيلتها ، وما لبثت أن مدت يديها نحو الوليد وهي تتوسل إلى الأفعى مناشدة إياها " أستحلفك بالله القدير ، بالعذراء وإبراهيم الخليل ، بمحمد وموسى وابن الجليل ، ألا تفجعيني بمن في المهد صغير "
شرعت الأفعى في فك طيات جسدها وترك جسد الوليد ، لتنساب بين غمور الحصاد . أخذت الأم الوليد إلى حضنها ودارت به حول نفسها وهي تضمه إلى صدرها وتعانقه .
أقبل الحصادون في قيلولة الغداء .. لمحوا الأفعى تزحف متلوية بين غمور الحصاد ، شرعوا يطاردونها بالحجارة . لجأت الأفعى إلى غمر حصاد ودخلت تحته . ألقت الأم بالوليد وهرعت نحو الأفعى . ألقت نفسها فوق الغمر حيث الأفعى وهي تصرخ : لا تقتلوها ، لا تقتلوها ! وهيأ لها أن الأفعى تستجير بها هاتفة أجيريني أجيريني . أصابت الأم بعض الحجارة . لم تكترث لألمها . أخذت الأفعى بيديها ،وضمتها إلى حضنها وانطلقت بها إلى أطراف ألحقل ، وسط صراخ الحصادين وأبو الجدايل الأب ، الذين راحوا ينهالون عليها بالشتائم .
أطلقت الأم الأفعى لتذهب في حال سبيلها . انتصبت الأفعى واقفة على ذيلها وأطلقت نبوءتها
التي استعرضت فيها أهم محطات حياة محمود أبي الجدايل ، إلى أن أنهتها بأنه سيكون ملكا عظيما يحكم الأكوان كلها !!
تنبهت الملكة نور السماء إلى أن الملك لقمان قد سرح لبعض الوقت وهو يتأمل آلاف النسور المحلقة بانتظام مدهش في سماء مدينة العرش الداجوني ، حاملة بمخالبها الطاغية داجون والآلاف من أعوانه .
" هل سرحت يا حبيبي ؟ "
" قليلا حبيبتي .. تذكرت طفولتي ، وجبال القدس وتنبؤات الأفعى لأمي "
" هل ستترك النسور محلقة بداجون وأعوانه ؟ "
" سأجعل النسور تطوف بهم الكوكب ومن ثم تلقي بهم في جزيرة نائية غير مسكونة ، ليبدأوا الحياة من الصفر "
" لن تعدمهم ؟ "
" لا ! لن أعدمهم ، يكفيهم ما سيكابدونه من شظف العيش في الجزيرة "
" كم أنت رحيم يا حبيبي "
" رسالتي لا تحمل إلا الرحمة للبشرية "
" وهل ستخفف عنهم شظف العيش في المستقبل ؟ "
" سأترك الأمر لأبناء الكوكب وآمل أن يرأفوا بهم فيما بعد "
" هل أنت سعيد بما حققته حتى الآن ؟ "
" قليلا ، لكن سعادتي لن تكتمل إلا بلقاء الله "
" وإن لم تتمكن من لقائه ؟ "
" سألتقيه يا حبيبتي سألتقيه "
قبل الملك لقمان نسمه . وأنزلها إلى أرض المنصة وشرع في مصافحة الملوك والملكات وأبناء الكوكب مودعا ليتابع رحلته السماوية .
*******
أكثر من عام مر على إقامته في عمان قبل أن يبتاع المسدس الذي سينتحر به . كان يخرج من شخصية الملك لقمان ويجوب شوارع اللويبده وجبل عمان بشخصية محمود أبو الجدايل الواقعية ، بحثا عمن يشتري لوحة منه . باع بعض اللوحات بأسعار بخسة ، وأقامت رابطة التشكيليين الأردنيين معرضا له باع لوحتين بمبلغ زهيد جدا .إحداهما أخذتها وزارة الثقافة .ولم تقبل أي صالة تجارية أخرى أن تقيم معرضا له .تفاءل خيرا حين أجرى التلفزيون الأردني لقاء معه ، فقد يشهر وجوده في عمان مما قد يدفع بعض الناس الذين كانوا يبتاعون لوحاته من دمشق أن يبحثوا عنه ، ويدفع آخرين لابتياع لوحاته ، لكن التلفزيون حذف معظم ما جاء في المقابلة . الصحافة التي كانت تبحث عنه في دمشق لتجري حوارات معه لم تتعرف عليه هنا . لم يصدق ما يجري معه . أدرك أن نقوده ستنفد خلال عام أو أكثر قليلا، وإن لم يتدبرأمره سيواجه مصيرا سيئا .. خابر أم محمد في دمشق لتبعث له ما بقي من نقوده في البيت .أخبرها عن مكانها في الكتب على رفوف المكتبة . وتمكنت بمساعدة فريدة من العثور عليها بسهولة . وفريدة هذه فتاة كانت تعمل معه في معرضه بين فترة وأخرى . كانت تقيم مع اسرتها في الميدان ، وكان الميدان يتعرض لقصف شديد في اليوم الذي غادر فيه دمشق . وبعد أربعة أيام من وصوله إلى عمان ، اتصل بها ليطمئن عليهم . أجابته قائلة أن بيتهم قد طالته القذائف وأنهم يقفون على رصيف لا يعرفون أين يذهبون . أجابها على الفور بأن تذهب إلى أم محمد وأن تأخذ مفتاح بيته منها وتقيم مع اسرتها فيه إلى أن تفرج . واتصل بأم محمد لتعطيها المفتاح.
أرسلت أم محمد النقود له .حاول أن يستأجر محلا يعرض فيه لوحاته . كانت الأجرة باهظة والبيع غير مضمون فتخلى عن الفكرة . نصحه قريب له يعمل سفيرا للسلطة الفلسطينية أن يكتب رسالة للرئيس الفلسطيني ليخصص له تقاعدا بصفته خدم في حركة فتح قرابة خمسة عشر عاما بين أعوام 68 و85 من القرن الماضي ، منها خمسة أعوام في مكتب الدراسات الذي كان يرأسه الرئيس أبو مازن نفسه .
لم ترق الفكرة له ، شعر أنه يتسول ، غير أن "نمر" لم يوافقه مؤكدا أن هذا من حقه . وأصر على الموضوع . كتب رسالة على عجل موجهة إلى الرئيس الفلسطيني وأرسلها معه . بعد قرابة شهر فوجىء باتصال هاتفي من صديقه الروائي يحيى يخلف يسأله عن ماضيه في حركة فتح .
تفاءل خيرا بعد اتصال يحيى به وقرر أن يبتاع كل ما ينقص بيته الذي استأجره بعد قرابة شهر من وصوله . فابتاع تلفازا وكومبيوتروخزانة وكنبات ومكتبة وأدوات مطبخ كاملة وكل ما يحتاجه بيت . واشترك في خدمة الإنترنت واستعاد صفحته على الفيس بوك التي فقدها بعد خروجه من دمشق .وراح يمضي أيامه ولياليه مع الألوان دون أن تفارق شخصية الملك لقمان مخيلته وهو يرسم ، ومحاولا قدر الإمكان أن يطرد من مخيلته الفظائع التي تجري في سورية .
غير أنه لم يعد قادرا على النوم إلا بالحبوب المنومة ، يتذكر أفعال ابنه معه ، من أي طينة قذرة قد هذا الإبن ، من أين اكتسب كل هذا اللؤم والكذب والبخل والطمع وعدم الأخلاق ؟ يهرب من صورة ابنه لتمثل صورة بيته في مخيلته . يستعرض مئات اللوحات والمنحوتات ،غرفة المكتبة ، مؤلفاته ، مخطوطاته ،غرفة الكومبيوتر والملابس ، المطبخ ، التحف .. المتناثرة هنا وهناك . لا يصدق أنه سيعود إلى عالمه ذاك . يا ليته تمكن من إحضار مؤلفاته ومخطوطاته، وأرشيفه الفني . يقض القلق مضجعه ، ولا يجدي استحضار شخصية الملك لقمان ، ولا حتى النوم بين أحضان فاتنة، ولا العد من الواحد للمائة أو العكس ، أو الإستغراق في الشهيق والزفير دون جدوى ،أوتخيل مواقعة خرافية مع أحلى حورية مراهقة ! فيلجأ إلى أخذ حبتين من الحبوب المنومة ، وحبتين من حبوب الإسترخاء ، ومع ذلك لا ينام بسهولة . فهذه الحبوب التي يصرفونها له بمبلغ زهيد من مستوصف الدولة بعد أن اشترك في التأمين الصحي ، لا تنوم دجاجة ، فكيف بمن يحمل كل هذا القلق . حاول أن يبتاع حبوبا أفضل من صيدليات السوق . لم تقبل أي صيدلية أن تبيعة .
ازداد قلقه حين عرف أن أسراً أخرى من أقارب فريدة لجأت إلى البيت . أحس أن كل شيء سيتكسرأو يسرق . كما أن أكثر من عشرة أشهر على مكالمة يحيى قد مرت دون أن يحدث شيء ، رغم إلحاح الأديب محمود شقير على يحيى كي لا ينسى موضوعة. وأعاد كتابة رسالة ثانية إلى الرئيس الفلسطيني يعرفه بنفسه ويذكره بها ، متطرقا إلى بعض المهام التي كلف بها من قبله ، ومقابلات صحفية أجراها معه ، ومؤلفات كتبها بتكليف من مكتب الدراسات . عدا عمله في أجهزة أخرى في فتح بدءا من انتمائه كمقاتل وانتهاء بعمله الصحفي والأدبي ، أرسل الرسالة إلى أكثر من شخص ، وحملها لأكثر من شخص ، على أمل أن تصل إلى أبو مازن . أرسلها إلى الأديب محمود شقير.وإلى الاديب يحيى وأصدقاء آخرين معظمهم أدباء . وحاول مقابلة السفير الفلسطيني في عمان ليترك نسخة معه للرئيس لكنه لم يفلح رغم محاولاته المتكررة .فمن هو ليتاح له مقابلة السفير ؟! بحث عن الرئيس على شبكة النت . وجد له صفحة على الفيس بوك . كتب له رسالة مقتضبة . وظل يترقب أن يراها الرئيس ، ومر أكثر من ثلاثة أشهر ومؤشر الفيس بوك يشير إلى عدم إطلاع الرئيس على الرسالة . فقرر أن ينساها .
توقف محمود أبو الجدايل عن الرسم ، حين أدرك أنه لن يبيع شيئا مما رسمه ، وشرع في كتابة مقالات نقدية عن الروايات التي قرأها ومعارض الرسم التي شاهدها . راسل العديد من الصحف الخليجية ولم تجبه أي صحيفة . اتصل بصديقه الكاتب ماجد كيالي الذي أرسل له مجموعة أسماء للاتصال بها بتوصية منه . أرسل مقالات لأكثر من جهة . منها ثلاثة مقالات
إلى مجلة خليجية يكتب فيها بعض أشهر الكتاب العرب ، أحدها عن رواية لمحمود شقير " فرس العائلة " بعد بضعة أسابيع فوجىء بالشاعر نوري الجراح يتصل به من لندن ويسأله عما إذا أرسل له مقالا عن رواية فرس العائلة ، كما فوجيء بمحمود شقيرينشر رابط المقال نفسه في صفحته على الفيس بوك نقلا عن صحيفة تدعى البناء لم يسمعا بها من قبل , وحين وضع عنوان المقال للبحث عنه في جوجل ، وجده منشورا أيضا في موقع على النت يدعى ميدل إيست أون لاين ! وموقع آخر يدعى صحفي . اتصل بمستلم البريد في المجلة فأجابه بأن المجلة لا ترسل ما يصل إليها إلى أية جهة أخرى ! سأل نوري الجراح عن إيميل من أرسل له المقال ،وعد بالبحث ، لكن محمود لم يتلق منه أي شيء. اتصل بالجهات التي نشرت المقال ، لم ولن تجيب بالتأكيد .
