أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - شخصيات فى حياتى : جدتى















المزيد.....

شخصيات فى حياتى : جدتى


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 4849 - 2015 / 6 / 26 - 15:12
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


شخصيات فى حياتى : جدتى
طلعت رضوان
بينما لم أر أمى ، التى ماتتْ بعد ولادتى بأسابيع ، فقد عاشتْ جدتى لأبى حتى بلغتُ العشرين من عمرى ، أو أكثر من العشرين ، حيث – كما أذكر جيدًا – كنتُ بدأتُ أهتم بقراءة كتب الأدب والمجلات الثقافية التى كانت تصدر فى فترة الستينيات من القرن العشرين . ونظرًا لأننى لم أع الكثير من طفولتى ، فقد كنتُ أحرص على (جمع) المعلومات من جدتى ، خاصة المعلومات المُـتعلقة بتلك الفترة (الضبابية) من حياتى بعد وفاة أمى .
ورغم أنّ جدتى كانت (حكاءة) بطبيعتها ، حيث سمعتُ منها الكثير من (الحواديت) إلاّ أنها – وقد تعدّتْ سن الثمانين – بدأتْ تفقد الكثير من التفاصيل ، أو ربما أنّ التقدم فى العمر، أفقدها الاهتمام بالحياة ، سواء ما يتعلــّـق بماضيها أو حاضرها . ولكن بمجرد مُـشاغبتها والحفر داخل بئر ذكرياتها ، كانت ذاكرتها تنتعش فتنطلق لتحكى ، وترد على أسئلتى .
حكتْ لى عن الفترة التى أعقبتْ وفاة أمى ، وأنها تركتْ منزل عمى الحاج (متولى) لتعيش فى بيت أبى ، حتى ترعانى أنا وشقيقتى التى كانت تكبرنى ببضعة أعوام . وقالت أننى كنتُ أبكى وأنا أتعلق بذيل جلباب أبى ليأخذنى معه ، وهو يجر عربة العيش الذى يبيعه لسكان العباسية. واستخلصتُ منها أنّ ما بدأ على أنه (عناد) أطفال للخروج مع أبى لتوزيع العيش على الزباين ، تحوّل إلى عادة تمسـّـك بها أبى، الذى كان يصحبنى معه لتوزيع العيش فى فترة إجازات المدارس.
وحكتْ لى عن الست أم نعناعة التى تولــّـتْ رضاعتى بعد وفاة أمى . وأنّ أمى والست أم نعناعة كانتا ((أكتر من الأخوات)) وفق نص كلام جدتى ، فكانت أم نعناعة تذهب مع أمى لزيارة السيدة زينب والسيدة نفيسة وسيدنا الحسين ، وتذهب أمى مع أم نعناعة لزيارة ((ستنا العدرا)) فى حى الزيتون. وزيارة المقدس سيدى العريان بالمعصرة بالقرب من حلوان.. وأنّ زوّار المولد كانوا من المسيحيين والمسلمين.. وأنّ المسلمين أطلقوا عليه ((سيدى محمد العريان))
الشيىء المُـثير للإنتباه أنّ جدتى وهى تحكى لى عن (رغيف السمن بالسكر) كانت تلك المرحلة من طفولتى تطفو من بئر ذكرياتى ، إلى وعيى ولم تنطمس ، وأتذكــّرها بكل تفاصيلها ، وكأنها حدثتْ منذ أيام وليس منذ سنوات .
كان بيت أبى فى نفس الحارة التى فيها فرن عمى الحاج (متولى) وفى أيام الدراسة – وكنتُ فى المرحلة الإبتدائية – كانت جدتى تطلب منى الذهاب إلى الفرن، لإحضار العيش الطرى السخن . فكانت تفتح الرغيف من حوافه وتدهنه بالسمن البلدى ، ثمّ ترش السكر على السمن . وتضع ذاك الرغيف فى (المخلة) القماش التى فيها كراريس وكتب المدرسة. وأتذكــّر أنّ السمن كان يفر من الرغيف ويغزو الكتب والكراريس ، التى يفرض السمن سلطانه عليها.
لم تطل مدة (ترمل) أبى ، حيث تزوّج بعد وفاة أمى بحوالىْ ستة شهور- وفق رواية جدتى . وكان من حـُسن حظى وحظ شقيقتى ، أنّ الزوجة كانت (بنت خالة أبى) وأنّ أمها (ستى خضره) شقيقة ستى تفاحة أم أبى . وأنّ سيدى رضوان (والد أبى) قال للعروسة يوم كتب الكتاب ((اسمعى يا ست أبوها (اسم زوجة أبى) لو إيدك اتمدتْ علا الواد طلعت أو علا أخته زينب.. أنا اللى ح أضربك)) ويومها فإنّ ستى خضره (أم العروسه) قالت لسيدى رضوان ((ما تخافش يا خويا.. طلعت وأخته ح يكونو فى عين ست أبوها.. وح تعاملهم زى ما يكونو ولادها.. ولو زعلتهم أنا اللى ح أضربها))
عندما كانت جدتى تسرد علىّ تلك التفاصيل ، كنتُ أستعيد ذكرياتى عن زوجة أبى ، التى أعتبرها استثناءً من قاعدة (زوجات الأب) تلك القاعدة التى قال عنها شعبنا فى أمثاله وأهازيجه ((مرات الأب داهيه تاخدها يا رب)) وقال شعبنا عن الرجل (المِزواج) أى الذى يجمع بين أكثر من زوجة ((جوز الاتنين ىَ قادر ىَ فاجر)) وأيضًا ((جوز الاتنين قفا بين كفين)) أما عن صعوبة (تعايش) زوجتيْن لرجل واحد ، فقد صاغ شعبنا الأمى هذا المثل البليغ ((عقربيتن علا الحيط ولا ستتين فى البيت)) أما عن تجربتى الخاصة فى الحياة ، فقد سمعتُ وعشتُ الكثير من المآسى التى تعرّض لها الأطفال من زوجات الأب ، سواء فى محيط الأسرة أو فى محيط الجيران . ونظرًا لأنّ زوجة أبى لم تـُمارس ضدى أو ضد شقيقتى قسوة ملحوظة ، باستثناء بعض تصرفاتها التى كانت فيها تنحاز لأولادها وتـُفضــّـلهم علىّ وعلى شقيقتى فى الطعام ، فإنها كانت (كالملاك) بالنسبة لباقى زوجات الأب .
