أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - فندق شارون الفصل الرابع















المزيد.....


فندق شارون الفصل الرابع


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4832 - 2015 / 6 / 9 - 14:28
المحور: الادب والفن
    


في صباح الغد، كان مهبول أول من صحا من النوم. ارتدى ملابسه، وهو يبذل جهدًا في عمل من الضوضاء أقلها، ونزل الدرج بلا ضجة، حذاؤه بيد، وعقله بيد. عندما لاحظ أن لا أحد في مكتب الاستقبال، عجل بوضعه، وبترك الفندق خلسة، بلا قلنسوة. فَقَدَ هيئة الساذج واللامبالي، هيئة أمس، وعلى العكس، عَبَّرَ وجهه عن أقصى عزم. عندما وجد نفسه في الشارع، ألقى نظرة مرتابة يمينًا ويسارًا، كما لو كان يفحص أن لا أحد يترصده.
كان قارب بمحرك ينتظره، وصوته يسبب اضطرابًا ثوريًا في الأجواء. سلم عليه ربانه الضخم بيد رفعها، بعد ذلك، إلى قلبه، وشق به البحر، والصمت بحر. وهو في أحضان البحرين، تساءل مهبول أين سيكون الموعد هذه المرة. في المرة الأخيرة، جعلوه يصعد في سفينة شاحنة ترسو على بعد عدة مئات الأمتار من الساحل. حتى الساعة، كان القارب يمخر العُباب في خط مستقيم نحو أفق يخلو من كل عقبة، وكان كل ما لا يقره عقل لونه أزرق ككل شيء من حوله. كان البحر جميلاً، وكان الرذاذ يلفح وجهه بِلَذة. استرخى قليلاً: أكثر ما يجدي الآن هذه اللحظات القليلة من الراحة، فما ينتظره لم يكن سائغًا.
بعد وقت طويل، بزغت في الأفق جزيرة صغيرة، فاستدار نحو الرجل، ليحرك الرجل رأسه الصامت مؤكدًا ما كان يعرفه: مكان الموعد هناك. والقارب يقترب من الجزيرة أولاً بأول، كان قلبه ينقبض من الخوف، عسى الله ألا يجعله يخبط خبط عشواء في مكان لا يعرف أرضه من سماه، والجزيرة أقرب إلى صخرة كبيرة خالية من كل ما هو أخضر، أقيم عليها كوخ بدائي، بني بسرعة كما يبدو، كديكور في مسرح. ورغم ذلك، لم يكن مهبول واثقًا من زواله مع المَدِّ عند آخر النهار، فلا يتركون أثرًا لمرورهم.
تصارع السائق مع الأمواج طويلاً ليرسو بأمان، وأخيرًا استطاع الرجلان القفز من القارب. أشار السائق الصامت دومًا وأبدًا برأسه إلى مهبول، آمرًا إياه بالتقدم من البيت الحقير، فخطا بهيئة كئيبة، واجتاز العتبة: احتاجت عيناه إلى بعض الوقت للتعود على العتمة. أخيرًا، ميز خيال رجل ملتح يجلس على الأرض مغمض العينين، وهو كما يبدو يدعو ويدعو. كان الشيخ نفسه في المرة الأخيرة، مما جعله يطمئن: هذا يعني أن لا شيء تسرب من موعدهما السري الأخير، وأنه نجح في كسب ثقة المناضلين. كان داخل الكوخ يتناقض تناقضًا غريبًا مع شكله المنفر الخارجي، فالشموع تضيء على طول الجدران المغطاة بالطنافس، وتنشر شعاعًا مريحًا، وكانت آيات قرآنية مشبوكة بدبابيس على الطنافس، وأمام الشيخ مِبخرة يفلت منها خيط دخان. عرف مهبول في البخور رائحة صمغ الصبر التي ستجعل الأرواح اليهودية تهرب بعيدًا عن هذا المكان الضائع. ردع ابتسامته، وهو يفكر في فندق شارون، وفيما أحس من مفاجأة عندما شم ما يطفو في الهواء من نفس الشذى. طرد هذا الاستحضار غير اللائق، وأصاخ إلى أدعية الشيخ. لمح وجود الربان خلفه كظل مهدد، فأمره هذا بحركة فظة بالجلوس أمام الشيخ.
