أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صلاح نيازي - قلعتا المتنبي وشيكسبير















المزيد.....

قلعتا المتنبي وشيكسبير


صلاح نيازي

الحوار المتمدن-العدد: 4841 - 2015 / 6 / 18 - 12:52
المحور: الادب والفن
    


صلاح نيازي
قلعتا المتنبي وسيكسبير


لا أدري حقّاً ما وجهُ الصلة بين قلعة الحَدَث التي بناها سيف الدولة الحمداني، وبين قلعة دنسينان بأسكتلندا، لكنني ما ان اقرأ قصيدة المتنبي : " على قدّر أهل العزم تأتي العزائمُ" حتى يخطر ببالي فجأة شكسبير، وما كتبه عن تمزّق مكبث داخل القلعة تلك. ربما لعدم وجود صلة ولا حتى أدنى تشابه هو الذي يغري على وضع النصّين في معيار واحد، فربما من خلال الاختلافات والتضادات نتعرف إلى بعض تقنيات الكتابة، لدى كل منهما.
الموضوع واحد لدى الشاعرين: احتلال قلعة الحدث من جهة، واحتلال قلعة دنسينان من جهة أخرى. ولكن أين كان يقف المتنبي حينما شنّت قوات سيف الدولة الهجوم على قلعة الحدث؟ وبالمقابل أين كان يقف شكسبير حينما حوصرت قلعة دنسينان؟ وهل يؤثر ذلك في الأسلوب والبناء والإيقاع واختيار الكلمات؟ بكلمات أخرى: هل تؤثر زاوية النظر في التشكيلة النهائية للنص؟
المتنبي تحت الجبل مع جيش سيف الدولة. لم يذكر قطّ أيّ شئ كان يدور داخل قلعة الحدث، فهو إذن كان ينظر من أسفل إلى أعلى. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن آحتلال قلعة جبلية ليس شيئاً هيناً، إذ لا بد له من عضلات جسمانية مدرّبة، ولا بدّ من جلّد ودأب، عرفنا لماذا اختار المتنبي لوصف هذا الحدث الجسيم، إيقاعاً بطيئاً، تمثّل هنا ببحر الطويل: " فعولنْ مفاعلينْ فعولنْ مفاعلنْ"، وهذه التفاعيل حتى بدون كلمات، توحي جراء تكرارها الموسيقي بإجهاد من نوع ما، بزفير قصير وشهيق أطول، بانبساط خاطف وانقباض ثقيل، إنه هنا اللهاث الذي يعاني منه المتسلق، إنه الخطوات الحذرة التي يتصف بها مقاتل يصعد جبلاً. كتمهيد لهجوم صعب كهذا، استهل المتنبي قصيدته ببيتين حكيمين، هما كالكوابح لأية سرعة:
على قدّر أهل العزم تأتي العزائمُ
وتأتي على قَدرِ الكرام المكارمُ
وتعظمُ في عين الصغير صغارها
وتصغر فى عينِ العظيم العظائمُ

ثم ينتقل بعد ذلك مباشرة إلى:
يكلّف سيفُ الدولة الجيش همّه
وقد عجزت عنه الجيوشُ الخضارمُ
حيث كلمات مثل: يكلف وعجزت و الخضارم تدل على الصعوبة التي سيعاني منها جيش سيف الدولة القليل العدد بالنسبة إلى الجيوش الخضارم.
ثمة دلالتان أخريان على هذا البطء. الأولى تتعلق بالحركة الزاحفة أي بلا أقدام. ففي تضاعيف القصيدة ثمة صور عديدة لهذا النوع من الحركة الزاحفة مثل: موج المنايا ... / متلاطم خميس ... زحفه /، إذا زلقت مشّيتها ببطونها/، كما تتمشى فى الصعيد الأراقم/.
في هذه الصور إنما كان المتنبي يهيئ لأكبر طوفان في تاريخ الأدب. خاصة أن في القصيدة ميزةً أخرى، ألا وهي الحركة المعاقة، أي تصادم قوة بقوة أو فكرة بفكرة، أو قنا يقرع القنا.
فبالحركة الزاحفة كوّنَ موج الطوفان، وبالحركة المعاقة، أنشأ الشدة والاضطراب، وأهم من ذلك الصوت والجلجلة اللازمين نفسياً لكل هول.
لنعدّ ثانية إلى زاوية نظر المتنبي، من أسفل إلى أعلى حيث يصبح الغمام والعقبان والنسور جزءاً طبيعيا في مجال بصره. هكذا جاءت هذه العناصر بعيدة كل البعد عن التكلف والإقحام، وقد وظّفها أدق توظيف فى مجمل القصيدة إذ بهذه الحيلة البصرية، تلتقي عينه بقلعة الحدث حيث اصطبغت بالدم:
هل الحَدَثُ الحمراءُ تعرفُ لونها
وتعلمُ أيُ الساقييْن الغمائمُ؟

