أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صلاح نيازي - اكبادنا تمشي على الارض















المزيد.....

اكبادنا تمشي على الارض


صلاح نيازي

الحوار المتمدن-العدد: 4829 - 2015 / 6 / 6 - 19:28
المحور: الادب والفن
    


صلاح نيازي

أكبادنا تمشي على الأرض

في التأليف الشعري، لا بدّ، ولو غريزياً، من معرفة التدرجات الهارمونية في اللون والحركة والصوت أوّلاً، ومن المهارة في تزمينها، أو توقيتها، في النصّ وهو الأهّم.
بالتوقيت الدقيق تبدو اللفظة على أشدّها وقعاً وجرساً، حتى وإن كانت حروفها كامدة، و على اشدّها لألأة، وإن كانت غائمة ومعتمة.
في حالة واحدة فقط، حينما يُتقن الشاعر تصوير السكون، سيكون لصوت الأبرة زلزلة آرتطام صخور. في حالةٍ واحدة فقط، حينما يُجسد صلابة الظلمة، بحذق، يكون للنور طعم الماء في صحراء قحط.
في الشعر الغريزي، و شيكسبير وكذلك المتنّبي، أكبر شاعرين غريزين، يعمد الشاعر لسكب عواطفه إلى إحدى حواسّه الخمس. لا تتكثف الصورة الشعرية، أو تعمق إلاّ باستعمال حاسّتين أو أكثر معاً، كما اجتمعت في قصيدة "الشرفة" المدهشة لبودلير، أو في قصيدة: "على قدر أهل العزم" للمتنبي، أو قصيدة النيل لأحمد شوقي. أمّا شاعر كرامبو مثلاً فإنّه يعمد إلى "تدمير" الحواس، أي إلى مزجها أو صهرها جميعاً، فتظهر لنا صورة شعرية متواجشة مؤثرة وكثيفة، بعد ذلك يختار الشاعر، فطرياً لا إرادياً، الوعاء الذي يسكب فيه تلك الحواس المنصهرة، فقد يختار اللون وتدرجاته، أو الصوت وتدرجاته، أو الحركة وتدرجاتها.
هذه التدرجات هي إحدى معاني الموسيقى الداخلية للوحة أو النحت أو الرقص، أو النصّ اللفظي، وما همّ بعد ذلك إن كان النصّ نثراً أم شعراً.
لنأخذ مقطوعة قديمة، ونحاول أن نتتبع تدرجات الحركة وأصداءها:
أنزلني الدهرُ على حكمِهِ
من شامخ عالٍ إلى خفضِ
لولا بنيّاتُ كزُغبِ القطا
أُجمِعنَ من بعض إلى بعضِ
لكان لي مضطربٌ واسعٌ
في الأرض ذاتِ الطول والعرضِ
وأنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرضِ
لو هبّت الريحُ على بعضهم
لامتنعت عيني عن الغمض