لم يدر مهبول ما يفعل من سلوك، فأخذ يرتل الآيات القرآنية مع الشيخ. عندما كان الشيخ يهز رأسه يهز مهبول رأسه، وعندما كان يرفع يديه إلى السماء يرفع يديه. بعد وقت طويل، فتح الشيخ عينيه:
- لقد دقت الساعة، نطق الشيخ بتفخيم.
لم يعارضه من الرجلين لا الواحد ولا الآخر، وانتظرا الباقي بصمت.
- لقد دقت الساعة في الأخير، أعاد. حان الوقت لطرد اليهود خارج هذا البلد، خارج بلدنا.
هز الرجلان رأسهما علامة الموافقة.
- وحدهم أفضل الرجال من لهم شرف تحقيق هذه المهمة المقدسة.
هزات رأس جديدة.
- الفعل الحاسم الوحيد الذي بقي لنا هو القيام بالعمليات الانتحارية.
هذه المرة، لم يهز مهبول رأسه، الربان بلى.
- الذين يقومون بالعمليات الانتحارية يموتون أبطالاً، بلدنا بحاجة إلى أبطال، بلدنا بحاجة إلى شهداء.
لم يعد مهبول يتحرك، وقلبه يضرب ضربًا شديدًا في صدره، وما كان يخشاه من حكم سقط عليه كالصاعقة:
- أنت من اخترنا لتكون الشهيد القادم، أعلن الشيخ ناظرًا إليه في عينيه.
- كيف هذا، الشهيد القادم؟ صاح مهبول، وهو ينتصب بنصفه.
ضربه الربان بكوعه بين راسليه، فعاد مهبول إلى الجلوس.
- علمنا بأنك نجحت في المهمة الأولى التي كلفناك بها، تابع الشيخ كما لو لم يسمع شيئًا، نعرف أنك تقيم في فندق شارون، ونعرف كذلك أن هذا الفندق معروف بإدارة يهود يعادون شعبنا بشكل خاص. لهذا، قررنا أن نجعل منه رمزًا لنضالنا، وستكون الشهيد الذي فجر فندق شارون، وكل نزلائه. تفجيره، محوه من الخارطة.
- لكن ليس هذا ما اتفقنا عليه! صاح مهبول، وهو في أقصى حالات الرعب. كنت متفقًا معكم على تفجير مراكز المراقبة مع جنودها، حتى أنني كنت متفقًا معكم على تفجير فندق يقيم فيه جنود الاحتلال، وليس فندقًا يؤوي أبرياء مدنيين وأطفال علاوة على ذلك!
لفظ مهبول هذه الكلمات دفعة واحدة، مندهشًا من جرأته، وخاصة مندهشًا من كونه لم يُقَاطَع.
حافظ الشيخ على وجه ينم عن عدم التأثر، ليس لأنه اعتبر ما يقوله الانتحاري "المتطوع" شيئًا هامًا، ولكن بالأحرى لأنه وضع لنفسه قاعدة أن يصم أذنيه عن مثل هذه الاحتجاجات، النموذجية، لشبان تملأ الحماسة صدورهم، ويدّعون تنفيذ أعظم الأعمال، دون أن يوسخوا أيديهم. حتى الحرب المقدسة ليست نظيفة! ولتجربته، كان يعلم أن من الأفضل تركهم تفريغ خريناتهم، وسينتهي بهم الأمر كلهم إلى الخضوع. وفوق ذلك، ما البديل الذي كان لهم؟ أشار إلى الربان ألا يضرب مهبول مرة أخرى بكوعه، وعاد إلى القول بغلظة:
- قاعدة رقم واحد، كل اليهود عساكر، كلهم، دون استثناء.
