أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ألملك لقمان . رواية . الجزء الثاني.















المزيد.....



ألملك لقمان . رواية . الجزء الثاني.


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4810 - 2015 / 5 / 18 - 17:10
المحور: الادب والفن
    


ألملك لقمان
الجــزء الـثـانــي
(1)
حديث عن كلينتون في أعماق "خليج نسمة!"

هتف هاتف في نفس الملك لقمان طالباً إليه النّهوض من جثوته فنهض، لينهض من بعده الملايين من الإنسِ والجنّ ممن كانون يجثون في كل مكان.
ألقى الملك لقمان نظرة على الحشود المتلاطمة وأمر قواه بتحويل المكان إلى روض من رياض الجنان، وأن تمدّ ملايين الموائد العامرة بأطايب الطعام وأشهى الخمور.
أخذت ملايين الأشجار المثمرة والنباتات الجميلة والورود والزهور تكتسح السُّهوب في أنساق منتظمة تتخللها نوافير ترذُّ الماء، وتُفرَد بينها ملايين الموائد العامِرَة بالخراف المحشوّة والظِّباء المشويّة والجداء المحمّرة والسلطات المتنوعة والخمور المعتّقة. وقد ظللت الرَّوض سحابة نديّة تزيد مساحتها على مليون ميل!
أشار الملك لقمان إلى الجميع أن يتفضلوا ودعا كبار ملوك وملكات الجنّ إلى مائدته. كما دعا إليها من الإنس بعض كبار المحاربين والطّفلة وأختها ووالديها. وقد أقيمت المائدة إلى جانب الجروف التي كان يُلقى منها الملايين إلى المحرقة الجهنميّة.
استقبل الملك لُقمان والملكة نور السَّماء الملك إبليس والملك دامرداس والملك نذير الزّلازِل والملك قاهر الموت والملكة بليسة والملكة هدباء الجفون والملكة ظل السَّحاب والملكة شمس الرّبيع بترحاب شديد، ثمَّ أخذا يُرحّبان بكبار المحاربين ووالدي الطفلتين. وألقت الطّفلة نفسها بين أحضان الملك لقمان وراحت تعانقه وكأنّها فارقته بضع سنين، فضمّها إلى صدره وسألها عن اسمها فقالت أنّه: "نسمة" فأبدى الملك لقمان إعجابه بجمال الاسم وأشار بحركة من يده وإذا بفرس رأسها ومعظم نصفها الأمامي جسم حوريّة، تمتثل أمامهما وتهتف "مرحبا يا نسمة" فنظرت "نسمة" إلى الفرس بدهشة وسألتها: "مَن أنتِ وما أنتِ".
فقالت الفرَس:
"أنا فرس جنيّة وأنا هديّة عمّو الملك لُقمان إليك!".
راحت "نسمة" تنقّل نظراتها بين وجه الملك لقمان ووجه الفرس متأمّلة عنقها الذي انتظمت فيه الجواهر وشعرها الطّويل المنساب على ظهرها وكتفيها دون أن تصدّق أنّ هذا الكائن الجميل يمكن أن يكون هديّة لها. فتساءَل الملك لقمان:
"ألم تعجبك الهديّة يا حبيبتي؟"
فراحت تعبث بشعر ذقنه مترددة عن الإجابة، فتساءَل الملك لقمان ثانية، فتساءَلت بدورها عمّا يمكنها أن تفعله بها، فقال لها:
"تركبين على ظهرها في البرِّ والبحر والسَّماء؟!".
فقالت:
"وهل تجري وتطير وتسبح؟"
فقال:
"طبعاً يا حبيبتي"
فقالت:
"ايه. أعجبتني"
"إذن هيَّا اركبي على ظهرها ودعيها تطير بك".
واستدرك قائلاً:
"لكن لا تبتعدي عنّا"
فقالت:
"لا لن أبتعد"
ووقفت الفرسُ على قائمتيها الخلفيتين وأشرعت أحضانها للطفلة، فأسلمها الملك لقمان لها، فأخذتها بيديها وطارت بها ضامّة قائمتيها الخلفيّتين إلى بطنها، وما لبثت أن أردفتها على ظهرها وهي طائرة ليتسربل على جسمها سرج يقيها السّقوط. وراحت تحلّق بها فوق مياه الخليج، وحين أحسّت "نسمة" بالأمان، وأن ليس هُناك ما يُخيف، أخذت تستشعِر متعة التحليق وتضحك بأعلى صوتها.
جلس الملك لقمان بين الملك إبليس والملكة بليسة. فيما جلست الملكة نور السَّماء إلى جانب الملك إبليس وجلس إلى جانبها الملك دامرداس. فالملكة ظلّ السّحاب وجلس ملك الملوك إلى جانب الملكة بليسة وإلى جانبه الملكة نسيم الريح ثمَّ الأميرة ظل القمر.
وفي مواجهة الملك لقمان جلس الملكان نذير الزّلازل وقاهر الموت والملكتان شمس الرّبيع وهدباء الجفون.
وما أن شرب الجميع الأنخاب احتفاء باللقاء وفرحاً بالمعجزة التي تمّت للمرة الأولى منذ بدء الخليقة، حتّى بادر ملك الملوك إلى طلب كلمة من الملك لقمان يوضّح فيها ما جرى، وثنّى على طلبه الملوك والملكات.
نهض الملك لقمان وشرع يتحدّث لِيُسمع صوته في كافة أرجاء الرّوض وليفهمه الجنُّ والإنس على اختلاف لغاتهم ومذاهبهم وأديانهم:
أيّها الأحبّة من أبناء الجنّ والإنس، من أعماق قبلي، وبكل جوانحي، وأسمى مشاعري أشكر لكم وقفتكم العظيمة معي ومع الله، وأحيي فيكم إرادتكم التي لا تقهر، وصدق مشاعركم، ونبل عطائكم، وقدرتكم الفائقة على الخلق، وتضافر قواكم مع قوى الله!
إنّ معجزة إحياء الموتى التي تمّت هذا اليوم لأكبر من أن تعبّر عنها الكلمات وتوضّح معانيها ودلالاتها، فما قيمة الكلمة أمام عظمة الحدَث وروعة الحياة وهي تعود إلى ملايين الموتى ليندفعوا بأجسامهم من الماء كما تنطلق الرّماح، ما جدوى الكلام أمام فرحة الأطفال بآبائهم وأمّهاتهم، والآباء والأمّهات بأبنائهم، والزّوجات بأزواجهن والأخوات بإخوتهن، فهل يمكن للكلمة أن تعبّر عن هذا الفرح، وتسمو بهذا النشيد؟!
وبأي لسان أيّها الأحبّة، وبأيّة لغة، وبأية مشاعر، وبأي قلوب، وبأيّة أهازيج وأناشيد وأشعار، سنعبّر عن فرحتنا بهذا الإله الذي لا يحبُّ جهنّم، ويكره الموت، ويحب الحياة، ويعيدها إلى الموتى، ويخشع قلبُه لدموع الأطفال.
إنّ الله الذي عرفناه هذا اليوم لا يحبُّ جهنّم، بل يستحيل أن يستوي وجوده مع جهنّم، ويستحيل أن يعذّب الجنّ والإنس بأي شكلٍ من أشكال العذاب مهما فعلوا، بل ويستحيل عليه أيّها الأحبّة أن يتهددهم ويتوعدَّهم بأي شكل من أشكال العذاب، لأنّه إله عظيم، يسمو فوق العذاب وشهوات الانتقام، ولا يراوِد نفسه إلاَّ الخير والمحبّة.
وليس في ميسور العقل أيها الأحبّة ومهما بلغ من الكمال، أن يرقى إلى التفسير الشامل لما جرى، أو أن يبلغه ويسبر أبعاده ويستشرف ذُراه ويصوغه في كلمات، لأن ما جرى ليس بقدرة الله وحده وليس بقدرة الجنّ وحدهم وليس بقدرة الإنس وحدهم أيضاً، بل بتضافر القوى الثلاث معاً، وتسخير طاقاتها معاً، كل منها حسب إمكانيّاته وقدرته.
فحين شحذت الإرادة وقويت الشَّكيمة وصدقت النفس، وعزم القلب وأخلص العقل، ووضحت النّوايا لدى القوى الثّلاث، تجلّت قدرة الخلق الأعظم، بإعادة الحياة إلى ملايين الموتى، الموتى الذين بلا أجساد، والموتى الذين لم تحرق أجسادهم بعد.
انطلاقاً مما جرى أيّها الأحبّة، يمكنني أن أدعوكم لأن تكونوا دائماً مع أنفسكم ومع ذويكم ومع الجنِّ والإنسِ منكم، وأن تحبّوا بعضكم وتقتلوا الشرَّ في نفوسِكم ليكون الله معكم، فبقدر ما تكونون مع بعضكم يكون الله معكم، وبقدر ما تبتعدون عن بعضكم يبتعد الله عنكم، ويخرج من قلوبكم ويغادر نفوسكم، ولن تجدي تضرّعاتكم إليه نفعاً.
وبقدر ما تسعون إلى العمل والمعرفة وتكدّون وتجهدون من قلوبكم وبكل خلجات نفوسكم يسعى الله ويكدُّ ويجتهد معكم، لتحقيق أمانيكم ورغباتكم وطموحاتكم.
إنّ الله ليس في حاجة إلى مساجدكم وكنائسكم ومعابدكم وكُنِسكُم وصيامكم وصلواتكم وتنسككم وتقشّفكم وترهبنكم وتمشيخكُم وتكبيركم وتعظيمكم وتسبيحكم، وليس في حاجة إلى من يدعو إليه منكم، بل في حاجة إلى عملكم وأدمغتكم ومعرفتكم وعلمكم وسعيكم من أجل الحياة الأكمل.
لتتضافر جهودنا أيّها الأحبّة، كي تتضافر جهود الله معنا.
لنحقق المعجزات بالقضاء على الشرِّ والفساد في نفوسنا، وإحياء الموتى، وتحويل كواكبنا إلى جنائن، ولننعم بالخلود والمحبّة الدائمة.
أمّا داجون هذا أيّها الأحبّة: الذي كان يتمتّع ويتلذذ بتعذيب الملايين بشتى أنواع العذاب، فسترون مصيره بعد انتهاء حفلنا هذا، وإنّي لأدعو أصحاب الجلالة الملوك والملكات لمداهمة أعاليه القاطن فيها، ليروا معي ما هو وماذا يفعل..
أنهى الملك لقمان كلمته وجلس في مقعده، فشرب الجميع نخبه، وأثنوا على كلمته، وتساءَل بعضهم عمّا إذا كان يدعو إلى إله جديد، فأجاب: "إنّ الله واحِدٌ لا يتغيّر" نحن الذين نتغيّر، ونحن الذين لا نفهمه إلاَّ بعقولٍ صغيرة".
فهتف ملك الملوك:
"معذرة يا مولاي، هل أصبحت حقَّاً مؤمِنَاً بوجود الله بعد الذي جرى؟".
فتساءَل الملك لقمان بدوره:
"ماذا ترى أيّها الملك؟"
"أرى أنّك آمنت، لكن ليطمئن قلبي"
"اطمئن أيّها الملك، فلم أحس في حياتي بوجود الله كما أحسست به هذا اليوم"
"وهل ستتوقف عن البحث عنه يا مولاي؟"
"لا، ليس بعد، ما زال الوقت مبكَّراً على التّوقف"
"ولم ستبحث عنه، ألأنك أحسست به دون أن تراه؟"
"لا، ليس لهذا السبب، فأنا على الأرجح أعرف شكله وأظن أنني الآن أراه أمامي وفوقي ومن حولي، لكن ثمّة مسائل كثيرة لا بُدَّ من بحثها معه".
"هل تراه الآن حقَّاً يا مولاي؟"
"قلت أظن أيّها الملك"
"أخبرنا عمّا تراه يا مولاي؟"
"يُستحسن أن نترك ذلك إلى ما بعد لقاء الله، فقد تكون رؤيتي الآن ليست صائبة أو ليست متكاملة، على أيّة حال ما أراه أنا الآن ليس أكثر مما تراه أنت!"
"هل تريد أن تجنني يا مولاي؟"
"لِمَ أجننك أيّها الملك؟"
"هل يُعقل أن يكون ما تراه عيناي وعيناك الآن هو الله؟"
"وإذا تبيّن لي أنّه ليس كذلك وأن لا وجود له أرقى من هذا الوجود، قد أعود إلى التشكيك في وجوده!"
"يا إلهي! لكني لا أرى غير الإنس والجنّ والأرض والأشجار والنّباتات والخيول والزهور والموائد والبحر والجبال والأنهار والسماوات والشمس، فهل يُعقل أن يكون هذا هو الله؟!"
"هذا جزء يسير من وجوده، وأظنّ أنّه ليس في مقدورنا أن نرى وجوده كُلّه، فهو الوحيد القادر على ذلك!"
"هو الوحيد القادر على رؤية حجمة كاملاً؟"
"وكما أظن هو الوحيد القادر على رؤية نفسه بنفسه!"
"ماذا تقصد يا مولاي".
"أقصد أنَّه قادر على أن يرى وجوده دون أن يقف أمام مرآة، وقادر على معرفة جوّانيّته دون معرفةّ!"
"مولاي أنا عقلي صغير فأرجوك ألاّ تجنني!"
"أنتَ الذي سألت وأنا أجبتك أيُّها الملك"
وتعالت ضحكات "نسمة" وهي تهتف:
"عمّو عموّ شوفني"
كانت الفرس الحوريّة تطوف بها فوق الماء بسرعة، فهتف الملك لقمان:
"أنا شايفك يا عمّو"
وأخذ ينظر نحو آلاف الأطفال الذين تركوا موائد الطّعام ووقفوا أعالي الجروف وراحوا يرقبون "نسمة" وهي تمرح في الماء على ظهر فرسها الحوريّة، فأحسَّ أنَّه غير عادِل، بل وأحسَّ أنّه يستحيل أن تتحقق العدالة المطلقة التي يسعى إليها.
ترك المائدة وسار نحو الأطفال مُتفكّراً، ليتحلّقوا من حولِه سائلينه أن يهديهم كما أهدى "نسمة" فأشار بحركة من يده ليجد مئات الآلاف من الأطفال أنفُسَهم يمتطون خيولاً حوريّات ويحلّقون في السَّماء أو يمخرون عباب البحر لتتعالى ضحكاتهم من كُل الأنحاء.
ويبدو أنَّ فعلته استفزّت الإنس والجن، أو أنّ هاجساً قد دعاهم إلى السِّباحة، فشرع الملايين منهم في نـزع ملابسهم والقفز عُراة من أماكِنهم المختلفة إلى الماء، حتّى الجن الذين كانوا يجلسون على بُعد عشرات الكيلو مترات من البحر، كانوا يقفزون من أماكنهم وينطلقون كالسِّهام ليلقوا بأنفسهم في مياه البحر. أمّا الملوك والملكات فقد حلّقوا عالياً قبل أن يخِرّوا إلى الماءَ أو ينقضّوا كما تنقَضُّ الصُّقور والعقبان والنّسور على طرائِدها ليغوصوا عميقاً تحت الماء.
وجد الملك لُقمان نفسه مُحاطاً بالملكة نور السَّماء وأُختها الأميرة ظلّ السَّماء، والأميرة ظل القمر، والأميرة "نجمة الصّباح" ابنة الملك شمنهور وهُنّ عاريات، وقد تلألأ جمالهن الأخّاذ من حوله وشرعن يُعرّينه عنوة، لينـزلنه معهن إلى البحر، وعبثاً حاول الهرب منهن ومن سطوة جمالهن، فاستكان إلى أحضانهن فأطبقن بأجسادهن عليه: الملكة نور السماء من أمام والأميرة ظل السَّماء من الخلف، والأميرة ظل القمر من جانبه الأيمن والأميرة نجمة الصَّباح من جانبه الأيسر، وصعدن به إلى السَّماء وهن يلتحمن بجسده، وهبطن به إلى أعماق الماء وهن يتوحّدن معه.
كتم الملك لُقمان نفسه لظنّه أنّه لن يتمكّن من التنفّس تحت الماء، لكنه فوجئ بالملكة تقول له وهم يهبطون إلى الأعماق وينطلقون في عرض البحر "تنفّس يا حبيبي" فتنفّس دون أن يعرف كيف تنفّس، وحين نظر حوله في الأعماق رأى آلاف الجن والحوريّات يمرحون ويتعانقون ويتحابّون وكأنّهم في الهواء الطلق، ورأى بين الحوريّات من بدون كالأسماك إنّما بأجساد بشريّة، كانت جلودهن تتموّج بألوان فضيّة وذهبيّة وبرونزيّة، وقد أضفت على بشرتهن جمالاً ساحِراً.
تساءَل الملك لُقمان عن هؤلاء الحوريّات عجيبات الجمال، فأخبرته الملكة نور السَّماء أنّهن حوريّات البحر الجنيّات، فتساءَل عمّن أحضرهن، فأجابت الأميرة نجمة الصَّباح "ومن سيكون غير أبي؟"
وبالفعل كان الملك شمنهور هُوَ من أحضرهن، فما أن أنهت الأميرة نجمة الصّباح كلامها حتّى ظهر ملك الملوك كحوت وهو يطارد هؤلاء الحوريّات في الأعماق وقد أخذ شكل جنّي صغير، وكل حوريّة يلحق بها يأخذها بيديه ويقلّبها بُطنا وظهراً ويشقلبها رأساً على عقب، وعقباً على رأس وهو يداعب جسدها ويفاخذها ويقبلّها ويعانقها ويقبض على نهديها أو يعضّهما أو يرضعهما، وما يلبث أن يضجعها بأي وضعٍ يخطر بباله.
وجد الملك لُقمان نفسه في جوٍ مُثير للغاية، ولم يعد يشعر أنّه يسبح تحت الماء، فقد كانت قوى الملكة نور السَّماء، الخفيّة تسبّحهُ دون أن يدري.
كانت الملكة تسبح على ظهرها تحته والأميرة ظل السَّماء تسبح على بطنها فوقه والأميرة ظل القمر تسبح على جنبها عن يمينه والأميرة نجمة الصّباح تسبح على جنبها عن يساره، أطبقت الملكة نور السَّماء بجسدها من أسفل عليه والتحمت بجسده، ليلتحم بجسدها من الرأس إلى أصابع القدمين ليكونا جسداً واحداً، وليتوغّلوا خمستهم بعيداً بعيداً في عرض البحر تحت الماء..
* * *

خاطبته الملكة نور السَّماء تحت الماء بالتخاطر الجنيّ:
"ما رأي حبيبي أن نأخذ قسطاً من الرّاحة في مقصورة تحت الماء؟"
فأجاب بلغة التَّخاطر:
"فكرة عظيمة"
وما كاد يوافق حتّى وجد نفسه مع الملكة والأميرات في مقصورة زجاجيّة بحجم سفينة، فرشت بالسّجاد الإيراني والأرائك الوثيرة، وأُفردت فيها مائدة من أطايب الطّعام والشّراب ووقفت فيها بعض الحوريّات، واثنتا عشرة راقصة كُنَّ يرقصن عاريات على أنغام الموسيقى الشرقيّة، وأحاطتها الأسماك الذّهبيّة وحوريّات البحر من كُل جانب وهن يمرحن ويقمن بألعاب بهلوانيّة تحت الماء.
انطرحت الأميرات كُل واحدة في أريكة فيما جلس الملك لقمان والملكة نور السَّماء في أريكة واحدة.
لم يبد الملك لُقمان منسجماً مع الجو إلى حد كبير رغم كُلِّ جماليته، فقد أطرق للحظات وهو ينظر إلى حوريّات البحر وألعابهن وحركاتهن.
عرفت الملكة أنّ عقله سرح في مشكلة ما في الكون، فسألته:
"حبيبي أين أنت؟"
لم يسمعها، فتساءَلت ثانية فتساءَل:
"هل تتحدثين معي؟"
"نعم سألتك أين أنت يا حبيبي؟"
"لا أعرف يا حبيبتي، يبدو أنني سأغرق في اللهو وأنسى الناس والحياة والجن ومشاكل الوجود!"
"يا حبيبي يجب أن تعيش حياتك وتتمتّع لبعض الوقت، وهذا لا يعني أنّك ستنسى كل هذه الهموم التي لا يمكن حلّها في أيّام أو أسابيع".
"كان يجب أن أخلّص جميع الناس في جهنّم داجون على الأقل، لكني كنت أنتظر جنود الجنّ إلى أن يفرغوا من تناوِل طعامهم"
"يوجد جنود غيرهم يا مولاي، سأتولّى الأمر في الحال"
"أرجوك، أشعر أنني أحمل وزر عذابات كل إنسان في الوجود إذا ما تأخّرت في الإفراج عنه، ثمّة أُناس معلّقون من أرجلهم أو مصلوبون على الجدران في سجون داجون هذا، وينتظرون الفرج إذا لم يقطعوا الأمل".
"كل شيء سيتم حالاً يا حبيبي"
"دعيهم يجوبون قارة جهنّم هذه كُلّها وليبحثوا عن كُلِّ السُّجون والمعتقلات وأماكِن الأشغال الشَّاقة، ومخافر الشرطة وأوكار المخابرات في كُلِّ مُدُن وقرى كوكب داجون"
"والإله داجون وملوكه وجيوشهم؟"
"ليتركوا هؤلاء لي أريد أن أرى هذا الإله العجيب وأين يُقيم وكيف؟"
"حدث ذلك يا حبيبي"
"أشكرك، هل لي بكأس وسكي مع الثلج فقط؟"
"أي نوع تريد يا حبيبي؟"
"أي نوع جيّد"
"كل أنواع الوسكي الاسكتلندي الفاخرة موجودة يا حبيبي"
"عظيم. هل أحضرتها قواك الآن من كوكب الأرض؟"
"أجل يا حبيبي"
"دفعتم ثمنها طبعاً"
".. ذهباً يا حبيبي!"
"أحسنت يا حبيبتي، إذن أعطني ما تشائين"
كان الوسكي فاخراً حقّاً، تبادل الملك لقمان الأنخاب مع الملكة والأميرات والحوريّات، وعلت أنغام الموسيقى لتتمايل الحوريّات على المسرح معها، ويهززن خصورهن وأثداءَ هن ويرقّصن أردافهن وبطونهن وأفخاذهن وسيقانهن.
علّق الملك لقمان ضاحكاً:
"رقص شرقي وعُري كامل! أي تناقض هذا؟"
فتساءَلت الملكة:
"أليس جميلاً يا حبيبي؟"
فهتف:
"ومثير أيضاً، لكن لو كُنَّ يرتدين لباساً للرقص لكان أجمل!"
"هل أجعلهن يرتدين يا حبيبي؟"
"كما تشائينْ"
واهتزَّت المقصورة من جرّاء صدمة قويّة، فالتفت الملك لقمان والملكة نور السَّماء وإذا بالحوت الجنّي "ملك الملوك" وقد تعتعه السُّكر يسوق أمامه قطيعاً من حوريّات البحر، ويخبط على الزّجاج.
أشار له الملك لُقمان أن يدخل، فقام بحركتين من يده، في الأولى فتح باباً كبيراً في الزّجاج وفي الثانية أوقف الماء ومنعه من الدخول إلى المقصورة، واندفع كالحوت سائقاً أمامه عشرات حوريّات البحر إلى الداخل.
راح الملك لقمان يضحك فيما هو يلقي نظرة سريعة على الحوريّات والرّاقصات والأميرات دون أن يتنبّه لوجود ابنته.
"فحل يا مولاي هل فعلتها مع كل هؤلاء الحوريّات؟"
ولم يكن الملك لقمان قد واقع أياً منهن، لكنه أحبّ أن يُمازح الملك شمنهور متباهياً:
"طبعاً، هل تظن أنّك الفحل الوحيد هُنا؟"
"هائل يا مولاي هائل،‍ ما رأيك..
وقبل أن يكمل جملته حانت منه التفاته فرأى "نجمة الصَّباح" تجلس عارية في أريكة، فبدت له كمهرة تصهل للسَّفاد، فتوقف عن متابعة الكلام ليهتف بدهشة‍!
"حتّى أنتِ هُنا يا بنت وأنا أظن أنّك مع أُمّك!"
وبدت الأميرة خجلة بعض الشيء والملكة والأميرات يضحكن:
"كيف كانت يا مولاي؟"
"أصيلة كأبيها!"
"هل أشفيت غليلها يا مولاي؟"
"ولو (محسوبك)!"
"آه يا مولاي، الآن عرفتك على حقيقتك، كنت أعرف أنك ممتلئ حيويّة وتحب الحياة!"
ضجّت موسيقى صاخبة وشرعت حوريّات البحر في رقص جنوني.
التفت الملك شمنهور إليهن ثم إلى الملك لقمان:
"ما رأيك باثنتين أو ثلاث من هؤلاء السَّمكيّات، هل جرّبتهن من قبل، إنّهن مُدهشات وحارّات يا مولاي"
فهتف الملك لُقمان ليغمى على الملكة نور السَّماء والأميرات من شدّة الضحك:
"طبعاً جرّبتهن في بُحيرة لوط أيّها الملك، فقريتنا قريبة من البُحيرة، يا سلام، كنت أغوص كُل يوم إلى الأعماق لأدوخهنْ تحت الماء!"
وتنبّه الملك شمنهور إلى أنَّ الملكة والأميرات، حتّى ابنته، يضحكن بشكل هستيري، فتساءَل:
"ما الذي يضحك هؤلاء الحمقاوات يا مولاي؟"
"لا تعرف ماذا خطر ببالهن"
وأشار الملك لقمان بحركة من يده وإذا بالجميع يرتدون لباس البحر.
"لِمَ ألبستنا هذه الثياب يا مولاي؟"
"قلت لعلّهن يضحكن من عُريك، فسترتك وسترت أنفسنا معك!"
"لكنهن لم يتوقفن يا مولاي… ماذا يضحَككن أيّتها الحمقاوات؟"
وما لبث أن أطرق لبرهة وهتف متسائلاً:
"هل قُلت بُحيرة لوط يا مولاي؟"
"آه! بُحيرة سُليمان إذن؟ يا سلام، حوريّات البحر هُناك غير شكل أيّها الملك، جمال خيالي، والحوريّات حارّات مثل النار، تعرف أنّ المنطقة حارّة جداً فهي أخفض نقطة على الكُرة الأرضيّة، ونساء الإنس يكن (مُلَهلِبات) فما بالك بحوريّات الجنّ السمكيّات؟!"
"مولاي أنت تسخر مِنّي بحيرة لوط ميّتة وليس فيها إلاّ الملح، لهذا تضحكون عليّ!"
"هل تعرفها؟"
"وسبحت فيها زمن سُليمان وزمن ما قبل سُليمان إلى أن أهرت مياه الملح خصيتي!"
"إذن عقوبتك أيّها الملك كي لا تسألني أسئلة حمقاء مثل هذه التي تسألني إيّاها، أن تشق نهرين عذبين كبيرين عبر الصحراء إلى البحيرة، نهر من البحر المتوسّط ونهر من البحر الأحمر، بل وعليك أن تضاعف مياه نهر الأردن ومياه الينابيع التي تصب من الضّفتين الشرقية والغربيّة في البُحيرة، وبذلك نوسّع مساحتها ونحلّي مياهها بسرعة، ونستطيع فيما بعد أن ندفع إليها ببضعة آلاف من الحوريّات حتّى إذا ما ذهبنا للسباحة هُناك نجدهن في انتظارنا، وحتّى لا تتسلّخ خصينا من المياه المالحة، انتبه للصحراء لا تدع النهرين يمرّان من بعض القرى أو خيم البدو ثم إننا أرسلنا جيشاً لتعمير الصحراء وشق الأنهار فيها، دع القوّات تنسّق العمل فيها بينها!
"حصل يا مولاي!"
"ما الذي حصل أيّها الملك؟"
"ضاعفت مياه نهر الأردن مائة مَرّة!"
"يخرب بيتك أوقف النهر فوراً أغرقت الناس ودمّرت المزارع، هل قلت لك أن تعمل منه نيلاً أو فراتاً، ضاعفة خمس مَرّات فقط، وبعد تنبيه المزارعين على طول النّهر، تصدر لي أوامرك من هُنا خبط لزق ودون أي تفكير"
"ألم تطلب إليّ أن أُضاعف مياهه يا مولاي؟"
"المضاعفة تعني مرتين أو ثلاثاً أو خمساً لكن ليس مائة مَرّة، وليس بشكل عشوائي ودون مراعاة لحياة الناس، كم من البشر أغرقت في فعلتك الحمقاء هذه؟!"
وشرع ملك الملوك في البُكاء فيما خيّم الصمت على كل من في المقصورة.
هتف وهو ينشج:
"لم يغرق أحد يا مولاي ولم تدمّر المزارع، وبالكاد اندفع بعض المياه من باطن الأرض حين أصدرت أمري بالتوقّف!"
"حسناً أيُّها الملك لا تبكِ"
"كم مَرّة سأضاعِف مياه الينابيع يا مولاي؟"
"ضاعفها خمس مَرّات أيضاً، لكن على الطبيعة وليس من هُنا"
"أمر مولاي"
"هل يكفي مليون جندي لشق النهرين الكبيرين؟"
"يكفي! تعال اجلس جنبي الآن ولا تبكِ، ملك ملوك ويبكي مثل الأطفال!"
ونهضت الملكة نور السَّماء ليجلس مكانها، غير أنّه أجهش بالبكاء وهو يهتف:
"لا، لا أريد، أريد أن أصطحب حوريّاتي وأتوغّل بعيداً في البحر كي لا تسخر مِنّي وتعنّفني يا مولاي!"
وغرق في بكاء غير معقول، فنهض الملك لقمان وراح يُلاطفه.. وأحاطت به الأميرات والملكة نور السَّماء وأخذن يواسينه، وأرغمه الملك لقمان على الجلوس إلى جانبه وضم رأسه إلى صدره وراح يربت على ظهره متسائلاً:
"ما الذي ألم بك أيّها الملك؟"
"تسخر مِنّي يا مولاي وتجعل الملكة والأميرات والحوريّات يضحكن عليّ ومن ثمَّ تعنّفني أمامهن!"
"أنا آسف أيّها الملك، وأعدك أنّ هذا لن يتكرر، لكن توقّف عن البُكاء أرجوك"
وهتفت الأميرة "نجمة الصّباح"
"هكذا كان قبل سجنه، عندما يثمل يصبح حساس جدّاً"
"أكُلُّ هذا من تأثير الخمرة أيّها الملك؟"
"لا تصدّق ابنة نسيم الريح يا مولاي والله لم أشرب، إلاّ خمس دنان من الخمر!!"
"خمس دنان فقط؟ فعلاً هذا قليل عليك، خذ هذه زجاجة وسكي فوقها أيضاً"
وأخذ الزجاجة بيد فيما كان يمسح دموعه باليد الأخرى.
"ما هذا يا مولاي؟"
"تذوّقه أيّها الملك وسترى كم هو لذيذ!"
أفرغ الزّجاجة في بلعومه دفعة واحدة وراح يهزُّ رأسه.
"يبدو أنّه طيب يا مولاي، سأتذوقه واحدة أُخرى!"
"تذوّق ما تشاء، شريطة أن ترضى!"
"خلص رضيت يا مولاي!"
"هائل، هائل أيّها الملك!"
وشرع الملك شمنهور يَلُغُّ الزجاجة تلو الزُّجاجة إلى أن أتى على عشر زجاجات! فهتف الملك لقمان:
"يكفيك أيّها الملك هل تريد أن ندهم عرش الإله داجون وأنت ثمل؟"
"لماذا تعذّب نفسك يا مولاي، سأرسل لك من يقصف رقبته إذا لا تريد أنت أن تُرسل"
"لا، كم مَرّة قلت لك أيّها الملك أنني أقود سلاماً لا حرباً، ولا أُريد قصف رقاب حتّى في السموات، كي لا يجد الرّئيس كلينتون مبرراً لنقض سلامي"
"من هو الرَّئيسُ كلينتون هذا يا مولاي؟"
"الذي يقود السَّلام على الأرض أيّها الملك"
"وهل ثمّة من يقود سلاماً على الأرض غيرك يا مولاي؟"
"الله يسامحك، أصلاً أنا دخلت على الخط مُتطفّلاً، السَّلام بدأ قبلي بسنوات، وحين ظهرت لي أنت وجرى ما جرى، قلت في نفسي (سأُجاكر) كلينتون وأخوض معركة سلام لنرى من سينتصر سلامُه أم سلامي؟!"
"سينتصر سلامُك يا مولاي شاء كلينتون أم أبى!"
"آمل ذلك أيّها الملك، لكن لِمَ أنت متحيّز لي وأنت لا تعرف شيئاً عن سلام الرَّجُل؟"
"أنت سيّدي ومولاي فهل يمكن أن أقف ضدك يا مولاي؟"
"ألم نتعاهد على الصَّداقة أيّها الملك، فلِمَ تصرُّ دائماً على أن أبقى مولاك؟"
"أنتَ مولاي وصديقي أيضاً وأنا لا أستطيع أن أُغيِّر طريقتي في مخاطبتك"
"حسناً يا عزيزي، ألا يُفترض أن تكون ديمقراطيّاً أو منصفاً بعض الشيء وتعرف شيئاً عن سلام الرّجل، فقد يكون سلامُه أفضل من سلامي؟"
"ألا تعرِف أنتَ سلامُه يا مولاي؟"
"بالتأكيد أعرفه وأعرف ماذا حقق حتّى الآن؟"
"هل أنت معه أم ضدّه؟"
"طبعاً ضدّه ولذلك خضت معركة سلامي وحدي دون مساعدته أو حتّى استشارته"
"ما جدوى رأيي إذن في هذه الحال طالما أنا مُرغم بحكم سيادتك عليّ أن أكون مع سلامك وليس مع سلامه؟!"
"سيكون لك رأيك الخاص، ثمَّ إنني لا أُرغمك على أن تكون مع سلامي، وأنت إن شئت الحق تؤمِن بقصف الرّقاب ولوي الأعناق مما يجعل موقفك أقرب إلى موقف الرّجل!"
"فعلاً يا مولاي، أنا أُحب قصف رقاب الظالمين ولوي أعناق المنافقين، لكنك لا تتيح لي ذلك!"
"ولماذا أُتيح لك طالما أنّ في مقدورنا أن نلوي أعناق الجميع بعض الشيء ونجعلهم يستقيمون دون أن نقصف رقابهم ورقاب جيوشهم وأدواتهم الأخرى من البشر؟!"
"آمل أن ينتصر سلامُك يا مولاي"
"سينتصر يا رجل لِمَ أنت متشائم، ألم تقل قبل قليل أنه سينتصر.. شاء كلينتون أم أبى؟"
"صحيح يا مولاي، لكن من يريد أن يسلم من الأفعى يقطع رأسَها!"
"يا عزيزي أنا لن أقطع رأس الأفعى ولا حتّى ذيلها، سأخلع أنيابها!!"
"بذلك لن تجرّدها من كُلِّ قوتها، ستجد ألف وسيلة لأن تنتقمّ منك، كأن تلتف على عنقك"
"اطمئن أيّها الملك لن تلتف.. المهارة الآن وكي ينتصر سلامنا، هي أن ندع كلينتون يعترف بهزيمة سلامه، ونستدرجه ليقف معنا ويتبنّى سلامنا، والحق أنّه ليس أمامه غير ذلك بعد أن جرّدناه من قوّته العسكرية الضاربة"
"هل نرسل له بعض حوريّات الجنّ كي يغوينه يا مولاي؟"
"حتّى أنتم تستخدمون النّساء في الغواية أيّها الملك؟"
"أنسيت أننا جنّ ومن أصل شيطانيّ يا مولايّ؟ فالغواية ما تزال دأب العديد من طوائفنا"
"لا لا، الغواية مسألة تتناقض مع مفاهيمي وإلاَّ لأرسلت له شيطاناً متنكرّاً وجعلته يغويه ليبيع أميركا كُلّها، يفضّل أن نكون ديمقراطيين مع الرّجل ونناور باتّباع سياسة حكيمة. سياسة تجمع ولا تفرّق، تُرضي ولا تُكره، تُقبَل ولا تُرفَض!"
"هل ستتبع معه سياسة كتلك التي اتّبعتها مع الملك دامرداس؟"
"لا أيّها الملك، هذه السياسة التي اتّبعُها مع الجنّ لا تجدي مع البشر، ومع كلينتون بشكل خاصّ قد تكون مضحكة وساذجة!"
"لماذا يا مولاي؟"
"لأن الجنّ عندما يعطون، يعطون بلا حدود ودون أي قيود، أمّا البشر فكل شيء عندهم محسوب، كل شيء له ثمن أيّها الملك، حتّى الله عند البشر له ثمن، ويغلى ويرخص ويبور حسب الشخص وحسب السوق!"
وضجّت الموسيقى وعادت الحوريّات إلى الرَّقص وتنبّه الملك شمنهور إلى أنَّ الراقصات يرقصن بثياب رقص، فهتف:
"حتى حوريّات البحر ألبستهن ثياباً يا مولاي وحرمتنا من التمتّع برؤية أجسامهنّ؟!"
"كي ننستر قليلاً أيّها الملك، فأنا لم أعتد العُري ورؤية هذا الكم مِنَ الأجساد مِنْ حولي!"
"لكنّا لم نتمتع ونلهو ما فيه الكفاية يا مولاي"
"الأيّام أمامنا أيّها الملك يكفي هذا اليوم. لقد آن الأوان لأن نخرج من أعماق البحر وننطلق إلى عرش الإله داجون"
* * *

خاطب الملك لقمان بلغة التّخاطر قوى الجنّ للخروج من البحر، فشرع الجميع في الخروج ما عدا الحوريّات السمكيّات اللواتي سيبقين فيه ما طاب لهنّ ذلك.
أخذوا يندفعون من الماء كالدّلافين، أو ينطلقون كالرّماح والسّهام، ليحلّقوا كالنّسور والصُّقور، فرادى وجماعات، وبدت الحوريّات كأسراب اليمام، وهن يحلّقن على روعة الأنغام التي كانت تصدح من كافة أرجاء الرّوض وشاطئ الخليج.
وشرع الإنس الذين كانوا يسبحون على الشَّواطئ بالخروج والتقاطر نحو الرَّوض، وخرج موكب الملك لقمان من الأعماق يتقدّمه ملك الملوك محلّقاً كطود، وترافقه الملكة نور السَّماء والأميرات الثًّلاث وعشرات الحوريّات. وقد اندفعت خلفه من البحر، آلاف الحوريّات السمكيّات وصعدن عموديّاً إلى أعلى وهن يلوّحن بأيديهن، وما أن ارتفعن حتى أوقفن صعودهن، وطفقن يحلّقن في أسراب منتظمة تتوزّع في كل الاتجاهات، ويقمن بألعاب بهلوانيّة، ويهوين على رؤوسهن إلى البحر، ليندفعن منه ثانية إلى أعلى، راسمات أشكالاً جديدة وآتيات ألعاباً فريدة.
وقد راحت آلاف الأفراس الحوريّة تنتظم في السَّماء، لتحلّق في أرتالٍ وأسراب جميلة، والأطفال يلوّحون بأيديهم من على ظهورها.
واندفعت فرس "نسمة" لتلحق بموكب الملك لقمان ونسمة تهتف من على ظهرها منادية "عموّ عموّ" فالتفت الملك لُقمان إليها وهو يهتف: "أهلاً يا عمّو أين أنتِ؟"
وكانت الفرس قد حاذته ونسمة تشرع يديها، فأخذها الملك لقمان بيديه، وضمّها إلى صدره وهي تهتف:
"كنت أبحث عنك يا عموّ أين أنتَ؟"
"كنت أسبح في أعماق البحر يا حبيبتي، هل سُررت بركوب الفرس؟"
"كثيراً يا عموّ، وهي تطعمني وتسقيني وتخدمني، وتلبّي كُلَّ ما أطلبه منها‍!"
"باللهِ؟"
وفكّرت نسمة للحظة وما لبثت أن هتفت:
"وإلهك يا عموّ!!"
"قلتِ وإلهي يا حبيبتي؟"
"أجل يا عموّ أنا أُحب إلهك ولن أُحب، الإله داجون!"
"هذا داجون إله قاتل وحاقد وكذّاب يا حبيبتي وسأجرّده من قواه بحيث لن يستطيع أن يفعل لكم شيئاً"
"هل إلهك عنده نار يا عموّ ويعذّب الأطفال والناس فيها؟!"
وضمّها الملك لقمان إلى حضنه ودمعة تنزلق من إحدى عينيه رغم عنه:
"لا يا حبيبتي إلهي يحب الأطفال والناس ويستحيل أن يكون لديه نار ليعذّبهم فيها، وهو من سيقوم بإطفاء كل (النارات) و(الجهنّمات) في الدّنيا كُلّها!"
وأحسّت نسمة باطمئنان لم تشعر به في حياتها، فاستكانت إلى أحضان الملك لقمان وموكبه يهبط إلى الرَّوض.
ارتدى الجميع ملابسهم، وراح الملك لقمان يُصافح كبار المحاربين ووالدي نسمة وأُختها وبعض الناس مودّعاً، وطلبوا إليه أن يطلقوا على الخليج الذي أقامه مكان جهنّم "خليج لقمان" فأبى وأصرَّ على أن يكون اسم الخليج "خليج نسمة" وأشار إليهم أن يطلقوا على أراضي جهنّم كُلّها "أرض الحياة" وعلى وادي الجمر "وادي الحُب" وعلى الجبل الكبير "جبل الحُريّة" معارضاً بذلك كل التسميات التي أرادوها أن ترتبط باسمه، وأعلن لهم أنَّ هذا الرَّوض سيبقى كما هو، وأطلق عليه "روض الشعب" وسيكون الجلوس فيه والأكل من ثماره مجّاناً لكُلِّ أبناء الكوكب، شريطة ألاَّ يتملّكه أحد لنفسه.
وراح الملك لقمان يُعانق بعض الأطفال من بين آلاف الأطفال الذين راحوا يتدافعون ويحتشدون من حوله، ويطمئنهم على تساؤلاتهم عن جهنّم، مؤكّداً لهم أنّه لن يكون هُناك جهنّم بعد اليوم، سواء قبل الموت أو بعده!!
وصعد الملك لُقمان إلى العرش الملكي، وهو ما يزال يحمل نسمة، وصعد معه إلى العرش جميع ملوك الجنّ وملكاتهم، وبعض الأميرات، فيما صعد كثيرون إلى المركبة الفضائيّة، وقد انتظمت جيوش الجنّ بالملايين في أعالي السماء واحتشد على ارتفاع منخفض مئات الآلاف من الأطفال على الأفراس الحوريّة، وعمَّ فضاء البحر مئات الآلاف من الحوريّات السّمكيّات وانتظم ملايين المحاربين على خيولهم في أرتال مستطيلة، فيما احتشد الملايين من الرّاجلين، وكان الجميع يلوّحون بأيديهم.
أحسّت "نسمة" أنّ الملك لقمان سيغادر حين رأته يلوّح بيده الطليقة، فشرعت في البُكاء، فراح يعانقها ويقبّلها ويعدها أنّه سيعود لزيارتها، وأسلمها إلى أحضان فرسها التي كانت تقف في السَّماء إلى جانب فرس أختها، وراح يلوّح بيديه للملايين وعيناه تغرورقان بالدّموع.
وحين تحرّك العرش محلّقاً مؤذناً بالرّحيل، أخذت نسمة تصرخ من أعماقها هاتفة "عموّ عموّ" وشرع ملايين الأطفال والبشر في البُكاء، وراحت نسمة تتفلّت من أحضان الفرس للحاق بعرش الملك لقمان، وحين أدرك الملك لُقمان صُراخها المفجع أوقف العرش وأشار إلى فرسها أن تتبعه، فانطلقت نحوه، وترك هو العرش وطار للقائها، التحمت نسمة بأحضانه وهي تطوّق عُنقه بكُل قوّة يديها.
طار بها إلى العرش وهو يربت على ظهرها ويهدّئ من روعها، ووجد نفسه عاجزاً عن التفوّه بأي كلام، فأشار إلى العرش أن ينطلق وأشار إلى فرس أختها أن تتبعه، وطلب إلى فرسين مجنّحتين أن تحملا والدي نسمة وتتبعاه.
هدأ روع نسمة حين رأت العرش ينطلق وهي ما تزال عليه بين أحضان الملك لقمان، وحين نظرت خلفها رأت فرسها تتبعهم ورأت أبويها وأختها يمتطون خيولهم ويتبعونهم بين مئات الجنود المحّلقين بانتظام، ويحفّون بالعرش من كُلّ الأنحاء، فازدادت اطمئناناً وطلبت من الملك لُقمان أن ينـزلها، فأنزلها لتمرح في فناء العرش.

