أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سالم الخياط الساعدي - قصة قصير















المزيد.....



قصة قصير


سالم الخياط الساعدي

الحوار المتمدن-العدد: 4835 - 2015 / 6 / 12 - 08:14
المحور: الادب والفن
    



قصة قصيرة
رحلة بعمق المتاهة سالم الخياط الساعدي
(توطئة)..
إذا كانت البطولة تعني التضحية فلا شك أن كل أبناء شعبي كانوا أبطالا بدءا من الطفل الرضيع الذي لم تكتحل عيناه بضوء الشمس ، ولم يحتكم على قطرة حليب من ثدي أمه الجائعة،وانتهاء بالشيخ العجوز الذي تلتمع عيناه حسرة وأسفا على زمن أضاعه ومات ولم ير نهاية الطاغية، وهو يرتكن في زاوية مهملة في إحدى المقاهي بينما يدّور زر الراديو عشرات المرات بحثا عما ينجي الأجيال القادمة _ ولو بخبر صغير_ عن نهاية الدكتاتور .. حتى دعاة الثورة والتغيير الذين زيفوا الآن جاداتهم المتربة ونسو خطواتهم التي رسمت طفولتهم الأولى وارتكنوا إلى كراسٍ ومناصب سرعان ما يغمرها غبار الزمن.. أنا لا أدعي هنا بطولة ما.. إلا أنها التجربة.. التجربة المرة.. ببعض تفاصيلها التي سأسردها لكم بحياد تام وان لم تسعفني الكلمات ..
أنها عبرة، وعبرة ، عَبرة على أحلام أضعناها وعِبرة لنا لأننا خضنا التجربة بكل مراراتها وتفاصيلها. باختصار شديد، لم يساورني الندم على مقارعتي النظام،
بالرغم من إنني لست مقاتلا شرسا،ولكنني شاركت في الانتفاضة فسجلوا اسمي مع أسماء الثوار وأصبحت معروفا في منطقتي إنني أحد المتمردين على النظام الدكتاتوري الذي أنهك شعبه وجيرانه وسفك الدماء وضيق على الحريات وغامر بحروب طائشة.فقد أنهلت هذه القصة من معين ذكرياتي وحسراتي على زمن مضى. أعرف مدى صعوبة أن يكتب المرء تجربته الذاتية وقد تعدى الخمسين, وفقد الكثير من أحبائه وناسه الطيبين. لكن ما كتبته في هذه الأوراق المتواضعة التي سيجرفها الزمن وتطمرها أصابع الدهر هي محض تجربة واقعية مرت على الكثيرين غيري، واني آذ اربط الأحداث بتفاصيل تجربتي تلك علها تكون بلسما لجراحي وعبرة لأجيال قادمة لم تمر في المحنة العصيبة التي مررت بها. أقول: "انتم يا من نجوتم من الكارثة وأنتم تقرأون هذه الكلمات وتتحدثون عن ضعفنا وخسارتنا، تذكروا فقط زمن الطوفان الذي نجوتم منه".

*****
لا زال ثمة أمل ورجاء في بزوغ شمس وان كانت مُرة،لا اعرف ما يخبئه وسيجيء به النهار..أي نهار.. كانت أفكاري تطّوف بعيداً.. تترك جسدي، كما لو سلحفاة تغادر ترسها.في تلك الليلة المفارقة لم أستطع النوم، خوفا من مداهمة السلطات الأمنية داري ، حين نظرت من نافذة غرفتي كانت السماء ملبدة بالغيوم،وعبر الشارع كان الصمت ثقيلا مثل صمت المقابر..
لا شيء آخر .. لا شيء.. سوى بضعة كلاب بجلود سود ورمادية تهرش جلدها لتزيل القراد وهي تعوي من شدة الخوف والجوع وسماء رمادية وطيور الفاختي تتأرجح وتهز أسلاك النور المتهدلة بقفزات قصيرة متعثرة.
وقد بدأت الشمس بالبزوغ مصطبغة بخيوط ذهبية متلألئة ..
تناهى عن بعد صوت خطى أقدام عسكرية .خرجت من منزلي مسرعا متخفياً أجوب الشوارع والأزقة الضيقة. كنت أعد الهروب خارج البلد هزيمة منكرة مجللة بالخاسرات. ولكن ليس ثمة من بديل آخر..و..بدأت رحلتي الشاقة ..
عدوت مسرعا متخفيا بين الأشجار والنخيل. سارعت في المشي وباعدت بين خطواتي كثيرا. كما لو إنني أريد أن أهزم أعداءً يتربصون في داخلي. لم أجد أي وسيلة نقل في طريقي. كان الناس خائفين من بطش النظام، كنت وحدي أسير مسرعا في الهروب أبحث عن قشة كما لو كنت غريقا.. بالصدفة قابلت رجلاً طاعناً في السن كنت اعرفه من قبل فسألته:
_ ماذا أصابك أبو محمد.. لم لا تتكلم؟
نظر ألي بحزن وهو يهز رأسه، فيما ترقرقت عيناه بدمعتين عصيتين وقال:
_ لا حول ولا قوة إلا بالله..!
_ماذا جرى اخبرني ؟
أجابني بصوت خافت وبنبرات مرتعشة يغلفها شوق من شغف قديم:
_ لقد قتل..!
_ من؟
_صديقك محمد!!