انتظر عدة ثوان ليرى أثر كلامه على مهبول، فتكوم على نفسه، وهو يخبئ وجهه بين يديه.
- قاعدة رقم اثنان، يجب ألا ننسى أبدًا أنهم هم أيضًا يذبحون الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء.
أخذ مهبول ينوح بهدوء، وهو يحرك رأسه.
- قاعدة رقم ثلاثة، تأخر الوقت للتراجع. منذ موعدنا الأول، لم يعد لديك الخيار.
لم يزل مهبول ينوح، فقدّر الشيخ أنه أضاع من الوقت ما فيه الكفاية.
- أيها الجبان! أَرْعَدَ الشيخ، ما أنت إلا عميل صهيوني! كم من الشبان الذين هم على استعداد للتضحية من أجل قضيتنا دون أن يحتجوا! تصرف كرجل! إذا ما نسيت، ذكرتك بأني على علم بأقل حركة من حركاتك وأفعالك. لك ثلاثة أيام لتفعل ما طلبناه منك أن تفعل، وأنا لهذا جئتُ لتراني حتى هنا. جازفتُ مجازفة كبيرة بلقائك، الآن عليك التنفيذ، وإلا حياتك لن تكون غالية عليّ. هذا هو الخيار الأوحد الذي تبقى لك: الموت ككلب أو الموت كشهيد. روح هلأ!
أخذ الربان يقهقه بشكل مرعب، فجهد مهبول بالنظر إليه: أفهمه العملاق، وهو يمرر إصبعه على رقبته، أنه لن يتردد لحظة واحدة عن ذبحه. عاد الشيخ يغرق في أدعيته، بمعنى انتهت الجلسة. دعا الربان مهبول بحركة من رأسه إلى اللحاق به، فنهض بعناء، وأذعن. بدت له المسافة إلى الساحل أقل كثيرًا، أقصر كثيرًا. تمنى لو يفكر في كل ما يجري له برأس هادئ، مع الأسف! لم تسنح له الفرصة. وصل القارب على مقربة من الشاطئ، دون أن يلقي بنظرة واحدة على الربان. قفز مهبول على الرمل، وابتعد، غير مبال بالمصطافين الذين اجتاحوا الرمل والماء. كان عليه أن يلبس ثوب الأبله ليعود إلى فندق شارون، في بطنه الخوف، وفي صدره الضيق.
بقدر ما كان تائهًا مع أفكاره، كاد لا يلاحظ يوسي الذي يخرج من الفندق، فناداه هذا بمرح:
- هيه! مهبول! إذن هل نمت جيدًا في فندق شارون؟ لك سحنة رهيبة، ماذا يجري لك؟ هل نسيت مرة أخرى قلنسوتك؟ مش منيح هادا، وبخه، وهو يحرك إصبعه تحت أنفه.
- اتركه وشأنه، رماه سالومون الذي خرج من الفندق لتوه، ألا تشعر بالعار عند السخرية من فتى شجاع مثله؟ لم يمسّك بسوء، كما أعلم!
انتفض مهبول على سماعه لهذه الجملة الأخيرة، "لا، ليس بعد، لم أمسّه بسوء، لكن هذا لن يتأخر"، قال لنفسه بمرارة. كجواب فَضّل الابتسام ببلاهة للرجلين اللذين رشق الواحد الآخر بنظرة متحدية، ودفع باب الفندق.
- صباح الخير، صاحت نجا فرحًا، وهي تراه يصل، أنت ممن ينهضون باكرًا، حتى أنني لم أرك تخرج من الفندق هذا الصباح! هل نمت جيدًا، على الأقل؟
ها هم جميعًا قد صمموا على أن يَبدوا لي في أحسن صورة، وأن يُبدوا تعاطفهم معي! "لا، ليس كلهم، صحح نفسه جاحرًا العين الرديئة لصموئيل. هذا، على الأقل، يحذر مني، وهو ليس مخطئًا!"
