أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سلام عبود - لا حياد في بيروت















المزيد.....


لا حياد في بيروت


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 4843 - 2015 / 6 / 20 - 11:05
المحور: المجتمع المدني
    


بدأت ورطتي مع النشر في العام 1968. عدد كتبي المنشورة يتجاوز العشرين، بين قصة ورواية وبحث أدبي وثقافي، تضاف اليها مئات المقالات السياسية الآنية العابرة، والنصوص المنتقاة بحثيّا. بيد أنني لم أُكرَّم في وطني سوى بضع مرات، تـُعدّ على أصابع اليد الواحدة. لا أعني بالتكريم هنا الاحتفاء والاحتفال والتقدير، بل أعني نشر نتاج لي في صحيفة ما، أو نشر تعريف بكتاب لي في موقع ثقافي ما. تلك غاية الكرم القصوى لديَّ في معادلة الكتابة – الوطن.
صحيفتان فحسب استضافتا كتاباتي خلال ثلاثة عقود. جعلت الأولى فصولاً من كتابي، "من يصنع الديكتاتور"، كتاباً ملحقاً بالجريدة، وعملت الثانية على إبراز كتابيّ "المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال" و"المجتمع العراقي تحت أقدام الاحتلال". علمتُ من طريق متابعة الانترنت بصدور الكتاب الملحق، لكنني حتى هذه اللحظة لم أر شكل الكتاب ومحتواه، كأنني لست مؤلفه. أما الثانية فقد نشرت ملفا لم يحوِ سوى نص جميل لكاتب عراقي غير هيّاب، مع بضعة أسطر في هيئة تقديم، مصحوب بمقطع صغير من أحد كتبي. بيد أن كاتب التقديم عاد سريعاً، قبل أن تمضي أسابيع على ظهور "الملف"، وباشر اقتطاف ثمرات كرم الصحيفة، من طريق الهجوم على الكتب ومؤلفها، التي كانت موضع إطراء مبالغ فيه. أحالني الاستدراك من "كاتب فريد" الى متهَم بجرائم لم تُرتكَب بعدُ. أما مؤلفاتي فغدت بطرفة عين من "إثارة القضايا الكبرى، وتعرية سبل التفكير المنتجة للعنف وأنساقها" الى منهج متهافت. لم يغفل "صياد الغفلة"، الكاتب المستدرك، أن يدعم آراءه الجديدة باتهامات وأكاذيب وترّهات سوقية، هدفها التكسب الرخيص.
بعد الاحتلال بثلاثة أعوام، فاز نص لي من كتاب "من يصنع الديكتاتور" بالجائزة الأولى للنقد الأدبي في مهرجان الثقافة السنوي المنعقد ببغداد ذلك العام. تناصف الجائزة معي ناقد من مدينتي الجنوبية المسكينة ميسان. كالعادة، قرأتُ أخبار الاحتفال والتكريم اللذين حظي بهما الناقد الذي ناصفني الجائزة. من الانترنت أيضاً حصلتُ على معلومة تفيد بأنني كنت مشمولاً بالتكريم أيضا، وأن المكرِمِين سلّموني شهادة تقدير لم أتسلمها حتى هذه اللحظة. قيمة الجائزة كانت متواضعة وأقل من صدقة الأرملة، ربما لأن العراق بلد فقير، يأنف أصغر لصّ قيادي فيه أن يسرق أقلّ من مليار دولار. طلبتُ من القائمين على الجائزة تخصيص ثمن الجائزة لشراء كتب أستاذ علم الاجتماع علي الوردي، وإيداعها مكتبة قسم الاجتماع في جامعة المستنصرية. وقد حصلتُ على شكر من الجهة التي أهديتُ الكتب اليها. في حملة الترويج لثورة الطباعة، التي شاعت أصداؤها في العراق، بما فيها طباعة كتب الأدباء العراقيين المنفيين، الذين قاوموا الحرب والديكتاتورية، والذين وصلت بعض كتاباتهم مهرَّبة بالاستنساخ الى أيدي القارئ العراقي، منها كتابي "ثقافة العنف" وروايتي "ذبابة القيامة"، ظهرت بارقة كرم وطني غير مألوفة. لكن المؤسسة القائمة على النشر اكتفت بنشر مسرحية تأريخية لي، "جلجامش: لا أحد في انتظار المخلـّص"، ونسيت كتبي التي هي مصدر خلاف المتنازعين. ربما أريد لهذه البادرة المشكورة، ولكن الناقصة، أن تكون صورة دعائية ضمن تناقضات المتحاصصين، لكنها على المستوى الثقافي لم تساهم في تلبية رغبة القراء، وأولهم الذين سمعوا، والذين قيل إنهم "تحزبوا واختلفوا وتشاجروا" في الداخل حول مضامين كتبنا قبل أن يقرأوها.
