أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رافع الصفار - العراق بعيون أجاثا كريستي - 1















المزيد.....


العراق بعيون أجاثا كريستي - 1


رافع الصفار

الحوار المتمدن-العدد: 1342 - 2005 / 10 / 9 - 09:23
المحور: الادب والفن
    


كانت القطارات دائما إحدى أشيائي المفضلة. من المحزن أن المرء لم يعد يملك تلك الوشائج التي تربطه بهذه الأشياء.

في (كاليه) دخلت مقصورتي واتخذت موضعي المريح في قطار أحلامي، فتخلصت عندئذ من كل المتاعب التي عانيت منها خلال السفر إلى دوفر والرحلة البحرية المنهكة.

ويبدو أني كنت على موعد مع أولى منغصات السفر. كانت تشاركني العربة امرأة متوسطة العمر، أنيقة، ذات خبرة بالترحال، حملت معها عددا كبيرا من الحقائب وصناديق القبعات. أجل، كنا ما نزال نحملها في تلك الأيام في أثناء الرحلات.

بادرت تلك المرأة للاشتراك معي في حديث. كان الأمر طبيعيا مادمنا نتقاسم العربة المزودة بمضجعين كبقية عربات الدرجة الثانية. ولعل السفر في هذا النوع من العربات أفضل منه في عربات الدرجة الأولى، مادامت أكثر سعة وتساعد على الحركة.

أين هي وجهتي؟ سألتني رفيقة سفرين إلى ايطاليا؟ فأجبتها: لا، أبعد من ذلك. إلى أين إذن أنا ذاهبة؟ قلت: إلى بغداد. دبت فيها الحيوية وقالت أنها هي نفسها تسكن بغداد. يا لها من مصادفة. وقالت بأني إذا ما نزلت عند بعض الأصدقاء فهي واثقة من معرفتها بهم. قلت لها لن أنزل عند أصدقاء.

- وأين تنزلين إذن؟ لا يمكنك أن تنزلي في فنادق بغداد.

سألتها لم لا؟ ولأي شيء هي الفنادق؟ تلك كانت في الأقل فكرتي الخاصة، ولو أني لم أنطقها بصوت مرتفع.

- اوه، الفنادق..ذلك أمر مستحيل. من غير المعقول أن تفعلي ذلك. أنا أخبرك ما تفعلين. يجب أن تأتي عندنا.

جفلت لردها بعض الشيء.

- نعم، نعم، ليس في الأمر ما يمنع من استقبالك. كم تبقين هناك؟

قلت: ربما فترة قصيرة.

- حسنا، على أية حال يجب أن تأتي إلينا كخطوة أولى، نستطيع بعد ذلك أن ننقلك الى أناس آخرين.

كان ذلك أقص الطيبة والكرم، ولكنني أحسست بسخط مفاجئ. بدأت أدرك ما كان يعنيه الكوماندر (( Howe عندما نصحني بعدم الانغمار في الحياة الاجتماعية للمستعمرة الانجليزية.

وجدت نفسي مكبلة اليدين والقدمين. حاولت أن أعطي صورة – وكانت مشوشة – عما خططت أن أفعل وأرى، لكن السيدة (س) – كانت قد أعلمتني باسمها – قالت أن زوجها الآن في بغداد، وهي إحدى أقدم القاطنات لتلك المدينة، فأزاحت بذلك كل أفكاري وخططي جانبا.

- اوه، سوف تجدين الأمر مختلفا تماما هناك، فالحياة ممتعة حقا. المفاجآت والأحداث الغريبة كثيرة، إضافة إلى النشاطات الرياضية والاجتماعية التي يمكنك ممارستها. اعتقد أنك سوف تستمتعين بذلك. يقولون دائما أن بغداد مكان فظيع، ولكني لا أتفق معهم. أخيرا، وكما تعرفين، هناك الحدائق المنزلية الجميلة.

وافقتها بلط على كل شيء. قالت: أظنك ذاهبة إلى تريستا ثم تأخذين القارب من هناك الى بيروت؟

قلت: لا، سوف اقطع الطريق حتى آخره بقطار الشرق..