- الحق أنني أحب أخذ حمام بحر في الصباح الباكر، أوضح.
- عندك حق، أيدته، مما سمح لي بتنظيف غرفتك أول الغرف. بالمناسبة، وجدتُ شيئًا غريبًا في غرفتك.
- شيئًا غريبًا؟ ذُعِرَ مهبول، وهو يجري في رأسه جردًا للأشياء المعرضة للشبهة التي ربما تركها عن سهو.
- وجدت شمعدانك الحانوكا مشتعلاً، فأطفأته. ماذا تفعل مع هذا الشمعدان مشتعلاً في هذه الفترة من السنة؟
- أرى أن هذا جميل، الضوء، علق بلهجة أكثر ما تكون سذاجة. أحيانًا أقضي ساعات وساعات متأملاً لهب الشموع، وفي بعض الأحيان أشعر بأنها بدأت تتكلم معي.
رفع صموئيل عينيه إلى السقف، فمن المحتم أن لا شيء يمكن سحبه من هذا المخلوق!
- بجد؟ عملت نجا، وهي ترسم ابتسامة متسامحة. لكن هل تعرف على الأقل لماذا نشعل هذا الشمعدان؟ تابعت بنبرة مُدَرِّسَة تواجه بشكل خاص تلميذًا بليد العقل.
- ليكون حلوًا، سَخِرَ من نفسه.
- كيف؟ ألا تعرف أنه رمز مقاومة الشعب اليهودي ضد المعتدي الروماني؟
- طبعًا طبعًا! هتف مهبول ضاربًا جبهته بظاهر يده. حكتها لي أمي، هذه الحكاية. كانت أمي يهودية، أضاف بفخر، وكذلك أبي.
- شيء لا جدل فيه أن تكون أمك يهودية، وإلا كيف ستكون يهوديًا، أنت؟
- والداي، كلاهما، تعذبا على يد اليهود، تنهد مهبول محزنًا.
ألقت رجا نظرة حائرة باتجاه زوجها، لقد سمع الشيء نفسه مثلها، لكنه اكتفى برفع كتفيه. لماذا تُتعب نفسها في الحديث عن أشياء جادة مع هذا الأبله؟ ما عليه سوى أن يذهب إلى الكنيس ليتعلم كل هذا.
- ولكن ما الذي تقوله؟ ألحت رجا رغم ذلك. كيف يمكن لأبويك أن يعذبهما اليهود؟ تعرف جيدًا أننا، نحن اليهود، متعاضدين ما بيننا!
- كانوا يهودًا تُرْكًا، هاه... كما تقولين، أتراك هم الذين عذبوهما، حَدَّدَ مهبول بعد تأمل طويل.
- أتراك؟
- هاه... لا، أنا أغلط ثانية، كانوا إنجليز! قَدَّم الحجة على الحجة مظفرًا. حقًا ليس لي رأس للدراسة، أنا! غريب أمري، دومًا ما أخلط كل شيء. من جهة أخرى، وأنا أفكر في كل هذا، أظن أن العرب هم الذين عذبوهما. نعم، هو كذلك، إنهم العرب، حتى ولو كان ذلك في 1948!
- في السنة التي قامت فيها إسرائيل؟ سألت نجا محتارة.
- يا لَهْوِي! أنا والتواريخ أفظع من الباقي! لا ليس في 1948، في 1967، عند أول انتفاضة. بالحاصل، مهما كان، ماتا، وماتا موتًا حسنًا. الآن، بالنسبة لي، هذا لا يبدل شيئًا كبيرًا.
- كم كان عليك أن تتعذب، تأثرت رجا، والدموع في عينيها.
- نعم، هذا صحيح، كان والداي شهيدين، ختم مهبول.