لا بد أن أتدارك أيضاً، متحدثاً عن لفتة جميلة من ناشر عراقي طموح، أرسل لي يرجوني أن أقرضه بحثاً كتبته عن الكتّاب اليهود العراقيين، نـُشر جزء منه في صحيفة "السفير" وحُجب جزؤه الأهم. سبب الطلب هو رغبة من طالبة دراسات عليا في الحصول على المادة كاملةً لغرض استخدامها في أطروحتها. وقد لبيتُ الطلب، فظهرت المادة في كتاب عن يهود العراق، من إعداد الناشر نفسه. سمعتُ عن الكتاب كثيراً، ولم أره حتى هذه اللحظة. هنا نرى أنه حتى الناشر العراقي المجتهد يجهل طرق تسويق نفسه ثقافياً. مثل هذا الوفاء المعنوي المرعب قامت به مؤسسة "الحوار المتمدن"، التي نشرت غير كتاب تضمّن مقالات لكتّاب نشروا على موقعها - أنا واحد منهم- لكني لم أتسلم نسخة واحدة مما نشر. دار نشر اسمها "السياب" نشرت قبل سنوات كتاباً حوى نصوصاً قصصية مزدوجة اللغة، بالعربية والانكليزية، منها قصة قصيرة لي عنوانها "مطر أسود". قرأتُ عن صدور المجموعة، لكنني لم أرها حتى كتابة هذا النص. هذه الطرف الثقافية الصغيرة المبعثرة لا تعكس سوى أمر واحد: وحدة تقاليد الثقافة في صورتها القبيحة. من هنا ندرك أن السلطات ليست وحدها مَن تعامل المثقف العراقي بوقاحة واستهتار. ما نراه هو تراث ثقافي شعبي عريق. إنه إرث وطني خالص، إرث رثّ، مشين وقبيح.
لا أملك صلة أخرى تربطني بعالم الكتابة والنشر والثقافة في العراق.
حينما تُصدر أكثر من عشرين كتابا، أطلق عليها الجميع تسمية "خلافية"، وأجمع الجميع من محبّين وكارهين على تعريفها بأنها "مثيرة للجدل العنيف"، ولا تجد من ينشر خبر صدور كتاب لك، فإنك تدرك أن المؤامرة الجماعية على العقل، مؤامرة القطيع، هي المبدأ الأخلاقي والثقافي السائد رسمياً وشعبياً. الحاكم يمارس ثقافته مستنداً الى تقاليد شعبه، لكن الشعب يعزز ثقافته باستلهام عبقرية حاكمه!
أمام هذا الظلم، وهو ظلم عاشه جلّ مبدعي العراق بدرجات مختلفة ومتفاوتة، بسبب التحزب القاسي والجهل والانانية وضعف النفوس، كان لا بد للمثقف العراقي من أن يحفر بأظفاره، لكي يجعل كلماته مرئية ومسموعة ونظيفة. وكان لزاماً عليه أن يقاتل منفرداً، كما لو أنه ذئب وحيد في البراري، لكي يضمن وجوده. لقد أضحى لزاماً على المثقف أن يظل منفياً، مقصياً عن وطنه، جسداً وروحاً، نصاً وفكراً، سواء بعـُد أو قرُب من حدود الوطن.