هزت رأسه وقالت: لا أعتقد أن هذا بالأمر المستحسن، كما تعرفين، ولا أظنك تحبذينه. اوه، حسنا، يبدو ألا سبيل لتجنب الأمر الآن، على كل حال، سوف نلتقي. سأعطيك عنواني، فإذا أبرقت لنا من بيروت، فسوف تجدين زوجي في استقبالك، حال وصولك بغداد، كي يصحبك إلى البيت.

ماذا كان بإمكاني أن أقول سوى، شكرا جزيلا، وأضيف بأني لم أستقر على شيء بعد. لحسن الحظ أن السيدة (س) لن تكمل الطريق معي بالقطار، شكرا لله على ذلك، فهي لم تتوقف عن الكلام قط. ستنزل في تريستا كي تأخذ سفينة إلى بيروت. لقد تحاشيت الإشارة إلى خططي للبقاء في استانبول ودمشق، لذا فمن المحتمل أن تستنج أنني غيرت رأيي في السفر إلى بغداد.

في اليوم التالي افترقنا ونحن في أفضل حالات الود والصفاء، عدت بعدها لأمارس متعة الاختلاء بالنفس..

كانت الرحلة هي كل ما كنت أتمنى. بعد (تريستا) مررنا عبر يوغسلافيا وارض البلقان، وهنالك كان السحر كل السحر بمشاهدة عالم مختلف تماما: المرور عبر المضايق الجبلية العميقة الغور، مراقبة العربات التي تجرها الثيران، وتفحص مجاميع الناس على أرصفة المحطات، أو النزول أحيانا في أماكن مثل بلغراد أو نيش ومراقبة المحركات الضخمة في أثناء تبديلها، فتأتي وحوش آلية جديدة بلافتات وعناوين مختلفة.

تعرفت في أثناء الطريق على عدد من الأشخاص لم يحاول أحد منهم –وأنا سعيدة بذلك- أن يكون مسؤولا عني بالطريقة التي حاولتها معي السيدة الأولى، فقد قضيت اليوم مع سيدة (مبشرة) أمريكية، مهندس هولندي، وسيدتين تركيتين، وكان التفاهم مع الأخيرتين صعبا برغم أني أجيد شيئا ما من فرنسية متقطعة.

وجدت نفسي بينهن في موقف الذليل لأني أم لطفلة واحدة فقط. السيدة التركية ذات الوجه المشرق، وبقدر ما فهمت منها، أنجبت ثلاثة عشر طفلا، خمسة منهم ماتوا، وثلاثة في الأقل إن لم يكونوا أربعة قد أجهضوا. العدد بمجموعه يبدو رائعا بالنسبة لها، ولو أني استنتجت أيضا بأنها لم تتخل عن الأمل في مواصلة سجلها الرائع في الإخصاب. حاولتْ أن تعطيني كل العلاجات الممكنة لزيادة الإنجاب. نصحتني باستخدام نخالة الشعير، خلطة من أعشاب متنوعة، استخدام أنواع معينة من الثوم، وأخيرا عنوان طبيب مدهش في باريس.

ليس قبل أن تسافر وحدك حتى تدرك مدى الود والحماية التي تحصل عليها من العالم الخارجي رغم تباين القناعة في ذلك. السيدة الأمريكية اقترحت على تناول نوع رائع من الأملاح الملينة. أما المهندس فقد تولى المهمة بجدية تامة، مستفسرا عن مكان نزولي في استانبول، محذرا إياي من مخاطر تلك المدينة. قال لي: يجب أن تكوني على حذر، فأنت كما أرى سيدة انجليزية حسنة التربية، تحت حماية الزوج أو الأقارب دائما، فلا تصدقي ما يقول الناس لك. لا تخرجي إلى أماكن التسلية ما لم تعرفي إلى أين يأخذوك. في الحقيقة كان يعاملني مثل صبية غريرة في السابعة عشرة من عمرها. شكرته وأكدت له أني سأكون على يقظة تامة.

ولكي ينقذني من هذه المخاطر فقد دعاني إلى تناول العشاء معه ليلة وصولنا استانبول. قال لي: (التوكاتيلن) فندق جيد، ستكونين في أمان تام هناك. سوف أمر عليك عند الساعة التاسعة، ثم نذهب إلى المطعم: مطعم تديره سيدات روسيات – روسيات بيضاوات من أصل نبيل- يقدمن أشهى المأكولات ويحافظن على أعلى درجات السلوك المهذب في مطعمهن. قلت له: إن هذا لطف كبير منه.

