أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد سالم - مصر عبد الوهاب البياتي















المزيد.....

مصر عبد الوهاب البياتي


خالد سالم
أستاذ جامعي

(Khaled Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 4861 - 2015 / 7 / 9 - 16:11
المحور: الادب والفن
    


"لكنها تدور"

مصر عبد الوهاب البياتي
د.خالد سالم
خمسة عشر عامًا مرت على وفاة عبد الوهاب البياتي، الشاعر العراقي الذي عشق مصر مثل معظم مجايليه من المثقفين العرب، مصر الحلم، مصر عبد الناصر التي تبدلت بها الحال نحو الظلمة على مدى العقود الأربع الماضية. كان حلمًا بالعودة للعيش في أرض الكنانة التي مارت الأرض تحت قدميها بدءًا بارتباكات منتصف السبعينات، بأن تسترد قواها وتنهض من الرماد كالعنقاء لتحلق في الأفق.
روادت البياتي أحلام فترة عاشها في ظل الناصرية، إذ كانت منفاه وحاضنته الرؤوم عندما لاذ بها من الظلم والاضطهاد السياسي في العراق. وهذا أمر لم يقتصرعلى البياتي فقد سار عليه أدباء كثيرون، ولعل اختيار نازك الملائكة القاهرة منفى اختيارًا له منذ عام 1990 حتى وفاتها، كان نموذجًا آخر في هذا السياق. لترحل منها مثلما بدأت الشعر الحر بقصيدتها الشهيرة "الكوليرا"، لتكون نبراسًا لمفجري الشعر الحر في مصر والعراق.
عندما سافرت للدراسة في مدريد، في مطلع الثمانينات، علمت صدفةً من زملاء دراسة عراقيين أن "الشاعر العراقي" عبد الوهاب البياتي ألقى محاضرة في جامعتنا، جامعة مدريد أوتونوما، عن تجربته الشعرية. اندهشت لوصفه بالعراقي، وتصورت أن هذا الأمر يدخل في مسار سلب مصر كل ما لديها من أمور طيبة بسبب ما أهاله سياق كامب ديفيد وجبهة الرفض من تراب على مصر. كان الجو خانقًا لنا لكل مصري غادر حدود بلده. كان البياتي قد عاش سنوات طويلة في القاهرة في الخمسينات والستينات. وظل عالقًا في ذهني، منذ صغري، أن البياتي مصري لتوارد اسمه ونتاجه في صغرنا وكأنه من أرض الكنانة. بعد تلك الواقعة مع زملائي العراقيين التي أدركت فيها عراقية البياتي، جاء الروائي الإسباني خوان غويتصولو إلى الجامعة لتقديم آخر أعماله، رواية "مقبرة"، ولفت انتباهي بأن العنوان نسخ للكلمة العربية بحروف لاتينية.
لم يكن غويتصولو من بين المشاهير سنتئذ، 1982، فالكبار، بموجب دراستنا في كلية الألسن، كان أولئك الذين تركوا رصيدًا أدبيًا لا يتحرك، جراء رحيلهم، أما الأحياء، وخاصة الشباب منهم، فلا يعتد بهم. كنا قد توقفنا عند أنطونيو ماتشادو وخوان رامون خيمينيث.
وبفضولي وتشبثي العربي بمن يبتسم في أوجهن حضرت محاضرة خوان غويتصولو واتفقت معه على اجراء مقابلة معه دون أن أدري أين سأنشرها وصاحبني صديق مصري، كان يراسل صحيفة لندنية، لكنه مثلي لم يكن يعرف عنه شيئًا.
بعد أيام هداتني قدماي إلى المركز الثقافي العراقي حيث كان يصدر مجلة "دجلة Tigris" بالإسبانية وتركت لهم المقابلة بعد تفريغها. رحلت دون أن أدري مصير تلك المقابلة، بعد أن رحب بي القائم عليها سنتئذ الدكتور محمود الأغا والدكتور خيري الزبيدي. في اليوم التالي التقيت صدفة بالبياتي وأبلغني أن مقابلتي ستُنشر في دجلة، لكنني لم أعر الأمر اهتمامًا حتى أخبرني لاحقًا أن العدد صدر وفيه مقابلتي لخوان غويتصولو ولي مبلغ من المال في المركز الثقافي. المفاجأة كانت عظيمة، إذ كانت أول مرة أنشر فيها بالإسبانية في تلك السن الغضة وكانت المكافأة تقترب من قيمة المنحة الدراسية!
تيقنت أن عبد الوهاب البياتي لم يكن مصري المولد ثم اكتشفت أنه مصري الهوى، ظل يحلم، طوال العقد الذي أمضاه في مدريد، بالعودة للعيش في القاهرة. كانت مصر كالحكاية الشعبية المصرية حول النداهة.
ظلت مصر عبد الناصر تسكن روحه طوال تلك الفترة، يحلم بها، وبثورتها التي قال عنها: "يا جيل الهزيمة... هذه الثورة/ستمحو عاركم وتزحزح الصخرة/وتزع عنكم القشرة/وتفتح في قفار حياتكم زهرة". واختتم قصيدته إلى "عبد الناصر الإنسان"، فاتحة ديوانه "سِفر الفقر والثورة"، في منتصف الستينات، بأبيات تنضح حبًا لزعيم العرب:"وهذا الثائر الإنسان عبر سنابل القمح/يهز سلاسل الريح مع المطر/مع التاريخ والقدر/ويفتح للربيع الباب/ فيا شعراء فجر الثورة المنجاب/قصائدكم له، لتكن بلا حُجّاب/فهذا المارد الثائر إنسان/يزحزح صخرة التاريخ، يوقد شمعة في الليل للإنسان".
كان عبد الناصر قد احتل فاتحة ثالث دواوينه، "المجد للأطفال والزيتون"، بقصيدة "أغنية من العراق إلى جمال عبد الناصر"، استهلها مغردًا:"باسمك في قريتنا النائية الخضراء/في العراق/في وطن المشانق السوداء/والليل والسجون/والموت والضياع/سمعت أبناء أخي باسمك يلهجون/فدى لك العيون/ يا صانع الربيع للقفار... يا صانع السلام/والرجال/يا جمال/وواهب العروبة الضياء/ومنزل الأمطار في صحراء/ حياتنا الجرداء، يا رجاء/ عالمنا الجديد/وفجرنا الوليد". ما أشبه اليوم بالبارحة يا عراق البياتي!