المقالان الآخران عن الفن التشكيلي لم ينشرا ولا يعرف إن سربا لصحافة أخرى بتغيير عنوانيهما حتى لا يعثر عليهما بالبحث .
هناك مجلات رحبت بمقالاته لأنه يعرف بعض محرريها . أرسل لها . وبعد مرور قرابة ثلاثة أشهر لم ير شيئا .مجلة خليجية أخرى مرموقة أرسل لها مقالا وفصلين من رواية . أرسلت له ايميلا تخبره عن حوالة له بالسوري ، وحين ذهب إلى البنك وأعطاهم رقم الحوالة ، لم يتم العثور عليه . أخبر إدارة المجلة فأرسلت له حوالة ثانية بالدولار إنما برقم خطأ أيضا . راسلها ثانية ، أجابت سيجري البحث عن الخطأ ، ويبدوأنه سيظل جاريا إلى يوم القيامة ، وقد لا يستبعد أن ترسل حوالة وهمية ثالثة برقم خطأ لا يعثرعليه في حواسب البنوك والصرافين .أكثر من خمسة عشر مقالا أرسلها للصحافة أو لأصدقاء لينشروها ، ولم ير شيئا بعد قرابة ثلاثة أشهر .
الطريف أن شاعرا سوريا صديقا معارضا كاتبه لإرسال المزيد من المقالات فأجابه متسائلا
" ألا تنشروا المقالات التي لديكم أولا " يبدو أن المقالات تذهب إلى حيث يريدون فور استلامها . أما ألأطرف فكان اتصال على الفيس بوك من صديق آخر موال للنظام يطلب إجراء حوار معه إلى صحيفة موالية ! ضحك حتى اغرورقت عيناه بالدموع !
توقف عن الكتابة حين عرف واقع الحال في الصحافة البائسة . حمل لوحاته وعرض بعضها أمام المدرج الروماني لعله يبيع شيئا .
اقترب سائح منه ليلقي نظرة على اللوحات .. هتف مرحبا به بالإنكليزية كما اعتاد أن يرحب بالسياح في معرضه في دمشق : " أهلا بكم في دمشق"!
فوجىء بالسائح يتوقف ويحدجه بدهشة ، ثم ينصرف متابعا طريقه بسرعة .
شعر أن السائح ارتاب منه فهرب . " لكن لماذا ؟"
جاءت سائحة أخرى . رحب بها " ولكم إن دمسكس" !
فوجيء بالسائحة تفتح فمها وتهتف بدهشة وهي تبتعد متسائلة ( إن دمسكس ) ؟
" أوه " وأدرك السر في دهشة السياح .

أمضى قرابة ساعتين دون أن يبيع شيئا .. أعاد اللوحات إلى حقيبتها . وانصرف يجر شيخوخته وثقل أحزانه ولوحاته ، بخطى متهالكة ، وصوت يصرخ في دخيلته
متى تدرك أنك مشرد في عمان ولم تعد في دمشق ، متى ؟ "
********
(11) أبو الجدايل الأول يكتشف النار المقدسة !!
لا يعرف الأديب الفيلسوف محمود أبو الجدايل أن أسرة أبو الجدايل تنحدر في أصولها التاريخية من نسل قابيل بن آدم ، وأن تعدادها يفوق الملايين ، وأن أفرادها يتوزعون في كافة أرجاء الأرض ، ولا تكاد تخلو دولة في العالم من أسرة لا تعود في جذورها لهذه العائلة ، فنوح نفسه وأولاده سام وحام ويافث ينتمون في الغالب ، لهذه العائلة المبجلة ، التي جاءت منها البشرية بعد الطوفان العظيم الذي أغرق وأفنى البشر والحيوانات ولم ينج منها إلا اسرة نوح وما حملته السفينة العظيمة !
أبوالجدايل الأول الذي سبق نوح ببضعة أجداد ينتمي إلى الجيل الثالث والعشرين لأحفاد قابيل ، وهو أول آدمي ضفر شعره في جدائل دون أن يعرف اسم الجدائل حينذاك كونه لا يعرف لغة ، غير أنه وفيما كان جالسا في ظل صخرة على شاطيء الأردن ويعبث بشعره الطويل وجد نفسه يضفرخصلة من شعره في جديلة راقت له فراح يضفرشعره كله ، وحين شاهدته أم الجدايل الأولى بشعره المضفور، لولوت (لأنها لم تكن تعرف الزغردة ) ونزعت ورقة التين عن فرجها ودنت من أبي الجدايل حاثة إياه على مواقعتها لتكتمل البهجة . حناها أبوالجدايل في ظل الصخرة وواقعها وقوفا وهي تتفوه صارخة بأصوات عجيبة قاصدة أن ينكحها بعنف أشد !
تعلم أبناء القبيلة ضفر الشعر الذي انتشر في بلاد الشام كلها قبل أن ينتقل إلى آسيا وأوروبا وإفريقيا في أوقات متقاربه .
غير أن الإكتشاف الأهم لأبو الجدايل الأول لم يكن ضفر الشعر بل اكتشاف النار ! فبينما كان يطارد ظبيا بالحجارة الصوانية في منحدرات هضاب البحر الميت ، لمح دخانا ينبعث من كومة أعشاب جافة على أثر قذفه لحجر صوان أخطأ الظبي . توقف عن مطاردة الظبي واقترب من الدخان وراح يتأمله متفكرا . بدت له شعلة نار خفيفة راحت تنتشر في كومة العشب ، شعر بحرارتها فمد يده نحوها ليحس بالحرارة أكثر . أخذ من جانبه قليلا من العشب الجاف وألقاه فوق النار .انتابه فرح لا يعرف كنهه . " كيف حدث هذا ؟"
رأى الحجر الذي قذفة إلى جانب حجر آخر . راح يفكر ، لم يجد سببا إلا اصطدام الحجرين . وما لبث أن أخذ الحجر وضربه بالحجر الآخر. لم يحدث شيء، فالضربة لم تكن قوية بما يكفي لتحدث شررا . حمل الحجر المضروب بيسراه وحمل الآخر بيمناه وراح يضرب الآخر به . أحس بشرر خفيف ينبعث .وضع الحجر المضروب بين كومه من الأعشاب وراح يضربه بالآخر . رأى شررا خفيفا يصطدم بالعشب ويحدث شعلة دخانية صغيرة لا تلبث أن تنطفىء. أدرك أن طريقته في إحداث شرر من الحجرخطأ . راح يفكر في الطريقة التي قذف بها الحجر وكيفية اصطدامه بالحجر الآخر التي أحدثت شررا أشعل هذا الشيء . لم يكن ضوء النهار يساعده على مشاهدة الشرر . أخذ الحجر المضروب بيسراه وأخذ الآخر بيمناه وضرب به الآخر بطريقة قدحية وهو يقربه من كومة الأعشاب بحيث يخرج الشرر في اتجاهها. قدح مرة وثانية وثالثة وظل يقدح بكل ما اوتي من قوة إلى أن رأى النار تهب في كومة الأعشاب . تنفس للحظات جراء التعب الذي بذله في القدح وشرع في الضحك . ونهض وراح ينط ويقفز وهو يضحك بصوت مجلجل ويؤتي أصواتا عجيبة . سمعه أبناء القبيلة الذين كانو يتفرقون في الأخاديد والسفوح يطاردون الحيوانات . أدركوا أن في الأمر شيئا . وأقبلت أم الجدايل تركض منحدرة من سفح هضبة وضفائرها تلوح على كتفيها وظهرها ، فقد راحت تضفر شعرها بعد أن علمها أبو الجدايل ضفر الشعر ، فكانت أول امرأة في التاريخ تضفر شعرها .. وحين بلغت أبو الجدايل قبل أن يبلغه الآخرون انتابتها دهشة عجيبة وهي تنط وتتقافز حول النار، التي راح أبو الجدايل يغذيها ببعض الأغصان والجذوع الجافة . وحين وصل بعض أفراد القبيلة راحوا ينطون ويقفزون بدورهم سائلين بحركات انفعالية وأصوات جعجعية أبو الجدايل عن الطريقة التي أحدث بها هذا اللغز المحير . راح أبو الجدايل يزهو باكتشافه العظيم ويشير بيديه ويصوت من حنجرته طالبا إليهم أن يجمعوا أعشابا وحطبا ، وما لبث أن جثا على ركبتيه وراح يقدح الحجرين ببعضهما في قدحات سريعة متتالية نحو كومة العشب والحطب . هبت النار في
العشب وراحت تتأجج .. تعالت صرخات أبناء وبنات الجدائليين وراحو يتقافزون وينطون ،
وتمايلت أم الجدايل في قفزها وحركاتها لتحدث نوعا من الرقص. راح الجدائليون يقلدونها.فتمايلت نهود الجدائليات واهتزت على صدورهن وسقطت أوراق التين والتوت عمن كن يضعنها . وتلوى الرجال بأجسادهم وهم يبتكرون حركات جديدة في تقافزهم ليغدو رقصا .
راح الجدائليون يبحثون عن حجارة تحدث شررا . ولم يكن الأمر سهلا ، فلم تكن الحجارة كلها
تحدث شررا يشعل نارا ، لكنهم تمكنوا في النهاية من العثور على الحجارة المطلوبة بحيث أصبح الجميع يملكونها .
أمضى أبو الجدايل الأيام الأولى لاكتشافه النار ، في الطريقة التي سيفيد بها من هذا الإكتشاف الهائل ، فكان هاجسه الأول أمنيا ، فكر بإشعال النار ليلا أمام الكهوف التي يلجأون إليها حتى لا تجرؤ الوحوش على مهاجمتهم وهم نيام . تعب بعض الشيء وهو يحاول افهام الجدائليين بأصوات خرساء وحركات إيحائية تمثيلية لا تخلو من تقليد لأصوات الوحوش حتى يفهمهم ما المقصود !
جمع الجدائليون أعشابا وأغصانا وحطبا وألقوها أمام كهوفهم وأشعلوها. ومارسوا الجنس فرادى وجماعات إلى جانب النار لأول مرة باطمئنان ، وخلدو إلى النوم باطمئنان ، غير أن أبو الجدايل الأول كان متكدرا بعض الشيء لأن أم الجدايل ضاجعت اثنين آخرين من أبناء القبيلة معه !
*******************
أمضى أبو الجدايل الأول بضعة أسابيع يفكرفي كيفية استغلال النار في الصيد فاهتدى إلى فكرة رهيبة يقود بها عشرات وربما مئات الحيوانات إلى حتفها في النار .
جمع القبيلة وقادها إلى مكان يضيق فيه واد كبير ، وأشار ببناء جدارعال حول المضيق ، بحيث ينفرج مع اتساع المضيق ويضيق إلى حد الإغلاق في نهايته بحيث لا تستطيع الحيوانات تجاوزه .وأشاربجمع الحطب والأعشاب والأغصان وروث الحيوانات ووضعها في المضيق ليتم اشعالها عندما تتجمع الحيوانات فيه ، في حين يكون فيه أبناء القبيلة قد لاحقوا الحيوانات من كافة الإتجاهات ليحشروها في اتجاه الوادي فالمضيق لتقع في كمين النار. ولا تستطيع الخروج مهما حاولت ، فتحترق .