مملكة أسوج منحتني أماناً ضرورياً. مؤسساتها الثقافية وعملي الثابت في التعليم منحاني تطميناً مادياً مرضياً، الى الحد الذي جعلني حراً على نحو كافٍ، حراً في أن أفكر وأعبّر باستقلال مطلق.
لكن الأمان والتطمين الاجتماعي ليسا كافيين لكاتب، ما لم يجد رئة يتنفس بها ثقافياً. المنافذ التي وفرتها مملكة أسوج للكاتب الوافد سرعان ما تم احتلالها وغلقها على أيدي لصوص الثقافة، العراقيين خصوصاً، الذين أجادوا مشاريع نهب المساعدات غير المشروطة، التي قدمتها مؤسسات حكومية كالمجلس الثقافي والاتحادات المهنية.
في حقبة الديكتاتور، وهي حقبة مديدة، كبرت فيها أجيال وشاخت أخرى، وولدت أجيال رضعت حليب الحروب، ثم ما لبثت أن تبعثرت في الفيافي. في تلك الحقبة القاتلة، "الزمن الجميل"، كما يقول أصدقاؤنا الجبهويون، وهو زمن جميل حقاً، ولكن للبعثيين والشيوعيين فحسب. في ذلك الزمان كانت معادلات الخوف والجمال والفرح والوجود بسيطة الى حد لا يصدّقه عقل. كانت الذات، الفردية والجماعية، تدرّب نفسها، وتجمع خبراتها العاطفية والشعورية، وحتى الإيديولوجية، بطريقة مجرّبة وثابتة: معي أو ضدي. هذا الحساب البسيط جعل الذات تكون خبيرة الى حدّ كافٍ في سبل الارسال والاستقبال، الهجوم والدفاع، ارسال الكراهية واستقبالها، ارسال الحب واستقباله، الموت، الحياة، الكرامة أو الاذلال.
لكن هذه المعادلة الديكتاتورية الوجيزة سرعان ما تفجرت مزقاً بفعل الغزو الأميركي للعراق. بالغزو تفتتت أجزاء المعادلة، وغدت ذرّات متداخلة من الكره والحب والأمل والخيبة، من التفاؤل الكاذب والتشاؤم الصادق. بتفجير خزّان الرعب التاريخي، جرى تعميم الخداع والزيف والدجل والاستغفال والخوف والامتهان الى حدٍّ فقدت الذات خزينها المعرفي والأخلاقي والعاطفي كلّه، وخسرت خبراتها النفسية والشعورية كلها. لقد أطاح تحطم الصنم مهارات الاستقبال والارسال التي جمعها الناس، قتلة ومقتولون، لبنةً لبنة، وقطرةً قطرة، في زمن التدريب الأحادي على الكراهية: صديقي أو عدوّي. اليوم لا نعرف مَن هو صديق الاحتلال ومَن عدوّه! مَن صديق الشعب ومَن عدوّه! مَن صديق نفسه ومَن عدوّها! وفي حقيقة الأمر لم يعد هذا الأمر مهما. لأنه لم يعد هناك شعب موحد يحتكم الناس اليه، ولم تعد هناك ذاتٌ أبية، مُضحـّيـّة. لقد غدا الوطن، مثل مشاعرنا، مزقاً متقاتلة، لا تجتمع إلا على هدف شرير.