لم أحر جوابا لقد أفزعني خبر مقتل صديقي. التصق لساني في حلقي ماذا أقول ..ياللخسارة .. همست في نفسي .. هذه الشخصية الطيبة الملتزمة. محمد الذي كان يردد دوما ( ستقتلني ولكن!! ستظل روحي تطوف في السماء والأقاصي وتدين جرمك يوما ما .) فكيف قتله الأوغاد .. خطرت إلى ذهني الذكريات القديمة وأنا أجالسه وروحه المحببة للجميع / رباه كيف لي نسيانه/ أغمضت عينيَّ لأرى صورته ترتسم بكل عنفوانها ، فتحت عيني لاحظت ملامح وجه أبيه يا الله أنها ذات الملامح التي تشبه الابن المقتول..لم أرَ مثل هذا الوجه الحزين واليائس من الحياة, حين رآني انهمرت الدموع من عينيه وسالت على خديه ولحيته البيضاء. أبكاني الموقف فحاولت مواساته، لكنني لم استطع لذلك سبيلا ما زادتني المحاولة حزنا وألما. نظرت إليه نظرة ود ومحبة وكأنني ادخل إلى روحه المحطمة. فارتعشت شفتاه . كان يريد إن يكلمني بشيء لكنه لاذ بالصمت قليلا فلم أملك إلا أن أودعه وأقبله بحرارة. سرت في طريقي مسرعاً أتلفت يمينا وشمالاً والحزن يعتصرني.
طال بي السير حتى وجدت نفسي بالقرب من دكان صغير. نظرت داخله فوجدته فارغا تقريبا من البضاعة، أخذت علبة سكائر وتابعت سيري بين بساتين النخيل حيث لا تسمع غير أصوات العصافير والعنادل ، وعبق رائحة الأعشاب الندية، وخرير مياه الأنهار الصغيرة مكونة لوحة رائعة بألوانها وتكويناتها الطبيعية. في تلك اللحظة سمعت صوتا:
_ من أين أتيت..وما أخبار المدينة؟
التفت إلى جهة الصوت كان رجلا في نحو السبعين من عمره يعتمر كوفية حمراء وتتدلى على جسده دشداشة رمادية متهرئة:
_ جئت من العشار .. هناك مناوشات بين الجيش والمنتفضين ..
قلت له ذلك وبعد حديث طويل أحسست باطمئنان إلى الرجل وبدأنا نتطرق إلى الأوضاع. وهنا قلت:
_ أيها الشيخ الجليل أرجوك أن تدلني على مكان في نهر شط العرب كي اعبر إلى الضفة الثانية..
نظر إلي وهو يبتسم:
_لماذا تريد العبور؟
قلت له:
_أن عائلتي في الجانب الآخر من النهر..
قال:
_ تمشي مسافة بحدود كيلو مترين وتنحدر يسارا مع النهر سترى سفينتين غارقتين وبإمكانك العبور مساء لان الجيش يقتل كل من يحاول العبور..
واستطرد الشيخ:
_ كن حذر أيها الفتى !!
شكرته وودعته ..سرت في طريقي مسرعا وأنا امشي متحفظا من أن يراني أحد من أفراد الأجهزة الأمنية وإذا بي اسمع صوتاً ينادي عليّ من السيارة.. صوتاً حميماً كنت أعرفه من قبل كان صديقاً لي.. قال:
_ أين تريد الذهاب..
قلت:
_ أنا أصل بالقرب من منطقة "يوسفان" أو ابعد بمسافة قليلاً.
سألني:
- أين تريد الذهاب
الحقيقة .. أريد الهروب خارج البلد..
_ أنا لا أنصحك فالأوضاع غير مستقرة..
_ الهروب صعب عليك في هذه الأجواء المتوترة عسكريا والجيش في كل مكان..
_ لا سبيل لي غير الهروب أرجوك أنزلني قبل نقطة التفتيش ..
قلت له ذلك وشكرته، ثم دخلت إلى البساتين حتى وصلت إلى المنطقة ذاتها. مشيت بحذر شديد بقرب النهر ورأيت السفينتين الغارقتين. جلست فوق حافات الصخور القديمة متخفيا ونظرت إلى النهر والزوارق الغارقة ورحت أتساءل: كيف لي العبور!كيف اجتاز النهر سباحة و شط العرب كبير بالرغم من أنني عبرته قبل سنوات طويلة حين كنت صبياً..
_ وبعد الانتظار والخوف والقلق الشديد، خوفا أن أُمسك من قبل السلطات. بدأت أفكاري تأخذني بعيدا.. تصورت ماذا سيحدث معي لو أمسكتني السلطات..
واسترجعت الذاكرة الكثير من المواقف الصعبة التي مررت بها،
طوال خمس وثلاثين سنة من التجربة في الحياة وأوجاعها راجعت ذكرياتي القديمة وقد مرت الأعوام ولم يبق لي غير ذكريات في راسي ترفرف كالأجنحة المتكسرة، وهنا تسللت إلى نفسي الكآبة والحزن،
فكرت: كيف أجتاز هذا النفق المظلم.؟
وبينما أنا شارد الذهن إذا بصبي صغير لا يتجاوز عمره الحادية عشرة نظر لي وهو يبتسم، بادلته الابتسامة البريئة ذاتها، ثم نظر مرة أخرى وهرب مسرعا.. بدأت أدخن سكارتي وانتظر الوقت المناسب للتسلل بينما كنت أفكر بكيفية اجتياز نهر شط العرب في تلك اللحظة أفزعني صوت:
_ السلام عليكم يا أخي... ماذا تفعل هنا.؟
قلت:
_ أنا جالس قرب النهر..
ابتسم وبدأ يضحك طويلاً ...نظر الرجل إلي باستخفاف .. وقال :
_ أعرف انك تجلس قرب النهر لقد اخبرني ولدي الصغير بأنه رأى رجلا يجلس قرب النهر ..أتريد الهروب؟
بدأت الأمور تتعقد.. شككت بنواياه بادئ الأمر لكني ما إن رأيت ملابسه الرثة سرعان مازال عني القلق لأنني كنت اعرف طيبة أهل المنطقة..
قلت له:
_ صدّق إن أهلي في الجانب الآخر من النهر..
ثم نظرت إليه وأضفت:
_ نعم أريد العبور..
قال:
_ كيف لك العبور والجيش قد اغرق كل الزوارق في النهر..!
_ سوف اعبر سباحة حين يحل المساء ..
ابتسم الرجل وقال:
_ الجو بارد، والمسافة طويلة، وان رآك القناص سوف يقتلك..
_إذاً ماذا افعل يا أخي..أرجو أن ترشدني..