* * *
(2)
عرش الإله داجون الحادي عشر

عبر موكب الملك لقمان آلاف الكيلو مترات في فضاء جهنّم داجون، وقد مَرّ عن آلاف الأرتال من البشر المحررين من السُّجون والمعتقلات ومواقع الأشغال الشّاقّة، وكانوا يرددون الأغاني والأهازيج الشعبيّة احتفاءً بالإفراج عنهم وعودة صحتّهم إليهم، وما أن يروا موكب الملك لقمان محلّقاً في السَّماء تعلوه آلاف الأفواج من الجيوش التي حجبت الشمس، حتّى يشرعوا في التلويح والهُتاف، فيلوّح الملك لقمان لهم.
وحين اجتاز موكب الملك أراضي جهنّم كُلّها فوجئ الملوك بجيشين كبيرين يمتطيان الخيول في سهل فسيح ويعدوان أحدهما في اتّجاه الآخر، ليخوضا حرباً بالسِّيوف والرّماح، وقد أشهر الفرسان سيوفهم أو صوّبوا رماحهم أو نصبوا نبالهم على الخيول، التي أثار وقع حوافرها غباراً علا في السَّماء.
أشار الملك لُقمان إلى جنود الجنّ أن ينـزلوا وينزعوا أسلحة الجيشين قبل أن يلتحما، وأن يبقوا على خيولهما وأن يأتوه بخبرهما.
انقضّ مئات الآلاف من جنود الجنّ من السَّماء وقد انقسموا إلى فوجين كبيرين، انقضّ كل فوج على جيش وشرعوا في نـزع السيوف والرِّماح، وهم ينادون بالحياة والدين الجديدين على الكوكب، فتمكنوا من نزع السِّلاح قبل أن يلتحم الجيشان، وشرع الفرسان في العِناق بدلاً مِنَ الحرب، وراحوا يلوّحون بأيديهم للملك لقمان.
كان أحد الجيشين تابعاً لأحد ملوك الإله داجون أما الجيش الثاني فكان من المحاربين الثائرين على ذلك الملك، وقد أعاد الملك لقمان سلاح الثائرين إليهم بعد أن أخذ عليهم عهداً بعدم استخدامه.
وأدرك الملك لقمان أنّ هذا الكوكب ما يزال يعجُّ بالحروب والثورات خاصّة وأن عليه ألف مملكة متّحدة تحت حكم الإله داجون، تضمُّ ثلاثة عشر ملياراً من البشر، فإذا كان داجون وملوكه قد أحرقوا وسجنوا ثلاثة مليارات من هذه الأُمم فإن عشرة مليارات ما تزال تتصارع على السُّلطة، وربّما ليس أكثر من نصفهم أو أقل مع داجون وملوكه.
أصدر الملك لقمان أوامره لقوى الجنّ بفض كُلّ النِّـزاعات والحروب القائمة على الكوكب، ونزع السِّلاح من الجيوش الموالية لداجون وملوكه، وإبقائه مع الثائرين، شريطة التعهد بعدم استخدامه في النّزاعات، وأمر الجنّ بإحضار الملوك الألف إليه، وطلب إلى الملك حامينار أن يقود الحملات الألف على الكوكب، فبادر إلى ذلك على الفور.
تابع الموكب انطلاقته عبر فضاء الكوكب مجتازاً البحار والمحيطات والسَّهوب والجبال والهضاب. كان الملك لقمان يجلس إلى جانب الملك إبليس الذي كان يلاعب "نسمة" بعد أن تآلفت معه، فيما جلس باقي الملوك والملكات في أرائك قديمة. وحين أدرك الملك لُقمان، أنّ عرش داجون هذا ما يزال بعيداً كما يبدو، صعد هو والملوك والملكات إلى المركبة الفضائيّة وأصعدوا معهم والدي نسمة وأُختها.
أشار الملك لقمان إلى قائد المركبة لينطلق بسرعة عشرة آلاف ميل في الساعة، ولم تمر سوى دقائق قليلة حتّى هتف قائد المركبة:
"يبدو أننا نقترب من عرش الإله داجون يا مولاي"
هرع الملوك والملكات إلى شرفات المركبة التي راحت تهبط في اتّجاه سلسلة شاهقة من الهضاب والجبال أُقيم على قممها مدينة كبيرة من القلاع والقصور، التي كانت نوافذها وأبوابها تعكس بريقاً من جرّاء انكسار أشعّة الشمس عليها.
وقد أُحيطت المدينة بأسوار عالية شكّلت امتداداً لسفوح الجبال والهضاب، وقد انتصب عليها مئات التّماثيل الضخمة للإله داجون.
أرسل الملك لقمان جيشاً خفيّاً يستطلع المدينة الإلهيّة، وظلَّ يحلّق فوقها على ارتفاع متوسّط.
عاد قائد الجيش ليُعلن أنّ الحُرَّاس لا يحملون إلاَّ السّيوف والرّماح والنّبال وقد تم نـزعها.
هبطت المركبة إلى ارتفاع منخفض وراحت تحلّق فوق القصور والقلاع والبساتين والحدائق التي تخللتها نوافير وقنوات يجري فيها الماء، وقد بدت جميلة حقَّاً، وكان ثمّة أُناس بينهم نساء ورجال وأطفال يعدون عُراة وهم يحملون ثيابهم بأيديهم وقد دبّ فيهم الذُّعر.
وكان ثمّة من يرتدون ملابسهم على عجل، وبدا بعض الناس وهم يطلّون من نوافذ القصور والقلاع فيما كان بعض الفرسان يعدون على خيولهم بسرعة شديدة عبر طرق مُتعددة.
أدرك الملك لقمان أنّ هؤلاء من الحُرّاس الذين نُزع سلاحهم وهم على الأغلب يعدون في اتّجاه قلعة الإله.
أشار الملك إبليس والملكة نور السَّماء إلى قلعة ضخمة في وسط المدينة يعلو سورها الأمامي اثنا عشر تمثالاً ضخماً للإله.
أدرك الجميع أن هذا هو مقرّ العرش إن لم يكن معبداً، وحين حلّقوا فوق القلعة لمحوا مئات الحُرّاس الذين كانوا يختبئون بين الأسوار، أو يعدون بين الجدران حانيين ظهورهم، وقد أُحيطت القلعة بحدائق غنّاء تجري فيها ينابيع وتتخللها النّوافير والشّلالات وبعض تماثيل الإله التي كانت تنتصب هُنا وهناك بأشكالٍ متعددة.
وقد بات الملك لُقمان يعرف شكل الإله لكثرة ما شاهد له من التّماثيل، فقد كان أصلعاً وحليق الذّقن والشاربين، وكبير الأنف والأذنين، صغير العينين وضخم العُنق وعريض الكتفين، وله كرش كبير على الأرجح.
هبط الملك لقمان والملوك والملكات تتقدمهم قوى خفيّة وقوى مكشوفة من جنود الجنّ، أمام مدخل القلعة في فناء ضمن الحديقة.
كان الباب الضخم للقلعة مغلقاً، خطا الملك والملوك والملكات إلى أن توقّفوا أمامه، كان الباب كما بدا من الخارج مُصفّحاً بالذّهب الخالص، وقد علاه تمثال ضخم من الذّهب للإله وعلاه تمثال آخر أكبر فوق السور، وكان هناك قبضتان ضخمتان من الذّهب تتدلّيان على جانبيّ الباب، أشار الملك لقمان إلى أحد الجنّ المكشوفين أن يدق القبضتين ثلاث مَرَّات بشكل عادي، فدقّهما، لينبعث رنين هائل من داخل القلعة.
هتف ملك الملوك:
"أتظن أنّه سيفتح لنا الباب يا مولاي؟"
"ولماذا لا يفتح، نحن حتّى الآن لم نسيء لأدب الوفادة سوى أننا نـزعنا سلاح الحرَس الإلهي الذي في الخارج وعلى الأسوار".
"وما جرى في جهنّم يا مولاي؟"
"لن يعرف به قبل شهر‍!"
هذا إذا كان إنساناً عاديّاً يا مولاي، أمّا إذا كان إلهاً أو جنيّاً، فهو قطعاً عرف!".
"لو أنّه عرف وكان قادراً على فعل شيء لما تركنا نصول ونجول حتّى الآن".
"في هذه معك حق يا مولاي".
"إذا كان ذكيّاً سيفتح، لأنّه يعرف أننا قادرون على فتح الباب"
مَرَّ أكثر من دقيقتين ولم يُفتح الباب.
"ألم أقل لك يا مولاي، دعني أُحطّم هذا الباب وننتهي".
"هذه تصرّفات لا تليق بالملوك أيّها الملك!"
ونظر الملك لُقمان إلى أعلى، لم يبدُ لَهُ أي رأس من رؤوس الحُـرّاس، فأخبره الجنود أنّهم يختبئون في مواقعهم كالفئران، فأشار إليهم بحمل واحد منهم وإنزاله. هبط الجنيّ حاملاً أحد الجنود بيد واحدة من ظهره، كان الجندي يصرخ ويحرّك يديه ورجليه وكأنّه يقاوم الغرق في بركة ماء، أوقفه الجني أمام الملك لقمان. كان ما يزال يرتجف ويكاد يُغمى عليه من هول الرّعب.
"لا تخف أيّها الجندي وقل لي كم يبعد عرش إلهك عن باب القلعة؟"
"حوالي خمسمائة متر يا مولاي"
وأشار إليه الملك لقمان بالانصراف فلاذ بالفرار.
"إذا أرسل الإله أحداً لفتح الباب فقد آن له أن يصل"
ولم يكد الملك لُقمان ينهي كلامه حتى فُتح الباب على مصراعيه، ليبدو صفّان من الجنود يقفون متأهبين بلا سلاح وهم يلهثون من جرّاء الرّكض في المسافة التي قطعوها من الداخل إلى الباب، وبدا رجل يرتدي زيّاً أبيض أقرب إلى أزياء الرُّهبان قادماً من الداخل، ترافقه فتاة فاتنة شبه عارية الصَّدر، بحيث لم يستتر من نهديها غير حلمتيهما، وترتدي فستاناً أبيض شفّافاً تبدو مفاتن جسدها من تحته.
وفيما كان الرّجل والفتاة يدنوان ناحية الباب قدم من الداخل رتل طويل من الفتيات العاريات كُنّ يسرن في رتلين متوازيين ويحملن باقات الورود.
راح الملوك يخاطبون الملك لقمان بُلغة التّخاطر!
قال الملك إبليس:
"إنّه يغوينا بنسائه وجواريه أيّها الملك"
وقال ملك الملوك:
"يبدو أنّه إله يحبُّ النّساء مثلي يا مولاي"
تقدّم الرّجل والفتاة ليخرجا من الباب فيما اصطفت الفتيات أمام صفّي الجنود في الداخل.
توقّف الرجل والفتاة على مسافة أمتار من الملوك والملكات، ليهتف الرجل مرتبكاً متلعثماً وهو يحاول السيطرة على أعصابه:
"الملاك إسرافيل العاشر ملك البلاط الإلهي الأعلى وأمين السِّر الإلهي يرحّب بكم باسم الإله داجون المهيب كُلّي القدرة وخالق الكون والكائنات!"
هتف الملك لقمان تخاطراً:
"يخرب بيتك ما أكذبك!"
وقال الملك إبليس:
"هذا إسرافيل صغير أيّها الملك!"
أحنى إسرافيل والفتاة رأسيهما احتراماً ورفعاهما ليتابع إسرافيل:
"بصفتي ملك البلاط الإلهي الأعلى أدعوكم بالنّيابة عن الإله المهيب كُلّي القدرة لأن تتفضّلوا إلى بهو الضيافة الإلهي أو إلى جنّات النّعيم الإلهيّة لتنعموا بالطيّبات وحور العين والغلمان الفاتنين!"
فخاطبه الملك لقمان:
"أين هي جنات النّعيم يا صاحب الجلالة ملك البلاط؟"
وحين رأى إسرافيل أنّ الضّيوف مهذّبون أكثر مما كان متوقّعاً راح يتحامق:
"عفواً أيّها الضيف أنا لا أُخاطب إلاّ بصفتي الاعتباريّة الكاملة". فأنا ملك البلاط الإلهي الأعلى وأمين السِّر الإلهي!"
وأومأ الملك لقمان برأسه كي يوفّر على نفسه ترداد هذه الألقاب.
فتابع إسرافيل:
"جنّات النّعيم من حولك أيّها الضيف فأينما ذهبت أنت في جنّات النّعيم، وبهو الضّيافة الإلهيّ والعرش الإلهي هما أجمل ما في جنّات النّعيم"
"إننا نشكر جلالة ملك البلاط الإلهي الأعلى وأمين السِّر الإلهي، ونأمل أن يقودنا للمثول أمام مهابة الإله كُلّي القدرة خالق الكون والكائنات، لأننا لم نأتِ إلاَّ لرؤية مهابته والتبّرك بقدرته الكُليّة، وليس للتنّعم بجنات النَّعيم والبهو الإلهي الَّتي لا تساوي شيئاً أمام التنعّم برؤية الإله بطلعته البهيّة ووجهه النّورانيّ وحضوره المهيب!"
هتف ملك الملوك تخاطراً:
"والله إنّي لا أعرف من أين تأتي بهذا الكلام يا مولاي لتصف به هذا السَّفاح؟"
ووجه إسرافيل صدمة مُضحكة للملوك والملكات حين هتف:
"إنَّ التنعم برؤية إلهي المهيب كُلّي القدرة وخالق الكون والكائنات لا يجوز إلاَّ للملائكة!"
فهتف ملك الملوك تخاطراً:
"لا يا خُراء يا ابن الخراء!"
وأردف:
"مرارتي طقّت يا مولاي!"
فقال الملك لُقمان:
"ومرارتي أيضاً، طوّل بالك!"
وراح يخاطب ملك البلاط مُختصراً عن قصد معظم ألقابه:
"نحن من الملائكة الملوك أيّها الملك ولسنا بشراً!"
بدا الملك إسرافيل وقد اعترته الدهشة بعض الشيء:
"أنتم من ملائكة إلهي المهيـ !"
وقاطعه الملك لقمان بصوت حاد:
"أجل من ملائكة إلهك!"
"لكنّي يا أصحاب الجلالة لم أتشرّف بمعرفة جلالاتكم ولم أسمع بها من قبل!"
"كنّا في مهمّة في السماوات منذ عهد الإله الراحل أبيه!"
"منذ عهد الإله داجون العاشر؟"
"بالضبط أيّها الملك منذ عهد داجون العاشر!"
"إذن تفضّلوا جلالتكم إلى البهو الإلهي، لعَلّني أستطيع الحصول على إذن منه لكم، للتقدّس برؤية بهائه ونورانيّة وجهه!"
وانثنى ليسير هو والفتاة أمام الملوك والملكات الذين ساروا خلفه في رتل مزدوج يتقدّمهم الملك لُقمان والملكة نور السَّماء وتحيط بهم قوّة خفيّـة وقوّة مكشوفة.
أخذت الفتيات العاريات ينحنين مُبقيات باقات الورود مرفوعة بأيديهن والملوك والملكات يمرّون من بينهن، وما أن أصبحوا جميعاً في الداخل حتّى استدار رتلا الفتيات وراحا يسيران عن جانبيهم فيما ظلَّ الجنود واقفين في أماكنهم.
كان مدخل القلعة عريضاً وطويلاً وقد انتصبت على جانبيه عشرات الأعمدة الضخمة وتدلّت من سقفه ثريّات كبيرة فيها شموع وقناديل مضاءَ ة، وصعد من جانبيه أدراج تؤدّي إلى طابق علوي.
انعطف ملك البلاط يميناً وسار عبر ممرٍ آخر ليقود الملوك والملكات إلى بهو كبير تبرق جدرانه وسقفه من كثرة الذَّهب. وقد فرشت أرضيّته بالسّجاد والأرائك الوثيرة، ووقفت في زواياه وأماكن مختلفة فيه عشرات الفتيات العاريات والغلمان العُراة والفتيات الصَّغيرات العاريات، اللواتي بدا معظمهن دون سن الثانية عشرة، وقد سُترت أعضاء الغِلمان دون مؤخّراتهم بقطع صغيرة من القماش بلون البشرة.
استدار ملك البلاط وهتف:
"ليتفضّل أصحاب الجلالة الملوك والملكات"
جلسوا على الأرائك فيما وقفت الفتيات المرافقات إلى جوانب الجدران" وكان بعض الفتيات يتخطمن داخل البهو بغنج ودلع.
هتف الملك لقمان مخاطباً الملوك والملكات:
"ابن الكلب يعذّب النّساء الزانيات في النار ويحيا وأعوانُه حياة إباحيّة"
فهتف الملك إبليس:
"هذه جنّات النّعيم وكل المُتع مُباحة فيها أيّها الملك"!
وأشار ملك الملوك إلى فتاة فاتنة أن تدنو منه، وكان الملك لقمان قد منح جميع الملوك والملكات ملكة لغة أهل الكوكب فصاروا يفهمونها ويتحدّثون بها إذا ما شاءوا.
قدمت الفتاة تتثنّى وتتخلّع في مشيتها لتقف أمامه، فراح يتأمّل جسمها وهو يخاطب الملك لقمان بالتخاطر:
"لا بُدَّ من تدشين العرش قبل انصرافنا يا مولاي، انظر إلى هذا الفـرج المتحفّز للطعن بالله عليك!"
راح الملك لقمان يضحك:
"كفاك سفالة، يمكنك أن تدشّنه وحدك أو مع من يشاء أيّها الملك"
وراح يخاطب الفتاة حين وجد أن الملك لقمان ليس متحمسّاً للنساء:
"أنتنّ هُنا للمتعة فقط أيّتها الحوريّة؟"
"أجل يا مولاي"
"ومن يتمتّع بجمالكن؟"
"ضيوف العرش والعاملون فيه والداخلون إليه من المؤمنين!"
"أيوه المؤمنين! والغلمان أيّتها الحوريّة؟"
"والغلمان يا مولاي"
"وخارج العرش هل ثمّة حوريّات أُخريات وغلمان؟"
"أجل يا مولاي"
"والإله يتمتّع بكن وبالغلمان أيضاً؟"
"لا يا مولاي، الإله له حوريّاته وغلمانه الخاصين!"
"أيوه! وأين هم؟"
"هُنا في أروقة وحجرات العرش، وفي قاعة العرش عند الإله"
"وهل لديه الكثير من الحوريّات والصغيرات والغلمان؟"
"يقولون خمسة آلاف يا مولاي، يتجددون باستمرار"
وأُصيب ملك الملوك بالدهشة، إذ تبيّن له وجود فحول أفحل منه ومن مولاه السابق سُليمان، فخاطب الملك لقمان والملوك والملكات:
"ابن اللئيمة، ناكح نصف الشّعب!"
ثمَّ راح يوجّه كلامه للملك لقمان:
"مولاي، أنا لم أُجرّب الغلمان، لعلّهم ...!"
"اسأل من كان بهم خبيراً أيّها الملك"
"هل تجرّبهم معي يا مولاي؟"
"قبّحك الله! جربّهم وحدك وكفاك ثرثرة، لن أدعك تسَكر بهذا القدر في الأيّام القادمة!"
"والله يا مولاي إنّي لست ثملاً ثمّ ألا تريد أن أسلّيك إلى أن يأذن الله كلّي القدرة لك بالتنعّم برؤية صلعته البهيّة؟!"
وراح الملك لقمان والملوك والملكات يضحكون.
تأمّل ملك الملوك الفتاة مركّزاً نظراته على نهديها ثم على فرجها وفخذيها، ثم طلب إليها أن تستدير ليتأمّل ردفيها، فاستدارت.
"مؤخّرة مدهشة يا مولاي، المؤخرات اللواتي مثلها أضعهن على رأسي يا مولاي!"
وحين رأى أن الملك لقمان أخذ يتجاهله أشار إلى الفتاة أن تجلس إلى جانبه على حافة الأريكة، فجلست ليطوّق ردفيها بيده، ويشير بيده الأخرى إلى غلام ليدنو منه فيما الملوك والملكات يغشون على أنفسهم من شدّة الضحك.
دنا الغلام وراح يعرض جسده دون استحياء، كان في حدود العاشرة من عُمره، ورغم أنَّ مؤخرته بدت مقبولة لملك الملوك إلاَّ أن النازع الذي تحرك في دخيلته كان نازعاً غير جنسي، فهتف:
"غير معقول يا مولاي، أظن أنَّ هذا الطفل لا يحتمل أي رجل وقد يقضي نحبه من أوّل مضاجعة!"
وأشار إلى طفلة صغيرة جَدّاء في حدود الحادية عشرة، فجاءت لتقف على استحياء وراحت تدور حول نفسها وهي تعضُّ سبابتها بأسنانها، كان نهداها صغيرين وبدا للملك شمنهور أنهما أخذا في البروز منذ أيّام فقط.
أطرق الملك شمنهور للحظة متناسياً رغبته في مواقعة حوريّات العرش، وراح يسأل الفتاة:
"هل يُعقل أن يحتمل هؤلاء الأطفال غلاظة الرِّجال أيّتها الحوريّة. وهل ثمّة رجال بلا أخلاق إلى هذا الحد كي يفعلوها معهم؟"
أدركت الفتاة أنّها رُبّما أمام نوع آخر من روّاد العرش، إذ لم يسبق لأحد أولئك أن فكّر في مصير الأطفال أو النّساء، وما يجري معهم في هذا العالم المعزول، فأحنت رأسها ليظهر وجهها على حقيقته وقد اكتساه حـزن دفين، وراحت تتحدّث بصوت خفيض وبسرعة كي لا يسمعها أو يباغتها أحد من الخارج.
"حتّى نحن الكبيرات نُرسل إلى المقابر بَعد بَعض الممارسات فما بـالك بالأطفال يا مولاي. نتوّسل إليكم أن تنقذونا إذا في مقدوركم ذلك. لو أنّكم دخلتم العرش والجنان كمؤمنين لشاهدتم من المآسي ما لم تشاهدوه ولم تسمعوا عنه في حياتكم، ولكان صُراخ المحتضرين من الأطفال والمحتضرات من الفتيات يتردد من كافة أرجاء العرش، بل المدائن والجنان كُلّها، إنّ بعضهم لا يضاجعون إلاَّ بالسّيوف والسكاكين والرّماح والعِصيّ، متذرّعين بعودتنا ثانية إلى الحياة بقدرة الإله، ولا يمرُّ يـوم دون أن تخرج مئات الجثث إلى المقابر الجماعية ليستبدلوها بأحياء، ولو دخلتم إلى حجرات العرش والقصور الأخرى وبحثتم بين حدائق وبساتين الجنان، وتحت الأشجار لوجدتم مئات الجثث لمن اغتصبوا نهار هذا اليوم، ولم يتم إخلاء جثثهم بعد، فإخلاء الجثث لا يتم إلاَّ مَرَّتين في اليوم، واحدة في الصَّباح الباكِر وواحدة في المساء، نشكر لكم قدومكم، فقد دَب الرُّعب في قلوبهم وأوقفوا مجازرهم"
وسجدت الفتاة وهي تتوسل إلى الملوك لإنقاذهم، وسجد بعدها جميع من في البهو من حوريّات وأطفال فأشار إليهم ملك الملوك أن ينهضوا واعداً إيّاهم بالفرج، فنهضوا وراحوا يمسحون دموعهم ويجهدون لطرد الحزن من ملامح وجوههم.
تحركت رأفة ملك الملوك فراح يرعد ويزبد خلال حديث الفتاة، فيما كـانت أجساد الملوك والملكات ترتعد وتهتز لهول ما تسمع، وأحسَّ الملك لُقمان لأوّل مَرّة أنّ عدالته لا معنى لها في بعض الأحيان وأنّها أقرب إلى السَّذاجة منها إلى العدالة، فإله كهذا ينبغي أن يصلب من أصابع قدميه!
هتف ملك الملوك محتَّداً:
"مولاي أتوسّل إليك أن تدعني أشرب من دم هذا الإله!"
وكان الملك لُقمان يقاوم نوازع الشر في بطينته، فكبت كل انفعالاته وأشار بسبابته إلى ملك الملوك أن لا.
قدم إسرافيل ملك البلاط ترافقه الفتاة. توقّف على بعد خطوة داخل باب البهو وهتف:
"إنّ إلهنا وحبيبنا المهيب داجون كُلّي القدرة وخالق الكون والكائنات قد تكرّم عليكم وشملكم بعطفه وحنانه وأطراف بنانه! ومنحكم حقَّ التنعّم والتبرّك والتمتّع والتقدّس بمشاهدة محيّاه، وعظيم دُنياه، وبهاء طلعته ونورانيّة جبهته، لمرّة واحدة فقط مدى حياتكم، لا يُسمح بتكرارها إطلاقاً، مهما كانت الدّوافع والأسباب، فتملّوا بعيونكم من بهائه وكماله، وحسنه وجماله، وطيب خصاله، وتمتّعوا بلذائذ جنّاته، وطيب صفاته، وشهدِ ملذاته، وروعة غلمانه وفتياته وحوريّاته، كي تُصلّوا له دوماً، ولا تنسوه يوماً!!
واسمحوا لي يا أصحاب الجلالة أن ألفت انتباهكم إلى أن طقوس المثول أمام مهابته ونورانيّته، تقتضي أن تدخلوا بصمت شديد إلى أن تصبحوا في منتصف قاعة العرش، ثم تنعطفوا إلى اليمين بصمت شديد، وتسيروا بضع خطوات لتقفوا بانتظام وصمت وخشوع في مواجهة كرسي العرش الإلهي، لتتأملوا بملء عيونكم البهاء والرَّوعة والكمال، والنور الإلهي الأخّاذ، ومن ثم يا أصحاب الجلالة تملأوا عيونكم بمرأى كرسي العرش وما يحيط به، ثم تنظروا إلى الجدار المقدّس الأيمن للعرش، وحين لن يكون في مقدوركم أن تلووا أعناقكم أكثر تستديرون بصمت وهدوء إلى اليمين لمشاهدة باقي الجدار المقدّس الايمن للعرش، وحين تفرغون، تستديرون في أماكنكم إلى اليمين أيضاً لمشاهدة الجدار الخلفي المقدّس للعرش، وحين تنتهون من التمتّع بمشاهدته، تستديرون إلى اليمين لمشاهدة الجدار المقدّس الأيسر للعرش الإلهي العظيم، وحين يبلغ بكم التمتّع باللذائذ ذروته تستديرون إلى اليمين لتقفوا بصمت وخشوع وتوسّلٍ في مواجهة كرسي العرش الرّبّاني العظيم، ثمَّ تخرّوا على رؤوسكم ساجدين، ولا ترفعوا رؤوسكم حتى يخاطبكم الصوت الرّباني العظيم".
هتف ملك الملوك تخاطراً:
"ابن القحبة ويريدنا أيضاً أن نسجد بعد أن دوّخنا، وألاَّ نرفع رؤوسنا إلاَّ بعد أن يأمُرنا هذا الخُراء!"
وكان الملوك والملكات قد وصلوا إلى حال سينفجرون فيها بالضحك في أيّة لحظة، لولا الجو السوداوي الذي كان يخيّم على البؤساء في القـلعة وما يحيط بها.
نهضوا ليسيروا كلّ وزوجته في رتلين خلف ملك البلاط، وقد عادت الفتيات إلى الانتظام في رتلين إلى جانبي الملوك والسير معهم.
سار بهم ملك البلاط منعطفاً إلى اليمين، ليعود إلى الممر الرَّئيسي، ليجدوا أنّ مئات الفتيات العاريات ينتظمن في صفيّن إلى جانبيه.
بدا لهم باب ضخم مُغلق مصفّح بالذَّهب ومزيّن بالجواهر في آخر الممر، وحين اقتربوا منه تنحّى ملك البلاط والفتاة كُلٌ إلى ناحية من الباب واستدارا لمواجهة الملوك.
فُتح الباب على مصراعيه ببطء لتعبق أنوفهم برائحة البخّور والعطور النّفاذة، وليلتمع في عيونهم بريق الجواهر وسنا الإنارة.
أشار ملك البلاط بيده أن تفضّلوا، وتقدّمت فتاتان لتقوداهم إلى الداخل كانت إحداهما التي تحدّثت إلى ملك الملوك.
دخل الملوك والملكات يتقدّمهم الملك لقمان والملكة نور السَّماء بمرافقة رتلي الفتيات، وحاولوا قدر الإمكان ألا يُغشى على أبصارهم لهول ما رأوا، وما كانت آذانهم تسمعه من أصوات ذات إيقاع عجيب.
كانوا يسيرون بين صفّين من الفتيات الصَّغيرات العاريات الساجدات وقد بدت قاعة العرش فسيحة جدّاً وكأنّها بهو مسجد.
في منتصف القاعة انعطفت الفتاتان إلى اليمين لتسيرا بين صفّي الساجدات. وليتبعها الملوك والملكات.
توقّفت الفتاتان على بعد حوالي خمسة عشر متراً من كُرسي العرش وسجدتا ليسجد بعدهما رتلا الفتيات المُرافقات، وليتوقف الملوك والملكات في رتلهما المزدوج في مواجهة كرسي العرش الدّاجوني!
كان الإله داجون جالساً كالفيل على كرسي ضخم من الجواهِر، أُقيم في مقصورة في منتصف الجدار ينـزل منها درج قوسي ينتهي إلى القاعة كانت تسجد عليه الفتيات الصغيرات والغلمان في صفوف قوسيّة منتظمة.
وكان تاج ضخم يبرق عاكساً بعض الألوان المتماوجة ـ لكثرة ما رُصّع بالجواهر التي أحيطت بقناديل متلألئة ـ يتوضع على رأس داجون ـ ليعكس من وجهه نوراً خافتاً بين الحمرة والصفرة المتموّجة.
وكان كتف داجون الأيمن وصدره عاريين، وبدا وهو يتّشح بثوب من الحرير الأحمر بالكاد يغطّي عورته، كان يلتف حول بطنه ومؤخرته، ويمتد منه وشاح يلوذ خلف كتفه الأيسر، وكانت ثلاث فتيات عاريات يحملن منشّات من ريش النّعام ويقفن خلف كرسي العرش ويهوّين عليه.
وكانت أرتال الفتيات الساجدات على سجّاد وثير تبدأ من الدرجة الأولى أمام قدمي الإله وتتدرّج إلى أسفل في أشكالٍ قوسيّة حسب شكل الدرج الذي زادت درجاته على العشرين، كانت الدرجات الثلاث الأخيرة فيها لغلمان صغار ساجدين. وفي نهاية الدرج كان يبدأ امتداد القاعة حيث سجدت آلاف الفتيات في صفوف منتظمة.
كانت مؤخّرات جميع الفتيات والغلمان الساجدين مُزيّنة بألوان متعددة على شكل خطوط توزّعت باستقامة في كل اتجاه انطلاقاً من الدبر لتنتهي في منتصف الرّدفين راسمة ما يشبه خطوط الأشعة الشمسيّة.
وكانت أصوات جنسية هامسة وآهات وشهقات خفيضة تنبعث من كافة أرجاء الروض بإيقاع بطيء منتظم!
إلى جانبي العرش كان في الجدار ثلاثة صفوف من المقصورات ذات الأقواس، شملت ثماني عشرة مقصورة، تسع منها في كل ناحية من جدار العرش، وكان في كل مقصورة اثنان يمارسان الجنس في أوضاع مختلفة.
ففي الجانب الأيمن من العرش وفي المقصورات الثلاث العلويّة كان ثلاثة غلمان يلعقون لثلاث فتيات، وفي المقصورات الثلاث الوسطى كانت ثلاث صغيرات يمصصن لرجال، وفي الثَّلاث السُّفلى كان ثلاثة غِلمان يمصّون لرجال. وفي المقصورات التسع اليُسرى، كان في الثلاث العليا منها ثلاثة شباب يُرْكِعون ثلاث صغيرات ويداعبون أجسادهن، وفي الثّلاث الوسطى ثلاثة رجال يداعبون ثلاث فتيات بعرض سيوفهم وفي الثلاث السُّفلى كان ثلاثة رجال يُركِعون ثلاثة غلمان.
أدرك الملك لقمان أنّه لن يجد أينما نظر غير ما يراه أمامه في واجهة العرش وفي البهو، فصرخ بمن في البهو وفي المقصورات: "هيَّا انهضوا جميعاً وانصرفوا".
غير أنّ أحداً لم يجرؤ على النّهوض أو حتّى رفع الرأس من السّجود.
أدرك الملك لقمان أنّ الرّعب يملأ قلوبهم ولن ينهضوا ما لم يروا إلههم عاجزاً، فأشار إلى جنّي أن يحمل داجون من رجليه ويطوف به فضاء العرش، فسارع الجنّي إلى حمله، فشرع الآخر في الصُراخ والهتاف:
"أنا الله كُلّي القدرة، سأنزل الصَّواعق على رؤوسكم"
فهتف الملك لقمان لأوّل مَرّة بلغة بذيئة للغاية:
"أبولُ عليك وعلى صواعقك وعلى ألوهيّتك ومن ألَّهك!"
وهتف ملك الملوك:
"آه يا مولاي لو أنّك تشفي غليلي دائماً هكذا!"
وحين سمع الساجدون من الفتيات والأطفال صُراخ إلههم أخذوا يرفعون رؤوسهم شيئاً فشيئاًوبشكل تدريجي ليروه يطوف فوقهم رأساً على عقب فشرعوا في النهوض والقفز من المقصورات، ليلوذوا بالفرار وهم يصرخون بأصوات لا يمكن لأحد أن يعرف فيما إذا كانت صُراخ فـرح أم صُراخ رعب.
ونهضت الفتاة من أمام الملك لقمان وهرعت نحو ملك الملوك وراحت تعانقه، فأشار إليها ملك الملوك أن تبقى معهم وهو يومئ بحركة من يده ليخلع عليها بدلة ملكيّة، فارتمت عليه ثانية من شدّة الفرح.
ازدحم الآلاف من الهاربين والهاربات خلف الباب وسقط مئات الأطفال تحت أقدام المتدافعين، فصرخ ملك الملوك بصوت هائل:
"لا تخافوا، أخرجو بهدوء ولا تخافوا"
ونظراً للرعب الذي كان وما يزال يسيطر على قلوبهم، لم يصدّقـوا أنَّ الفرج قد جاء حقَّاً، فظلّوا يتدافعون ويتزاحمون ويصرخون، وإن بشكل أخف من ذي قبل، فشرع جنود الجن في تنظيم خروجهم، وتهدئة روعهم.
أمر الملك لقمان القوى الجنيّة أن تدهم كل حُجرات وأروقة القلعة، وكل قصور وقلاع جنّة داجون، وأن تطلق سراح جميع النّسوة والأطفال والفتيات وكذلك سراح الشّباب، وأن يلقوا القبض على كبار المسؤولين من الملوك والوزراء وقيادات الحرس والجيوش، وأن يجمعوا جثث الأطفال والفتيات من كل مكان يعثرون عليها فيه، وأن يقفلوا أبواب كل القلاع والقصور ويحضروا له المفاتيح.
ولم يقدر الملك لقمان على الانتظار إلى أن يخرج جميع من كانوا في العرش، فطار هو والملوك والملكات ليخرجوا منه ويحلّقوا عبر الممرات فوق رؤوس الهاربين، ويخرجوا من القلعة ليصعدوا إلى المركبة الفضائية، يتبعهم داجون محمولاً من قدميه، وقد اصطحب ملك الملوك فتاة العرش التي فرحت للمرّة الرابعة بشكل لا يوصف بالتحليق في السَّماء.
جلس الملوك والملكات على شُرفات المركبة، أشار الملك لقمان إلى الجنيّ أن يطوف بداجون سماء المدينة كي يكون عبرة للظالمين.
سأل ملك الملوك شمنهور فتاة العرش وهما ينظران من شرفة المركبة إلى جنائن داجون:
"ما اسمك أيُّتها الحوريّة؟"
"اسمي دليلة يا مولاي"
بوغت ملك الملوك بالاسم فهتف:
"أمر لا يصدّق!"
"ما هو الأمر الذي لا يصدّق يا مولاي؟"
"أن يكون اسمك دليلة، لقد ذكّرتني بامرأة تدعى دليلة أحببتها قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، في مدينة على كوكب بعيد تُدعى غزّة"
"هل كانت جميلة يا مولاي؟"
"أنا لا أُحب غير الجميلات يا دليلة"
وراحت ترقب مئات الآلاف من الراكضين والهاربين، العُراة وغير العُراة، الذين كانوا يجرون في الطرقات المختلفة المؤديّة إلى باب المدينة، وجسد داجون يطوف فوقهم. أعجبها منظر داجون إلى حد تمنّت فيه لو يتاح لها أن ترقص، وخطرت في مخيّلتها صورة "إسرافيل" فنظرت إلى ملك الملوك وهتفت:
"مولاي، أرجوك أن تطلب إلى جنودكم أن يفعلوا بالملك إسرافيل ما يفعلونه بداجون، لا تعرف كم أذاقني إسرافيل هذا طعم الموت وهو يتوعّدني بأن يضاجعني بسيفه ذات يوم!"
"يمكنني أن ألبيّ طلبك يا دليلة، لكن، قد أُغضب مولاي"
"من هُوَ مولاك يا مولاي؟"
"إنّه ذاك الرَّجل الملتحي الأصلع الذي تجلس طفلة في حُضنه، اذهبي إليه، وقدّمي نفسك، وأنا واثق من أنّه سيلبيّ كل طلباتك بعد ذلك.
ولِمَ سيلبيّ كُل طلباتي إذا ما عرف اسمي يا مولاي؟"
"هذه قصّة طويلة أيّتها الحوريّة، أنتِ قدّمي نفسك له وما عليك، إيّاك أن تسجدي له فهو يكره ذلك، يمكنك أن تحني رأسك قليلاً وأنت تخاطبينه"
وسارت دليلة باستحياء بضع خطوات على شرفة المركبة، مارّة من خلف الملوك والملكات الذين كانوا يرقبون من أماكنهم ما يجري في جنّة داجون. وقفت خلف أريكة الملك لقمان وانحنت وهي تهتف:
"عفواً مولاي جلالة الملك"
التفت الملك لُقمان ليراها، فيما كانت نسمة تعبث بشعر ذقنه كعادتها، أشار لها بيده أن تأتي وتجلس إلى جانبه على طرف الأريكة. هاتفاً "تفضّلي اجلسي" فترددت مُعتذرة، فالحَّ عليها، فجلست بطرف جسمها.
"ألستِ الفتاة التي تحدّثتِ إلينا في بهو العرش عن مأساتكم؟"
"أجل يا مولاي وقد اصطجني جلالة الملك معه"
"حسناً فعل أيّتها الآنسة"
"اسمي دليلة يا مولاي"
فأطرق لحظة ثمَّ هتف بدهشة متسائلاً:
"دليلة؟"
"أجل يا مولاي"
"غريب! دليلة وداجون وربّما يوجد شـمشون وجُليّات وأستير أيـضاً هُـنا، هل جاء أجدادكم من كوكب آخر يا دليلة؟!"
"لا أعرف يا مولاي"
وراح ينظر إليها متأمّلاً وجهها، وكأنّه يبحث عن وجه دليلة فيه، كان جمالها هادئاً وتنمُّ ملامحها عن حُزن دفين:
"اطلبي يا دليلة ماذا تريدين؟"
"لقد أباد الملك إسرافيل آلاف الفتيات والأطفال يا مولاي، فلم يكن يفضّل ممارسة الجنس إلاَّ بالسَّيف، وكان دائماً يعيّشني في رُعب وهو يتوعّدني بقدوم دوري ليولج سيفه في جسدي، أمنية عمري يا مولاي أن أراه معلّقاً من قدميه أمام عيني، لعلَّ نفسي تبرأ من الجروح التي أحدثها فيها".
أطرق الملك لُقمان للحظات وهو ينظر إليها، وما لبث أن أشار بيده وهو يهتف إليها:
"انظري يا دليلة، لُبّي طلبك على الفور"
وحين نظرت دليلة رأت أحد الجنود يحمل "إسرافيل" من قدميه ويقدم نحوهم، فهتفت:
"إنّي لممتنة ومدينة لكم مدى حياتي يا مولاي"
"لا تمتني ولا تديني بشيء يا دليلة، فأنا لا أفعل إلاَّ ما يُمليه عليّ ضميري وواجبي تجاه البشر"
توقّف الجنيّ في الفضاء أمام الملوك والملكات، ونهضت دليلة لتقترب من رأس إسرافيل الذي كان يصرخ، أمسكت أّذنه وفركتها وقرصتها بشدّة وهي تهتف:
"هل عرفتني يا إسرافيل؟"
فراح يصرخ:
"دليلة: أنقذيني يا دليلة، أتوسَّل إليك، أُقبّل قدميك أن تنقذيني"
"أُنقذك أيّها السَّفاح، أنقذك كي تعود إلى وحشّيتك في سفح دماء البشر؟"
"سأتوب على يديك يا دليلة"
"ومن هذا الأحمق الذي يقبل توبة سفّاح مثلك أيّها القاتل؟"
ودفعت رأسه ليتأرجح جسده في الفضاء، وعادت لتقف إلى جانب الملك لُقمان"
هتف الملك لُقمان:
"ماذا تريدين أن أفعل لك به يا دليلة؟"
"أن يبقى معلّقاً من قدميه وأن يُطاف به فضاء المدينة مع السَّفاح الأكبر داجون، كي يراهما جميع المعذّبين يا مولاي"
"سيحدث ذلك يا دليلة"
وأشار إلى الجندي فابتعد حامِلاً إسرافيل إلى حيث يطوف الجندي الآخر بجسد داجون"
كان صُراخ الراكضين يتردد من كافة أرجاء مدينة داجون، وقد تـجاوز بعضهم باب المدينة الذي فتحه الجنّ كما يبدو، وانحدروا يجرون عبر سفوح الجبال الوعرة، بدا الملك لقمان محتاراً في أمرهم وهو يتساءَل إلى أين يهربون، فأجابته دليلة:
"لكي يبتعدوا عن الجحيم الذي كانوا يحيون فيه، ولعلّهم يحلمون بالعودة إلى مدنهم وقراهم البعيدة يا مولاي"
"وأين هي مدنهم وقراهم؟"
"موزّعة في كافة أنحاء دول الكوكب يا مولاي"
"هل هذا يعني أنّ الإله داجون كان يجمع الفتيات والأطفال من كل دول الكوكب؟"
"نعم يا مولاي، على كل ملك من ملوك الدول الألف أن يقدّم سنويّاً ألف فتاة وغلام إلى عرش داجون ليفعل بهم ما يشاء"
بدا للملك لُقمان أنّه يستمع إلى أساطير لا يمكن تصوّرها، فراح يسأل دليلة:
"ومن يتمتّع بهذا العدد الهائل من الفتيات والأطفال؟"
"داجون وخمسمائة من أعوانه وأعوان أعوانه يا مولاي، وهناك مائة مسؤول من كل دولة يختارهم ملكها سنويّاً، ويوفدهم للتّمتع لمدة شهر بجنّة داجون، ويطلقون على هؤلاء اسم "المؤمنين" يا مولاي!"
"وآلاف الحُرّاس والعاملين في الجنّة بماذا يتمتعون؟"
"بالنّساء والأطفال والشّباب المرضى، والذين لم يعد أحد من كبار القوم يرغب فيهم، يرمونهم لهم ليفعلوا بهم ما طاب لهم!"
وأطرق الملك لُقمان وهو يتمثّل الأهوال والفظائع التي كان يفعلها داجون بالملايين من الفتيات والأطفال، وأخذ يأمر القوى الجنيّة بأن تخلع الثياب على جميع العُراة من الهاربين، وأن تطلب إليهم التوقّف والعودة لتملّك المدينة.
بدأ مئات الآلاف التوقّف في الطرقات والتطلّع إلى أنفسهم وهم يرون أجسادهم تُكسى بالملابس، دون أن يصدّقوا ما يحدث لهم بعد كل هذا العَناء، خاصّة ما يهتف به هذا الصوت الهائل الذي راح يتردد في فضاء المدينة:
"أيّها الناس، أيّها المعذّبون، توقّفوا، توقّفوا فإلى أين تهربون، عودوا إلى القصور والقلاع التي كنتم فيها، وتملّكوها، فهي منذ اليوم لـكم. هذا ما يقوله لكم الملك لقمان، عودوا لتنعموا بالقصور والقِلاع والحدائق والبساتين التي شهدت عذاباتكم، وعذابات الملايين من إخوتكم، عودوا لتنعموا بها كما كنتم تحلمون".
راح الناس ينظرون إلى المركبة الطائرة، حيث وقف الملك لقمان حاملاً "نسمة" وراح يلوّح بيده للبشر، مهنّئاً بسلامتهم، فيما كان الجنيّان يجوبان بداجون وإسرافيل فوقهم.
وأشار الملك لقمان إلى الجن بإعادة فتح أبواب القصور والقلاع لكي يتسنّى للناس العودة إليها حينما يريدون.
أقبل مئات الجن يحملون أكثر من خمسمائة من المسؤولين في جنّة داجون، وبضع مئات من "المؤمنين" المتنعمين بالجنة، وأقبل مئات آخرون يحملون مئات جثث الفتيات والأطفال المغتصبين، التي عثروا عليها في حُجرات النوم وفي الحدائق والبساتين، وقد عثروا في حجرة نوم داجون على ثلاثين جثّة لفتيات صغيرات وأطفال، وفي حجرة نوم إسرافيل على عشر جثث، وكانوا جميعاً قد قتلوا اغتصاباً هذا اليوم، كما أقبل الجنّ الذين أرسلهم الملك لُقمان لفض النّزاعات والحروب في دول الكوكب وإحضار الملوك الألف، كان ألف جنّي يقدمون بحمل الملوك الألف من أيديهم.
وكان ثمّة ميدان كبير في وسط المدينة على مقربة من عرش داجون، أحيط بمدّرج كبير كان داجون ينظّم فيه ألعاب الفروسيّة وتدريب الجيش.
أشار الملك لُقمان إلى الجن أن ينزلوا الجميع في الميدان، وأشار إلى الملك حامينار أن يأتي بالشيخ الذي خاطبه في "الجبل الكبير" وعشرة من كبار المُعارضين، كذلك بالثائر الذي خاطبه في جهنّم وعشرة من كبار الثائرين. وكذلك المرأة التي خاطبها في وادي الجمر ومعها عشر نساء.
وهبط الملك لقمان من المركبة على العرش الطائر بصحبة جميع الملوك والملكات، واندفع مئات الآلاف من الناس إلى الميدان وراحوا يأخذون أماكنهم على المدرّج ليروا ماذا سيفعل الملك لُقمان بداجون وأعوانه وملوك الكوكب.
وما أن استقرَّ العرش على المنصّة التي كان يجلس فيها داجون وأعوانه سابقاً، حتّى أشار الملك لُقمان إلى الجنيّين لينزلا داجون وإسرافيل أمامه في الميدان، فأنزلاهما.
كانا في حالة إغماء وقد احتقن رأساهُما بالدّماء، فانطرحا على طوليهما، فأمر الملك لقمان برش الماء على رأسيهما.
أجلس جنود الجن الملوك الألف وأعوان داجون في صفوف منتظمة ومدَّدوا مئات الجثث العارية إلى جانب بعضها البعض، وحين نظر إليها الملك لُقمان أومأ بحركة من يده وإذا بها تغطّى بأكفان بيض.
أقبل الجن يحملون الشيخ والثائر والمرأة وثلاثين آخرين ممن طلب الملك لقمان إحضارهم، فاستقبلهم الملك على منصّة العرش وأخذ يُصافحهم ويرحّب بهم ويجلسهم على المنصّة، وفيما كان الملك لقمان يصافح الشيخ وإذا بصوت دليلة ينطلق من على المنصّة هاتفاً "بابا بابا" وتنهض لتعدو بين أرائك الملوك، فالتفت الشيخ والملك لقمان وباقي الملوك والملكات، وإذا بالشيخ يهتف والدّموع تنحدر من عينيه "دليلة حبيبتي" فألقت بنفسها عليه وهي تهتف "بابا حبيبي أنت على قيد الحياة؟! فضّمها الشيخ إلى صدره وهو يهتف "أجل يا حبيبتي، ما زلت على قيد الحياة بفضل الملك لقمان"
اغرورقت عيون الملوك والملكات بالدّموع، وتعّجبوا من محاسن وغرائب الصُّدف.
أجلسهما الملك لقمان إلى جانبه وهنأهما باللقاء بعد طول الفُراق.
أشار الملك لقمان إلى داجون وإسرافيل وهو يخاطب الشيخ:
"هذا هو إلهكم أيّها الشيخ وهذا ملاكه الأكبر وملكه الأوّل إسرافيل، لم يكونا من الآلهة، حتى ولا من الجنّ، كانا وحشين بشريين"
ولم يصدّق الشيخ أنَّ هذا الفيل المطروح أمامه يمكن أن يكون الله الذي كان يعبده، فراح يتأمّله بدهشة فيما الملك لقمان يتساءَل:
"ما لا أفهمه أيّها الشيخ هو، كيف أقنعكم هذا السَّفاح أنّه إله وأنّه خـالق الخلق؟‍"
فقال الشيخ:
"نحن لم نكن نراه يا مولاي، وكذلك أجدادنا وأجداد أجدادنا"
"منذ متى يحكمكم؟"
"منذ حوالي ألف عام يا مولاي"
"ألم تكونوا تعرفون أنّه داجون الحادي عشر؟"
"أبداً يا مولاي، كان رسله يقولون لنا أنّه لا يموت"
"ولم تكونوا تعرفون ماذا يفعل ببناتكم وأطفالكم في جنّته؟"
"أبداً يا مولاي وإن كُنّا نعتقد أنّهم محظوظون باختيارهم للصعود إلى الجنّة، ثمَّ إنّ أحداً منهم لم يعد لنعرف ماذا يجري لهم فيها، ما نعرفه أنّها جنّة وأنّ الحياة فيها نعيم"
وأشار الملك لُقمان إلى مئات الجثث التي كانت تصطف في الأكفان:
"انظر إلى النّعيم الذي كان أطفالكم وبناتكم يحيون فيه، هؤلاء ضحايا بضع ساعات فقط من هذا اليوم"
ونظر الشيخ دون أن يصدّق:
"مستحيل يا مولاي"
"لم يكن هُناك مستحيلات عند داجون، إنني أُفكّر كم جزَر منكم هو وأبوه وأجداده في الأعوام الألف الماضية، إذا كانت كل دولة تقدّم للـعرش ألف فتاة وطفل في العام؟"
"ألف مليون يا مولاي، نعم ألف مليون، ونحن نظن أنّهم ينعمون بالحياة الأبدّية في الجنّة!"
"ألم تسألوا أنفسكم أن قمم هذه الجبال والهضاب مهما اتسعت لا يمكن أن تحوي جنّة تتسع لألف مليون من البشر؟!"
"إن شئت الحق لم يخطر ببالنا مثل هذا السُّؤال، كنّا نطالب ببعض الإصلاحات وتخفيف الظلم وطقوس العبادة، غير أنَّ أحداً مِنّا لم يُفكّر أن إلهنا إنسان سَفّاح!"
وصمت الشيخ وهو يدرك أنّ ابنته كانت تحيا في جهنّم وليس في الجنّة كما كان يظن، فراح يضمّها ويعانقها معتقداً أنّه في حلم لشدّة فرحه.
استيقظ داجون وإسرافيل من الغيبوبة التي كانا فيها، أوقفهما جنيّان ليراهما الملوك والملكات وضيوفهم من الإنس، كانا في حالٍ ذليلة وبالكاد حتّى تمكّنا من الوقوف على قدميهما.
هتف الملك لقمان:
"ماذا تريد أن أفعل لك بهما أيّها الشيخ؟"
"ما تراه أنت يا مولاي"
أشار الملك لقمان بحركة من يده وإذا بآلاف النّسور تظهر محلّقة في السّماء وتشرع في الإنقضاض لتحمل الملوك والأعوان والمؤمنين من أوساطهم وتطير بهم محلّقة في سماء الملعب، وقد انقضّ نسران على داجون وإسرافيل وحملاهما.
ضجَّ مئات آلاف الناس من المدرّجات بالتصفيق وهتافات الفرَح.
كان الجن قد أحضروا مفاتيح باب قلعة العرش وبوّابة المدينة وأعطوها للملك لقمان، فقدّمها إلى الشيخ وهو يهتف:
"هذه مفاتيح قلعة العرش وبوّابة المدينة، لقد منحت المدينة بقصورها وقلاعها وذهبها ومجوهراتها وحدائقها وبساتينها، لهؤلاء الذين كانوا يتعذّبون فيها، أمّا أنت ورفاقك فأمنحكم عرش داجون، وآمل أن تحققوا عدالتكم على هذا الكوكب، إن شئتم أن تأخذوا بتعاليمي فخذوا، وإن لم تشاءُوا، فأوجدوا عدالتكم بأنفسكم، كونوا رحماء مع الناس، وإن احتجتم أي مساعدة فاطلبوها من الملك حامينار، أو من يعيّنه لمساعدتكم في تطبيق عدالتكم وليس ليحكمكم.
وأرجو أن تدفنوا جثث أبنائكم وبناتكم حسبما تقتضيه إنسانيّتهم. أمّا داجون وأعوانه وملوكه ومؤمنيه، فسأدع النّسور تطوف بهم فضاء دول الكوكب الألف، كي يراهم جميع السُّكان، وبعد ذلك ستقلّهم النّسور لتلقيهم في جزيرة نائية في عرض المحيط، خالية من البشر، كي يعيشوا باقي حياتهم دون نساء ودون غلمان، وكي يكسبوا قوت يومهم بعرق أجبُنهم، لعلّهم يدركون قبل رحيلهم قيمة الإنسان وقيمة المرأة في حياته.
لقد آن آوان الرّحيل أيّها الشيخ، آمل أن تحققوا عدالتكم، وآمل أن أسمع عنكم الأخبار الطَّيبة، وإذا ما أُتيح لي أن أزوركم في المستقبل، سأفعل"
ونهض الملك لقمان والشيخ، فنهض جميع الملوك والملكات وراحوا يتصافحون، ويصافحون الملك لقمان والشيخ مودّعين وقد شكرهم الملك لقمان على حسن أفعالهم، وتلبيتهم السَّريعة لندائه، وتمنّى لهم الخير والسَّعادة، فأخذ بعضهم يطيرون في السَّماء لتتبعهم جيوشهم، وبعضهم يختفون بمجرّد مُصافحة الملك لُقمان والملكة نور السَّماء لتختفي جيوشهم من السَّماء.
ولم تمر سوى دقائق، حين خلت المنصّة من الجميع ما عدا الملك لقمان وملك الملوك ومن معهما، والمسؤولين من أبناء الإنس.
هتف الملك لقمان مخاطباً الملك شمنهور:
"هل أنت جاهز أيّها الملك؟"
فقال ملك الملوك:
"لا لست جاهِزاً يا مولاي، إذا تريد أن تنطلق انطلق وحدك، أنـا أمامي مهمّة يجب إنجازها!"
"ما هي أيّها الملك؟"
وفوجئ الملك لقمان بملك الملوك ودليلة يمسكان واحدهما بيد الآخر ويتقدّمان نحو الشيخ، ويطلبان موافقته على زواجهما!
فباركهما الشيخ وعانق ابنته مودّعاً وهو يتمنّى لها أن تعيش هذه المرّة في جنّة حقيقيّة.
صعد الملك لقمان إلى المركبة وهو يلوّح لآلاف البشر، وحتّى لا تتكرر مأساة "نسمة" وافق والداها على الصُّعود مع الملك لُقمان إلى السَّماوات، فكانوا مع دليلة أوّل بشر يرافقون الملك لقمان في رحلته السَّماويّة.