في بحوثي وفي قصصي ما انفككتُ أبحث عن حقيقة العراق، وطني. بحثي عن الذات الوطنية قادني الى معرفة ذاتي. أفكر أحيانا كم هو باهظ ومرهق أن تكتب، في وطن التحزب الأعمى، نقداً للمؤسسة البعثية الظالمة والغبية، ولتحالفات الشيوعيين الفاشلة والمميتة، ولمشاريع قادة الدول المدن العرقية الأنانية، ولسياسي الطوائف المتخلفين، ولحقبة الملكية الدستورية باعتبارها الأب الروحي للعنف اللاحق، ولليبيرالية العربية الحمقاء، التي تشبه السفاهة في سوقيتها وبلادتها. ليس يسيراً أن تواجه الجميع منفرداً. لن يظلمك الجميع فحسب. الأبشع من ذلك أن يخافك المظلوم أيضاً. يخافك القطيع. وأنا أتأمل نفسي، وجدتني أقرأ مأساة العراق وطناً يشترك الجميع في شرب دمه، بما في ذلك من يظنّون أنهم أخلص عشاقه.
أمام هذه الحال، كان لا بد من إيجاد نوافذ بديلة. كان لزاماً إيجاد وطن ثقافي بديل، وطن للتبادل والتحاور والعيش أيضاً.
في سوريا صدرت لي ثلاث روايات من دار نشر أهلية. بيد أن هذا لا ينفي أن تكون سوريا واحدة من أهم وأكرم الحاضنين للمثقف العراقي المضطهد من البعث العراقي على مدى عهود. ربما فاق كرم المؤسسة الرسمية السورية حتى حجم ما وهبته لأبنائها. من مفارقات القدر أن يتنكر جلّ المحتضنين لحاضنهم، وأن ينقلبوا عليه ويشهروا في وجهه طهرية الاستقلال.
أما سوريا، المؤسسة الحكومية، فلم تتعامل معي. حتى مقالاتي التي أكشف فيها خفايا الحركات التكفيرية وبشاعة جرائمها، لا تجد استساغة في الذائقة الرسمية. ربما بسبب كوني متخصصاً في كشف آثام البعث، حتى وإن كان بعثاً عراقيا.ً
القاهرة بعيدة، ومشغولة بنفسها. المثقف العراقي لا يجد ارتباطات قوية بمصر، عدا مثقفي البعث والنظم المتعاقبة. من دون شك، للمثقفين العراقيين معابر عديدة في مصر، نشراً واتصالاً، وأنا منهم. لكن القاهرة، عدا استثناءات نادرة، تظل دائماً أقرب الى روح مؤسسات النظام والمؤسسات السياسية الرسمية. ربما تستطيع القاهرة فتح نوافذ حقيقية لمطرب أو ممثل أو سياسي أو تاجر، لكنها لا تستطيع فعل ذلك في حقل الأدب، على رغم أهميتها الأدبية الكبيرة قوميا.
إذن بيروت. نعم بيروت.
كانت بيروت وستظل أحد أبرز أهداف المثقف العراقي، كاتباً وفناناً ومروّجا ثقافياً، وتاجراً ثقافياً، ولصاً ثقافياً أيضا.ً
نشرت في "السفير" و"النهار" و"الأخبار" و"الآداب" بعض كتاباتي، معتقداً، سهواً، أن بيروت أرحم من بغداد. وهذا صحيح الى حد كبير. فالظلم اللبناني ألطف بكثير من أخيه العراقي، وقلة الأدب واللصوصية أكثر إمتاعاً وأناقة، أو لنقل أقل خشونة وعدوانية، وأكثر توازناً وترفا.ً
سقوط الصنم في بغداد وتشظي مركزية القوة، الذي خلق تطابقاً تاماً مع سياسة فوضى الحرية الأميركية، قابله في بيروت سقوط مبدأ الحماية، والانقلاب على الوصي، الذي نصّبوه عليهم ملاكاً حارساً بأنفسهم. وكما حدث في العراق لم يقد الخروج على طاعة الوصي الى تأسيس مناطق للحياد أو الحرية. على العكس، غياب الشقيق الحامي، أعاد الى بيروت انقسام الحرب الأهلية وتقاطبها. وبدلاً من بيروت شرقية وغربية ظهرت بيروت الثامن وبيروت الرابع عشر. الخنادق والمتاريس في الشوارع، في المؤسسات، في البيوت، في الصحف، في الضمائر، وفي المقابر.