شهيد! رنت الكلمة في أذنه بغرابة. عاد كل هول موعده الصباحي إلى روحه. وقل إن هذه المرأة تأثرت لمصيره، بينما هو، عليه أن يفكر في أحسن شكل لإماتتها، هي كشهيدة. وهو كذلك، بنفس المناسبة.
- سترى، سأعتني بك جيدًا، خلال إقامتك هنا، قالت لتعيد إليه ابتسامته. هل تريد تناول طعام الفطور؟
- نعم! سارع مهبول إلى القول، إذا كان حلال، هاه... أريد القول كاشير، بكل سرور!
أوف! نجا من موقف حرج بشطارة لم يعهدها فيه من قبل، لهذه المرة! ووعد نفسه بألا يسعى إلى فتح محادثات مع هذه المرأة الفضولية أكثر من اللازم لذوقه. في يوم ما، سينتهي بها الأمر إلى الإيقاع به بأسئلتها، ولكن أيامه معدودة، وليس من الغالب أن تسنح لها الفرصة لإزعاجه.
جرته نجا من يده نحو صالة السُّفرة.
- تعال، سأقدمك لأصدقائنا، لأن كل من ينزل هنا هم أصدقاؤنا! قالت له. مساء أمس، كنتَ مقلوبًا على وجهك بعض الشيء. ها هي أسرة أبراهام، أسرة رائعة: أبراهام، سارة، إسماعيل، إسحق، ورملة. كل شي تمام، يا حبيبتي؟ أضافت بلين مداعبة البنت من ذقنها.
احمرت رملة سرورًا، وهي تجد نفسها على صدر الواجهة، ودمدمت بعض كلمات غير مسموعة. انحنت نجا عليها، وقبلتها من خدها، قبل أن تستدير نحو مهبول.
- لروعتها أحبها كما لو كانت ابنتي! ثم أقدم لك بنيامين، على الطاولة هناك، تابعت نجا.
أرسل بنيامين حركة صغيرة من يده إلى مهبول، وهمست نجا في أذن مهبول أن زوجة بنيامين جميلة إلى درجة خارقة للعادة، لكن متصنعة قليلاً، وهي فضلت تناول فطورها في غرفتها بدلاً من الاختلاط بالزبائن الآخرين.
- لماذا لا تجلس معنا؟ اقترح أبراهام مشيرًا إلى كرسي فارغ إلى جانبه. عندما ينزل جاد، سيجر كرسيًا من الطاولة المجاورة.
- كيف؟ بقي جاد للنوم هنا؟ طلبت نجا، وقد أزعجها ألا تكون على علم بمثل هذا التبديل في البرنامج.
- تعرفين كيف هم، الشبان؟ مساء أمس، كان تعبًا جدًا ليعود إلى المدينة الجامعية، فطلب منا إذا كان يمكنه النوم معنا.
- لكنه نام أين؟ سألت نجا مقلَقة. غرفة الأولاد مليئة بهم!
- تصوري أنه نام في سريرنا! قهقه أبراهام. بلى، بلى، كما كنا صغارًا، وفضل النوم معي لنحكي قصصنا حتى ساعة بعيدة من الليل! منيح اللي إحنا في عطلة، وإلا طردته لينام في بيته الجامعي! اذكر الديب وهيئ القضيب، ها هو! إيش، هل نمت جيدًا؟
اقترب جاد من طاولتهم، وهو يتثاءب، ويحك رأسه. أجاب بنخير يعني بوضوح على أكمل وجه: "لا تزعجوني قبل أن أشرب قهوتي وأتناول فطوري". غير أن أبناء أخيه لم يهمهم وضعه، ولم يمتنعوا عن التدافع، ودفع عمهم، وعمهم يرجوهم أن يخلّوه.