* * *
(3)
الآلهة الطيبون

ألقى الملك لقمان والملكة نور السَّماء من شرفة المركبة نظرة أخيرة على النّسور وهي تحلّق في فضاء المدينة حاملة داجون وملوكه وأعوانهم، ودخلا إلى مقصورتهما.
انطلقت المركبة بالسُّرعات الخياليّة لتدخل مدار كوكب آخر خلال لحظات، إذ لم يتمكّن الملك لقمان من ارتشاف أكثر من رشفتين من فنجان قهوة، حين هاتفه صوت قائد المركبة معلناً عن وجود كوكب مأهول.
هتفت الملكة نور السَّماء:
"هل نهبط إليه يا حبيبي؟"
وأطرق الملك لقمان قليلاً وما لبث أن هتف:
"لو أعرف أنّ هذا الكوكب لا يعجُّ بالمعذّبين لما هبطت إليه، حين وجدت الزّهرة متقدّماً على الأرض بآلاف الأعوام تفاءَلت، وتوقّعت ألا أواجه في طريقي إلاّ الكواكب المتقدّمة، وراح تركيزي ينصب على الإفادة من تجارب هذه الكواكب كي أستخلص منها نظاماً متقدّماً أطبقه على الأرض، لكن حين وجدت كوكب داجون أدركت أنّ ثمّة كواكب ما تزال تغرق في التخلّف، وأدركت أنّ همومي لم تعد مُقتصرة على كوكب الأرض وحده".
"إذن سنهبط يا حبيبي؟"
"أجل وآمل ألاَّ نجد معذّبين وجهنّمات وآلهة سَفّاحين، قولي للقائد أن يهبط ناحية أوّل إنسان يراه"
"يقول أنّه يرى فلاّحاً يحرث على ثورين يا حبيبي"
"لنهبط إليه ونستعلم منه عن أحوال هذا الكوكب"
وخرج الملك لقمان والملكة نور السَّماء إلى الشرفة.
كان ثمّة قرية تتناثر بيوتها الرّيفيّة على التِّلال وبين الشِّعاب، وقد انتشر في الأراضي المحيطة بها بعض الحرّاثين، الذين كان معظمهم يحرثون الأرض على الثيران وبعضهم على البغال والحمير والجِمال، وكان هذا الحرّاث هو الأقرب إليهم.
نزل الملك لقمان والملكة نور السَّماء محلّقين وحدهما، بدت امرأة إلى جانبها بعض الأطفال الصّغار يجلسون على مقربة من الحرّاث، وكان ثمّة كلب شرع في النّباح والعدو إلى الناحية التي يهبط فيها الملك والملكة. كانا قد أخذا يحلّقان على وجه الأرض حين توقّف الكلب عن النّباح وهتف باسميهما مرحّباً وراح يذرع الأرض مرحاً من حولهما، فألقمته الملكة نور السَّماء فخذ خنزير مسلوخ!
توقّف الملك لقمان والملكة نور السَّماء على مقربة من المرأة والأطفال على الأرض اليباس ولم يدخلا إلى الحقل المحروث.
كان الحرّاث مُسنّاً كما بدا من ملامحه، وكان الإجهاد قد أخذ منه وبدا العرق يتصبب من وجهه، وقد وقف متكئاً على شاقوله خلف الثورين فبدا للملك لقمان كجذع زيتون جاف لشدّة نحفه. وكانت الدهشة ما تزال بادية على وجهه والتساؤلات تدور في مخيّلته حول هذين الضيفين اللذين نطق الكلب مرحّباً بهما.
هتف الملك لقمان بلغته:
"السَّلام على المكدّين في الأرض"
فهتف الفلاّح:
"وعلى الضّيوف السَّلام"
"هل يسمح لي السيّد المكّدّ بالتعرّف إليه؟"
وخطا الفلاّح بضع خطوات في الحقل ليقترب من الملك لقمان دون أن يخرج من الحقل، ويهتف وهو يتكّئُ على شاقوله بما لم يتوقّعه الملك لقمان على الإطلاق:
"أنا الله أيّها الضيف"
بوغت الملك لُقمان والملكة نور السَّماء، وظلَّ الملك محدّقاً إلى الـرّجل بدهشة شديدة، وظن أنّه لم يفهم ما قاله فراح يتأكّد:
"تقول أنّك أنت الله؟"
فهتف الفلاّح مؤكدّاً بحزم:
"أجل أنا الله أيّها الضيف"
فهتف الملك لقمان مُتسائلاً:
"هل تسخر منيّ أيّها الشيخ؟"
"ما عاش من يسخر من ضيفه أيّها الضيف"
"وماذا تفعل هُنا أيّها الشيخ؟"
"ما تراه عيناك"
"إله وتحرث الأرض بيديك؟!"
"وبمَ سأحرثها إذن؟"
"ألا تستطيع أن تحرثها وتزرعها دون أن تجهد نفسك؟"
"لا، لا أستطيع"
"ألستَ من خلقها؟!"
"لا أيّها السيّد الضيف لست من خلقها!"
"مَن خلقها إذن؟"
"لم يخلقها أحد، هي موجودة لوحدها!"
"وأنت من خلقك؟"
"لم يخلقني أحد أيضاً، حبلت بي أميّ بعد أن واقعها أبي وولدتني كما تحبل كل النّساء وتلد"
"وأنتَ ماذا خلقت ألم تخلقِ شيئاً؟"
"أبداً أيّها السيّد الضيف أنا لم أخلق شيئاً"
"ولا يوجد لديك جنّة ونار وحساب وعقاب؟"
"هذه الأرض هي جنّتي، أتعب وأشقى فيها مع رعيّتي، ولا يوجد لدي نار غير التي أطهو عليها الطّعام، ولا أُحاسب أو أُعاقب أحداً إلاّ بقدر ما يحاسب أو يعاقب الأب والأم ابنهما!"
"لكن الأب والأم قد يقسوان أحياناً"
"لكنّهما يظلاّن أبوين ولن يكون في قسوتهما إلاَّ الرّحمة!"
"وأين هي رعّيتك أيّها الشيخ؟"
وأشار الفلاّح بيده إلى ناحية القرية وهتف:
"تقيم في هذه البلدة والتّلال والشّعاب المحيطة بها"
"وهل هؤلاء كُلُّ رعيّتك؟"
"أجل أيّها السيّد الضَّيف، وأشعر أن تحمّل مسؤوليّتهم عبءٌ ثقيلٌ عليّ!"
"لِمَ أيّها الشيخ؟"
وتنهدّ الفلاّح من أعماقه وهتف:
"لأنّي لا أستطيع أن أعمَلَ شيئاً لنفسي قبل أن أقوم بواجبي تجاه رعيّتي"
"أحقاً ما تقوله أيّها الشيخ؟"
"آه أيّها الضيف، أنا الوحيد في البلدة الذي لم يحرث حقوله حتّى هذا الوقت"
"وهذا الحقل أليس لك؟"
"لا أيّها السيّد الضيف هذا الحقل لهذه المرأة، مات زوجها بالمرض، وهي وأطفالها مرضى، ولم أجد من يحرث لها حقلها، فقلت أحرثه أنا وأترك حقولي إلى أن يُتاح لي ذلك"
وأطرق الملك لقمان، ووجه الفلاّح يتراءَى أمام عينيه بذقنه كثّة الشَّعر وشاربيه الطويلين وأنفه المعقوف قليلاً وعينيه حادّتي النظرات وحبّات العرق الراشحة من جبينه، وما لبث أن انحنى إلى أن لامست راحتا يديه الأرض، ليجثو على ركبتيه ويسجد أمام الفلاّح، ويظلُّ ساجداً للحظات مستشعراً الرّاحة والطمأنينة، ثمَّ يرفع رأسه ويضع راحتيّ يديه على ركبتيه، ويظلُّ جاثياً أمام الفلاّح الذي لم يكن يعرف ما الذي يقوم به الملك لقمان، فهتف متسائلاً:
"ماذا تفعل أيّها السيّد الضيف؟"
فهتف الملك لقمان بخشوع:
"إنّي أسجد لك لأنّي اقتنعت أنّك حقّاً إله!"
لم يكن الفلاّح الإله يعرف معاني السُّجود ودلالالته، ولم يكن يعرف أنَّ ثمّة آلهة يُعبدون أو يسجد لهم، غير أنّه أدرك بإحساسه أنّ ما قام به الملك لُقمان هو أرقى أشكال التعبير عن الاحترام والتّضامن العميقين في مفهومه، ففكّر ملياً للحظات بالطريقة التي سيبادل بها الملك لقمان الشّعور ذاته، لإحساسه بمعاناته وتضامنه معه، فلم يجد إلاَّ أن ينحني ويسجد له كما فعل هُوْ، وليرفع رأسه ويجثو أمامه؟ ليبدو الاثنان جاثيين واحدهما في مواجهة الآخر,فهتف الملك لقمان:
"لِمَ فَعلت ذلك أيّها الإله؟"
"خِفت أيّها السيّد الضَّيف إن بادلتك الاحترام العميق بطريقتي أن تظن أنني لا أبادلك الشّعور نفسه، فقلت أفعل كما فعلت أنت!"
أدرك الملك لقمان أن الإله الفلاّح لم يكن يعرف ماذا يعني السُّجود وأنّه قد لا يعرف العبادة أيضاً فهتف:
"كنت أفضّل أيّها الإله أن تبادلني شعورك بطريقتك أو بالطريقة التي تتبادل فيها ورعيّتك الشّعور بالاحترام!"
ففتح الإله صدره وأشرع يديه على وسعهما، ففعل الملك لقمان مثله وراحا يدنوان بجسديهما إلى أن تعانقا وتحاضنا، وقلب الملك لقمان الإله على جنبه وراح يتقلّب هُوَ وإيّاه فوق تراب الحقل وهما يتحاضنان ويضحكان.
انفصلا ونهضا وهما ما زالا يضحكان، وراحا ينفضان التُّراب عن ثيابهما.
"كم أنت طيّب أيّها السيّد الضيف"
"لست أطيب منك أيّها الإله"
ودنا الملك لقمان من الثورين، أخذ الشاقول وأمسك قبضة السكّة
ثبّت الشاقول فوق سكّة المحراث ونهر الثورين اللذين كانا أعجفين وهزيلين.
هتف الإله الفلاّح:
"لِمَ تتعب نفسَك أيّها الضّيف؟"
فهتف الملك لقمان:
"إن لم أتعب مع الله فمع من سأتعب إذن؟"
"هذا لا يصح فأنت ضيفي وواجبي إكرامك لا تشغيلك"
"وأنا واجبي أن أعمل من أجل الله أينما عثرت عليه، هيّا ابتعد عنّي ودعني أعرف كيف سأشتغل، يُستحسن أنْ تخرج من الحقل. قف هُناك إلى جانب المرأة والأطفال أو إلى جانب زوجتي!"
وأذعن الإله ليخرج من الحقل ويقف بين المرأة وأطفالها والملكة نور السَّماء.
هتف الملك لقمان:
"هل بذرت الحقل كُلّه أيّها الإله؟"
"لا أيّها الضيف بذرت ما أقدر على حرثه هذا اليوم"
"إذن هيّا أكمل بذر الحقل"
"لن نقدر على حرثه كُلّه أيّها الضيف وإذا ما تأخرت غداً ستسبقني الطيور وتنقر البذور"
"يا أخي خلّصني ولا تظن أنني سأحرث بطريقتك!!"
وظلَّ الإله متردداً إلى أن رأى "الملك لقمان" يرفع الشاقول مرّة ثانية وينهر الثورين هاتفاً "هووه" وإذا بالعافية تدبّ في جسديهما ليعودا في أوج عنفوانهما وقوّتهما، ويندفعا أمام المحراث بكل حيويّة، فأخذ جراب البذور وشرع يبذر الأرض.
أعاد الملك لقمان تثبيت الشاقول فوق السِّكّة ليضبط سيرها والعمق الذي تشق فيه الأرض، ونظراً للسرعة التي راح الثوران يندفعان بها فإنّه لم يعد في مقدوره متابعتهما والسيطرة عليهما إلاَّ جريَّاً، ليقطع الحقل خلف الثورين ذهاباً وإياباً.
هتف الملك لقمان:
"هيّا أيّها الإله أسرع بالبذار أسرع"
ولم يعد الإله قادراً على تمييز شكل الثوريين والملك لقمان، للسرعة الهائلة التي راحوا ينطلقون بها، حتّى بدوا له كشبح يقطع الحقل ذهاباً وإياباً، فأسرع في نثر البذار في الحقل.
أنهى الملك لقمان في دقائق حراثة الحقل التي كانت تتطلّب مع الإله بضعة أيّام، أوقف الثورين ومسح بسبّابته قطرات قليلة من العرق رشحت من جبينه.
هرع الإله وهو يهتف:
"لقد أجهدت نفسك أيّها السيّد الضيف، وبذلت كُلَّ قوّتك وقدرتك من أجلي، إنّي لعاجز عن شكرك"
"أنا لم أفعل من أجلك شيئاً بعد أيّها الإله، تعالَ لنفك النّير عـن الثورين كي يستريحا"
وشرّع يُساعد الملك لُقمان في فك النّير عن الثورين وهو يتساءَل كيف أمكنه أن يعيد للثورين صحتهما؟ فأشار إليه الملك لُقمان أن يؤجّل أسئلته إلى ما بعد فروغه من العمل.
أخرجا الثورين والمحراث من الحقل. أشار الملك لُقمان بحركة من يده وإذا بحوضٍ كبير يمتلئ بماء رقراق يتوضّع إلى جانبه طِوالة ملأى بالشّعير.
وألقى الملك لقمان نظرة نحو المرأة وأطفالها، فأزال هُزالهم وأعاد العافية إليهم دون أن يسألهم عن مرضهم.
أدرك الإله أنّه أمام رجل ذي قوى خارقة، فلم يعد يسأل، خاصَّة وأنّه أشار إليه أن يؤجَّل أسئلته إلى ما بعد.
وضع الملك لقمان يده على كتف الإله وسأله:
"قل لي أيّها الإله؟"
"نعم أيّها السيّد الضيف"
"هل هذه الحقول المحيطة بالبلدة كُلّها لك ولرعيّتك؟"
"أجل أيّها الضيف"
وراح الملك لقمان يشير بحركات من يديه في كل الاتجاهات، ليبذر ويحرث الأرض غير المحروثة، حتّى ما لا يدركه البصر منها.
جلس الإله أرضاً وأطبق بيديه على جانبي رأسه وقد أخذته الدهشة، وراح يرقب ما يفعله ضيفه دون أن يتكلّم.
أشار الملك لقمان بحركة نحو الحقل أمامهم وإذا بالأمطار تهطل والزرع ينبت ويأخذ في النموّ ليغدو زرعاً بطول ذراع، وراح الملك يوزّع حركاته لتهطل الأمطار وينبت الزّرع في كل الحقول.
ونظر الملك لقمان نحو أرض جبليّة قاحِلة وأشار بيده ثلاث مَرّات وإذا بقطيع من الأبقار يزيد تعداده على خمسة آلاف بقرة وثور، وقطيع من النّعاج يزيد تعداده على عشرة آلاف نعجة، وقطيع من المعز يزيد تعداده على خمسة عشر الف ماعز؟ تسرح على سفوحها، وأشار بحركة رابعة وإذا بالمنطقة الجبليّة تتضرّج بخضرة الرّبيع وتزهو بآلاف الأشجار والنباتات.
ونظر الملك لقمان نحو الإله وإذا بالدّهشة تعقد لسانه، فانحنى وأخذه من عضده وأوقفه وربت على ظهره.
"ما بك أيّها الإله؟"
نظر الإله في وجه الملك لُقمان وهتف:
"ما أنت أيّها الضيف؟"
"أنا إنسان أيّها الإله"
فهتف الإله:
"أنا إنسان وإله أيضاً ولا أستطيع أن أفعل أي معجزة من هذه المعجزات التي تفعلها أنت"
"بل أنت تفعل ما هو أهم أيّها الإله!"
"كيف؟"
"أنتَ قادر على أن تشقى وتكد وتتحمّل مسؤوليّة رعيتك وتقسو على نفسك، أما أنا فلست قادراً على ذلك، وأنت بسيط كنبتةٍ ونقيّ كالماء، وطيّب كالثّمار، ومحبّ كعاشق، ومخلص كعبد، وعادل كالكون، وأجزم أنني عاجز عن أن أكون بسيطاً ونقيّاً وطيّباً ومحبّاً ومخلصاً وعادلاً مثلك"
"إنّك لتحرجني وتخجلني أيّها الضيف بإغراق كل هذه الصِّفات النّبيلة عليّ"
"إله وتشعر حتّى بالحرج والخجل؟ أي إله أنت؟"
"كنت أظن أنني إله أيّها الضيف إلى أن رأيت ما فعلته؟
"أقول لك أنني لست إلهاً"
"إذا لم تكن أنت إلهاً بقدراتك الخارقة هذه، فماذا سأكون أنا؟"
"لن تكون إلاّ إلهاً أيّها الإله، فالإله لا يكون إلهاً بما يُحدِثه من خوارق، الآن تعال لنجلس قليلاً ونتحدّث"
كان على مقربة من الحقل قطعة أرض يباس، فأشار الملك لقمان بحركة من يده وإذا بها تتحوّل إلى روض صغير.
دعا الملك لقمان الإله إلى مائدة أفردت على الرّبيع، وجاءت الملكة نور السَّماء مصطحبة المرأة والأطفال، فجلسوا جميعاً أرضاً في ظلال الرّوض.
قدّم الملك لُقمان تفّاحة للإله وأخذ هو واحدة وقرّبها من فمه، وهو يهتف مخاطباً الإله:
"لم تقل لي ما اسمك أيّها الإله؟"
فهتف دون تردد وهو يلوك قضمة من التفّاح في فمه:
"اسمي كنعان أيّها الضيف!"
كان الملك لقمان قد أخذ يَعُض التّفاحة ليأخذ منها قضمة، وحين هتف الإله باسمه توقّفت أسنانه عن متابعة قضم التّفاحة، وسكنت نظراته، فهتف الإله كنعان:
"ما بك وكأنّك تجمّدت أيّها الضيف؟"
وظلّ الملك لقمان ساكِناً مركزّاً نظراته على وجه الإله دون أن يجيبه، فظنّ الإله كنعان أنّ اسمه نذير شؤم، وإلاَّ لما جمد ضيفه بهذا الشكل:
"أعتذر أيّها الضيف كوني أحمل هذا الاسم!"
تابع الملك لقمان قضم التّفاحة وراح يلوك القضمة في فمه، وما أن ابتلعها حتّى هتف:
"لا عليك أيّها الإله فاسمك جميل، وكُلُّ ما في الأمر أنّك ذكّرتني باسم جدّي الأوّل في الوقت الذي يبدو لي أنني لا أريد أن أتذكّره!"
"وهل يُضيرك أن تتذكر اسم جدّك أيّها الضيف؟"
"ثمّة جُرح في قلبي أيّها الإله أريده أن يندمل، ويبدو أنني أُحاول ذلك عبثاً!"
"أنت بكلّ قدراتك أيّها الضيف وتحمل جروحاً في جسدك ونفسك؟"
"ومن في مقدوره أن يبرأ من جروحه أيّها الإله؟"
"أنت القادر على إشفاء الناس من جراحِهِم وأمراضِهم لست قادراً على إشفاء نفسك؟"
"للأسف أيّها الإله لست قادراً، رُبّما لأنّها جراحى، ولو كانت في شخص غيري لسهل الأمر"
وأطرق الملك والإله للحظات تساءَل بعدها الإله:
"لم تعرّفني على نفسك أيّها الضيف؟"
"أدعى لقمان أيّها الإله، وأنا ملك على بعض قوى الجن"
"ملك؟ كل قدراتك الخارقة هذه ولستَ إلاَّ ملكاً؟"
"أجل أيّها الإله، ماذا تظنني إذن؟"
"كنت أظنّك كبير آلهة السَّماء!"
"وهل تعتقدون بوجود آلهةً أكبر منكم في السَّماء؟"
"أجل أيّها الملك، لكن، لم نجزم بذلك بعد!"
"وهل تؤمنون بهم؟"
"لم يظهروا لنا، ولم يطلبوا إلينا أن نؤمن بهم!"
"يمكن أن يكونوا مجسّدين في السَّماء ذاتها، أو الكواكب والنجوم!"
"لا أيّها الملك، نحن لا نظن أنّ هذه آلهة!"
"ما مفهومكم لهذه الآلهة إذن؟"
"قد تكون أقوى مِنّا"
"ولماذا هي أقوى منكم؟"
"لأنّها تقطن الأعالي وعالمها غير عالمنا!"
"وهل تظنّون أنّها خالقة للسموات والكواكب والنّجوم، وهي من ينزل الأمطار، وما إلى ذلك؟"
"نحن لم نفكّر في هذه الأمور أيّها الملك!"
"ولِمَ لا تفكّرون؟"
"لأننا نعتقد أنّ كُلَّ شيء وجد وحده دون أن يوجده أحد فهو ليس في حاجة إلى تفكير!"
"والمطر من ينزله؟"
"ينزل وحده!"
"ألا يمكن أن يكون المطر منياً لإله السَّماء، هطل خلال مضاجعته لأنثاه الأرض؟!"
وراح الإله كنعان يضحك دون أن يقدر على التوقّف، إلى أن هتف الملك لقمان:
"زعلت منك أيّها الإله!"
"لِمَ أيّها الملك؟"
"أنت تضحك على دين أجدادي!"
"ماذا تقصد بالدين أيّها الملك؟"
"أنتم لا تعرفون حتّى ما هو الدين؟"
"لا أيّها الملك، لا نعرف!"
"عجيب أمرك، إله ولا تعرف ما هو الدين، ألا يتعبّد قومك لك؟"
"قلت يتعبّد؟!"
"ولا تعرف أيضاً ما هو التعبّد؟"
"لا أيّها الملك!"
"ماذا تعرف إذن أيّها الإله؟"
"أعرف أن أكدح مع قومي كي نحيا بشكل أفضل!"
وأسقط في يد الملك لقمان فهتف:
"حسناً أيّها الملك، ما نتحدّث حوله أنا وأنت هو في مفهومنا دين! وقد كان بعض أجدادنا يعتقدون أنّ المطر ينجم عن مضاجعة إله السَّماء لآلهة الأرض، لتنجم عن هذه المضاجعة الحياة!"
"أعتذر أيّها الملك إذا أزعجتك بضحكي"
"لا عليك أيّها الإله، إنّك تدهشني ببساطتك إلى حد أجد فيه نفسي عاجزاً عن فهمك!"
"لِمَ أيّها الملك؟"
"مثلاً أنا لا أعرف من أين جاءكم هذا المفهوم للألوهة؟"
"من الحكم بالعدل أيّها الملك، فكلمة إله عندنا تعني الحاكم بالعدل!"
"آها! يبدو لي أنني سأفهمك جيّداً بعد الآن، يا ليت لو تحدّثني قليلاً عن شؤون بلادكم"
"بلادنا كبيرة جدّاً أيّها الملك، إذ فيها أكثر من ألف قرية ومدينة، وتحيطها بحار كبيرة لا نعرف ماذا بعدها، لأننا لا نستطيع عبورها بسفننا"
"هذه ليست كبيرة جدّاً أيّها الإله"
"بل كبيرة أيّها الملك، فبعض المناطق فيها يستغرق الوصول إليها أكثر من شهرين على أسرع الإبل!"
ضحك الملك لقمان هذه المرّة وهو يهتف:
"حسناً أيّها الإله يمكنك أن تتابع"
"كُلّ قرية أو مدينة في هذه البلاد يحكمها إله ويتولّى شؤونها ورعايتها، ونظراً لأننا ننتمي إلى بلد واحد وجذور عرقيّة واحدة، ونتكلّم لغة واحدة، فإننا نتبع الطريقة ذاتها في الحكم وتوزيع الثروة، ونخضع لنظام اتحّادي يشمل جميع مدننا وقرانا، ويحكم هذا الاتّحاد مجمع الآلهة الكبرى، الذي يقطن أكبر مدينة في البلاد، ولا يتدخل هذا المجمع في شؤون المدن والقُرى إلاَّ إذا اختلَّ ميزان العدالة فيها!"
"وكيف توزّع الثروة عندكم أيّها الإله؟"
"الأرض تقسّم حسب طاقة عمل الأسرة وعدد أفرادها، فإذا كانت أسرتك من عشرة أفراد فإنّ الأرض التي تُعطى لك لتعمل فيها، هي ضعف الأرض التي تُعطى لأسرة من خمسة أفراد، وهذا ينطبق على المواشي"
"هل هذا يعني أنّك ستوزّع المواشي التي وهبتها لك على كافة أُسر البلدة أيّها الإله؟"
"بالتأكيد أيّها الملك"
"وماذا يحدث للمحصول والغلّة التي تزيد عن حاجة الاسرة؟"
"توزُّع على الأسر التي لم تغِل أراضيها ومواشيها بشكل جيّد، أو التي استهلكت غلالها ومحاصيلها لسبب ما، وما يزيد عن حاجة البلدة كُلّها، يرسل إلى المجمّع الإلهي ليوزّعه على القُرى والمدن المحتاجة"
"وهل ترسلونه دون مُقابل؟"
"لا، يُرسلون بدلاً منه ما نحتاج إليه"
"وإذا لا تحتاجون إلى شيء؟"
"نحن في الغالب نحتاج إلى أشياء أيّها الملك"
"ألا تتعاملون بالنقد؟"
"ماذا تعني بالنقّد أيّها الملك؟"
"العملة، أو النّقود أيّها الإله"
"لم أفهم ماذا تقصد أيّها الملك"
"شيء جيّد أنكّم لا تعرفونها ولا تتعاملون بها أيّها الإله، لكن ألا يوجد عندكم صناعة؟"
"بلى، نحن نصنع كُل ما يحتاج إليه المرء من كساء وأوانٍ وأدوات للطعام والشراب والمنـزل والزراعة، ونصنع القوارب والأدوية"
"وكيف تقسّمون العمل في هذا المجال؟"
"حسب عدد أفراد الأُسرة العاملين"
"كيف أيّها الإله؟"
"إذا كان العاملون في الأسرة ثلاثة أفراد غير الأُم على سبيل المثال، فإنّ أحدهم يعمَل في الزّراعة والثاني في الرّعي والثالِث في الصِّناعة"
"والأم ماذا تعمل؟"
"الأم حُرّة في أن تعمل ما تشاء وتساعد من تشاء بعد إنهاء عملها في البيت"
"والفتاة"
"لا فرق في العمل عندنا بين الفتاة والرّجل أيّها الملك، فالجميع يعملون"
"وماذا عن التعليم، ألا تعلّمون أولادكم القراءَة والكتابة؟"
"لا أعرف ماذا تعني بالضبط أيّها الملك، لكن إذا تقصد أن نحوّل الكلام إلى صور نستطيع أن نفهمها فقد جاءَ نا رسول من مجمّع الآلهة يقول أنّه سيعلّم أبناءَنا تصوير الكلام!"
"هذا ما قصدته فعلاً أيّها الإله، ماذا عن الزّواج عندكم؟"
"المرأة عندنا هي من تختار رجلها أيّها الملك، وفي الغالب تبقى معه العمر كُلّه، وإذا ما حصل خلاف فإنّهما ينفصلان، وقد تتزّوج المرأة رجلاً آخر أو تبقى دون زواج"
"وهل يحق للمرأة غير المتزوّجة أن تعيش حُريّتها في أن تُمارس الحب مع رجل دون زواج؟"
"هذا حقّها الطبيعي أيّها الملك"
"حتّى الفتاة البكر؟"
"طالما أنّ المرأة ليست متزوّجة فهي تعيش حرّيتها الكاملة، حتّى في أن تنجب دون زواج وبناء أُسرة متكاملة"
"وإلى من ينسب الأبناء أيّها الإله؟"
"إلى أمّهاتهم أيّها الملك"
"وما هي نظرتكم بشكل عام إلى العملية الجنسيّة أيّها الإله؟"
"نرى فيها ما يعمّق المحبّة أيّها الملك ويساعد النّفس على الطمأنينة والحفاظ على الطّهارة"
"أشكرك أيّها الإله، لقد زدتني معرفة لم أفكّر فيها في حياتي!"
"أية معرفة أيّها الملك!"
"معرفة البساطة أيّها الإله!"
"هذه ليست معرفة أيّها الملك"
"بل هي المعرفة عينها، أجدادنا نحن عقّدوا المسائل أكثر مما تحتمل، فكانت النتيجة أن عقّدونا!"
ونهض الملك لقمان هاتفاً:
"أستودعك أيّها الإله"
ونهض الإله وهو يهتف:
"هل ستنصرف دون أن أُكرمك أيّها الملك؟"
"لقد أكرمتني بصدقك وطيبتك ومحبّتك أيّها الإله وهذا أفضل إكرام"
"ولن أراك مَرّة ثانية أيّها الملك؟"
"آمل أن يتاح لي ذلك أيّها الإله"
"وأين ستذهب الآن؟"
"إلى ما وراء البحار التي تحيط ببلادكم أيّها الإله"
"وهل تتوقّع أن تجد فيها أحداً؟"
"أكيد أيّها الإله، لم لا يكون فيها أحد؟"
وتعانقا بحرارة وكأنّهما صديقان منذ قرن!
صعد الملك لقمان والملكة نور السَّماء إلى العرش الطائر. حلّقا فوق البلدة ليشفيا جميع المرضى من أمراضهم ويتابعا رحلتهما فوق القرى والبلدات والمدن ويغدقا الخير عليها.
* * *

حين كان الملك لقمان والملكة نور السَّماء يقتربان من بلدة كبيرة رأيا آلاف الناس يصطفون في أرتال طويلة ويحملون أكياساً على أكتافهم، وقد انتشر من حولهم آلاف الحمير والجمال، فهبطا إليهم. سأل الملك لقمان أحد الناس عمّا يدعوهم إلى الاصطفاف فأخبره أنّهم ممن نفدت غلالهم ومحاصيلهم، وأن إله البلدة يقوم بتوزيع احتياطي المحاصيل والغلال عليهم، انتقل الملك لقمان والملكة نور السَّماء إلى مقدّمة الأرتال حيث كان الإله يُشرف على توزيع المحاصيل والمنتوجات.
كان هناك ثلاثة أرتال من المواطنين، أحدها يأتي بالحبوب والثاني بالسَّمن والجبن والجميد والثالث بالقماش والملابس، ويضعون كل نوع على حده، ليقوم موزّعون بتوزيعه تحت إشراف الإله، الذي كان يتنقل هُنا وهُناك بين مراكز التوزيع الثلاثة ويسأل الناس عن أحوالهم ويستمع إلى مطالبهم.
حيّا الملك لقمان الإله فردّ عليه التحيّة بأطيب منها، واعتذر إليه لعدم تمكنه من القيام بواجب الضّيافة لانشغاله بتوزيع احتياطي المحصول على السُّكان، فأبدى الملك لقمان شكره وأعلن أنّه ما جاء إلاَّ للمساعدة إذا كان الأمر يتطلّب ذلك، فراح الإله يشكو همومه بقلب مجروح:
"آه أيُّها الضيف العزيز وأيّتها الضيفة المحترمة، من يقدر على مساعدتي ويشيل قليلاً من الهم عن قلبي! حتّى مجمع الآلهة الذي أرسلت إليه رسولاً أطلب مساعدته لم أتلقَ منه شيئاً حتّى الآن، لقد ضُرِب معظم محصول أرضنا ومواشينا هذا الموسم واستهلكنا الفائض كُلّه، وها نحن نوزّع الاحتياطي بعد أن طلبنا إلى الناس إحضاره، وأخاف ألاّ يكفي جميع المحتاجين ولا تأتينا مساعدة من مجمّع الآلهة، أو قد تتأخّر كثيراً"
راح الملك لقمان يواسيه وهو يتجوّل هو وإيّاه بين مراكز التوزيع التي أخذت إمداداتها تقل وما زال الآلاف ينتظرون في الأرتال.
توقّف الملك لقمان والإله إلى جانب مركز توزيع الحبوب، كان ثمّة فلاّح ينزل عدلين من الحنطة عن حماره وهو يهتف مخاطباً الإله:
"أُقسم يا إلهي إنني اقتطعت هذين العِدلين من مؤونة البيت، وأنّ ما بقي عندي لا يكفي مؤونة الأولاد إلاَّ بما يعادل وجبة واحدة في اليوم"
وما أن أنزل الفلاّح العِدلين وراح يقرّبهما إلى جانب العدول المتبقية في مركز التوزيع، حتّى مَدّ الإله يده ووضعها على كتفه وهو يهتف "مبارك أنت يا جُليّات ومباركة أرضك"
ولمّا سمع الملك لقمان اسم جُليّات حدّق إليه متعجبّاً وراح يتأمّل ملامح وجهه بمودّة بالغة. وحين استدار جُليّات إلى حماره وجد عليه عِدلين آخرين، فلم يصدّق عينيه، والتفت إلى الإله متسائلاً:
"ألم ترني أُنزِل العِدلين عن الحمار يا إلهي؟"
"بلى يا جُليّات!"
"من أين جاء هذان العِدلان إذن؟"
فهتف الإله:
"نحن في حضرة ضيفين مباركين يا جُليّات"
وراح جُليّات ينظر إلى الملك لُقمان والملكة نور السَّماء بدهشة، فدنا الملك لقمان من الحِمار وهو يهتف:
"هيّا يا جُليّات ساعدني في إنزال العِدلين"
فحلف عليه الإله وجُليّات ألاّ يتعب نفسه، فأصَرَّ على موقفه.
وما أن أنزل الملك لُقمان وجليّات العِدلين عن الحمار حتّى هتف الملك لُقمان:
"لننزل العدلين الآخرين يا جُليّات!"
فالتفت جُليّات وإذا بعدلين آخرين على الحمار، ولم يتح له الملك لقمان التعبير عن دهشته، فقد أمسك بالعِدل وطلب إليه أن يمسك بالعدل المقابل وهو يهتف" هيّا أسرع يا جُليّات" وأوعز الملك لقمان إلى قوى الجن لتحمل عنهما، فأحسَّ جُليّات بالعِدل خفيفاً بين يديه، فهتف:
"إنَّه خفيف أيّها الضيف"
فهتف الملك لقمان:
"لا عليك يا جُليّات هيّا أسرع حتى لا تتكدّس العِدول على ظهر الحمار فينوء بها"
ولم يعد جُليّات يتحرّك من جانب الحمار، وظلَّ واقِفاً في مواجهة الملك لقمان، وكُلّما أمسكا عِدلين أنزلا وحدهما عن الحمار ليظهر مكانهما بدلاً منهما، إلى أن امتلأت الساحة بالعُدول التي راح الجن يكدّسونها بانتظام إلى أن شكّلت تلالاً.
دنا الملك لُقمان من جُليّات ووضع يده على كتفيه. كان يقف هو والإلـه ومئات الناس وهم في غاية الذّهول، وكان ثمّة عدلان على الحمار، هتف الملك لقمان وهو يشير بيده:
أُنظر يا جُليّات"
وحين نظر جُليّات رأى قافلة من الجمال محمّلة بالعدول يقودها رجال، تمتد من خلف الحمار عبر طريق البلدة، ثمَّ عبر الطريق الجبليّة التي قدم منها، لتلوذ خلف الجبال دون أن يرى نهايتها، فهتف مُغتبطاً مشدوهاً!
"ما هذا أيّها الضيف العزيز؟"
"هذه غلالُك وجِمالُك يا جُليّات، فخذ منها ما تشاء وامنح منها للناس مـا تشاء، أمّا الرّجال فسينصرفون بعد أن ينزلوا الأحمال"
وأشار الملك لقمان بحركتين متتاليتين من يده، وإذا بقافلتين أُخريين من الجمال كل قافلة من خمسة آلاف جمل، قافلة تحمل الملابس والأقمشة وقافلة تحمل الجبن والسَّمن والجميد.
صافح الملك لقمان الإله وجُليّات مودّعاً وعيناه تغرورقان بالدّموع دون أن يعرف أحد من سُكّان البلدة لماذا دمعت عيناه، وصعد هو والملكة نور السَّماء إلى العرش الطائر ملوّحاً لآلاف الناس بيده، والدّموع تنزلق على وجنتيه.
* * *

راح الملك لُقمان والملكة نور السَّماء يتابعان تحليقهما على العرش الطائر.. وفيما كانا يعبران السّهوب شاهدا قافلة تضمُّ قرابة ألف جمل، محمّلة بالمحاصيل والمنسوجات المرسلة من مجمّع الآلهة إلى مدينة منكوبة، فضاعفا جمالها وحمولتها عشر مرّات، وتابعا تحليقهما فوق السُّهوب والجبال إلى أن شاهدا آلاف الناس يغادرون مدينتهم في أرتالٍ طويلة ويتسلّقون سفح جبل كبير وهم يدقُون طبولهم ويرقصون ويهزجون، وقد تقدّمهم رجل كهل يسير متوكّئاً على عصا. وحين اقترب الملك والملكة من الناس تبيّن لهما أنّهم لم يكونوا فرحين، بل إن معظمهم كانوا يبكون، فسأل الملك لُقمان أحدهم عن أمرهم، فأخبره أنّ الجدب حَلَّ بمدينتهم لأربعة أعوام متتالية وأنّ إله المدينة "إليَسَعْ" بات مدركاً أن مدينته أصبحت عبئاً على مجمع الآلهة وباقي البلاد فقرر أن يُضحّي بنفسه كي ينبت الزّرع ويعم الخير على سُكّان المدينة، وعرف الملك لقمان والملكة نور السَّماء أن الناس سيقومون بعد قتل الإله بتقطيع جسده إلى قطع صغيرة ليأخذ كلُّ فلاح قطعة ويدفنها في حقله ليخصب الحقل!
طار الملك لقمان والملكة نور السَّماء ليُحطّا أمام الإله "إلَيسع" الذي بلغ قمّة الجبل ووقف مُتكّئِاً على عصاه والناس يرقصون ويغنّون ويـبكون من حوله. حيّاه الملك فرد الإله التحيّة بصوت هادئ، وعبثاً حاول الملك لقمان إقناع هذا الإله مُطلق العظمة بالعدول عن التضحية بنفسه، ليجد نفسه لأول مرّة غير قادر على فعل شيء ليغيّر الوضع وينقذ الإله، فراح يتوسَّلُ إليه واعِداً إيّاه بإنبات الزّرع وإخصاب الحقول والبساتين وتسمين المواشي وإكثارها، دون جدوى، وكان للإله "إليسع" عذره حين هتف:
"إنّي أرجوك أيّها الضيف ألاّ تفعل ذلك إذا كنت حقّاً قادراً على صُنع المعجزات، لأنك قد تُفسد بفعلتك الناس والآلهة فتجعل الناس ينبذون التّعاون، والآلهة يتخلّون عن التّفاني والتضحية من أجل البشر!"
فوجد الملك لقمان نفسه مضطراً إلى احترام وجهة نظر الإله والامتثال إلى رأيه، فانتحى هو والملكة جانباً، وراحا يرقبان ما يجري بخشوع، وسط طقسٍ سادته الرَّهبة.
احتشد آلاف الناس على قمّة الجبل ليحيطوا بالإله "إليّسع" من كل جانب وهم يرقصون ويغنّون ويدقّون الطّبول والدّموع تنحدر على وجناتهمْ، ولم يجد الملك لقمان والملكة نور السَّماء نفسيهما إلاّ وهما يبكيان معهم ويشرعان في الرّقص!
مُدّد جسد الإله على بطنه فوق منضدة خشبيّة كبيرة وأشهر رجل قويّ سيفه وأشرعه في الهواء بطول يده وهو يدور حول نفسه ببطء، لتضرب الطّبول بكل عُنف وتدق الأقدام الأرض بقوّة وترتفع الأصوات بِكُلِّ طاقتها مرددة الأهازيج.
استقام الرجل منتصباً إلى جانب المنضدة ورفع سيفه إلى أعلى وأهوى به على عُنق الإله ليفصِل رأسه عن جسده وسط طقسٍ شابه الجنون والتعقّل، الصخب والعُنف، الصُّراخ والدّموع، الرقص والغناء.
انبجس الدَّم غزيراً من جسد الإله، وارتعشت يداه ورجلاه وأجفانه وشفتاه، وما لبث جسده أن همد وسكن.
اندفع العشرات من الرّجال والنّساء وراحوا يمدّون رؤوسهم على أطراف المنضدة كاشفين عن أعناقهم، ليضحّوا بأنفسهم تضامناً مع الإله.
فشرع سيف الرَّجل يهوي على أعناقهم لتسقط أجسادهم وتتدحرج رؤوسهم من على المنضدة، وقد أثار الدَّم وقطع الرؤوس الرّجل فهاج وماج وشرع يَبتُر كُلَّ رأسٍ يمتد أمامه على المنضدة فبتر مائة رأس، ولم يتوقف إلاَّ بعد أن صرخ رجل بالناس أن يتوقّفوا عن التضحية بأنفسهم، فتوقَّفوا وسط صخب الطّبول ودق الأرض بالأقدام وارتفاع الصُّراخ.
شرع السيّافون في تقطيع أوصال الإله وأوصال المضحّين، وأخذ بعض الناس يصطفون في أرتال ليأخذ كُلُّ واحد منهم قطعة صغيرة من لحم الإله وقطعة كبيرة من لحم البشر ويصرّهما في منديله ويذهب ليدفنهما في حقله، فيما كان باقي الناس يدقّون الطّبول ويرقصون ويهزجون.
اصطف الملك لقمان والملكة نور السَّماء في رتل المصطفين حين خفّت زحمة الناس، وأخذ كُلُّ واحدٍ منهما قطعتين من لحم الإله ولحم المواطنين.
حفرت الملكة حُفرة على قمّة جبل التضحية، فيما طار الملك لُقمان إلى جبل آخر، وما أن دفنا القطع في الحُفرتين حتّى نبتت في كلّ حفرة شجرة تُفّاح كبيرة، وراحت أشجار التّفاح تنبت وتنمو لتكسو الجبلين وسفوحهما والوادي الفاصل بينهما، دون أن يستعين الملك والملكة بقواهما الخارقة، وحين نظر الملكان إلى الحقول التي دفن فيها المواطنون لحم الإله والبشر، شاهدو زرعها ينبت دون مطر، وأشجارها تورق وتثمر، لتتضرّج كل الحقول بالخضرة، ويتقاطر المواطنون ليعودوا إلى قمّة الجبل ويشرعوا في الرّقص والفرح.
وهُنا أدرك الملك لقمان أنّه في مقدوره أن يقدّم للناس ما يشاء دون أن يعرفوا أنّ ذلك من فِعله، فأشار بحركات متتالية من يده وإذا بقطعان الأبقار والجمال والنّعاج والمعز تملأ السُّفوح والجبال، واندفع هو والملكة يرقصان مع الناس إلى أن تعبا، فطارا ملوّحين لهم مودّعين.
* * *

هبطت "نسمة" من المركبة محلّقة على فرسها الحوريّة لتدور حول العرش الطائر وهي تهتف "عمّو عمّو" وحين اقتربت الفرس من العرش مَدَّ يديه وأخذها وراحا يتعانقان ويتحاوران حول الحياة في السَّماء.
كانت الشمس تجنح إلى المغيب فشاهد الملك لُقمان الغروب لأوّل مَرّة في السماوات، غير أنّه لم يعرف فيما إذا كانت الشمس تغيب غرباً أم في اتّجاه آخر فسأل الملكة نور السَّماء، فأجابت:
"نحن الجن لا نظنُّ أنّ الشُّموس تغيب إلاَّ غرباً يا حبيبي"
"لعلّه من الأفضل في هذا الكون ألاَّ يعرف المرء الشرق من الغرب، والسَّماوات العُليا من السماوات السُّفلى، بل والا يعرف أين هو، لعلّه يحافظ على حد من توازنه العقلي!"
فهتفت الملكة:
"يُفترض أن نكون في السماوات العُليا لأننا ومنذ أن غادرنا الأرض ونحن ننطلق عمودياً إلى أعلى!"
فراح الملك يضحك فتساءَلت عمّا يضحكه فأجاب:
"أن نكون في السماوات العُليا فهذا ممكن، أما أن ننطلق عمودياً إلى أعلى، فهذه مسألة مشكوك فيها لأن كل الاتجاهات أعلى، وليس هُناك ما هو أسفل في الفضاء، حسب معلوماتي الفضائية البائسة!"
"أنت بهذا تُلغي السماوات السُّفلى يا حبيبي"
"أنا لا أُلغيها بقدر ما أجرّدها من صفتها السُّفليّة، فهي سماوات وكفى، وأينما ذهبنا لا يكون هُناك إلاَّ السماوات"
وحين حَلَّ الظلام راح الملك لقمان يبحث عن النّجوم التي كان يراها في صغره من جبال القدس، وهو يستلقي ليلاً إلى جانب القطيع، فلم يتعرّف على أيٍ منها، حتى "درب التبّانه" بنجومه التي لا تحصى لم يعد يعرف أين هو. كانت آلاف النّجوم التي لا يعرفها تتناثر في السَّماء. ما أدهشه أنّه رأى قمرين في السَّماء بدلاً من قمرٍ واحد، كانا هلالين وأحدهما أكبر من الآخر ويحلّقان في اتجاهين متعاكسين، وقد أحاطت بهما نجوم كثيرة كانت تومض وتنطفئ.
راودته فكرة أن يكونوا في "درب التبّانة" الآن، فسأل الملكة:
"هل يعقل أيّتها الملكة أن نكون الآن على كوكب في درب التبّانة؟!"
وكم كانت دهشته حين هتفت الملكة:
"أظن أننا تجاوزنا درب التبّانة يا حبيبي!"
"يا إلهي! تجاوزنا درب التبّانة بفضاءاته هائلة الأحجام والتي يعجز الخيال عن تصوّرها؟!"
"أقول أظن يا حبيبي"
"لو أننا تجاوزناه يا حبيبتي لكنا نراه في الجهة التي خلّفناها وراءَنا!"
"ربّما لأننا قريبون منه، لا نرى حجمه الهائل"
"لو أننا اصطحبنا فلكيَّاً معنا كي لا نبقى كالطُرشان في الأعراس!"
"يمكنك أن تحضر من تشاء يا حبيبي؟
"أخاف أن يدوّخوني بمعلوماتهم يكفيني ما أنا فيه!"
وهتفت "نسمة" صارخة "عمّو عمّو شوف" وحين نظر هو والملكة شاهدا مهرجاناً احتفالياً ناريّاً يخرج من الأرض إلى السَّماء، كانت أعمدة وكتل وحمم وشظايا من نار تندفع من باطن الأرض إلى السَّماء لترسم جوّاً ساحِراً خلاَّباً. أدركا أنّها منطقة بركانيّة فراحا يقتربان منها وهما يرقبان الجمال الأخّاذ الذي تشكّلُه الحمم وهي تندفع إلى أعلى لتتناثر في كل الاتجاهات وتنزل لتتدحرج على السُّفوح الجبليّة.
تمنّى الملك لُقمان ألاَّ تكون البراكين قد تفجّرت فجأة والا يكون هُناك قرى أو مدناً قريبةً منها، فيما راحت "نسمة" تتشبّث بعنقه وتلتحم بجسده متسائلة عمّا إذا كانت هذه جهنّم داجونيّة ثانية، فراح يربت على ظهرها ويُطمئنها مؤكّداً أنّ هذه ليست جهنّم، وأخذ يدعوها لأن تتفرّج على جمالها، غير أنّ "نِسمة" أبت أن ترى أي جمال في هذا المهرجان الجحيمي، وطلبت إليه أن يُطفِئه كما أطفأ جحيم داجون وحوّلها إلى بحرٍ تسبح فيه الحوريّات والناس. ونظراً لأنّه كان مَتخوّفاً من وجود قُرى أو مُدن قريبة من منطقة البراكين فقد سارع على الفور إلى التنفيذ.
هبَّ إعصار هائل فوق منطقة البراكين، فالتمعت البروق وقصفت الرّعود وهطل المطر مدراراً فوق الحمم وفوّهات البراكين، لتتصارع النيران مع الأمطار الغزيرة، ولتهدر البراكين بأصوات مخيفة وتقذف ما في أحشائها إلى أعالي السَّماء ليطاول السحب نفسها ويحيل الأمطار إلى نارٍ تهطل من السَّماء!
تجمّدت "نسمة" في حُضن الملك لقمان فضمّها بشدّة إلى جسده، وهو يُضاعف قوّة الإعصار، غير أنّ حمم البراكين هزمت الأمطار الغزيرة وأحالتها إلى شهب من نار تصل ما بين السَّماء والأرض، وأحسَّ الملك لقمان للحظات بعجز الإعصار عن إطفاء الحمم وإخماد البراكين التي راحت تهدر مدويّة في صخب وجنون، وكانت الملكة نور السَّماء ترقب ما يجري بحذر وقلق وهي تقف إلى جانب الملك لقمان واضعة يدها على كتفه، فأشارت إليه بمضاعفة الإعصار فيما هتف ملك الملوك من المـركبة متسائلاً عمّا إذا كان مولاه يحتاج إلى مساعدة.
راح الملك لُقمان يُضاعف قوّة الإعصار دون أن يجيب ملك الملوك، وظلَّ يُضاعفها إلى أن زادها سبع مَرَّات عمّا بدأت به، بحيث أخذ الماء ينصبُّ في شلاَّلات من السَّماء راحت تصارع أعمدة الشُّهب لتحيلها شيئاً فشيئاً إلى رماد، ليعمَّ المنطقة ظلام حالك لم يعد يكسر حدّته إلاَّ التماع البروق في سماء السحب الكثيفة التي غطت جبال البراكين، وكان الملك لقمان قد أمر القوى الجنيّة بأن تشق نهراً في الأرض تستقطب فيه مياه الإعصار ومقذوفات البراكين لتبعدها عن المدن والقرى ولا تدعها تمر فيها، وطلب إليها أن تنير السَّماء في المنطقة كُلّها، فانتشرت في الفضاء آلاف الشُّهب المُضيئة التي راحت تجوب السَّماء في كُل الاتجاهات لتُـحيل ليل المنطقة إلى نهار، فبدا الدُّخان الكثيف المتصاعد من جرّاء إطفاء الحمم والبراكين، وقد حجب أعالي السَّماء وغطّى قمم الجبال.
هتفت "نسمة" وهي تعدل وضع جلستها في أحضان الملك لُقمان وترقب سحب الدُّخان الكثيفة:
"طفيتها عموّ"
فربَت على ظهرها وهو يهتف:
"خلصْ طفيتها حبيبتي ما تخافي"
فاطمأنت نِسمة ونزلت من أحضان الملك لقمان لتمرح في فناء العرش.
كان ثمّة بعض القرى والمدن التي دبّ الرُّعب بين سُكّانها رغم وجود بعضها على بعد عشرات الأميال وبعضها الآخر على بُعد مئات الأميال من منطقة البراكين، فقد كانت الحمم تتناثر بعيداً في الفضاء لتقع على مقربة منها، وكانت مدينة مجمع الآلهة من بين هذه المدن، وقد خرج السُّكان في القرى والمدن المختلفة، وانتشروا في الحقول وبين الأحياء ليرقبوا الحمم القادمة نحوهم ويتلافوا سقوطها عليهم، وحين سمعوا دويّ الرّعود ورأوا سنا البروق فوق منطقة البراكين، لم يعرفوا ماذا يحدث، إلى أن شاهدوا السَّماء تُضاء بآلاف الشُّهب، فأدركوا أنّ ثمّة قوى خارقة تخوض صراعاً رهيباً مع البراكين.
شقّت قوى الجن نهراً كبيراً تحاشى جميع القُرى والمدن وقاد مياه الإعصار ومقذوفات البراكين إلى البحر. وحين رأى النّاسُ ذلك راحوا يحتشدون على ضفاف النّهر ويرقبون تحوّلاته من حمم منصهرة إلى سائل ناري إلى ماء يغلي ويفور، ثمَّ إلى ماء بارد، ليدركوا أنّ قوى الأعاصير انتصرت على قوى البراكين وأَخمدت نيرانها.
حلّق العرش الطائر بالملك لُقمان والملكة نور السَّماء يحفُّ به آلاف جنود الجن، وتنير السَّماء والأرض من حوله آلاف الشُّهب التي رافقته على ارتفاعات متوسّطة، وراحت تحلّق في السَّماء لتنير المنطقة، وكُلَّما مَرَّ العرش فوق قرية أو مدينة أَغدق الملك لقمان عليها الخيرات، إلى أن بلغ مدينة كبيرة فعرف الملك أنّها مدينة مجمع الآلهة، فقرر النُّزول إليها بعد أن ملأ جبالها وسهولها وشعابها بمئات القطعان، بقطعان إبل ملأها، وقطعان أبقار ملأها، وقطعان معز ملأها، وقطعان نعاج ملأها، وقطعان خيول ملأها، وقطعان غزلان ملأها، وأسراب طيور ملأها، وأنبت زرع الحقول، وأثمر الكروم والبساتين، ونمّا الرّبيع، وأكثر الأشجار، وفجّر الينابيع، والأنهار، وأقام السُّدود وشيَّد القصور وملأ بحر المدينة بالسُّفن المحمّلة بالحبوب، والسُّفن المحمّلة بالأحذية، والسُّفن المحمّلة بالأخشاب، والسُّفن المحملة بالملابس، والسُّفن المحمّلة بأواني وأدوات الطّعام، والسُّفن المحمّلة بالسِّجاد، والسُّفن المحمّلة بالأغطية والفراش، والسّفن المحمّلة بالحُلي والجواهر، والسُّفن المحمّلة بالدّقيق، والسُّفن المحمّلة بأطايب العطور.
كل هذه الخيرات أنزلها الملك لقمان على المدينة بحيث لم يخطر بباله شيء إلاَّ وأنزل منه عليها.
كان اسم المدينة "جلعاده" واسم إلهها عناق "أمّا كبير الآلهة الذي كان يحكم البلاد كُلَّها ويقود مجمّع الآلهة فكان اسمُه "عونائيل"
وقد احتشد آلاف آلاف الناس في ساحة مجمع الآلهة يتقدّمهم الآلهة جميعاً، وكانوا اثنين وخمسين إلهاً يمثلون جميع البلاد. وقد احتشدوا في صفوف منتظمة لاستقبال هؤلاء الضيوف الذين سبقتهم خيراتهم.
نزل مع الملك لقمان والملكة نور السَّماء ملك الملوك والملك حامينار وقائد المركبة "عزيزون" والملكة "نسيم الريح" والملكة شامنهاز، ودليلة، والأميرة ظل القمر، والأميرة ظل السَّماء والأميرة نجمة الصَّباح إضافة إلى "نسمة" وأختها "فتنة" ووالدها "سام" وأمّها "سارة" وبعض من كانوا على المركبة.
رحَّب الإله "عونائيل" والإله "عناق" بالملك لُقمان ومرافقيه، وقادوهم إلى بهوٍ متواضع في مجمع الآلهة الذي بدا معماره أقرب إلى معمار المسجد إنّما دون مئذنة، إلاَّ أنَّ قبّة كبيرة كانت تعلوه، وقد جلَس الآلهة ونساؤهم وضيوفهم تحت تلك القبّة على فراشٍ أرضي من السجَّاد.
وراح الإله عونائيل يبدي شكره العميق وشكر جميع الآلهة والبلاد كُلّها للملك لما أغدقه على المدينة من خيرات لا تنضب، فرد الملك لقمان هاتفاً: "إنَّ آلهة تُضحّي في سبيل شعوبها، وشعوب تضحّي من أجل مستقبل أبنائها لجديرة بالخير كُلّه، إن لم يعجز الخير عن إكرامها!"
وأخبر الملك لقمان الإله عونائيل والإله عِناق بأحوال بلدة الإله كنعان وبلدة الفلاّح الطيّب جُليّات ومدينة الإله "إليسع" والبلدات والقرى والمدن التي مَرّ فوقها دون أن ينزِل إليها، وأخبرهما بما أقدم عليه الإله "إليسع" من تضحية في سبيل رعيته وكيف ضحّى مائة من رجال ونساء الرّعيّة بأنفسهم معه، فحزنوا جميعاً عليه وراحوا يتنادرون بمناقبه العظيمة وخِصاله النبيلة، وأَمَر الإله عونائيل بأن يقام ضريح رمزي للإله ورعيّته المائة على قمّة الجبل الذي ضحّوا بأرواحهم عليه، ليفدِ إليه الناس في هذا الموسم من كُلِّ عام وينحروا الأضاحي من المواشي والأغنام تخليداً لذكراهم، وتذكيراً وتمجيداً بعطائهم الفذ وتضحيتهم العظيمة.
ودعا الإله عونائيل والإله عِناق الملك لقمان إلى وليمة في الهواء الطلق بين البساتين، خاصّة وأنّ الشّهب المرافقة لموكب الملك ما زالت تنير ليل المدينة، فوافقه الملك لقمان على ذلك.
هرع مُعظم أبناء وبنات مدينة "جلعاده" وشرعوا في ذبح آلاف الخِراف والجداء والعجول وإشعال النار وتحضير موائد الطّعام والشّراب، وحين حضّر الآلهة والملوك والآباء والأمهات كان الشّواء يتقلّب على النار في سفافيد نُصِبت على مئات المواقِد التي أُقيمت إلى جانب بعضها البعض.
وقد عبقت رائحة الشّواء لتعمَّ أجواء البساتين، وكان الناس يتجوّلون في جماعات حول المواقد والموائد ليأخذوا ما يريدون من الشّواء والمقبّلات، وينتشرون في البساتين وتحت الأشجار، فيما آلاف الفتيات الجميلات يقـمن بتوزيع المشروبات على الجميع في كؤوسٍ تنتظم على أطباق مستطيلة، وقد ارتدين أزياء شعبيّة ريفيّة بدت للملك لقمان أقرب إلى الأزياء الفلسطينيّة بتطريزاتها متعددة الألوان، وهو ما بدت عليه الأزياء التي يرتديها الآلهة والآباء والأمهات.
كانت الشّهب تحلّق في السَّماء لتضفي على البساتين جوّاً ساحراً، وكان كل شهب يتألّف من مجموعة نجوم تنتظم في سلسلة لتأخذ أشكالاً متعددة.
فكان منها المستقيم والمستدير والمربّع والمثلّث ومتقاطع الأضلاع والهرمي والمخروطي، وكان منها ما هو على شكل قناديل متعددة الرؤوس.
وقد بدا جميع الناس في غاية الفرح فشرعوا ينظّمون حلقات الرّقص والغناء والدبكة، وفوجئ الملك لقمان بوجود آلات كالناي والأرغول بأيدي العازفين، الذين راحوا يعزفون عليها بمهارة فائقة.
هتف الملك مخاطباً الإله عونائيل والإله عناق وهم يقفون على ناحية في البستان:
"شيء لا يُصدّق أيّها الإله أن تكون أسماؤكم وأزياؤكم وحتّى آلاتكم الموسيقية شبيهة بأسمائنا وأزيائنا وآلاتِنا الموسيقيّة، فهتف الإله عونائيل:
"لعلّنا ننتمي إلى جد واحد ذهب بعض أبنائه إلى كوكبكم وظلَّ الآخرون على كوكبنا أيّها الملك!".
"المشكلة أنّهم ذهبوا إلى أكثر من كوكب، إذ ثمّة أسماء متشابهة في كواكب كثيرة حتّى في السَّماء السابعة، لكن ماذا يعني اسمكم أيّها الإله، فهو يقترن باسم إله سماوي قديم عندنا؟!"
"اسمي أيّها الملك، يعني الإله المُعين لإقرار الحُكم بالعَدل!"
"اسم جميل حقاً أيّها الإله ودلالاته أجمل!"
"أشكرك أيّها الملك وما اسم إلهكم؟"
"اسمه إيل" وهو ما يعني "الله" بلغتنا الحديثة"
"هل كان بشراً؟"
"أظن أنّه كان كذلك، لكن بعد مرور زمن على موته قُدّس أكثر وتحوّل إلى خالق للكائنات، وأصبح مقرّه في السماوات، هل تقدّسون الآلهة والآباء والأجداد بعد رحيلهم أيّها الإله؟"
"نحن لا نقدّسهم لكننا نحزن عليهم، لإدراكنا أنّهم لن يعودوا إلى الحياة"
"ألا تعتقدون بحياة بعد الموت؟"
"وهل هُناك حياة بعد الموت كي نعتقد بها أيّها الملك؟"
"نحن نعتقد بذلك أيّها الإله".
"إذا كانت هُناك حياة فِلَم الموت إذن؟"
"لأنّ إلهنا أراد أن تتم حياتنا على مرحلتين، مرحلة في الدّنيا ومرحلة في الآخرة!"
"ولِمَ أرادها أن تتم على مَرحلتين؟"
"ربُمّا لنرى معجزاته في الخلق والموت والإحياء، وثمّة من يقولون أنّه يعاقبنا بذلك لأننا عصيناه!"
"وأين تكون الآخِرة هذه؟"
"في السموات، حيث هو وجنّته وناره"
"وهل لديه جنّة ونارَ؟"
"طبعاً، فهو لن يكون إلهاً دون جنّة ونار ويُقال أنّ عرض الجنّة وحدها بعرض السموات والأرض!!"
"والنار ألم تقل أنّها في السموات أيضاً؟"
"أنا لم أقل بل سمعت وقرأت!"
"كيف تكون النار في السموات إذا كانت الجنّة وحدها بعرض السموات والأرض، لم يبق مكان في الكون للنار وحتّى للأرض!!"
"إن شئت الحق أنا لا أعرف!"
"وماذا يفعل إلهكم في الجنّة والنار؟"
"الجنّة للأخيار من البشر ينعمون بخيراتها التي لا تنضب ويحيون فيها إلى الأبد، والنار للأشرار يحترقون فيها إلى الأبد أيضاً دون أن تنطفئ!"
"الا تحاسبون الأشرار في الحياة الدُّنيا؟"
"بلى، حتّى أننا نقطع رؤوسهم أو نشنقهم أو نُميتهم بأي شكل إذا كانت جريمتهم تستوجب الإعدام"
"ومن ثمّ يُحييهم الله ليعاقبهم هو بدوره ويحرقهم في النار؟"
"أجل، فإلهنا شديد العقاب أيّها الإله، فقد يجعلهم حطباً لجهنّم، وكُلّما أرمدوا كُلّما أحياهم ليجعل منهم حَطباً ثانية، أو أنّه لا يميتهم ويبقيهم على قيد الحياة، وكُلّما تحترق جلودهم يستبدلها بجلود أُخرى ليحرقهم من جديد، وهكذا إلى ما لا نهاية!"
بدا الإله "عونائيل" وكأنّه يسمع مالا يمكن للعقل تصوّره، فهتف:
"أستميحكم عذراً أيّها الملك إذا ما قلت أنّه يستحيل أن يكون إلهكم هذا إلهاً إذا كان كذلك حقاً!!"
"ماذا يكون إذن أيّها الإله؟"
"سفّاح مجرم، سمِّه ما شئت!"
"ونحن برأيك ماذا نكون أيّها الإله؟"
"أنتم لا تقلّون عنه إجراماً، حين تنزلون هذه العقوبات الفظيعة بالمجرمين والأشرار وأنتم تعرفون أنّ إلهكم سيعاقبهم بما هو أفظع فيما بعد، إنّ الحد الأدنى من العدالة يقتضي أن تكتفوا بإحدى العقوبتين، لكن يبدو لي أنّكم لا تثقون بإلهكم وبعقوباته!"
"يُقال أنّه غفور رحيم، وأنّه قد يُسقط حقّه في العقوبة ويقبل بعقوبة أهل الأرض، وقد يخفف العذاب!"
"وإذا لم يسقط حقّه، يعذّبه إلى الأبد؟!"
"أو إلى أن يشفق عليه أو يرحمه!"
"وهل يعيش الإنسان عندكم طوال عُمره تحت وطأة هذا الكابوس؟!"
"بل كوابيس أيّها الإله، عقاب السُّلطة، وعقاب الله، وعقاب الوالدين، وعقاب الزوج، وعقاب الأخ وعقاب المجتمع، ليس ثمّة ما هو أكثر من العقوبات والمعاقبين عندنا، وفي بعض دولنا تسلخ الشرطة والمخابرات جلود المذنبين، أو تدعهم يخمّجون في السُّجون قبل أن يمثلوا أمام العدالة الخرقاء! ويعتقد معاقبونا أنهم لن يحدّوا دون ذلك من الجرائم والآثام والذّنوب التي يرتكبها البشر على كوكبنا ودون ذلك يستحيل أيضاً أن نكون مواطنين صالحين!"
"نحن أيّها الملك لا نتوّعد الناس بأي شيء، ومع ذلك لا تُرتكب جرائم في بلادنا!"
"ألا تتوعدون أطفالكم بالحساب والعِقاب كي يكونوا صالحين في المستقبل، ويخلصوا للزعيم والإله والوالدين والوطن والحِزب والثورة والقوميّة وغير ذلك؟"
"عن ماذا تتحدّث أيّها الملك، نحن لا نتوعّد أطفالنا بأي شيء!"
"ولا يوجد عندكم مخابرات وسجون وشرطة وأحزاب وزعماء عظماء لا تقام الأوطان دونهم؟!"
"أنا أكاد لا افهم ما تعنيه بكل هذه الكلمات أيّها الملك؟"
"طيّب، جيش، ألا يوجد عندكم جيش؟"
"لا، لا يوجد جيش، لِمَ الجيش؟!"
"حيّرتني أيّها الإله عونائيل، على ماذا تنشئون أطفالكم إذن؟"
"ننشِئُهم على معاني ودلالات ثلاث كلمات فقط!"
"ثلاث كلمات فقط؟ تربّون أجيالاً على معاني ثلاث كلمات فقط؟
هل يعقل هذا أيّها الإله؟!"
"أجل أيّها الملك؟"
"ما هي هذه الكلمات السّحريّة أيّها الإله؟"
"المحبّة، العمل، التّعاون!"
"وإذا خالف إنسان أحد معاني هذه الكلمات؟"
"هذا يعني أنّه كان ثمّة خلل في تربيته وتنشئته، فنعمل على إصلاح هذا الخلل، ولا نقوم بمعقابة الإنسان!"
كانت حلقات الرّقص والدّبكة والغِناء قد انتشرت في كافة أنحاء البساتين والكروم وامتدت إلى شواطئ البحر، فصدحت الأراغيل وتنغّمت النّايات وتواترت الإيقاعات وترنَّمت الأصوات بالكلمات، وترددت من الحناجر الآهات، ودقّت الأقدام الأرض بانسجام، واهتزّت خصور الحِسان في الزّحام، وتمايلت الأجساد بين الأنام. واقتحمت دليلة حلقة رقص وهي تقود خلفها الملك شمنهور فأذهلت برقصها الحُضور وسلبت بجمالها العُقول، وأحسَّ الملك لقمان برغبة تدفعه إلى الدّبكة والرّقص فهتف إلى الإله "عونائيل" "هل ترقصون أيّها الإله؟" فهتف الإله "الرَّقص أحد أعمدة المحبّة أيّها الملك!" فمَّد الملك لقمان يده إليه ويده الأُخرى إلى الإله عِناق، وأخذت الملكة نور السَّماء بيد الإله عِناق الأُخرى فيما أخذت الأميرة "ظلّ السَّماء" بيد الإله "عونائيل" لتأخذ الأيدي في التشابك، لتتشابك كل أيدي الآلهة وزوجاتهم الإلهات، وأيدي الملوك والملكات، والشبَّان والأميرات، وسارة وسام، ليقتحموا جميعاً ساحة الرقص، حيث شكّل الراقصون عشرات الحلقات الواحدة داخل الأُخرى، فنظّموا حلقاتهم من حولهم وشرعوا قي الدَّبكة والرّقص، على أنغام الأراغيل، وإيقاعات الطُّبول.
وحين شاهد الملك شمنهور مولاه يهزّ كتفيه ويشمخ برأسه ويثني رُكبتيه ويدق الأرض بقدميه بعنف شديد، أحسَّ بفرحٍ غامر، فهتف بأعلى صوته "سلِمت يا مولاي وسلمت أيّامك ولياليك ودام فرحك" وراح الملك شمنهور يُراقِص دليلة بمرح وهو يتمنّى في سريرته أن يظلَّ مولاه فرحاً ولا يخطر ببالِه ما يخدُش شفّافيّته ويُثير أحزانه، وهذا ما كان يُراود مخيّلة الملكة نور السَّماء وهي ترقب حركات جسم الملك لقمان، وانفعالات وجهه، وأحسّت بالطمأنينة حين رأته يفرّغ كُل شحنات الانفعالات التي تنتابه بحركات عنيفة وحادّة، فكان حين يدقّ الأرض، يدقّها بكلِّ قوّة قدميه، وحين يلتفت يميناً أو شمالاً فإنه يدير رأسه بشدّة وهو يرفع عُنقه، وحين يحرّك أحد كتفيه أعلى وأسفل تحس وكأنّه يودُّ انتزاع كتفه من جسده.
أخذ العَرَق يتصبب من وجه الملك لقمان بغزارة، وكان إحساس طاغ يدفع الجميع لأن يرقصوا مثله، فراحوا يرقصون بعنف لتعمُّ عدوى العُنف آلاف حلقات الرّقص والغّناء، ولتدق الطّبول بكل صخب، وتزغرد الفتيات، وتتعالى الصيحات والصرخات. وشرع العازفون وقارعو الطّبول في الإسراع بإيقاعاتهم وألحانهم شيئاً فشيئاً، لتخلخل موسيقاهم مفاصل الأجساد، وتابعوا زيادة سرعتهم إلى أن غدت الأجساد تهتز من أخماص الأقدام إلى الرؤوس، في أسرع حركات يمكن أن يقوم بها الجسد، فيما أخذت بعض الأجساد تتهاوى على الأرض من شدّة التّعب، وبدا جسد الملك لقمان وهو يرتعد ويرتعش وكأنّ زلزالاً يجتاح ضلوعه ليرجّها جميعها، وقد أُنقِع جسده بالعرق الغزير، وبدا الإجهاد وقد أخذ منه.
صرّخ ملك الملوك بأعلى صوته وهو يدنو نحو الملك لُقمان:
"توقّفوا أيها الناس، كفى أوقفوا الموسيقى!"
توقّفت الموسيقى فجأة، ومال جسد الملك لُقمان ليهوي على الأرض، لو لم يسنده ملك الملوك والملكة نور السَّماء، اللذان كانا يتوقّعان ذلك وهما يرقبان رقصه.
أضجعته الملكة على حُضنها بمساعدة ملك الملوك، وراحت تمسح عرقه.
كان يلهث بشدّة ولم يكن قادراً على الكلام أو على فتح عينيه، وقد أحاط بِهِ الآلهة والآلِهات والملوك والملكات والأميرات" وبعض أبناء المدينة، فأشار إليهم ملك الملوك أن يبتعدوا قليلاً ليوسّعوا الحلقة، كي لا يحجبوا الهواء عن الملك، فرفع الملك لُقمان يده قليلاً وهتف: "اتركهم" وفتح عينيه لينظر الوجوه من حوله وابتسامة طفيفة ترتسم على شفتيه، وعيناه تختلجان بالدّموع.
* * *

