أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله عيسى - الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب عن معلولا















المزيد.....

الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب عن معلولا


عبدالله عيسى

الحوار المتمدن-العدد: 4832 - 2015 / 6 / 9 - 23:01
المحور: الادب والفن
    


الضياع المقدس في معلولا
عبدالله عيسى *
الطفل ذاك ، الأسمر النحيل في مريوله المدرسي ّ رصاصي ّ اللون ، المتّشح بوشاح بلون برتقاليّ طازج ، و طاقيةٍ مخروطيٌة الشكل على الرأس ، الذي كنت ُ بشعر أطول قليلاً من أقراني ، فقد كان أساتذتي ، لأنني كنت ُ أشطر ممن هم في عمري وأصغر وأكبر قليلاً ، يوارونني عن أعين مفتشي مديرية التربية الذين يفدون عادة إلى مدرستنا " ابتدائية ببيلا للبنين " ليتيّقنوا من نظافة طلابها ، بما في ذلك الشعر والأظافر .
ذاك الطفل ، في الصف السادس ، في ربيعه الثاني عشر ، يتذكر الآن تلك الرحلة المدرسية إلى معلولا . المدينة التي مسّ روحي بها ما مسّها مذ تهت ُ طفلاً عن أقراني وأنا أتأمل الجمال المقدّس المنبعث من أيقونتي السيد المسيح والسيدة مريم العذراء عليهما السلام ، وعدت ُ إليها بعد عشرين عاماً أبحث بين ملامحها عن وجهي الأسمر النحيل وعن ظلالي التي توحدت بأحجارها .
كأنها تهبط من السماء حين تصعد إليها وقد أسند الجبل بيوتاتها وكنائسها وأديرتها ، فيما تشعر وكأن الرب ينفخ فيك الروح من جديد طالما تتنفس هواء طازجاً وكأن رئتي مخلوق قبلك لم تمسسه ( لم أكن أنا الطفل آنذاك أعرف أن اسمها مشتق من السريانية ويعني المكان المرتفع ذا الهواء العليل ) . وكما لو أن الكنيسة والأضرحة المحفورة في قلب الجبل الراسي على الأرض لتحميها من الوقوع , وكأن تلك الأوابد التي عاشت منذ القرن العاشر قبل الميلاد تجعل التاريخ أكثر قابلية لتذكّر روايته الأولى .
كنا نعتصم بأيدي بعضنا ، كما أمر أساتذتنا ، كي لا يضيع أحدنا عن الآخر ، ونحن نصعد إلى أعلى من البيوت التي وضعت طبقات ، لتصير سطوحها معابر لما فوقها .
يا إلهي !. يكاد العرق ينبعث من بين أصابعنا ونحن نشدّ على أيدي بعضنا بعضاً ، ونحن نمخر الشق الذي جُعل في بطن الجبل ممراً نعبره بين طرفي الجبل الكبير .
الساقية التي تفجّر عنها الصخر باردة في حمأة ذاك النهار الملتهب بشمس وقفت فوق الرؤوس تتأمل المشهد العظيم .
وإذ غسلت وجهي بها رأيت الحياة كلّها تتجول في أعضائي . ماء مقدسة يأتون من كل فج عميق يتطهرون بها .
وكأنني عدت ُ بعد عشرين عاماً ذاك الطفل الأسمر النحيل في مريوله المدرسي ، وأنا أتلمس روحي في ذلك الماء المقدّس فتعود إلي ّ طاهرة من الخطايا التي أورثتُها جسدي هذا الذي لايزال ذاك الأسمر النحيب .
لكن ما مسٌني من تلك الأيقونة .
السيد المسيح ينظر إلي ّ بعينين محبّتين رؤومتين ، وكما لو أنه وهبني ، أنا الطفل ذاك ، برحمة لا حدّلها تلك الهالة النورانية التي ما تزال تطوّقني بعد عشرين عاماً .
السيد المسيح عليه السلام يخصّني إذن بكل هذا الحب ّ ، يا إلهي .
ولم أعثر على يديْ الطفلين الذين كنت أعتصم بهما ، كما أمر أساتذتنا ، خشية أن نتوه أحدنا عن الآخر ، وبحثت عن تلك الأصابع الصغيرة التي كانت تشد ّ على أصابعي النحيلة ، ولم أعثر عليها بعد عشرين عاماً .
طويلاً ، وقفت في كنف السيد المسيح ، والسيدة مريم العذاراء عليهما السلام ، وأيقونة العشاء الأخير ( لم أكن أنا الطفل ذاك أعلم أن هذه الأيقونات تعود الى ما بين القرن الثاني والرابع الميلاديين ) .
كان النور يشعّ في قلبي ، بينما تسللت أشعة الغروب خجولة إلى المكان .
والتفت. حولي فلم أرَ إنسياً ، وعدت ُ بعينين خائفتين إلى السيد المسيح : لكأنه ما يزال يبتسم لي ، وإذ رأتني السيدة مريم العذراء مدّت لي يدها .
وأصابتني الزلزلة . يا إلهي ! يد ٌ حانية على كتفي تنبض بالرحمة ، فيما الصوت الحاني علي ّ هادئاً مطمئناً يشع بأوصاف السكينة في خلاياي :" اطمئن " ، وأخذتني من بين يدي ّ ، وأنا أفتح رئتي ّ بما لا يطاق على الروائح ذاتها التي تهبط من السماء طاهرة بيضاء من غير سوء إلى حيث أمِنت من خوف ، بين أطفال مثلي ربما تاهوا في لدن هذا الجمال الإلهي المقدّس عمن سواهم ، وأُطعِمتُ من جوعٍ خبز القربان . كأنه ذلك الخبز الذي قسمه السيد المسيح في العشاء الآخير ، أتذكر هذا وأنا أتأمل الأيقونة بعد عشرين عاماً . أنا مثلك يا سيدي خانوا عشائي الأخير ، وأقول لهم ، وأنا أطعمهم خبزي وملحي : ذا جسدي فكلوه ، وهذا دمي نبيذ لكم فاشربوه .
وأنا يا سيدي مثلك أصعد أعلى الصلبان صارخاً ، يا إلهي ، لماذا تركتني وحدي ؟ ، لكنني مثلك حين أتوحد بالرحمة الإلهية ، ويمتلئ قلبي بنور الله ، ويتعالى جسدي من خطاياه ، أقول : اغفر لهم ، إنهم لا يدرون ما يفعلون .
وكأنني أعبر درب آلامي ، ألج في شق " مار تقلا " ، الشقّ نفسه الذي قسم الجبل ليحمي القديسة تقلا التي حكموا عليها بالموت من الجنود الرومان . وأصعد أعلى إلى دير سركيس .
لم أكن أنا ذلك الطفل الأسمر النحيل المأخوذ بسحر المكان أعلم أن المذبح والقبة معمولتان على أنقاض معبد يوناني يرجع للقرن الأول الميلادي .
لكني ، بعد عقدين من بحثي عن نفسي في ذاك المكان الذي يتكلم فيه البشر والحجر و الهواء والماء والسماءوالأشياء بالآرامية ، لغة السيد المسيح ، أتأمل جدران الدير ، وأتلمّس ببصيرة من يتشبّه بحوذي ّ الوقت الخشبَ ، عمره أكثر من قرنين ونصف هذا الخشب العجيب ، الذي رُصف بين الأحجار بعناية هندسية بالغة الدقة ليحفظ الجدران من السقوط حتى وإن زلزلت الأرض تحته .
وأدس ّ يدي في البحيرة تلك التي ترتفع عن سطح الأرض ألفاً وسبعمائة متراً ونيف ، فتنبعث الحياة من جديد في أعضائي .
أنا ذاك الأسمر النحيل ما أزال أصادق الشمس التي تصعد من الشام لتبقى على امتداد النهار كله في معبد دير سركيس المعمول بطريقة هندسية عجيبة لا تغادره معها الشمس أبداً .. أجلس الآن ، بعد أكثر من ثلاثين عاماً على ضياعي المقدّس هناك ، في شرفة مقهى موسكوفي ، أحتسي قهوتي الاسبريسو ومعها الكوكا كولا كعادتي ، فيما الشمس تتلوى في الشارع على أجساد العابرين إلى يومهم مستبشرين ، تكلَم روحي لوحشية الدمار الذي حل بمعلولا ، وأنا أتأمل الأيقونات ذاتها التي تهت بجمالها الروحاني الأخاذ ، وقد أفسدها قتلة الأنبياء وراجمي المرسلين وقاطعي رؤوس خلق الله الجدد، وأقول : إلهي ! لا تغفر لهم ، إنهم يدرون ما يفعلون ...
*شاعر فلسطيني مقيم في موسكو