في اليوم التالي بعد أن أنهى المهندس بعض أعماله، حضر الى الفندق وخرجنا معا للتعرف على معالم استانبول، ثم رتب لي دليلا..

_ لا تعتمدي على دليل شركة ( Cook) فهو يكلف كثيرا، ولكني أؤكد لك أن الدليل الذي اخترته لك محترم جدا.

بعد أمسية ممتعة أخرى مع السيدات الروسيات وهن يمخرن عباب المطعم، يوزعن الابتسامات بارستقراطية، ويرعين رفيقي المهندس، خرجنا لمشاهدة معالم المدينة، ثم عاد بي ثانية إلى الفندق. قال: إني أتساءل. والتساؤل أصبح أكثر وضوحا وهو يشكل في ذهنه حجم رد فعلي المحتمل. تنهد وهو يقول: لا..اعتقد من الحكمة ألا أسال.

قلت له: أنت عاقل، وطيب جدا..

تنهد ثانية وهو يقول: كان من الممكن أن يكون الأمر أكثر متعة، ولكني أرى، نعم، هذا هو الحل الأسلم. ضغط على يدي بحرارة، رفعها إلى شفتيه ثم رحل من حياتي إلى الأبد. كان رجلا لطيفا – الطيبة بعينها- وأنا أدين له بأنني شاهدت استانبول تحت رعايته الممتعة.

في اليوم التالي زارني ممثل شركة ( Cook). تم نقلي بعدها عبر البوسفور إلى محطة (حيدر باشا) حيث استأنفت رحلتي بقطار الشرق السريع. كنت سعيدة لوجود الدليل معي لان محطة (حيدر باشا) لا يمكن تخيلها أكثر من مستشفى للمجاذيب. فالجميع يصرخون ويزعقون ويضربون مطالبين بانتباه ضابط الجمارك لهم. تعرفت عندئذ على الأسلوب الذي يتبعه أدلاء شركة ( Cook) في مثل هذه المواقف. قال لي: أعطيني باونداً واحداً فقط. أعطيته الباوند، فاندفع في الحال نحو مكتب الجمارك ملوحا بالورقة النقدية عاليا وهو ينادي: هنا، هنا، هنا. فبرهن أن لصرخاته التأثير المطلوب فقد أسرع ناحيتنا أحد رجال الجمارك ببذلته المزركشة المذهبة، ووضع على حقائبي علامات كبيرة بالطباشير ثم قال لي: أتمنى لك رحلة سعيدة. ثم تحرك مبتعدا كي يتولى أمر أولئك الناس الذين لم يتبنوا بعد أسلوب الباوند الذي طبقه رجل شركة ( Cook).

- والآن أقودك إلى القطار. قال رجل الشركة.

والآن؟ كنت في شك من المبلغ الذي يطلبه، ولكني عندما بدات أقلب النقود التركية التي كانت معي _ بعض القطع النقدية الصغيرة _ قال بشيء من الصلابة:

- من الأفضل أن تحتفظي بهذه النقود. قد تكون ذات فائدة لك فيما بعد. أعطيني باونداً آخر.

شككت بالأمر، ولكن يبدو أن على المرء أن يتعلم بالتجربة. أعطيته الباوند فرحل بعد أن غمرني بتحياته وبركاته.

عند العبور من أوربا إلى آسيا تحس بتغير غامض يصعب تحديده، كما لو أن الزمن يصبح عديم المعنى. القطار يسير بتمهل على امتداد ساحل البحر، ثم يبدأ بتسلق الجبال. الجمال هناك يفوق التصور. الناس في القطار مختلفون أيضا، ومن الصعب أن تحدد أين يكمن هذا الاختلاف. كنت أحس بنفسي مقطوعة عن الآخرين، ولكن أكثر استمتاعا بما أفعل. عندما نتوقف في المحطات، كنت أحب مراقبة الناس بأزيائهم المزركشة الملونة، والقرويين المحتشدين على الرصيف، ووجبات الطعام الغريبة التي ترفعها الأيدي إلى القطار، فمنه الموضوع في أسياخ، ومنه الملفوف بأوراق النبات، إضافة إلى البيض المصبوغ بألوان شتى. وكلما توغلنا في الشرق يصبح الطعام غير شهي، عديم المذاق مليئا بالتوابل والدهون.