بعد زواج أبى من (ست أبوها) عادتْ جدتى لتعيش فى منزل عمى الحاج (متولى) ولكنها كانت تحرص على المجيىء لبيت أبى – كل يوم – لتطمئن علىّ وعلى شقيقتى ، وتـُكرّر نصائحها وتوصياتها لزوجة أبى ، حتى تـُحسن معاملتها لى ولشقيقتى . وأتذكــّر- رغم أننى قد تعديتُ سن السبعين وأنا أكتب هذا البورتريه لجدتى – أنها كانت تضع يدها فى (سيالة) جلبابها لتـُخرج منه بعض ثمار الفاكهة ، وغالبًا كانت تلك الثمار من التفاح أو الكمثرى أو البرقوق , فكانت ستى خضره (شقيقتها) التى كانت تأتى من القرية لتعيش معنا بالأسابيع ، تقول لها ((إنتى يا تفاحه بتحرمى نفسك من منابك وتحوشيه عشان طلعت وأخته زينب.. يا ختى كلى وإنتى ممصوصه كدا وعامله زى عود الدرا.. دا أبوهم مش حارمهم من أى حاجه)) فكانت ستى تفاحه ترد عليها قائلة ((عارفه يا ختى.. بس أنا ياما كلتْ وشبعتْ من كل خير ربنا.. وبعدين الست تفيده – مرات ابنى الحاج متولى – الله يسترها ، هىّ اللى بتوصينى على طلعت وأخته زينب)) فكانت ستى خضره تـُمصمص شفتيها تعبيرًا عن عدم التصديق. وهذا المشهد الذى تكرّر كثيرًا بين ستى تفاحه وستى خضره – وبنفس الحوار- تقريبًا – كان يُـشعرنى بالحيرة ، حيرة جعلتنى – حتى لحظة كتابة هذا البورتريه – غير قادر على الحسم حول : هل أصدق كلام ستى تفاحه عن زوجة عمى الحاج متولى ، أم أتوقف أمام مصمصة شفاه ستى خضره ؟ وأبحث عن دلالتها. وكنتُ – وما زلتُ – أميل – بقلبى – إلى تصديق ستى تفاحه ، رغم السؤال الحائر: لماذا كانت تضع ثمار الفاكهة فى (سيالة) جلبابها ، وتـُخرجها كأنها تـُخرج شيئــًا مُـحرمًا ؟
وعندما تعرّضتُ لأزمة صحية – لا أذكر تفاصيلها – كانت ستى تفاحه هى التى أخذتنى وذهبتْ بى إلى مستشفى الدمرداش لعلاجى. أتذكــّرها وهى تمسك كفى ونحن نسير فى شارع رمسيس ، وأتذكر كلماتها للجيران وللأقارب ((طلعت دا ابن الغاليه روحيه.. مش لازم يموت.. طلعت لازم يعيش.. عشان تفضل ريحة أمه المرحومه روحيه))
إنّ ستى تفاحه (أم والدى) التى تولــّـتْ رعايتى فى طفولتى ، تركتْ فى وجدانى الكثير من روحها ، بالغة النبل والحنان ، خاصة وأنها نقلتْ لى انطباعاتها عن أمى، تلك الانطباعات التى تسرّبتْ إلى وجدانى ، لدرجة أنها – من كثرة ما حكته عن (طيبة) أمى وعن (الحب) الذى غمره بها (كل) الأقارب والجيران ، خاصة وأنها – أمى – بشهادة الجميع – كانت ترفض (الخوض) فى ((سيرة الناس)) وكانت ترفض الإدلاء بأية معلومات قد تمس الحياة الشخصية لأى إنسان ، وعندما كان البعض يضغط عليها حتى تبوح بما تعرف ، لم يكن على لسانها غير رد واحد ((ما أعرفش حاجه.. ما سمعتش حاجه)) رغم أنّ الجميع يؤكدون أنها تعرف وأنها سمعتْ.
إنّ ما ذكرته ستى تفاحه عن أمى ، جعلنى أختلق لنفسى (سيناريو) من الخيال ، أتخيـّـل فيه (صورة) أمى ، وكأننى لم أفتقدها ، وأرسم لها – فى خيالى – كل المشاهد التى سمعتها عنها ، سواء من جدتى أو من خالتى شقيقة أمى التى عاشت بعدها ولم تـُغادر دنيانا إلاّ منذ ست سنوات بعد أنْ تعدتْ سن الثمانين . فى ذلك السيناريو المُـتخيّـل ، كنتُ أشعر أننى (مع أمى) التى لم أرها ، وذلك بفضل الدور الذى لعبته جدتى فى طفولتى. وكنتُ – وما زلتُ – أشعر بأننى سعيد الحظ ، حيث كان لى أكثر من أم : أمى البيولوجية التى لم أرها ولكن روحها تسرّبتْ إلى وجدانى، وأمى التى رضعتُ لبنها (الست أم نعناعة) وكانت ستى تفاحه هى الأم الثالثة، لأنها – ربما – تكون هى السبب الذى جعلنى أختلق ذلك السيناريو المُـتخيّـل عن أمى البيولوجية ، وأصدق تخيلاتى ، وصورتى وأنا فى حضنها ، فى تكذيب للواقع المادى الذى يؤكد أننى لم أرها ، ولم أستمتع بحضنها ، وأنّ بئر ذكرياتى ليس فيها أية (صورة) عن وجهها الحقيقى ، فكان البديل وجهها الذى صنعته ذكريات جدتى عنها.
***