_ ارجع من حيث أتيت وهو الطريق الوحيد لنجاتك..
_لا اقدر على الرجوع لا اقدر..
صمت الرجل قليلا في وجهي وقال:
_ حسنا لقد فهمتك.. فهمتك ..
وحدق في وجهي برهة من الزمن...ثم أضاف:
_ يوجد لدي زورق صغير جداً يتسع إلى شخصين إذا رغبت في المساء أنقلك فيه.. بشرط أن تعطيني خمسة دنانير..
فما كان مني إلا الموافقة..
_ سأكون حاضرا الساعة الخامسة..
شكرته ثم سألت :
_ ألا يوجد لديك قليل من الخبز؟
_ والله صدقني.. فأنا حائر في أطفالي كيف سأطعمهم..
اعتذر الرجل وذهب ..
جلست في مكاني وبدأت أنفاسي تخفق بفرحة مخبوءة ،الخوف، والحزن، والحدث المجهول. الآن أحسست بأوجاع في جسدي وان قواي راحت تضعف كنت اشعر بالجوع والعطش، لم أتناول الطعام منذ الصباح الباكر، قمت بشرب الماء من النهر.. ورحت انتظر فلا تزال هناك ساعات قليلة قبل غروب الشمس، وحتى ذلك الوقت لا اعرف ما الذي يخبئه النهار لي.. حتى الساعة الخامسة كنت استمع أصوات دوي القذائف والرصاص يلعلع متقطعاً بين فينة وأخرى تفاقم قلقي واشتدت حيرتي فالرجل لم يأتِ..
أخذ يساورني القلق من عدم مجيئه.. ولم يكن ثمة أمل يذكر بإنقاذ حياتي من الموت ،وانأ أنفث دخان سكارتي الأخيرة ..الكلاب لما تزل تعوي.. صوتها يتردد بترجيعات صدى بعيد .. لم أتذكر لحظتها غير الطيور التي كانت تتأرجح على أعمدة النور المتهدلة ..وأصوات الكلاب المفجوعه من الخوف.. أي حنين لبيت والشارع ثم بدأت اسمع نقيق الضفادع على طول النهر بأصواتها الرتيبة .. وأخذت أفكر: أن اكتشاف المحن الصعبة فرصة نادرة لخوض تجربتي واختزان الذكريات ..
وبعد نصف ساعة وأنا أرقب عقارب الساعة وهي تزحف ببط شديد. بدأ الخوف يأخذ حيزا في نفسي بعد أن سمعت قصفاً مدفعياً شديداً من جانب النهر.. ما العمل أذن.؟
إن رجعت إلى المنزل سوف اعتقل..!
لا يوجد أمامي غير هذا الطريق !
خلعت ملابسي واتخذت قراراً مفاجئا بالسباحة ..لقد قررت المجازفة ، قلت لنفسي:
_يجب أن أجرّب شجاعتي_
.. وفي تلك اللحظة الحاسمة.. وإذا بالرجل ينادي..
_ هل أنت جاهز.. تعال وساعدني على إنزال الزورق وأعطني المبلغ المتفق عليه..
أسرعت إليه وقمت بإنزال الزورق معه وصعدت بحذر بعد أن أنقدته المبلغ فيما راح يهمس:
_ لا تظهر قامتك ابق رأسك منخفضا حتى لا يرانا احد وسوف أنزلك قرب السفينة الغارقة..
سرنا بخوف، وحذر شديد كنا نجذف بأكفنا، كانت بعض الكائنات الصغيرة تصطدم بأكفنا هل هي أسماك أم طحالب سألته غير انه لم يقل كلمة أنما همس بصوت منخفض..
_ انزل.. انزل بسرعة.. انزل يا أخي..
قلت له متوسلا
_ أوصلني إلى الجرف أرجوك فالمسافة كبيرة.
_ قلت لك انزل بسرعة..هيا..انزل..
وتحت إصرار الرجل نزلت في الماء، بعد أن خلعت معطفي ووضعت إغراضي ومالي وربطت حذائي ثم سبحت حوالي عشرون متراً.. وبالقرب من الجرف بدأت بالمشي لكن الطين كان لزجاً وكثيفاً حتى أنه وصل إلى عنقي.. في تلك اللحظة وصلتني رشقات متتالية من الرصاص.. لقد اكتشفت من الدورية، فهرعت مسرعا وأنا أصعد الجرف الطيني المطحلب
. ورميت نفسي على ساتر ترابي قريب تمددت على الشاطئ كانت ثيابي مبللة ملطخة بالوحل وجسدي يرتعش من شدة البرد وبالرغم من أنني كنت قلقاً.. ولكني أحسست بالحرية والأمان، بعد العبور بدأت أتفحص جسدي ولكني أحسست أني مت قبل ألان وأنني حي في نفس المكان..
وفي تلك اللحظة رأيت اثنان من ثوار الانتفاضة يحملون البنادق ناداني احدهم..
_ من أين أنت..!
_ من العشار..
_ ما أخبار المدينة..
_ الجيش دخل في كل مكان وبدأ يعتقل ويقتل الناس..
_ وأنت.. أين تريد الذهاب..
_ إلى الحدود..
_ وكيف ستذهب تحت هذا القصف الشديد..
_الله يحميني..
قلت لهم ذلك وشكرتهم وسرت بحذر بين القصب العالي بينما الرصاص يخطف فوق راسي بكثافة شديدة. كنت أسير على غير هدى لا اعرف إلى أين اتجه.
ضاع بي المسير إلى الجادة الصغيرة في تلك اللحظة شاهدت سيارة عسكرية كبيرة بين النخيل وبعض الثوار فنادى علي احد الأشخاص.
_ الم تعرف الطريق..
قلت:
_ لا ..
ابتسم وقال:
_ وكيف ستصل إلى هناك في هذه الظروف الصعبة..
_ سأجد طريقة ما..
_ حسنا سأدلك على الطريق ..