في منتصف السبعينات أضحت بيروت مركزاً قومياً لإشهار اللاحياد. أن تذهب الى بيروت يعني أن تعلن التزامك شرعياً وفقهياً وايديولوجياً. ففي لبنان منتصف السبعينات لم توجد سوى بيروتين: شرقية وغربية، عليك أن تختار إحداهما مع بندقية ومنشور سياسي. وهذا عكس ما يحدث الآن تماماً. بين الخنادق والمتاريس العتيقة، لكثرتها وقدمها وتعفنها، نشأ جيل جديد من الليبيرالية العدمية راح يتجول بحرية بين المتاريس صانعاً له حرية خاصة، مستحلبة من فم اللص والقاتل، والممزق، والكاره، وحتى العدو. حرية القفز من إيديولوجيا الى نقيضها، ومن حضن الى حضن.
اللبنانيون لا يحبون أن يعرفوا أن حروبهم الأهلية يخوضونها تحت شعارات دينية دائماً. اللبنانيون لا يرون الدين حتى وهم يلبسون مسوح الرهبان أو يعلّقون رايات "داعش" في الطرق. شبح غريب هو مَن يفعل ذلك، لكي يطعن لا دينيتهم الخالصة. في حربهم الأهلية رفع المتقاتلون الصلبان والأهلّة، حتى العلمانيون والملحدون وسارقو صلبان الكنائس القتلة. متاريسهم الراهنة تقام أيضاً على أسس مشابهة، مع تغيير في الأدوار: سنّة ضد شيعة، مقابل مسيحية ضد إسلام. ما أسهل أن يكون الدين شعاراً للحرب، حينما تكون قاعدة الوطن هي الطائفة والعرق والمنطقة، بدلاً من المواطنة. الطائفة والعرق والمنطقة تتحرك دائماً، تتسع أو تضيق، تنتفخ أو تتضاءل، فتطلب سلماً أو حرباً، مَن يعيد التوازن المفقود، التوازن الحقيقي أو المتوهم. لكن المواطنة ثابتة، لأنها الحقيقة الوحيدة، المعبّرة عن إرادة الجماعة.
في بيروت كتبت في "السفير" و"النهار" و"الأخبار" و"الآداب". لكن "النهار" كانت المحطة الأكثر جذباً. صلتي بـ"النهار" بدأت حينما كان يهيمن على ثقافتها ثلاثة شعراء وروائي. وهو زخم أدبي ثقيل الإغراء، يصعب على مقطوعي الأنفاس، بسبب بخل أوطانهم، تجاهل إغوائه.
بيد أن اللبنانيين ليسوا أكثر سعادة وحرية منا. فعلى الرغم من مقدرتهم الفريدة على اجتراح النكات البذيئة والسوقية علناً في الفضائيات، واعتبارها خصيصة شعبية، وعلى الرغم من مقدرة بعضهم على التعري الجسدي والسياسي والأخلاقي، واعتباره ضرباً من ضروب الحرية وممارسة الفردية الخالصة، ورغماً ورغماً، إلا أن اللبناني مطوّق بالقلق والخوف وضغط الحياة الثقيل وإغراءاتها الفتاكة. شاعر "النهار" الكبير رحل منها الى ضفة معاكسة واستراح في خندق آخر، وروائيّها ذهب في اتجاه آخر. لا بد لذلك أن يحدث. ليس لأننا نريد أو لا نريد، بل لأن السكة الوحيدة، التي تسير عليها عرباتنا لا تقود إلا الى ذلك. سكة واحدة لا تقود إلا الى نفق واحد.
"النهار"، التي ورثت تاريخاً ثقافياً مميزاً، لبنانياً وعربياً، والتي سجلت باسمها امتياز النأي بالنفس عن التحزب المباشر، أو لنقل سجلت لنفسها الخصوصية الثقافية المهنية، وليس الحزبية، سرعان ما جرفتها الحوادث بموت الأب.
وحينما سقط الابن شهيداً برصاص الاحتراب تعمق نهج الابتعاد عن الثقافة، وتكرس بشكل يكاد أن يكون رسمياً نهج السياسة.