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نشأة الأصوليات الدينية والدور الأمريكى
- الوفد وآفة شعبنا : ينتفض وينام
- الوفد وضباط يوليو (1)
- جهاز كشف الأصولية الدينية
- مؤسسات الدولة والأصولية الإسلامية
- تجارة السلاح والمسرح العالمى
- الشعر والصدق الفنى : قراءة فى ديوان (إسكندريه يوم واحد)
- التعليم والوطن
- مخطط العداء للنوبيين
- الرياضيات والألعاب فى مصر القديمة
- فلسفة إلغاء العقوبات البدنية
- المرأة فى التراث العربى / الإسلامى
- تحولات المثقفين وتنازلاتهم
- الإنسان ال Dogma والكائنات غير العاقلة
- تناقضات الأصوليين ومرجعيتهم الدينية
- ثالوث الخرافة والأسطورة والدين
- الأساطير المصرية : معبد إدفو نموذجًا
- التعصب الدينى والمذهبى والعداء للتحضر
- العلاقة بين التحضر والتراث الإنسانى
- نبذ التعصب فى موسوعة للشباب


المزيد.....




- تُلّقب بـ-السلالم إلى الجنة-.. إزالة معلم جذب شهير في هاواي ...
- المقاومة الإسلامية تستهدف تحركات الاحتلال في موقعي المالكية ...
- مكتب التحقيقات الفيدرالي: جرائم الكراهية ضد اليهود تضاعفت ثل ...
- قناة أمريكية: إسرائيل لن توجه ضربتها الانتقامية لإيران قبل ع ...
- وفاة السوري مُطعم زوار المسجد النبوي بالمجان لـ40 عاما
- نزلها على جهازك.. استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة الجديد 20 ...
- سلي أولادك وعلمهم دينهم.. تردد قناة طيور الجنة على نايل سات ...
- قصة السوري إسماعيل الزعيم -أبو السباع-.. مطعم زوار المسجد ال ...
- نزلها الآن بنقرة واحدة من الريموت “تردد قناة طيور الجنة 2024 ...
- قصة السوري إسماعيل الزعيم -أبو السباع-.. مطعم زوار المسجد ال ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - شخصيات فى حياتى : جدتى