_ اذهب على طول هذا الطريق حتى ترى جسراً صغيراً وتسير بجهة النهر.. سوف تلقى رجلا يدعى سعد السكيني ..كن حذراً وأعطه كلمة السر (صديق 1)..
شكرتهم على ذلك ،وسرت مسرعا حتى وصلت الجسر وبينما كنت أواصل السير سمعت صوت أطلاقات من البندقية تأز بالقرب من رأسي هلعت من هذا الموقف بينما الطلقات تزداد كثافة..
رحت أنادي بأعلى صوتي:
_ أنا( صديق 1)..
تكرر الصوت ثانية:
_ من أنت..؟
قلت:
_ (صديق1)..
_ حسنا تقدم..
سرت مسافة تقدر بعشرة أمتار ..
_ انبطح..
نفذت أوامره.. وإذا بشخص طويل القامة ،ضعيف البنية يقول:
_ من أين أتيت..
ـ من المدينة..
_ ما اسمك..
أطلعته على اسمي..
_ أرني هويتك..
نظر إليها بعين فاحصة وقام بتفتيشي..
_ ما هذا ملابسك مبللة وكلها طين..
_ نعم لقد عبرت نهر شط العرب..
_ كيف كان ذلك والجيش يقتل كل من يعبر..
_ الله نجاني..
قادني الرجل إلى الملجأ فطلبت منه طعاما.. أحضر لي فتات من الخبز..
رفعت بعض منها وقربتها من انفي ..كانت رائحتها عفنة.. التهمت بعض منها وشربت الماء بعدها قدم لي سكارة فشكرته كثيرا وخرجت ..
قال:
_أين تريد الذهاب..
_ إلى الحدود..
وكيف ستذهب.
في هذه الأثناء اشتد القصف المدفعي فدخلت الملجأ وانتظرت حتى أصبح الوضع آمنا..
قال لي سعد: أذن ستذهب .
_نعم..
_ احذر الألغام في طريقك فهي كثيرة فالناس يموتون كل لحظة.. لماذا لا تقيم الليلة هنا وتذهب في الصباح..
ولكنني صممت على الرحيل وسأتوكل على الله..لا اعرف ما الذي يدفعني للرحيل اهو القدر أم شيء آخر ..
لا أعرف لم هذه العجلة بالذهاب.. وكأنما تدفعني أيادي خفيه وقوى قدرية غامضة للذهاب على عجل ..
خرج معي وأراني الأبراج الثلاثة..وقال:
_ اسمع يا أخي اذهب بجانب الساتر الترابي للبرج لا تنحدر كثيرا عنه فهناك ألغام كثيرة.. شكرته وذهبت..
بدأت الشمس تتلاشي وراح الليل يخيم بظلامه وضوء القمر ينث رماداً ذهبياً..
سرت على غير هدى كنت لا اعرف إلى أين اتجه في هذه الأرض الموحشة ومستنقعاتها الراكدة التي تطأها قدمي لأول مرة..
كنت لا أرى شيئاً في طريقي حتى وصولي إلى سدة ترابية مرتفعة صعدت إلى الشارع.. خطفت سيارة مسرعة في الظلمة دون أن تضئ مصابيحها سارت مسافة كبيرة بحدود نصف كيلو متر ثم رجعت إلى الخلف.. راودني بعض الخوف من رجوعها فتراجعت باتجاه المنحدر بخطوات سريعة نادي عليَّ شخص باسمي تفاجأت من هذا الصوت.. وأنا أخطو متراجعاً إلى الوراء وإذا بباب السيارة يفتح..كان الصوت ليس غريباً عني فطالما سمعته..تساءلت.. أني اعرف هذا الصوت..أنه صوت قريب لنفسي انه الصوت ذاته وما أعجب المصادفات انه أخي الذي يصغرني ويا لها من مفاجئة..
قلت:
_ يا الله ما هذه الصدفة العجيبة.. هاهو القدر بتوقيته ينجيني..
وبدأت علي الدهشة .. هذا أخي قد رجع إلي كان غير متأكد من وجودي فالظلمة كانت شديدة.. عجبت كيف توقع وجودي في هذه اللحظة .
قال لصديقه الذي معه _انه أخي الكبير_
بينما صديقه قال متعجبا :كيف وصل في مثل هذا الوضع الصعب..
_ اني متأكد أنني لمحت هيئته ونظارته الطبية ومشيته..
كان الطريق إلى الحدود طويلاً ووعراً ومحفوفا بمخاطر جمة ..
ثم خيم الصمت علي لوهلة من الزمن على المصادفة العجيبة ؟
سألت:
_ يا أخي ترى أين كنتم ذاهبين.؟
قال:
_ لجلب مولد كنا نحتفظ به في ملجأ بمنطقة سيد جابر وقررنا أن نجلبه في الظلام حتى لا يرانا الجيش، ولكن الله بعثنا لإنقاذك إن نأتي ونراك..
سرنا مسافة بحدود نصف ساعة تقريبا..
قلت لهم:
_ عجباً.. كيف كنت سأقطع وحدي كل هذه المسافة..!
قالوا:
_ أنت ميت لا محال.. لكن حظك أرسلنا إليك..
لم افهم ما الذي يحدث لي كأن شيئاً غيبياً يمهد لي الطريق وينجيني ..
وكنت اشعر بالراحة نتيجة الأشياء التي تحدث لي !
في تلك اللحظة بدأ القصف الكثيف يشتد في طريقنا وانأ أتساءل في دخيلتي .. كيف يتسنى لي قطع هذه المسافة مشيا على الأقدام في عتمة وغموض وصدى الأصوات القدرية في هذه الأرض الموحشة حيث لا يوجد إي اثر لبشر في الطريق ، وصلنا الحدود الإيرانية بسلام ومن بعيد رأيت الخيام منصوبة.. في النهاية التقيت أبي وأمي وكانوا فرحين جدا بوصولي سالما وبعد أيام عدة تجمعت مجموعة من الثوار والشباب وجلبوا الأسلحة وقمنا جميعنا بمهاجمة أزلام النظام وجاءت تلك المعركة التي دارت على مشارف"التنومة"
لتثبت لي بطولتي وقام الجيش بالقصف الكثيف وسقطت القذائف فوق الخيام وتناثرت الجثث أشلاء مقطعة. كان الموقف مريب ومرعب هرعنا مسرعين ونحن نلملم أشلاء وأعضاء الموتى على عجل خوفا من المدفعية فيما تصطبغ الأرض ببقع حمراء والكلاب تنهش الموتى وأشلاءهم المقطعة ..