سواء أكان المطر هنا ماء أم دماً، فإنه في كلتا الحالتين زَلُق يعيق حركة الجيش الزاحف. ولكن كيف تتمّ السيطرة على قلعة محصّنة في جبل؟
لقد أكمل المتنبي وصف العُدة العسكرية وعناصر الطبيعة المجنّدة، ولكن ما هي الحملة الفنية - إن صح التعبير – التي سيشنّها المتنبي لهذا الغرض؟ هنا لا بد من الافتراض أن الشاعر يرجع في حالة كهذه عادةً إلى مخزونه الثقافي، علّه واجد شيئاً شبيهاً، يستمدّ منه وحياً ما، أو استلهاماً.
أول ما يخطر على البال ، قصة الطوفان، والأية الكريمة: " قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم" (سورة هود).
ببراعة مذهلة يصنع المتنبي طوفاناً فنياً من نوع غريب تشترك فيه حاستا السمع والبصر :
بناها فأعلى والقنا يقرع القنا
وموجُ المنايا حولُها متلاطمُ

هذا الطوفان ، هو محور القصيدة، كما يبدو، وأهم ما فيها. ففي الأبيات الأولى لم يظهر إلا شخص سيف الدولة، وكأنه حيزوم السفينة في مقدمة المعركة، ومن ثمّ تأتي الأمواج البشرية باشكال غريبة:
أتوك يجرون الحديد كأنما
سروا بجياد ما لهنَ قوائمُ
إذا برقوا لم تعرف البيض منهم
ثيابهم من مثلها والعمائمُ

يكتمل هذا الطوفان بالعدد الكثيف من العسكر، وأصوات الرعود المجلجلة:
خميس بشرق الأرض والغرب زحفهُ
وفـي أذُنِ الجـوزاءِ منـه زمـازمُ