قبلَ أن يُصافح الملك لقمان مُضيفيه من الآلهة مودّعاً، ألقى نظرة على البحر الذي قادتهم خُطاهم إليه وهم يتجوّلون بين الكروم والبساتين، وهتف:
"يمكنكم أن تمخروا عباب هذا البحر بعد اليوم لتعرفوا ما وراءَ ه، بعد أن أصبح لديكم سفن ضخمة أيها الإله عونائيل"
فهتف الإله عناق:
"أشكُّ أننا سنقدر على اجتياز هذا البحر بسهولة، فخبرتنا في البحار والسُّفن ما تزال في بدايتها، ويبدو أنّه سيمرُّ وقت طويل قبل أن نعرف ما يجري خارج جزيرتنا".
أطرق الملك لُقمان وهو يرسل نظراته بعيداً إلى عمق البحر وما لبث أن أشار إلى قوى الجن بإبعاد النّاس عن الشواطئ حتّى التي في الطرف الآخر الذي لا يراه إذا كان ثمّة أُناس عليها.
لم يتنبّه الناس لأنفسهم إلا وهم يطيرون بهدوء، وحلّق الملك لُقمان ومضيفيه ليحطّوا على هضبة عالية بعض الشيء مشرفة على البحر. وأشار الملك إلى ملاّحي الجن أن يخلو البحر في مواجهته من السُّفن وأن يقودوها إلى الشَّواطئ تاركين مسافات بينها.
راحت السُّفن تجنح يميناً وشمالاً مخلية مساحة كبيرة في عرض البحر.
رفع الملك لقمان يده اليُمنى وكأنّه يؤدّي تحيّة وأبقاها مرفوعة وهو يركّز نظراته على البحر، أخذ الماء يرتفع شيئاً فشيئاً ليشكّل سلسلة من الهِضاب المائيّة تمتد في عُمق البحر وتغيّر اتجاه الأمواج لتسيّرها عرضاً وطولاً دافعة السُّفن أمامها.
أخذ الماء ينحسر يميناً وشمالاً وبدت آلاف الحيتان والأسماك وكلاب وأفراس البحر واَلدلافين والأخطبوطات والتماسيح وغيرها من الأحياء المائيّة وهي تندفع إلى أعلى وتنطلق لتلحق بالماء المنحسر، غير أنّ بعضها لم يُسعفه الحظ فراح يزحف متخبّطاً على يابسة الأعماق التي ارتفعت فوق سطح الماء لتشقَّ البحر إلى نصفين تخللتهما ثلاثة أنفاق طبيعيّة على مسافات متباعِدة لتصل بين البحرين وتمرُّ السُّفن عبرها.
أشار الملك لُقمان إلى قوى الجن أن تسارع إلى إنقاذ الأحياء البحريّة التي لم تتمكن من اللحاق بالماء، فراحت القوى الخفيّة تحمل الحيتان والدّلافين والأفراس البحريّة وتقذفها إلى البحر لتبدو وكأنّها تندفع مُنطلقة وحدها.
جنحت مئات السُّفن إلى الشواطئ الجديدة التي أحدثها المد، واندفعت الأمواج ماخِرة لتلاطم الهضاب التي كانت تطل على البحر من مسافات متفاوتة البعد.
كانت أعماق اليابسة التي صعدت إلى ما فوق سطح الماء تعجُّ على جانبيها بالصُّخور المرجانيّة والطّحالب والنّباتات البحريّة المختلفة والقِلاع والحجارة المنحوتة بأشكال جماليّة أخّاذة متعددة، راحت تُصادم الأمواج المتلاطمة على جانبي اليابسة.
وقد اخترق اليابسة طريق عريض متعرّج تخلل الصخور المنتصبة على جانبيه، وتناثرت فيه الصخور الصغيرة المصقولة والحجارة والحصى على أرضٍ رمليّة.
التفت الملك لُقمان إلى الإلهين "عونائيل" وعِناق" مخاطباً الأوّل:
"يُمكنكم الآن أن تجتازوا اليابسة أيضاً أيّها الإله وليس البحر وحده"
وراح يُصافح الآلهة مودّعاً، هتف الإله عونائيل:
"هل ستغادرنا بهذه السُّرعة أيّها الملك؟"
فهتف الملك لُقمان:
"لو لم يكن أمامي عروش آلهة وطواغيت ينبغي عليّ تحطيمها لبقيت معكم بعض الوقت".
* * *
(4)
تحطيم الأصنام!

وهو يحلّق عالياً في السَّماء ويرقب من شرفة المركبة تشكيلات اليابسة التي شقّها في عرض البحر، راودت خيال الملك لقمان بعض أساطير أجداده القُدامى ولم يجد نفسه إلاَّ وهو يستدعي الملكة نور السَّماء مُطلقاً عليها اسم الإلهة عِناة قائلاً:
"أين أنتِ يا عِناتي؟!"
فهتفت وهي تقدم نحوه مدركة أين سرح بخياله:
"أنا هُنا يا بعلي الحبيب!"
فأشرع يديه لها فألقت نفسها بين أحضانه، قبّلها على عينها اليُمنى وضمَّ رأسها إلى عُنقه وراح يملس بيده على شعرها الناعِم كالحرير:
"ماذا ستفعلين يا حبيبتي لو خرج الإله "موت" من عوالمه السُّفليَّة وفتح فمه المهول لابتلاعِنا؟"
"سأشرع في السَّماء السابعة العُليا بليون رُمح، كل رمح بطول بليون ميل، وبليون رمحِ مثلها في السَّماء السابعة السُّفلى بحيث تنغرس الرِّماح في سقفي فكيّه بمجرّد ما يحاول أن يطبق فمه على الكون، وسأشقُّ شدقيه بسيفين طول كل سيف بليون ميل، وسأقطّع جسده إلى بليون بليون قطعة، وأحرقه في النار، وأذرّي رماده في الفضاء"
"ألن تطحنيه بالطاحون وتدفني رفاته في الحقل يا عناتي الحبيبة كما فعلت عِناة"
"لا يا بعلي الحبيب، لن أرتكب خطأها، حتّى لا يعود "موت" إلى الحياة بعد سبع سنين وينبري لبعلي الحبيب!"
وراح الملك لقمان يضمّها وهو يهمس إليها:
"يا حبيبتي يا عناتي وأنتومي وإيزيسي وإناناي!"
فهمست:
"يا حبيبي يا بعلي وآني وأوزيريسي وتمّوزي!"
"ألن تسلّميني للعفاريت يا عِناتي الحبيبة كما أسلمت إنانا الطاهِرة دوموزي".
"بل سأبيد العفاريت من الوجود كُلّه حتّى لا تضرب بعلي الحبيب بالمسامير والعصي".
"وهل ستدعين "سيت" يا عناتي الحبيبة يغدر بي ويقذفني في النيل ويقطّع جسدي أربع عشرة قطعة بعد أن تعيديني من عند عستارت بيبلوس؟"
"بل سأمزّق جسد "سيت" إلى ألف قطعة قبل أن تمتد يداه إلى بعلي حبيبي"
"وهل ستدعين "إنليل" يفرّق بين جسدينا يا عِناتي ويسلبني قدراتي؟"
"بل سأقيّده مِن قدميه ويديه وأدعه يصفد في الأغلال مدى الحياة يا بعلي الحبيب".
وأخذ الملك لقمان رأس الملكة بين يديه ورفعه عن عنقه وراح يملأ عينيه بجمال وجهها متأمّلاً عينيها الخضراوين الساحرتين وجبينها الوضّاح وخدّيها المورّدين وأنفها الحُسامي، وشفتيها الرَّقيقتين وفمها الصَّغير المضموم كوردة لم تتفتح بعد، وقد أحاطت رأسها هالة من نور، وانبثق من وجهها شُعاع خافت خفيف الحُمرَة، ليجد الملك نفسه يهيم بروعة جمالها، فيهمس إليها:
"لو أنّ لي مائة عين كي أتملّى جمال عِناتي وأرعى مُحيّا حبيبتي دوما"
"لو أنَّ لي ألف روح لأضمّها إلى روح حبيبي بعلي ليخلّد مدى الدّهر"
"خذيني يا عناتي باقة ورد، أو اجعليني يا حبيبتي غمزة في الخد، أوشميني هائماً على صدرك، أو خالاً على النَّهد"
"إزرعني يا بعلي سوسنة في القلب، أو أحلني إلى طيب من النَّد، لأكن شيبة في شعر ذقن حبيبي، أو وريداً في الزّند"
وأعاد الملك لُقمان ضمَّ رأس الملكة نور السَّماء إلى عُنقه وراح يقبّل شعرها الحريري ويملس عليه بلطف وهو يهمِسُ إليها:
"أحبُّ يا عِناتي حواري القدس، ناسها وكنائسها، جبالها ووديانها، العذراء ويسوع ومحمّد، الأقصى ودير مارسابا والمُنطار، الناي والعود والأرغول، فيروز والعتابا، الفجر والميجنا، البحر وغروب الشمس، الفلَّ والياسمين والريحان، الجوري والبنفسج والقرنفل، أُمّي وابتسامات الأطفال، الصَّبايا والزَّغاريد، الفلاّحين والفقراء، الشّعر والأدب، الموسيقى والمسرح، الرّقص وأغاني أمّي، الرّبيع وتراب بلادي. غير أنّي لا أجد ما هو أجمل من حُبِّ حبيبتي".
"أُحِبُّ يا بعلي النّدى، السُّحب والرّياح، النّسيم والظلال، الضّباب والرّذاذ، الثلوج والأمطار، البروق والرّعود، الورود والأشجار، النور والظلام، السَّماء والنّجوم، البراكين والأعاصير، الصَّحارى والغابات، الحقول والبساتين، الأنهار والبحار، الظباء والغزلان، العصافير والنّسور، الحمائم والصّقور، العشق والغرام، غير أنّي لا أتوحّد إلاّ بحبّ حبيبي".
وقطعت خلوتهما كالعادة، قطعها هذه المرّة صوت الأميرة "دليلة" وهي تهتف بأدبٍ جم!
"ليستميحني ملكاي عذراً إذا ما قطعت عليهما جمال خلوتهما وأطياف مناجاتهما العذبة".
"ماذا لديك يا دليلة؟"
"لقد عبرنا البحر يا مولاي ونحن الآن نُحلّق فوق معبد إلهي تُحرق وتدفن وتصلب وتنحر أمامه آلاف القرابين البشريّة كما يبدو".
أدرك الملك لُقمان أنّ ساعة العمل قد آنت فراح يمسِّد شعر ذقنه بيده، فيما رفعت الملكة نور السَّماء رأسها عن عُنقه لتعتدل في جلستها ومن ثمَّ تنهض.
أشار الملك لُقمان إلى المركبة بالهبوط أكثر والتحليق فوق المكان، وعدم إخراج "نسمة" و"فتنة" منها حتى لا تريا الأهوال التي تجري أمام الهيكل.
وراح ينظر هو والملكة من علٍ:
كان آلاف آلاف الناس يجثون في أرتالٍ وطوابير على سهلٍ يمتد من شاطئ البحر ويصعد تدريجياً لينتهي إلى مُرتفع أقيم عليه هيكل كبير انتصب أمامه تمثال ضخم لحيوان أسطوري، تصاعد الدّخان من محرقة أمامه، كان بعض الناس يلقون فيها أحياء ليعلوا صُراخهم وهم يحترقون.
وقد جلس إلى جانبي التمثال اثنا عشر كاهِناً ستّة في كل جانب. على مقاعد من المرمر مغطّاة بالقماش الأخضر، وانتصب في مواجهتهم خلف النار آلاف البشر المصلوبين على أخشاب ثبّتت في الأرض المبلّطة وأخذت شكل الصُّلبان، وقد انتظمت في ستّة أنساق طوال، توسّطتها طريق تؤدّي إلى المحرقة، جثا فيها بعض من ينتظرون الحرق ومرافقوهم.
وكان المصلوبون الذين قيّدت أيديهم وأرجلهم بالسلاسِل يئنّون ويتأوّهون مِن شدّة آلامِهم.
وإلى الجانب الأيمن من المصلوبين كانت آلاف القبور العميقة المفتوحة المبلّطة التي انتظمت في ثلاثة أنساق وألقي فيها آلاف البشر أحياء.
وإلى الجانب الأيسر من المصلوبين أُقيمت مئات المناحِر المنتظمة كان آلاف الأطفال والأولاد والفتيات ينحرون عليها.
أشار الملك لقمان إلى جنود الجن أن يوقفوا كل شيء كما هو، ونزل محلّقاً على العرش الطائر ترافقه الملكة نور السَّماء.
مَرّ فوق أرتال الجاثين الذين كانوا يصطحبون الأطفال والبنات والأبناء لتقديمهم كقرابين كما بدا له وللملكة، ثمَّ مَرَّ فوق أَنساق المناحر التي تكدست عليها جثث الأطفال والفتيات الذين طُعنت حلاقيمهم أو قُطِعت بلاعيمهم بالسَّكاكين، لتملأ دماؤهم أحواض المناحِر!.
ومن ثمَّ مَرَّ الملك لقمان فوق أنساق المصلوبين، فأنساق القبور، وترك العرش طائراً ليحلّق عالياً فوق المعبد، وينزل هو والملكة ليحلّقا فوق التمثال الضّخم.
كان للتمثال جسد تنّين وقوائم ثور وسبعة رؤوس: رأس تنّين ورأس إنسان ورأس ثور ورأس أسد ورأس ثعبان ورأس نسر ورأس حوت، وله جناحا نسر فوق قائمتيه الأماميّتين، وله مخالب أسد وذنب أفعى، وتلتف حول عنقه دُبّة أسد.
كانت بقايا أجساد تحترق في المحرقة وقد فاحت منها رائحة اللحم المشوي، وبدا واضحاً للملك لقمان أن معظم هؤلاء القوم كانوا يقومون بطقوسهم طواعية وليس كُرهاً، فاحتار كيف سيتعامل معهم ويُلغي طقوسهم دون أن يجرح شعورهم، فاستشار الملكة نور السَّماء فأشارت عليه بدعوة النَّاس إلى التخلّي عن إلههم وطقوسهم، وتحطيم التمثال أُسوة بالنّبي محمّد الذي حطّم الأصنام في الكعبة دون أن يُراعي مشاعر عبدتها، ورغم أنّ الفكرة راقت للملك لُقمان إلاَّ أنّه ارتأى التّريّث إلى ما بعد محاورة الكهنة والنّاس.
حّطَّ هُو والملكة نور السَّماء خلف المحرقة أمام الكهنة الاثني عشر، الذين كانت ذقونهم طويلة ويرفلون بالدِّيباج، وقد بدا عليهم شيء من الوقار.
حيّا الملك بحركة من يده وهو يهتف بلغتهم "السّلام عليكم". نهض الكهنة من أماكنهم وهم يهتفون "وعليكم السَّلام".
أشار لهم الملك لُقمان أن يجلسوا، فجلسوا إلاَّ واحداً، بدا واضحاً أنّه غاضب لما جرى وخاصّة إيقاف عمليّات النّحر والذبح والصَّلب والحرق والإلقاء في المقابر، فهتف مخاطباً الملك لقمان بصوت مُتَجهّم:
"من أنت وماذا تُريد ولِمَ أوقفت طقوسنا؟"
أحسَّ الملك لُقمان لأوّل مَرّة بمن يوحي إليه بما سيجيب:
"أنا روح الحق، وروح الله الذي لا إله غيره، هو كلُّ شيء، ومنه جاء كل شيء، وإليه كل شيء، إله محمّد ويسوع وإبراهيم، إله بوذا وكونفوشيوس، إله لوتس وزرادشت وبراهما وكرشنا وإله كل البشر".
فهتف الكاهن:
"هذه بعض صفات إلهنا فهل أنتَ رسوله؟"
أدرك الملك لُقمان أن الكاهِن أجاب دون أن يفهم شيئاً مما قاله له فتساءَل:
"أين يقيم إلهكم أيّها الكاهن؟"
"في السَّموات!"
"وهل يشبه شكله شكل هذا التمثال الضَّخم؟"
"أجل أيّها السيّد!"
"أنا روح إله عظيم يملأ وجوده الأكوان كُلّها والأماكن كُلّها والأزمان كُلّها ويستحيل على أحد أنْ يعرف شكله وقد أخذت أتجوّل في الكواكب وأستطلع أحوال الناس، لأرى من اهتدى من عبادِه إليه ومن ضلَّ عنه"
"إن كنت روح إلهٍ عظيم فأرنا معجزة؟!"
"ألا ترى في هبوطي إليكم من السَّماء وتحليق مركبتي وعرشي وجنودي في الفضاء، وإيقاف حرق ونحر وصلب وإلقاء القرابين، وتحدّثي بلغتكم، معجزات أيّها الكاهِن؟"
"هذا لا يكفي، ثمَّ إنّ ما أقدمت عليه يغضب وجه الله!"
"هل رأيتم الله وقال لكم أنّه ينبغي عليكم أن تقدّموا له القرابين والنّذور؟"
"رآه نبيّنا وهو من أبلغنا!"
"وأين هو نبيّكم؟"
"إنّه داخل الهيكل يجثو أمام تابوت الرب!"
"وهل لربّكم تابوت أيضاَ؟"
"كيف تكون روح إله عظيم ولا تعرف شيئاً عن التابوت والأنبياء؟"
"الله ليس في حاجة إلى توابيت وأنبياء وأصنام وقرابين، وليس في حاجة إلى أحد يهدي إليه، وليس في حاجة أيضاً لأن يهتدي الناس إليه، فإن اهتدوا فلهم، وإن لم يهتدوا فلهم! وهذا القابع في الداخل، الذي يدّعي النُّبوَّة، لم يرسل من قبل الله، ولم يظهر الله له أيّها الكاهن"
"وأنت ما أدراك أيّها الرّوح؟"
"أنا أدري لأنني أدرى بمعرفة الله من نبيّكم؟"
فهتف الكاهِن بحدّة:
"وضح أنّ إلهك غير إلهنا أيّها الرُّوح فاذهب وابحث عن قوم إلهك ولا تتدخّل في شؤوننا".
"لكن إلهي لا إله غيره أيّها الكاهِن، ويُفترض أن تكون البشريّة كُلّها قومه!"
"وإلهنا لا إله غيره أيّها الرّوح وإن لم يؤمن به من البشريّة إلاَّ نحن"
"ما العمل إذن أيّها الكاهن؟"
"أن تأخذ جندك وترحل وتتركنا في حال سبيلنا!"
"وإذا لم أفعل؟"
"لا بُدّ من الحرب بيننا وبينك!"
"هل لديكم قوّة تقدر على مواجهتي؟"
"نحن قوّتنا لا تُقهر أيّها الرّوح!"
"ما هو دليلك على ذلك؟"
"أنظر إلى كل الجهات وسترى دليلي أيّها الرّوح"
ونظر الملك لُقمان ليرى آلاف الفُرسان يعدون على خيولهم من كل الجهات، وبعض القوارب ترسو في البحر لينزل منها آلاف الجنود الرّاجلين"
"هذا الجيش قد لا يحتمل نفخة أمام أحد جنودي أيّها الكاهن، عليك أن تستعين بقوى إلهك الجبّارة!"
"سيدعو نبيّنا الله لأن يرجمكم بالنّجوم!"
"إذا يقدر إلهكم فليفعل لأنّه دون ذلك لن تقدروا على مواجهتي أيّها الكاهن"
ونهض أحد الكهنة واتّجه إلى داخل المعبد ليخبر النّبي كما يبدو.
نظر الملك لُقمان إلى آلاف البشر الذين ما زالوا ينتظرون دورهم لتقديم القرابين وتساءَل:
"ألا تخبرني أيّها الكاهِن لماذا يتوجّب على هذه الحشود تقديم القرابين هذا اليوم بالتحديد"
وكم كانت دهشة الملك لقمان حين هتف الكاهِن:
"أنعم الله علينا بأن شقَّ لنا يابسة في البحر هذا اليوم، لنغزو البلاد الواقعة خلفه بعد أن وهبنا إيّاها، فهبَّ الآلاف يقدّمون القرابين والنّذور احتفاء بالمناسبة"
خرج الملك لقمان من دهشته وتساءَل:
"وهل كُل هؤلاء هبّوا بعد شق البحر أيّها الكاهِن؟"
"لا. فبعضهم ينتظرون أدوارهم مُنذ أيّام ليوفوا بنذورٍ قطعوها على أنفسهم منذ زمن، فهذا الشهر هو أحد شهرين في السنّة تقدّم فيهما النّذور والقرابين"
ونظر الملك لقمان إلى الكاهِن بتمعّن متأمّلاً شكله، وهتف:
"ما رأيك أيّها الكاهن لو قلت لك أنني أنا من أمرَ هذا الصَّباح بأن ترتفع اليابسة من أعماق البحر إلى ما فوق الماء، وأنَّ قواي هي التي قامت بتنفيذ ذلك بعون الله"
وفوجئ الملك لقمان بالكاهِن يهتف بانفعال:
"ومن أنت أيّها الوضيع كي تتطاوَل على أفعال الآلهِة العظام وتنسبها لنفسك؟"
ضبط الملك لقمان أعصابه بقوّة خارقة، فيما راح ملك الملوك يصرخ في رأسه من المركبة:
"مولاي، دعني أَخوزق هذا الخُراء الذي يجرؤ على التّطاوِل عليك!"
أشار الملك لُقمان إلى ملك الملوك بالسّكوت وألقى نظرة حادّة على الكاهِن:
"ألا يُفترض فيك ككاهن أن ترباً بنفسك عن الألفاظ التي تحطُّ من قدرك أيّها الكاهِن؟"
"ليس أمام من يتطاولون على الآلهة!"
"أنا لم أتطاول على إلهك أيّها الكاهِن، وأنا حقَّاً من دعا إلى اليابسة ورفعها بمشيئة الله وأعوانه"
"كفاك كذباً وافتراءً أيّها الوقح!!"
راح ملك الملوك يصرخ في رأس الملك لُقمان بجنون فيما الملك يُسكِته، وقد أدرك أن التّفاهم مع هذا [السَّفيه الأرعن الفظ] مستحيل، فأخذ بيد الملكة واقترب من أرتال القرابين ليعرف شيئاً عن أحوالهم، والأسباب التي دفعت ذويهم إلى تقديمهم كقرابين، وكانت طلائع جيوش الكهنة قد وصلت إلى المكان، وأوقفت خيولها لتحيط بالمعبد والناس دون أن تُشهر سيوفها أو تشرع في القتال، فوضعها الملك لقمان تحت الرَّقابة المشددة لجيوشِه الخفيّة والعَلنيّة.
اقترب الملك لقمان من رتل فتيات برفقة آبائهن، كانوا يجثون خلف المحرقة ويمتد رتلهم ما بين صفّي المصلوبين، سأل الأب الأوّل:
"لم تريد أن تقدّم ابنتك قرباناً أيّها الشيخ؟"
فقال الشيخ:
"عندي سبع بنات ولم يرزقني الله أولاداً، فنذرت أن أقدّم إحدى بناتي قرباناً إلى الله إذا ما رزقني بغلام، فرزقني، فضربت القرعة على الفتيـات فكانت من حظ هذه".
"وهل أنتَ راضٍ عمّا تقوم به أيّها الشيخ؟"
"هذا واجبي تجاه الله أيّها السيّد"
"وأنتِ أيّتها الفتاة، هل أنتِ راضية عن حَظّك؟"
"إنّهُ قدري، رضيت أم لم أرض، فرحت أم تألَمت"
"ألا تشعرين بالرُّعب والألم أيّتها الفتاة وأنت تنتظرين دورك للحرق؟"
"بل أشعر أنني مِتُّ، وأتمنى لو أموت قبل أن أُطرح في المحرقة"
"ألا تريان أيّها الشيخ أنّكما تدفعان ثمناً غالياً لهذا الغُلام، في الوقت الذي قد لا يحتاج فيه الله إلى هذا الثّمن؟!"
"كهنتنا يقولون إنّ الله لا يقبل بالثمن البخس!"
"وأنا أقول لك إنّ الله ليس في حاجة إلى ثمن، بل إن ما تفعله يُغضب وجه الله، إذ ليس ما هو أعز عند الله من النّفس، وليس ما هو أبغض عند الله من قتل النّفس، فمن قتل نفساً حيّة قتل الله، فإن شئت فاستمع إلى قولي واتبع إلهي، وإن لم تشأ فابق على ما أبلغك إيّاه كهنتك"
وفوجئ الملك لقمان بالشيخ يهتف:
"إنّي آمنت بإلهك أيّها السيّد"
وكذلك آمنت ابنته وهتفت، فأعادت الملكة نور السَّماء الطمأنينة إلى نفسيهما وخلعت عليهما أجمل الملابس، ودعتهما لمرافقتهما إن أرادا.
دنا الملك لقمان من شاب مصلوب ما زال يحتفظ ببعض قواه وسأله:
"هل لي أن أعرف لم قدمّك أبوك قرباناً للإله أيّها الشاب؟"
فهتف الشاب بصوت واهن:
"غزا أبي على رأس جيش قوماً، ونذرني لله إذا ما انتصر عليهم، فشتت شملهم وقتل المئات من أطفالهم ورجالهم وشيوخهم وسبى نساءَهم، وغنم مواشيهم وأموالهم، لكنه لم يوفِ نذره لمحبّته لي، إلى أن جاءَه هاتف في نومه، وطلب إليه النّهوض ليوفي نذره، قبل أن تحلَّ عليه لعنة الله وغضبه، فقام من فوره وأتى بي إلى هُنا وصلبني وهو يبكي"
"ولِم صلبك صلباً؟"
"لأنَّه نذر أن يصلبني صلباً"
"ومنذ متى وأنت مصلوب؟"
"مُنذ الأمس أيّها السيّد"
"وهل تبقى مصلوباً بعد موتك؟"
"لا أيّها السيّد، كل من يموت يُحرق جثمانه في المحرقة"
"إنّي أقول لك أيّها الشاب، إنّ الله لا يحبُّ القرابين، ويبغض الـحروب؟ فمن أشهر سيفاً في وجه الإنسان أشهره في وجه الله، ومن دعا إلى الله بسيف كمن أشهر سيفه في وجه الله، ومن شنَّ حرباً باسمه كمن شنّ حـرباً عليه، فإن شئت فاستمع إلى قولي واتبع إلهي الذي لا إله غيره، وحده لا شريك له في المُلك، وإن لم تشأ، فابق مُنهكاً على صليبك، وإن كنت بذلك كمن يُشارك في صلب الله، فمن صلّب نفساً صلب الله، ومن أحرق نفساً أحرق الله، ومن نحر نفساً نحر الله، ومن دفن نفساً حيّة دفن الله، ومن شتم نفساً شتم الله، ومن شتم الله شتم نفسه. من اتبّع إلهي وجد نفسه، ومن ضلَّ عن إلهي ضلَّ عن نفسه، فاتبع الخير في نفسك أيها الشاب تتبع إلهي!"
فهتف الشاب من أعماقه:
"إنّي آمنت بك وبإلهك أيّها السيّد"
"بوركت أيّها الشاب، وبورك عُنفوانُك، وبورك إذعانُك لأبيك بصلبك، هيّا انزل عن صليبك، فقد قُطعت أصفادُك، وعادت إليك عافيتك، واذهب إلى أبيك قبل أن تبيضَّ عيناه من شدّة الحزن، أخبره بما جرى معك، وذكّره بدموع الآباء الذين قتل أبناءهم، ودموع الأبناء الذين أفقدهم آباءَ هم ودموع النّساء اللواتي رمّلهن وسباهن، لعلَّه يعود إلى الله ويؤمن به"
ولم يعرف الشاب كيف وجد نفسه ينزل عن الصليب وهو بكامل عافيته. ويرفل بأجمل الثياب، وتردد في الانصراف متخوّفاً من أن يتعرّض له الفرسان والجنود الذين كانوا يحيطون المنطقة بالآلاف، فأبدى تخوّفه للملك لقمان، فقال له:
"إذهب أنت في حمايتي لن يتمكن أحد من الاقتراب منك"
وانصرف الشاب مارَّاً من أمام الكهنة، ليتجاوز ساحة المعبد ويُصبح في مواجهة الفرسان، لكز بعض الفرسان خيولهم ومدّوا أيديهم إلى مقابض سيوفهم، فأحرنت الخيول وراحت ترجع القهقرى وهي تثب على قوائمها الخلفيّة لتطيح ببعض الفرسان عن ظهورها، واستعصت السيّوف على الاستلال من أغمادها. شقَّ الشاب طريقه من وسط الجيش والخيول تتراجع رافعة قوائمها الأماميّة وواقفة على الخلفيّة مفسحة له الطريق، فتبلبل الجيش واضطرب وهو يجد نفسه عاجزاً أمام شاب يخترقه من مُنتصفه.
هتف الشيخ مُخاطباً الملك لقمان:
"هل في مقدوري أن أنصرف أنا وابنتي في أثر الشاب دون أن يتمكّـن أحد من التّعرض لنا أيّها السيّد النبيل"
فهتف الملك لُقمان وهو يربت على ظهر الشيخ:
"بالتأكيد أيّها الشيخ"
وانصرف الشيخ وابنته وهما لا يصدّقان ما يجري.
اقترب الملك لُقمان والملكة نور السماء من أنساق القبور العميقة.
شاهدا امرأة تضطجع متكوّرة على نفسها في أعماق قبر. سألها الملك لقمان عمّن قدّمها قرباناً إلى الله، ولماذا قدّمّها، فأجابت:
"لم يعد جمالي يروق لزوجي، فلم يعد يحبّني، فنذر بتقديمي قرباناً إلى الله إذا ما رزقه بمن هي أجمل مِنّي، فكان له ما أراد؟ وكان لي ما لم أُرد أيّها السيّد، وها أنا أضطجع في هذا القبر إلى أن أموت جوعاً وعطشاً لتحرق جُثّتي".
فقال لها الملك لقمان:
"إنّي أقول لك أيّتها المرأة، ليس هُناك امرأة تملأُ حياة رجل، وليس هُناك رجل يملأ حياة امرأة، فالنّفس توّاقة دوماً إلى الجمال، والجسد لا يسمو إلاّ بالمتعة والكمال، فنوّعوا النّكاح، ومارسوا الحب بالتراضي والقبول، ولا تحرموا أنفسكم وأجسادكم متعة الحياة، فإنّكم بذلك تتقرّبون إلى الله"
وحاولت المرأة النّهوض غير أنّها لم تقدر، فهتفت وهي على حالها:
"إنّي آمنت بك وبإلهك أيّها السيّد"
فأعيدت لها عافيتها وأُخرجت من القبر لتزهو بجمال فائق يخلب العقول.
وانتقل الملك لُقمان إلى قبرٍ آخر، ليجد شابّاً جميلاً مسجى فيه، وقد أخذ منه الوهن، فسأله عمّا آل به إلى هذا القبر، فقال:
"كنت أسائل قومي عن هذا الإله المتعطّش للدماء، والذي لا يرضى إلاّ بالدّماء البشريّة، فنذرني أبي قرباناً إليه لعلّه يهديني سواء السّبيل، فقيّدوني رغماً عنّي وألقوني في هذا القبر العميق لأموت عطشاً وجوعاً"
فهتف الملك لُقمان:
"بوركت أيّها الشاب، إنَّ مساءَلة الله والتساؤل عنه حق للبشر، وإنّي أقول لك، إن فهمك بعض الناس فأنت عبقري، وإن فهمك مُعظم الناس فأنت ذكي، وإن فهمك الناسُ جميعاً فأنت أحمق"
وخرج الشاب من القبر مُعافى مرتدياً حُلّة جديدة، ليقف أمام الملك لُقمان معلناً إيمانه به وبإلهه.
وعاد الملك لُقمان ليمر من بين أرتال المصلوبين، توقّف أمام رجل لم ينهك الصَّلبُ قواه بعد وسأله، فأجاب:
"أرسلني الكهنة لأن أقنع قوماً يعبدون إلهاً آخر، بالتخلّي عن إلههم وعبادة إلهنا، فلم أتمكن إلاَّ من إقناع بعض النّاس، فقدّموني قرباناً للإله".
فهتف الملك لقمان:
"إنّي أقول لك أيّها الرّجل: تستطيع أن تقنع بعض الناس، وقد تستطيع أن تقنع معظم الناس، لكنك لن تقنع الناس جميعاً حتّى لو كنت إلهاً"
فهتف الرّجل:
"إنّي آمنت بك وبإلهك أيّها السيد"
فأشار الملك لقمان بحركة من يده لتُقطع السلاسل من يديه ورجليه.
وينزل عن الصليب وهو بكامل قوّته.
وانتقل الملك إلى شيخ عجوز يجثو في رتل المحرقة، وسأله عن قصّته فقال:
"آهٍ أيّها السيّد، أولادي الذين شقيت عمري كُلّه في سبيلهم، أجمعوا على نذري إلى الله، بعد أن سئموا منّي، وها أنا آتي وحدي لأقدّم نفسي طواعية لمحرقة الله".
فهتف الملك لُقمان:
"لا يحصد المرء دائماً ما يزرع، بوركت أيّها الشيخ، فانهض وعُد إلى بيتك، فأي إلهٍ هذا الذي لا يشفق عليك، وينتظر رؤيتك تُشوى في محرقته؟"
وصغَّر الملك لقمان عُمرَ الشيخ أربعين سنه، وخلع عليه حُلّة من الديباج وملأ جيوبه بالجواهِر، فراح يهتف معلناً إيمانه وهو في غاية الفرح.
واقترب الملك لُقمان من شاب ينتظر في رتل المحرقة وسأله فقال:
"تعيش قبيلتي في فقرٍ مدقع، وقد فتكت بها الأمراض، وألّمت بها الكوارث، ونظراً لأنّ أبي زعيم القبيلة، فقد نذرني إلى الله، لعلّه يعطف على القبيلة ويفرّج كروبها".
فهتف الملك لقمان:
"عجب لآلهة تستطيع أن تقول للأشياء كوني فتكون، ومع ذلك تبخل على البشريّة بهاتين الكلمتين وتجعلها تحيا كل هذه الفظائع والأهوال، انهض وعد إلى أبيك أيّها الشاب، فقد أشفى إلهي قبيلتكم من أمراضها، وأزال الكوارث عنها، وأخصب أراضيها، وأكثر مواشيها، وأعاد العافية إلى أبنائها، وقل لأبيك هذا ما فعله إله لقمان"
وحين هَمَّ الشاب للنهوض وجد نفسه في كامِل عنفوانه، فهتف:
"أشهد أن لا إله إلاَّ إلهك" وانصرف خلف من آمنوا قبله تحت حماية الملك لقمان، دون أن يتمكّن الفرسان من الاقتراب منه.
ودنا الملك لقمان من رجل وابنته، كان الرّجل يلاحق بعينين مشدوهتين السّكين -التي كان سيذبح بها الفتاة- وهي تحلّق في الهواء على مقربة منه.
سأله الملك لقمان عمّا به، فأخبره بالسّكين الذي انتزع من يديه وهو يجثو في صف المذابح، فانتقل إلى صف المحرقة ليلحقه السكين ويحلّق أمامه ومن حوله بشكل آثار رعبه، فقال له الملك لُقمان أنّه سُيريه من انتزع السّكين من يده إذا ما قصَّ عليه قصّته، فقال:
"عندي متجر صغير أيّها السيّد، لكن النّاس قاطعوا محلّي ولم يعودوا يشترون مِنّي، مُدّعين أنّ بضاعتي غالية، فقلت أنذر ابنتي إلى الله لعلّها تُفرج!"
فهتف الملك لُقمان مستلهماً من أقوال المسيح:
"قد يدخُل جمل من ثٌقب إبرة، لكن لن يدخل تاجر جشع إلى قلوب النّاس! أمّا عن السّكين أيّها التاجر فقد سلبه أحد جنودي منك كي لا تنحر ابنتك".
وأشار الملك لقمان بيده وإذا بالجندي يقف ملوّحاً بالسكّين"
فهتف التاجر:
"إنّي آمنت بك وبإلهك أيّها السيّد"
فقال الملك لُقمان:
"آمل ذلك أيّها التاجر"
وأعاد الملك لقمان العافية والطمأنينة إلى الفتاة دون أبيها"
وانتقل الملك لقمان إلى أنساق المذابح حيث تُنحر وتذبح القرابين، وكم كان المشهد مرّوعاً للملك لقمان، فقد كانت الجثث تتكدّس على المذابح وتتبعثر من حولها في أشكالٍ عشوائيّة. جثث أطفال من أعمار مختلفة، وجثث فتيات، وجثث شباب، وجثث شيوخ وجثث نساء، بعضها عارٍ وبعضها شبه عار، وأحواض تفيض بالدّماء حول المذابح، وأناس ينتظرون بوجوه شاحبة بائسة تخيم عليها أشباح الموت.
أطبق الملك لقمان بيديه على رأسه شابكاً أصابعه فوقه، مُخفياً وجهه خلف مرفقيه، جاهداً بكُلِّ قوّته ليمنع صرخة هائلة من الإفلات منه، وما لبث أن رفع رأسه إلى السَّماء فارجاً مرفقيه قليلاً، ليتيح إلى عينيه الرؤية وكأنّه يأمل مشاهدة الله، وراح يصرخ في أعماق نفسه دون أن يعرف أحد ما يدور في بطينته، سوى الملكة نور السَّماء:
"لِمَ، لِمَ، لِما! لماذا يا إلهي تجعل كُلَّ هذا يحدث، لِمَ تتيح لكُلِّ هذه الدّماء أن تنزف، ولكُلِّ هذه الأرواح أن تقضي، بكم قلبٍ سأحتمل كُلَّ هذه العذابات والآلام، وأنت لم تمنحني سوى قلبٍ واحدٍ ضعيف؟"
وأنزل الملك رأسه وهو يُطبق بيديه عليه ويتنفّس بتسارع وعمق لعلّه يسيطر على نفسه. غير أنّ جسده كان يتلوّى وكأنّه أصيب بمغص شديد، فسارعت الملكة إلى مواساته، فيما شرع صوت هائل يهتف في دخليته:
"كل هذه الجثث جسدي يا لقمان، وكل هذه الدماء العائمة دمائي، وكُلُّ الأجساد المصلوبة والملقاة في القبور والتي أحرقت جسدي، كل حنجرة قطعت هي حنجرتي، وكل حلقوم نُحر هو حلقومي، وكل قطرة دم سالت هي من دمائي، وكل عين فُقئَتَ هي من عيوني، وكل روح قضت هي روحي، فكم من الدّماء التي سالت عبر ملايين السّنين من دمي، وكم من الأرواح التي أزهقت من روحي، وكم من العيون التي فُقئت من عيوني وكم من الأعناق التي قطعت من عنقي، وكم من القلوب التي توقّف نبضها من قلبي؟! لو أنّك عشت مقدار ذرّة من آلامي يا لقمان، لمتّ ألف ألف ألف بليون مَرّة، فهل تراني كنت قادراً على منع حدوث كل هذا لي ولم أمنعه؟ هل تراني كنت قادراً على وقف نزيف جسدي ووقفت متفرّجاً عليه؟ هل تراني كنت قادراً على صَدّ الرّماح المنطلقة نحو جسدي ولم أصدّها؟ أم تراني كنت أنعم بمواضيكم وهي تقطّعني إلى أشلاء؟ ورصاصكم وهو يخترق صدري، وقنابلكم وصواريخكم وهي تحيلني إلى رماد وركام؟!"
وتوقف الصوت ليرفع الملك لقمان رأسه المتفجّر المضطرب، ويدور حول نفسه فاغراً فاه مشدوهاً مرسِلاً نظراته إلى الفضاء وهو ما يزال يشبك يديه خلف رأسه، ليهتف متسائلاً بحيرة وذهول مُفجّراً الصوت الذي طالما حبسه في دخيلته:
"لا! أهذا أنت حقاً؟ هل كان هذا صوتك؟ وهل أنت من كنت توحي إليَّ بالكلام الذي قلته للناس؟ هل هذه الدّماءُ دماؤك، وهذه الأجساد جسدك؟ هل كنت في حاجة إليّ بقدر ما أنا في حاجة إليك، وكنت تبحث عنّي كما أبحث عنك، فعثرت عليّ قبل أن أعثر عليك؟! أجبني؟ أجبني؟ هل يُعقل أن تكون ضعيفاً بقدر ما أنتَ قوي؟ وأن تقدر على كُلّ شيء ولا تقدر على شيء؟ هل يُعقل أن تموت بقدر ما تحيا، وأن تتألم بقدر ما تحب؟! لا! لا! مستحيل! ساعدوني، أعينوني، ساعدوني، أعينوني، أعيدوا الحياة إلى الله وكفاكم تمزيقاً لجسده وتقطيعاً لأشلائه وطعناً لسويداء قلبه، وإثارة لأحزانه وآلامه، عودوا إليه وكونوا معه، يعود إليكم ويكون معكم؟»
وكانت الملكة نور السَّماء قد أضجعت الملك لُقمان أرضاً حين خارت قواه، وراحت تواسيه في محنته وهي تحضن رأسه، وهبط ملك الملوك وأعوانه من المركبة، وتحلّقوا جلوساً من حوله، وازدحمت السَّماء بالملايين من ملوك الجن وأعوانهم، فيما شرع الملك لقمان يهتف بوهن عبر أنفاسه المتقطّعة "الله! الله! الله!" فأخذت الملكة تهتف معه، وشرع المتحلّقون حوله من الجنّ يهتفون معه، ليهتف ملايين ملوك الجن وأعوانهم في السَّماء "الله، الله، الله" وليهتف المصلوبون ومن في القبور؟ الله، الله، الله" وليهتف الجاثون في الأرتال "الله، الله، الله" وليترجّل الفرسان عن خيولهم ويجثون وهم يهتفون "الله، الله، الله" ولتثني الخيول قوائمها وتنكس رؤوسها وتهتف "الله، الله، الله" وليخر نبي الهيكل ساجداً وهو يهتف "الله، الله، الله" ليخرَّ خلفه كهنته جميعاً، من كانوا خارج الهيكل ومن كانوا داخله، ويهتفون "الله، الله، الله"
أخذت السَّلاسل التي تقيّد أرجل وأيدي المصلوبين تتقطّع، لينزلوا عن صلبانهم ويجثون ويهتفون "الله، الله، الله" وأخذ من في القبور يخرجون من قبورهم ويجثون وهم يرددون "الله، الله، الله" وأخذت الحياة تدّبُّ في أجساد المذبوحين والمنحورين لتتحرك قوائمهم وتبرأ جروح حناجرهم وحلاقيمهم لينهضوا عن المذابح والمناحِر ويجثون وهم يهتفون "الله، الله، الله" وأطفئت نار المحرقة وأخذت تقذف الأجساد من داخِلها إلى أعلى جسداً بعد جسد، ثمَّ جسدين بعد جسدين، ثمَّ ثلاثة فأربعة، فخمسة، فستّة، فسبعة، فثمانية، فتسعة، فعشرة أجساد، فمئة جسد، فمئات الأجساد، كُلّها راحت تنطلق في السَّماء ثمَّ تحطّ على الأرض لتجثوا وتهتف "الله، الله، الله" إلى أن قذفت المحرقة أكثر من مليوني جسد، وهبط ملايين الجن من السَّماء وجثوا وهم يرددون "الله، الله، الله" لتردد الأرض والسموات مع الجميع "الله، الله، الله" بأصوات خاشعة عذبة راحت تنشِد مُلحّنة نشيداً كونياً!
كان الملك لقمان ما يزال مُسجى على الأرض، مُغمض العينين، مضطرب الأنفاس يهتف باسم الله والملكة تسند رأسه بيدها وتهتف معه وهي ترقب هُتَافه واضطراب أنفاسه، حين هتف الهاتف ثانية في دخيلته ليوقفه عن الهُتاف كي يسمتع إليه:
"بوركت يا لُقمان، بورك إيمانُك، وبوركت محبّتك، انهض أيّها الحبيب فقد عادت الحياة إلى موتى المعبد، لتعود إلى بعض ما مات من جسدي، انهض أيّها الحبيب واملأ عينيك بجمال حُضوري وفرحتي بعودة الحياة، ولا تنس أن تحطّم أصنام هذا المعبد قبل انصرافِك".
وفتح الملك لقمان عينيه ليرى وجه الملكة نور السَّماء يحنو عليه بصورة نورانيّة لم يرها من قبل، فهمس يسألها وكأنّه لم يُصدّق بعد الصوت الإلهي الذي هتف في دخيلته:
"هل عادت الحياة إلى الناس يا حبيبتي؟"
وكانت الملكة قد توقّفت عن الهُتاف حين شرع الملك في الكلام فهتفت:
"أجل يا حبيبي عادت"
فهتف الملك لُقمان وعيناه تغرورقان بالدّموع:
"أشكرك يا إلهي الحبيب، أشكركم أيّها الأحبّة من الجن، أشكركم أيّها الأحبّة من الإنس"
ورفع الملك رأسه ونظر ليرى الآلاف يجثون وهم يرددون اسم الله بأروع الألحان.
مَدّ يده إلى ملك الملوك ليعينه على النّهوض، فأخذ الملك بيده، فيما أخذت الملكة بيده الأخرى وأنهضاه.
ألقى نظرة على ما حوله، ثم أرسل نظراته بعيداً إلى كل الجهات ليرى الملايين من البشر والجن وهم يجثون على مدى السُّهوب والجبال ويتنغّمون باسم الله بأروع لحن يمكن أن يتخيّله العقل.
طار نحو التمثال الضخم وهو يشير بيده نحوه فانقسم إلى سبعة أجـزاء بعدد رؤوسه وانهار على الأرض بسبعة أجزاء حسب الرؤوس. وتابع الملك طيرانه تتبعه الملكة وملك الملوك ودليلة مارَّاً من فوق النّبي وكهـنته الأربعين الذين كانوا يجثون ليتجاوز الأعمدة الضخمة التي كان يقوم عليها الفناء الخارجي للهيكل، مارَّاً من بين اثني عشر تمثالاً كانت تزيّن المدخل، وقد أشار الملك لُقمان إليها لتتحطّم في أماكنها، وتابع طيرانه ليدخل الهيكل.
كان تابوت ضخم مُذهّب يتموضع في مُنتصف الفناء الداخلي على قاعدة مرتفعة وقد تقدّم الجدران ثلاث مصاطب متدرّجة وحُفر فيها مقصورات لجُلوس الكهنة، كانت إحداها متميّزة في شكلها وموقعها المواجه للتابوت، حيث كان يجلس النّبي، وقد زيّنت الجدران برسوم للإله ذاته.
اقترب الملك لُقمان من التابوت وأشار بحركة من يده ليُفتح. كان فيه تمثال من الذهب للإله الذي حطّم أصنامه في الخارج. أشار الملك بيده وإذا بالتابوت يتشقق والتمثال يتحطّم ليتحوّلا إلى رُكام.
خرج الملك لُقمان من المعبد، وما أن ابتعد قليلاً حتى استدار في الفضاء وراح يشير إلى الأعمدة الضخمة واحداً واحداً، لتنهار عموداً إثر عمود، لينهار الهيكل كُلّه. وسط النَّشيد الإلهي الأعظم الذي كان يملأ الكون.
رفَع الملك لقمان يده ببطءْ، فراحت الأصوات تبطئ من إيقاع اللحن، وتخفت أصواتها بالنَّشيد إلى أن توقّفت مع حركة يد الملك.
دنا الملك من (النّبي) الذي كان يسجد أمام كهنته الأربعين، أي الإثني عشر الذين كانوا في الخارج، وثمانية وعشرين خرجوا معه من الداخل، هتف:
"ارفع رأسك أيّها المتنبئ، ارفعوا رؤوسكم أيّها المتكهنين، للأسف لم يسجد أحد إلاَّ أنتم، ومع ذلك فأنتم أقل الناس إيماناً بإلهي، بل أشك أنّكم آمنتم!.
فرفع (النّبي) رأسه ليرفع الكهنة رؤوسهم خلفه.. لم يبد على (النبي) أنّه قادر على الكلام، فهتف الملك:
"هل آمنتم حقّاً أيّها المتنبئ، لم لا تجيب؟!"
فهتف (النّبي) بصوت واهن:
"أُقسم أننا آمنّا على يديك يا سيّدي با نبيّ الله!"
"أنا لستُ نبيَّاً ولست بسيِّدٍ لأحد أيّها المتنبئ، وإلهي يكره الأنبياء والكهنة وكل المتعيشين باسم الله من قوت الشّعوب دون أن يعملوا، ودون أن يقدّموا للبشر إلاَّ المصائب، والتفاسير الحمقاء للوجود الإلهي، والشرائع الأكثر حماقة، والطقّوس الفظيعة، والأركان الخرقاء، وإلهي ليس في حاجة إلى أضاحي ونذور وقرابين أيّها المتنبيّ، فهو من يُضحّي من أجل الـبشر، وليس في حاجة إلى هياكل ومعابد، فالأكوان كُلّها معبدة، بسماواتها وكواكبها وكل أماكنها، ببحارها ومحيطاتها وأنهارها وغاباتها. وإلهي كادِحٌ يحب الكادحين والعاملين والفلاّحين والعُلماء والمجدّين والمجتهدين الطيّبين، ويكره الكسالى والأشرار والمنافقين، فهل آمنتم به حقاً أيّها المتنبئ؟"
"أقسم إنَّا آمنّا أيّها الرّوح "الأعظم"
ونظر الملك لُقمان نحو الكاهن الذي حقّره وهتف:
"هل آمنت حقّاً أيها الكاهن غير الوضيع، وصدّقت أننا أنا وإلهي وأعوانناً من قام بشق اليابسة، ولم تعد تطلب إلى إلهك أن يرجمنا بنجومه ليتسنّى لك أن تغزو الأرض التي وهبك إيّاها خلف البحر؟!"
وهرع الكاهِن يحبو على يديه ورجليه وهو يتوسّل:
"إنّي أتوسَّل إليك أن تغفر لي وتعفو عنّي، وتتيح لي أن أقبّل قدميك أيّها الرُّوح الأعظم"
فأشار الملك لُقمان إلى أحد الجنود أن يمسكه ويعيده إلى مكانه وهو يصرخ به:
"هيَّا انهض وعُد مكانك ولا تذلَّ نفسك أمامي إنّي وإلهي لا نحبُّ الأذلاَّء أيُّها البائس"
وأشار الملك إلى جميع الكهنة و"النبيّ" أن ينهضوا ويعودوا إلى مجالسهم، فنهضوا ليجلس معظمهم فيما ظلَّ الباقون واقفين.
جلس (النبيّ) في مواجهة الملك لقمان. سألَه الملك:
"ألا تقول لي أيّها المتنبئ من أيّة طينة من البشر أنت وكهنتك؟"
معذرة لم أفهم ما تقصده أيّها الرّوح الأعظم!"
فراح الملك لُقمان يهتف بانفعال:
"بالتأكيد لم تفهم أيّها المتنبئ.إنَّ من يقود شعباً كما يقود قطيع الشّياه إلى المسلخ لن يفهم ما أقصده، أليس لك قلب أيّها المتنبئ، ألا تحب وتكره، ألا تحس وتتألّم؟ هل أنت مجرّد من الوجدان، هل أنت فاقد الضمير، ألا تعتلج نفسك بذرّة من الشّفقة وأنت ترى هذه الجموع من أبناء شعبك تحرق وتصلب وتنحر وتذبح وتلقى في القبور على مرأى من عينيك؟ أي نبيٍ أنت؟ ومن أوحى لك بهذه الأفكار الدمويّة السوداء عن الوجود الإلهي؟!"
ولم يجب (النبي) فهتف الملك لقمان بانفعال أشد:
"لم لا تجيب، هل أخرس الله لسانك الذي كنت تضلل به الناس كل يـوم وتزرع في قلوبهم الرُّعب؟"
"عفوك أيّها الرّوح الأعظم"
فصرخ الملك لقمان بجنون:
"أريد أن تجيبني، هل تسمع. أُريد أن تجيبني، من أوحى لك بهذه الطقوس المرعبة والمفاهيم المخيفة؟ من أوحى لك بهذه الأفكار الرّعناء عن الوجود الإلهي؟ هل ظهر لك الله من العُلّيقة أنت الآخر أم تراءى لك في عمود من سحاب أو نار، أم أن الرَّوح القدس نزل عليك، أو لعلّه جبريل؟! قل، أجب، ينبغي أن تجيب أيّها المتنبئ؟ يجب أن أعرف حقيقة طينتك الشَّاذّة الملعونة!"
وظلَّ (النبيّ) مطرقاً للحظات، وما لبث أن هتف بصوت متهدّج، ثمَّ أجهش بالبُكاء وهو يجيب:
"هذا ما أوحاه لي عقلي أيّها الرُّوح الأعظم، وما كان يرسمه خيالي استناداً إلى أساطير أجدادي، أقسم لك إنني لا أكذب، هذا ما تخيّلته وما فكّرت فيه!"
"بئس العقل الذي لم يتخيّل إلاَّ إلهاً جزّاراً سَفَّاحاً متعطّشاً للدماء، وغازياً! هل أنت من يَحكم هذه البلاد؟"
"نعم أيّها الرّوح الأعظم، أصبحت ملكها ونبيّها بعد أن أخضعتها لي ولقبيلتي!"
"حتّى أخضعتها إخضاعاً؟ كم جزرت من شعوبها وقبائلها حتّى أخضعتها؟ بئس الملكيّة والنبوّة"
واستدار الملك لُقمان وأشار إلى الجن أن يأتوه بمعظم من آمنوا بعد أن حررهم من الصَّلب والحرق والقبور، ثم شرع في مخاطبة جموع البشر أمامه:
"بم تريدون أن أحكم على نبيّكم وكهنته، وآمل أن تكونوا رُحماء لأن الله محبٌ ويحبُّ الرُّحماء والمحبيّن، ويكره الكارهين الحاقدين"
نهض رجل من أمام الصّلبان وهتف:
"إنّا نرضى بحكمك أيّها السيّد النّبيل"
فهتف الملك لُقمان مخاطباً الحشود:
"هل ترضون بحكمي؟"
فهتفت أصوات كثيرة:
"أجل أيّها السيّد"
"أعطوهم أرضاً تكفيهم، ودعوهم يسكنون ويعملون فيها مع ذويهم، وليظلّوا معزولين فيها عنكم أربعين سنة دون أن تمدّوا لهم يد المساعدة!"
هتفت أصوات من بين الناس:
كم أنت رحيم أيّها السيّد؟
- ما أطيبك أيّها السيّد النّبيل!
- أنت لم تفعل لهم شيئاً أيّها السيّد النّبيل.
- لو تعرف كم قاسينا من أهوال وفظائع في ظلَّ حُكمهم أيّها السيد النّبيل؟
فهتف الملك لقمان:
"لقد رأيت بعض ما قاسيتم، وكم تمنّيت أن ينهض أحد من بينكم ليقول: كم قسوت عليهم أيّها السيّد، ويطالبني بالرّحمة لهم والعفو عنهم، إنّي أوصيكم ثانية، أن تكونوا رُحماء لأن الله يحب الرّحماء ويكره الكارهين الحاقدين"
جاء الجنّ بمن طلبهم الملك لقمان، فراح يُصافحهم ويسألهم عن أحوالهم ويطمئن عليهم. أخبره ابن الرّجل الغازي أنّ أباه فرح بعودته وعاد إليه بصره، ليعيد بدوره إلى القبيلة التي غزاها، نِساءَها ومتاعها ومواشيها، وزاد عليها ألف ناقة، وألف جمل، وألف عجل، وألف ماعِز، وقد رافق القافلة ألف رجل، للقبيلة الحق في أن تتصرّف بهم كما تشاء عوضاً عن رجالها وأبنائها الذين قضوا على يديه، وقال إن أباه أعلن إيمانه بإلهه، إله الملك لُقمان.
وأخبر الشيخ ـ الذي ضحّى به أولاده ـ الملك لُقمان أنّ أولاده ندموا كثيراً على فعلتهم، وآمنوا بإلهه إله لقمان. وعاهدوه على المحبّة الأبديّة.
وسأل الملك لقمان المرأة عن أحوالها ـ فأخبرته أن عقل زوجها كاد أن يطير ـ حين شاهدها تعود بجمالٍ لم ير مثله في حياته، فطلب مغفرتها فغفرت له وعادت إليه وإلى أولادِها بعد أن آمن بإلهها إله لُقمان.
أمّا الشاب الجميل الذي كان يتساءل حول الله، قال إن العشيرة فرحت بعودته وتبعت إلهه إله لقمان.
وقال الرّجل الذي كان يدعو للإله الصَّنم، إن قومه سَرُّوا بعودته وأعلنوا إيمانهم.
وتوقّف الملك لقمان أخيراً، أمام الشاب ابن زعيم القبيلة الذي نذر ابنه من أجل القبيلة، ليجد الابن قد أحضر الأب معه ليشكر الملك لقمان، فصافحه الملك بحرارة، فشرع يشكر الملك من أعماق قلبه، فباركه الملك لقمان وسأله عن اسمه ليتعرّف إليه، فقال إنّ اسمه "عمليق" فعّينه ملكاً على البلاد وعيّن المرأة والآخرين مساعدين له، على أن يختاروا من الشعب من يريدون لمساعدتهم، وطلب إليهم التعاون مع بلاد الإله عونائيل خلف البحر الذي شقّه بينه وبينهم.
ألقى الملك لُقمان نظرة على البشر والجن، فرأى الملك إبليس وبعض قومه، والملك دامرداس وبعض قومه، والملك نذير الزّلازل وبعض قومه، والملك قاهر الموت وبعض قومه، فراح يُحييهم شاكراً وملوّحاً لهم بيديه، وأشار إليهم بالانصراف إذا ما أرادوا، فأخذوا يختفون لتختفي خلفهم جيوشهم.
تنفّس الملك لُقمان الصُّعداء وهتف "أين نسمة، أريد نسمة" فجاءَته محلّقة على فرسها الحوريّة وهي تهتف "عمّو عمّو" فعانقها وقبّلها وهو يتساءل:
"أين أنتِ يا حبيبتي؟"
فقالت:
"منعوني من الخروج إليك يا عمّو، وحبسوني مع فرسي في السَّماء"
"حبسوك يا حبيبتي؟ من حبسك؟ سنعاقبه الآن فور صعودنا إلى السماء. هيّا اركبي على كتفيّ وقولي لي بماذا سنعاقبه؟"
وأركبها الملك لقمان على كتفيه وأمسك يديها وصعد محلّقاً ملوّحاً لحشود الناس، الذين راحوا يلوّحون ويدمعون:
هتفت نسمة:
"سنعاقبه بأن يأكل خمس تفّاحات كبار يا عموّ!"
فوافقها الملك لُقمان على العقوبة وراح يحلّق بها في الفضاء وهي تضحك وكأنّها تمتطي فرسها! وحين سألها عمّن حبسها أشارت نحو ملك الملوك، فهتف الملك لقمان وهو يضحك:
"يا حبيبتي، هذا لن تكفي مائة تفّاحة لمعاقبته"