في الأمسية الثانية، توقفنا عند محطة صغيرة، فنزل المسافرون كي يشاهدوا بوابة (كيليكية). إنها في الحق لحظة جمال خارق لم أنسها طوال حياتي، فقد كان علي أن أمر بهذا الطريق مرات عديدة في أثناء ذهابي أو عودتي من الشرق الأوسط. وبما أن مواعيد القطارات كانت تتغير، فقد توقفت هناك في أوقات مختلفة من الليل والنهار. أحيانا في الصبح الباكر. أو مثل المرة الأولى عند المساء في الساعة السادسة، أحيانا أخرى، وللأسف، عند منتصف الليل. في المرة الأولى كنت محظوظة. خرجت مع الآخرين ووقفت هناك حيث الشمس تهبط إلى الغروب بتمهل. كان جملا غير قابل للوصف، وكنت سعيدة بقدومي إلى هذا المكان تغمرني البهجة والعرفان.

عدت إلى القطار، ثم بدأنا نهبط عبر مضيق جبلي طويل انتهينا بعده عند نهر في الأسفل. وهكذا جعلنا ننحدر ببطء صوب الأرض السورية حيث سيتوقف القطار في حلب.

قبل وصولنا إلى حلب، كنت عرضة لضربة حظ سيء. تعرضت للسعات البعوض التي غطت ذراعي ورقبتي والكاحلين والركبتين. وقد جعلتني عدم الخبرة لا أميز بين البعوض و(البق) الذي يهاجم الإنسان. سوف أظل طوال حياتي شديدة التأثر، وعلى نحو غريب، من لسعات هذه الحشرات التي كانت تخرج من الشبابيك الخشبية القديمة الطراز لعربات القطار كي تمتص بشراهة دم المسافرين الممتلئين. ارتفعت درجة حرارتي إلى (102 ف) وتورمت ذراعاي. بمساعدة تاجر فرنسي شققت أكمام بلوزتي وسترتي. كانت ذراعاي متورمتين داخل الأكمام فلم يكن من سبيل آخر غير شقها. أصبت بالحمى والصداع والتعاسة. كنت أحدث نفسي: أي خطأ ارتكبت بقدومي في هذه الرحلة! على كل حال فإن صديقي الفرنسي كان أكبر عون لي. ذهب هذا الصديق واشترى لي بعض العنب – ذلك النوع ذو الحبات الصغيرة والمذاق الحلو الذي يكثر في هذه المنطقة من العالم – قال لي: لن ترغبي بتناول الطعام، فأنت مصابة بالحمى كما أرى، ويستحسن أن تكتفي بالعنب.

برغم أني تعلمت عن أمي وجدتي ألا أتناول طعاما قبل غسله، إلا أني لم اعد أهتم بنصيحة كهذه. كنت أتناول العنب كل ربع ساعة، وقد ساعد ذلك كثيرا على إنعاشي والتخفيف من وطأة الحمى. لم أكن أرغب في تناول أي شيء آخر. في حلب ودعني صديقي الفرنسي الطيب، وفي اليوم التالي خف ورم الذراعين وتحسنت حالي كثيراً.

عندما وصلت إلى دمشق، بعد رحلة طويلة مرهقة بالقطار الذي بدا كأنه لا يسير أكثر من خمسة أميال في الساعة، ويتوقف باستمرار في أماكن غير مميزة تدعى بالمحطات، نزلت إلى أحضان الضجيج، الحمالون ينتزعون مني الحقائب وهم يصرخون ويزعقون، وآخرون ينتزعونها منهم، الأقوياء يصارعون الضعفاء.

رأيت خارج المحطة حافلة جميلة الشكل لصقت عليها لوحة (فندق أورينت بالاس). تمكن رجل فخم الهيئة يرتدي زي الخدم أن ينقذني وحقائبي، فصعدت مع واحد أو اثنين من المسافرين المذهولين إلى الحافلة التي نقلتنا إلى الفندق. كان فندقا رائعا، قاعاته الفسيحة مبنية من المرمر اللماع، إلا أن إنارته الرديئة لا تساعد المرء مطلقا على رؤية ما حوله. قادوني بعد ذلك عبر سلالم من المرمر إلى شقة واسعة. وكان لابد من إثارة قضية الحمام – مباشرة – مع فتاة لطيفة المظهر لتلبية طلباتي اثر قرعي للجرس، ويبدو أنها كانت تفهم بضع كلمات فرنسية.