#عبدالله_عيسى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب في الذكرى 67 للنكبة
- في ذكرى النكبة : ولهذا ما زلنا أحياء
- الساكت عن الإرهابي إرهابي أخرس
- السيد الرئيس : جل ّشعراء وكتاب فلسطين في الموسوعة الروسية إس ...
- التحالف الأصولي الإنجيلي - الإسلامي : الغاز أم الدم العربي
- إذا لم تبك ِ ، حاول فحسب ُ
- لا يفتى والمالكي في المدينة
- أنا والسيدة أم كلثوم
- محمود درويش . شعرية الخلق الجمالي
- من وصايا فوزية العشر
- بابا الأقباط : لن أدخل القدس إلا محررة
- قبل وإبان وبعد حرب غزة . وكلاء - المقاومة - : الجدار العنصري ...
- سميح القاسم : وما ذاك موت
- الحب الضائع
- الاختلاط بين الواقع والهوس
- الحرية الوهم
- خطر الاحزاب الدينية
- الموسيقي والحياة
- أصحاب القوى
- السياسة والمستهلك


المزيد.....




- يتصدر السينما السعودية.. موعد عرض فيلم شباب البومب 2024 وتصر ...
- -مفاعل ديمونا تعرض لإصابة-..-معاريف- تقدم رواية جديدة للهجوم ...
- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...
- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله عيسى - الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب عن معلولا