استغرق بناء الجدار بضعة أيام وشارك فيه قرابة خمسة آلاف من أبناء وبنات القبيلة . وفي اليوم الموعود جمعوا كمية هائلة من الحطب وكل ما هو جاف من الأغصان وروث الحيوانات والقوها في المضيق لتغطي مساحة كبيرة منه . وانتشر الالاف من أبناء القبيلة بعصيهم الطويلة والغليظة ، ليحيطوا بمنطقة شاسعة وراحوا يقتربون من كل الإتجاهات طاردين الحيوانات على مختلف أنواعها أمامهم .
وضع أبو الجدايل الأول بعض أبناء القبيلة في جوانب مختلفة من المضيق ليقوموا بإشعال النار من كل الإتجاهات حين تتوغل الحيوانات فيه . وشرعوا في اشعال نيران صغيرة خلف الجدران لتكون وقودا يشعل الأعشاب والحطب في المضيق .
رأى أبو الجدايل مجموعات من الظباء والوعول والتيوس والمعز والأرانب وغيرها من الحيوانات تهرع من أعالي الوادي ومن سفوحه .. تركها تقدم وتتوغل في عمق أكوام الحطب والأعشاب ، وهي تتقافزوتثب في محاولة لتجاوزها. جعر أبو الجدايل بأعلى صوته طالبا إلى رفاقه إلقاء أكوام من النارفوق الحطب ، وشرع بدوره في غرف كمية من الجمر الملتهب أمامه بيديه وألقاها بسرعة فائقة فوق الحطب خلف الجدار . أحس بيديه تحترقان . نفخ عليهما بضع نفخات ونفضهما وفركهما في محاولة لطرد الحرارة منهما ، وراح يكمل إلقاء النار في المضيق بأن أخذ حجرين مفلطحين كان قد حضرهما للغاية نفسها وراح يلقي بهما النار ، غير أنه في ذروة حماسه نسيهما وأخذ النار بيديه .
أحاطت النار بالحيوانات من كل الإتجاهات وراحت تتقدم نحوها فيما الحيوانات تتقوقع على نفسها وتنزوي في المنتصف مصوتة على طريقتها بأعلى أصواتها ، ليضج المضيق بصراخها ، وحين اجتاحتها النيران من كل الإتجاهات ، راحت تثب إلى أعلى وتقفز في محاولة لتخطي الجدران ، غير أنها كانت تصطدم بها وتقع في النار ، ومن أسعفته وثباته وقفزاته في العودة إلى الإتجاه المنفرج في المضيق واجهته عصي وحجارة الجدائليين الذين كانوا يملأون الوادي والسفوح بالآلاف .
تعالت صرخات الجدائليين وهم يرقبون احتراق الحيوانات في النار ومحاولاتها اليائسة للخروج منها دون جدوى ، فاختلطت صرخاتهم بصراخ الحيوانات ، التي راح بعضها يقع في النارمحركا قوائمه وهو يلفظ أنفاسه .
تمكن بعض الجدائليين من شحط الحيوانات التي كانت قريبة منهم بصعوبة ، بعد أن احتملوا الوطء فوق الجمر بأقدامهم الحافية .. وشرعوا في إطفاء النار التي كانت تشتعل بها ، غيرأن شحط الحيوانات التي كانت في عمق مساحة النار لم يكن سهلا ، فاضطروا إلى الوطء فوق الجمر مما أحرق أقدامهم .. صرخ بهم أبو الجدايل مجعجعا طالبا أن يستخدمو الحجارة والعصي في إزاحة النار من طريقهم للوصول إلى الحيوانات ..
شرعوا في استخدام الحجارة فيما جازف بعضهم بالقفز فوق الجمر ليختطف ظبيا تضطرم فيه
النار ليشحطه إلى خارج المحرقة وهو يصرخ ألما ..
نجح الجدائليون أخيرا في سحب الحيوانات من النار وشرعوا ينهشون لحمها محتملين الألم الذي أحدثته الحروق في أرجلهم وأيديهم .
فكر أبو الجدايل الأول في إيجاد حل لهذه المشكلة في المستقبل ، وفيما كان يلوك أول قضمة
من فخذ ظبي ، اكتشف طعما للحم لم يعرفه في اللحم النيء ، فراح يهئهئ ويجعجع للجدائليين
والجدائليات قاصدا أن الطعم لذيذ ، فهأهأوا وجعجعوا بدورهم .. وبذلك يكون أبو الجدايل الأول
قد اكتشف اكتشافا جديدا وهو الشواء . ولم تمر سوى أسابيع حتى راحت القبيلة تتفنن في الشواء ليكون ذا مذاق طيب . وحين حل الشتاء راح الجدائليون يشعلون النار في كهوفهم ، فتمنحهم دفئا لم يعرفوه من قبل .
أما في يوم المحرقة هذا فما أن امتلأت البطون حتى دبت الشهوة في نفوس الجدات والأجداد ، فبادرت الجدات اللواتي لم يكن جميعهن جدات بل صبايا ، إلى ملاطفة الأجداد بأن هأهأن لهم وشرعن في تقبيلهم وملامسة أجسادهم والقبض على ما هو حساس فيها ، فهأهأوا لهن وقبلوهن وشرعو ا في ممارسة الجنس ، فكان أول حفل جنس جماعي في التاريخ ، ونكاية في أم الجدايل التي واقعت رجلين في حفل سابق مع أبي الجدايل ، واقع هومعها ثلاثا من أجمل الصبايا الجدائليات .
*****
أخذت النار تحتل مكانة قدسية في نفوس الجدائليين نظرا لما حققته لهم من فوائد في حياتهم
فراحوا يتعاملون معها باحترام شديد ، فكانوا حين يوقدونها للتدفئة يجلسون حولها بخشوع
ويتأملون وهجها ويتفكرون في الحرارة التي تبعثها وأثرها على كل شيء .
أما أبو الجدايل الأول فغدا ملكا غير متوج على القبيلة تأتمر بأمره وتنفذ ما يطلبه ، فاحتل بذلك مكانة مرموقة لم يحتلها إلا النساء من قبل كونهن يقمن بفعل الحمل والإنجاب الذي لا يقدر عليه الرجال .
عاش أبو الجدايل بضعة أعوام بعد اكتشاف النار، حقق خلالها انجازات أخرى للقبيلة ، بأن راح يستخدم النارلصنع أوعية للطعام يصنعها من الطين ويحرقها في النار، قبل أن يموت متأثرا بعضات أسد ، فاجأه وهو يستلقي في ظلال جرف صخري ، ورغم أنه تمكن من مقاومة الأسد بل وقتله حين أولج عصاه الغليظة في جوفه وقلبه على ظهره وراح يضغظ بكل قوته على العصا حتى اختنق الأسد ولفظ أنفاسه ، غير أن ألجراح البليغة التي أحدثتها عضات الأسد في جسد أبو الجدايل ظلت تنزف بغزارة إلى أن أودت بحياته ..
بكت أم الجدايل بلوعة كونها أهم محظيات أبي الجدايل وشاركتها نساء القبيلة البكاء والعويل
.
دفن أبو الجدايل في حفرة عميقة بعض الشيء في الجرف الذي مات فيه ، وأهيل التراب على جسده . ووضع على القبر بعض الحجارة بطريقة منتظمة ليعرف القبر في قادم الأيام والسنين . وثابرت أم الجدايل على زيارته باستمرار لتضيف بعض الحجارة إليه إلى أن علاه رجم كبير .
ليتحول إلى مزار للقبيلة تأتي إليه بين فترة وأخرى ، وتدفن موتاها حوله .

( 12 ) ابن الله !
يتأمل محمود أبو الجدايل اللوحات على الجدران من حوله ، لعله ينسى جحيم الأهوال الجارية في سوريا ، صواريخ ثقيلة تمطر المدن ، براميل متفجرة لا تفرق بين طفل وامرأة ، بين مسجد وكنيسة ، بين مدرسة ومستشفى . قطع رؤوس ، أيدي ،أرجل ، جنون الجنون في حرب سريالية لم ير التاريخ مثيلا لها . لايبدو الأمر ممتعاً له لكثرة ما تأمل لوحاته ، وأهوال القتل لا تغادر دماغه .وصورة الملك لقمان والملكة نور السماء لم ترغبا كما يبدو المثول في مخيلته. أعاد اللوحات منذ أيام من معرض أقامه في صالة عرض وعلقها على جدران بيته وأعلن على الفيس بوك عن افتتاح معرضه الدائم في مرسمه . لم يبع في الصالة إلا لوحة واحدة بثمن مقبول ، ابتاعتها الأديبة شهلا العجيلي . شعر أنه في حاجة لأن يمشي ، لعله ينسى أو يتناسى ما يحدث في سوريا ، لعله ينسى بيته الجميل في دمشق، البيت المتحف ، الأقرب إلى قلبه من كل بيوت العالم لما يحويه من فنون وتحف ومؤلفات ومكتبة زاخرة بالكتب القيمة .
ارتدى ملابسه وخرج .. صعد طلعة شارع الباعونية بخطى واثقة لا تنم عن كهولة ، هو في الحقيقة لا يحب السير المتمهل ، يسير دائما بسرعة ورشاقه حين يكون ذاهباً إلى عمل ما . نادرًا ما يسير بخطى متهالكة ، حين يكون في حال نفسية سيئة ، أو حين يعاني من مشكلة ما ، تمهل قليلاً في ساحة جامع الشريعة ، ليتبادل تواصله المعتاد مع صديقته الشمس . نظر نحوها رافعاً رأسه ، وما أن لامس شعاعها تجويفي أنفه حتى دهمه العطس . عطس مرتين ، ونظر نحو الشمس ثانية . عطس مرة ثالثة . ( شكرا أيتها الصديقة ) وأخرج منديلا ورقياً ناعماً وراح يمسح أنفه .
اتجه نحو حديقة المتحف الوطني للفنون الجميلة . صادفه طفل متسول يمد يده نحوه راجياً أن يساعده ، أخرج من محفظته نصف دينار أعطاه له .. راح الطفل يتمنى من الله أن يرزقه بعشرة أمثاله ..
ابتسم وتابع طريقة . هنا في المتحف شارك منذ أيام في معرض جماعي للفنانين الأردنيين ، بعد أن أقنع القائمين على المتحف بهويته الأردنية رغم ولادته المقدسية وإقامته الدمشقية ! شارك بلوحة صغيرة فيها ثلاث نساء بالزي التراثي المطرز ، واحدة بحجاب عادي يكشف وجهها ، وواحدة بنقاب يكشف عينين ، وواحدة بنقاب يكشف عينا واحدة فقط ، وهو في العادة يضيف امرأة رابعة إلى النساء بنقاب لا يكشف من وجهها شيئاً .