خلال كل هذا الوقت، بقى مهبول منكمشًا على نفسه. كانت الروح المرحة السائدة على طاولته غير مريحة له، بل مقلقة له قلقًا عميقًا. تخيل أجسادهم التي مزقتها القنبلة، والصرخات المهولة التي أطلقها من لم يمت منهم، والفزع الذي تبع الانفجار، كل ما لن يكون باستطاعته مشاهدته، ونَعْمًا لله! حرك رأسه بجهد جهيد ليزيح الصورة الرهيبة، وقحقح:
- هيه، يا صغار! هل تريدون أن أحكي لكم نكتة؟
- احكِ أيوه! أجاب الكبار.
- إنها حكاية انتحاري صعد في باص، وجلس إلى جانب امرأة عجوز. لاحظت العجوز أنه "منفوخ" بشكل غير طبيعي، وهو بالنسبة لها بالتالي انتحاري دون أدنى شك، فطلبت منه بصوت صغير ناعم لا أكثر نعومة: "معذرة لإزعاجك، يا سيدي الانتحاري! لا تفجر نفسك قبل الموقف القادم، لأنني أنزل هناك!"
انفجر الجميع ضاحكين، وبالتدقيق ليس كلهم. لم يشارك الصغار مرح الكبار الصاخب. وجد إسماعيل، الرصين، المتزن، النكتة بائخة، بينما إسحق ورملة لم يكونا يهضمان هذا الأبله بثيابه المهملة، والذي يخيفهم بعض الشيء بعيني المجنون اللتين له. تأمل الشبان الثلاثة بذعرٍ البالغينَ، وهم يبكون من الضحك، ويعيدون، كل واحد بدوره، نتفًا من النكتة، ضاربين أكواعهم في خصور بعضهم.
شيئًا فشيئًا، هدأ الضحك. نهض أبراهام، وقال إن الوقت قد حان للتمتع بنهار لا أكثر منه جمالاً.
- هيا بنا، يا أولاد! قال لأبنائه، أحضروا أغراض البحر.
قفز الشبان الثلاثة، وهم من السعادة أكثر ما يكون، للإفلات من صحبة أولئك البالغين المضحكين الذين يُبْدون داخل حلوقهم عندما يضحكون. كانوا يخشون من جاد، ونكته المشكوك فيها، كما هي عادته، لكنه كان لم يستيقظ بعد بالفعل.
- خذوا حذركم رغم كل شيء، رمى مهبول محاولاً كسب ودهم. من الممكن أن يمضي من هنا انتحاري ليس لطيفًا بالمرة!
رفعت رملة كتفيها منزعجة، ورماه الفَتَيان بنظرة حالكة.
- أريد القول... أضاف مهبول مغلوبًا على أمره، ليتبرنز إلى جانبكم.
- وأين تريده أن يخبئ متفجراته، إذا تبرنز؟ سأل السيد شارون الذي ظن أنها نكتة أيضًا. في مايوهه؟
انفجار بالضحك جديد وعام، وللنجاح الذي أحرزه، نسي صموئيل ما يضمره من ازدراء لمهبول، الذي راح يطبطب على كتفه، بحركة أبوية تقريبًا. تابع بنبرة مفعمة بالأهمية:
- حتى الشيطان بنفسه لا يمكنه التسلل إلى شواطئ تل أبيب ما بقي "تساهل" يسهر على أمننا! وعلى العكس، إذا رأيتم واحدًا، واحدًا انتحاريًا، لا تنسوا أن تطلبوا منه الذهاب لتفجير الفندق المجاور. لا شيء يسعدني في الوجود أكثر!
على سماعه، اعتبرت نجا نفسها مهانة، فماذا سيقول، هذا، ليبرز نفسه؟
- ليس من الطريف في شيء أن نفرح لتعاسة الآخرين! قالت بهيئة ملدوغة.
- لماذا؟ تظنين أنهم ليسوا سعداء، في الشيراتون، لأنهم سرقونا نزلاءنا؟ وأنتِ، لن تكوني مبسوطة لكثير من النقود في جيبك كي تبني فندقًا جديدًا عشر مرات أجمل من فندق الأمريكان؟ تفضلين ربما العودة إلى رشق دلاء الماء؟
فضلت نجا تغيير الموضوع، فأبدت قلقها لصحن رملة الممتلئ.