* * * -;-
(5)
عويل في الغابات!

حين أيقن الملك لقمان أن الملك حامينار ألم بكُلّ تعاليمه واستوعب الكيفيّة التي يعالج بها الأمور المختلفة، طلب إليه أن يطلع بعض معاونيه على تعاليمه، وأن يرسلهم إلى كافة دُوَل الكوكب لمساعدتهم وتخليص المعذّبين منهم، وأن يخبره إذا ما دعت الضرورة، وتابع الملك لقمان رحلته إلى كوكب آخر.
وفيما كانت المركبة تقلع فوجئ الملك لُقمان بمعظم من كانوا في المركبة يأتون فرادى وجماعات ويجلسون من حوله، وما أن تجمّعوا كُلّهم حتّى هتف ملك الملوك مًتسائلاً:
"معذرة يا مولاي لقد بتنا في حيرة من أمرنا!"
نظر الملك لقمان إلى الوجوه من حوله، لتبدو له الدهشة والتساؤلات مرتسمة على وجوه الجميع، هتف:
"ماذا ألم بكم؟"
فهتف ملك الملوك:
"نحن ومعظم قوى الجن لم نعد نعرف هل نبقى على دياناتنا المختلفة أم نتبع الدين الجديد يا مولاي، خاصّة وأننا نذعن لإرادتك ونُلبّي أوامرك"
فهتف الملك لقمان بدهشة:
"ومتى قلت لكم أنني أتيتُ بدين جديد؟"
"إن لم يكن جديداً ففيه بعض الاختلاف يا مولاي؟!
أطرق الملك لقمان يفكّر للحظات في سؤال لم يرغب أن يوجّه إليه قبل أن يتم بحثه المضني عن الله والحقيقة والوجود والدين والفضيلة والخير والعدالة والقيم والأخلاق وماهيّة الأشياء كُلّها، وما لبث أن رفع رأسه وهتف:
"ليبق كُلُّ منكم على دينه، وحين يجد أنّ سلوكي وممارساتي تتعارض مع قيم الخير والمحبّة أو تتناقض معها، ليعترض أو يحتج، أو يحجم عن تنفيذ أوامري وتعاليمي".
فتساءَل ملك الملوك:
"وهل نظل نتعبّد لله، ونقوم بفروض الدين يا مولاي؟"
ضحك الملك هازئاً وهو يرنو إلى ملك الملوك، ويهتف:
"الذي يسمعك أيّها الملك يعتقد أن جبينك خُسِف من كثرة الصَّلاة، مع أنّك لم تصلِّ ولو مَرَّة واحدة بعد، بل ولم تعرِف ما هي الفاتحة، فما بالك بالإسلام؟!
إنّ الديانات كُلّها أيّها الملك لم تأتِ بطقوسها عبثاً، بل لترسّخ قيماً عظيمة ونبيلة في مجتمعات قبليّة كانت القيم السائدة فيها هي شريعة الغاب، القبيلة القويّة تغزو القبيلة الضّعيفة وتغنم أموالها وتسبي نساءَ ها، وكانت هذه حال الدُول والإمبراطوريّات أيضاً، وما زال هذا الوضع سائداً في العالم وإن بشكل أقل، فكان لا بُدَّ من فكر روحي، يجمع ولا يُفرّق، ينمّي الخير في النّفوس ويقتل الشَّر، يوحّد الإنسان بالله وبأخيه في الدين والإنسانيّة، ولم يكن هذا التوحّد ليتجسّد لو لم يكن هُناك صلاة وغيرها من الطّقوس الدينيّة، لذلك أيّها الملك ينبغي عليك أن تتعلّم فروض الإسلام وتطبّقها بحذافيرها، وعلى الآخرين أن يطبّقوا تعاليم دياناتهم!"
فهتف ملك الملوك مُحتجاً:
"لكنك يا مولاي لا تطبّق فروض الإسلام ولا فروض أي دين آخر!"
"أنا أطبّق الغايات دون الوسائل أيّها الملك، وحين تجد نفسك قادراً على التوحّد بالله وبإخوتك من بني البشر، بحيث تحب لغيرك ما تحبه لنفسك، يمكنك ألاّ تؤدّي الفروض، لأن الله والبشر لن يكونوا بعدئذٍ في حاجة إلى صلاتك وصيامك، بل إلى عملك من أجلهم، وسعيك من أجل سعادتهم!"
فهتف ملك الملوك:
"لا يا مولاي، أرجوك أنا أفضّل أن أتعلّم الصَّلاة وأصلّي وأقوم بالفروض كُلّها على أن تحمّلني هذا العبء الثقيل الذي لا طاقة لي به، خاصّة وأن هؤلاء البشر، ولا سيّما أبناء الأرض منهم، لا يحبّون الخير إلاَّ لأنفسهم، ولا يحبّون إلاّ أنفسهم، ويستحيل أن يحبّوا غيرهم، فكيف سأحبُّ لهم ما أحبّه لنفسي؟!"
"إذن، عليك بالعبادة أيّها الملك لعلّ الله يهديك، ثم إنني أوصيك ألاّ تجادل في الله بغير علم، قال تعالى:
(ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضلَّ عن سبيل الله بغير عِلم).
وقال تعالى أيضاً:
(ومن الناسِ من يجادِل في الله بغير علمٍ ولا هُدى ولا كتاب مُنير).
"فما بالك أيّها الملك وأنت لم تعرف بعد ما هي الفاتحة؟! وكم من المؤمنين في أمّة الإسلام لا يعرفون الفاتحة، وإن عرفوها لا يفقهو معناها، ولا يعرفون ما هو الصّراط المستقيم، وإن جادلتهم، قال أخَيرُهم.. "الله يهديك!"
"أعتذر يا مولاي باسمي وبالنّيابة عن قوى الجن جميعاً!"
"لا داعي للاعتذار أيّها الملك"
وتفرّق الحضور فيما كانت المركبة تقترب من كوكبٍ مأهول، إنّما بسكّان من نوع جديد، فلم ينظروا من الأعالي إلى مدينة ورأوا فيها بـشراً، بل حيوانات!
هبطوا بالمركبة إلى مدينة كبيرة بدت وكأنّها من القرون الغابرة.
وعبثاً حاول الملك لقمان ومرافقوه رؤية أحدٍ من سُكّانها، كانت أحياؤها خاوية إلاّ من بعض قطعان الكِلاب الهزيلة الضّالة، والرّمم الملقاة هُنا وهُناك تنهشها الكلاب والطّيور، وحين حلّقوا فوق بعض حدائق المدينة رأوا فيها بعض قطعان الظّباء والخنازير والأيائل الهزيلة أيضاً، وقد تناثرت في الحديقة بعض رمم هذه الحيوانات، التي كانت الذّئاب والضّباع والنّسور والغربان تنهش لحمها، كتلك التي في الأحياء.
هتفت الملكة:
"هل يمكنُ أن تكون الوحوش قد أكلت سُكّان المدينة؟"
فقال الملك لقمان:
"أي سُكّان هؤلاء الذين تستطيع الوحوش أن تفتك بهم، ربّما فتك بهم مرض".
راحت المركبة تحلّق فوق غابة كانت تحيط المدينة وتمتد إلى مسافات شاسعة لتعانق البحر.
كانت الغابة تضجّ بكافة أنواع الحيوانات، أيائل، ظباء، أسود، نمور، فيلة، وعول، ضباع، ذئاب، قرود، نسور، عقبان، صقور، وغيرها من الطيور والحيوانات صغيرة الحجم.
وكان هُناك حيوانات هائلة الحجم، أصغرها بحجم خمسة أفيال، وأكبرها بحجم خمسة عشر فيلاً وأكبر، كان بعض هذه الحيوانات يخرج من البحر وبعضها ينزل إليه من اليابسة، وحين ينزل تفيض مياه البحر على الشاطئ.
وكان هُناك طيور ضخمة، حجم الواحد منها بحجم خمسة نسور، كان بعضها يُحلّق فوق الغابة حاملاً الوعول لافتراسها، وكان بعضها الآخر ينقض ليغوص تحت مياه البحر ويخرج حامِلاً بمخالبه، الدلافين والأسماك الكبيرة.
هبط الملك لقمان والملكة نور السَّماء فوق قطيع من الأيائل تطارده بعض الأسود. أشارت الملكة بحركة من يدها وإذا بالأسود تتوقف وتستلقي على الأرض، لتتوقف الظّباء ورشاءاتها وهي تهتف:
"أهلاً أيّتها الملكة أهلاً أيّها الملك!"
حطّا إلى جانب ظبية ورشاها، أخذت الملكة الرّشا وحملته وعانقته وقبّلته وراحت تملس على عنقه وهو يستكين إلى أحضانها، وأُمّه تستسلم مطمئنة إلى جوار الملكة والملك. وقد أخذت الظّباء تقترب منهما وتتحلّق حولهما.
"أجيرينا أيّتها الملكة، أجرنا أيّها الملك!"
فهتفت الملكة:
"أجرناك يا حلوتي، ملعون من يؤذيك!"
ومَرَّ في السَّماء طائر عنقاء ضخم يحمل ظبياً، فأشار الملك إليه وإذا به يبطء من طيرانه ويجنح محلّقاً ويشرع في الهبوط، فراحت الظّباء وصغارها تلتصق بجوار الملكة والملك، وقفز رشا صغير إلى أحضان الملك لقمان لشدة خوفه، فضمّه الملك وراح يُطمئنه ألاَّ يخاف، ويسأله:
"ما هذا الطائر أيّها الرَّشا الصغير؟"
فهتف الرّشا:
"إنّه العنقاء أيّها الملك الأصغر منه بحجم خمسة نسور!"
أبدى الملك لقمان دهشته، فيما حط طائر العنقاء على مقربة منه ومن الملكة تاركاً الظبي إلى حال سبيله، هتف مسلّماً:
"السَّلام على المليك والملكة!"
فهتفا معاً:
"وعليكِ السَّلام أيّتها العنقاء!"
كان الظبي مثخناً بالجراح، فلم يقدر على النّهوض، نهضت الملكة حاملة الرّشا إلى حُضنها وسارت نحو الظّبي والطائر تتبعها الظَّبية، جلست إلى جانب الظبيّ وراحت تملس على جراحِه وتعيد له العافية إلى أن نهض بكامِل قوّته. جثا على قائمتيه الأماميتين وهو يهتف:
"أشكرك أيتّها الملكة، أشكرك أيّها الملك، على إنقاذ حياتي"
فربتت الملكة على عنقه ونهضت، فيما راحت فكرة مستحيلة تأخذ طريقها إلى مخيّلة الملك لقمان "كيف يجيران الظّباء دون الحيوانات والطيور الضعيفة الأُخرى؟!"
وأنقذته نسمة لبعض الوقت من سيطرة الفكرة حين هبطت محلّقة على فرسها وهي تهتف:
"عمّو عموّ بدّي رشا"
وألقت نفسها عن ظهر الفرس لتهجم عليه وعلى الرّشا، ولتحضن الرَّشا وتعانقه بكل لهفة وهي تطلب إلى الملك لقمان أن يتركه لها.
ولم يجد كلامه معها حين أخبرها أنّه أثقل منها ولا تقدر على حمله، فأشار إلى جنِّي أن يحمله معها دون أن تدري، فأسلمه لها، فحملته وراحت تدور حول نفسها فرحة به وهي تهتف:
"شايف يا عمّو ما أخفّه؟"
"شفت يا عمّو شفت!"
هتفت الملكة مخاطبة العنقاء:
"أليس في مقدورك أن تستغني عن أكل لحوم الظّباء أيّتها العنقاء؟"
"إذا كانت هذه مشيئة مليكتي"
"إنّها مشيئتي أيتّها العنقاء"
"أمر مليكتي"
أشكرك أيّتها العنقاء"
واقتربت الملكة من أحد الأسود و"نسمة" ترقبها متوجّسة، نهض الأسد وانحنى على أماميّتيه، ملست على رأسه وربتت على لبدته، سألته:
"وأنت أيّها الملك، أليس في مقدورك أن تمتنع عن أكل لحوم الظّباء"
"بلى أيّتها الملكة"
"اشكرك أيّها الملك، سأجمع حيوانات وطيور الغابة كُلّها، وأطلب إليها الامتناع عن أكل لحوم الظّباء"
فتساءَل الأسد:
"الظّباء وحدها أم الأيائل أيضاً أيّتها الملكة؟"
سألت الملكة الظّبية أم الرّشا فأجابت:
"الأيائل والوعول من أقاربنا أيّتها الملكة ولا أعرف فيما إذا في مقدور الأسود والكواسِر والجوارح الأخرى الكَّف عن أكل لحومها"
"ما رأيك أيّها الأسد؟"
"أظن أن الأمر لن يكون هيّناً علينا أيّتها الملكة، لا بُدَّ من أخذ رأي المفترسين الآخرين!"
"أشكرك أيّها الأسّد سننظر في الأمر إذا وجدنا أنّ ثمّة إمكانيّة لذلك"
رفعت الملكة يدها وطلبت إلى الحيوانات والطيّور الاجتماع، فأخذت تقدم من كُلِّ حدب وصوب وتصطف في أرتال منتظمة أمام الملك والملـكة ومن حولهما، وقد أقبلت الحيوانات والطيور اللاَّحِمة وغير اللاَّحِمة منها، اصطفت الأسود في عشرات الأرتال، وإلى جانبها اصطفت النّمور، فالوعول، فالأيائل، فالظّباء، فالفيلة، فالزرافات، فالقرود، فالتيوس، فالمعز، فالأفاعي، فالنسور، فطيور العنقاء، فالعقبان، فالغربان، وغيرها من الحيوانات والطيور، الصغيرة والكبيرة التي راحت تحيط الملك والملكة من كل جانب.
ومن أغرب الحيوانات التي حضرت عدا طيور العنقاء، كانت الغيِلان، التي بدت أقرب إلى الغوريلات بأشكالها المخيفة، فقد كان حجم الواحد منها أكبر من حجم خمسة أفيال! وكذلك حضرت الديناصورات هائلة الأحجام، التي بدت وهي تقدم كأنّها جبالُ متحرّكة، وكانت ترفع قوائمها ببطء كي لا تطأ الأشجار وتطيح بها، فأشارت لها الملكة فتوقّفت في مكانها وهي تطلُّ على الجموع من علٍ برؤوسها الضخمة وعيونها الكبيرة، فبدت وكأنّها مَرَدة أو آلهة أسطوريّة!
هتف الملك مخاطباً أحدها:
"هل أنتم ديناصورات أيّها الحيوان؟"
فانزعج الديناصور هاتفاً:
"نحن لسنا حيوانات يا مولاي!"
"ماذا أنتم إذن أيّها الكائن؟"
"نحن "حي جنيّون" أيّها الملك!"
"تقصد حيوانات جنيّة"
"أجل يا مولاي!"
"وكيف يكون الأسد ملك الغابة بوجودكم؟"
"نحن ملوك البر والبحر يا مولاي!"
"وماذا عن الحيتان والتّنانين والتّماسيح؟"
"هذه بعض فرائسنا يا مولاي"
"وأنتم هل هُناك من يفترسكم؟"
"أجل يا مولاي"
"من أيّها الديناصور؟"
"الرُّخ يا مولاي؟
"ومن هو الرّخ أيّها الديناصور؟"
"ملك السَّماء والأرض والبحر يا مولاي"
"أين هو، لِمَ لَمْ يأتِ؟"
"يُقيم في أعالي الجبال البعيدة يا مولاي ولم يصل بعد، ها هو قادم، أنقذنا منه يا مولاي"
فهتف الملك "لا تخافوا" ونظر هو والملكة إلى السماء ليشاهدا طيوراً هائلة، الواحد منها بحجم طود ولها أربعة أرجل، وقد سدّت بأحجامها الفضاء، ونظراً لعدم وجود مكان تهبط فيه، فقد توقّفت في الفضاء وهي ترف بأجنحتها الهائلة.
هتف أحدها:
"السَّلام على الملك لقمان وعلى الملكة نور السَّماء"
فهتفا معاً:
"وعليكم السَّلام يا ملك الملوك"
"أمر مولاي ومولاتي"
فهتفت الملكة:
"الحق أيّها الملك العظيم أنّ الظباء استجارت بنا راجية عدم أكل لحومِها فأجرناها، وقد وافقنا الأسد والعنقاء على ذلك، واستدعينا باقي الحيوانات والطّيور لاطلاعها على الأمر ومعرفة رأيها"
كان الملك لقمان يُطرق مفكّراً في مصير الحيوانات النّباتيّة الأُخرى التي تفترسها الوحوش والطّيور الكاسِرَة، ليجد أنّه من المحال أن يجد حلاً لمعضلتها، ومن المحال أن يصلح قانون الحيوانات هذا كما يحاول إصلاح قوانين البشر، وكم أحسَّ بظلم الإنسان لإقدامه على أكل لحوم الحيوانات وإباحة قتلها، وعبثاً حاول أن يجد حلاً لهذا الظلم، غير أنّه قطع عهداً على نفسه ألاّ يتناول لحم الظّباء على الأقل بعد اليوم، وأن يحرّمه على الإنسان والجن.
هتف الرّخ:
”أوافق أيّتها الملكة، شريطة ألاّ تجيرا حيوانات أُخرى وتُحرّما أكل لحمها!"
أدركت الملكة المسوّغات التي دعت إلى هذا الشرط، فتغاضت حتّى عن إجارة الأيائل والوعول أو حمايتها لبعض الوقت، فيما أحسَّ الملك لقمان أن حالته النّفسيّة ليست على ما يُرام، فطلب إلى "نسمة" أن تأخذ الرّشا وأمّها وأباها وتصعد وفرسها إلى المركبة، فأذعنت على الفور.
هتفت الملكة مخاطبة الرّخ:
"موافقة أيّها الملك!"
ولم تكد تهتف حتّى ضجّت الغابة والبحر بعويل يمزّق القلوب. الأيائل والوعول شرعت تصرخ، الزّرافات والثيران شرعت تصرخ، التّيوس والمعز شرعت تصرخ، الفيلة والقرود شرعت تصرخ، الأرانب والخنازير، وكل الحيوانات النّباتيّة شرعت تصرخ، حتّى الطيور غير النّباتية شرعت تصرخ، ومن ناحية البحر شرعت الحيتان والنّينانْ والأسماك كُلّها في الصُّراخ مع أنّها ليست نباتيّة، ولم تمر سوى لحظات حتى كانت المنطقة كُلُّها بغابتها وبحرها وكل ما فيها من كائنات تشرع في الصراخ حتى تلك التي لا يمكن أن تُفترس من قبل أي كائن كالرّخ والعنقاء والنَّسر والأسد وغيرها، شرعت في الصُّراخ وكأنّها تعلن تضامنها مع الحيوانات التي ليس في مقدورها الهروب من قدرها، وامتد الصراخ من غابة إلى غابة ومن بحر إلى بحر ليشمل الكوكب كُلّه، وليتردد صدى الصُّراخ من كافة الأودية والجبال والصحاري وأعماق البحار والمحيطات، وحدها النّباتات لم تكن تصرخ.
تجّمدت الملكة نور السَّماء في مكانها وهي تضم الرّشا – الذي شرع بدوره في البُكاء – إلى حضنها، فيما أطبق الملك لُقمان بيديه على أذنيه وراح ينظر إلى السَّماء هازَّاً رأسه بشدّة، لاجماً في أعماقه صرخة هائلة، فبدا وكأنّه أُصيب بصدمة نفسيّة، وما لبث أن انطرح على بطنه وراح يعتصر التُّراب بيديه ويداري دموعه هاتفاً في أعماقه:
"إلهي، ما هذا الذي يحدث أمام عيني، ما هذا الذي يجري لي، أين هي العدالة وكيف تكون، كنت أظنُّ أنَّ الحيوانات قد حققت توازنها وانسجامها مع الطّبيعة وقبلت بقدرها، لتفجأني بهذه التراجيديا المرعبة، أرجوك ساعدني يا إلهي، مُدْ يدك إليّ، أعِنْي على ما أنا فيه، أنقذني من هذه المأساة، فأنا ضعيف دونك، أنا حزين وبائس ومسكين، أعِنّي يا إلهي، ساعدني".
تركت الملكة الرّشا ودَنت من الملك لتجلس إلى جانب رأسِه وتواسيه رابتة على ظهره وكتفيه، فيما شرع صوت يهتف في دخيلته:
"لِمَ تُريد أن تخلَّ بتوازن قانون الطّبيعة يا لقمان، لِمَ أجرتما الظّباء، وأردتما أن تجيرا الأيائل والوعول أيضاً؟! إن قانوناً أوجدته الطّبيعة لا ينبغي خرقة يا لقمان، فلا تجِرْ الظِّباء، لا تجِرْ الظّباء يا لُقمان!"
وانقلب الملك لقمان على ظهره ونهض جالساً وهو يهتف بأعلى صوته:
"لا! لا! مستحيل! مستحيل أن تكون هذا أنت، مستحيل أن يكون هذا صوتك، هذا الصوت ليس إلهياً، ثمَّ إنَّ النبي محمد أجار الظّبية قبل أن نجيرها نحن، فهل تريدنا ألاّ نقتدي بنبيّ العالمين؟ أجبني، إن كنت أنت من يهتف في دخيلتي، أجبني!"
وراحت الملكة تواسيه وهو يدفن رأسه بين يديه، فيما أخذت بعض الحيوانات والطّيور تتفرّق، وقد استغلّت بعض الكواسِر الجائعة فرصة وجود طرائدها في المكان، فراحت تنقض عليها من السَّماء أو تلاحقها على البرّ، فيما ظلّت الظّباء وحدها بعيدة عن الصّراع.
وحين سمع الملك لقمان الضوضاء تخالط الصراخ رفع رأسه لينظر من حوله وفوق رأسه ليرى ملحمة مروّعة، أسود تصرع وعولاً، أو جداء، وصقور تحمل حَجَلاً، ونسور تحمل تيوساً بريّة، وعنقاءات تحمل ثيراناً، وغيلان تصرع وحيد القرن! وكان الأكثر هولاً في هذه الملحمة، طيور الرُّخ التي انقضت على الديناصورات في البَرُّ والحيتان في البحر، وطارت بها.
صرخ الملك لقمان صرخة هائلة وهو ينهض واقفاً على قدميه هاتفاً "لا" فتوقّفت الحيوانات كُلّها، الكواسِر وغير الكواسِرْ، المفترس وغير المفترس، الأسود والنّمور، النّسور والعقبان، العنقاءات والرّخوخ، الوعول والفيلة، ومن كان من الكواسِر يحمل طريدة أو يقبض عليها، توقّف وظلّ متشبثاً بها.
هتف الملك لقمان:
"أعيدوا طرائدكم وقنائصكم إلى أماكنها أيّها الأنذال، ولا تستغلّوا الاجتماع الذي دعونا إليه لتفتكوا بالضّعفاء منكم دون عناء، هيّا أعيدوها إلى أماكنها، وإلاَّ أُقسم أنّي سأمحقكم عن وجه أراضي الكواكب كُلّها، ولن أُبقي إلاَّ على الحيوانات النّباتية والطّيور الأليفة"
راحت الكواسِر تعيد قنائصها أو تطلقها، والأفاعي تسترجع ما في أحشائها أو تفلت ما في أفواهها، وهبطت النّسور والعنقاءات والرّخوخ من السَّماء لتعيد طرائدها إلى أماكِنها.
أخذت الملكة تشير بحركات من يديها، معالجة الحيوانات التي أُثخنت بالجراح.
هتف الملك لقمان:
"لتتفرّق الحيوانات والطّيور الضعيفة وتبتعد، لتعد العصافير والطيور إلى أعشاشها، والأيائل والوعول إلى مواطنها ومراعيها، ولتتوغل الحيتان والدَّلافين وكل البحريّات في أعماق البحر"
طفقت الطّيور الصغيرة تطير، والحيوانات تجري، وظلّت الديناصورات واقفة مع الحيوانات والطيور المفترسة الأُخرى، فهتف الملك لقمان مخاطباً أحدها:
"لِمَ لا تهرب أيّها الديناصور أنت ورفاقك؟"
فقال الديناصور بصوت حزين:
أنا كاسِرٌ ومكسور يا مولاي، مُفترِسٌ ومُفتَرس!"
"إنّي أعرف ذلك أيّها الديناصور، فلست وحدك كذلك، فاهرب أنت ورفاقك من أمام عيون طيور الرّخ التي تملأ الفضاء"
فردّ الديناصور بصوته الحزين:
"للأسف أيّها الملك، ليس في مقدورنا الهروب من قدرنا أمام الرّخ، فخطواتنا بطيئة وأحجامنا كبيرة، ويستطيع أن يلحقنا بسهولة، ويرانا، حتّى لو اختبأنا في أعماق البحار، فما بالك بالغابات والصحاري، كُلُّ ما هنالك أننا نقاوِم بعض الشيء في معركة نعرف سلفاً أننا خاسِرون فيها!"
وودَّ الملك لقمان لو لم يسمع هذا الكلام، فراح يهتف بألم "يا إلهي" أيّة تراجيدنا هذه؟ هل هذه حقاً هي عدالتك يا إلهي؟ وهل يُعقل أن تكون هذه عدالة؟! لِمَ يا إلهي لمْ تُرِني هذا من قبل، لِمَ تواجهني بالعجز بقدر ما واجهتني بالمقدرة، لِمَ تُباغتني باليأس بقدر ما أسعفتني بالأمل؟ لِمَ يا إلهي؟ لِمَ؟ لِمَ؟!"
وظلَّ الملك لُقمان صامتاً واجماً للحظات، وحين أدرك أنَّ الطّرائد ابتعدت، أو عادت إلى مواقعها، أشار بحركة من يده، لتذهب الكواسِر إلى حال سبيلها.
راحت الكواسِر تتفرّق في أنحاء الغابة، فيما انقضت بعض طيور الرُّخ على الديناصورات، انقلبت الديناصورات على ظهورها، وراحت تُقاوم بأرجُلها وتهوش برؤوسها، ماددة أعناقها الطّويلة فاتحة أفواهها الهائلة، فأشرعت طيور الرُّخ مخالبها التي بدت كالرِّماح المعقوفة، وراحت تثخن بها رؤوس الديناصورات، لتبدو المعركة شبه محسومة من بدايتها.
وكم فوجئ الملك لُقمان حين رأى الديناصورات تنقلب على بطنها مستسلمة إلى قدرها واحداً إثر الآخر بعد أن أُثخنت بالجراح متيحة لطيور الرُّخ أن تحملها بمخالبها المخيفة من ظهورها.
ديناصور واحد قاوم زمناً أطول، وكُلّما حاول الرُّخ قلبه، ليتمكّن من حمله، انحرف وواجهه بمقاومة ضارية، إلى أن أثخنه الرُّخ تماماً بالجِراح دون أن يستسلم وينقلب، فقلبه الرُّخ وهو ما يزال يقاوم، وحمله لتتدلّى قوائمه ورأسه إلى أسفل وهي ما تزال تقاوم متشبّثة بالحياة.
هتف الملك لقمان في نفسه "يستحيل أن تكون هذه عدالة"، وكان مدركاً أنّه لم يحس بالعجز في حياته كما أحسَّ به في تلك اللحظات الصعبة، التي لم يواجه مثلها، منذ أن بدأ رحلته السَّماويّة، فبدا وجهه شاحباً باهِتاً، والملكة تُحاول عبثاً مواساته.
قرفص ثانياً رجليه إلى فخذيه، مُلقياً رأسه على ركبتيه، مكتّفاً يديه، والهواجس تطرق دماغه من كل صوب.
* * *

أطرق الملك لقمان طويلاً، إلى حد أقلق ملك الملوك ومن كانوا في الفضاء جميعاً، كانت الظّباء تنتشر من حولهما وقد خلد بعضها إلى الراحة في ظلال الأشجار، وكان هُناك العديد من الحيوانات المفترسة وغير المفترسة التي لم تغادر المكان بعد.
ربتت الملكة على كتف الملك وهتفت:
"إلى متى ستظل مُطرقاً تفكّر يا حبيبي؟"
أمال الملك لُقمان رأسه دون أن يرفعه عن ركبتيه ونظر إليها:
"إلى أن أعرف ما هي حدود العدالة يا حبيبتي، أين تبدأ وبماذا تمرّ وأين تنتهي؟"
"هناك آلاف المفاهيم للعدالة يا حبيبي"
"هذا عند البشر على كوكب الأرض والكواكب الأُخرى، وربّما عند الآلهة أيضاً، أمّا عند الحيوانات فليس هُناك إلاّ عدالة واحدة تطبّق قانوناً واحِداً لا غير في كل مكان وزمان!"
"وأي عدالة تفضّل هذه أم تلك يا حبيبي؟"
"لا أعرف! لكن إذا كان ما أفكّر فيه إلحاداً فربّما عُدت إلى الإلحاد، إنّ ما جرى اليوم قد يؤثر على نمط حياتي وربّما على طريقة تفكيري"
"في أي اتّجاه يا حبيبي؟"
"في اتّجاه اللاعدالة طبعاً، وليس عند مُعظم البشر والآلهة فحسب، بل عند الطبيعة أيضاً!"
"وماذا عن الخير؟"
"لا يختلف الأمر كثيراً يا حبيبتي".
ورفع الملك لقمان رأسه، ونظر أمامه ومن حوله وإذا بآلاف الحيوانات من الضّباع والقرود والخنازير والثعالب وبعض الأسود ما تزال في أماكنها إلى جانب الظّباء، فتساءَل:
"ما بال هذه الحيوانات لم تنصرف أيتّها الملكة؟"
"لا أعرف يا حبيبي"
كان ثمّة أسد ضخم ولبؤة يستلقيان في ظل شجرة، أشار الملك إليه بيده هاتفاً:
"ألا دنوت منّي أيّها الملك؟"
تقدّم الأسد تتبعه اللبؤة إلى أن توقّفا أمام الملك والملكة.
تساءَل الملك لقمان:
"لِمَ لمْ تنصرفا مع الحيوانات أيّها الملك؟"
"أنا لست ملكاً يا مولاي، أنا وزير!"
"وزير؟!"
"أجل يا مولاي!"
"لكن كل الحيوانات تعتبر الأسد ملكاً للغابة أيّها الأسد وليس وزيراً"
"أنا لست أسداً يا مولاي!"
فهتف الملك بدهشة:
"ماذا أنت إذن؟"
فهتف الأسد:
"أنا كنت وزير الملك على هذا الكوكب، ومسخني هاروت وماروت إلى أسد!"
وأبدى الملك لقمان دهشته متذكّراً المدن التي لم يروا فيها إلاَّ الحيوانات، فتساءَل:
"ومن يكون هاروت وماروت هذان أيّها الوزير؟"
"إنّهما شيطان وزوجته، يسكنان كوكبنا يا مولاي ويجيدان فنون السِّحر!"
"هكذا! ولِمَ مسخاك أيّها الوزير؟"
"مسخا كُل سُكّان الكوكب يا مولاي ولست أنا وحدي!"
"ولِمَ مسخا السُّكان؟"
"لأننا كنّا نشتمهما دائماً يا مولاي!"
"ولِمَ كنتم تشتمونهما أيّها الوزير؟"
"لأنّهما ضللاّ الناس وسببا لهم الكثير من المآسي والآلام يا مولاي!"
"ماذا فعلا مثلاً؟"
"يتّما الأطفال ورمّلا النِّساء وفتكا بالمواشي والأغنام وأحرقا بعض الغابات والحقول".
"أمتأكدٌ أنت مما تقوله أيّها الوزير؟"
"أجل يا مولاي"
"هل رأيتهما بعينيك؟"
"لست أنا وحدي يا مولاي، كُلُّ الناس رأوهما!"
"إن كنت كاذباً سأمسخك فاراً أيُّها الوزير وليس أسداً كما فعل هاروت وماروت!"
"أقسم أنني لا أكذب يا مولاي"
"ومن تكون هذه اللبؤة التي ترافقك؟"
"إنّها زوجتي يا مولاي"
"وما اسم كوكبكم أيّها الوزير؟"
"كوكب يأجوج ومأجوج يا مولاي!!"
تعجّب الملك لقمان من الاسم وتساءَل:
"وكم تعدادكم أيّها الوزير؟"
فقال الوزير:
"نحن أكثر من النّمل الذي في الدُّنيا كُلّها يا مولاي!"
"عجيب! وهل مسخ الشيطانان كل سُكّان الكوكب إلى أُسود؟"
"لا يا مولاي، لم يحظ بهذا المسخ إلاّ من لم يشتمهما كثيراً، ومعظم السُّكان مُسخوا إلى جرذان وقطط وكلاب وأرانب وضباع وخنازير وحمير وتيوس ومعز وغير ذلك!"
"وملك الكوكب ماذا مسخاه أيّها الوزير؟"
"مسخاه إلى ديناصور يا مولاي!"
"يبدو أنّه محظوظ، أما زال على قيد الحياة؟"
"والله لا أعرف يا مولاي، إذا لم يختطفه رُخٌ ما، فهو ما يزال على قيد الحياة!"
"وأين يُقيم هذان الشيطانان أيّها الوزير؟"
"على الكوكب يا مولاي، لكني لا أعرف في أي مكان!"
"حسناً أيّها الوزير الأسد يُمكنكما الانصراف!"
"نتوسَّل إليك أن تنقذنا يا مولاي"
"سأحاوِل بعد أن أعرف الحقيقة أيّها الوزير"
"أُقسم أنني لم أقل لك إلاَّ الحقيقة يا مولاي"
"إنّي أشك في كلامك أيّها الوزير رغم كل أيمانك"
"وهل ستصدّق الشياطين وتكذّبنا يا مولاي؟"
"ألا يمكن أن تكون الشياطين أصدق من البشر أيّها الوزير؟"
"مستحيل يا مولاي!"
"أنا لا أعرف المستحيلات أيّها الوزير، وللحقيقة عندي وجوه مختلفة، وحتّى الآن لم أعرف إلاَّ أنّكم مُسِختمُ، لكن لماذا وكيف ومن مسخكم، مسألة تحتاج إلى بحث رغم كل ما قلته لي!"
وانصرف الأسد واللبؤة لينصرف خلفهما آلاف الحيوانات الممسوخة، فيما ظلّت الظّباء هاجعة في أماكنها من حول الملك والملكة.
حملت الملكة رشاها وتساءَلت:
"أيّة مأساة هذه، لم أرَ مثلها في حياتي، يبدو أنّك تغيّرت فعلاً يا حبيبي، فلأول مَرّة ترى ظُلُماً بهذا القدَر، ولا تسارع إلى رفعه عمّن أحيق به"
"وما أدراك أنني قادر على إعادة هؤلاء الممسوخين إلى طبيعتهم، ولا تنسي أن الكوكب كُلُّه ممسوخ"
"لكنك لم تحاوِل يا حبيبي"
"لن أُحاوِل قبل أن أعرف الحقيقة كُلّها!"
"ما أعرفه أنّ عدالتك لا تجيز هذا العِقاب مهما كانت الحقيقة لصالح من أنزله"
"ليس ثمّة حقيقة للظلم أفظع مما شاهدته اليوم، ومع ذلك وجدت نفسي عاجزاً عن اتخاذ أي إجراء يمنع افتراس الحيوانات الضّعيفة"
"بالتأكيد يا حبيبي لا تقدر على ذلك لأن الحيوانات المفترسة ستموت"
"والإنسان المُفترس هل سيموت هُوَ الآخر، يمكنه أن يعيش على النّباتات فهي صحيّة أكثر من اللحوم، وربّما بإمكان الحيوانات المفترسة أن تعيش على النّباتات أيضاً!!"
"والأسماك والبحريّات يا حبيبي، هل ستعيش على النّباتات البحريّة؟"
"ولِمَ لا تعيش، ثمَّ إنّ تكاثر الأسماك لا يقارن بتكاثر الحيوانات البريّة!"
"والنّباتات أليست كائنات حيّة يا حبيبي، فلماذا تفترسها؟!"
"النّباتات لا تُفترس يا حبيبتي، بل تؤكل ثمارُها وأوراقها"
"لقد تغيّرت فعلاً يا حبيبي"
"ممكن!"
"آمل ألاّ يصدمك الواقع يا حبيبي"
"لقد صدمني وانتهي"
"ماذا ستفعل الآن، هل ستستدعي هاروت وماروت؟"
"لا! بأي حق سأستدعيهما وليس لدي أي دليل مُقنع على أنّهما متّهمان، أم تريدينني أن أعمل كما تفعل بعض دولنا الأرضيّة حين تعتقل إنساناً وتعامله كمجرم إلى أن يثبت أنّه غير متّهم! أو كما يفعل نظامنا العالمي الجديد – قصّر الله عمره – وهو يمتطي ظهر الأمم المتّحدة ويُعاقب بعض الدّول كمجرمة قبل أن تثبت التهم عليها، ولا يُعاقب الدّول ذات الجرائم التي تفقأ العيون؟!"
"ماذا ستفعل إذن يا حبيبي؟"
"سأذهب إليهما!"
"حتّى لو كانا مقيّدين في أعماق بئر في أرض بابل كما تروي الأساطير"
"حتّى لو كانا كذلك فعلاً، هيّا ودّعي رشاكِ وظباءَكِ لننطلق"
"سأصطحبها معي يا حبيبي هي وأمّها وأباها"
"ما شاء الله، ونسمة اصطحبت رشا وأُمّها وأباها أيضاً، ولديك هُناك سبع يمامات وبضع فراشات، هل سنفتح حديقة حيوانات على المركبة؟"
فتوسّلت الملكة هاتفة:
"يا حبيبي، أرجوك!"
"طيّب أرسلي الظّباء إلى المركبة وعودي بسرعة"
وحلّقت الملكة حاملة الرّشا والظّبية والظبي يطيران خلفها.
لامس الملك لُقمان خاتم إبليس طالباً إليه ما يقلّه إلى البلاد التي يُقيم فيها هاروت وماروت.
حلّقت في السَّماء فُلك زجاجيّة كبيرة بحجم سفينة ضخمة، لم يكن في الغابة مكان لهبوطها، فأشار إليها الملك لُقمان أن تقف في السَّماء.
هبطت الملكة محلّقة وهي تهتف:
"ما هذه يا حبيبي؟"
"يبدو أننا سنغوص في أعماق المحيط!"
"بحثاً عن هاروت وماروت؟"
"بل بحثاً عن الحقيقة"
وحلّق ملك الملوك ودليلة والأميرتان نجمة الصَّباح وظلّ السَّماء.
هتف ملك الملوك:
"سنرافقكم يا مولاي"
فقال الملك لُقمان:
"هذا جميل! هيّا أيّها الملك"
ولوّح الملك والملكة لقطعان الظّباء مودّعين، فنهضت الظّباء كُلّها وراحت تثب على قوائمها الخلفيّة، وتلوّح بقوائمها الأماميّة، وظلّت ترقب الملك والملكة حتّى ركبا الفُلك وأقلعا، لتنصرف متجوّلة في أنحاء الغابة دون أن يجرؤ أيٌ من الكواسِر على الاقتراب منها.
لم يكن في الفُلك لا قُبطان ولا رُبّان ولا أيّة طواقم لا جويّة ولا بحريّة، ولأوّل مَرّة وجد الملك لُقمان نفسه يخاطب زُجاجاً لا أكثر ولا أقل! إنّما زجاج مصنّع بطرق فنيّة في غاية الجمال، ومزيّن بكل ما يُضفي عليه سحر الجمال الأسطوري!
وكان داخل الفُلك مقسّماً إلى صالونات وغرف نوم وصالات طعام وممرّات وحمّامات وأجنحة ومقصورات وشرفات بحريّة، إضافة إلى مسبح داخلي، وقد فرش كُلُّ جناح في الفلك بكل ما يتطلبه من الأثاث الفاخِر، ومدّت على الموائد أصناف مختلفة من الفواكة والخمور، وحين مَدّ الملك لقمان يده مُشيراً إلى طبق تفاح طالِباً إلى الأميرة ظل السَّماء أن تناوله واحدة، فوجئ الجميع بالتّفاحة ترتفع من الطبق ليشرع سكّين في تقشيرها بسرعة هائلة، ليقطّعها، ولتوضع في صحن مع شوكة وسكين إلى جانب محرمة ورقيّة، ليطير الصَّحن بهدوء ويتموضع على منضدة صغيرة أمام الملك لقمان، ليجد الملك نفسه يقول "شكراً" دون أن يعرف من يشكر. وما أن قضم قضمة تفّاح حتّى أحسَّ بحاجته إلى كأس وسكي فأشار بيده لترتفع الزّجاجة إلى أعلى متمايلة كالعروس، وتنفتح ليرتفع الكأس إليها لتنحني عليه دالقة الويسكي فيه حتّى الثلث، ليتبع ذلك قطع ثلج راحت تتساقط في الكأس، الذي راح يحلّق نحو الملك لقمان ليتوقّف أمامه في الفراغ والزّجاجة تتمايل إلى جانبه. هتف الملك "شكراً" ثانية وهو يأخذ الكأس ويشير إلى الزجاجة أنّه لا يريد أكثر، لتعود إلى مكانها على المائدة.
رفع الملك كأسه وهتف:
"في صحة الملك إبليس الذي نحن الآن في ضيافته!"
حلّق الفُلك فوق الغابة، وما أن أطل على البحر حتّى هبط إليه ليمخر عبابه بسرعة هائلة، قطع بضعة أميال فوق الماء، وما لبث أن غاص في أعماق البحر ليتابع "انطلاقته تحت الماء".
راحت حوريّات البحر والحيتان والدّلافين ترافق الفلك وتحفّ به من كل جانب، فيما كانت التنانين برؤوسها المتعددة والأخطبوطات بأذرعها الكثيرة وأسماك القرش وغيرها تفرُّ مذعورة إلى اليمين أو إلى الشمال، أو تصعد إلى أعلى مخلية أعماق البحر أمام الفلك.
كانت الأميرة دليلة تحدّق عبر الزّجاج وقد أخذتها الدّهشة وهي ترنو إلى جمال حوريّات البحر اللواتي كن يلتصقن بزجاج الفلك ويتمددن فاردات أيديهن ضامات أرجلهن، وإلى جمال الدَّلافين والحيتان وهي تسابق الفلك، ومئات التّنانين والأخطبوطات التي كانت تقوم برقصات بهلوانيّة، وآلاف أنواع الأسماك ذات الألوان المختلفة ومتعددة الألوان، والأشكال ذات التكوينات الجميلة المختلفة للشعب المرجانيّة والنّباتات البحريّة، وتمنّت الأميرة لو في مقدورها أن تخترق زجاج الفُلك وتسبح في هذا العالم السّحري.
فقال لها الملك لقمان "هذه مسألة بسيطة يا دليلة" ففغرت فاها دهشة وهي تهتف:
"هل هذا ممكن يا مولاي؟"
"كل شيء تطلبينه ممكن يا دليلة، فليس لدينا غير دليلة واحدة ولا يمكننا إلاّ أن ندللها".
"ولن أختنق أو تفترسني الحيتان وأسماك القِرش.. يا مولاي؟"
"لا لا لن تختنقي يا دليلة، ستتنفّسين وكأنّك فوق الماء وسيُرحّب كُل ما في البحر بك ويسبح معك ويسبّحك!"
وشرعت حوريّات البحر تلوّح بيديها وتشير إلى دليلة أن تنزل إلى البحر، فيما أخذت الدّلافين تنادي دليلة باسمها وتطلب إليها أن تسبح معها، فهتفت:
"أخاف أن أخرج وحدي يا مولاي"
"لن تكوني وحدك يا دليلة"
أبطأ الفُلك من سرعته، وفوجئت دليلة بالملكة نور السَّماء والأميرة نجمة الصَّباح والأميرة ظل السَّماء يتعرّين فشرعت تتعرّى.
فتح باب الفُلك ليتوقّف الماء كأنه أمام جدار وهمي، ولتقفز الملكة والأميرات الثّلاث إلى الماء.
أغلق الباب فيما راحت حوريّات البحر تحتفي بحوريّات البر وترقص تحت الماء، وشرعت الدّلافين تذرع البحر فرحاً، فيما راحت الحيتان تقيم مهرجاناً احتفاليّاً والأخطبوطات تفرد أذرعها في أنساق مدهشة، والتنانين تنفخ من أفواهها المتعددة فقاعات ذهبيّة وحمراء اللون، وأسماك القرش تنطلق في أسراب ثُلاثِيّة وآلاف الأسماك الأُخرى تنتظم في أشكال جماليّة مختلفة، كل نوع سمك على حده.
عانقت دليلة جسد حوريّة وراحت تسابق بها الفُلك، فيما التحمت الملكة نور السَّماء بجسد دلفين لتعانقه من قمّة رأسها إلى أخمصي قدميها، وتطوّقه بيديها وتنطلق معه لتهبط به محلّقة ما بين الأخاديد والجروف والشّعب المرجانيّة، وكأنّها تطير في الماء، لتتبعهما وتحفّ بهما آلاف الحوريّات والدّلافين والحيتان، وقد عانقت الأميرتان دلفينين وراحتا تسابقان الملكة ودلفينها، فيما ظلّت دليلة ومرافقتها الحوريّة’ تحلّقان فوق الجميع على مقربة من الفُلك.
خطرت "نسمة" ببال الملك لُقمان وتمنّى لو أنّه أحضرها معه وهو يرنو وملك الملوك إلى البحر مأخوذين بجمال المهرجان وروعة العوالم البحريّة، وما لبث الملك لقمان أن تذكّر ابنه وابنته وأمها ثمّ أقاربه وأصدقاءه فبلدته فموطنة فأوطانه فسكّان الأرض جميعاً لتغرورق عيناه بالدّموع.
كان ملك الملوك قد آثر السُّكر على السّباحة ومواقعة حوريّات البحر، على غير عادته، تنبّه إلى الملك لقمان ودموعه تنزلق على وجنيته، فهتف بدهشة:
"ما الذي ألمَّ بك يا مولاي؟"
مسح الملك دموعه، ثمَّ وضع يده فوق فمه وشاربيه وذقنه:
"تذكّرت الناس على كوكب الأرض أيّها الملك"
"يا مولاي كوكب الأرض غدا بفضلك جنّة من أروع الجنان، لا يوجد مثلها في السَّماوات كُلّها، فلِمَ أنت حزين عليه؟"
"هل حقّاً ما تقولُه أيّها الملك؟"
"طبعاً يا مولاي، هل نسيت أن هُناك ملايين الجن الذين زرعوا الخير في كل بقعة على الأرض؟"
"ألم يعد هُناك جيوش وقتل وموت، ولم يعد هُناك سجون ومخابرات وشرطة، ولم يعد هُناك جوع وأمراض، أحقاد وشرور وآثام؟!"
"لم يعد هناك شيء من كل هذا يا مولاي؟"
"ولم يعد هُناك فلسطيني وإسرائيلي، عربي ويهودي، صديق وعدو، كردي وتركي، شرقي وغربي، فقير وغني، عالم ثالث وعالم إمبريالي، أُمم غير متحدّة، ونظام عالمي غير جديد، مسحوق وساحق، مضطّهِد ومضطَّهَد، أبيض وأسود، أشقر وملوّن، مسلم ومسيحي، هندي وبوذي، شيعي وسنّي، رجعي وتقدّمي، متخلّف ومتحضّر، محجّبات وسافرات، عالم ملّوث وعالم غير ملوّث، أراضٍ محتلّة وبلدان مستعمرة، ظالمون ومظلومون، ناهبون ومنهوبون؟!"
"أبداً أبداً يا مولاي، لم يبق هُناك غير المحبّة، ولم يعد هُناك غير العدالة وتوزيع ثروات الأرض بالتساوي على مواطني الكوكب الذي غدا وطناً للجميع، فلتهدأ نفسُك، وليطمئن قلبك ولتقرّ عيناك!"
وفتح الملك لُقمان ذراعيه وراح يُعانق ملك الملوك وهو يهتف:
"أشكرك أيّها الملك"
وعبثاً حاول الملك لُقمان أن يكبح جماح هذه الدّموع اللعينة التي تنفلت منه دائماً دون إرادته.
وثبت الملكة والأميرات من البحر إلى مسبح الفُلك يرافقهن أربعة دلافين وأربع من حوريّات البحر، وشرعن جميعاً يتقافزن في المسبح بمصاحبة الدّلافين.
حانت من الملكة التفاتة نحو الملك فشاهدت آثار الكآبة ما تزال بادية على وجهه، تركت الدّلفين ووثبت من الماء مقوّسة جسدها لتلقي نفسها فوقه وتعانقه وهي تهتف:
"لِمَ أنت حزين يا حبيبي؟"
طوّقّها الملك بيديه وراح يعبث بشعرها المبتل:
"لست حزيناً يا حبيبتي، مجرّد خواطر عابرة مَرّت بمخيّلتي"
"ابتسم إذن!"
وابتسم ابتسامة خفيفة، قبّلته على شفتيه فبادلها القبلة وراح يمسح قطرات الماء عن وجهها.
"آسفة يا حبيبي، بللت ثيابك"
"ليست مشكلة"
"ألن تسبح؟"
"لا أشعر برغبة، وأخاف السّباحة في البحار والمسابح لأنّها تذكّرني بليلة رعب أمضيتها في مياه البحر الميّت"
"ماذا كنت تفعل ليلاً في البحر الميّت يا حبيبي؟"
"كنت خارجاً من الأرض المحتلّة"
"لا يوجد مُبرر لهذا الخوف الآن وأنت تسبح معي ومع حوريّات البحر الفاتنات يا حبيبي"
"والله ليس لديّ رغبة يا حبيبتي، ثمّ إلى متى ستظلّين عارية هكذا أمام ملك الملوك؟"
"تغار يا حبيبي"
"ليس مهماً أن أغار أولاً أغار، المهم أنّك لا تشعرين بالخجل يا حبيبتي"
"نحن لا نخجل من أجسادنا يا حبيبي"
"غريب أمركم، لا تخجلون من أجسادكم، ولا تخجلون من ممارسة الحب أمام بعضكم البعض، من أين أتيتم بهذه الأخلاق؟"
"نشأنا عليها يا حبيبي؟
"ويبدو أنني سأعتاد عليها بعد كل تنشئتي المُغايرة"
كم سيكون جميلاً لو تعتاد يا حبيبي؟"
نهض ملك الملوك وراح يتجوّل حول المسبح متأمّلاً جمال الحوريّات اللواتي بدون له صغيرات وفاتنات ومثيرات، ويبدو أنّه لم يعد يؤثر السُّكر على النساء في هذه الرّحلة، فقد هتف مخاطباً الملك لُقمان:
"حين نصل يا مولاي بلاد هاروت وماروت قد لا أنزل معكم وأظلّ أنعم بجمال الحوريّات"
وتعرى خلال لحظة وقفز إلى الماء لتتحلّق الحوريّات من حوله.
"ألم تتخلّص بعد من آلام سجن سُليمان أيّها الملك؟"
"آه يا مولاي، أحتاج إلى ثلاثة آلاف عام من النِّعم كي أتخلّص!"
"أوه! هذه قصّة طويلة أيّها الملك"
صعدت "نجمة الصّباح" مُخلية المسبح لأبيها، لتتبعها الأميرة "ظل السَّماء" فيما ظلّت دليلة تشارك الملك مُتعه مع حوريّات البحر.
استلقت الأميرتان على مسافة من المسبح إلى جانب بعض الورود المزروعة في أحواض فخّاريّة!
تساءَل الملك لقمان:
"هل تحبل حوريّات البحر من الجن؟"
أجابت الملكة:
"طبعاً يا حبيبي"
"ويلدن هُنا في البحر؟"
"أجل "
"هل هذا يعني أنَّ الجن لا يعرفون كل أولادهم وعددهم؟"
"مستحيل أن يعرفوا ذلك يا حبيبي!"
"عالم عجيب حقَّاً، بالمناسبة ما أخبار سحب السماوات أرى بطنك لا يكبر يا حبيبتي"
"للأسف يا حبيبي لم يكن حملاً كما توقّعت أنت!"
"ألم أقل لك؟ على أيّة حال أشعر أنّك لن تحملي مِنِّي إلاَّ من مواقعة أسطوريّة لم يحدث مثلها في تاريخ الجن والإنس!"
"شوّقتني لهذه المواقعة يا حبيبي كيف ستكون؟"
"ستكون أهم من مواقعة الإله آن للآلهة أنتومي، بل أهم من مواقعات الآلهة كُلّها، ولن تنسيها في حياتك يا حبيبتي، حتّى لو عشتِ مليون قرن!"
"يا حبيبي جعلتني أموت شغفاً لهذه المضاجعة المذهلة، أرجوك دعنا نفعلها الآن!"
"مستحيل أن تتم الآن وفي أعماق البحر مضاجعة أُسطوريّة من هذا الطّراز يا حبيبتي"
وتنهّدت الملكة من أعماقها هاتفة:
"أمري لله، لنقم بما هو عادي إذن إلى أن يحين وقت الأُسطوري"
"رُبّما عادي ممكن!"
وتنبّه الملك للأميرتين تلتحمان في عناق حار وآهات محمومة، فأضاف متسائلاً:
"حتّى الجنيّات يفعلن ذلك؟"
التفتت الملكة لترى الأميرتين تغرقان في الغرام:
"بعضهن يفضّلن النّساء على الرّجال يا حبيبي"