افتتحت الملكة المعرض ليجد نفسه للمرة الأولى في حياته يصافح ملكة حقيقية وليست متخيلة
كالملكات اللواتي يستحضرهن في أدبه وفنه . لم يتحدث عن أحواله إلى الملكة بعد مصافحتها . اكتفى بالقول أنه هارب من جحيم سوريا وقد ترك كل شيء هناك ، واختصر شرحه للوحة حتى لا يطيل وقوف الملكة التي كانت مضطرة إلى مصافحة كل فنان والوقوف معه . قال إنها لوحة تراثية ، وأنه يتعامل في فنه مع التراث قديمه وحديثه ، والحق إن اللوحة تحمل ما هو أعمق من هذا التفسير ، فالمرأة ذات الوجه تشير إلى اسلام منفتح في بداياته ، وذات العينين تشير إلى إسلام بدأ ينغلق ، وذات العين الواحدة تشير إلى الإمعان في الإنغلاق ،أما المرأة الغائبة من اللوحة والتي لا يرى الناظر شيئا منها فهي تمثل حاضر المسلمين ! كان يقول هذا الشرح لمن يمكن أن يتقبله . وثمة شرح آخر هو رؤية كل امرأة للعالم من وجهة نظره هو ، كان يقوله لآخرين .. وهو في الغالب لم يكن يرغب في شرح لوحاته ، وللمشاهد أن يرى في اللوحة ما يشاء حسب رؤيته وفهمه .أكثر ما أثار دهشته في هذا المجال أن مشاهداً رأى في لوحة له يوم القيامة ، مع أنه لم يفكرفي ذلك حين رسمها ، لكنه كان منفعلاً وغاضباً على أثر مشاجرة له مع العائلة ، ورسم اللوحة تحت وطأة هذا الإحساس .
شكواه عن وضعه البائس قال بعضاً منها للأميرة وجدان التي تعاطفت معه ، وطلبت إلى وزير الثقافة أن يساعده ، غير أن الوزير تغير دون أن يقدم حلاً ناجعاً لوضعه ، سوى موافقة الوزارة على دعم نشر كتاب قصصي له .
فكر في أن يدخل إلى إدارة المتحف ليسلم على المديرالذي تعرف إليه في وقت سابق . غير أنه عدل عن الأمر ودخل إلى الحديقة .. انزوى في ركن من الحديقة وافترش العشب في ظلال شجرة كينا . خطرت السيجارة بباله ، كان قد قرر التخفيف من التدخين إلى خمس عشرة سيجارة في اليوم بدلا من قرابة أربعين ، في محاولة جادة لترك التدخين بعد أن أدمنه لما يقرب من خمسة وخمسين عاما . إنها المحاو لة الأخيرة بعد عشرات المحاولات الفاشلات. أخرج سيجارة وأشعلها ، وهو يحاول أن يطلق العنان لخياله ، هل يتابع رحلته في البحث عن الله مع الملك لقمان أم يطرق عالماً جديداً ؟
شعر أنه غير قادر على التوغل في أعماق فضائية مجهولة تتطلب خيالاً واسعاً ، فراح يستعيد رحلته مع الشيطان ليلة رأس السنة التي انتهت به إلى طفل في الثانية من عمره اختاره الله ليكون ابناً له *!!
كان مفلساً تماماً وما يملكه من نقود لا يكفي حتى لمتطلبات انتحار يليق بأديب مثله ، كأن يشتري مسدساً ينتحر به حسب ما يفكر حالياً .. وليلة رأس السنة من عام 1995 أوشكت أن تبدأ دون أن يتذكره أحد ، ودون أن يدعوه أحد إلى سهرة ما . وفيما كان يستلقي في السرير ويقرأ كتاباً عن الجن ، فوجىء بشخص يشبهه تماماً يقف في مواجهته . سأله : من أنت ؟
ابتسم الرجل معتذراً عن تطفله عليه وأخبره أنه الشيطان وأنه رآه وحيداً حزيناً فحضر ليدعوه إلى حفل رأس السنة في قصره السماوي .
وافق الأديب محمود أبو الجدايل على الدعوة بعد حوارمطول مع الشيطان حول غايته من الدعوة وتعهده بأن لا يقوم بغوايته ويقوده في دروب الضلال .
أثبت له الشيطان أن لا غاية له سوى أن يشهد أمام الناس أنه محب لله ومخلص له ، إذا ما ثبت له ذلك خلال مرافقته له .
وافق الأديب محمود أبو الجدايل على الصعود مع الشيطان الذي تم بلمح البصر وأبو الجدايل يمني نفسه بالسهر مع كليوبترا وزنوبيا وهيلين الطروادية وحور العين الشيطانات ، غير أنه وجد نفسه في بحر معلق في السماء تمخره الحوريات الجميلات العاريات والدلافين والأسماك والظباء وأنواع كثيرة من الحيوانات . ووجد نفسه يتنفس تحت الماء وملابسه لا تبتل بالماء ، وموسيقى تصدح ، وأغان وتراتيل تنشد ، وسجاد أحمر يمد ، وملكات شيطانات خارقات
الجمال بأجساد سباعية يصطففن لاستقبال الشيطان وضيفه الأديب ، بعد أن استعاد الشيطان هيئته الملائكية وارتدى زياً ملائكياً .
تعرف الأديب إلى ملكة سباعية الجسد ذات جمال أخاذ وقع أبو الجدايل في غرامها قبل النظرة المتمعنة الأولى ، قدمها الشيطان على أنها ملكة السماء وقد أصرت أن تستضيفهما في قصرها السماوي قبل أن يذهبا للحفل الذي أعده الشيطان .قادتهما إلى حفل أقيم في حدائق قصرها تحت الماء ، حضره الآلاف من الملكات الجنيات و الملوك الجن وبناتهم وأبنائهم .
كان كل شيء يجري تحت الماء دون أن يحس أحد بوجود الماء ، حتى شواء الظباء والخراف والأرانب والبط والدجاج والحمام والحجل والأسماك بأنواعها كان يتم تحت الماء ، وشرب الخمور تحت الماء ، وماء البحر لا يطفىء النار ولا يبلل الشواء ولا يدخل الكؤوس ، ففي عالم الشيطان تتآلف المتناقضات وتتعايش في علاقة لا يفهمها إلا الشيطان نفسه ، حتى الصحون والكؤوس والملاعق والسكاكين ، تتحرك وحدها ، دون أن يصطدم شيء بشىء ، فما أن يشتهي المرء شيئا ، ما عليه إلا أن ينظر إليه ، فحين اشتهى محمود أبو الجدايل قطعة من فخذ خروف كان يشوى على مقربة منه ، قطع الفخذ نفسه وطار ليتلقاه صحن كبير تحف به السكاكين والشوك والملاعق وقطع الخضار ، وحط نفسه أمام الأديب الذي كان جالسا بين الملكة والشيطان . وكانت الحال نفسها تتم مع الخمر .
كاد الأديب محمود أبو الجدايل أن يفقد عقله في عالم الشيطان ، وما أطار صوابه أكثر هو الجسد السباعي للملكة ، فهو لم يعد يعرف إن كان يجلس مع سبع ملكات أم مع ملكة واحدة .
وعبثا حاول أن يقنع نفسه أنه أمام ملكة واحدة بسبعة أجساد ، كل جسد يمكنه أن يطير عقول
مئات الرجال المؤمنين وغير المؤمنين ! وحين دعته الملكة إلى غرفة نومها أعلى قصرها الشاهق واعدة إياه بأن تنسيه همومه كلها ، راح يسألها عما إذا قبلها هل تحس الست الأخريات بالقبلة ؟ ولا يمكن لأحد أن يتصور مدى دهشته حين أخبرته الملكة بأنهن يحسسن بالقبلة لكن الأجمل أن تحيله إلى سبعة رجال كي يقبل السبع معاً !! رفض محمود أبو الجدايل مستنكرا هذا الجنون الشيطاني ، رغم توقه الشديد للهروب ونسيان العالم الأرضي الذي تركه خلفه ، وشعر أنه واقع في غواية شيطانية رهيبة خلاف ما وعده الشيطان ، فراح يتضرع إلى الله تذاهنا أن يقف معه وأن يقيه غواية الشيطان .
أحس الشيطان بتخوفه مما يجري معه فخاطبه تخاطرا من أعماق البحر مؤكداً له أن لا غواية في الأمر ، وأنه بإمكانه أن يعيده إلى الأرض إذا يشاء . أخبر الشيطان أن لا رغبة له في العودة إلى الأرض التي خلفها على بعد مئات السنين الضوئية ، غير أن الملكة تضعه أمام خيارات صعبة ليس في وسعه أن يرفضها وليس في وسعه أن يقبلها بسهولة ، وأخبر الملكة أنه يشعر بعطش فظيع ، فأشرعت نهدها وألقمته فمه وهي تهمس " اشرب يا حبيبي ارتوِ " راح يرضع سائلا لذيذاً لم يكن ماءً ولم يكن خمرًا ، سألها وهو يتوقف ليتنفس عما رضعه ، أخبرته أنه إكسير الحياة ، وراحت تهمس في أذنه مؤكدة أنه خمرغير مسكر من خمر الجنة ممزوج بالعسل وماء الورد من يتذوقه من نهودها السبع اليسرى يعيش مدى الحياة !
شهق محمود أبو الجدايل من أعماقه واحتوى نهدها بيده وراح يغب الإكسير غباً حتى ارتوى ،
وشرع يتنهد ملتذاً بما شرب ، معلناً عن سعادته التي لن تكتمل إلا بتحقيق كل رغبات الملكة حتى لو تطلب الأمر أن يحال إلى سبعة رجال !! ولم تمهله الملكة أكثر من ذلك فأشرعت نهدها الآخر وألقمته إياه . مج بضع مجات من سائل طعمه ألذ من الشهد ولا هو بالشهد أو الخمر أو الماء ، فهمس متسائلا " ما هذا يا حبيبتي ؟
ولا يمكن ولا بأي حال من الأحوال تصور مدى دهشته حين هامسته الملكة وهي تضم رأسه إلى نهدها " هذا ماء الكمال ، وهو ماء من ماء الجنة ، من تذوقه من نهودي السبع اليمنى بلغ الكمال المطلق " !!

تساءل بدهشة وهو يرفع نظره نحو وجهها " يا إلهي هل تقصدين أنني سأبلغ الكمال ألإ...!" ولم يجرؤ على لفظ الكلمة . ضمت الملكة شفتيها وأوقفت سبابتها عليهما وهي تهمس " هس "
وكأنها تريد أن تبقي الأمر سرأ بينهما ، ودفعت رأسه إلى مفرق نهديها لتقرب فمه منه ، لينبثق
منه حلمة جمالها أخاذ ، التهمها الأديب وراح يرضع ، وحين توقف بعض بضع مجات وهو يلعق شفتيه ملتذاً بما رضع ، لم تدعه الملكة يتساءل فهمست " هذا خمر الجنة من ارتوى منه من أجسادي السبعة ، فقد ذاكرته وغدا أسير حبي مدى الحياة ، ومن أدمن عليه ، فقد وعيه مدى الحياة إلا من حبي "
ونظراً لأنه كره كل أشكال الحياة الأرضية فقد غب الحلمة ثانية وراح يرضع دون أن يتساءل ، وحين توقف ،أخبرته أن ما يطمح إليه لن يتم ما لم يرضع من أجسادها السبعة .
همس بعد برهة صمت وهو يلقي رأسه بين أجمل نهدين أبدعهما الخلق " أحيليني إلى سبعة
رجال ، ودعيني أغرق في حبك وحده حتى الموت "
لم يكن يعرف أنه سيكون أمام مفاجأة جديدة حين قررت الملكة أن تستدرجه خطوة أخرى لتحيله إلى ما تطمح ، فقد همست :
" سأحيلك إلى سبعة رجال مختلفين "
كان حتى حينه يظن أنها ستحيله إلى سبعة رجال يشبهونه تماماً ، ولم يكن هيناً عليه أن يرى نفسه في سبعة رجال مختلفين ، والأهم أنها أخبرته ، أنه في مقدوره أن يغير هؤلاء السبعة
إلى سبعة آخرين إلى ما لا نهاية . وراحت توضح له ما هية الأشخاص الذين يمكن أن يتحول
إليهم .