- لكنكِ لم تأكلي شيئًا! أنتِ لست مريضة على الأقل؟
- لا، لا، عملت البنت الكبيرة من طرف شفتيها.
- مش زاكي، فطوري؟ كله كاشير مع ذلك؟ لن تكوني عربية، رغم كل شيء؟
- بلى، بلى! أجابت رملة.
- كيف هذا بلى، بلى؟ أنت عربية؟
- لا، هي تقصد أنها تجده زاكيًا، فطورك، لكنك لم تتركي لها الوقت لتجيب، تدخلت أمها. إضافة إلى ذلك، انظري، لم تترك شيئًا في صحنها!
محتارة، نظرت نجا إلى الصحون الفارغة على الطاولة. كيف تمكنت رملة بقدرة قادر من بلع كل ما كان في صحنها بوقت أقل من قليل؟ مراعاة لحياء الطفلة، فضلت عدم الإلحاح.
استغلت رملة دخول أمها على الخط لتنسحب صاعدة بسرعة إلى غرفتها، وبيدها تحمل حقيبة صغيرة حشت فيها فطورها. أغلقت الباب من ورائها بعناية، وقرفصت جنب كلبتها الصغيرة.
- خذي، لُد، هذا لك. أنت لطيفة، همست لها مداعبة إياها بحنو. تريدين أن أحكي لك مرة أخرى حكاية اسمك؟
نبحت الكلبة الصغيرة، ولحست يدها.
- سميتك لُد، لأن لُد مدينة مُتَائمة لرملة، كاسمي. أنت إذن كما لو كنت أختي... أنا حزينة جدًا لتركي إياك في الغرفة، تعرفين ذلك، لأن أصحاب هذا الفندق لا يحبون الكلاب. ولا عليك، قريبًا يمكنك أن تجيئي لتلعبي معي على الشاطئ. يمكنك أن تتبرنزي معي، ويمكننا أن نلعب بالطابة تاني. بانتظار ذلك، يجب أن تقعدي عاقلة، وإلا وجدوك، واضطررنا إلى الرحيل. هل تفهمين؟
نبحت الكلبة الصغيرة مرة أخرى محركة ذيلها، فوضعت رملة إصبعًا على فمها، لتفهم أن عليها السكوت. بعد مداعبة أخيرة، غادرت الغرفة، منقبضة القلب.
لما عادت إلى البهو، كانت أسرتها لا تنتظر أحدًا غيرها لتستأذن مضيفَيْها بالانصراف، إلى جانب ركام من سجاجيد الشاطئ، ومضارب الكرة، والكرات، والسلال.
- وينِكْ؟ صاح بها إسحق، دائمًا الأخيرة؟
إسماعيل، المدافع الأزلي عن أخته، أعطاه ضربة صغيرة على رأسه، فتقاتل الأَخَوان، وتراميا بالكلام الجارح، بينما أخذ الفريق الصغير طريقه إلى البحر.
بعد ذهابهم، سقط الفندق في صمت غريب، ونجا التي حننت قلبها الأسرة الصغيرة، تابعتها طويلاً بعينيها. كانت الأسرة التي طالما حلمت بأن تكون لها، لكن واأسفاه! أراد الله غير ما أرادت. هزت نفسها كمن تخرج من حلم، وتفرغت لعملها. لم تنته الخدمة بعد: كانت ميريام في غرفتها دومًا. لا شك أن ما في قاعة الطعام من اضطراب قد نَفّرها من الظهور، وجعلها تفضل مغادرة الجميع.