الأحفاد اليافعون، الذين ورثوا ثقافة مميزة لطخت بدم بريء وبشعارات حزبية ليست بريئة بالقدر الكافي، لم يجدوا سوى أن يتركوا العربة تقودهم في السكة الوحيدة المفتوحة أمامهم. الشجاعة والخصوصية تكمن في معاندة الأقدار، لا في التماهي معها. الورثة الذين سيمتد بهم العمر الى زمن آخر، سيتذكرون أن المستقبل الحقيقي ثقيل الخطى، عظيم الأنفة والشمم، لا يأتي بنفسه، نحن نذهب اليه بأرجلنا، بإرادتنا، بجواز السفر الصادر من مملكة الحرية.
في ظل هذا الوضع لم يتبقَّ من الاستقلال سوى "الملحق". في بلادنا لا تقوى الثقافة سوى أن تكون ملحقاً. ربما لكي تستطيع أن تحمي وجودها، وأن تحافظ على بقايا الاستقلال وإرث الثقافة غير المتحزبة المهدورة في ورطة الحروب والتحالفات وشروط الأقوياء المالية والسياسية.
في هذه النافذة واصلتُ الكتابة، ليس من باب الكرم أو الوفاء، اللذين تستحقهما، بل واصلتُ ذلك دفاعا عن حريتي وحرية الثقافة. سقوط ملحق أدبي ليس مزحة نتلذذ بها، أو نشمت بها. انهيار "مجلة الأداب" لم يكن أقل من صدمة عار قومية. سقوط ركن ثقافي في أمة يسودها الاستسلام المذل لكل ما هو عابر طعنة غادرة، لا يتلذذ بها سوى ساديي الثقافة. إن أي اقتطاع من جسد الثقافة، في بلداننا التي تحتل فيها الثقافة أسفل سلّم الأولويات، هو اقتطاع من جسد الحرية ومن روحها. هكذا أحسستُ. لم أكن قلقا، ولا هيّاباً، حتى حينما وجدت نفسي بين كتّاب لا أشاطرهم مساحة الخلاف. كان الأمل هو قائدي، الأمل بضرورة الانتصار على هجوم "اللاثقافة". وهنا، لا يسعني إلا الإشارة الى أنني لم أتعرض الى ضغط يتعلق بصياغة أفكاري. كنت حراً بما فيه الكفاية لأن أختار وأعبّر وأنشر أو لا أنشر. كانت كتاباتي المعادية للهجوم التكفيري على سوريا، والمعارضة للمعارضة على سبيل المثل، تظهر محاطة بعدد غير قليل من الكتابات المعادية لها. رأيت كلماتي أجمل وهي تحافظ على يقينها وعلى إرادتها، والأهم من كل ذلك تحافظ على إرثين تميزت بهما أسرة "النهار": الاستقلال والثقافة.
اليوم نقف جميعاً على حافات المتاريس المتقابلة، ننظر الى بعضنا بحقد حيناً وبشماتة حيناً آخر. لكننا جميعا نعرف أن شعار "فلـّوا"، المرفوع في بوابة المدن اللبنانية المفضية الى طريق سوريا الدولي، سرعان ما كشف لنا انه يهدف الى أن "نفلّ" لا من الوصي الثقيل وحده، بل تدفعنا بإصرار الى الانفلات من حقبة تاريخية كاملة والاتجاه الى حقبة سوداء غامضة، لم نكن نراها آنذاك: الحقبة الداعشية، بربيعها المشؤوم، حقبة إلباس الحروب الأهلية وغير الأهلية ثوب الحروب الطائفية.
لا بد لي أن أختتم كلماتي بتلخيص ما بدأت به: لا حياد في بيروت.