مر في مخيلته صور بعض المشاهير في الأدب والفن والفلسفة يمكن أن يتحول إليهم : ثربانتس ، شكسبير ، دوستويفسكي ، جوته ، أفلاطون ، أرسطو ، سقراط ، بتهوفن ، فان كوخ ، دافنشي ! المتنبي !
راقت الفكرة كثيراً له.. سألها عما يمكنها أن تفعله من نفسها . لم يفاجأ حين قالت له أنه في مقدورها أن تحيل نفسها إلى أية امرأة يريدها حتى لو كانت كليوباترا ، أو زنوبيا ، أو هيلين الطروادية ، أو حتى لو كانت ربة مثل ، إنانا ، عناة ، أفروديت ، أو حتى لو لم تكن قد وجدت
في ماضي الزمن أو حاضره ! وألقت ذلك شعراً عليه *

******************
راح محمود أبو الجداليل يمعن خياله في قدرات الملكة الخارقة ، وبعد اطراقة وجيزة بينه وبين نفسه جزم خلالها من وجود الله في قلبه ، قرر أن يغامر ويجعلها تحيله في البداية إلى سبعة مثلاء يشبهونه تماماً !
ضمته الملكة إلى حضنها وأ لقت رأسه ثانية عند منبع الخمر بين نهديها ، وفيما كان يتلذذ بنكهة الخمر همست له " انتهى يا حبيبي ، انظر إلى نفسك " !
لم يجرؤ على رفع رأسه من بين نهديها خوفاً مما سيراه ، لكنه أحس قبل أن يرفعه أنه أصبح انساناً بسبعة أجساد وسبعة عقول وسبعة أرواح ، وسرت رعشة منعشة في جسده . رفع رأسه
ليرى نفسه في سبعة مثلاء يعانقون الملكة في الوضع ذاته ، وقد تحلقت أجسادهما على السرير
الدائري لترسم دائرة انعكست في المرآة الماسية من سقف القبة القوسي لغرفة نوم الملكة !
بدا للأديب والفنان محمود أبو الجدايل أنه في عالم مدهش يفوق الخيال ، ابتسم كطفل يرى نفسه في المرآة للمرة الأولى ، فابتسم مثلاؤه الإبتسامة ذاتها !!
احتوى نهد إكسير الحياة ومج جرعة ، أحس بطعم ونكهة سبع جرعات ، وسرت نشوة لذيذة في جسده ، توسل إلى الله أن ينسيه كل ما في ذاكرته من ماض أرضي ليتوحد مع هذا العالم الرباني !
فوجىء بالملكة تهمس له مرشدة :
" يجب أن تفرّد أكثر مما توحد يا حبيبي "
لم يفهم ( الأحمق ) ما تقصده الملكة ، فتساءل فهمست له :
" أنت الآن جسد ليس له بداية وليس له نهاية وقد خرجت من سلطتي المباشرة "
ولم يفهم ( الأحمق أيضاً ) خاصة وأن الملكة عقدت الأمور أكثر حين قالت له :
" أنت الآن المطلق والعدم ، وما قبل العدم وما بعد المطلق ، إلى ما لا نهاية من الإيغال في ما قبل العدم وما بعد المطلق " !!
شعر أن الملكة تقوده إلى متاهات فلسفية بينما هو في حاجة إلى معرفة لغة واحدة فقط هي لغة الجسد ، فرجاها أن تخاطبه بها فهمست :
" يا حبيبي ، بدلا من أن تجعل مثلاءك يرضعون من نهد واحد من نهدي السباعيين ، وزع أفعالهم ،كأن يرضع أحدهم من نهد الكمال ، وآخر من نهد الحياة ، وآخر يجترع من خمر الجنة ، وآخر يرتشف من رحيق شفتي ، وآخر يداعب بطني وفخذي ، وآخر يلثم فرجي الصغير الجميل الذي لا يعرف البول والدم والإنجاب ، وآخر يقبل ردفي اللذين لم تفح من بينهما إلا رائحة المسك والعنبر " !!
صعق الأديب بما لم يكن يعرفه رغم أنه أدرك أبعاد إرشادات الملكة ، فتساءل عما إذا كانت الملكة لا تتبول ولا تتبرز ، فأجابته مؤكدة :
" لا يا حبيبي هل سمعت عن حورية تتبول وتتبرز مثل الإنسيات ؟"
أجاب بأنه حقا لم يسمع وحاول أن يفرّد كما أشارت الملكة ، غير أنها فاجأته من جديد حين همست :
" وكل هذا التفرّد ليس إلا البداية يا حبيبي "
" ماذا هناك أيضا يا حبيبتي "
" كمال التوحد في كمال التعدد ، وكمال الحقيقة في كمال التحول ، والجوهر هو الجوهر الواحد الذي لا يتغير ، في تحوله وتجليه وتعدده وصيرورته وتوحده ، إنه الحق إنه ألله " !!
ضاع محمود أبو الجدايل في فلسفة الملكة . رجاها أن تعيده إلى لغة الجسد لعله يعرف إلى أين تقوده ، وأعلن أنه غدا مهيئاً إلى التعدد مهما كان شكله ، همست :
" بالتأكيد يا حبيبي ليس من كمال التعدد أن تبقي نفسك في سبعة أشخاص يشبهونك ، ولهم نفس عضوك وكل أعضاء جسدك ، فالأجمل أن يكون لك سبعة أعضاء مختلفة الحجم ، أما الأكثر كمالاً أن لا تبقي على شكل هؤلاء الأشخاص ثابتاً ، بل متغيرا ، فتغيرهم إلى سبعة آخرين بأجسام وألوان وأشكال وأعضاء مختلفة ، وهكذا إلى ما لا نهاية "
وراح محمود أبو الجدايل يردد في سره ، مع أن الملكة تعرف ما يدور في سره :
" يا إلهي يا إلهي يا إلهي ، هل ما تزال في قلبي يا إلهي "
فوجئ بالملكة تهمس له "
" لقد حلت روح الله في قلبك يا حبيبي فاطمئن ولا تخف " !!
أقنع نفسه أن روح الله لم تكن في قلبه من قبل ! فأسلم أمره له .
*****************
حين أدركت الملكة أن الأديب أصبح طوع يديها راحت تنشد مغنية :
" الآن الآن يا حبيبي طاب المرام ، فارتشف من طل شفاهي قطرا ،وتذوق من رحيق ألسني شهد السماء ،واجرع من خمر نهودي كؤوس الثمالة ،والثم عيونا هي السحر هامت بالغرام "
رد عليها من قلب أثقلته صروف الدهر وراح يغرق جاهدا ليهيم بجمالها :
" دعيني يا حبيبتي أطهر جسدي من أرجاس كوكبي، وأغتسل بماء سمائك ، قبل الشروع في تجرع شهد المدام "
وخلال لحظات وجد الأديب نفسه يحمل على أكف سبع ملكات ليمددنه في حمام واسع من الألماس ،ويشرعن في غسل جسده بروح الند والنارنج والنردن ، ويدلكنه ، بشذا الفل والياسمين ، ويمسجن أصابع يديه وقدميه بعطر الزنبق والقرنفل ، ويضمخنه ، بالمسك والعنبر والنسرين .
أحس الأديب بجسده يكاد يطير وروحه تهيم محلقة في مطلق المتعة ، فتساءل :
" يا حبيبتي هل أنا الآن بين أيد ملكية أم بين أيدي الله أم بين أيدي حور العين "
أجابت الملكة :
" كل الأيادي يا حبيبي التي تحاكي جسدك وتدب بأناملها على عنقك وظهرك وكتفيك ،وتدلك صدرك وبطنك وفخذيك ، وتسحب أصابع يديك ، وتطقطق أصابع قدميك ، وتناغي مسامات جلدك ، هي أيادي محبوبتك فاتنة السموات ومليكتها ومليكة حور العين "
" يا حبيبتي ، أستحلفك بمن أوجد الكائنات ، أأنا في حلم أم يقين ؟"
" يا حبيبي ، وهل يثمل من يرتشف من شهد شفاهي ويتجرع من خمر نهودي في المنام ؟ "
" يا حبيبتي ، أنا لا أصدق نفسي من هول فرحي ، وفرط سعادتي ، بكل هذا البهاء وطيب الغرام "
" صدق يا حبيبي لتحيا بجمال الخالق والخلق ، وتحلق كما النشيد ، وتسمو إلى العلا ، وتغرق بكليتك في لجة الهيام "
" أخاف يا حبيبتي أن لا أنسى أوجاعاً ، حملتها معي من كوكب الإنس، فلا يتاح لي أن أسمو بكمال التوحد وروعة الإنسجام "
" سأنسيك يا حبيبي أفراحك وأتراحك وكل صورة حوتها ذاكرتك منذ ما قبل خلق الأنام " !
" خذيني يا حبيبتي إلى سريرك الملكي ، ودعيني اغرق في بحور هواك "
" تعال يا حبيبي إلى صدور أشرعت لضم الرؤوس وأجساد تاقت إلى طيب الوصال "
احتوينه واحتواهن ليغرقوا كلهم مع كلهن في الإحتواء :
يرضع هو ( وهم ) من ماء الكمال ، ومن إكسير الحياة ، ويجترع من خمر الجنة ، ويرتشف من رحيق الألسن ، وقطر الشفاه الوردية ، ويقبل سحر العيون والوجنات ، والشعور الحريرية ، ويلثم السرر المضوعة بالمسك ، والبراعم الفستقية العابقة بالندّ، وأصابع الأحلام ، والركب الساحرات ، ويحبو على الأرداف الزبدية المفوّحة بالعنبر ،والأفخاذ الديباجية ، والسيقان الماحقات ، فيما هي (وهن ) يفرّدن ويعددن أفعالهن ليداعبن أجساده من قمم رؤوسها
حتى أخماص أقدامها .
شرعا في الهمس التذاهني وهما يحاولان الغرق في متعة الوصال السباعي المتعدد المتوحد . همس الأديب :
" ساعديني يا حبيبتي لأنسى ما في ذاكرتي لأتوحد بطيب وصالك "
" اجرع من خمر الجنة وابدأ بمحو الظواهر الخارجية من خيالك يا حبيبي " !