* * *
 -;-(6)
الله. الكمال. الفضيلة!

أخذ الفلك يبطئ من سرعته شيئاً فشيئاً، أدرك الملك لقمان أنّه يقترب من موطن هاروت وماروت، وحين نظر إلى البحر رأى جيشاً من التنانين العملاقة يهرع من كل صوب ليحيط بالفلك من كل جانب، مطلقاً من أفواهه كرُات ناريّة لا تنطفئ، أنارت أعماق البحر ليغدو كالنّهار.
لامس الملك لقمان خاتم إبليس وإذا بالجيش التنّيني ينتصب واقفاً في الماء وينتحي يميناً وشمالاً مخلياً الطريق البحريّة أمام الفُلك، الذي تقدّمه ستّة تنانين ضخمة راحت تقوده بين صَفّي آلاف الجنود.
بلغ الموكب منطقة مُضاءَ ة بقناديل عائمة في الماء، وحين نظر الملك لقمان بعيداً رأى مدينة من القلاع تتلألأ تحت إنارة القناديل العائمة. وقد وقف على مدخل المدينة آلاف الجنود في أشكال بشريّة عملاقة، كانوا يرتدون زيَّاً أسود ويحملون آلات موسيقيّة ويقفون بثبات في صفيّن منتظمين دون أن يبتلّوا بالماء أو تتحرّك أجسادهم قيد أنملة!
وكان ثمّة ملكان يقفان بين الجيشين على أرضيّة فرشت بالسَّجاد الأحمر، ويضعان على رأسيهما تاجين ذهبيين ويرتديان زيّاً أبيض، وقد وقف خلفهما بعض الرّجال والنسوة.
اضطر الملك لُقمان والملكة نور السَّماء وملك الملوك إلى ارتداء الأزياء الملكيّة، فيما ارتدت الأميرات الأزياء الأميريّة.
توقّف الفلك على مسافة بضعة أمتار من الملكين ليفتح باب كبير. تقدّم الملك لقمان والملكة نور السَّماء ليخرجا ويقفا على سجّاد وثير دون أن يُشعرا بوجود الماء، وقد تبعهما ملك الملوك والأميرة دليلة والأميرتان نجمة الصّباح وظلّ السَّماء.
تقدّم جندي طويل ضخم ينصب سيفاً هائلاً باستقامة إلى أعلى بخطوات ثابتة إلى أن توقّف أمام الملك لقمان والملكة نور السَّماء وهتف بصوت هائل:
"جلالة الملك هاروت والملكة ماروت يرحّبان بجلالة ملك ملوك الملوك لقمان العظيم نصير جدّنا العظيم إبليس خالق الإنس، وبجلالة الملكة نور السَّماء المُعظمة وجلالة ملك الملوك شمهنور الجبّار"
وتنحّى الجندي ليقف بثبات فيما شرع الجيش في عزف الموسيقى، وتقدّم الملكان من الملك لقمان والملكة نور السَّماء.
مَدَّ الملك هاروت يده مصافحاً الملك لقمان فيما مَدّت الملكة ماروت يدها مصافحة الملكة نور السَّماء.
ما أن انتهى الاستقبال حتّى قاد الملكان ضيوفهما إلى القصر الملكي عبر حدائق معلّقة تزهو بأجمل الورود، اصطفت على جانبيها مئات الحوريّات اللواتي ارتدين الملابس البيض ورحن يلوّحن بباقات الزّهور. وبدا القصر من خارجه تحفة للناظرين، وحين دخل الملك لقمان ومرافقوه إلى صالون الضيافة وجدوا أنفسهم في عالم سحري يخلب جماله العُقول، كان شكل الصالون شبه بيضوي وقد زيّنت جدرانه وسقفه بتماثيل ملائكيّة في غاية الرّوعة والجمال، وحين تأمّل الملك لقمان المنحوتات رآها تكمّل واحدتها الأُخرى وهي في مجموعها تروي قصّة خلق آدم وحوّاء كما عرضها الملك إبليس على المسرح الكوني في حفل التتويج، وقد جلست في أنحاء مختلفة من الصالون حوريّات ملائكيّات ارتدين الملابس البيض، كنّ يوزّعن ابتسامات ساحرة وينبسن بكلمة"أهلاً" كُلّما نُظر إلى إحداهن!
وقد أُنير الصالون بقناديل مُشعّة كأنّها الماس كانت تتوزّع في أماكن مختلفة بين أغصان ورديّة حتّى على الأرض. وقد احتلّت الأرائك أماكنها في الصالون بشكل ينسجم مع التماثيل، وكانت تدور وحدها بالجالس عليها كُلّما نوى النّظر خلفه أو إلى يمينه أو شماله.
دخلت بعض الفتيات يحملن أطباقاً عليها كؤوس خمور وعصير فواكِه وبعض المقبّلات والمكسّرات، ورحن يدرن بها على الضيوف والحضور.
هتف الملك هاروت مرحّباً ثانية بالملك لقمان ومرافقيه:
"أهلاً وسهلاً. كم نحن سعداء برؤية محيّاكم وتشريفنا بزيارتكم".
فقال الملك لقمان:
"نشكر جلالتكم لحسن الاستقبال والحفاوة البالغة التي أحطتمونا بها"
"إننا يا جلالة الملك نعتذر لتقصيرنا في القيام بواجبات التقدير التي تليق بمقام جلالتكم. فجدّنا سامحه الله لم يخبرنا بقدوم جلالتكم إلاَّ في اللحظات الأخيرة قبل وصولكم!"
"إذن أنتم أحفاد جلالة الملك إبليس؟"
"أجل جلالتكم، نحن أحفاده. استوطنّا هذا الكوكب منذ ملايين السِّنين، وتكاثرنا عليه وأقمنا مدننا تحت مياهه!"
"هل أفهم من هذا أنّ عمر جلالتكم يقدّر بملايين السِّنين؟"
"بالطبع جلالتكم! إلى درجة أنني لم أعد أعرف كم عمري بالضبط؟"
"وكم يكون عمر جدّكم إبليس في هذه الحال؟"
"عمر جدّنا لا يمكن تقديره بيسر فقد يتجاوز المائة مليون عام!"
ضحك الملك لقمان وهو يهتف:
"لم يخبرني أنّه كهل إلى هذا الحد!"
"لأنّه لا يشيخ، لذلك لم يخبر جلالتكم"
وأطرق الملك لقمان لحظة وفكرة رهيبة تأخذ طريقها إلى مخيّلته:
"هل يُعقل أن يكون الشّيطان هو الله وهو لا يعرف، أم أنّه يعرف لكن تواضعه يجعله يتجاهل هذه الحقيقة؟! أو لعلّه إله من مجموعة آلهة تقف وراء الخلق، هذا خلق الكواكب والنجوم، وهذا خلق الماء والهواء، وهذا خلق الكائنات الحيّة؟!"
وخرج من إطراقته ليسأل الملك هاروت:
"هل في مقدور جلالتكم أن تخبرونا عن قصّتكم على هذا الكوكب أيّها الملك، إذا لم يكن في الأمر ما يكدّركم؟"
"بكل سرور جلالتكم"
"تفضّل أيّها الملك"
"قبل أن يخلق جدّنا إبليس العظيم الإنسان، كُنّا قد تكاثرنا على كوكب الأرض، وحين خلق جدّنا آدم وحوّاء وشرعا في التكاثر، فاض كوكب الأرض بنا وبالإنس، فجمعنا جدّنا وأبلغنا أنّ الأرض لا تتسع لنا وللإنسان والحيوان والنّبات، وعلينا أن ننزل إلى مياه المحيطات والبحار لنستوطنهما، وهكذا انتقلنا من اليابسة لنقيم في أعماق البحار والمحيطات، وشرعنا في إقامة مدننا وقرانا هُناك. وكانت أكبر هذه المدن مدينة جدّي التي ما تزال قائمة إلى جانب غيرها من المدن تحت مياه المحيط، ويقيم فيها مع أبنائه.
فقاطعه الملك لقمان متسائلاً:
"هل حقاً ما يزال الملك إبليس يقيم في مدينة تحت مياه المحيط على كوكب الأرض؟!"
"طبعاً جلالتكم، ألم يخبركم بذلك؟"
"لا، وإن عرفت من قصّته أنّه أول من أقام على الأرض وأنشأ الحياة عليها، وعمل فيها معكم، لقد شوّقتني لمشاهدة هذه المدينة أيّها الملك"
"يمكننا أن ننزل إلى الأرض في أي وقت تشاءَون جلالتكم، خاصّة وأننا متلهفون لرؤية جدّنا وجدّتنا، وإن كانا غاضبين علينا!"
"يُمكن أن نفعل ذلك في المستقبل إذا ما أُتيح لنا، أمّا الآن فلا أشعر برغبة في العودة إلى الأرض لأغوص تحت مياه الأطلسي أو الهادي!"
"لن تكون الرّحلة شاقّة على جلالتكم"
"ومع ذلك أفضّل أن نؤجّل هذه الرِّحلة لأن أمامي مشاكل ليس لها أوّل من آخر، أكمل لنا القصّة إذا أمكن"
"غير أنّ كوكب الأرض فاض بالبشر ثانية وكذلك نحن في أعماق البحار، فجمعنا جدّي وقال لنا":
"لقد أثقلنا على الأرض وبدأت تشكو كثرتنا، السماوات تعجُّ بالكواكب الصالحة للحياة، فليأخذ كل ذكر وأنثى منكم ذكراً وأنثى من الإنس، وليصعدا بهما إلى كوكب ذي ماء وهواء ويباس، وليصحب كل زوجين معهما، ما يستطيعان اصطحابه من حيوان وطير ونبات، وهناك اعملوا معاً وتناسلوا جميعاً وتكاثروا"
فانتقى من بين أحفاده مليون ذكر وأُنثى، وراح كلُّ زوج ينتقي زوجاً من الإنس، وما رغب من حيوان وطير ونبات ويصعد بهم إلى كوكب، فتفرّقنا على نصف مليون كوكب في السّماوات كُلّها"
"كان هذا الكوكب من حظّي وحظ الملكة ماروت. لم نكن متزوّجين بعد، ولم نكن ملوكاً وإن كُنّا ملائكة، وكذلك لم يكن الإنسيّان اللذان اصطحبناهما معنا من الأرض، فتزوّجنا أربعتنا في يوم واحد، وشرعنا معاً في العمل والتناسل والتكاثر، وكُلّما كثر نسلنا كُلّما توسّعنا في الأرض، وبعد قرابة عشرين مليون سنة فاضت الأرض بنا وبالإنس، فانتقلنا لنقيم في أعماق المحيطات تاركين الأرض للإنس لمحبّتنا لهم"
وشرع الملك هاروت يتنهّد بلوعة وأسى، ثم تابع:
"ومنذ ذلك الزّمن، أجل جلالتكم، منذ ذلك الزّمن السَّحيق ونحن نقيم في أعماق البحار والمحيطات، ولا نخرج إلى اليابسة إلاَّ متنكّرين أو مخفيين، فقد اتّسعت الهوّة بيننا بعد أن انقلب علينا الإنسان الذي خلقه جدّنا وجعلنا نملكه الكواكب، ونشقى ملايين السّنين من أجل سعادته وتطويع الأرض لسلطانه! انقلب علينا واعتبرنا أعداءَ ه، بعد أن كُنّا مُحبّيه والساهرين دوماً على أمنه وسلامته.
وهذا ما جرى لكُلِّ إخوتنا وآبائنا وأجدادنا في الكواكب كُلّها، فعزلنا أنفسنا نهائياً عن الإنس، بعد استفحال العداء والحقد والكره تجاهنا، وبعد أن أخذت اللعنات تطرق أسماعنا كل لحظة. عزلنا أنفسنا لنقيم في الأعماق أو على بعض الكواكب المنعزلة والبعيدة عن كواكب الإنس."
إن أكثر ما يحزنني يا جلالة الملك، الحال التي يحياها جدّي تحت وطأة هذه اللعنات الفظيعة، إن مأساتنا لهيّنة إذا ما قُورنت بمأساته، فنحن لا نسمع إلاَّ اللعنات التي تنهال علينا من الكوكب الذي نقطنه، أما هو فيسمع اللعنات كُلّها وفي أي مكان وزمان. فتصوّر جلالتكم كم هي فظيعة مأساة جدّي، إنّه لا يعرف إلى النوم الهادئ سبيلاً، حين سمعت أنَّكم وعدتموه بإصلاح الأمور وإعادة كُلُّ شيء إلى نصابه، وإظهار الحقيقة فرحت كثيراً، ورحت أشكركم من أعماق قلبي"
تساءَل الملك لقمان:
"ألا تخبرني جلالتكم كيف انقلب الوضع رأساً على عقب وغدوتم أشراراً بعد أن كنتم أخياراً، وأصبحتم ملعونين ومكروهين بعد أن كنتم محمودين ومحبوبين؟"
"بدأت المشكلة جلالتكم حين بدأ الإنسان يفكّر في سِرّ الخلق وما خلف الوجود، مديراً ظهره لما ورثه عنّا من مفاهيم تتلخّص في أن الله واحد لا شريك له، وهو من خلق الكون والسَّماوات والكواكب والنّجوم، وهو من خلق الماء والهواء والملائكة، أمّا جدّنا إبليس، فقد خلق من أديم الأرض: النّبات، ثمَّ الحيوان، ثمَّ الإنسان، خلقهم على الأرض، ومن ثمَّ فرَّقهم على الكواكب كُلُّها. وقد آمن الإنسان لملايين السّنين بإلهنا الذي لا إله غيره قبل أن يبدأ رحلة الارتداد، ويعبد الشَّمس والقمر والنّجوم، وهو يبحث عن إله يُرى بالعين، بعكس إلهنا غير المرئي والذي لا يمكن أن يُرى لأنّ وجوده كُلّي.
المؤسف أنّ الشّقاق طالنا نحن أيضاً نتيجة أفعال الإنسان هذه، فأصبح بيننا من يسمّون أنفسهم "الجن الأخيار" الذين يكرهنا بعضهم ويلعننا بعضهم، لأننا في نظرهم أشرار.. وقد انساق هؤلاء "الأخيار" خلف آلهة الإنسان عبر العصور وعبدوها، فاستعبدهم الإنسان وأذلّهم، على أيّة حال تبقى لعنات هؤلاء وكرههم لنا، مسألة لا تستحق الذّكر مقارنة بما يفعله الإنسان"
ونظر الملك لقمان نحو ملك الملوك وهو يبتسم، فيما الملك هاروت يتابع:
هكذا بدأ الناس ينشقّون عنّا ويفرّقون بيننا، لنغدو جنّاً وشياطين بعد أن كُنّا ملائكة، وأصبح اسم جدّي الشيطان إبليس بعد أن كان الملاك إبليس، وكُلّما حاولنا إعادة الناس إلى الصّواب كُلّما أمعنوا في العداء لنا، إلى أن غدونا في نظر البشر جميعاً مُضلِّلين عن الحق، وعصاة! وحين رأى جدّي أن الإنسان غرق في الضّلال والإلحاد وراح يعبد آلاف الآلهة عبر العصور، ارتأى أن نتركه وشأنه، وألاّ نتدخّل في شؤونه، غير أنّ جدّي لم يتوقّف عن التّوسُل إلى الله من أجله، لعلّه يسامحه ويثنيه عن الضّلال ويهديه إلى الرّشد!"
"المؤسف جلالتكم أننا تركنا الإنسان لنفسه غير أنّه لم يتركنا لأنفسنا، وظلَّ يُلاحقنا بلعناته، فكُلّما ظهر دين جديد جاء بشيطانه، وإذا كان مفهوم الإله يتغيّر بين دين ودين، إلاّ أنّ مفهوم الشيطان ظلَّ على حاله، لتظّل اللعنات تلاحقنا، وليمعن الإنسان في الاعتقاد أنّ الشُّرور والآثام والمصائب التي تحلُّ عليه أو تحدث معه، هي بفعلنا، أو نتيجة لتضليلنا له. والحق إننا لم نعد نساعد الإنسان، ففتكت به الأمراض والأوبئة وكوارث الطّبيعة، وراح ينساق حول ما يرسمه خياله وتقوده إليه نفسه، ليظنّ أننا نحن من يضلله، ونحن من ينزل عليه الكوارث.
وظلَّ الأمر كما هو عليه أيّها الملك، ويبدو لي أن الإنسان في حاجة دائماً إلى من يُلقي بالمسؤوليّة على كاهله، وللأسف لا يجد غيرنا! فإن ألحَد أو قتل أو زنى أو سرق أو اغتصب، أنحى باللائمة علينا، وما أسهل أن يرتكب الفاحشة متذرّعاً بغواية الشيطان، ليهتف بعد ذلك بالجملة السّحرية التي تريح الضمير وتخلّص النّفس "لعنة الله على الشيطان!" وقد يدعم ذلك بصلاة في المعبد، وطواف حول البيت الإلهي، ليعود طاهراً مُطهّراً من كل سوء!"
وراح الملك لقمان يضحك مبدياً إعجابه بهذا التأويل الهاروتي للمسألة الشيطانيّة، حتّى إنّه ثنّى عليه هاتفاً:
"تصوّر جلالتكم لو لم تكونوا موجودين كشياطين فعلى من سنلقي تبعة أخطائنا، وكيف سنتخلّص من أوزار آثامنا وتبكيت ضمائرنا؟!"
"حقاً جلالتكم، هذه هي مأساتنا من بدايتها إلى نهايتها"
"ماذا عن كوكب يأجوج ومأجوج، هل حقّاً أنّ جلالتكم هو من قام بمسخه إلى حيوانات؟!"
تنهّد الملك هاروت من أعماقه وأطرق للحظات ثمَّ هتف:
"أجل جلالتكم، لو حدّثتكم عن معاناتنا على هذا الكوكب منذ أن صعدنا من الأرض لما صدّقتم، لم يعد أولادُنا وأحفادُنا ينامون الليل لكثرة اللعنات التي تطرق أسماعهم، لقد وصل الأمر بأبناء هذا الكوكب أن عملوا حُفرة في كل مدينة وبلدة، يلقوننا فيها كل يوم ويرجموننا بالحجارة، بحيث لم يبق شغل للناس إلاَّ رجمنا، إذ يتوجّب عليهم القيام بذلك، قبل الذّهاب إلى العمل وبعد العودة منه، قبل الزّواج وبعد الزّواج، قبل الحمل وبعد الحمل، قبل الصلاة وبعد الصَّلاة، قبل ارتكاب أي إثم وبعد ارتكابه! قبل النوم وبعد الاستيقاظ، خاصّة إذا ما رأى النائم حُلماً سيّئاً أو كابوساً فظيعاً! نُرجم ليلاً نهاراً واللعنات تنهال على رؤوسنا مع كل رمية حجر، وكُلّما امتلأت حفرة بالحجارة أُفرغت لنرجم ثانية وثالثة.. لم يعد أحدٌ مِنّا يحتمل. ظهرنا لهم في الحقول، في المراعي، في المنامات، لنؤكّد لهم أننا لسنا من يقودهم إلى الشّرور والآثام، لسنا خلف زندقتهم وجرائمهم، ولسنا من أجدبَ أرضهم وأتلف مزروعاتهم وأهلك مواشيهم وأصابهم بالأوبئة، دون جدوى!
بدأ بعض أبنائي وأحفادي يصابون بالجنون لكثرة ما يسمعون من شتائم، ومع ذلك احتملت كي لا أُغضب جدّي الذي أوصانا بالإنسان حين جعلنا نصعد به إلى الكواكب.
وذات ليلة سمعنا صُراخ طفلتي الصّغيرة في السَّرير، هرعنا إليها. كانت تطبق بيديها على أذنيها وتصرخ بجنون، وعبثاً حاولنا أن نسكتها أو نهدئ من روعها، وظلّت تصرخ إلى الصَّباح، لم أعد أحتمل، اصطحبت الملكة وذهبنا إلى عاصمة الكوكب، وأرسلت بعض أبنائي وأحفادي إلى المدن والقرى المختلفة، وطلبت إليهم أن يمسخوا السُّكان إلى حيوانات، وأن لا يبقوا على أحدٍ دون مسخ، وقمت أنا والملكة بمسخ الملك ووزيره وكل سُكان العاصمة.
غضب جدّي عليّ ولعنني من الأرض، فبلغت لعنته مسامع أذنيّ قال لي:
"لعنتي ولعنة الله عليك، لِمَ فعلت ما فعلت بالإنسان الذي أوصيتك به؟"
قلت له: "لقد تجاوز كُل الحدود يا جدّي"
فقال: "حتّى لو فعل ذلك كان يجب ألاّ تمسخه، إن كنت تسمع بعض اللعنات فأنا أسمع ما لا يمكن أن يوزن بالكواكب لو قدّر له أن يوزن، ومع ذلك لم يخطر لي أن أقدم على فعلتك!"
وما أغضبه منّي أكثر، أنني قلت له:
"يبدو أنّك اعتدت على اللعنات يا جدّي، أمّا أنا فلم أعتد ولم أعد أحتمل!"
فقال لي: "لن أرضى عنك إلاَّ إذا أعدت من مسختهم إلى طبيعتهم الإنسانيّة"
فلم أُذعن له وما زِلنا مُتخاصمين، لذلك اقترحت على جلالتكم أن نذهب لزيارته لعلّكم تفلحون في الصُّلح بيننا، أخبرني بقدوم جلالتكم بلهجة غاضبة وطلّب إليَّ إكرام جلالتكم وتلبية جميع طلباتكم"
قال الملك لُقمان:
"لا عليك أيّها الملك، كُلُّ شيء يُمكن أن يُصَلّح"
فقال الملك هاروت بصوت متهدّج:
"إكراماً لجدّي ولجلالتكم سأعيد سُكّان الكوكب إلى حالتهم الإنسانيّة"
وأجهش الملك هاروت بالبكاء وكأنّه يستسلم إلى قدر لا مَفرَّ منه، ويقبل بأن تظل اللعنات تنصبُّ عليه وعلى أبنائه وأحفاده على أن يظلَّ جدّه غاضباً عليه ولا يلبّي رغبات ضيفه.
وراح الملك لقمان يربت على ظهره مواسياً وأسئلة لا تجد أجوبة تدور في مُخيَلته "كيف يمكن لكائنٍ أن يجمع بين كل هذه القوّة، وكل هذا الضعف، إذا جاز أن يُسمّى هذا ضعفاً، وكيف لا يستطيع الشياطين إقناع البشر بعدالة رؤيتهم للخلق والوجود، وهم بكل هذه القوّة؟!"
وراح يطمئن الملك هاروت:
"اطمئن أيّها الملك" بإذن الله لن يُلعن أحد منكم بعد اليوم، وآمل ألاَّ يمر زمن طويل قبل أن أتمكّن من إظهار الحقيقة، وأعيد الأمور إلى نصابها في الكواكب كُلّها"
"إن كنتم تفضّلون جلالتكم أن أُرسِل الآن من يُعيد أبناء الكوكب إلى طبيعتهم سأفعل"
وفوجئت الملكة نور السَّماء بالملك يهتف بما لم تتوقعه، لتيقن تماماً أنّه تغيّر عن ذي قبل.
"لا أيّها الملك، لي معهم حساب، ولن أسمح بأن يعودوا إلى طبيعتهم إذا أصرّوا أن يبقوا على ضلالهم"
"سنكون ممتنين لجلالتكم مدى حياتنا إذا ما تمكنتم من إقناعهم بالعودة إلى جادة الصَّواب"
"هل ما زالوا يعبدون الشمس والقمر أيّها الملك؟"
"لا جلالتكم، إنّهم يعبدون الملك كممثل للإله على الكوكب!"
"أي إله أيّها الملك؟"
"إله السَّماء!"
"وما هو مفهومهم لإله السَّماء هذا؟"
"إنه هو السَّماء، وهو خالق كُل شيء، وأنّ الملك على الكوكب في أيّ زمن هو ممثله والمطبّق لتعاليمه فهو على اتّصال دائم به!"
"هل هذا يعني أن الملك الحالي ليس الممثل الوحيد لإله السَّماء؟!"
"لا جلالتكم، هذا الممثل الثامِن عشر، وهو حفيد السلالة الملكيّة!"
"هل الكوكب موحّد؟"
"وُحّد منذ الملك الأوّل"
"كيف؟"
"بالسّيف، فقد حوّل كل شعب كان يحتلّه إلى جيش، إلى أن سيطر على الكوكب كُلّه، فأبقى على ثلث سُكّان الكوكب كجيش دائم، وجعل الباقين يعملون كعبيد، وظل هذا النّظام سائداً إلى اليوم"
"قلت جلالتكم أنّ الناس يعملون كعبيد؟"
"أجل جلالتكم، فالأرض كُلّها للملك، والناس كُلّهم عبيد للملك، ولا يأخذون من محصول الأرض إلاّ ما يفيض عن حاجة الملك وجيوشه، ومن يخرج على طاعة الجيش كأنّه خرج على طاعة الملك والإله فيرجم بالحجارة حتّى الموت!"
فقال الملك لقمان:
"أرأيت أيّها الملك كيف تُخلِص الشّعوب للآلهة والملوك ولا تلعنهم، بل ولا تجرؤ على مجرّد التفكير في ذلك؟!"
وأدرك الملك هاروت ما يرمي إليه الملك لقمان، فقال:
"نحن جلالتكم، وحسبما قال لنا جدّي أننا ملائكة، وأنّ الله أنزلنا إلى الأرض لا لنكون ملوكاً بل عاملين ومكدّين. وحين خلق جدّنا الإنسان لم يخلقه ليعبدنا، بل العكس، إنّ جدّي هو من سجد له، وأوصانا برعايته وعنايته وخدمته، لذلك لا يمكننا أن نُكرهه على ما لا يريده، بل وليس من طبيعتنا ولا من تكويننا أن نُكرِه كائناً على ما لا يُريد أو نُسيء إليه، لقد تعاملنا مع الإنسان وفق القيم الأخلاقيّة التي زرعها الله فينا كملائكة، والتي كانت سائدة بين الملائكة، وما أقدمت أنا عليه مع الإنس يُعتبر شاذَّاً، وها أنا أتراجع عنه.
صحيح أن ثمّة بين الجن من خرجوا على هذه القيم لكن هذا لم يحدث إلاّ بعد ملايين السّنين وبعد أن قُسّمنا إلى طوائف من الشياطين والمردة والجن، مع أنّ هذه الفوارق ما تزال غير محددة، لأن الجميع يعودون إلى أصول ملائكيّة، وليس في مقدور أي جنّي الآن أن يجزم أنّه شيطان فقط أو جنّي فقط، أو مارد فقط، كذلك لم يعد أحد يجزم أنّه ملاك! لذلك راح معظمنا ينصّبون أنفسهم ملوكاً على طوائف الجن التي تناسلت منهم، وكان آخر من توّج نفسه ملكاً على قومه هو جدّنا إبليس!
إن أيّة طائفة من الجن جلالتكم تقبل بأي إنسي مهما صَغُر شأنه أن يكون ملكاً عليها، ولا يقبل أي جنّي أن يكون ملكاً على إنس إلاّ إذا نصّبه إنسي، وهذا ما لم يحدث حتّى الآن!"
كان الملك لقمان قد تحوّل بكل جسده إلى آذان راحت تصيخ السَّمع إلى ما يقوله الملك هاروت كلمة كلمة ليتشرّبها جسده كالشَّهد، وتتلقفها أذناه كأنغام أو كحكم أو كأيّ شيء ربّاني. وحين توقّف الملك هاروت عن الكلام ظلَّ الملك لقمان ساهماً إليه بعينين مشدوهتين والأسئلة تصطرع في مخيّلته، فقد توقّع كل شيء، إلاّ أن يكون الشياطين مقدودين كُليّة من طينة إلهيّة خيرانيّة لا وجود لنوازع الشرّ فيها على الإطلاق، ولهذا يتقبلّون كل ما يحدث لهم ويصبرون عليه بجلدٍ ربّاني، إن كان سيولاً من اللعنات التي تلوكها الألسن وتقذفها الأفواه لتقض مضاجعهم، أو كان سجناً يدوم لثلاثة آلاف عام داخل قمقم!
"يا إلهي ألهذا هُزموا في الأرض، والكواكب وتحوّلوا إلى ملعونين وأعداء؟ وألهذا أيضاً هزم الله في الأرض وفي كلِّ الأماكن وعبر كُل الأزمنة وأصبح يُلعن باستمرار كما يُلعن الشيطان، ليضِلَّ الجميع عنه، أو يعبدوا آلهة غيره؟! وألهذا أيضاً قد تواجه يا لقمان المصير ذاته؟! يا إلهي! لا! هل حقَّاً سأواجه مصيرك أنت والملائكة ولن تجدي الفضيلة شيئاً؟!!"
وخرج الملك لُقمان عن صمته ووجومه، ليهتف بصوت خالجته الرَّيبة:
"لا! لا! مستحيل! مستحيل! مستحيل!"
أدركت الملكة أنّ النّوبة قد جاءَ ته، فسارعت إلى إراحته في الأريكة، فيما وقف الملك هاروت والملكة ماروت وملك الملوك والأميرات وأحاطوا به.
كان قد أغمض عينيه واسترخى في الأريكة وهو يردد كلمة "مستحيل" بصوت رتيب راح ينخفض شيئاً فشيئاً إلى أن توقّف، والملكة ما تزال تربت على كتفه دون أن تتكلّم وتشير إلى الملوك والأميرات ألاَّ يتكلّموا.
فتح الملك لُقمان عينيه بهدوء ليرى بعض ملامح الوجوه من حوله ووجه ملك الملوك في مواجهته، وحين التقت عيونهما تساءَل ملك الملوك بصوت خفيض لا يخلو من حُزن:
"مولاي أرجوك أخبرنا ما هو المستحيل؟"
فهتف الملك لقمان بصوت منهك بعد صمت قصير:
"ألاّ ينتصر الخير بالخير، ألاّ تنتصر المحبّة بالمحبّة، ألاّ تنتصر العدالة بالعدالة، وأن لا ينتصر الله بالله"
ولأوّل مَرّة حاول ملك الملوك أن يكون حكيماً فقال:
"الظّلام لا يتبدد إلاّ بالنور يا مولاي!"
فقال الملك لُقمان:
"والنور لا يُطمسُ إلاّ بالظّلام أيّها الملك، لا النور يُلغي الظّلام، ولا الظّلام يُلغي النور!"
فأحجم ملك الملوك عن الكلام.
* * *

حَلَّ الظّلام في أعماق البحر، فأُنيرت الأقمار والقناديل والنّجوم التي تضيء فضاء المدينة السُّفليَّة! وقد دعا الملك هاروت الملك لقمان ومرافقيه إلى وليمة في أعماق المحيط.
قادهم إلى الرّوض الذي سيُقام فيه الحفل عبر أحياء المدينة التي بدت قلاعها وقصورها آية من آيات الجمال، بأبراجها المتعددة وشرفاتها ذات الأقواس وقناديلها وأقمارها ونجومها المضيئة المُشعّة، متعددة الألوان والأشكال، التي كانت تعوم فوق المدينة وبين الأحياء المائية.
وكانت الصُّخور والزّهور المرجانيّة والنّباتات والورود ذات الأشكال البديعة المختلفة تمتد على جانبي الطّريق الذي سلكوه إلى الرّوض، فيما كانت حوريّات البحر تسبح أمامهم ومن فوقهم، مبديات براعة فائقة وهن يرسمن بأجسادهن لوحات جماليّة أخّاذة تسحر العقول.
وبدت الأميرة دليلة وقد أُصيبت بالذّهول، فدنت من الأميرة نجمة الصَّباح وسألتها كيف يسيرون في الماء بملابسهم وأحذيتهم دون أن يبتلّوا ودون أن يشعروا بالماء، فقالت لها، أنتِ في عالم جنّي ساحر لا يُمكن إلاّ لمن أبدعه وسوّاه بأن يعرف كيف تجري الحياة فيه. وكيف يتم التحكم بعوالمه. وتأبّطت دليلة يد ملك الملوك وألقت رأسها على كتفهِ وغرقت متمتّعة بعالم الأحلام هذا. وحين دخلت إلى الرَّوض الذي سيقام فيه الحفل أيقنت أنّها في جنّة الجنائن كُلّها، وأن عمرها سيطول هذه الليلة ألف عام على الأقل!
وكان الرّوض مُقاماً وسط الماء الرّقراق ولا يسوّره إلاّ سلسلة من الجروف الصخريّة الخلاّبة التي كانت ترتفع تدريجياً لتحيط به من كل الجهات، وقد انتصبت خلف سلسلة أُخرى منخفضة من الحيوانات والصخور المرجانيّة، والنّباتات والزّهور البحريّة، التي انتظمت في أشكال نحتيّه وهندسيّة، أو انبثقت منها تكوينات بديعة، وقد امتدّت الموائد على أرضيّة الأعماق بين تماثيل للملائكة والبشر والحوريّات، ومنحوتات صخريّة ومرجانيّة ونباتات وزهور فائقة الجمال، ووقفت بين الموائد وفي أماكن مختلفة من الرّوض مئات الحوريّات بلباسٍ أبيض شفّاف، فيما كانت بعض الطّيور والأسماك وذبائحِ الخِراف والجداء المسفودة تُشوى على النار وسط الماء، فلا الماء يطفئ النار ولا النار تؤثّر على الماء!
وكان الرّوض بلا سقف، وقد زيّنته آلاف القناديل العائمة في الماء والتي كانت تدور حول نفسها وحول بعضها ضمن مدارات محددة دون أن يصطدم واحدها بالآخر. وكانت بعض حوريّات البحر يسبحن فوق هذه القناديل في أسراب وأشكال بديعة.
وما أن دخل الملك لقمان ومرافقوه الرّوض حتّى انبعثت ألحان موسيقيّة كونيّة عذبة وانطلقت من أفواه التنانين التي كانت تربض في الجروف الصخريّة المحيطة بالرّوض، آلاف الأسهم الناريّة الملوّنة التي أحالت أعماق البحر إلى عالم من الأساطير الساحِرَة، وهي تتناثر في أعالي الماء منطلقة من كل الاتجاهات لتكلّل الرّوض بأنوارها المشعّة المتعددة الألوان، وما لبثت أن شرعت في التجّمع لتنتظم في تشكيلات تشبه كلاماً مكتوباً، لتنجلي بعد لحظات راسمة في الماء ثلاث كلمات كبيرة توهّج منها شعاع نوراني، "الله، الكمال، الفضيلة"!
وراحت الكلمات الثلاث تطوف الماء متلألئة بهالتها النّورانية دون أن تتلاشى.
وكان خيال الملك لُقمان يطوف في غياهب الوجود متمثّلاً الله حين خاطبه الملك هاروت:
"تفضّلوا جلالتكم"
فجاهد الملك لقمان ليكبح جماح خياله ويجلس على المائدة.
جلست الملكة ماروت بينه وبين الملك هاروت فيما جلست الملكة نور السّماء إلى جانب الملك هاروت لتجلس إلى جانبها الأميرة ظل السَّماء" فالأميرة نجمة الصَّباح، وجلست الأميرة دليلة إلى جانب الملك لقمان وإلى جانبها جلس ملك الملوك، وجلس في مواجهتهم بعض بنات وأبناء وأعوان الملك هاروت، وتفرّق باقي المدعوين على الموائد المختلفة.
كان الماء الذي يجلسون فيه ويشمل منطقة الرّوض كُلّها صافياً شفافاً بحيث كانوا يرون كُلَّ ما يحيط بهم حتّى حدود الرّوض حيث الجروف الصخريّة. وكانت مئات الأسماك الذهبيّة والفضيّة والحمر والصُّفر وذات الألوان المختلفة الصغيرة ومتوسّطة الأحجام تطوف بينهم وفوق الموائد وتحتها وبين المنحوتات والتكوينات المرجانيّة والهياكل الكلسيّة البديعة، دون أن تؤثّر عليهم وشرعوا في تناول الشّراب والمقبّلات الخفيفة وكأنهم ليسوا في الماء الذي لم يكن يختلط بطعامهم وشرابهم، رغم أنّ الكؤوس وأطباق الطّعام كانت مكشوفة على الموائد، غير أنّها لم تكن مبتلّة.
وكانوا يتنفّسون ويتحدّثون ويأكلون ويشربون دون أن يدخل الماء إلى أفواههم وأنوفهم، ودون أن يبلَّ أجسامهم وملابسهم، وكانوا يستمعون إلى الأصوات وأنغام الموسيقى، ويتمتعون بكل شيء حولهم وكأنّهم في الهواء الطلق وليسوا تحت الماء.
سأل الملك هاروت الملك لقمان عمّا إذا كان يفضّل إبعاد الماء عن الرّوض ورؤية السَّماء والأقمار والنّجوم فأجاب بالنّفي مشيراً إلى أنّه رأى السماوات الدُّنيا كثيراً وأنّه الآن سعيد برؤية سماء سُفليّة!
أطفِئت أنوار مقدّمة الرّوض للحظة ثمَّ أُنيرت بأضواء ملوّنة أرسلت شعاعاً متقاطعاً راح يتماوج مع حركة خفيفة في الماء، لتنجلي للأنظار ستون حوريّة من أجمل حوريّات البحر يقفن في منتصف المسرح المائي وهن يرسمن بأجسادهن المنحنية وأياديهن الممدودة حركة ترحيب واحترام. ضجّ الحضور بالتصفيق وانبعثت موسيقى راقصة شرعت الحوريّات في الرّقص على أنغامها، لينقسمن إلى مجموعات ويرسمن بأجسادهن أشكالاً متعددة، ويؤتين حركات رياضيّة وبهلوانيّة إعجازيّة.. وما لبثن أن نزلن على رؤوسهن إلى الأعماق وصعدن رأساً على عقب إلى أعلى ليتباعدن وينثنين ليتقاربن، راسمات بأجسادهن زوايا قائمة فحادّة فمنفرجة فمستقيمة. يثنين سيقانهن ويتكوّرن على أنفسهن كالأجنّة لينطلقن في كل الاتجاهات.
يضممن سيقانهن أو يفتحنها، يشكّلن دوائر وأهرامات، ويرسمن وروداً ونجوماً، يشبكن أيديهن أو أرجلهن، يمددن أيديهن يميناً وشمالاً، أعلى وأسفل، يطابقن رؤوسهن تارة وأخماص أقدامهن تارة وركبهن تارة أُخرى، يجمحن بأجسادهن كخيول تتأهب للسّباق، وينطلقن كظباء تعدو في السُّهوب. يقلّدن سباحة الدّلافين وعوم الأخطبوط.
وأنهين وصلتهن بأن شكّلن خمسة أنساق يعلو واحدها الآخر ويتأخّر عنه قليلاً، وقد حنين أجسادهن إلى الأمام في زوايا قائمة وهنّ يشبكن أيديهن.
كانت الموائد تغصُّ بالمقبّلات المنوّعة من الخُضار واللحومات المختلفة، وقد قاوم الملك لُقمان رغبته الشديدة في تناول اللحوم المشويّة المشهيّة التي اعتاد تناولها بمتعة، ونجح في ذلك بصعوبة بالغة حين تمثّل صُراخ الحيوانات والطيور في الغابة، والأسماك والمائيّات في البحر، وكم حاول الملك هاروت والملكة ماروت والملكة نور السَّماء وملك الملوك أن يثنوه عن عزمه حين تنبّهوا له لا يقدم على تناول اللحوم، لكن دون جدوى، وراح يتمنّى على الملك هاروت وقومه ألاّ يصطادوا الظّباء بعد اليوم لأنّه أجارها هو والملكة نور السَّماء، فوافقه الملك هاروت وأعلن لقومه تحريم لحوم الظّباء.
وقد أحرجت فعلة الملك لقمان جميع الضّيوف والموجودين، فأحجم بعضهم عن تناول اللحوم مراعاة له أو تضامناً معه، فيما راح بعضهم يختلسون الطّعام خلسة، مما وضع الملك لقمان في موقف حرج للغاية، فراح يرجو الجميع أن يأكلوا وشرع في التهام طبق من الخضار كي يثير شهيتهم إلى الطّعام، غير أن معظمهم لم يمدّوا أيديهم إليه. وفوجئ الجميع بالملك لُقمان يطبق فمه على لقمة من الطّعام ويغمض عينيه ويضع يده على جبينه ويصمت ليسند ظهره إلى المقعد ويجهد ليخلو إلى نفسه.
عرفت الملكة أنّ النوّبة ستأتيه ثانية فتركت مكانها وهرعت لتقف خلفه وتطوّق رأسه بيديها وتضمّه إلى صدرها وتلقي رأسها عليه.
ابتلع الملك لقمان اللقمة التي كانت في فمه بصعوبة، وأمسك بيده اليُسرى يد الملكة نور السَّماء فيما ظلّت اليمنى على جبينه، وقد شرع صوت يهتف في دخيلته مؤنّباً:
لِمَ يا لقمان؟ لِمَ يا روحي تريد أن تسمو بالفضيلة إلى ما هو أبعد من حدود الله، حدودي، بل إلى ما هو فوق الله، فوقي؟!"
وانفجر الملك لقمان يبكي نفسه وهو يقلّب رأسه يميناً وشمالاً على صدر الملكة جاهداً لأن لا يردّ على الصوت الذي يهتف في دخيلته، غير أنّه لم يكن قادراً على ذلك، فراح يصرخ في أعماق نفسه، ورأسه يتقلّب على صدر الملكة ووجهه يختلج بالغضب والألم والدّموع:
"لا! هذا ليس صوتك، وليس هذا أنت! أي إله هذا الذي يرضى بأن تُزهق أرواح بريئة، أهذه هي فضيلتك؟ إنيّ أكفر بك وبفضيلتك إن كنت أنت الله حقاً!!"
وراح الملك يهزُّ رأسه بشدّة في حضن الملكة التي راحت تُداريه بكل حنانها والدّموع تنزلق من عينيها، فيما كان الصوت يهتف في أعماق نفسه هادئاً واثقاً مطمئناً لما يقوله:
"لِمَ التسرّع يا لقمان، لم تكفر بي أيّها الرّوح الحبيب البارّ؟ فهذا لحمي يا لقمان! هذا الذي تأكله هو جسدي، إن كان لحماً وإن كان نباتاً، إن كان شواءً وإن كان خبزاً، وهذا الذي تشربه دمي، إن كان ماءً وإن كان خمراً!! وإن كنت لا تصدّق أنني أنا ربّك، فانظر إلى اسمي فوقك في الماء كيف سيتلاشى!"
وفتح الملك لُقمان عينيه ونظر إلى أعلى لتتلاشى الكلمات الثلاث واحدة بعد الأُخرى، تبعثرت الشّظايا النارية التي تشكّل أحرف كلمة "الفضيلة" أوّلاً وتلاشت، ثمَّ تلتها كلمة، "الكمال" ثمَّ كلمة "الله".
صرخ الملك لقمان بأعلى صوته وهو ينفجر باكياً من جديد، والملكة تطوّقه بكل كيانها، والملوك ينهضون من مقاعدهم دون أن يعرفوا ماذا في مقدورهم أن يفعلوا:
"لا! لا! مستحيل، مستحيل، مستحيل!"
وما لبث أن أخذ يهدأ شيئاً فشيئاً ليهتف بصوت خفيض وهو يُغمض عينيه ويطبّق كفيّه أمام وجهه:
"سامحني يا إلهي، سامحني يا إلهي، سامحني يا إلهي، إنّي أستغفرك وأتوب إليك، سامحني يا إلهي"
فهتف صوت الله في نفسه:
"هيّا يا لقمان، مُدّ يدك إلى لحمي، وخذ قطعة من جسدي، لترى اسمي يتلألأ ثانية في الماء!"
ومَدّ الملك لُقمان يداً مُرتجفة إلى طبق من السَّمك، والدّموع تملأ وجهه، وأخذ قطعة صغيرة من اللحم، وما أن وضعها في فمه ولاكها، حتّى ارتسمت أسماء الله ثانية في الماء، وراحت تتلألأ بهالتها النورانيّة:
"الله، الكمال، الفضيلة!"
أعاد الملك لُقمان مطابقة يديه أمام وجهه وإغماض عينيه، وأدرك جميع المدعوين كنه الصّراع الرّهيب الذي كان يضطرم في نفسه، فأطبقوا أيديهم أمام وجوههم، وأغمضوا عيونهم وصَلّوا بصمت.
* * *