وعن قاهرة المعز يغني في الديوان نفسه، المجد للأطفال والزيتون، قائلاً:" يا ثورتنا المشتعلة/يا قناديل حياة مقبلة/يا شعارات رفاقي الظافرة/ لك قلب القاهرة/لك-مذ أيقظه الحب-يغني/للملايين الحزينة/وهي تصحو-بغتة- من نومها/وتروي أرضنا في دمها/أرض زهران ومبكى أم صابر/وشاحًا أحمرًا للنيل ملقى فوق شاعر/حطمت قيثاره بالأمس أيدي الغجر/ورياح الضجر".
كان حلم البياتي بمصر العربية يتملكه فيحجب الواقع المر عنه أحيانًا، وكنت أحاول أن انقل إليه الصورة في كل زيارة لأرض الكنانة، فكان يئن ثم يواصل طريقه. كان يعلم، تحت وطأة الحرب العراقية الإيرانية، أن نداء العودة إلى بغداد يتربص به، الرجوع إلى واقع لم يشارك في صنعه، واقع تدمير العراق في حرب مجانية أسيلت فيها أنهار من الدماء عبر جسور من المال والسلاح صنعها الشرق والغرب للقضاء على العراق اليافع، وكلاهما له غرض في نفسه.
ذات مرة- أظن أن هذا كان في عام 1988- التقيت بالكاتب الصحفي الراحل طلعت المرصفي في مؤتمر، في مدينة تيرويل. كان سنتها يعمل في صحيفة "العرب"، قبل أن ينتقل إلى "الشرق الأوسط"، فاقترحت عليه زيارة مدريد ومقابلة البياتي.هام الشاعر في عشقه لمصر وأخذ المرصفي ينظر إليّ وسألني بنظرته: ما المخرج؟! ألا يدرك التحول الجذري على مصر فأبعدها تمامًا عن تلك التي عاشها؟ وأدرك البياتي حرجنا، فقال إنني أحب مصر في كل صورها، وأعرف أن مصر الثمانينات ليست مصر الستينات.
هواجس البياتي أصبحت واقعًا فقد استدعي إلى بغداد، في ربيع عام 1990، وحدث غزو الكويت وتبعاته، ثم توفيت ابنته نادية في الولايات المتحدة الأميركية، فسافر على أثرهذه الفاجعة وظل مع أسرة فقيدته فترة وجيزة ثم عاد ليستقر في عمّان سنوات ثم غادرها إلى دمشق بدعوة من الحكومة السورية حيث توفي هناك ودُفن على مقربة من قبر محيي الدين بن عربي حسب وصيته.
خطوب رحلته إلى أميركا لزيارة حفيديتيه ومحطتاه في عمّان ودمشق قبل الرحيل جعلتني أتفهم أمورًا في سياق عشقه لمصر التي لم ينته عند عبد الناصر بل طال لحظات تاريخية مثل الدور البطولي لبورسعيد في أثناء العدوان الثلاثي:" على رخام الدهر، بورسعيد/قصيدة مكتوبة بالدم والحديد/قصيدة عصماء/قصيدة حمراء... على جبين الشمس، بورسعيد/مدينة شامخة الأسوار/شامخة كالنار/كالإعصار/في أوجه اللصوص/لصوص أوروبا من التجار/من مجرمي الحروب/وشاربي الدماء.
ذكريات البياتي عن مصر والمصريين كانت موضع حديثنا في أسمارنا وسط العاصمة الإسبانية، فعلى ذكر بورسعيد، أخبرني ذات مرة إنه خلال منفاه في بيروت عمل محررًا في وكالة أنباء الشرق الأوسط، وكان السادات في زيارة لهذا البلد، بعد العدوان الثلاثي على مصر، فعرج على المكتب حيث أعطاهم نصائحهم للعمل في تلك اللحظات العصيبة وشد من أزرهم. وفي موسكو تعرف إلى حسني مبارك في مقهى كان يرتاده عسكريون مصريون يتلقون دورات هناك. وعندما أصبح رئيسًا لمصر توسم فيه خيرًا بعد القطيعة العربية لمصر على إثر كامب ديفيد، وتوقع أن تعود مصر إلى سياقها العربي.
أذكر ذات مرة أن زوجه السيدة هند، أو أم علي كما كان يناديها دائمًا، حسب روايتها في حضور البياتي، أنها كانت وراء تغيير تسمية الخليج الفارسي إلى الخليج العربي في خطابات عبد الناصر التي كانت تسحر البشر من المحيط إلى الخليج. إذ قالت إن الرئاسة دعتهما، ضمن المدعوين، على الاحتفال بمناسبة سياسية ألقى فيها الزعيم خطابًا وتحدث فيه عن الخليج الفارسي. وعندما اصطف الحضور لوداع الرئيس عبد الناصر توقفت أم علي أمامه وعاتبه على تسميته للخليج بالفارسي، فما كان منه إلا أن وعدها بأنها آخر مرة يستخدم فيها هذا المصطلح وقبلها من رأسها، وهكذا كان.
ممازحته لي عن مصر كثيرة، لكن قفشاته وطرائفه كان يحكيها دائمًا بحب ومودة. من الطرائف التي حكاها تلك المتعلقة بلقاء مع ناقد معروف، من أسرة معروفة في دنيا الثقافة، ر.ن، إذ اتفقا على موعد في وسط البلد. تأخر صديقه الناقد كثيرًا، وبعد ساعات ظهر، مبررًا تأخره بعمل طارئ في مطبوعته. بعد قليل وصل أحدهم وتكلم مع الناقد عن لقائه بالممثلة الجميلة التي التقاها على غير موعد سابق منذ قليل! المزحات كثيرة عن فترة حياته في القاهرة وبعض الزملاء الذين درسوا قبلي في مدريد.
التعبير العراقي "خوش ولد" كان سيمًا بيننا كي أهتم بمن يقدمهم إليّ من المثقفين العرب والإسبان والأمريكيين الللاتينيين من خلال لقائاتنا على مقهى "فويما"، في قبل العاصمة الإسبانية، أو من خلال المراسلة. من خيرة من قدمهم لي عبر المراسلة مجنون العرب حسن توفيق الذي ظل يذكر البياتي في كل لقاء حتى توفي الصيف الماضي بعد رحلة ثقافية طويلة أمضاها في الدوحة امتدت ثلاثة عقود، والكاتب الصحفي مصطفى عبد الله والروائي جمال الغيطاني. مر علينا كثيرون في مدريد لكن العلاقة كانت تنتهي مع أمسية واحتساء فنجان قهوة واحد يذكره بالقهوة العربية.
رحل البياتي دون أن يعاود العيش في أرض الكنانة، تيمنًا بفترة صنعتها قصائد الشعراء العرب، أكثر من أي بلد عربي آخر، بينما كانت دمشق، بما تبقى لديها من حس قومي حينئذ، لماحة فاحتضنته في آخر سني عمره ليدفن إلى جوار محيي الدين بن عربي