وانأ انظر الدم المختلط بالرمل على جثث الموتى ما هذا الكتلة يا للهول كأنه رأس طفل متفحم أبواه مرعوبان من المشهد كنت أشم رائحة الدم وقلبي يعتصرني وانظر الموتى وهم ينقلون في السيارات ..
في تلك الأثناء هبت عاصفة هوجاء كأنها تحمل نقمة مضمرة على البشر فتطايرت الخيام في الهواء وكانت الأشجار والنباتات الصغيرة تقتلع من جذورها ،استمرت العاصفة بحدود نصف ساعة وكأنها تلقن الكائنات البشرية درسا أخيرا وهي ترى جثث القتلى والأشلاء في كل مكان ..هل يفهم الريح العاصف..
هل لها قلب بشري رحيم يحتج أمام رؤية القتلى من الأبرياء؟
هكذا تساءلت في خاطري..حتى بدأت الشمس تغرق وراء بحر الغمام وكانت السماء مظلمة ثم هطلت أمطار شديدة وهبت الرياح مرة ثانية وكان المطر يهطل مع عصف مهول مصحوب برذاذ شديد ..هل تأثرت قوى الطبيعة لشهدائنا.. وهل لقوى الطبيعة الغامضة رأفة تتعدى حدود هذه الكائنات المتنازعة التي تقتل بعضها بكل تلك الصفاقة ..وهل سينتهي طمع الإنسان ومؤامراته ليقتل أخيه الإنسان؟ كانت أسئلة كثيرة تضج في رأسي الذي لم يحتمل رؤية كل هذا العذاب والمعاناة وأناس أبرياء قذفهم القدر عبر الحدود.. كان كل ذلك يصيبني بالخيبة واليأس .في النهاية انسحبنا بعد إن تكبدنا شهداء كثر وأسرنا جندي ما كان بمقدوره العيش بعد إصابته الشديدة من جراء القصف المدفعي وأنا انظر إلى الجندي وهو ينزف ويتخلى عن المعركة ويصف السلطة بالمجرمة والقاتلة وقال انه مجبر على القتال ثم وافاه الأجل وقام الإيرانيون بإدخالنا إلى حدودهم بمسافة خمسة كيلو متر تقريبا مكثنا شهرين في الخيام قرب نهر "بلو ناو" وكان نهراً صغيرا، مياهه جارية وحينما يسقط وهج الحر الصيفي على أجساد الناس ويقطن الغبار لزجاً بأجسادهم يذهبون للسباحة وبدأنا نسبح في ذلك النهر أنا وبعض الأصدقاء وحتى أبي كان ينزل في مياه النهر ليبرد جسده من الحر بينما كنت أسبح وأقوم ببعض الحركات البهلوانية في الهواء وأنا أقفز في النهر الذي تحيطه الأشجار والنخيل الباسقة بمنظرها الخلاب وهنا لاحظت فتاة تسترق النظر من خلف الأشجار وهي تبتسم لي. شدني الموقف ورحت أتباهى بحركاتي لجذب اهتمامها وبعد خروجي من النهر ذهبت بقرب تلك الشجيرات التي تقف بجانبها وألقيت التحية بادلتني بابتسامة وبدأ الحديث قالت: أنت تسبح بمهارة فائقة!! قلت لها: أتعرفين أن درجة الحرارة خمسون والجو حار جدا لماذا لا تسبحين بقرب الجرف؟ ابتسمت وهي تهز رأسها بالرفض وبدأ الحديث يطول بيننا وتواعدنا على لقاء ثان وبدأت علاقتنا ببراءة وكان لها صوت جميل وعذب جداً وهي تغني لي تحت ظل الأشجار وبأجواء رومانسية وبعد فترة من الزمن ليست قصيرة. لم أكن أتوقع أن تلك البراءة تضمر بداخلها تلك الرغبة الجامحة التي تغلبت على روحها وبعض الأقاويل التي تحكى عنها وعن أخلاقها وشهرتها تلقب "البطة" وبدأت ألقي عليها الموعظة الأخلاقية أنت تائهة وضائعة في هذا الوضع الغريب علينا ..
ورحت احدث نفسي: هذه الفتاة هل هي ساذجة بريئة أم خبيرة ولعوبة مع الرجال ..
وأخذت تقرب جسدها وإغراءاتها الأنثوية أصابتني برعشة هزت جسدي فقلت للشيطان: خذ غرائزك وأبعدها عني.. ونهضت من قربها بازدراء بينما حدقت بي كأنني مذنب وقالت بلهجة متعالية جريحة: اذهب من هنا هيا أرجوك اذهب ؟ وبدأت بالتخلي عنها والابتعاد لا اعرف ما الذي قادني إلى هذه التصرفات أهي الظروف المحيطة بنا أم عدم التأقلم مع الأوضاع السائدة حينها ..
وبعد أيام عدة قام الإيرانيون بإدخالنا مدينة المحمرة سكنا في بيت مهدم ما عدا غرفة واحده صالحه طال بنا المكوث فقام أخواي بالعمل في البناء ..
إما أنا فالتقيت صديقي ماجد الخياط وذهبنا إلى طهران وفي تجوالنا في العاصمة انتبهت أسعار العملات خاصة الدولار وقارنت بين السوق وقلت: يا ماجد أني حصلت على عمل!!
ابتسم وقال:
- أين حصلت عليه في الحلم ..
قلت له:
- سأرجع إلى مدينة المحمرة ثم أعود لطهران..