هذه المقطوعة التي لا تنسب إلى أحد، وتنسب إلى آحاد (من بينهم.، حطان بن المعلى)، هي من معجزات الشعر العربي في موسيقاها الداخلية. لننسَ للحظات أنها من مجزوء بحر السريع ( أو مجزوء بحر الرجز): أيّ ( مستفعلن مستفعلن فعلنْ )، و لنحاول إيجاد العلاقة الهارمونية بين الأمزجة المتقابلة المتضادة. بهذا التضادد الحاذق يظهر حسن المقطوعة على أفضل وجه، أو كما يقول شاعر قديم:" والحسن يُظهر حسنَه الضدُّ".
حتى بقراءة سريعة لهذه المقطوعة ندرك على الفور، أنّ الشاعر قد تمثّل لنا نصفا طيراً، ونصفاً بشراً. بكلمات أخرى، أصبح للإنسان جناحان وعشّ وفراخ. هكذا أضاف الشاعر إلى جِبِلّته الإنسية، جبلّة طيورية، وإلى حركاته المقيّدة، خفقات أجنحة، وإلى حناناته، حنان حوصلة وهديل.
منذ البداية، وبجملة "على حكمه"، صوّر الشاعر حالة لا مفرّ منها، قدراً محتماً لا رادّ له. وبكلمة: "أنزلني"، جمع الشاعر حالتين: الدرجة المتدنية للإنسان، والكفّ عن التحليق لدى الطائر. تدلّ على ذلك كلمة:"شامخ" وهي صفة ربما تعمّد الشاعر إلى حذف موصوفها حتى يتداعي إلى ذهن القارئ كلّ شامخ. عدم تحديد الموصوف كثّف الغموض وزاد من سعته. بهذه الحيلة الفنية بات القارئ طرفا في الفضول. وحتى يُعطي الشاعر ذلك الشيء الشامخ، مسافة بصرية أخرى تدقّ على النظر الحديد أضاف كلمة:"عال"، ليصبح السقوط مأساوياً وصاعقاً. وبكلمة"خفض" (فعْلنْ) الحادّة النبرة، أصبح السقوط أسرع ومرّة واحدة، وكأنَه ارتطام.
بالمناسبة يعرف مربّو الطيور كيف ينزل الطير البيتي الذكر من علياء سمائه، ومرّة واحدة، وكانّه كتلة بلا جناحين، إن هو رأى أنثاه داخل البيت.
هذا السلّم في الحركة المتضادّة، الصاعدة الشامخة، مقابل الهبوط المفاجئ، هو احد مظاهر الموسيقى الداخلية للشعر، بغضّ النظر عن الوزن الشعري الذي كُتبت فيه. ثمّ إن كلمة: خفض، قاموسّياً لا تعنى السقوط كليّاً على القاع والأرض، وإنما تعني الطيران الواطئ، أو الطيران المشدود إلى بقعة معينة.
الطير مشدود إلى بقعة محدودة حيث أنثاه، والأب مشدود إلى بيته حيث بناته. يتجسّد حنوّ الانشداد هذا، أكثر فأكثر إذا ما قورن بـ: "لكان لي مضطربٌ واسعٌ".
كما هو واضح، فإنّ الموسيقى الداخلية للبيت الأوّل لم تنقطع بآنتهائه. لننظر إذن كيف استمرّ الشاعر في تقليص المسافة، وكأنها نتيجة حتمية إلى كلمة: خفض. ففي البيت الثاني نجد أنّ كلمة "بنيّات" مصغّرة تدلّ على قرب الرائي منهنّ، سواء كان آقتراباً ذهنيّاً أم واقعياً. وبتشبيههنّ :" كزغب القطا"، اقتربت المسافة أكثر، فإذا وصلنا إلى الشطر الثاني من البيت:" أجمِعن من بعضٍ إلى بعضِ"، فلا تدري هل الشاعر يصف البنات أم فراخ الطير؟ وما همّ؟
في البيت الرابع يتوضّح القربُ أكثر بكلمتي :" بيننا " و "تمشي على الأرض". هنا يظهر السلّم الموسيقي على أشُده وضوحاً وتأثيراً إذا ما قابلنا في البداية، الطيران الشامل، الشامخ العالي، بما آنتهت إليه المقطوعة من "مشي" على الأرض. المظهر الآخر الذي يمكن الآستدلال به على الموسيقى الداخلية، هو مقدرة هذا الشاعر الفائقة على تبعيض الكمية الكليّة إلى أجزاء، منفصلة متصلة، في آنٍ واحد. إن مجرد تصغير بنات إلى بنيّات، إنما نقلك الشاعر من دلالة عامة إي جنس البنات، إلى دلالة تفصيلية خاصة وأثيرة. وحينما ذكر :" كزغب القطا"، لمس في قلبك الوتر الحساس، لا بالتجاوب مع جمالهن، بل باستدرار عطفك، فلا تدري ما الذي تقوله: " لأفراخ بذي مرخٍ، زغب الحواصل لا ماء ولا شجرُ " فتقف مكتوف الأيدي حزيناً وفي الغالب دامعاً وكأنك مع الحطيئة في :" قعر مظلمة"، لا حيلة لك.
أضاف الشاعر بشطر:" أجمعن من بعض إلى بعض"، إلى جمال البنيّات، ومسكنتهن، صفة جديدة هي الهشاشة، وكأنّ جمعهن " من بعض إلى بعض"، ما هو إلاَ شيء شبيه ببناء عش، محكم وواهِ في الوقت نفسه.
يبدو أنّ أخطر تبعيض في هذه المقطوعة، جاء في البيت الرابع:" أكبادنا تمشي". انتقل الشاعر بكلمة: أكبادنا إلى جوارحه الداخلية، إلى الأحاسيس اللامنظورة التي لا يمكن دفعها. بالإضافة فإنّ المشي هنا للطير كما هو للإنسان ولكنّه داخل هذا النصّ يثير القلق والخوف، لدى الأبوين خشية أن يدرج الأطفال بعيداً ، فلا يُرون، وكأن الشاعر كان يمهّد بهذا البيت، إلى القلق والخوف في البيت الأخير:
لو هبّت الريح على بعضهم
لامتنعت عيني عن الغمض
امتناع العين عن الغمض، يدلّ، لا ريب، على حنو وغريزة رحمية، كما يدلّ على آنفرادية العين عن بقية الأعضاء. هل بدأت حواس الشاعر بالتفكّك؟ الحب العظيم إذا ارتفق بالقلق يقود عادة إلى تفكك الحواس فالجنون. أيّ خطر يحيق بالبنات سيقود الشاعر إلى الجنون إذن.
بالمثابة نفسها يمكن مقارنة الفعل :" أنزلني"، في أوّل القصيدة الذي يدلّ على الإكراه والإجبار من قبل قوّة غامضة هي الدهر، بفعل:"امتنعت" الذي يدلّ على تنبّي موقف غريزي انعكاسي حتى كأنّ الريح، إنّ هبّت لا تهدّد أطفالاً، بقدر ما تهدّد فراخاً، إن هي أودت بعيدان أعشاشها الهشة.



#صلاح_نيازي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من أفانين شيكسبير
- الوجه الثالث للعملة
- لا نهاية الكائن الحيّ
- الشعر وصغار العقارب
- مأساة الملك لير جنونه الذي لم يكتمل
- بعض وجوه استحالة الترجمة
- ثلاثة تحوّلات أدبية بعد عام 2003
- قصيدة الدائرة
- كلمات ثلجية
- المنظورية في تفسير النص
- النحو الواضح غير واضح
- الليل والخيل والبيداء... معالجة انجليزية للأدب العربي
- ولتر دي لا مير De La Mare - (1873 – 1956).. قصيدة -السامعون-
- ثلاث كتابات سريعة


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صلاح نيازي - اكبادنا تمشي على الارض