" هل أبدأ بمحو الوجود " ؟
" أجل يا حبيبي ، انس الوجود ، وكل ما في الوجود ، انس الشمس والقمر ، النجوم والكواكب ، الفضاء والغمام ، الرعود والبروق ، الأمطار والوان قوس قزح ، الزلازل والبراكين ، السديم والسراب والندى . انس القارات والبحار والمحيطات ، الأنهار والينابيع ،الجبال والهضاب ، الجزر والشلالات ، الصحاري والغابات ، الوحوش والحيوانات ، الحقول والكروم ، الثمار والفواكه ، الورود والحبوب . إنس الثلج والماء ، البر والربيع والسهوب . انس الدلافين والأسماك والحيتان ، انس البلاد ! انس المجازر والحروب ، المدافع والصواريخ والطائرات ، الدبابات والمصفحات . انس السيوف والرماح والدروع والسهام . انس الجيوش والشرطة والمخابرات ، البوارج والطوربيدات ! السفن والغواصات وحاملات الطائرات .. انس يا حبيبي المدن والعواصم . إنس التاريخ ! إنس الأدب . إنس الفن .إنس الشعر! إنس الكتب ، وكل ما قرأته فيها "
" يا حبيبتي عقلي مثقل بألاف الأسماء وألاف الكتب وألاف الأبطال ،ومئات الشعراء والأدباء والفلاسفة والعلماء والمتصوفين والحكماء والآلهة والأرباب والحكايات والأساطير "
" إنس الأسماء .. إجرع من خمر الجنة وانس "
" أخاف أن لا ينسيني خمر نهودك ولا يسكرني "
" بل يسكر وينسي يا حبيبي ، لكني خائفة على عقلك أن يضيع "
" ليذهب عقلي إلى الجحيم إلا منك يا حبيبتي ، فدعيني أسكر بخمر نهودك حتى الثمالة "
" اجرع وانس يا حبيبي اجرع وانس "
" من هذه الملتهبة بين أحضاني يا حبيبتي ؟"
" أنا سارانيو يا سورياي وإندراي "
" آه يا حبيبتي ، أشم كل عبق الهند وجمال أشعار طاغور وروح الفيدا والأوبانيشاد من بين نهديك "
" انس يا حبيبي ! اجرع من خمر نهدي وانس "
راح الأديب يغرق في التحوّل والتعدد والنسيان ، وكلما ذكرت له الملكة اسماً نسيه ، وكلما تذكر هو شيئاّ نسيه ، إلا ما أرادا أن يتمتعا به ، فكانا يبقيانه إلى أن ينتهيا منه .
اختفت سارانيو من بين أحضانه ليجد نفسه يعانق هيلين الطروادية وليتحول خلال ومضة إلى باريس ويشرع في عناقها . ومع جسد ثان من أجساده السبعة ظهرت حورية راحت تلهب جسده بالقبل وهي تردد "يا حبيبي يا شمشوني " فأدرك أنها دليلة الفلسطينية ، فأبى أن يكون شمشوناً ، وهتف لها مصححا " بل أنا كنعان وجليات وعناق يادليلتي " وراح يغرق في بحر جسدها إلى أن رآها تنطفئ بين يديه لتظهر بعدها انثى خارقة الجمال راحت تصهل هائجة تحته كمهرة قطعت أعنتها . سألها من أنت ، فأجابت " أنا إستير يا احشويروشي " فصرخ " آه آه يقتلني صهيلك تحتي ، دعيني اتروّض برضع فرات نهديك ورشف رضاب شفتيك "
راحا يغرقان في هذا التحوّل والتعدد غير المـتناهي ، فقد تحولت الملكة إلى كليوباترا ونفرتيـي وإيزيس وزنوبيا ، وإنانا وعشتاروعناة ، وأفروديت ، وتحول هو إلى العديد من الملوك والقادة والآلهة الذين أنهاهم برع وأخناتون ، ليغرقا في لجة الغرام . وفيما كانا يتعانقان ويتقلبان على السرير الفسيح بأجسادهما المتعددة مرت في مخيلة الاديب شخصيته الأخرى الممثلة في الملك لقمان فاستحضرها في الحال بكل قدراتها الخارقة وخلال ومضة من الزمن كان ينهي تعدده وتعدد الملكة ليظهرها ليس في شخصية زوجته الملكة نور السماء ، بل في شخصية من بنات خياله ، هي ربة الجمال المخلوقة من مسك وعنبر وفل وقرنفل وزعفران وكافور ، والتي يبدو الماء من روحها وتبدو عظامها من خلال مائة ثوب من الحرير ! همس لها :
" يا حبيبتي يا ربة الجمال ، أخاف على رقتك ، أخاف على شفافيتك ، أخاف على جمالك أن يخدشه وصالي " أجابته :
" لا تخف يا حبيبي فوصلك نسيم وجسدي الظلال "
" آه لجمالك وكمالك وطيب طيب وصالك "
*********
شعر أنه بدأ يتخفف من عبء ما تحويه ذاكرته ولم يبق فيها إلا بعض صور الموسيقا والغناء . فأخذ بضع جرعات من خمر الجنة .
همست الملكة له متسائلة عما بقي في ذاكرته، أجاب أنه لا يستطيع أن ينسى الحزن ووجه أمه، ألقمته الملكة نهداً وهي تهمس " انس كل الظواهر المحسوسة والمجردة ، المرئية والمدركة من وعيك يا حبيبيي ، وارتد بذهنك وشعورك وكل حواسك إلى ظلماء دخيلتك وإلى أغوار نفسك "
" لكني أخاف أن أنسى جسدك الجميل يا حبيبتي "
" لن تتوحد تمام التوحد بجمال جسدي إلا إذا نسيت كل الظواهريا حبيبي ، وتوحدت بكل أحاسيسك وإدراكك مع نفسك "
" أنا هارب من نفسي يا حبيبتي وأنت تريدين أن توحديني معها؟"
" انس الكلام ، انس اللغة ، لتدرك ما هي النفس يا حبيبيي" !!
" وكيف سأذاهنك يا حبيبتي إذا ما نسيت الكلام ؟! "
" التذاهن الأكمل يا حبيبي لا يتم بتصدير صور الكلام من العقل إلى العقل "
" كيف إذن يتم يا حبيبتي " ؟
" ألم تر إلى الأطباق في البحر كيف كانت تلبي رغباتنا من الطعام بمجرد إحساسها برغبتنا
دون أن نصدر لها أية صور كلامية ، فهي لا تعرف لغة "؟ ! " " هيا يا حبيبي حاول أن تتوحد مع نفسك لتتوحد معي "!!
" هل تقصدين أن ألغي حواسي وعقلي " ؟
" إذا استطعت ذلك يا حبيبي أصبحت مثل الله ، فهو الوحيد القادر على أن يكون فوق الحواس والعقول ، وأنا لا أريدك أن تفقد عقلك الإنسي تماماً يا حبيبي" !!
" ليذهب عقلي والإنس جميعا إلى الجحيم يا حبيبتي "
" جرعت كثيراً ورضعت كثيراً يا حبيبي . مهلا يا حبيبي "
" ما زلت أدرك وجودي وأعرف بعض الكلمات يا حبيبتي "
" اجرع من خمر الجنة وارضع من ماء الكمال وإكسير الحياة .. رضعك فيه حياة ، فيه ألم ، فيه عذاب ، فيه عشق ، آه آه يا حبيبي "
*********************************
لم يعد الأديب يحس بنفسه وحتى مجرد وجوده الذي شعر أنه أخف من الريشة ! وقد فقد كل شيء حوته ذاكرته ليغدو أقرب إلى اللا شيء . وحين ذاهنته الملكة سائلة "من أنت يا حبيبي " أجاب تذاهنا " أنا العدم يا حبيبتي " !!
شعرت الملكة أنه بلغ حالة من الإنطفاء في الذات الكلية ربما لم يبلغها إنس ولا جان من قبل . وكانت متخوفة عليه من خمر الجنة الذي رضع منه كثيرا ، والذي لا تدري ما هي عواقبه على من يشربه ، خاصة وأنه الإنسي الأول الذي يثمل من خمرنهودها . وتخوفت من أن يدخل الأديب في تحولات قد لا تكون قادرة على التكيف معها ومواجهتها . سألته بعد أن رضع بضع رضعات ورفعت رأسه عن صدرها : " والآن من أنت يا حبيبي " ؟!
أوحى لها تذاهناً ببضعة أحرف أفادت معنى " أنا الرب "
ضمت رأسه إلى صدرها جاهدة قدرالإمكان أن تخفي دهشتها .وراحت تقبّل جبينه وعينيه ،وهي تهتف " ما أجملك ، ما أكملك يا حبيبي "
سألته بعد أن اجترع بضع جرعات أخرى " والآن من أنت يا حبيبي ؟"
ذاهنها كما في السابق بما معناه " أنا الحق "!!
ضمت رأسه بشدة إلى صدرها وفرحة عارمة تجتاحها واغرورقت عيناها بدموع ما لبثت أن انزلقت على وجنتيها ، وهي تدرك تمام الإدراك أنه راح يتوغل عميقا في التوحد مع الذات الإلهية .
كان يرضع لاهيا عما حوله وهي تملس براحة يدها على رأسه وتتغنى بجماله . .وتنبهت إلى أن وجهه تحول إلى جمال أخاذ تحيط به هالة نورانية . همست له " والآن من أنت يا حبيبي ؟ "
ذاهنها بثقة مطلقة " أنا الله " !!
احتوته بكل محبتها ، بكل أنوثتها ، بكل أحاسيسها ، بكل خلجات نفسها ، ودموع الفرح تنزلق مدرارا على وجنتيها . ولم تجد نفسها إلا وهي تتغنى بالجمال الإلهي "
" يا لجمالك وكمالك وكمالِ كمالِ الله يا حبيبي
يا لجمالِ جمالك وجمالِ جمالِ الله يا حبيبي
يا لكمالِ كمالك وكمالِ كمالِ الله يا حبيبي
الآن الآن يا حبيبي يا حبيبي طاب المدامُ المدامُ
ومدامُ مدامُ المدامِ !
طاب الغرامُ الغرامُ وغرامُ غرامِ الغرامِ
طاب العشقُ العشقُ العشقُ وعشقُ عشقِ العشقِ
طاب الهيامُ الهيامُ وهيامُ هيامِ الهيامِ
طاب التوحّدُ باللهِ وبجمالِ كمالِ اللهِ
يا لجمالك وكمالك وجمالِ كمالِ اللهِ يا حبيبي
***************
غرقت الملكة في ما يشبه الغيبوبة وهي تتوحد مع الأديب في ذروة الغرام وتتغنى بالجمال الإلهي ، وحين حاولت أن تستعيد وعيها وتتمالك نفسها ، وجدت نفسها فجأة أمام طفل ملائكي لا يتجاوز الثانية من عمره يرفل بثياب من السندس والإستبرق ويحتضن نهدها بيديه ويرضع
إكسير الحياة بكل براءة الأطفال ، راسما على شفتيه ابتسامة وادعة ساحرة وهالة نورانية تحيط برأسه ، مضفية نورا أخاذا على وجهه .ندت عنها صرخة خافتة وهي تحدق إليه ثم إلى الحجرة الماسية بدهشة بالغة . احتضنت رأسها بيديها وراحت تستجمع شتات ذهنها . أدركت أنها كانت تتوحد معه في شبه غيبوبة وهي تتغنى بجماله الإلهي وتغرق معه في لجة الهيام ولم تعرف ماذا جرى بعد ذلك . ماذا صارا ، ماذا كانا ، وماذا حدث ، لا تعرف ، وعبثا حاولت أن تعرف . أدركت أن الأمور خرجت عن يديها وعن طاقتها ، كما خرجت عن طاقة الملك ابليس نفسه . ، وأن الإرادة الإلهية تدخلت في الأمر . لم تعرف ما إذا كان عليها أن تضحك فرحة أم تصرخ باكية ، فمن كان حبيبها صار الآن ابنها . لم تجد إلا أن تحدق إلى الطفل وإلى جمال الطفل وإلى ابتسامته الربّانية ، وإلى الوداعة والبراءة اللتين يحتضن بهما نهدها ، وإلى فرحته بهذا النهد .