بالفعل، بعد عدة دقائق، تصادى وقع كعبيها في الممر، فأدار بنيامين وصموئيل ونجا رؤوسهم نحو "من أين تأتي الخطوات"، دونما حاجة لهم إلى الصياح: من القادم؟ لتظهر أخيرًا، بالبيكيني، هي كذلك. تقدمت ببطء نحو الطاولة التي ينتظرها بنيامين عندها، وهي تدور بكشحيها، وترمي للخلف شعرها الطويل. كاد صموئيل يصفق، كما في عروض الموضة، لكن النظرة التي رمته بها نجا ثنته عن ذلك. عاب على نفسه سلوكه، فقد أساء الظن بدلالة العتاب الصامت لزوجته.
في الواقع، تأملت نجا المرأة الشابة كما لو كانت تتأمل إلهة، ولم تحتمل أن ترى العبادة الصماء التي هي عبادتها لها تبددها تصفيقات فظة. كالمنوّمة، تقدمت نحوها، وهي تمد يدها، فانتفضت ميريام: ماذا تريد منها، هذه؟ كانت حركة نجا حركة كل عابد لمعبوده، فهل كانت جرباء تسعى وراء الشفاء فقط بالاقتراب منها؟ عمياء؟ بكماء؟ هل كانت مُقعدة ستقف على قدميها وستركض صارخة إعجازًا؟
كان يلزمها من الزمن طويلُهُ قبل أن تفكر في شيء أكثر ابتذالاً للتوجه إلى ميريام.
- أححح... قالت متنحنحة، رائع بيكينيك! من أين اشتريته؟
سِجِلٌ يلائم ميريام تمامًا! أجابت بضحكة صغيرة كافية رغم صغرها:
- من القدس. من القدس الشرقية، أكدت بعجلة.
- كيف! هل نجد أشياء جميلة هكذا عند العرب! ومايوهات بقطعتين فوق هذا! كنتُ أظن أن النساء لا حق لهن في السباحة إلا بملابسهن المقيتة السوداء المشابهة للأكياس! قهقهت. لم أكن أفكر أنهم قادرون على صنع شيء آخر غير الجلابة والطربوش!
- توقفي عن قول أي شيء كان! رماها زوجها منزعجًا من كونها أساءت إلى أحاسيس ميريام. أذكر أنني شاهدت تحقيقًا في التلفزيون يعرض لبيوت فلسطينيين في القدس الشرقية، ورأينا أنهم لم يكونوا متوحشين تمامًا، أولئك، حتى أن في حدائقهم كانت هناك برك للسباحة... ربما، بعد كل شيء، كانوا يهودًا، لئلا يفقدوا بيوتهم، تخفوا في فلسطينيين!
اكتفت ميريام بسماع تعليق صموئيل بصمت، وهي تريد، على ما يبدو، الانتهاء معه بسرعة، فخلصها بنيامين من "مدير الفندق الرهيب"، مثلما كانت تدعوه، عندما لا يسمعها أحد:
- هل طاب لك طعام الفطور، يا حبيبتي؟
- كانت القهوة باردة قليلاً، يا حبيبي!


يتبع الفصل الخامس



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فندق شارون الفصل الثالث
- فندق شارون الفصل الثاني
- فندق شارون الفصل الأول
- في بيتنا داعشي 5 وأخير الرؤساء والملوك
- في بيتنا داعشي 4 أمريكا
- في بيتنا داعشي 3 التعايش
- في بيتنا داعشي 2 المؤمن
- في بيتنا داعشي 1 الله
- مدام ميرابيل القسم الثالث4 وأخير
- مدام ميرابيل القسم الثالث3
- مدام ميرابيل القسم الثالث2
- مدام ميرابيل القسم الثالث1
- مدام ميرابيل القسم الثاني13
- مدام ميرابيل القسم الثاني12
- مدام ميرابيل القسم الثاني11
- مدام ميرابيل القسم الثاني10
- مدام ميرابيل القسم الثاني9
- مدام ميرابيل القسم الثاني8
- مدام ميرابيل القسم الثاني7
- مدام ميرابيل القسم الثاني6


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - فندق شارون الفصل الرابع