#خالد_سالم (هاشتاغ)       Khaled_Salem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انتحار جماعي عربي
- كذب المثقفون ولو صدقوا!
- مرثية رفائيل ألبرتي إلى الفلسطيني وائل زعيتر
- ذكريات الشباب مع الشيخ أبي اسحق الحويني
- رحيل إدواردو غاليانو دون التعرف إلى شهرزاد ولا الدراسة في قص ...
- وماذا بعد أن أصبح العرب مفارقة زمنية كريهة؟!
- العرب في مرآة ملوك الطوائف في الأندلس
- كراهية أوروبا للإسلام نصنعها بأيدينا
- قراءة معاصرة لمسرحية تمرد شعب الإسبانية بمناسبة مهرجان البرا ...
- الموت المجاني في بر مصر
- ذكريات أندلسية مع الشاعر حسن توفيق
- فلسطين بين مظفر النواب وأميركا اللاتينية
- استنهاض عبد الناصر من ثراه
- مهانة العروبة والإسلام
- خالد سالم - كاتب وباحث أكاديمي - في حوار مفتوح مع القراء وال ...
- الوضع الراهن في العراق من وجهة نظر أوروبية
- شباب إسبانيا يتفوقون على ثوار مصر في تقليد ميدان التحرير
- حمدين صباحي يأبى أن يصير ذَكر نَحل السياسة المصرية
- محطات إسبانية في حياة إميل حبيبي
- ثورة العسكر أم ثورة القرنفل؟!!


المزيد.....




- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد سالم - مصر عبد الوهاب البياتي