لكن الحياد في الحرب اليومية، حرب التفاصيل، هو غير الحياد في الحرب الثقافية التاريخية. على ورثة "النهار" أن يرسّخوا لتاريخ العائلة إرثيها: الاستقلال والثقافة. لأن التحزب والسياسة شأنان مشاعان، مبتذلان، لا خصوصية فيهما. وأعني بذلك لا خصوصية وطنية لبنانية فيهما، ولا خصوصية قومية عربية. الخصوصية الفريدة هي أن ننتج ما لم ينتجه غيرنا، على عسر هذا المطلب وثقله. لكنه الوفاء للإرث، الوفاء للثقافة كمصدر للحرية. تلك مهمة لا يقوى عليها سوى الورثة الأصلاء. علّ طائرا ضاقت به الدنيا مثلي، يجد غصنا صغيرا في شجرتكم يقف عليه، لكي يملأ رئتيه ببعض هواء، يعينه على التحليق في سماوات بعيدة، بدلا من أن يهوي مختنقا.ً
في مجتمعاتنا المغلقة والمهزوزة البنيان لا توجد قوة محايدة في المجتمع سوى قوة المال. المال وحده يستطيع عبور الطوائف والأديان والايديولوجيات والمناطق والمتاريس. يستطيع ان ينتقل من جيب الى جيب، من صديق الى صديق، ومن عدوّ الى صديق، ومن عدوّ الى عدو.ّ
لا حياد في بيروت.
عدا هذا لا يوجد سوى الوهم.
نعم هو وهم، لماذا المكابرة والانكار! هو وهم، لكنه وهم جميل ونبيل، يسمو على كل اللاأوهام التي تغمر حياتنا القلقة المضطربة، الزائلة.



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عيشة بنت الباشا: ملصّقة شهويّة استدراكيّة
- العراق: معركة المصير الأخيرة - رسالة الى المقاتل العراقي وال ...
- مهزلة البحث عن داعش في متحف الموصل
- راشد الغنوشي وجائزة ابن رشد
- الاحتلال الجوّي: تعميم النموذج اليوغسلافي
- الحاكم فرداً وقائداً: المالكي نموذجاً
- خفايا هزيمة الجيش العراقي في الموصل: مؤامرة في المؤامرة
- العراق على حافة الهاوية: جذور الانهيار
- الإعلام اللبناني بين التعازي وتفخيخ الجثث
- الوظيفة التربوية للاعلام السياسي اللبناني
- المؤسسة الإعلامية السورية: ما لها وما عليها!
- بعض أسرار الصراع القطري السعودي على الجبهة السورية
- المعارضة السورية: من الذرائعية الخيالية إلى جحيم الثورة
- الإعلام الذرائعي العربي: صعود سريع وسقوط أسرع
- الاغتيال والتحقير السياسي في العهد الملكي
- موتوا موتة الجلاب السود!
- الوصي عبد الإله: مقاربة نفسية!
- الذاكرة السردية تنتقم جنسيا: الحجاج الثقفي
- الزمالات الحزبية والتربية الشيوعية: مذاق الشر!
- من البابا أوربان الثاني الى البابا القرضاوي


المزيد.....




- إسرائيل: قرار إلمانيا باستئناف تمويل أونروا مؤسف ومخيب للآما ...
- انتشال 14 جثة لمهاجرين غرقى جنوب تونس
- خفر السواحل التونسي ينتشل 19 جثة تعود لمهاجرين حاولوا العبور ...
- العراق.. إعدام 11 مدانا بالإرهاب في -سجن الحوت-
- السعودية ترحب بالتقرير الأممي حول الاتهامات الإسرائيلية بحق ...
- -العفو الدولية-: إسرائيل ترتكب جرائم حرب في غزة بذخائر أمريك ...
- صحيفتان بريطانيتان: قانون ترحيل اللاجئين لرواندا سيئ وفظيع
- قبالة جربة.. تونس تنتشل 14 جثة لمهاجرين غير شرعيين
- بعد إدانتهم بـ-جرائم إرهابية-.. إعدام 11 شخصا في العراق
- السعودية وقطر تُعلقان على تقرير اللجنة المستقلة بالأمم المتح ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سلام عبود - لا حياد في بيروت