قالت: بإشراف رجل. ثم أضافت بالفرنسية: Un home, un type, il va arranger.

كنت في شك مما كانت تعنيه بكلمة (un type )، ولكن يبدو أنها قصدت الخدم بذلك: كان الأدنى مرتبة بين الجميع، يرتدي ثيابا قطنية مخططة، قادني إلى غرفة شبيهة بالقبو. أدار هذا الرجل عددا من الحنفيات والصنابير فجرى الماء المغلي فوق الأرض الصخرية وملأ البخار الهواء فلم أعد أرى شيئا. انحنى الخادم مبتسما وهو يومئ كأنما ليفهمني بأن كل شيء على ما يرام، ثم غادر المكان بعد أن أغلق الصنابير فغاص الماء في بالوعة في الأرض. كنت في حيرة مما يجب أن افعل. إذ لم أكن أجرؤ على فتح صنابير الماء المغلي ثانية. كان هناك حوالي ثمانية أو عشرة مقابض صغيرة تنتشر على جدران الحمام، أي واحد منها قد يسبب ظاهرة مختلفة، كزخة ماء مغلٍ على رأسي مثلا. أخيرا خلعت الخف المنزلي وقطع الملابس الأخرى وبدأت أغتسل بالبخار وهو أسلم كثيرا من التعرض لمخاطر الماء الحقيقي. أحسست في لحظة بالحنين إلى الوطن. كم يمر من الوقت يا ترى قبل أن أتمكن من دخول حمام جدرانه مغطاة بالورق الصقيل مجهز بحوض خزفي ابيض للاستحمام وصنبورين للماء البارد والحار تديرهما حسب رغبتك؟

وبقدر ما أتذكر، فقد قضيت ثلاثة أيام في دمشق، قمت خلالها بجولات استطلاعية منظمة في المدينة، تحت رعاية دليل عديم الفائدة لشركة ( Cook ). في إحدى تلك الجولات قمت بزيارة قلعة صليبية برفقة مهندس أمريكي – ويبدو أن المهندسين يوجدون بكثرة في منطقة الشرق الأدنى – وقس طاعن في السن. التقينا للمرة الأولى عندما اتخذنا أماكننا في السيارة عند الساعة الثامنة والنصف. ظن هذا القس أننا – أنا والمهندس – رجل وزوجته، وكان يخاطبنا على هذا الأساس. قال لي الأمريكي: أرجو ألا تمانعي؟ أجبته: لا، أبداً.. إني آسفة جدا لأنه يعتقد بأنك زوجي. كانت العبارة غامضة بعض الشيء فضحكنا معا.

ألقى القس علينا خطبة مطولة في فضائل الحياة الزوجية، وضرورة الأخذ والعطاء، ثم تمنى لنا السعادة التامة. تخلينا عن الشرح أو محاولة ذلك. وقد بدا عليه الانزعاج عندما صاح الأمريكي في أذنه بأننا غير متزوجين. كان يبدو من الأفضل ترك الأمور على حالها.

قال بإصرار وهو يهز رأسه: ينبغي أن تتزوجا. العيش في الخطيئة أمر غير مستحسن أبداً.

ذهبت أيضا لمشاهدة بعلبك الجميلة. زرت الأسواق الشرقية والشارع الذي يدعى (المستقيم). اشتريت الكثير من الصحون النحاسية الجذابة التي يصنعونها هناك. وكل نموذج خاص بالعائلة التي تصنعه. أحيانا يكون التصميم لسمكة يحيط بها نقش من الفضة والنحاس. انه لشيء مثير للسحر أن نفكر في كل عائلة وحرفتها التي تنتقل من الأب إلى الابن فالحفيد، دون أن يحاول احد – من غير العائلة – أن يقلد أو يوسع إنتاج هذه الصناعة. اعتقد لو ذهبتَ إلى دمشق الآن فلن تجد إلا قلة من أولئك الحرفيين القدماء وعوائلهم، ربما ستجد معامل أو مصانع بدلا منهم.