تبادلت الملكة نور السَّماء المكان مع الملكة ماروت لتظل إلى جانب الملك لقمان، فقد تبيّن له أنّه غير قادر على مفارقتها حتّى لو لم يفصل بينهما إلا حجم مقعد! وأن وقوفها معه واحتضانها له ومواساته خلال نوباته يُطمئنه على أنّ ثمّة من يرعاه ويعتني به فيما لو جرى له شيء، بل وثمّة من يعينه ويحفّزه على التَّواصل مع الله.
عاد جو الحفل إلى طبيعته وغرق الضّيوف في تناول الطّعام والشّراب، فيما كان الملك لُقمان يحتضن يد الملكة ويقبّلها بين فترة وأُخرى.
همست:
"لِمَ تعذّب نفسك يا حبيبي؟"
"هذا ليس عذاباً يا حبيبتي"
"ما هو إذن؟"
"حالة تواصل مع الله أحتاج إليها كُلّما تعرّضت إلى محنة أو عجزت عن إدراك ظاهرة"
"لكنك تتألّم كثيراً خلال ذلك يا حبيبي"
"أجل، لأن الصّراع الذي يدور في دخيلتي لم يحسم بعد"
"لكني ألمس أنّك حققت معجزات خارقة على طريق التَّواصل مع الله"
"ومع ذلك أجد نفسي عاجزاً عن تفسير بعض الظّواهر، وإدراك الحقيقة المطلقة للوجود الإلهي"
"وهل يمكن الوصول إلى الحقيقة المُطلقة يا حبيبي؟"
"أعتقد أنَّ الله هو الحقيقة المطلقة، وإذا ما تمَّ الوصول إليه تمَّ الوصول إليها"
"وكيف يمكن الوصول إليه؟"
"بالفضيلة، والمعرفة، والتجربة، والتبصّر، وإحكام العقل، والسَّعي الدائب للتوحّد بالذات الإلهيّة"
"وهل تعتقد أنّ هذا ممكن يا حبيبي؟"
"أجل لأن الله يسعى إلى من يسعى إليه"
"هل أحسست بأنّه يسعى إليك يا حبيبي؟"
"أجل يا حبيبتي، فهو من هاتفني أوّلاً مُعنّفاً إيّاي لعدم تناولي اللحوم"
"ما لا أفهمه، كيف أقنعك بتناول اللّحوم وأنت عنيد كما عرفتك"
"لأنّه ليس هُناك مفرٌ يا حبيبتي"
"كيف يا حبيبي؟"
"لا أستطيع أن أقول لك يا حبيبتي لأنّك لن تصدّقي، ولا أظن أن معشر الجن والإنس سيصدّقون إذا ما عرفوا ما قيل لي، إنّي أدرك كل يوم لماذا الوجود الإلهي المُطلق أكبر وأعقد وأصعب من أن يدركه جميع الناس بحواسهم وعقولهم، بشكل محسوس أو بشكل مجرّد، بطريقة ماديّة أو بطريقة روحانيّة، فهو مجرّد بقدر ما هو مجسّد، وهو مجسّد بقدر ما هو مجرّد! ويبدو لي أن مشكلة الفكر الروحي والمادي أنّهما فرّقا بين الرّوح والمادّة، وراحا يتصارعان حول من كان أوّلاً الرّوح أم المادة، ومن جاء من الآخر، وهل وجود هذا مستقل عن وجود ذاك أم لا، ليخلص الرّوحيون إلى أسبقيّة وجود الرّوح الذي هو جوهر غير مادّي مستقل بذاته، بل ويسمو على المادّة، وهو من خلق الوجود بما فيه، وليخلص الماديّون إلى أسبقيّة المادّة وانبثاق الرّوح منها، أو عدم انبثاقه، وبالتالي عدم وجوده".
"وأنت ماذا تعتقد الآن بعد أن كنت ماديّاً صرفاً يا حبيبي؟"
"الآن أعتقد يا حبيبتي أن المادّة هي الروح والروح هي المادّة، والفصل بينهما مسألة عبثيّة، وقد وجدا معاً في آن واحد، ومنهما جاء كُلّ شيء وصار كُلّ شيء"
وتساءَ لت الملكة بذكاء:
"يبدو لي أنّك إضافة إلى تجربتك الماديّة – الرّوحيّة" إذا جاز لي أن أسميّها كذلك، أفدت كثيراً من حوارك مع رجل المعرفة "شاهل بيل" على كوكب الزّهرة"
"بالتأكيد يا حبيبتي، وأعجبني كثيراً إطلاقك على تجربتي اسم الماديّة – الرّوحيّة!"
"وهل ستستدل على الحقيقة المطلقة عبر هذا الطّريق المادي الرّوحي؟!"
"وأظن أنني قطعت ثلث الطريق إن لم يكن أكثر!"
"وهل ستظل مصرّاً على ألاّ تقول لي كيف أُقنعك الله بالعدول عن عدم تناول اللحوم؟"
"أخاف أن تسخري مِنّي يا حبيبتي، وهذه مسألة تزعجني!"
"لِمَ تعتقد ذلك يا حبيبي وأنت تعرف أنني مؤمنة بك وأحبّك، وأنني مؤمنة بالوجود الإلهي ولست كما كنت أنت، رغم أنني عايشت مئات الآلهة الذين تبيّن أنهم لم يكونوا فعلاً آلهة؟!"
وضمّها الملك إليه وقبّل شعرها الخرنوبي وراح يعتذر إليها، ثم قال:
"هاتفني الله مؤنّباً يا حبيبتي، بعد أن كفرت به لإتاحته قتل وافتراس وذبح الحيوانات وأكل لحومها، قال:
"لم التسرّع يا لقمان، لم تكفر بي أيّها الرّوح الحبيب البارّ، فهذا لحمي يا لقمان، هذا الذي تأكله هو جسدي، إن كان لحماً وإن كان نباتاً، إن كان شِواء وإن كان خبزاً، وهذا الذي تشربه دمي إن كان ماء وإن كان خمراً، وإن كنت لا تصدّق أنني أنا ربّك فانظر إلى اسمي فوقك في الماء كيف سيتلاشى".
وفوجئ الملك لُقمان بالملكة تجهش بالبُكاء وتلقي رأسها على حُضنه وتهتف عبر الدّموع:
"وفيما هم يأكلون، أخذ يسوع الخبز وبارك وكسَّر وأعطى التَّلاميذ وقال، خذوا كُلوا، هذا هو جسدي، وأخذ الكأسَ وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلكم لأنّ هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا"
كان الملك لقمان قد أخذ يحتويها بين ضلوعه، وهو يلقي رأسه على رأسها ويشرع في البُكاء متعجباً من حفظها لهذا الإصحاح من الكتاب المقدّس طوال ألفي عام، فيما كانت هي تهتف عبر دموعها:
"لم أؤمن بإله من الذين عرفتهم إلاّ بيسوع المسيح، ولم أُحبُّ إلهاً بقلبي غيره، لكني كنت متخوّفة مِن أن أبوح لك بذلك وأنت في ذروة إلحادك، وحين أخذت تحسَّ بالله وتدركه وتتصل به، بدأت أراه فيك، حدث ذلك أوّل مَرّة وأنت تحمل "نسمة" وتطوف بها فوق جهنّم داجون، مستنهضاً القوى الإلهيّة والجنيّة والإنسيّة، وتخوّفت أيضاً أن أصارحك بذلك!"
ووضع الملك لقمان سُبّابته على فم الملكة، لأنّه لم يكن قادراً على الكلام، ولم يكن يريدها أن تذكّره أكثر بآلام يسوع، ولم يكن يود أن تقول له ما تراه فيه، لأنّه لا يرى نفسه كذلك! فتحاضنا بجسديهما ليلتحما في عناق حار وتوحّد ربّانيّ!
* * *

ظهرت على المسرح المائي فرقة بالية كبيرة من الحوريّات والشّباب تضمُّ قرابة ألف راقص وراقصة، وشرعت في الرّقص على أنغام الموسيقى لتشد الأنظار إليها، وفيما كانت الفرقة ترقص قدمت مجموعة من الدّلافين بسرعة ووقفت على أعقابها في الماء وراحت تؤتي حركات توحي بالرّعب، منذرة بخطر ما.
أخذ معظم الرَّاقصين يتجمّعون بحركات راقصة وقد بدا الذّعر على وجوههم، فيما انطلق الآخرون برفقة الدّلافين ليتوغّلوا بعيداً في الماء ويعودوا بصحبة جيشٍ من الحيتان.
اصطفت الحيتان في مواجهة الرّاقصين وفتحت أفواهها فشرعت الرّاقصات في الدّخول إلى بطونها والاختباء فيها!
انقلبت الحيتان على ظهورها واستقامت بشكل عمودي في الماء وراحت تؤتي حركات راقصة لتشقّ الماء بزعانفها الكبيرة، وما لبثت أن عادت إلى وضعها ليمتطيها الرّاقصون ويقفوا على ظهورها ويشرعوا في أخذ أوضاع قتاليّة دفاعيّة متسلّحين بالسّيوف والرّماح والدّروع مستطيلة الشكل، فيما راحت الدّلافين تتراجع لتأخذ أماكن لها خلف الجيش.
أقبل جيش من التّنانين العملاقة يذرع البحر طولاً وعرضاً.
كان لكل تنّين سبعة رؤوس ضخمة وجناحان وذنب أفعى وثمانية أرجل لها مخالب أسد!
توقّف جيش التّنانين في مواجهة الجيش الآخر لينبري تنّين من بين التّنانين ويتقدّم ليرقص بين الجيشين مؤتياً حركات توحي بالقوّة الهائلة، فانبرى له حوت يقف عليه عشرة محاربين راحوا يستعرضون سيوفهم ورماحهم ودروعهم وهم يقفزون عن ظهر الحوت تارة ويعودون إلى ظهره تارة أخرى، فيما كان الحوت بدوره يقوم بحركات عنيفة تظهر قوّته الهائلة.
أخذت حركات الطّرفين تزداد عُنفاً، وكان واضحاً من حركات التنّين أنّه يريد حوريّات البحر وإلاّ لا بُدَّ من الحرب، فلم يذعن المحاربون له، فعاد التّنين ليأخذ موقعه في صفوف جيشه فيما عاد الحوت بالمحاربين.
شرعت التَّنانين في إطلاق آلاف الكُرَات الناريّة من أفواهها الكثيرة نحو جيش الحيتان والمحاربين، فشكّل الرّاقصون بدروعهم سدَّاً راحت الكُرات تصطدم به لتسقط في أعماق البحر وتنطفئ. وتابعت التّنانين إطلاق كُراتها على دفعات إلى أن نفدت دون أن تؤثر على السَّد المنيع الذي أقامه المحاربون بدروعهم، فشرعت التّنانين في التقدّم لتلتحم مع جيش الحيتان، فأبعد المحاربون دروعهم وشرعوا في قذف الرّماح دفعة بعد دفعة نحو جيش التّنانين، ليصيبوها في أماكن مختلفة من أجسامها، غير أنّ ذلك لم يحدّ من تقدّم التّنانين فتابعت تقدّمها والرّماح مزروعة في أجسادها ودماؤها تنزف في البحر، فأشهر المحاربون سيوفهم وتقدّموا على ظهور الحيتان ليلتحموا مع التنانين في معركة ضارية وينهالوا على رؤوسها وأعناقها الطّويلة بالسّيوف، فيما كانت الحيتان تنهش أطرافها من أسفل.
فتك المحاربون بمئات التّنانين التي راحت تهوي إلى أعماق البحر متخبّطة بدمائها، فيما انهزمت التنانين الأخرى وولّت الأدبار.
ألقى المحاربون أسلحتهم في البحر ونزلوا عن ظهور الحيتان وشرعوا يرقصون رقصة النّصر على أنغام الموسيقى المرحة، وراحت الحيتان تقذف بالحوريّات من بطونها ليخرجن من أفواهها وهن يرقصن تحيّة للمحاربين، راسمات بأجسادهن تكوينات في غاية الجمال.
أخذت جروح التّنانين تلتئم فيما راحت الرؤوس والأرجل والأذناب المقطوعة تنهض من أعماق البحر لتلتحم بأجسادها، ولتشرع التّنانين في الرّقص.
ضجّ المحتفلون بتصفيق حار فيما كان الرّاقصون يتقدّمون إلى واجهة المسرح على دفعات منتظمة حسب فئاتهم وينحنون تحيّة واحتراماً للضيوف.
* * *

عُزفت موسيقى راقصة فشرع المحتفلون في الرّقص، ودنت فتاة من الملك هاروت وطلبت منه شيئاً، فأشار بحركة من يده وإذا بالماء يأخذ في الانحسار والتَّراجع شيئاً فشيئاً إلى ما وراء الجروف المحيطة بالرّوض، لتتراجع معه الأسماك والحيتان والدّلافين والتّنانين وحوريّات البحر، ولتظل القناديل سابحة في الفضاء، ليتحوّل الروض إلى جزيرة في وسط البحر، ولتنجلي السَّماء بنجومها وأقمارها البديعة للعيون، وأشار الملك هاروت إلى الماء ليندفع في شلاّلات من أعالي الجروف.
نظر الملك لقمان والملكة نور السَّماء إلى السَّماء ليريا أجمل سماء شاهدها حتّى حينه، كان يحلّق فيها أربعة عشر قمراً بدراً في اتجاهات مختلفة، وآلاف النّجوم التي ارتسمت في تكوينات جماليّة أخّاذة.
أشار الملك هاروت بحركة من يده لتنطفئ إنارة القناديل كُلّها وليستمر الحفل تحت سحر الإنارة السّماويّة.
استمر الحفل إلى ما بعد الفجر، وأمضى الملك لقمان ومُرافقوه ليلتهم في ضيافة الملك هاروت والملكة ماروت، ونظراً لأنّهم كانوا متعبين، فقد ناموا إلى وقت مُتأخّر من النّهار. وبعد تناول طعام الغداء رافق الملك هاروت والملكة ماروت الملك لقمان والملكة نور السَّماء إلى الكوكب الممسوخ، وقد اصطحبت الملكة نور السَّماء معها دلفينين وبعض الأسماك ووضعتها في مسبح المركبة!
اصطحب الملك هاروت الملك لقمان إلى الحُفرة الكبيرة في المدينة التي كان الشيطان يرجم فيها، كانت الحُفرة دائريّة الشكل، ويبلغ قطرها قرابة خمسين متراً، ومحاطة بسور حجريٍ منخفض، وكانت ممتلئة بالحجارة، وقد انتشر حولها مئات الكلاب والقطط والحمير والخنازير وغيرها من الحيوانات الممسوخة التي كانت بشراً.
تساءَل الملك لُقمان وهو يرنو إلى الملك هاروت:
"من أين جاء الناس هذا الاعتقاد أنّهم إذا ما رجموا الحجارة في هذه الحُفرة قاموا برجمك ورجم الشياطين كُلّها؟"
فقال الملك هاروت:
"هم يعتقدون أن الشياطين موجودة في كل مكان حتّى في بيوتهم، ويمكن أن تحلَّ في أجسام بعض النّاس، وقد تستوطن دماءَ هم ونفوسهم، وأنَّ لعنتهم تبلغ أسماع الشياطين من أي مكان، أمّا الرَّجم، فقد اختاروا مكاناً يمارسون فيه عملاً جماعياً آملين التأثير الفعّال على الشياطين والتخلّص منها نهائياً!"
فقال الملك لقمان:
"ألم يسألوا أنفسهم أنّهم لم يتخلّصوا من الشياطين رغم كل ما فعلوه؟"
"لكنهم لم يقطعوا الأمل، وهم يعتقدون أن الشياطين تتناسل مثل البشر ومهما قتلوا منها فإنّها ستظل موجودة ويظل الصِّراع مستمراً، إنّما بحدّة أقل إذا ما استطاعوا التخلّص من أكبر قدرٍ منها!"
"وهل كانوا يعتقدون أنّهم يقتلون بعض الشياطين فعلاً أم أنّهم يطردونها ويبعدونها فقط؟"
"فيما يتعلّق بالرجم، كان يعني قتل الشيطان، أمّا اللعنات فكانت تعني الطرد والتخلّص فقط!"
وراح الملك لقمان يعتذر إلى الملك هاروت:
"سامحني أيّها الملك، فقد لعنتكم أنا أيضاً في صغري!"
فضحك الملك هاروت:
"وماذا تشكّل بضع لعنات أمام سيول الشّتائم التي تنهال علينا، ثمَّ إنَّ لعنات جلالتكم، كانت من كوكب الأرض، فلم تكن تبلغ إلاَّ أسماع جدّنا إبليس والقاطنين معه في مملكته السُّفلية، وجدّنا كما تعرف يُسامح الجميع، فقلبه كبير كقلب الله!"
وتلقفت أسماع الملك لقمان الجملة الأخيرة لترددها مخيّلته "فقلبه كبير كقلب الله"! "أجل كقلب الله! فالشيطان إذن ليس من طينة إلهيّة خيرانيّة فحسب، بل هو صُنو للإله أيضاً وقلبه مثل قلبه! وهو موجود حسب اعتقاد الناس في كل مكان حتّى في الجسد والدّم والنّفس، ويعيش حياة أبديّة، فماذا سيكون "إذن" إن لم يكن هو الله؟ ولِمَ يُصرّ الشياطين على أنّهم ليسوا آلهة وأنّهم يعبدون إلهاً واحداً لا إله غيره؟!"
وأخرجه صوت الملك هاروت من هواجسه:
"هل تحبّون جلالتكم رؤية قصور الآلهة ومعابدهم أم تفضلون رؤية مدينة القبور؟"
"قلت مدينة القبور أيّها الملك؟"
"أجل، وهي أغرب ما يمكن أن يراه المرء على الكوكب!"
"لعلّها من عجائب الكوكب السبع؟"
"بل هي العجيبة الأهم!"
"سأكتفي برؤيتها إذن"
وطاروا جميعاً بضعة أميال ليهبطوا في مدينة كبيرة من الأهرامات أُقيمت في سهل فسيح، توسّطها ثمانية عشر هرماً كبيراً تقدّم كُلَّ واحد منها تمثال ضخم للإله الذي دُفن فيه، وأُقيم إلى جانبيها مئات الأهرامات الصغيرة والتماثيل، وكانت أسراب الحيوانات المختلفة الممسوخة تُقيّل في ظلالها، بما في ذلك الملك الذي مُسِخ ديناصوراً.
قال الملك لقمان:
"كنت أظن أنّ أهراماتنا هي الأهرامات الوحيدة في الكون لأجد أنّها لا تكاد تُذكر أمام هذه المدينة الأهراميّة! هل قصور الآلهة ومعابدهم بهذه الضّخامة أيّها الملك؟"
"القصور ليست بهذه الضخامة لأنهم يرون أن الحياة فيها فانية، أمّا المعابد فهي أقرب إلى القبور منها إلى القصور لأنّها تُعتبر الطريق إلى الحياة الخالِدة في القبور"
"ولذلك يبنون قبوراً يمكن أن تدوم لآلاف السّنين؟"
"أجل جلالتكم، فالموت عندهم يعني الانتقال إلى حياة أُخرى خالدة"
"وكم عدد الذين شاركوا في بناء هذه المدينة أيّها الملك؟"
"ملايين من البشر"
"الملايين يبنون قبوراً كالقصور لكي يحيا الملوك الآلهة فيها حياتهم الأبديّة، والبشر من يبني لهم، أو لعلَّهم لا يخلّدون في حياة أخرى؟"
"ليس للبشر إلاَّ الآلام جلالتكم، فلا يجدون من يصبّوا عليه جام غضبهم غيرنا"
"سحقاً لها من حضارة كم هي بائسة"
وتساءَل الملك لقمان وهو يرنو إلى التماثيل الضخمة والأهرامات هائلة الارتفاع:
"ولماذا الأهرام الكبيرة ثمانية عشر وليست سبعة عشر حسب عدد الآلهة الذين حكموا الكوكب؟"
"الهرّم الثامن عشر للملك الحالي، فكل ملك يبني قبره قبل موته، وثمّة عشرات الأهرامات الصغيرة للمقرّبين من الملك أيضاً، تنتظر موت من أقاموها!"
أخذت الحيوانات تهرب من أمامهم وهم يتقدّمون من الهرم الكبير المُعد للإله.
كان الإله الذي مُسخ ديناصوراً يُقيّل إلى جانب الهرم وإلى جانبه زرافة ضخمة، هربت الزّرافة بضعة أمتار فيما ظلّ الديناصور جاثياً في مكانه، وبدا أنّه ليس مكترثاً لأحد.
تساءَل الملك لُقمان:
"أهذا هُو الملك الإله أيّها الملك؟"
"أجل أيّها الملك، ويبدو أنّه يظن أن ساعته دنت منذ أن مُسِخ فجاء إلى قبره"
"أمر مؤسف ألا يجد من يدفنه في القبر وهو ديناصور! ومن تكون تلك الزّرافة التي هربت؟"
"إنّها الملكة"
"وهل هي إلهة أيضاً؟"
"لا ملكة فحسب!"
"ولِمَ لمْ تمسخها ديناصوراً مثلَه أيّها الملك؟"
"كانت تشتمني أكثر منه، وشاركت النّاس في رجمي أكثر من مَرّة‍!"
"وهو؟"
"هُوَ لم يرجمني ولا مَرّة، وقليلاً ما كان يلعنني"
"غريب، هل تعرف السبب جلالتكم؟"
"ربّما لأنّه كان يدرك في قرارة نفسه أنني أقوى منه ومن الإله الذي يجسّده على الأرض، وربّما كان يشكُّ في إلهه"
"حبّذا لو نسأله عن ذلك بعد مشاهدة الهرم، أتعتقد أنّه يعرف جلالتكم الآن؟"
"لا، لأنّي لم أظهر له في هذا الشّكل من قبل، ويعرف أنني أغيّر شكلي حسبما أريد"
كان التمثال الضخم الذي يتقدّم الهرم قد نُحت من صخرة هائلة الحجم كما يبدو، وكان له رأس إنسان وجسم ديناصور وقوائم ثور وجناحاً رُخ ودبّة ومخالب أسد.
أبدى الملك لقمان إعجابه بالتمثال وبالحِرَفية الفائقة التي تجلّت في نحته، وبالمقدرة على الخلق لدى النّحاتين الذين عملوا فيه.
"هل يشبه رأس التمثال رأس الإله فعلاً أيّها الملك؟"
فقال الملك هاروت:
"إنّه نفسه أيّها الملك، وإن كان النَّحاتون جمّلوه أكثر مما هو في الواقع"
وانصرفوا ليدخُلوا إلى الهرم عبر باب حجري ضخم ويصعدوا درجاً حلزونياً عريضاً انتهى بهم إلى قاعة صخريّة لا تقلُّ مساحتها عن ستّين متراً مُربّعاً نُحتت في جدرانها تماثيل للملك الإله وأفراد أسرته، وقد حُفر القبر في منتصف القاعة، وبدا أن مساحته لا تقل عن اثني عشر متراً، وقد حُفرت أربع مقصورات في جدرانه لوضع الحُلي والجواهر التي سيصطحبها الإله إلى الدار الآخرة، وكان ثمّة تابوت حجري ملقى في القبر نُحِت بشكل متقن ليأخذ شكل وحجم الإله، إضافة إلى بلاطة كبيرة أُسندت إلى حافة القبر.
تساءَلت الأميرة دليلة عن سِر هذه الحضارة التي تُلغي البشر ولا تهتم إلاّ بالآلهة والملوك، فأجابها الملك لقمان:
"وهل كانت الحضارة الداجونيّة أفضل يا دليلة؟ معظم الحضارات السائدة والبائدة لم تسعَ إلاّ لتخليد الآلهة والملوك، حتّى على كوكب الأرض، ولم تخلّف لنا إلاّ المعابد والقبور والكنائس والمساجد والمدرّجات والمُدن الملكيّة والحصون"
"ولم هذه البلاطة يا مولاي؟"
"إنّها غطاء القبر يا دليلة، أم أنّك تريدين أن يظل قبر الإله دون غطاء"
"لكن ثمّة غطاء للتابوت، وإذا كان يؤمن بحياة بعد الموت فكيف سيخرج من القبر بوجود هذه البلاطة الكبيرة فوقه؟!"
"فعلاً سؤالك وجيه! ربّما يوجد من سيرفع له البلاطة!"
"بالعكس يا مولاي، أعتقد أنّهم يرون في الموت بحد ذاته حياة أبديّة وداخل القبر وليس خارجه!"
"ها أنت تنجلين عن فيلسوفة يا دليلة، ورأيك هذا ممكن أيضاً. وممكن أيضاً أنّ الروح وحدها هي التي تخرج من القبر بينما يظل الجسد فيه"
"وهذه الصخرة كيف تمكّنوا من رفعها إلى منتصف الهرم تقريباً؟
"أنا شخصياً لا أعرف يا دليلة ربّما يعرف الملك أو الملكة"
فقالت الملكة ماروت:
"الصخرة لم ترفع لأن قاعدتها في الأرض والهرم مُقام عليها، وقد تمَّ نحتها وحفر القبر فيها وهي في مكانها"
"أرأيتِ يا دليلة؟ ثمّة صخرة في بلدي أيضاً لم تُرفع وأقيم عليها قبّة ذهبيّة وهي في مكانها"
"وهي منحوتة أيضاً مثل هذه؟"
"لا لا، صخرة طبيعيّة لكن يوجد تحتها كهف، استراح فيه النّبي محمّد قبل صعوده إلى السَّماء، وعندما نهض ليصلّي ارتطم رأسه بالسَّقف، فخسف الله السقف فوق رأسِه ليتم صلاته، وما زال الخسف قائماً في الكهف حتّى اليوم!"
"ولهذا قُدّست الصخرة وأُقيمت عليها القُبّة؟"
"ولأن النّبي صعد من فوقها إلى السَّماء والتقى تحتها الأنبياء موسى وعيسى وإبراهيم"
"أي سماء؟"
"السَّماء السابعة"
"ولماذا صعد إلى السَّماء السابعة؟"
"يا دليلة، ليقابل الله طبعاً"
"وهل قابله؟"
"طبعاً، وعاد إلينا بالصلوات الخمس، وشاهد الجنّة والنار وشاهد الأنبياء وخاصّة النّبي موسى كثر الله خيره الذي لولاه لكان المسلمون يصلّون خمسين مَرّة في اليوم، ومما شاهده في الجنّة جارية لعساء، أعجبته حين رآها فسألها: لمن أنتِ؟ فقالت: لزيد بن حارثة، فبشره بها بعد عودته، ليحظى في الجنّة، بجمالها اللعساوي بعد استشهاده في معركة مؤته على أيدي الروم!"
"وما دور النّبي موسى في قصّة الصَّلاة يا مولاي؟"
"أوه يا دليلة نحن أدخلناك الإسلام مُنذ أيّام فقط وتريدين من الآن أن تعرفي كل شيء عنه؟"
"أرجوك يا مولاي؟"
"سأحدثك فيما بعد عن الإسراء والمعراج، من أوّله إلى آخره"
وانزعجت دليلة بعض الشيء، فقالت لها الملكة نور السَّماء، أنا سأخبرك عن قصّة موسى والصلوات يا دليلة لكن لا تُلحّي على الملك"
"وهل تعرفينها يا مولاتي؟"
"أنا أعرف كل شيء يا دليلة، وأعرف النبي محمد"
"أرجوك حدّثيني يا مولاتي"
"عندما انتهى الملاك جبريل برسول الله إلى السَّماء السابعة، أسلمه إلى ربّه. ففرض عليه الله خمسين صلاة في كل يوم. ولما مَرَّ الرّسول بالنبي موسى في السماء السابعة، سأله كم فُرض عليه من الصلاة؟ فقال له الرسول خمسين صلاة في اليوم. فقال موسى: إنّ الصلاة ثقيلة وأمّتك ضعيفة، فارجع إلى ربّك، فاسأله أن يخفف عنك وعن أُمّتك، فرجع رسول الله وسأل الله أن يخفف عنه وعن أمّته، فوضع عنه عشراً، ثم انصرف ومَرّ على النّبي موسى وأخبره، فطلب إليه أن يرجع إلى ربّه، فرجع وسأله، فوضع عنه عشراً، فمرّ على موسى، فأعاده إلى ربه، فسأله، فوضع عنه عشراً، ولم يزل موسى يعيده إلى ربّه إلى أن أبقى على خمس صلوات فقط، فمرّ على موسى، فطلب إليه أن يعود إلى ربّه، فقال رسول الله "قد راجعت رّبي وسألته حتى استحييت منه، فما أنا بفاعل"
"فعلاً شيء مُخجل أليس كذلك يا مولاتي؟"
"بالتأكيد، إذ ليس من اللائق أن يطالب النّبي بتخفيف الصلوات الخمس"
"لكن لماذا هذا الإصرار من موسى حتّى بدا وكأنّه لا يريد صلاة أبداً؟"
"ربّما كان يفكّر أن يجعل المسلمين كاليهود!"
فقال الملك لقمان:
"هل بقي لديك أسئلة أُخرى يا دليلة؟"
"سؤال واحد فقط، ولن أسأله لك يا مولاي!"
فقالت الملكة نور السَّماء:
"ما هو يا دليلة؟"
"كم دامت رحلة الإسراء والمعراج؟"
"ليلة واحدة يا دليلة!"
"ليلة واحدة من الأرض إلى السَّماء السابعة والعودة؟"
"أجل يا دليلة"
"يا إلهي والملك لُقمان يطير بهذه المركبة ذات السُّرعة الخياليّة منذ أسابيع وربّما أشهر كما تقولون وحتى الآن لا تظنّون أنّكم تجاوزتم السَّماء الثانية!"
"على الأغلب لم نتجاوزها بعد يا دليلة"
"إذن فسرعة مركبتكم ليست خياليّة يا مولاتي؟"
"وكيف تفهمين السرعة الخياليّة يا دليلة؟"
"السُرعة التي يستغرقها تمثّل المكان الذي سأذهب إليه في مُخيّلتي!!"
ودهشت الملكة لهذه الإجابة التي لا تخطر على البال، فراحت تسأل الملك:
"هل سمعت تفسير دليلة للسرعة الخياليّة؟"
"أجل أيّتها الملكة وأعتقد أن السُّرعة الخياليّة لا يمكن أن تكون غير ذلك، فإذا ما أردت الآن العودة إلى القدس مثلاً سأكون فيها في اللحظة التي يمثل فيها المسجد الأقصى وقبّة الصخرة وكنيسة القيامة في مخيّلتي"
غير أنّ دليلة المندفعة نحو المعرفة بكل جوانحها كما يبدو، سألت السؤال الذي تدور حوله:
"وهل كانت المركبة التي أقلّت النَّبي محمد ذات سُرعة خياليّة؟!"
ولم يعرف الملك لُقمان كيف وجد نفسه يقول لها:
"أجل يا دليلة، كانت ذات سرعة خياليّة، صحيح أنّها لم تكن مركبة بل "بُراقاً" لكنه كان ذا سرعة خياليَّة!"
نزل الملك هاروت وفتح التابوت ليرى ما فيه، فلم يجد فيه شيئاً، لكنه هتف:
"قبر جميل وتابوت أجمل، وقد يُرغّب بعض الناس في الموت!".
فقال الملك لقمان:
"بودّي لو أرى النّحاتين والمعماريين الذين قاموا بهذه الإنجازات الهائلة من أجل إلههم".
فقالت الملكة ماروت:
"هذه مسألة سهلة يمكنكم أن تروهم جلالتكم بعدما نعيدهم إلى طبيعتهم"
"وإذا كانت الوحوش قد افترستهم؟"
"آمل ألاّ يكون ذلك وقد حصل"
ونزلوا من الهرم واتَّجهوا صوب الديناصور، هربت الزرافة مبتعدة، وظلَّ الديناصور جاثياً على الأرض. منحه الملك لقمان القدرة على النطق وحيّاه مسلّماً، فنهض وردّ التحيّة.
سأله الملك لقمان:
"هل تعرف الشيطان الذي مسخّك فيما لو رأيته أيّها الملك؟!"
فاحتج الديناصور على طريقة التخاطب قائلاً:
"عفواً مولاي، أنا إله فإمّا أن تخاطبني بالملك الإله أو الإله؟"
"عجيب أمرك؟ حتى وأنت ممسوخ تصرُّ على ألقابك ومراكزك؟"
"لم يبق لي شيء من هذه الحياة إلاّ ألقابي يا مولاي!"
"وما جدوى الألقاب وأنت ممسوخ؟"
"أفضل من لا شيء يا مولاي"
"وكيف تخاطبني "مولاي" وأنتَ إله؟"
"وضح لي من مقدرتك على منحي النطق واللغة والفهم وأنا ممسوخ، أنك إله عظيم يا مولاي!"
"وماذا لو قلت لك أنّني لستً إلهاً؟"
"يمكن أن تكون الشيطان يا مولاي، لأن ما قمت به لا يقدر عليه إلاّ الله والشيطان!"
"وتعتبرني مولاك حتى لو كنت الشيطان؟"
"أجل يا مولاي فلا طاقة لي على الشيطان!"
"إذن فأنت لا تعرف الشيطان فيما لو رأيته؟"
"الشيطان يظهر بألف شكل يا مولاي وقد يختفي وقد يتلبّسني أو يتسرّب إلى دمي ليمتزج به، فكيف سأعرفه؟"
"ألهذا كنت تخافه ولم تكن تلعنه كثيراً؟"
"أجل يا مولاي"
"لكن ألا يُفترض أن تكون أنت من خلق الشيطان، وبالتالي ستكون أقدر منه بصفتك إلهه؟"
"الذي خلقه جدّي الأوّل يا مولاي ولا أعرف لماذا منحه كل هذه القدرات الخارقة!"
"وأنت ألم يمنحك أجدادك قدرات خارقة؟"
"أنا أتمتّع بقدرات جدّي الأوّل في الحفاظ على وحدة شعوب الكوكب وإخضاعها لعبادة سلالتنا!"
"قويّ! وهل هذه قدرات خارقة؟"
"إن لم تكن خارقة فهي عظيمة!"
"وكم جزر جدّك الأوّل من هذه الشّعوب حتّى وحّدها؟"
"بضعة ملايين يا مولاي!"
"بضعة ملايين فقط؟ هكذا بكل بساطة وكأنّهم فئران، وحوَّلَ الآخرين إلى عبيد أبديين للسلالة، وجعلهم يقيمون المعابد ليتعبّدوا فيها لها؟"
"أجل يا مولاي؟"
"وما هي الذريعة التي غزا جدّك الأوّل على ضوئها شعوب الكوكب ووحدها؟"
"رأى جدّي أن الشيطان خرج عن طاعته وراح يضلل الناس، فسعى إلى تخليصهم من ضلالِه وإعادتهم إلى جادة الصَّواب يا مولاي!"
"أيوه! هكذا إذن! ولِمَ عاد الشيطان إذن إلى تضليل الناس؟"
"الشيطان قوّة لا تُقهر يا مولاي؟"
"وجدّك وسلالته عجزوا عن مواجهته فراحوا يواجهون الناس الضّعفاء حتّى زرعوا العداء للشيطان في أدمغتهم، كان يجب أن تُمسخ جرذاً أو صرصاراً أيّها الإله وليس ديناصوراً، لأنّ الشياطين هم أنت وسلالتك وأجدادك، وإذا ما تخلّص أبناء هذا الكوكب من شيطانيّتكم سيحيون بخير!"
ولم يتفوّه الديناصور بشيء.
نظر الملك لقمان إلى الملكة نور السَّماء، فراحت تجمع الحيوانات والوحوش والقوارض الممسوخة.
أخذت الحيوانات تهرع من كل صوب وتصطف حسب أنواعها في صفوف منتظمة، فيما كان الملك لقمان يدنو من الزّرافة ويسألها:
"وأنتِ أيّتها الملكة، لماذا كنت تلعنين الشيطان وشاركتِ في رجمه؟"
بدت الملكة خجلة بعض الشيء فترددت في الإجابة.
"لِمَ لا تجيبين أيّتها الملكة؟"
"الحقيقة يا مولاي أن الشيطان ضلَّل الملك الإله فعشق وأحبَّ مئات النّساء غيري!"
"وأنتِ ألم تعشقي وتحبّي غيره؟"
"أجل يا مولاي، لقد ضللني الشيطان فيما بعد أنا الأُخرى!"
"ألم تجدي متعة لذيذة في هذا الضّلال أيّتها الملكة؟"
"أجل يا مولاي؟"
"لِمَ رجمتِ الشيطان إذن ولعنتهِ؟"
فأحجمت الملكة عن الكلام، فقال الملك لُقمان:
"أنتِ شيطانة كبيرة أيضاً أيّتها الملكة!"
وألقى الملك لقمان نظرة نحو الحيوانات التي راحت تتجمّع بعشرات الآلاف، وشاهد بين الأسود الوزير الذي خاطبه في الغابة، فأشار إليه أن يقترب منه فجاء ليقف أمامه.
"قلت لي أيّها الوزير أنّك لا تكذب، وأنتم شاهدتم هاروت وماروت وهما ييتّمان الأطفال ويرمّلان النّساء ويفتكان بالمواشي والأغنام ويحرقان الحقول والغابات، أليس كذلك؟"
"أجل يا مولاي"
"هاروت وماروت معنا الآن أيّها الوزير، فهل في مقدورك أن تدلّنا عليهما إن كنت صادِقاً؟"
وراح الوزير الأسد ينظر إلى الملوك والملكات والأميرات دون أن يعرف أحداً، حتّى أنّه قال:
"هؤلاء الذين أراهم بشراً أو ملائكة يا مولاي وليسوا شياطين!"
"بل مُعظمهم شياطين أيّها الوزير"
"لعلّهما تنكرّا يا مولاي!"
"حين رأيتهما يقدمان على جرائمهما، كانا في أي شكل أيّها الوزير"
ونظراً لأن الوزير كاد أن يموت من الرّعب لأنّه يعرف أنه يكذب، فقد أجاب دون أن يعرف ماذا أجاب:
"لم يكونا ظاهرين يا مولاي، كانا مخفيين"
وهذا ما أطار صواب الملك لقمان، فصرخ به بما لم يتفوه به من قبل إطلاقاً:
"يخرب بيتك، ولك يا ابن القحبة شايفني واحد أحمق قدّامك؟"
وأشار بيده وإذا به يتحوّل من أسد إلى فأر كما توعّده في الغابة.
راح الفأر يحبو يميناً وشمالاً وهو يصرخ طالباً الرحمة، متحاشياً أن تطأه الأسود والحيوانات الأخرى التي وجد نفسه بين قوائمها.
صرخ به الملك لقمان أن يعود، فعاد في أسوأ حال ليقف مرتجفاً أمام قدميه:
"هل تعترف لِمَ كنت تلعن الشيطان حتى مسخك، أو أسحقك تحت حذائي؟ أيّهما تفضّل؟"
"سأعترف يا مولاي، أرجوك ألاّ تستحقني"
"هيّا إذن"
"أستميحك عذراً يا مولاي، لقد كنت!"
"كنت ماذا أيّها الفأر؟"
"كنت أحب الغلمان يا مولاي!"
"ولم تجد غير الشيطان لتحملّه أوزار آثامك؟"
"ماذا أفعل يا مولاي؟"
ورفسه الملك رفسة خفيفة بقدمه وهو يهتف "انقلع من وجهي"
ألقت الرّفسة بالفأر بين قوائم الأسود، فراح يصرخ رعباً وهو يحبو بين قوائمها باحثاً عن جماعة الفئران لينضمَّ إليها.
أشار الملك لقمان إلى اللبؤة (زوجته) فدنت:
"وأنتِ هل كنت تحبّين الصَّغيرات؟"
"لا يا مولاي، لم أجد أمامي غير غلمان زوجي فكنت أقضي بعض رغباتي معهم!"
"وهل كنتِ تظنّين أن الشيطان هو من يغويك ويغوي زوجك؟"
"إن شئت الحق يا مولاي فأنا كنت أدرك أن لا وجود للشيطان وأنني أفعل بإرادتي ما أستطيع أن أفعله، ولم أكن أشتم الشيطان إلاَّ لماماً، ولأن لساني درج على ذلك كألسن الناس!"
فقال الملك لقمان:
"يبدو لي من كلامك أنّك صادقة أيّتها المرأة"
وأشار إلى الملك هاروت فأعادها إلى طبيعتها الإنسانيّة لتنجلي عن امرأة فائقة الجمال.
قال الملك لقمان حين رأى جمالها:
"غريب أن يكون لديك كلَّ هذا الجمال ويسعى زوجك خلف الغلمان، أم لعلّك أبيتِ عليه الغلمنة؟!"
فأحنت المرأة رأسها خجلاً وهتفت:
"بل كان يحرثني كيفما يشاء يا مولاي!"
ودنا الملك لقمان من رتل الأسود وراح ينظر إليها واحداً واحِداً وهو يخطو بينها إلى أن دنا من أسد هرِم، فسأله لماذا كان يلعن الشيطان، فأجاب:
"لم ألعنه إلاّ لأنّه يتيح لآلهة مثل آلهتنا أن تتحكّم برقاب البشر!"
"ألهذا السّبب فقط كنت تلعنه؟"
"أجل يا مولاي"
"ما هو عملك؟"
"أنا من قُدّر لي أن أكرّس فنّي لخدمة هؤلاء القتلة!"
"هل أنت نّحات؟"
"أجل يا مولاي، أنا من أشرف على نحت التّماثيل في العهد الحالي، ومن قام بنحت ذاك التمثال الضخم للإله الذي يتقدّم الهرم"
وراح الملك لقمان يربت على لبدة الأسدة وهو يهتف:
"لا عليك أيّها الفنّان الكبير سيتغيّر كل شيء بإذن الله"
وأعاد الملك هاروت الأسد إلى إنسانيّته لينجلي عن رجل عجوز طويل شعر الرأس والذّقن.
خاطبه الملك لقمان:
"ألا تقول لي أيّها النّحات لم جسَّدت في تمثالك كل هذه الرّموز للقوّة والجمال، طالما أنّك تكره الإله الحاكم؟"
"هذه الرّموز مفروضة عليّ يا مولاي لأنّها رموز إلهيّة متوارثة، ومع ذلك جسّدت الظُّلم أيضاً بقدر ما استطعت، وإن كان ظاهر التمثال لا يوحي إلا بالرّوعة والجمال والقوّة!"
"كيف أيّها الفنان؟"
"كُلّما اقتربت من التمثال يا مولاي كُلّما بدت لك مظاهر الرّعب التي كان يمثلها، وكُلّما ابتعدت عنه كلّما بدا لك جميلاً مهيباً، فعن قرب ستكتشف أنّه لا يبتسم كما يتبادر إليك للوهلة الأولى، بل إنّه يزمّ شفتيه ويكزّ على أسنانه داخل فمه، وستراه منقبض الوجه مقطّب الجبين جاحظ العينين، ليبدو عابساً غاضباً ناقماً، لا تخلو نظراته من خبث ولؤم! وإذا ما أُتيح لك أن تصعد إليه وتتملى دبّته ستجد مكتوباً ضمن شعر الدُّبّة "ملعون من لا يلعن هذا السفَّاح!"
وإذا ما نظرت إلى مؤخّرته يا مولاي ستجد البُراز يلوّث تحت ذنبه، كدلالة على قذارته وضعفه وعجزه، مما ينفي عنه القدرة على الخلق وتحقيق العدالة، وقد دللت على ذلك أيضاً برموز أُخرى، فإذا ما أمعنت النّظر إلى ريشه ستجد جناحيه مكسورين، وإذا ما تأمّلت مخالبه ستجد أنّها ليست حادّة، أمّا جسده فمشقق بخطوط صغيرة طولانيّة متعرّجّة ومجعّدة، للدلالة على الهرم وقرب الأجل!"
هتف الملك لُقمان:
"أفحمتني أيها الفنان، أعترف أنني لم ألمُس أي شيء من كل هذا حين وقفت أمام التمثال، لكني فعلاً وقفت بعيداً عنه بعض الشيء لأتمكّن من رؤيته كُلّه، ولا أخفي عليك سِرَّاً إذا ما قلت لك أنّك أدهشتني بقدرتك العظيمة على دس السُّم في الدَّسم، وهذا ما كنت عاجزاً عنه حين كنت أديباً ذات يوم، أُحيي فيك قدرتك على إخلاصِك لفنّك ورؤيتك لواقعك في أحلك الظروف، وتجسيد ذلك حتّى في الفن المفروض عليك.
ذاك هو صديقك الملك هاروت أو الشيطان إن شئت، إنّه ملاك نبيل وليس كما عُرِف عنه، فاذهب إليه وعاتبه على إتاحته لأمثال هؤلاء الآلهة الأقزام التحكّم بمصائر البشر".
وترك الملك لقمان رتل الأسود ومَرّ عن رتل الضّباع فالذِّئاب فالخنازير فالتيوس فالكلاب فالقطط فالأرانب وغيرها من الحيوانات إلى أن توقّف أمام رتل الجرذان، لإدراكه أنّ هؤلاء كانوا يلعنون الشيطان كثيراً، لذلك مسخوا إلى جرذان، فأحب أن يعرف ماذا كانوا يفعلون.
أشار إلى جرذ فتقدّم ليقف أمام حذائه:
"ماذا فعلت حتّى رُحت تلعن الشيطان وترجمه يا مسخ الجرذ؟"
ويبدو أنَّ الجرذ أحسَّ ألاّ مجال للكذب، فقال:
"في الحقيقة، ارتكبت الفاحشة مع بناتي الخمس يا مولاي!"
"الله يلعن أبوك يا شيخ! وكم كانت أعمارهن حين فعلتها؟"
"من صغرهن يا مولاي، كنت أُداعبهن من سن الرّضاعة وما أن تبلغ إحداهن السادسة أو السابعة حتّى.."
"وحين كبرن ماذا فعلت لهن؟"
"أصبحن زوجاتي وأنجبت منهن يا مولاي، وفعلت ببناتهن ما فعلته بهن!"
"الله لا يسلمك أي شيطان أنت؟ وماذا عن زوجتك؟"
"زوجتي كانت تفعلها مع أولادنا يا مولاي!"
"ولعلّها تزوّجت منهم حين كبروا أيضاً؟"
"أجل يا مولاي، وأنجبت منهم ذكوراً وإناثاً، لنفعل بهم ما فعلنا بأسلافهم.. وحين كبرت آثامنا لم يكن أمامنا غير الشيطان نلعنه ونرجمه كل يوم!"
"وما عُلاقة الشيطان بالأمر؟"
"على من سنلقي تبعة آثامنا يا مولاي إذا ليس هُناك أحد غير الشيطان؟!"
والتمعت الهواجس في مخيّلة الملك لُقمان ليطرق متسائلاً في نفسه:
"يا إلهي! هل يلعن الإنسان نفسه حين يلعن الشيطان؟ وهل يرجم نفسه حين يرجم الشيطان؟ ألا يلعن بلعنهِ الشّيطان الآثام التي ارتكبها؟ وحين يرجم الشيطان؟ يرجم الآثام التي ارتكبها، في محاولة يائسة للتخلّص من عذابات الرّوح وتبكيت النّفس؟! وألا يمكن أن يكون هذا، أو يعني أن الشيطان في الأصل هو خطيئتك أنت يا إلهي؟ الإثم الذي ارتكبته فرحت تلعنه وتطلب لعنته لتتخلّص من إثمِك؟! أجبني يا إلهي، هل يكون الشيطان إثماً لا فكاك منه وليس في مقدور أحد الاستغناء عنه طالما وجدت الآثام والخطايا وبقيت؟! أجبني يا إلهي وساعدني على فهمك وفهم عالمك؟!"
وتنبّه الملك لقمان ليد الملكة نور السَّماء تربت على كتفه، فخرج من حالته، أخذ يد الملكة بيده وألقى نظرة على الجرذ أمام قدميه وود لو يسحقه تحت حذائه، غير أنّه عدل في اللحظة الأخيرة ورفسه بقوّة ليطيّره قرابة عشرين متراً!
ولم يعد لدى الملك لقمان أيّة رغبة في معرفة الجرائم التي دفعت هؤلاء القوم إلى رجم الشيطان ولعنه، فراح يخطو أمام أرتال الحيوانات متفكّراً وما لبث أن وقف في منتصف الأرتال أمام صفٍ من الكِلاب وهتف بانفعال:
"اسمعوا أيّها الشياطين. ليس هُناك شياطين على هذا الكوكب غيركم، وثمّة ملائكة جاءوا بأجدادكم إلى هذا الكوكب وعلّموهم سُبل العيش وأعانوهم إلى أن تكاثروا ليملأوا أرضكم، فانتقلوا من الكوكب ليقيموا في أعماق البحار، تاركين لأجدادكم الأرض لينعموا بخيراتها، بعد أن زرعوها لهم بهذه الخيرات. لكن أجدادكم تنكّروا للجميل وضلّوا، وعضّوا الأيدي التي كان ينبغي أن يقبّلوها! وها أنتم تسيرون على الطّريق ذاته، وتلعنون وترجمون من أحسنوا إليكم، وتعزون كل الشّرور والآثام التي ترتكبونها إليهم، وهم من ذلك براء، فأي بشر أنتم؟
ولِمَ ترمون عرض الحائط بكل القيم النبيلة وتسعون إلى ميولكم وأهوائكم وما تسوّله لكم أنفسكم؟ لِمَ لَمْ تسعوا إلى قتل الشرِّ في نفوسكم أنتم أيّها الأشرار؟ لِمَ لم تسعوا إلى الخير؟ ولِمَ لمْ تتضامنوا وتتحدوا لتتخلّصوا من نير العبوديّة الذي يُطوّق أعناقكم منذ ثمانية عشر جيلاً؟ لِمَ لَمْ تقدموا على ذلك؟ ولِمَ رحتم تصبّون جام غضبكم وأوزار آثامكم على هؤلاء الملائكة الذين حوّلهم أجدادكم إلى شياطين؟!
وماذا الآن، هل ستظلّون على غيّكم وضلالكم؟"
وبدت الحيوانات مترددة في الإجابة، فهتف الملك لقمان:
"لماذا لا تجيبون؟"
فقالت طائفة من الأسود:
"لا أيّها الملك، وإنّا لنأمل عفوك ومغفرتك"
فقال الملك بانفعال وهو يشير إلى الملك هاروت والملكة ماروت:
"بل مغفرتهم هم أيّها الشياطين، مغفرة الملك هاروت والملكة ماروت اللذين جاءا بجديكم إلى هذا الكوكب، مصطحبين معهم الحيوانات والنّباتات"
"إنّا نعتذر إليهما ونطلب مغفرتهما وعفوهما أيّها الملك"
"وعليكم أن تسغفروهما وتتوبوا إليهما كل يوم وإلى مدى الحياة"
"سنفعل أيّها الملك"
وأضاف الملك جملة استخدمها لأوّل مَرّة في وسائله العقابيّة التي لم تكن رادعة وقاسية إلى حد كبير من قبل:
"ومن لا يفعل، لا يلوم إلاّ نفسه إذا ما وجد نفسه يعود جرذاً أو فأراً أو حماراً أو حتّى صرصاراً أو دودة أو ذبابة"
"سنفعل جلالتكم، نُقسم أننا سنفعل!"
وأدركت الملكة أنّ الملك لُقمان بدأ يُقيم جهنّمه الخاصّة به.
وتابع الملك لقمان:
"وعليكم أن تطردوا الشياطين من أدمغتكم وقلوبكم وألا تفكّروا بوجودهم، فالشياطين هم أنتم وما تفكّرون، فإمّا أن تكونوا شياطين ملاعين وإمّا أن تكونوا بشراً خيّرين"
"سنفعل أيّها الملك!"
"ولا تلعنوا بعد اليوم إلاّ آلهتكم لأنّهم من تسببوا في شقائكم ومآسيكم"
"سنفعل أيّها الملك"
"وعليكم أن تؤمِنوا بدين هاروت وماروت وتتقيّدوا بتعاليمهما"
"سنؤمن أيّها الملك"
"وإن لم تفعلوا؟"
"ليمسخانا كما مسخانا أيّها الملك!"
ونظر الملك لُقمان إلى الملك هاروت فراح يُشِير إلى الأرتال رتلاً رتلاً ليُعيدها إلى طبيعتها الإنسانيّة، إلى أن طلب إليه التوقّف عند رتليّ الجرذان والفئران، وكان كُلُّ رتل يُعيده الملك هاروت إلى طبيعته يخرُّ ساجداً فيشير إليه بالنّهوض ويطلب إليه عدم السّجود.
خطا الملك لقمان أمام رتلي الجرذان والفئران، وكان الوزير قد اهتدى أخيراً إلى الفئران فانطرح مُنهكاً أمامها، وحين أحسَّ بالملك لقمان يقدم تحامل على جراحه ونهض.
"وأنتم ماذا سنفعل بكم يا مرتكبي أبشع الآثام، على أي شيطان ستلقون أوزار آثامكم بعد اليوم؟"
فراحوا يبكون ويصرخون ويتوسّلون.
"سنعيد إليكم إنسانيّتكم لكني لا أعرف كيف ستكفّرون عن آثامِكم وبأي وجه ستلاقون البشر؟"
فازدادوا بكاءً وعويلاً، فأعادهم الملك هاروت إلى طبيعتهم وهم ما زالوا يبكون، فخرّوا على رؤوسهم ساجدين"
دنا الملك لُقمان من الديناصور والزّرافة:
"وأنتما ماذا سنفعل بكما أيّها الملكان؟"
فقال الملك:
"نرجو مغفرتك يا مولاي"
"هل تقبلان التنازل عن الأُلوهيّة والعرش وأن تكونا بشراً عاديين؟"
"نقبل يا مولاي"
"وأن تكدّا وتكدحا مثل البشر تماماً"
"نقبل يا مولاي"
"وأن تستغفرا الملكين كل يوم عشر مَرّات وتتوبا إليهما عشر مَرّات"
"نقبل يا مولاي"
وأشار إلى الملك هاروت فأعادهما إلى إنسانيتهما. كان الملك الإله بشعاً أمّا الملكة فكانت جميلة بعض الشيء، حاولا أن يسجدا فمنعهما الملك لقمان من ذلك.
وأشار الملك لقمان إلى الملك هاروت ليرسِل أعوانه إلى كافة أنحاء الكوكب ليعيدوا الممسوخين إلى طبيعتهم ويطلعوهم على ما جرى، ففعل في الحال.
كان الفنّان يقف إلى جانب الملك هاروت، فخاطبه الملك لُقمان:
"إلى ماذا توصلتما؟"
"إلى كل خير أيّها الملك!"
"عظيم، ما رأيك بتسلّم السُّلطة على الكوكب أيّها الفنان"
"أخاف ألاّ أعدِل يا مولاي"
"إذا لم تعدِل أنت فمن سيعدِل؟"
"ليس ثمّة ما هو أصعب من أن يحقق المرء عدالة ما!"
"سيكون لك مساعدون وستعمل بإشراف الملك هاروت، لن تكون وحدك"
"ليكن أيّها الملك، وأشكركم لهذه الثقة التي أوليتموني إيّاها"
"يمكنك الاستعانة بزملائك من الفنّانين والمهندسين الذين كانوا يعملون معك وآمل أن تقبل السيّدة زوجة الوزير لأنّها امرأة صادقة، وقد تعينكم على تحمّل بعض المسؤوليّات في الكوكب"
وكانت زوجة الوزير واقفة فتقدّمت وانحنت أمام الملك لقمان وهي تهتف:
"أشكر جلالتكم لهذه الثقة العالية التي لا أستحقها، وأرجو أن تعذروني عن تحمّل أعباء أيّة مسؤوليّة على هذا الكوكب!"
"وماذا ستعملين أيّتها السيّدة؟"
"عندي رغبة آمل أن يحققها مولاي لي؟"
"ما هي أيّتها السيّدة؟"
"أن أكون خادمة مولاي مدى الحياة‍!"
"ليس لديّ خدم أيّتها السيّدة ولا أُحبّذ أن يكون لديّ خدم"
ثمّة بعض الأصدقاء والصديقات والعاملين الأصدقاء أيضاً الذين يُمكن أن يساعدوني إذا ما احتجت شيئاً.
"آمل أن يقبلني مولاي كواحد منهم"
"لكن آنا حتى الآن بلا وطن أيّتها السيّدة وبلا بيت حتّى هذه المركبة التي ترينها في السَّماء ليست لي"
وكم أدهش كلام الملك لقمان الملكة نور السَّماء، فماذا خطر له حتّى تفوّه بهذه الكلمات التي توحي بأنه ما يزال يعتبر نفسه ضيفاً على المركبة، وهو يعي تماماً أنّه سيّدها وسيّد آلاف الملايين من الجن، بل وآلاف الملايين من البشر على الكواكب التي أصبحت تحت سيطرته غير المباشرة!
قالت امرأة الوزير:
"سأقبل بحياة مولاي حتّى لو عاش في العراء!"
"وزوجك أيّتها السيّدة؟"
"وهل أستطيع العيش مع رجل لم يكن يُلبّي رغباته إلاّ الغلمان الصّغار يا مولاي؟"
وأطرق الملك لقمان للحظات فيما الملكة نور السَّماء تلقي بيدها على كتفه:
"ليكن أيّتها السيّدة أهلاً بك!"
وسجدت المرأة لتقبّل رجلي الملك لقمان، فأنهضها بيديه محذّراً إيّاها من فعل ذلك ثانية، سألها:
"أليس لديك أولاد أيّتها السيّدة؟"
وكم فوجئ الملك لقمان حين هتفت:
"أنا ما زلت عذراء يا مولاي!"
ووجد الملك أنَّ الأمر محرج فلم يسألها ماذا كانت تفعل مع الغلمان، لكنه سألها:
"ما اسمك أيّتها السيّدة؟"
"اسمي "أستير" يا مولاي!"
انقبض وجه الملك لقمان قليلاً حين سمع بالاسم، فيما أحسّت الملكة نور السَّماء وكأنّ صاعقة قد ضربت السَّماء فوقها، فها هو القدر الذي صَّممت على مواجهته يُسفر عن وجهه متحدّياً ويشرع في حوك خيوطه منذ الآن وأمام بصرها، ضغطت بيدها على كتف الملك وخاطبته تخاطراً:
"حبيبي، أتوسُّل إليك ألاّ تصطحب هذه المرأة"
فقال الملك لقمان:
"يا حبيبتي كبّري عقلك، فأنا لست أحشويروش، وهي ليست أستير ربيبة مُردخاي بن يائير!"
وراحت الملكة تتوسّل ثانية:
"أرجوك يا حبيبي، لا تدعني أعيش في قلق أكثر من الذي عشته منذ نبوءاتك المرعبة في ليلة التتويج"
"يا حبيبتي لا يعقل أن أتراجع عن كلامي بعد أن وافقت على اصطحاب المرأة، ثمَّ كيف تتصوّرين أن تكون سُلطتي أو حتى حياتي عُرضة للانتهاك من قبل امرأة ضعيفة مثل هذه، وأنا القادر على زلزلة الأكوان؟!"
"لِمَ لمْ تقل لها الحقيقة إذن، لِمَ قلت لها أنّك لا تملك شيئاً؟ ألم تكن متخوّفاً منها، أو ألم ينذرك هاجسٌ ما لكي تبتعد عنها، أو تبعدها عنك بأي شكل، وألا تقع تحت سطوة جمالِها؟!"
"والله لا أعرِف يا حبيبتي لِمَ قلت لها ما قلت، ربّما لأنني تخوّفت من أن تغاري منها، لك عليّ عهد ألاّ أقترب منها"
"ليس المهم عندي أن تقترب منها أو لا تقترب، المُهم ألاّ أفقدك بسببها، وألاّ يفقدك البلايين من الإنس والجن الذين رأوا فيك الأمل، وألاّ يفقدك الله الذي قلت أنّه يسعى إليك بقدر ما تسعى إليه!"
"لا أصدّق أن من يكون حتّى الله معه، يمكن أن يفقد حياته على يديّ امرأة ضعيفة لا تملك من القوّة إلاّ جمالها وسحر عينيها!"
"إذن ستصطحبها رغماً عنّي؟"
"لا أستطيع أن أتراجع عن كلمتي يا حبيبتي"
"شريطة أن تضعها تحت إشرافي"
"أُوافق على ذلك يا حبيبتي، وأرجو ألاّ تنزعجي منّي!"
وانقطع الحوار التخاطري الذي أحسَّ به الجميع حتّى أستير. أجل حتّى أستير أحسّت أنَّ ثمّة شيئاً ما يجري وسط هذا الصمت الذي خيّمَ على الجميع لبعض الوقت، لكنها لم تعرف ما هو، وإن أبصرت انفعالات متباينة ترتسم على وجهي الملك والملكة خلال هذا الصمت!
هتف الملك لقمان مخاطباً أستير:
"هذه زوجتي الملكة نور السَّماء، ستكون هي المسؤولة عنك، وستعملين تحت إشرافها"
فانحنت أستير أمام الملكة وهي تهتف:
"لكم يُسعدني أن أكون خادِمة مخلصة لمولاتي"
وراح الملك لقمان يتحدّث إلى النّحات وسأله عن اسمه فأخبره أنه "سنمّار" فأبدى الملك لقمان إعجابه بالاسم وتمنّى ألاَّ يحدث له ما حدث لسنمّار المعماري، وأخبره بقصّته، ومن ثمَّ أشار إليه بتحويل القصور والمعابد على الكوكب إلى مسارح ودور للثقافة والعلم. أمّا عن الهرم المُعد لدفن الإله فقد أشار إلى جعله مدفناً له وللمهندس الذي أشرف على بناء الهَرم، وإلى من يريدان أن يدفن معهما، أمّا باقي الأهرامات الصغيرة الأخرى فقد أشار إلى أن تكون مدفناً للفنانين والمهندسين، وأشار عليهم بحلِّ الجيش وإلغاء العبوديّة وتوزيع أراضي الكوكب على الفلاّحين حسب عدد أفراد الأسرة، وطلب إليه الاستعانة بالملك هاروت والملك حامينار لتطبيق النّظام الجديد على الكوكب.
وأعلن الملك لقمان أن ساعة الرّحيل قد زُفت، فدنا منه الملك هاروت وانتحى به جانباً، ليهديه ثلاث كلمات سحريّة سريّة إذا ما ردّد إحداها حققت له ما يُريد في المكان الذي هو فيه، وإذا ما ردّد اثنتين تحقق له كل ما يُريد في الكوكب الذي هو فيه، وإذا ردد ثلاثتها تحقق له كل ما يُريد في الأكوان كُلّها، وطلب إليه ألاّ يُطِلع أحداً عليها أو يمنحها لأحد حتّى الملكة نور السَّماء، وألاّ يقوم بكتابتها فهي ممنوعة من الكتابة. وحين سأله الملك لقمان لماذا ليس في مقدوره أن يُطلع حتّى الملكة عليها، أجابه الملك هاروت أن مقدرة هذه الكلمات تقل كلّما إزداد عدد من يعرفونها، وحتّى حينه لا يعرفها إلاّ ثلاثة وهو رابعهم، وهم: الله وإبليس وهو، وأخبره أنّ القوى التي في خدمة هذه الكلمات الثلاث هي أكثر من أن تحصيها أيّة قوّة مهما كانت. فشكره الملك لُقمان وصافحه معانقاً.
وقد أهدت الملكة ماروت الملكة نور السَّماء كلمة سحريّة واحدة تستطيع بواسطتها حل أيّة عقبات أو صعوبات أو مشاكل تعترض طريقها، فشكرتها الملكة وصافحتها معانقة..
وشرعوا يودّعون بعضهم البعض.. وصعد الملك لقمان ومرافقوه إلى المركبة وسط تلويح أيدي مئات الآلاف من أبناء الكوكب، الذين لم يصدّقوا أنّهم غدواً أحراراً ولم يعد يحكمهم ملوك آلهة.