وبدأت اعمل في شراء العملات بين الحين والآخر فمن مدينة "المحمرة" إلى "طهران" العاصمة المليئة بدهاقنة التجار والمناورين من شتى الجنسيات والأصناف. من هناك من أكثر العواصم قسوة في التعامل مع الغرباء بدأت رحلتي الجديدة ورحت أصارع الحياة لأثبت لنفسي أولا أن الخسارات لابد أن نرممها وأن كينونتي لما يزل ينبض فيها روح متمرد وصلب. فالنفس البشرية مثل بناء يتهدم وعلينا صيانتها بالعناد والمواجهة فالمعاناة ستصنعنا يوما ما..هكذا كنت أقنعت نفسي وأنا في غمار عملي الجديد الذي سخر منه صديقي ماجد.. الذي سافر إلى روسيا لأنه عجز عن مواجهة الظروف القاسية والتعامل مع الآخرين. غير أن مهنتي هذه سرعان ما تعامل بها الكثير من الناس خاصة العراقيون النازحون ما جعلني ابحث عن عمل آخر، حتى التقيت بصديق من أهالي البصرة تكلمنا حول الأوضاع وسألته عن سكنه أجابني من انه يسكن في بيت أخته في مدينة أخرى اسمها "سربندر" وهي مدينة جميلة جدا تبعد ساعتين من هنا فسألته: هل توجد بها محلات للخياطة ..وطلب مني الذهاب معه شكرته وذهبنا سوية بعد عدة أيام وحين وصولنا المدينة قال صلاح: لنذهب إلى بيت أختي ونستريح وفي الغروب يأخذنا احمد ابن أختي للبحث عن محلات للخياطة قلت له كما ترتئي أنت وحين وصولنا البيت قرع صلاح الباب فأطلت علينا فتاة انبهرت بسحر جمالها وقوامها الفاتن بدأ قلبي يخفق سريعا سألها صلاح: احمد موجود إجابته: انه خرج من البيت
ثم سألتُ أنا صلاح من هذه الفتاة فلم يسمعني أعدت عليه السؤال:
_ يا صلاح من هذه الفتاة الجميلة؟
قال بأسى واضح:
_ أنها بنت أختي ليلى، قتل زوجها في الحرب العراقية وهي تعمل الآن مدرسة.. وهنا تسللت نظراتي فوقعت على عينيها الزرقاوين فبدأت ابحث بعينيها فهزمتني فما أشقاني وما أجمل عينيها ، كانت تلف شالاً احمر اللون ينعكس على وجنتيها فيزيدهما احمرارا وزاد انبهاري بها.
بعد لحظات من جلوسنا في بيت ليلى قدمت ألينا أقداح الشاي ألقيت التحية عليها كانت الابتسامة لا تفارق محياها فأجابتني بصوت عذب وكان كلامها عربي بلكنة إيرانية حيث أن أهلها كانوا من المسفرين العراقيين ..
فكيف تسلل صوتها وهمس قلبي بزلزال حبس أنفاسي وارتعشت اللهفة بجسدي ..
وكان لليلى بنت صغيرة اسمها أنسام من زوجها الشهيد بدأت الصغيرة في المداعبة الأبوية معي وأصبحت مودة بيننا تزامنت الزيارات بحجة أني ابحث عن عمل..
وهنا لاحظ صلاح بريق أعيننا عند اللقاء فكلمني:
_ أرجوك كن واضحاً معي أني أرى تقارباً بينك و بين ليلى وأنا احترمك كثيرا؟
أجبته بصراحة:
_أتمنى إن لم تمانع في طلب يدها للزواج ..
ابتسم صلاح وقال:
_سوف أكلمها وأكلم أهلها وابعث إليك بالخبر ..
بدأت صورة ليلى تتغلغل في أعماقي وبعد أيام عدة من الانتظار أتى الرد المفرح بالموافقة ذهبنا إلى بيتهم أنا ووالدي وأمي لطلب الزواج والارتباط الرسمي بعد الضيافة والاستقبال وهنا طلت علينا ليلى وأمها بدا قلبي يخفق بدقات سريعة حلمت بعبق عشق جديد يدخل قلبي وانأ غارق بالنظر إلى عينيها قالت لي أمي: ما شاء الله أنها جد جميلة ودخل السرور إلى قلب والدتي وزغردت بأهازيج الفرح وهنا أبدوا شروطهم علي وافقت على كل شروطهم ما عدا واحدا قلت:
_ لا استطيع تنفيذ هذا الشرط الذي يقتضي عدم الرجوع إلى بلدي والعيش في إيران..
طلبت منحي فرصة للتفكير وهنا بدا الموقف يتغير وكأنها بدأت تؤمن بصدق نواياي فوافقت على الارتباط بالزواج والحب بالرغم من أنها كانت خائفة جدا !
حدثتها عن الحرب هي لا تحب الماضي وتريد نسيانه قالت أرجوك لا أحب الحديث عن الحرب اعتذرت لها ..
وتطورت العلاقة بيننا وأصبح الحديث مباشرا قلت لها اعرف إنا لم نتحدث مع بعض يوما ولكن أحسست معك بتواصل ولا اعرف إذا كنت تشاركينني المشاعر نفسها أم لا ، ابتسمت وهي تطأطئ رأسها خجلا وحيا. وبدأنا نرسم خطواتنا الأولى وخرجنا إلى ساحل البحر سوية مع الطفلة ذات الروح المرحة وقتها تسلل الفرح إلى قلبي وبدا حديثنا رومانسيا ..
نظرت بعينيها البراقتين وتهت مبحرا في زرقة عينيها فسارت بقربي كفا بكف ووضعت سحر عينيها بعيني وقلت لها مازحاً ..
أرجوك ابعدي نظراتك عن عيني ولا تحدقي بي .
لحظتها قلت لها ما الذي يجعل الكلمات تتبعثر بنظر بعينيك ابتسمت وبدأت تضحك لوصفي لها .