بعد جولات استطلاعية مكثفة لم تزدني إلا تصميما على العودة إلى دمشق واستكشاف المزيد، حان موعد البدء بالرحلة عبر الصحراء إلى بغداد. كان يقوم على تقديم خدمات السفر هذه أسطول كبير من الباصات والسيارات ال (سكس ويل)، الذي يدار من قبل شركة (نيرن) للنقل البري. كان الأخوان جيري ونورمان نيرن يديران هذه الشركة. كانا استراليين وأكثر الرجال وداً وصداقة. تعرفت عليهما في الليلة التي سبقت اليوم الذي تبدأ فيه الرحلة. كانا منشغلين بتهيئة علبة كارتونية لحفظ الطعام. لم يكونا ماهرين في عملهما فدعياني لمساعدتهما.

يبدأ الباص رحلته عند الفجر، ويقوده سائقان عملاقان. عندما أتيت خلف حقائبي شاهدتهما يخبئان بندقيتين في السيارة ويلقيان فوقهما بإهمال عددا من السجاجيد.

قال احدهما: من غير الممكن أن نعلن عن وجودهما معنا. ولكني لست مستعدا أن اعبر الصحراء بدونهما.

قال الآخر: يبدو أن دوقة (العلوية) معنا في الرحلة.
قال الأول: يا الهي! سنواجه المشاكل حتما، ماذا تريد هذه المرة برأيك؟

قال الثاني: ستنقلب الأمور رأسا على عقب، وعقبا على رأس.

في تلك اللحظة اقترب منا موكب قادم من الفندق، ولدهشتي – وتعاستي أيضا – عرفت أن الشخص الذي يتقدم الموكب لم يكن غير السيدة (س) التي فارقتني في تريستا. ظننتها الآن في بغداد، فقد تلكأت وتباطأت طويلا في مشاهدة معالم استانبول ودمشق.

قالت بسرور وهي ترحب بي: توقعت أن تكوني في هذه الرحلة. لقد تمت تسوية الأمور كافة. سوف أعود بك إلى (العلوية). من المستحيل عليك تماما أن تنزلي في أي فندق من فنادق بغداد.

ما الذي كان بإمكاني قوله؟ كنت معتقلة. فانا لم أكن قد ذهبت إلى بغداد من قبل أو شاهدت الفنادق هناك. ربما كانت – الفنادق – تعج بأعداد كبيرة من البراغيث والبق والقمل والأفاعي وذلك النوع الشاحب من الصراصير التي امقتها بشكل خاص. أدركت في الحال أن دوقة (العلوية) ليست غير صديقتي السيدة (س)، والتي رفضت في الحال المقعد الذي قدم لها لأنه قريب من مؤخرة الباص وهذا يسبب لها حالة دوار وغثيان. طالبتْ بالمقعد الأمامي خلف السائق، ولكنه كان محجوزا لسيدة عربية. لوحتْ بيدها المعروقة فقط. من الواضح أنه لا يتحسب للأمور غيرها. حاولتْ أن تعطي انطباعا بأنها أول امرأة أوربية تطأ قدماها ارض مدينة بغداد قبل أن تتساقط نزوات الآخرين. حضرت السيدة العربية وبدأت بالدفاع عن مقعدها. ناب عنها زوجها فألقى دفاعا رائعا أمام الجميع. سيدة فرنسية حاولت الاعتراض. وجنرال ألماني هو الآخر بدا صعبا. لا اعرف أية جدالات جرت، ولكن كما هي العادة دائما على هذه الأرض، فان أربعة من الضعفاء جردوا من مقاعدهم الجيدة ونقلوا إلى مؤخرة الباص، وبقي الأربعة المنتصرون، الألماني، الفرنسية، العربية المكفنة بحجابها والسيدة (س) منتشين بحلاوة النصر. لم أكن قط في يوم ما مقاتلة جيدة، ولم اشعر بالحاجة إلى فرصة لإثبات ذلك، بالرغم من أن رقم مقعدي يؤهلني لواحد من المقاعد المرغوب فيها.


عن:
Agatha Christie an autobiography
Part VIII Second Spring pp. 394-417



#رافع_الصفار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عندما تصطادني الكلمات - 6
- عندما تصطادني الكلمات - 5
- عندما تصطادني الكلمات - 4
- عندما تصطادني الكلمات - 3
- عندما تصطادني الكلمات - 2
- عندما تصطادني الكلمات
- حالة تمرد


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رافع الصفار - العراق بعيون أجاثا كريستي - 1