راحت تتأمل ابتسامته وقد عم شذاها أرجاء الحجرة الماسية ناثرا الإبتسامات على السقوف والجدران القوسية ، على الرسومات والمنحوتات والأيقونات والتحف ، على الورود والمقاعد والمناضد والنوافذ ، على الثريات المتدلية من سقف الحجرة .وشعرت بها تتسرب عبر النوافذ إلى الفضاء لتعم كل شيء ، حتى الأقمار والنجوم . وفجأة ظهرت مجموعة من النوارس محلقة حول القصر مقتربة من نوافذ الحجرة القابعة في الاعالي . تجرأت ملكة النوارس ودخلت الحجرة عبر النافذة وراحت ترفرف بجناحيها فوق رأس الطفل . ابتسم الطفل ومد يداً ملائكية
إلى ملكة النوارس . حطت الملكة على كتفه . ملس بيده على رأسها وهو يرضع ويبتسم . ملست النورسة بطرف جناحها خد الطفل . أشار بيده لها أن " روحي يا نورسة " طارت ملكة النوارس لتخرج عبر النافذة وتنضم إلى أسراب النوارس المحلقة لتقود تحليقها حول العرش الملكي ، فيما كانت أسراب من كافة أنواع الطيور تهرع عبر الفضاء لتحلق بانتظام حول القصر ، تبعها أسراب من الخيول والظباء والدلافين والأسماك وكافة أنواع الحيوانات وراحت تحلق بانتظام حول القصر السامق في الأعالي . وأقبلت من الجهات أسراب من الورود والأشجار والنباتات ، وأسراب من العنب والبرتقال والتفاح ، وأسراب من الخضار ، وراحت تحلق بانتظام حول القصر وحول العرش .. وأقبلت أسراب من الحجارة والأطباق والصخور ، وأسراب من اللجين والزمرد والياقوت ،وأسراب من الشموع المتقدة وشعل النيران ، وأسراب من الندى والضباب والسحاب ، وأسراب من المنحوتات والأيقونات ، وأسراب من الألوان والإبتسامات ،وأسراب من الدموع والفراشات . وأسراب من اللغات والألحان . وأسراب من الرجع والظلال ، وأسراب من الصهيل والهديل والغناء ، وأسراب من الحروف والأشعار ، وأسراب من الرائحة والذوق والإحساس والشعور ، وأسراب من أضغاث الأحلام ، وأسراب من العدم والسراب والأماني ، وراحت كلها تحلق بانتظام حول القصر احتفالا بمن أختير ليكون ابنا للسماء !!!
***************
اندفعت ملكة اليمام حاملة بمنقارها نرجسة بيضاء وراحت ترفرف فوق الطفل والملكة الذاهلة الحائرة . ابتسم الطفل لملكة اليمام ومد لها يده الصغيرة . ألقت بالنرجسة على خده وحطت على كتف الملكة ومدت رأسها . ملس الطفل عليه بأنامله دون أن تفارق الإبتسامة شفتيه ، ودون أن يفلت حلمة النهد ، وروعة البراءة . رفرفت اليمامة ولامست بطرف جناحها جبين الطفل. أشار لها الطفل أن "روحي يا يمامة " رفرفت ملكة اليمام بجناحيها وطارت عبر النافذة لتحلق مع سربها ومع الكائنات حول العرش السامق في الأعالي .
اختلج الفرح في قلب الملكة وابتسمت ، فيما كانت ترقب من النوافذ فرح الكائنات المحلقة حول العرش ، ومدت يديها لتحضن الطفل ، وما لبثت أن دمعت ، ليمتزج فرحها بالحزن ، وليتساوى فرحها مع الحزن ، كما يتساوى في مملكتها السماوية الليل مع النهار ، والنور مع الظلام !!
أفلت الطفل النهد من فمه واندفع على صدر الملكة مشرعا يديه ليعانقها . احتوته بأن ضمته إلى روحها بكل الوله ، وكل الفرح الحزن ، وكل الحنان ، واحتواها بأن طوق عنقها بيديه ، بكل البراءة ، وكل المحبة ، وكل عشق الأمومة ، وكل فرح الطفولة ، وكل الألوهة ، وكل ما لن تعبر عنه الكلمات ولا الأغاني .
اندفعت كوكبة من الورود الجورية والياسمينية والندية والنردية عبر النافذة ، وراحت تحلق راقصة في فضاء المخدع الملكي . رفع الطفل رأسه عن عنق الملكة وابتسم للورود ، ومد يده ملوحا لها .هبطت نحوه باقة جورية حمراء ، مد الطفل أصابعه ليلامسها ، فلان الشوك الجوري وانثنى أمام أصابعه ، وأحنت الورود زهورها وذاهنته هاتفة " عليك يا ابن الله السلام "
لم تدرك الملكة تذاهن الورود مع الطفل ، غير أنها أحست من بهجة الكائنات أن من كان حبيبها وصار الآن ابنها ، غدا ابناً لله وحبيبا للسماء .
************
ذاهنها الملك إبليس من أعماق البحر غاضباً :
" ماذا فعلت بابن الإنس أيتها الملكة ؟ "
ذاهنته بكل الحزن الفرح :
" لا أعرف يا مليكي اقسم بإلهي الحبيب إنني لا أعرف ، فقد فقدت السيطرة على نفسي، وغبت عن الوعي حين بلغ ابن الإنس كمال كمال الكمال وصار الله دون إرادتي ، ليغرقني في بحر حبه ، ويوحدني مع بهاء كماله ، قبل أن يصيره الله طفلا ملائكياً "
أجاب الملك بلوعة :
" يا حسرتي ، فهل أفرح أنا أيضا أم أبكي ، جئت بابن الإنس ليشهد على براءتي من الغواية أمام الإنس ، فأغواه سحر جمالك ، وأعاده خمر الجنة المتدفق من صدرك إلى طفل لا يفقه ولا يدري "
" بل مشيئة الله يا مليكي من أعادته طفلا وليس خمر الجنة ولا ماء الكمال ولا إكسير الحياة ولا سحر جمالي ، فلا تقنط من مشيئة الله جل جلاله السامي "
" أستغفره واتوب إليه ، سبحانه . أدرك ذلك أيتها الملكة ، لكنه لم يكن ليحدث ، لو لم آت بابن الإنس من الأرض ، ولم أعرفه عليك ، وأتيح لك أن تصحبيه إلى عرشك السامق في الأعالي "
" كانت رغبته يا مليكي ، اقسم أنها كانت رغبته في أن ينسى الأرض وينسى الإنس ، وينسى القتل ، وينسى الهموم والأحزان ، فمن الله عليه بأن أراه نفسه ،وصيره مثلها ،ثم أعاده إلى الطفولة ، ليحيا ثانية الفرح الطفولي وعشق الأمومة والأمان "
" يا حسرتي ! من سيشهد على براءتي عند الإنس ، لعلهم يكفون عن لعني وشتمي ورجمي ، هل أنتظر إلى أن يرأب ابن الإنس ثانية ويطوي سني الأرض أو أيام السماء "؟!
" لا يا مليكي . لا أظن أن ابن الإنس سيعود إلى وعيه الإنسي حين يكبر ، تكفيك محبة الله وكائناته فلا تنقصك محبة الإنس الذين أفسدوا في الأرض وعاثوا فسادا "
" بل تنقصني أيتها الملكة ، فأنا لا أحتمل أن يكرهني خلق من مخلوقات الله "
" يا مليكي لا تقنط من رحمة الله وانتظر أن يأتيك الله بآياته ، وانظر إلي وارأف بحالي ، فماذا تفعل من هي مثلي وقد فقدت تعددها وصار حبيبها ابنها ، وعليها أن ترضعه من ثدييها وتكون له أما رؤوما دون ان تفقد املها بالله أكبر الرؤومين والرؤفاء ؟"
غير أن الملك ابليس لم يحتمل وطأة الإنتظار ، وحاول أن يقنع نفسه بالفرح ،وأن يخلد إلى الطمأنينة ، فقد راح يشعر في قرارة نفسه أنه غرر بالأديب حين صعد به من الأرض ليشهد على براءته من غواية الإنس ، فلم يجد إلا أن يشرع في البكاء ،ويلغي الإحتفال برأس السنة ، لتحزن له في ممالكه كلها ، الكائنات ، لكن دون أن تفقد فرحها ، فقد تساوى فيها الحزن والفرح . وحده ابليس كان حزيناً ، دون أن يجد الفرح إلى نفسه سبيلاً.
انتقل بلمح البصر من أعماق بحره المعلق في السماء ، إلى حجرة الملكة ، ليظهر إلى جانب السرير، ويمد يديه ليأخذ الطفل ،ويحدق إليه ملياً ، ويهتف بحزن وألم والدموع تنحدر على وجنتيه :
" معذرة أيها الأديب . اقسم لك بالله أن لا شأن لي في ما حدث ، فهل تصدقني القول ؟"
ابتسم الطفل ومد يده وشرع يمسح دموع الملك . تفجر الحزن في قلب الملك وخالج شفتيه طيف ابتسامة ارتسم عبر الدموع ،وضم الطفل إلى عنقه ،واحتواه بكل ما في قلبه من محبة لله ومخلوقاته .
همس إلى الملكة وهو يضم الطفل :
" لو أعرف أني أرضي وجه الله لحاولت بقدراتي أن أعيد الطفل إلى رجولته وحالته الإنسية "
هتفت الملكة بخشية من الله وريبة في النفس :
" لا يا مليكي أرجوك ، أتوسل إليك ، أن لا تقف ضد مشيئة الله رب الأنام "
" لن أقف أيتها الملكة ، لن أقف ضد مشيئة الله ، فصبر جميل والله المستعان "
*******
ازدحم الفضاء حول القصر بآلاف النوارس واليمام والقطا ، وآلاف الكائنات المختلفة وراحت تحلق بانتظام حول القصر احتفاء بطفل السماء .
أشرع الطفل يديه نحو النافذة وهو يرقب جانبا من الطيور المحلقة .هتفت الملكة إلى الملك :
" أطلق يا مليكي الطفل إلى الكائنات لتزفه "
قبل الملك الطفل على خده وأطلقه في فضاء الحجرة الماسية .
طار الطفل محلقاً واجتاز النافذة .. أفسحت له النوارس واليمامات والطيور ممرًا بينها في الفضاء ، فاندفع عبره يحف به الكون والكائنات وراحت كلها تزغرد للطفل وتقيم له معراجاً
لولبيا في السماء .
طارت الملكة عن السرير محلقة بثياب من السندس الأخضر الأبيض الموشى بالسواد ، واندفعت خلف الطفل ، فانفع معها الملك محلقاً بذات الثياب . وارتدى الملائكة والحوريات والجنيات ذات الثياب ، إيذانا ببدء الفرح الحداد ، ليتساوى في مملكة السماء الحزن مع الفرح
كما يتساوى الليل مع النهار ، والنور مع الظلام .
دار الكون ، كل الكون ، في الفضاء ، حول القصر السامق في الأعالي ، محتفيا بابن السماء .
تتبعه الملكة والملك وتحف به ملكات حوريات الماء وحوريات السماء ,وملكات الكائنات .وسط صدح الموسيقى السديمية ورجع زغاريد السماء وشدو الكون بالأغاني وتموجات الألوان .
أفردت ملكة النوارس جناحيها للطفل فامتطاها .. وطوق عنقها بيديه وراح يضحك يضحك يضحك .. فضحك الكون والكائنات ..
مدت ملكة اليمام جناحين من حرير موشى بألوان الفرح الحداد وذاهنت ملكة النوارس راجية أن تتيح لها الإحتفاء بابن السماء .