فيما غرقت بنشوة عارمة وتكررت الزيارات والتنزه على ساحل البحر وأنا القي عليها بعض الإشعار الرومانسية من ذاكرتي وهي فرحة جداً بعلاقتنا وبدأت العلاقة تزدهر بيننا وبعض المداعبات الخفيفة من الرومانسيات مما ضاعفت أواصر المحبة في قلبينا وشاع الخبر بين أقاربها وصديقاتها ..
وبعد أيام عدة قلت لها: أني أعيش بعيدا عن وطني ..إلا أني بدون عمل كيف لي العيش بهذا الطريقة . قالت: لا تقلق سوف تجد عملا وأني سوف أساعدك لفتح محل للخياطة ؟
كان قلبي مفعما بالحب والسعادة وبدأت أغرز الحب في قلبي ولكن بعيد عن وطني . وهنا لاحظت التقارب بين ليلى وأمي بدأ تأثيرها يدخل قلب أمي وقالت لي: يا ولدي أن ليلى تحبك كثيراً وانأ أيضاً أحبها؟ لكني خجل من بقائي بدون إي عمل والآن أصبح شهرين ولا اعرف اتخذ إي شي أين اسكن بعد الزوج وماذا اعمل في الصباح أحسست أن حياتي عبء على ليلى ما هذا الموقف الذي أوقعت نفسي وأوقعتها فيه !
..وفي احد الأيام عند رجوعي إلى مدينة "المحمرة" بينما كنت جالسا في الباص بقرب النافذة وأنا انظر إلى السماء والغيوم تمنيت أن أكون طيرا بجناحين وتحملني الريح بكل عنفوانها وسرعتها وترميني في بلدي لقد بدأ الحنين يخنقني . بالعودة للوطن ..وبعد أيام عدة بدأ القلق على أهلي ينهل علي كضرب النواقيس على راسي.. حنين لا يوصف بكلمات ..لوجوه أحبة تركتهم وراء الحدود .. وهنا بدأت بعدم الذهاب لرؤية ليلى كنت أتذرع بحجج واهية كلما كان يأتي صلاح ويقول: ليلى تسأل عنك.. /حسنا يا أخي سوف أفرغ الأسبوع القادم واذهب/ كنت أقول له .. ولم أنفذ وعدي وأمي أيضاً تقول: لا يا ولدي ماذا تفعل؟ البنت تنتظر، وهي تحبك فلا تكسر قلبها؟ غدوت في حيرة من أمري. وفي يوم من الأيام بينما كنت مستيقظا صباحا سمعت طرقا خفيفا على الباب نهضت وفتحت الباب، وتفاجأت بأبيها و صلاح وأخيها احمد وبعد التحية والضيافة بدئوا بالكلام حول موضوع ليلى وكلموني بالإسراع بالزواج وعلى أن يجدا لي عملاً مناسباً في المدينة نفسها التي تسكنها ليلى. وأخذني صلاح منفردا وقال: إن ليلى تبكي وتتألم من الحسرة فلم كل هذا التأخير عن اللقاء معها ؟
قلت: أبدا أني أحبها واحترمها.. ثم قال أبوها: إن كنت لا تريد الزواج من ابنتي فلماذا أتيت إلينا؟ بدأت الأمور تتعقد، همست في نفسي ثم قلت لهم: حسنا غدا سوف أخبركم بالموعد...
كيف سأتخذ القرار برجوعي لبلادي أو البقاء في إيران؟
وهنا بد التفكير بحقيقة الواقع المؤلم والتخلي عن هذه المخلوقة الرقيقة ؟ كيف أبدأ عهدا جديدا على قلبي؟ وكيف أنسى صوتها العذب؟ قلت أنساها كأنها حب عبرا في الطريق
أريد إن اصرخ بصوت عالي" ليلى إني ناكر العهد لحبك!
بعد التفكير والصراع الصعب بين القلب والعقل وأنا أهمس في ذات نفسي: إنني عاطل عن العمل فكيف لي بالزواج وزج هذه الفتاة الجميلة بمتاهاتي وبعد يوم قضيته في صراع مع نفسي اتخذت قراراً حاسما. هو أن أغادر قلبي واركنه على الرفوف وأخبرهم : إني غير قادر على البقاء فترة طويلة واني أقدم خالص الاعتذار والاحترام لليلى وأهلها ويصعب علىّ الذهاب ومقابلتها خجلا من الموقف، وانأ مرتبك قمت بالاعتذار لأبوها و صلاح واحمد قلت سوف ارجع إلى بلادي وأرجوكم اقبلوا اعتذاري مرة أخرى وغادروا وهم غير راضين عني ولم يقبلوا إي اعتذار. والغضب على وجوههم ..
ها هو الوطن يأخذني لموتي ويضع حجرا على قلبي هل يحس المحبون أني كسرت كل هذا الحب بالحنين والرجوع الغريزي باللاوعي للوطن !
أيتها الجسور المحطمة في قلبي مخذولا أنا أصبحت لا وطن ولا حبيبة أتسكع بمتاهاتي المتلاشية ..الحب خطوة حزينة في قلبي وانأ ابحث عن هزيمتي في ركن منعزل ؟فليحدث ما يحدث .. انني على وشك أن أغرز خنجرا في شغاف قلبي..
سأنهي قصة حب عابرة غرست في قلبي وأمضي ؟
وبدأت الأيام بطيئة وموحشة وهنا أصبحت الحياة صعبة والفراق بدأ يدق علينا بشوق إلى أهلنا في ديارنا بعد المكوث سنة كاملة لا نعرف أية أخبار عن إخوتنا ما دفعنا إلى الرجوع وترك الأمور تأخذ مجراها وفي صباح اليوم التالي تحدثت مع أصدقائنا حول العودة فحذرونا وقالوا:
دع أبيك وأمك وأخيك الصغير يذهبان وأنت وأخيك امكثا هنا وبعد عدة أيام قمت بشراء مواد غير متوفرة في العراق من الغذاء وبعض الاحتياجات وفي يوم الجمعة ودعناهم بسلام ورحلوا وبقينا أنا وأخي الذي كان عمره ثمانية عشرة سنة يستحق الخدمة العسكرية قررنا عدم الذهاب والبقاء في البيت نفسه بقينا لمدة حوالي شهر وفي ليلة من الليالي وكان الجو حارا وأخي مريضا ويعاني من الرشح والحرارة المرتفعة قمت بإحضار ماءً بارداً لكي تنخفض حرارته واقترحت عليه الصعود والنوم على السطح بعد أن اطمأنيت عليه فنام هو أما أنا فبقيت في فراشي مستلقيا بعض الوقت انظر للقمر والنجوم في السماء ونسيم ذلك الصيف غير المنقطع وروحي ساكنة وحيدة بدأت تطوف وحدها وأنا مستغرق بنظري العميق للنجوم سمعت صوتاً كصوت الريح أو البرق المضيء أفزعني وقررت النزول إلى غرفتنا وهنا حدث شيء عجيب !