هذا الطوفان الخالي من الماء، أغرب طوفان في تاريخ الأدب. أمواجه دروع وخوذ وحديد، وقرشه وكواسجه، هي السيوف والصوارم، وأشرعته الغمائم والنسور والعقبان.
أما بالنسبة إلى قلعة دنسينان في مسرحية مكبث، فزاوية النظر معكوسة تماماً، حيث يقف شكسبير داخل القلعة المطلّة على غابة بيرنام، أي أنه كان ينظرمن أعلى إلى اسفل، وأهمّ من ذلك كان ينظر في صميم مكبث من الداخل، ويشهد انهياراته وتثلماته إرباً ومزقاً، حتى لتبدو القلعة وكأنها سفينة تخوض في الدماء التي سفكها. رياح الخوف من الخارج وأعاصير الخوف من الداخل تفككان هيكلها وهيكله، وتقطعان صواريها وأوردته الدموية.
الفصل الخامس من مسرحية مكبث، وهو ما يعنينا هنا – مكتوب باللهاث والفحيح والهلع، كما أن سرعة الانتقال من مشهد إلى مشهد، واقتضاب الحوار. وكثرة استعمال فعل الأمر الذي يندر وجوده بهذا القدر في مسرحية أخرى، تومئ إلى قبطان على وشك الخبال وفقدان كل أمل في النجاة، ولكن مع ذلك يبقى مكبث بصورةٍ ما، رابط الجأش لأنه الوحيد الذي ظل يعتقد أنه أقوى قلعة بشرية من لحم ودم، لا تنوشه أية أذية من أي إنسان ولدته امرأة، كما في نبوءة الطيف الثالث.
إن هاتين النبوءتين،أصبحتا بمثابة تعويذتين جعلتاه يطمئن إلى انتصاره، ويستخفف في الوقت نفسه، بأي تحدّ بشري من أي نوع.
ولكنهما أيضاً فصلتا عقله الآمن عن صدره المضطرب.
وبموت الليدي مكبث تدخل قوة أخرى في ميدان مكبث الحربي، ألا وهي قوة العقل الباطن التي تجعل منه شاعراً فيلسوفاً من نوع متأمل، لا سيما حينما جاءه نبأ وفاة زوجته الليدي مكبث:
"كانت ستموت في وقت آخر
كان لي فيما مضى وقت أفضل
للتجاوب مع خبر كهذا
يزحف غدٌ، وغد، وغد
بهذه الخطى البطيئه من يوم إلى آخر..
إلى آخر كلمة مدوّنة في الكتاب.
وكل ما مضى من سالف الأيام
أنار للحمقى الطريق إلى الموت المُعفر،
آنطفئي آنطفئي أيتها الشمعة القصيرة الأجل
ما الحياة إلا ظلّ سائر،
ممثل يثير الشفقة
يؤدي ساعته على المسرح بتبجح واهتياج
وبعد ذلك لا يُسمع منه شيء.
الحياة حكاية يرويها ممثل أخرق ،
ملؤها الصخب والنزق ولا تعني شيئاً".
يختلف – ولا غرابة – معظم الشارحين في معاني الأبيات أعلاه، ونصّ كهذا يُفهم بالشعور، ويكون من العبث التفتيش فيه عن معانٍ واضحة. إن أبطال شكسبير حينما يبلغون ذروة نفسية لا تتحملها الحواس ، تمتلئ تعبيراتهم بالغموض العميق، الشديد التأثير.
موج المنايا المتلاطم يشتد حول مكبث، فتتهدم قلعته النفسية أجرّة أجرّة وعظماً عظماً . إن الحصار لم يبدأ من الخارج حسب، بل من داخل مكبث الذي ظلّ يتقلص وينكمش وما أن جاءه رسوله بخبر تحرّك غابة بيرنام إلى قلعة دنسينان ( وهي نبوءة الطيف الثالث) حتى نسي مقامه الملكي وخاطبه مخاطبة الندّ بقوله:
"إذا كان ما تقوله كذباً
فسأعلقك على اقرب شجرةٍ حيّاً
إلى أن ينكمش جلدك من الجوع،
وإن كان كلامُك صادقاً فإنني لا أهتمّ إن فعلتَ بي ذلك .."
هذه الأبيات وإن صَوّرت ثقة مكبث بنفسه، إلا أنها في معناها الباطن تظهر كيف أصبح مكبث يعامل رسوله معاملة الندّ، بمعني آخر، هذا أول نذير على تضعضعه، خاصة أنه يأمر أصحابه بالتسلح بعد ذلك ويقول:
"فإذا تأكد وظهر ما يقوله
فلا مهرب من هنا ولا بقاء".
هكذا توصل مكبث إلى حقيقة باردة برودة الموت، وهي من ناحية أخرى أكبر اختناق لا أمل في الإفلات منه بأية صورة. لم تبق لديه إلا تعويذة واحدة، لم يبق لديه إلا مجداف واحد، وتمتلئ سفينته هو بدمه. غرقُها من داخلها، وهذا بلا شك أعجب غرق.
يسقط فعل التعويذة فجأة ونهائياً، حينما يخبر "مكدف" عدوّه مكبث، بأنه انتُزعَ من رحم أمه قبل أوانه. ولكن مكبث الذي مزقه الأمل وشتته الوهم، عاد يجمعه اليأس ليصبح كتلة واحدة روحاً وجسداً وعقلاً لأول مرة:
"رغم مجيء غابة بيرنام إلى قلعة دنسينان
وإنك يا خصمي لم تلدْك امرأة
فإنني سأحاول المحاولة الأخيرة".
يسقط مكبث متسربلاً بدمائه، وهي الكسوة الوحيدة التي لم يكن يفكربها ، خاصة إذا علمنا أن الملابس في مسرحية مكبث، هي من عناصرها الأساسية ومن أهم مقوماتها.



#صلاح_نيازي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اكبادنا تمشي على الارض
- من أفانين شيكسبير
- الوجه الثالث للعملة
- لا نهاية الكائن الحيّ
- الشعر وصغار العقارب
- مأساة الملك لير جنونه الذي لم يكتمل
- بعض وجوه استحالة الترجمة
- ثلاثة تحوّلات أدبية بعد عام 2003
- قصيدة الدائرة
- كلمات ثلجية
- المنظورية في تفسير النص
- النحو الواضح غير واضح
- الليل والخيل والبيداء... معالجة انجليزية للأدب العربي
- ولتر دي لا مير De La Mare - (1873 – 1956).. قصيدة -السامعون-
- ثلاث كتابات سريعة


المزيد.....




- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صلاح نيازي - قلعتا المتنبي وشيكسبير