انزلقت ملكة النوارس من تحت جسد الطفل ليحط على ظهر ملكة اليمام ويملس بيده على رأسها
المموج بريش من السندس الأخضر الأبيض الموشى بالسواد .
تشكلت ملكة الورد في جسد حورية لها أجنحة من قرنفل وزنبق وياسمين . ودع الطفل ملكة اليمام وألقى نفسه بين أحضان ملكة الورد ، ضمته إليها وقبلته على اليدِّ ،وذاهنته راجية قبلة منه ، فقبلها على شامة في الخدِّ .
استبقت ملكة الضفائر المعراج وأشرعت أجنحة من ذؤابات وخصل وضفائر ، وأشرعت أحضانها للطفل . ودع الطفل ملكة الورد واستكان إلى حنان الضفائر . لثمت الذؤابات جبينه فلثم أهداب الذؤابات .
هفهف النسيم محلقاً بأجنحة من الطلّ ليتمرغ الطفل بأحضان النسيم ، قبله النسيم على خده فقبل خد النسيم . غارت من النسيم الظلال فتشكلت في جسد حورية من ظلال ، وذاهنت ملكة النسيم أن تمنحها ابن السماء . أفلتت ملكة النسيم الطفل وتنحت ، لتحتضن الطفل الظلال ، وتغمره بقبلات من ظلال .
أفردت ملكة العشب جسدها بساطا ربيعيا مزهراً لموكب المعراح السماوي . تدحرج الطفل عليه محفوفا ببحور الشعر ، والقوافي ترف عليه ، والألحان تناغيه ، والأشعار تداريه ، وتمطر خديه بقبل القوافي ، فطفق هو يلثم حروف القوافي ، لتغرق ملكة الشعر في الفرح ،وترقص ملكة العشب ابتهاجا ، ولتحلق ملكة الألحان بالألحان لتلف الكون والمعراح.
ذاهنت ملكة الألوان الملك راجية أن يتيح لها نزع ألوان الحداد ، لتصبغ المعراج لبرهة بالألوان . أذن الملك لها بالبرهة كرمى لابن السماء ، أشارت بحركة من يدها وشمخت برأسها وارتعشت ، فأضفت على المعراج كل الألوان . تضرج الكون ، كل الكون ، وتلألأ بالألوان الألوان ، وراح يلثم عيني الطفل ، فلثم الطفل عيون الألوان .
أبرقت ملكة السراب من أفق عانقت فيه السماء كثبان الصحراء ، فبدت وكأنها بحر سطعت عليه أشعة وضاء ،حسرت الألوان ألوانها ليلف المعراج السراب بألوان الحداد ، قهقه الطفل ، والسراب يدغدغه ، فقهقه الكون والمعراج .
انتفضت ملكة السديم وذاهنت السديم .احتشد السديم مزغرداً من كل فج ، وشكل هودجا للطفل يقله براق ، وتحف به فراشات من سديم مهاق ، اعتلى الطفل الهودج باسما فانطلق البراق . ضحك الطفل ولوح للكائنات بيد مهراق !
طفح الكيل من السديم بالينابيع والشلالات والأنهار ، فصبت على جانبي طريق المعراج مطرا هراق . تمايل سنا أسراب شعل النيران وتراقصت حوريات الماء في ماء رقراق ، وحلقت في سماء المعراج أسراب القاق ، فضجت القلوب والحروف والقوافي والأطباق بالقافات ، فضج الكون والكائنات بالمرح والجنون والقيق والقاق ، وبين السديم وطفل السماء طاب في الهودج على أحنحة البراق العناق .
هاجت في الأكوان المحيطات ، وثارت الدلافين والأسماك ،وتلاطمت على الصخور الأمواج ،والتجت مياه البحار، ومخرت الحيتان العباب ،وفاضت على رمال الشطآن اللجاج ، ومارت في الأفلاك أقمار ، واضطربت في السموات كواكب ونجوم ،والتمعت بروق وقصفت رعود وناحت كلاب وعوت ذئاب وثغت معز وماءت قطط وحنًت نوق ورغت نعاج ، وتذاهنت وحوش مع طيور ونباتات مع خيول ، وماد في الكواكب أديم واصطخبت حول القصر أصوات عجعاج ، وأقبلت من المشارق أعاصير وهطل من المعصرات مطر ثجاج ، وسفت الريح في الصحاري الرمال ، فعلت في الفضاء عواصف وارتفع العجاج ، وتأججت في السماء شعل النيران ، فاضطرم الأجاج ، وهدلت حول العرش أسراب اليمام ونعق البوم ونعب الغراب ،وشدت النوارس والحداء ،وغضب العنب والبرتقال ، وانفجر العدم بالبكاء وتصدع في مرايا النفوس الزجاج .وهامت في كواكب الإنس أرواح وانتفض في الأجداث رميم العظام ، وأطل على الأكوان نور نبي وأشرق في السحاب وجه يسوع وخيم على السماء جلال العذراء ، وهتفت باسم دمشق الجراحات ، وأشرعت للطفل حضنها سيناء ، وأحنت لبوذا أغصانها الأشجار ، وكبر لاوتسه باسم التاو ،ولاح في الغيهب السحيق وجه براهمان ،وسبح باسم أهورا مازدا وإندرا ،مترا وأهرمان وزرادشت والنار ، وأّنّ في أعماق الأرض تراب الشيرازي والكندي وابن العربي وابن الفارض والجيلي والخيام ،وصرخ باسم الله رفات الحلاج . فالتعجت
في جروح دمشق اللواعج واعتلج في قلوب الملحدين المؤمنين والمؤمنين الملحدين اللعاج ، وذرف جبريل والملائكة عدا اسرافيل في عرش الله الدموع وازدحمت في مملكة السحر الكائنات ، ليعم الكون الإحتجاج ، فتلجلج في طريق الموكب السماوي المعراج !!
تذاهنت الكائنات في كل ممالك الملك إذعاناً للمشيئة الإلهية آبية الفرح الحزن ، وثائرة على ألوان الحداد ، فتذاهنت مع الكائنات الأكوان ، ليطرق التذاهن الكوني أذهان الملكات . أسرت الملكات بالتذاهن إلى مليكة السماء وفاتنة السماوات . خاطرت الملكة الملك متوسلة :
" لب يا مليكي رغبة الكائنات في إلغاء الحداد إلى الأبد ، فهي لم تعتد الفرح الحزن ولم تعرف ألوان الفرح الحداد !وأوقف يا مليكي الزمن لثانيتين سماويتين والغ حدود الأمكنة ، وقارب بقدرة الله الممنوحة لك ما بين المسافات والمسافات ، لتشهد الفرح بابن السماء كل الأكوان السماوية والكائنات .
اختلجت شفتا الملك بابتسامة واغرورقت عيناه بدمع وأوحى إلى الكون والكائنات ، من قلب لم يعرف الكره يوما ،ولم يخفق إلا بمحبة الله ومخلوقاته والآيات :
" بسم إلهي الحبيب ، الواحد الأحد ، الصامد الصمد ، الذي لم يولد ولم يلد ، ولن يكون له كفوا أحد : ليقف الزمن ! ولتلغ حدود الأمكنة ، ولتقرب المسافات ، ولتخفض الشموس حرارتها ، ولتهمد الزلازل ، ولتخمد البراكين ، ولتهدأ العواصف ، ولتسكن الريح إلى الظلال ، والنسيم إلى السراب ، وليعم الفرح وحده الكون والكائنات "
نهضت من أسافل الكون أراض ، ودنت كواكب من كواكب ،وفضاءات من فضاءات ، وشموس من شموس ، وأقمار من نجوم ، وشهب من مذنبات ، وهبطت السماوات ، سماء اثر سماء ، لتهبط السبع السماوات !
وارتفعت مياه البحار والمحيطات والأنهار ، ليلف الكون الماء ، وليختلط الفضاء باليابسة والبحار ، وليختلط الجن بالملائكة ، وحور العين بالجنيات ، ومخلوقات البر بمخلوقات البحر ، والطيور بالنباتات والورود بالقبرات ، وأديم الأعماق بسديم الفضاء ، لتختلط كل الكائنات بكل الكائنات ، وليقف الزمن ، وتقرب المسافات ، وتهدأ العواصف ، وتخمد البراكين ، وتخلد الريح إلى الظلال ،والنسيم إلى السراب ، والحروف إلى الكلام ، والنور إلى الظلام .. ليفرح الكون ، كل الكون ، والأحلام والإدراك ، والندى والضباب ، والبنات والشباب ، والآباء والامهات ، والأجداد والجدات ، والصغار والصغيرات ، وأبناء الأرضين وأبناء السماوات ، لتغرق كل الكائنات ، بكل الكائنات ! في مكان ليس مكاناً ، خارج الزمن ، وبلا حدود ،حول المعراج ، في السماء ، تحت الماء ، وبين قناديل من نجوم ، وأقمار سابحات ، وبصحبة النار ، والنور والظلام ، ترعاها عيون الله ، مبدع الخلق والمخلوقات .
*************
نهاية الجزء الأول.
* ما جاء في هذا الفصل هو ملخص مكثف للملحمة الأدبية "غوايات شيطانية ، مع قليل جدا من التحريف".
















#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسفار التوراة (6) قراءة نقد وتعليق . أمثال .الجامعة. نشيد ال ...
- * رجل مسيء خير من امرأة محسنة ارتكبت خطأ !
- * الرعب والهلاك ينبغي انزالهما بالأمم لتعرف أن لا إله إلا ال ...
- * عينا الرب أضوأ من الشمس عشرة آلاف ضعف ! وداعا أيتها الشمس ...
- سفر يشوع بن سيراخ 26/2/ فصل 151:يفترض أن الرب قاس الأرض بالم ...
- سفر يشوع بن سيراخ 26/1 فصل (150) شطارة الرب في إحصاء رمال ال ...
- تألق الخطاب الملحمي بين الشاعرية والتاريخ في - زمن الخيول ال ...
- أسفار التوراة (5) قراءة نقد وتعليق . يهوديت .أستير . مزامير
- أسفار التوراة (4) قراءة نقد وتعليق. ملوك ثاني. أخبار أيام أو ...
- سفر الحكمة 25/4/ فصل : 144: إله يتمتع برؤية الدم يملأ كل مكا ...
- - ترانيم الغواية - في مدينة السماء : موطن الآلهة ومقام الأمم ...
- سفر الحكمة 25/3/ فصل 143: اختلاط الحابل بالنابل ويهوة بالمسي ...
- سفر الحكمة 25/2/ فصل 142. أكبر خطأ ارتكبته الكنيسة هو دمجها ...
- سفر الحكمة 25 /1 / فصل / 141. الشيطان اللئيم لعنه الله هو من ...
- نشيد الأنشاد 24/2/ فصل 140. العروس تدخل جنة سليمان وتأكل شهد ...
- سفرنشيد الأنشاد /24 /1 / فصل 139. بنات صهيون ينظرن إلى سليما ...
- ترقبوا سفر نشيد الأنشاد الذي هام به الشعر والشعراء والأوغاد ...
- سفر الجامعة 23 /2 / فصل 138. لم يجد سليمان المرأة التي تطلبه ...
- سفر الجامعة 23 /1/ فصل 137. الكنيسة ترى أن سليمان تاب وعاد إ ...
- سفر أمثال /22/4 /فصل /136. الجاهلون مغضوب عليهم عند سليمان .


المزيد.....




- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - رحيل معلن إلى رحاب المطلق الأزلي ! رواية . الجزء الأول