في باب السطح رأيت امرأة كبيرة في السن وهي ترتدي ثوبا ابيض قصيراً فيه وردة صغيرة مائلة إلى الزرقة وشعرها كذلك ابيض يتطاير في الهواء وبيضاء البشرة وفمها عريض وعينيها مجوفتان فارغتان ومظلمتان. لحظتها أيقنت أن أشباح الموتى قاموا من قبورهم قلت لحالي كن هادئا لأجل الليل والنجوم حتى تنجلي، عندها شعرت إن الهواء أخذ ينقص كثافة في صدري وهنا ضاقت أنفاسي وأصابني شيء من الوهن والعجز ما هذه الاضطرابات المخزونة في داخلي لأنهض وأتأكد مما أراه لكني عجزت عن الوقوف على قدمي ؟
سألت نفسي.. ورحت أتساءل بقلق: هل هي خيوط من الضوء أم حرارة الجو أو شيئا آخر لعلي أرى شبحآ .. ولكن الذي رأيته لا يمكن أن يكون وهما.. ولا هو حلم أو كابوس كنت لحظتها في أشد حالات الصحو.. نهضت مرة أخرى وإذا هي كما رأيتها.. شبح مرعب للمرأة البيضاء كالثلج.. خطوت خطوة أخرى لأتأكد. تقدمت هي بغضب وكانت تندفع نحوي برعب ..
رجعت بعجالة إلى فراشي وأيقنت أنها من أشباح الموتى التي تطوف أرواحهم في كل مكان فاندهشت لذلك . فالجو ليس واقعيا كأنه حلم فلا صوت ولا حركة، شيء غريب كأني في هلوسة من أمري وهنا استعنت ببعض الآيات القرآنية ، التي نجحت في استعادتها من الذاكرة بينما المرأة البيضاء كالثلج بعينيها المفقوءتين تقف في مكانها، كانت تتحرك نحوي ببطء كلما أبديت حركة في النهوض وهنا اتضح إن أرواح البشر الذين ماتوا ميتة بشعة, تظل قلقة غاضبة حاقدة مؤذية لكل من يقترب منها من البشر, ثم نفضت عن رأسي كل تلك الأوهام وعدت لاستكمل نومي الذي لم استطع له سبيلا بسبب الخوف الشديد الذي غمرني برعشة برد عنيفة ..
بينما أخي نائم لا يعرف أي شي مما يحدث حتى أدركني الصباح وأنا صاحيا اقرأ الآيات والأدعية حتى آذان الفجر. ظننت إن ما مررت به كان مجرد حلم لا أكثر وبعد أن كبر المؤذن الله أكبر بدأت المرأة بالتلاشي تدريجيا كما لو كانت طيفا في حلم يقظة. ومع أول ضوء للشمس هرعت مسرعا إلى إيقاظ أخي ونزلنا معا فيما لم أنم دقيقة واحدة. خرجت في الصباح الباكر والتقيت مع الجيران وسردت عليهم القصة كما توقعت لم يستغرب أحد منهم.
قال أحدهم وهو رجل كبير السن:
_نعم ان ما تردد عن هذا المنزل صحيح فالذي يسكنه هو طيف امرأة تنتقم من كل من يقرب هذا لبيت ...
ثم قررت العودة في اليوم نفسه بعد الإحباط الذي أصابنا من الأخبار التي تؤكد عدم سقوط الطاغية. فقمت بتوزيع أغراضنا على إخوتنا العراقيين المحتاجين من أغطية وبعض المواد وعدنا في المساء مع استغراب أخي من الموقف.. أخي الذي أخذته بسرعة وهو لا يعرف عن الموضوع أي شيء.. دخلنا إلى الحدود وكان بالنسبة لي أدفع حياتي ثمنا لموتي كان الخوف يقرع أجراسه بضجيج هائل في قلوبنا. خوفا من أن يعتقلنا النظام ..
وانأ فرح برجوع للوطن وانظر الناس بالحدود ينظرون لنا بعطف
سقطت الدموع حزنا وألم قالت لهم غداً تحصلون على الخبر فناموا لكي تحلمون وتجربون بكاء اغتراب الوطن ..
سأترك ما تبقى من الليل لكم للبكاء من القادم وأمضي في الحياة ؟؟؟
وبعد مكوثي لفترة قصيرة والعودة من المنفى بدأت ابحث عن أصحابي وأتساءل ترى هل تغير الحال بعد هذا الحدث المهول ولكن صدمت أن شعبي يتحدثون عن الخوف بنفس الأسلوب القديم وأكثر من الطاغية !
ولكننا سنواصل هذا الطريق الطويل بقياس عمق الهاوية ؟..
هنا أنهيت رحلتي وطاوية صفحتها .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنها سيرة ذاتية وهي تجربة محض كتبتها بهذه السطور ..فدونتها بهذه الكلمات المتواضعة..علها تكون عبرة للأجيال بعد أن كانت عبرة لنا



‏‫-;-



#سالم_الخياط_الساعدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قطرات قاتلة
- قصة قصيرة الدخان
- مذكرات على بحر أيجة


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سالم الخياط الساعدي - قصة قصير