* * *
(7)
الله ورسوله والعفاريت!

حين أدرك الملك لقمان أنّ هناك عشرات الآلاف من الكواكب المأهولة في كل سماء، وأنّه ليس في مقدوره الهبوط على كُلّ كوكب ليطّلع على أحواله، طلب إلى قائد المركبة أن يترك هذه السَّماء ويقلع إلى سماء جديدة، ودخل إلى غرفته وأغلق الباب على نفسه.
جلس مُسترخياً في أريكة شابكاً يديه على صدره، وردد كلمات الملك هاروت الثّلاث، لتنجلي أمامه فضاء ات لا متناهية، وكأنّه يجلس في السَّماء.
ازدحم الفضاء بملايين الملائكة بلباس أبيض على خيول بيض مجّنحة، وملايين الملائكة بلباس أسود على خيول سود مجنّحة، وملايين الملائكة بلباسٍ أحمر على خيول حمر مجنحّة، وملايين الملائكة بلباس أزرق على خيول زرق مجنحّة، وملايين الملائكة بلباس أخضر على خيول خضر مجنّحة، وملايين الملائكة بلباس زهري على خيول زهريّة مجنحّة، وملايين الملائكة بلباس بنّي على خيول بنيّة مجنّحة، وملايين الملائكة بألوان أُخرى مختلفة، وكانوا جميعاً يمتطون خيولاً مجنّحة.
أخذ الملك لقمان يُملي تعاليمه عليهم، طالباً إليهم أن يجوبوا الكواكب التي يخلّفها وراءَ ه وأن يحلّوا مشاكل سُكّانها ويغدقوا الخيرات عليها، وينشروا تعاليمه فيها، ويدعوها لعبادة الله الذي لا إله غيره، الذي هو كلُّ شيء ومنه صار كُلّ شيء، وله كُلَّ شيء، وإليه يعود كُلُّ شيء!
وقد استثنى من الكواكب التي خلّفها وراءه، كوكب الأرض وكوكب الزّهرة والكواكب التي مَرّ عليها خلال رحلته الفضائيّة ووضعها تحت حماية الملك حامينار.
أخذت جيوش الملائكة تتفرّق من السَّماء أفواجاً أفواجاً وتذهب لتأدية المهام التي أوكلت إليها.
تنفّس الملك لقمان ملء رئتيه وطلب الملكة نور السَّماء بلغة التّخاطرُ فجاءَت، هتفت وهي تقف خلفه وتنحني لتطوّق عنقه بيديها:
"هل بدأت تبتعد عنّي، أراك بدأت تخلو بنفسك؟"
أخذ يديها بيديه:
"يبدو أنّه لا بُدّ من ذلك يا حبيبتي ولو لبضع دقائق"
"لم تقل لي لماذا اختلى بك الملك هاروت قبل إقلاعنا"
"ليضع تحت تصرّفي بعض القوى التي يتحكّم بها!"
"ما هي"
"قوى ملائكيّة كما يبدو"
"ملائكيّة؟"
"أجل!"
"وكيف ستتحكّم بها؟"
"للأسف لا أستطيع أن أقول لك ولذلك اختلى بي جانباً"
"ولماذا لا تستطيع أن تقول لي يا حبيبي؟"
"لأن المقدرة على التحكّم بهذه القوى تفقد بعض فعّاليّتها كُلّما ازداد عدد من يعرفون رموزها السِّريّة"
"هل هذا يعني يا حبيبي أنّك الآن أصبحت الأقوى في الأكوان بعد أن امتلكت كل هذه القدرات؟"
"لا أظن يا حبيبتي"
"لماذا يا حبيبي؟"
"لأن الله بالتأكيد، أقوى مِنّي"
"كنت أقصد بين الجن والإنس والملائكة"
"أظن أنّ الملِك إبليس أقوى مِنّي، وربّما يوجد بين الملائكة من هُم أقوى مِنّي أيضاً"
"لا أعتقد يا حبيبي"
"وعلى ماذا تبنين هذه اللا؟"
"لأن الملك إبليس يفتقر إلى نوازع الغضب والحساب والعقاب وأي نزوع نحو الشَّر وهنا يكمن ضعفه!"
"حتّى لو صحَّ ذلك، فهو يمتلك قوّة الخلق"
"وما أدراك أنّك الآن لا تمتلك قوّة الخلق يا حبيبي، هل جرّبت ذلك؟!"
"لا، وأشعر أنني لن أُجرّب"
"لماذا يا حبيبي"؟
"ما زلت أشعر في دخيلتي أنّ هذه مسألة من حقّ الله وحده، ولا يجوز أن نتعدّى على حقوقه"
"لكن الملك إبليس فعلها وشارك الله في عمليّة الخلق!"
"لذلك غضب الله عليه، وأنا لا أريد أن أكون إبليساً ثانياً، ولا أريد أن أُغضب الله، رغم إحساسي أن قصّة إبليس عن الخلق قد تكون مختلقة أو متصوّرة أو متخيّلة أو شيء من هذا القبيل!"
وبدت الملكة في غاية الدهشة وهي تستمع إلى ما يقوله الملك، فهتفت:
"لكنك حتّى الآن تأخذ بمقولة إبليس وتتعامل معه إنطلاقاً من ذلك"
"إلى أن يثبت العكس، أو ما هو غير ذلك يا حبيبتي"
"وماذا لو ثبت العكس واكتشفت قصّة أُخرى لخلق آدم وحوّاء غير القصص المعروفة طبعاً، كيف ستتعامل مع إبليس؟"
"لا أعرف، فأنا لا أُحبّذ استباق الزّمن، فربّما أجد في الحقائق الجديدة ما يقرّبني من إبليس أكثر مما أنا قريب منه الآن"
"وإلى متى يا حبيبي ستظل تتعامل مع الظّواهر والوقائع والرّؤى على أنّها حقائق ليست ثابتة؟"
"إلى أن أصلْ إلى الحقيقة المُطلقة!"
"وإذا لم تصل؟"
"أكون قد تركت باب الاجتهاد والبحث مفتوحاً لمن سيأتون من بعدي، ليكملوا ما توصّلت إليه أو يُضيفوا شيئاً إليه"
"وهل يمكن أن تعود إلى الإلحاد يا حبيبي؟"
"يبدو لي أن الفرق بين الإيمان البصير والإلحاد العبقري لا يتجاوز شعرة صغيرة، قابلة للقطع في أيّة لحظة، لأن كلا الاعتقادين إيمان!"
أطلق يديّ الملكة فرفعت يديها عنه ودارت لتجلِس إلى جانبه، سألها:
"ماذا فعلت لأستير؟"
"لا شيء خصصت لها جناحاً في المركبة، وسألتها إذا تُحب أن تعمل شيئاً، فقالت: أنّها لا تستطيع أن تبقى دون عمل وأنّها تحب الحدائق، فأوكلت إليها مسؤوليّة الحديقة والمسبح على المركبة"
"ألم تجدي ما هو أفضل لها لأن تقوم به؟"
"هي التي أشارت إلى ذلك"
"ما أخبار ظبائك ودلافينك وحماماتك وفراشاتك؟"
"تُسلّم عليك يا حبيبي!"
"الله يسلّمك"
"هل تعرفين أين نحن الآن؟"
"في كونٍ ما!"
"ألم ندخل الكون الثالث بعد؟"
"نحن على وشك الدّخول فيه، وإن كنت لا أجزم أنَّ هذا هو الكون الثالث، وآمل ألاّ نواجه ما واجهنا ونحن نغادر الكون الأوّل"
"وهل حدث شيء ونحن نغادر الكون الأوّل؟"
"حدثت حرب كونيّة وأنت نائم يا حبيبي"
"حرب كونيّة بين الكواكب والنّجوم؟"
"وكُلّ ما في الكون"
"يا إلهي، لِمَ لمْ توقظيني؟"
"كنت أفضُّل أن تبقى نائماً على أن ترى الدّمار المُروّع الذي سيعكّر عليك نومك!"
"أكان مُروّعاً إلى هذا الحد؟"
"أكثر مما يتصوّر الخيال"
"كانت الكواكب تصطدم وتنشطر وتتناثر؟"
"أجل"
"وهل كانت مأهولة؟"
"بعضها كان ماهولاً"
"وهل كانت الحرب بفعل قوى خارقة أم بفعل عوامل طبيعيّة؟"
"لم نعرف، على أيّة حال هي في كلا الحالين قوى خارقة"
"ولم تحاولوا التدّخل؟"
"بل هربنا"
"وتركتم حياة تُفنى أمام أنظاركم؟"
"وماذا كان في مقدورنا أن نفعل يا حبيبي؟"
خاطب قائد المركبة الملك لقمان بلغة التخاطر هاتفاً:
"ثمّة إشارات تؤكد وجود قوى تسدُّ الفضاء أمامنا يا مولاي، ويبدو أنّها احتشدت لتمنع مرورنا"
نهض الملك لقمان على عجل وهرع إلى غرفة القيادة تتبعه الملكة.
لم تكن القوى قد ظهرت بعد، ولكن الخطوط على شاشة رادار المركبة كانت تشير إلى أنَّ الطّريق مُغلق.
أشار الملك إلى الرائد بمتابعة الانطلاق بسرعة أيضاً، وهرع ملك الملوك من مقصورته متسائلاً.
نظر الملك لقمان عبر منظار بعيد المدى فشاهد أجساماً هائلة تحجب الفضاء، تساءَ ل:
"هل خرجنا من فضاء السَّماء التي كُنّا فيها"
"أجل يا مولاي نحن في الفضاء الفاصِل بين سماءَ ين الآن!"
"ثمّة أجسام هائلة الحجم أمامنا لم أعرف ما هي؟"
نظر ملك الملوك عبر المنظار وهتف:
"هؤلاء جن يا مولاي، ويبدو أنّهم من الجن الأشرار!"
"كيف عرفت أيّها الملك؟"
"لأنّهم يأخذون شكلهم الجنّي الأكبر يا مولاي"
"وإذا أخذوا شكلهم الجنّي الأكبر؟"
"في العادة لا يأخذ الجن جميعاً شكلهم الأكبر إلاّ لمواجهة خطر جسيم أو قوى مجهولة خارقة أو استعداداً للحرب، هل نستنفر قوانا ونستعد للحرب يا مولاي؟"
"لا أيّها الملك"
"يمكن أن ينقضّوا علينا دون أن ندري يا مولاي"
"لا عليك، لقد أخذت كل الاحتياطات"
"لكني لا أرى شيئاً غير القوى التي ترافقنا وهذه وحدها لا تكفي، ثمَّ إنّك لم تأمُرها لتستنفر طاقاتها القصوى وتأخذ شكلها الجنّي"
"أظن أنّه لا داعي لذلك أيّها الملك"
"مولاي أرجوك أنا لم أعتد الهزائم، ولا أريد أن أموت"
"ومن قالَ لك إنّي أُحِبُّ الهزائم وأريد لنفسي أو لكم الموت أيّها الملك؟"
"إذن افعل شيئاً مُجدياً يا مولاي"
"لقد فعلت أيّها الملك فلا تخف"
وسكت ملك الملوك على مضض.
أصبحت الأجسام تُرى بالعين المجرّدة غير أنّ أبعادها لم تكن بادية للعيان، فنظر الملك لُقمان عبر المنظار فتبيّن له أنّ رؤوسها تتطاول في الأعالي وأرجلها تمتد بعيداً إلى أسفل.
"يبدو أن أحجام هؤلاء الجن، إن كانوا جنّاً، أكبر من أحجامكم أيّها الملك"
"أجل يا مولاي هذه أحجام ملائكة أو آلهة"
قربت المسافة الفضائيّة بينهم وبين الأجسام بحيث لم تعد تتجاوز المليون كيلومتر، مدَّ أحدها يداً هائلة الحجم بالغة الطول، صرخ ملك الملوك:
"مولاي ها هو أحدهم يمد يده ليأخذنا في قبضته!"
فهتف الملك لقمان:
"لا تخف أيّها الملك لن تصل يده إلينا بإذن الله"
"مولاي دعني أطلب إلى أحد أعواننا ليستلّ سيفاً ويقطعها!"
"ألم تعد تثق بقدرة الله أيّها الملك؟"
"أستغفر الله العظيم، لكن الحذر واجب يا مولاي"
"ألم أقل لك إنني أخذت احتياطاتي كُلّها أيّها الملك؟"
"مولاي إنّ يده تقترب من المركبة، يا إلهي قبضتها بحجم طود، سيسحق مركبتنا كما يسحق بيضة!"
وبدا الملك لقمان ثابت الجأش غير مكترث، فيما دبّ الهلَع في قلوب كل من كانوا على المركبة.
صرخ ملك الملوك:
"مولاي ها هو يفتح قبضة يده، ويشهر أصابعه كمخالب الرُّخ!"
وصرخ مُعظم من في المركبة حتّى الملكة نور السَّماء، فقد صرخت صرخة خفيفة وهي تُلقي نفسها على الملك لقمان من الخلف لتطوّقه بيديها وتلتحم بجسده.
ظهر فجأة في السَّماء فرسان عمالقة بيض، يمتطون خيولاً بيضاً مجنّحة ويشهرون رماحاً كلُّ رمح بطول مئات الكيلو مترات، ملأوا الفضاء فوق المركبة وأمامها وخلفها.
تنفّس الجميع الصُّعداء فيما أخذت اليد تتراجع وأصابعها تنقبض، هتف ملك الملوك:
"لِمَ تأخّرت يا مولاي أمَتَّنا من الرّعب؟"
"لم أتأخّر، ألم أقل لكم أنني احتطت لكلّ شيء؟ لم أعرف أنّكم جبناء إلى هذا الحد!"
"وما هؤلاء الفُرسان؟ يبدون كالملائكة يا مولاي"
"إنّهم ملائكة أيّها الملك!"
"يا إلهي، هل أصبحت تتحكّم بالملائكة أيضاً يا مولاي؟"
"ربّما أيّها الملك!"
وراح ملك الملوك يشكر الله:
"أشكرك يا إلهي إذ وضعت كل هذه القوى العظيمة في خدمة مولاي دون غيره من البشر"
اقتربوا من الكائنات فشرعت تتنحى بأجسامها يميناً وشمالاً لتشكّل صفيّن متقابلين فاتحة الطّريق أمام المركبة.
خرج الملك والملكة وملك الملوك وكل من في المركبة على الشُّرفات"
وما أن اقتربوا ليسلكوا الطّريق بين الصَّفين محاطين بالملائكة والمُرافقين من الجنّ حتّى هتف صوت هائل:
"الملك نمرود الجبّار ملك ملوك الجنّ العفاريت في السَّماء الثالثة وأعوانه يرحّبون بجلالة ملك الملوك، ملك الإنس والجن والملائكة والدوّاب والنّبات لقمان العظيم"
أدرك الملك لقمان أنّه غدا بفعل كلمات الملك هاروت الثّلاف ملكاً على كل الكائنات الحيّة!
تساءَل ملك الملوك بدهشة:
"ما الذي أسمعه يا مولاي؟"
"أنا مثلك عرفت ذلك الآن، يبدو أنّ الملائكة أخبروا العفاريت أنّ هذا هو منصبي"
"ومن منحك كُلَّ هذه المناصب يا مولاي؟"
"يبدو أنّه الملك هاروت، وبالتأكيد فعل ذلك بموافقة جدّه الملك إبليس"
"ألم يخبرك يا مولاي؟"
"لا، لكنه منحني قوى خارقة ربّما أهلتني لذلك"
"مبروك يا مولاي، كم أنا سعيد لأنَّ جميع من التقيناهم أحبّوك ووضعوا قواهم في خدمتك"
"الله يبارك فيك أيّها الملك"
كان الملك لقمان يلوّح بيده اليُمنى للعفاريت الذين ملأوا السَّماء وشقّوا باصطفافهم طريقاً طويلاً فيها، أرغموا موكب الملك على سلوكه، ولم يبدُ أن الملك نمرود موجود بين هذه الحشود وإلاّ لأوقف موكب الملك ودعاه لضيافته، لكن حين ظهرت في السَّماء مجموعة من الفتيات الجميلات وشكّلن صفّين متقابلين في نهاية صف الجنود العمالقة، ورحن يلوّحن بباقات الورود، توقّع الملك لقمان حُضور الملك نمرود، فراح يتمنّى ألاّ يحضر لأنّه لم يكن راغباً في ضيافة أحد لمجرّد الضيّافة، غير أن تمنيّاته ذهبت هباءً، فما أن اجتازت المركبة بضعة آلاف من الأميال بين صفوف المرحّبين والمرحبات حتّى انجلت للأنظار مدينة في السَّماء كانت تحلّق وهي تدور حول نفسها فبدت وكأنّها كوكب مسحور.
وقد احتشد أمامها مئات الآلاف من العفاريت في شكل إنسيّ، وانتظموا في صفوف وحملوا البيارق والرايات الملوّنة، ولم يكن الملك لقمان يعرف أنّ ما ينتظره في هذه المملكة السَّماويّة هو من أهم وأغرب ما سيواجهه في رحلته السَّماويّة.
ما أن اقتربت مركبة الملك لقمان من هذه الحشود حتّى عزفت الأبواق ودقّت الطّبول وحلّق فرسان على عُجول مجنّحة في الجو، وراحت آلاف الحوريّات الفاتنات والأفاعي العملاقة تجوب السَّماء في أسراب منتظمة.
وكان لبعض هذه الأسراب من الأفاعي رؤوس وأثداء نساء ولبعضها الآخر رؤوس وأذناب أفاعٍ وأجسام نساء.
شكر الملك لقمان جيش الملائكة وأشار له بالانصراف فيما لو أراد، فأخذ الملائكة يجنحون بأرتالِهم يميناً وشمالاً ويصعدون على خيولهم في السَّماء، فيما أخذ الملك لقمان بيد الملكة نور السَّماء وطارا ليتبعهم كُلَّ من في المركبة.
كان الملك نمرود يقف في الفضاء بمرافقة زوجته الملكة نجوم وبعض أعوانه يتقدّمون صفوف قارعي الطبول وعازفي الأبواق، وما أن شاهدوا مركبة الملك لقمان تتوقّف في السَّماء والملك يقدم طائراً حتّى امتدَّ في السَّماء بساط أحمر كبير شملَ المكان كُلّه، وامتدَّ فوقه بساط مُستطيل أخضر حطّ الملك لقمان ومرافقوه عليه، وساروا بضعة أمتار ليستقبلهم الملك نمرود والملكة نجوم بالترحيب الحار ويصطحبهم إلى مدينته السَّماويّة التي بدت وكأنّها جنّة محلّقة في السَّماء، وفريدة في طرازها المعماري الذي كان سامقاً ويأخذ شكل الأفعى كُلّما ارتفع ليتدرّج بشكل لولبي ثم يستقيم إلى أن ينتهي إلى رأس أفعى.
وقد قاد الملك نمرود الملك لُقمان عبر جنائن معلّقة، انتظمت فيها أنساق من الورود والزّهور والنّباتات الخلاّبة التي لم يرَ الملك مثيلاً لها، وقد شرعت تهزّ أغصانها وترقّص ورودها وتفوّح شذا عطرها في الجنائن احتفاءً بالملك لقمان.
وقد انتصبت على جوانب الممرات في الحدائق عشرات التّماثيل للأفاعي المختلفة والملك إبليس إلى جانب بعضها البعض، فيما وقفت بينها الحوريّات والأفاعي ذوات الرؤوس الإنسيّة والإنسيّات ذوات الرؤوس الأفعوانيّة، اللواتي كُنَّ يلوّحن بباقات من الورود ترحيباً بالملك.
وسار الملك نمرود بضيفِه ومرافقيه بين هذه الجنائن إلى أن انتهى بهم إلى عرشٍ من النّباتات الجميلة التي نُسّقت بشكل رائع الجمال، توسّطهُ تمثالٌ ضخم للملك إبليس جلس أمامه على كرسيين أفعى وأفعوان هائلا الحجم. وفيما كان موكب الملك لقمان يدنو من العرش تطاولت الأفعى والأفعوان بجسميهما لتسمقا عالياً في السَّماء، لتتطاول معهما مئات الأفاعي الأصغر حجماً التي كانت تحيط بالعرش، ولتقف جميع الأفاعي على أذنابها، وما أن توقّف موكب الملك لُقمان أمام العرش الأُفعواني حتّى حيّا الملك نمرود الأفعى قائلاً:
"السّلام على ملكة الأديم ورسولة إلهنا الوفيّة إبليس العظيم!"
أدرك الملك لقمان أنّ هؤلاء القوم يعبدون الملك إبليس وأنّ هذه الأفعى ليست إلاّ الأفعى التي أرسلها الملك إلى الجنّة لتدلّ آدم وحوّاء على شجرتيّ المعرفة والخلود.
ردّت الأفعى:
"وعلى المخلص لربّه ورسولته الملك نمرود السَّلام"
فقال الملك نمرود:
"أقدّم لك ضيفنا مولانا المهيب جلالة الملك لُقمان ملك الإنسِ والجن والملائكة والدّواب والنّبات، ونصير إلهنا إبليس العظيم"
وأخذت الأفاعي تقصر شيئاً فشيئاً وتطوي جسمها تحتها إلى أن بقي منها بضعة أمتار منتصبة، هتفت الأفعى الكبيرة وهي تحني رأسها:
"أهلاً بمولانا جلالة الملك لُقمان الذي ذاع صيتهُ في الأكوان"
فهتف الملك لقمان:
"أهلاً بكِ أيّتها الملكة العظيمة يا من سعيتِ لخير الإنسان"
وبدأت الأفعى تأخذ شكل حوريّة بجسد أفعى، والأفعوان يأخذ شكل إنسي بجسد أُفعوان، أمّا الأفاعي الأُخرى فقد أخذت أجساد حوريّات برؤوس أفاعٍ، ونزلت الأفعى والأفعوان عن العرش تحفّ بهما الأفاعي الأصغر لتصافح الأفعى والأفعوان الملك لقمان والملكة نور السَّماء ومرافقيهما.
هتفت الأفعى:
"أتمنّى لجلالتكم طيب الإقامة في ضيافتنا.
فشكرها الملك لقمان وأعلن أنّه يتعذّر عليه البقاء طويلاً في ضيافتهم نظراً للأشغال الكثيرة التي تنتظره.
فقال الملك نمرود:
"آمل ألاّ تغادرنا جلالتكم قبل أن تسوّي وضعي ووضع ملكة الأديم مع إلهنا الملك إبليس"
فقال الملك لقمان:
"يبدو لي أنَّ وضعكم صعب أيّها الملك، فأنتم أوّل طائفة من الجن أراها تعبد الملك إبليس وتقدّس الأفعى"
"هذه قصّة طويلة سنوجزها لجلالتكم فيما بعد"
وقاد الملك نمرود ضيوفه إلى مُتنزّهٍ في الجنائن، بناء على رغبة الملك لقمان الذي أحبّ الجلوس في مكان مكشوف وسط هذه الجنائن الخلاّبة.
وما أن جلسوا ودارت الحوريّات بكؤوس الشّراب، وبدأ التحضير لطعام الغداء، حتّى سأل الملك لقمان الملك نمرود أن يروي له قصّته وقصّة ملكة الأديم مع الملك إبليس، فتنهّد الملك نمرود من أعماق جرحه وشرع يتحدّث:
"كنت أكثر المخلصين من بين الملائكة لجدّنا الملاك إبليس، وكان إيماني به أكثر من إيماني بالله الذي يتحدّث عنه ويدعو إليه، لأنّي لم أرَ ذاك الإله ولم أرَ فعله، ولم ألمس منه شيئاً ذا فائدة، وبالتالي لم أكن مقتنعاً به في قرارة نفسي، أمّا جدّي فقد شاهدت خلقِه وما فعله على الأرض، وكنت أقولُ له "أنت الله يا جدّي، ويبدو أنني لن أؤمن إلاّ بك" فكان يغضب منّي ويزجرني، وحين خلَق الأفعى من ضمن ما خلق آمنت به مثلي، فراح يزجرها مثلما يزجرني. وحين خلق جدّي الإنسان فيما بعد، ازددت قناعة بألوهيّته، بل واعتقادي أنّه الإله الوحيد في الكون، وحدث الخلاف الكبير بيننا حين دعانا لنسجد لآدم، فأبيت دون الملائكة، وكذلك أبت الأفعى دون الحيوانات، وأعلنّا أننا لن نسجد لأحد بعد الله إلاّ له إذا كان لا بُدَّ من السُّجود، فغضب علينا وصرفنا من وجهه، وطلب إلينا أن نبتعد عن مرآة حيث يكون، لكنه احتاج إلى الأفعى حين تفاقم خلافه مع إلهه وأنزل مرتبته من ملاك إلى جنّي، فأرسلها لتدلَّ آدم وحوّاء على شجرتي الخلود والمعرفة ليأكلا من ثمارهما، فاكتشف الله القصّة كما تعرف وطرد آدم وحوّاء والأفعى من الجنّة، وازداد غضبه على جدّي.
ومنذ تلك الحادثة قررنا التخلّي عن عبادة ذاك الإله وعبادة جدّي وحده، حين انجلى لنا ذاك الإله عن إلهٍ لا يحبُّ الخير والمعرفة والخلود للبشر، وحين أعلنا ذلك لجدّي غضب وثار وطردنا مِن الأرض أنا والأفعى، فكُنّا بذلك أول مطرودين من الأرض أيّها الملك.
اصطحبت معي زوجتي واصطحبت الأفعى زوجها، واصطحبنا معنا بعض الحيوانات والنّباتات، وجئنا إلى هذه السَّماء، وأقمنا مملكتنا فيها على هذا الكوكب، الذي لا يبدو أنّه كوكب، بل مدينة تحلّق في السَّماء لكثرة ما أشدنا عليه من الحدائق والجنائن والعمران. وما زِلنا نعبد جدّي دون ذاك الإله.
هذه هي قصّتنا باختصار شديد أيّها الملك، ولم نكن نتمنّى أو نرغب في أن تجري الأمور كما جرت عليه، لكن يبدو أنَّ القدر قد رسم لنا طريقاً لم يكن في وسُعنا الحياد عنه، وإنّا لنأمل من جلالتكم ونحن نتوسَّلُ إليكم، أن تجدوا لنا حلاّ لمعضلتنا مع جدّنا، ومع الله إن كان هناك حقَّاً إله غير جدّي"
كان الملك لقمان يستمع إلى الملك نمرود بكُلِّ حواسّه وهو يتحدّث عن مأساتِه بألم، وبدت ملكة الأديم حزينة ومتألّمة بدورها لكُلِّ ما جرى، وما أن أنهى الملك نمرود القصّة حتّى راح الجميع ينظرون إلى الملك لقمان آملين أن يعلّق بكلمة، أو أن يقول كلمة أو يتساءَل عن أمرٍ ما، غير أنّه لم يفعل، بل أطرق مُفكّراً، وما لبث أن أغمض عينيه وأمال رأسه إلى كتفه ليبدو وكأنّه سينام وهو جالسٌ في مقعده، لكن ما أن أخذ يحرّك رأسه، فيما الملكة نور السَّماء تنهض لتضع يديها برفق على كتفيه وتشير إلى الجميع أن يصمتوا، حتّى أدركوا أنّه بدأ اتّصاله مع الذات الإلهيّة.
وكان الملك لُقمان قد بدأ اتّصاله بالذات الإلهيّة بأن سأل الله:
"لِمَ يا إلهي تضع كُلَّ هذه العراقيل في طريقي ولا تيسّر لي الوصول إلى حقيقتك الكُليّة، لِمَ تواجهني بقضايا أعجز عن حلّها دون مساعدتك، أعِنِّي يا إلهي، أعِنّي"
فهتف صوت الله في دخيلته:
"هذه ليست قضيّة كبيرة أمام القضايا التي واجهتك والقضايا التي ستواجهك يا لقمان، فاستمع إلى ما سأقولُه لك أيّها الرّوح الحبيب:
من عبد ملاكي الوفي إبليس عبدني، ومن آمن بإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد وعليّ عبدني، ومن آمن بكونفوشيوس ولوتس وشوانع تسو وبوذا ومهاويرا وبراهما وفشنو وشيفا وكرشنا وزرادشت عبدني، ومن آمن بالصوفيين عبدني.
وهُنا أخذت حركة رأس الملك لُقمان تحتد ليخرج عن صمته ويهتف بصوتٍ خفيض أقرب إلى الهذيان:
"لا، لا، مستحيل، مستحيل، مستحيل!"
غير أنّ صوت الله خاطبه طالباً إليه الصَّمت والاستماع فصمت ليُكمل الله هُتافه:
"من عبد الشمس يا لقمان عبدَني، ومن عبد القمرَ عبدني، ومن عبد الأرض عبدني، ومن عبد الزُّهرة عبدني، ومن عبد الكواكب عبدني، ومن عبد النّجوم عبدني، ومن عبد السَّماء عبدني، ومن عبد البحر عبدني، ومن عبد النّهر عبدني، ومن عبد النّبع عبدني، ومن عبد المطرَ عبدني، ومن عبد السَّحاب عبدني، ومن عبد الورد عبدني، ومن عبد النّبات عبدني، ومن عبد البقرة عبدني، ومن عبد العَنزة عبدني، ومن عبد النّعجة عبدني، ومن عبد النَّاقة عبدني، ومن عبد الفرَس عبدني، ومن عبد الغزالة عبدني.
ومن عبد الجبل عبدني، ومن عبد الحقل عبدني، ومن عبد التُراب عبدني، ومن عبد الصُّخور عبدني، ومن عبد النار عبدني، ومن عبد الجمال عبدني.
من عبد الحمامة عبدني، ومن عبد العصافير عبدني، ومن عبد الفراشات عبدني، ومن عبد الرّيح عبدني، ومن عبد الدّلفين عبدني، ومن عبد المرجان عبدني.
من عبد المحبّة عبدني، ومن عبد الخير عبدني، ومن عبد المعرفة والعلوم الخيرانيّة، عبدني ومن عبد الصّدق عبدني، ومن عبد الحقيقة والفضيلة عبدني.
من آمن بالصالحين عبدني، ومن آمن بالصالحات عبدني، ومن آمن بك يا لقمان عبدني، ومن عبدك أيّها الرّوح الحبيب عبدني!!"
وهُنا انفعل الملك لقمان وصرخ:
"لا! لا! مستحيل، مُستحيل، أرجوك، أرجوك، أتوسَّلُ إليك ألاّ تحمّلني مالا طاقة لي به!"
وراحت الملكة تحتوي رأسه وتهدّئ من روعه، فيما صوت الله يهتف في دخيلته:
"لماذا مستحيل أيّها الرّوح الحبيب، ألم تدرك بعد أنّ وجودي في كل الوجود، وأن لا شيء خارج وجودي؟! أنسيت أنني موجود في كُلّ شيء وكل شيء موجود فيّ، أنسيت أنّك آمنت بألوهيّة كنعان واليسع وعناق وعونائيل وسجدت لكنعان وأنت لم تسجد لي بعد؟! هل كنت سأرضى عنك لو لم تكن تسجد لي يا لُقمان؟!
وبدا الملك لقمان وقد نال منه الإجهاد، فاحتضن رأسه بيديه وراح يهذي بصوت خفيض لم يكن مفهوماً لمن حوله:
"لا! لا يا إلهي، إنّ وجودك ما يزال يشكّل لي لُغزاً أكبر من أن أتوصَّل إلى حقيقته الكليّة، رغم كلِّ ما توصّلت إليه وعرفته عنه، ولا أظنّ أنني كنت أدرك أبعاد ما أفعل حين سجدت لكنعان، وإن كنت أظنُّ أنّك من أوحى إليّ بالسّجود له"
ولم يعد الله يهتف إليه، فأخذ يهدأ شيئاً فشيئاً، وما لبث أن فتح عينيه وأرسل نظراته إلى الملك نمرود وملكة الأديم ليراهما ينظران إليه بخوف وقلق وتوسُّل وأمل، فهتف بجملة واحدة فقط من كل ما استمع إليه من الله:
"من عبَدَ الملاك إبليس عبدَ الله"
فانكبّ الملك نمرود وملكة الأديم على قدمي الملك لُقمان وخرَّ كُل من في المتنزّه جاثياً على ركبتيه، وأنهض الملك لقمان، الملك نمرود وملكة الأديم، واستأذن الحضور ليزفّ النّبأ إلى الملاك إبليس على الأرض وإلى جميع قوى الجن في كل مكان.
استراح الملك لقمان في أريكته وأخذ يستجمع قواه الذّهنيّة ليهاتف الملك إبليس تخاطراً عبر مسافة ملايين السّنين الضوئيّة، طالباً إلى جميع قوى الملائكة، الذين كانوا جَناً وشياطين وعفاريت ومردة والذين لم يكونوا، أن يستمعوا إلى هذا الهُتاف أينما كانوا.
كان الملاك إبليس جالِساً بخشوع في محراب الله الذي بناه في قصره في أعماق المحيط الأطلسي. يتأمّل أسرار الوجود متضرّعاً إلى الله أن يصفح عنه ويمنحه رضاه، حين هاتفه الملك لقمان:
"السَّلام على الملاك إبليس الوفّي لإلهنا الذي لا إله غيره والمخلص له، والمؤمن بشموليّة محبّته وفيض خيرانيّته!"
واستغرق الملاك إبليس في تأملاته وهتف في دخيلته وهو يركّز كُلَّ حواسّه ويستجمع كُلَّ قواه العقليّة والذهنيّة:
"من؟ أخي الملك لقمان؟"
"ألم تعرفني أيّها الملاك؟"
"فاجأتني أيّها الملك بمخاطبتك لي كملاك وأنتَ تعلم أنني لم أعد ملاكاً بل شيطان رجيم!"
"لا أيّها الملك الملاك، فأنت لم تكن في نظري إلاّ ملاكاً نبيلاً منزّهاً عن الشرّ والعدوان، وأنت اليوم في نظر الله جلّت قدرته لست إلا ملاكاً وفيّاً مخلِصاً"
فصرخ الملك إبليس باكياً:
"أرجوك أيّها الملك ألاّ تمزح معي مُزاحاً قد يدمّرني إن لم يكن صحيحاً!"
"وهل يُعقل أن أفعل ذلك مع أخي الذي فتح لي قلبه منذ لقائنا الأوّل، ووهبني من قدراته ما لم يهبني إيّاه أحد، وأعرف كم يُعاني ويتألّم من جرّاء وضعه المأساوي؟!"
"إذن ما الذي جرى يا لُقمان؟"
"خاطرني الله قبل قليل وقال لي: من عبدَ ملاكي الوفي إبليس عبدَني"
فراح الملاك إبليس ينتحب باكياً وهو يخرُّ ساجداً في محرابه، ليبكي ويخرّ معه جميع الملائكة في السَّماوات والأكوان والكواكب كُلّها، ما عدا إسرافيل وعزرائيل وميكائيل، حسبما عرف الملك لقمان فيما بعد!!!
رفع الملاك إبليس رأسَه من سجدته وجلس جاثياً واضعاً يديه على ركبتيه، ليهتف إلى الملك لُقمان:
"يا إلهي، ما الذي أسمعه يا لقمان؟ هل يحبّني الله إلى هذا الحد بعد كل ما جرى؟ هل أنا في حلمٍ أم ماذا يا لقمان؟"
"بل أنتَ مع الحقيقة أيّها الملاك العظيم، وأنا أخاطبك من كوكب الملاك نمرود والملاكة نجوم، وملكة الأديم التي أرسلتها إلى الجنّة، وهم يجلسون أمامي الآن، وكانت قِصّتهم معك ومع الله هي السبب في جعلي ألجأ إلى الله وأتوسّل إليه ليطلعني على شيء من الحقيقة"
وكان الملاك نمرود والملكة نجوم وملكة الأديم وكُلُّ من في المتنزّه يجثون على ركبهم ويدمعون، حتّى ملك الملوك شمنهور الجبّار كان يبكي.
هتف الملاك إبليس:
"آه أيّها الملك، كيف حال حفيدي الحبيب نمرود وحفيدتي نُجوم ومخلوقتي الوفيّة الأفعى؟"
"كُلّهم بخير ويسلّمون عليك، وما زالوا يعبدونك!"
"أرجوك قل لهم ألاّ يعبدوني حتّى لو كان الله راضياً عن عبادتهم، فأنا لا أحبّذ أن أكون معبوداً مع الله"
"إنهم يسمعون كلامك أيّها الملاك، وكل الملائكة من أبنائك وأحفادك وغير أبنائك وأحفادك وفي الأكوان كُلّها يستمعون إلينا الآن، ويعرفون ما يدور بيننا"
"ولِمَ فعلت ذلك يا لُقمان؟"
"ليعرف الجميع من أنتَ أيّها الملاك النّبيل، ويكفّوا عن كُرهِك، وخاصّة هؤلاء الذين ضلّوا من بين الملائكة وأنكروا خيرانيّتك وقدسيتّك"
"كم أنا مدين لك أيّها الملك وعاجز عن شكرك، فبالأمس هديت هاروت وماروت إلى جادة الصّواب، وأقنعت سُكّان الكوكب، ومن قبل ملايين البشر في الكواكب الأُخرى بخيرانيّتي، وها أنت اليوم تبشّرني بأنني الملاك الأقرب والأوفى عند الله"
"بل أنا المدين والعاجز عن الشكر أيّها الملاك"
"حاشاك أن تكون مديناً لأحد أو عاجزاً أمام أحد أيّها الملك العظيم"
وتوقّف هُتاف التّخاطر للحظات، ليتساءَل الملاك إبليس:
"عفوك أيّها الملك؟"
"ماذا أيّها الملاك؟"
"ألم ينبئك الله جلّت قدرته بحقيقة ما جرى، طالما أنبأكَ بأنني ملاكه الوفي؟"
"في الحقيقة أيّها الملاك لم ينبئني، لكن هُتافه إليّ عنك، يُشير إلى أنّه إمّا رضي عنك، وإمّا أن القصّة كُلّها مُختلقة أو مكيدة ولا عِلم له بها. وأنت ما تزال في نظره الملاك الوفي المخلص له وللأرض التي أوكلَ إليك رعايتها وعنايتها!"
"هل هذا يعني أنّه لم يطردني من الجنّة ولم ينزّل مرتبتي ولم يلعنّي؟"
"أجل أيّها الملاك، خاصة إذا ما كانت قصّة الأديم والخلق مكيدة"
"يا إلهي، ماذا تقول أيّها الملك، هل يُعقل ألاّ يعرف الله كُلَّ ما جرى سواء كان مكيدة أو غير ذلك؟!"
"ما يبدو لي حتّى الآن بل وما أعتقده أنّ الله لم يُحبّذ أنْ يعمل كل شيء، ويعرف كل شيء، فلا يُعقل أن يشغل نفسه بالأعمال كُلّها في السموات والأكوان، لذلك أوكل إسرافيل وميكائيل وعزرائيل وجبرائيل وأنت وأعوانكم، بمهام مختلفة، ليريح نفسه من معظم الأعمال، إن لم يكن منها كُلّها، حتّى عمليّة الخلق وإدارة شؤون الأكوان، ومقدرتك على خلق الإنسان ومن قبله النبات والحيوان، تثبت أنَّ الله منحك الكثير من قواه الخيرانية الخالِقة، وربّما منح الآخرين الكثير من قواه أيضاً، فأفعال جميع الملائكة الذين عرفتهم تؤكّد قدراتهم الخارقة التي منحها لهم الله"
"يا إلهي! هل تُلمّح أيّها الملك إلى أن كُلَّ ما جرى يُمكن أن يكون مكيدة من إسرافيل؟!"
"أجل، وربّما من إسرافيل وآخرين!"
"وماذا عن الصوت الذي هاتفني بلغة الله في الأرض؟"
"يمكن أن يكون صوت إسرافيل خاصّة وأنّك شككت فيه، ويمكن أن يكون قد تقمّص صوت الله ولغته، ثم إنّ الله يهاتفني بلغتي وليس باللغة التي هاتفك بها أو التي أنزلها على محمد وموسى وعيسى"
"ولِمَ لَمْ تحاوِل أن تسأل الله أيّها الملك لعلّك تعرف الحقيقة كُلّها؟"
"لا أُريد أن أثقل عليه، سأترك كُلَّ شيء إلى حينه وسأطلعك على
كل جديد"
"أخاف أيّها الملك أن يكون الله واقعاً في أشراك مكيدة رهيبة لا يعلم بها!"
"لا عليك أيّها الملاك، فوجود الله أكبر من أن تؤثّر على مقدار ذرّة منه ملايين المكائد، وما أسفي إلاّ على البشريّة التي أمضت عمرها المديد مُضللة ولم تعرف الحقيقة الإلهيّة المطلقة"
"إنّك أيّها الملك تُحيي شكوكي في إسرافيل بعد أن قبرتها مُنذ ملايين السِّنين"
"للأسف أيّها الملاك النّبيل ليس أمامَنا إلاّ أن نشكَّ فيه وفي غيره، إلى أن نعرف الحقيقة، وآمل ألاّ يكون شكّنا صائباً"
"هل يعقل يا أخي أن يكون إسرافيل هو من طردني من الجنّة وأنزل مرتبتي إلى جنّي ولعنني وحرّم على آدم وحوّاء تناول ثمار شجرتي المعرفة والخلود؟!"
"وربّما هذا هو المعقول الوحيد والممكن أيّها الملاك، فأنا وعلى ضوء وقوف الله معي ومساندته لي في كلّ ما واجهته حتّى الآن، بتُّ أجزم أنّه يستحيل عليه أن يبخل بالخلود والمعرفة على الإنسان، ويستحيل أن يكون لديه جهنّم يهدد البشريّة بها ويتوعَّدها بحرقها فيها، وجهنّم التي واجهتها في صعودي لم تكن من صُنعِه، ولن تكون الجهنّمات التي سأواجهها من صُنعه، بل من صُنع من يدّعون الألوهيّة، أو من صُنع من وثق بهم الله وأوكل إليهم مسؤوليّة العَمل في الأكوان وإدارة شؤونها"
"إنّي خائف عليك أيّها الملك العظيم فاحترس إلى نفسك بعد اليوم"
"لا تخف أيّها الملاك النَّبِيل، فكُلّي ثقة بأن الله الذي وقف معي حتّى الآن وأراني الكثير من حقيقته، سيقف معي إلى أن أصِلَ إلى الحقيقة كُلّها"
"إنّي أتضرّع إليه أيّها الملك أن يكون معك دوماً، وأنا بدوري أضع طاقاتي وإمكانيّاتي وقدراتي كُلّها تحت تصرّفك، وأتمنّى لك النّصر في مهّمتك العظيمة والنّبيلة، لتسبِرَ لنا خفايا الأسرار والألغاز التي رافقتنا منذ بداية وجودنا إلى اليوم"
"أشكرك أيّها الملاك الوفيّ، وآمُل أن نلتقي قريباً، وبوجود هاروت وماروت ونمرود ونجوم وجميع الملائكة الملوك من أبنائِك وأحفادِك"
"جزيل شكري لك أيّها الملِك العظيم"
"العفو أيّها الملاك"
وتوقّف هُتاف التّخاطر الذي طال بين الملك لُقمان والملاك إبليس، ليضجَّ الملائكة في الأكوان كُلّها بالمرَح والفرح والصَخب احتفاءً بهذه المناسبة العظيمة.
* * *

وفي كوكب الملك نمرود والملكة نجوم وملكة الأديم أُعلن عن بدء الاحتفالات في كافة أرجاء الكوكب بمناسبة عودة الجن إلى مرتبتهم الملائكيّة، فطافت أحياء المدن وسماواتها مئات المسيرات الكرنفاليّة الراقصة للملائكة والأفاعي والحوريّات، وراحت تقوم بألعابها البهلوانيّة وتستعرِض مهاراتها السِّحريّة وطقوسها المختلفة وفنونها في الرّقص والغناء.
وفي حديقة الجنائن ظهرت على مسرح المنتزّه فرقة من الحوريّات راحت ترقص على إيقاعات الطّبول وأنغام الرّيح، وحين أنهت الفرقة وصلتها فتح مارد في خلفيّة المسرَح فمه وراح يبتلع الحوريّات واحدة واحدة حتى ابتلعهن كُلّهن ليخرجهن بعد لحظات من فمه وقد تحوّلن إلى أفاعٍ فائقة الجمال، وشرعن يتلويّن بأجسادهن على المسرح في تشكيلات رائعة.
وشرع الحضور في تناول أطايب الخمور وتبادل التّهاني، وكان أكثر الحضور فرحاً الملك نمرود وملك الملوك الذي راح يلغّ الخمر من الدّنان ويدلقه على رأسه وهو لا يصدّق أنّه كان ملاكاً وأنّه عاد الآن إلى مرتبته الملائكيّة هذه، فيعود ليطرح السؤال على الملك لقمان:
"هل حقّاً أنا ملاك يا مولاي؟"
فقال له الملك لقمان:
"يمكنك أن تبقى جنيّاً طيّباً إذا لا تصدّق أيّها الملك"
فهتف ملك الملوك:
"لا يا مولاي، من يقبل أن يظلَّ جنيّاً شرّيراً في نظر النّاس؟"
"لتكن من الجن الأخيار أيها الملك"
"كل الجن أشرار في نظر النّاس إلى أن يثبتوا العكس يا مولاي"
جهز طعام الغداء فنزل كُلُّ من في المركبة لتناول الطّعام، وأجلس الملك لقمان "أستير" معه على مائدة الملوك والأميرات وكان ملك الملوك يحدجها بنظرات شهوانيّة مأخوذاً بسطوة جمالها، وألقت "نسمة" نفسها بين أحضان الملك لُقمان كالعادة فلم تتح له أن يأكل، وإن كانت عيناها مأخوذتين بالرّاقصين العجيبين والرّقص المدهش.
بعد الغداء استأذن الملك لقمان الملك نمرود والملكة نجوم طالباً الرّحيل، فألحّا عليه للبقاء ليلة واحدة فقط لمشاهدة الاحتفالات الليليّة بهذه المناسبة السعيدة، فاعتذر بإصرار مؤكّداً أنّ رحلته ما تزال طويلة لتصميمه على بلوغ السَّماء السابعة مهما كانت العقبات، فوضع الملك نمرود والملكة نجوم وملكة الأديم كُلَّ إمكانيّاتهم تحت تصرّفه.
أقلعت مركبة الملك لقمان مغادرة كوكب الملك نمرود يحفُّ بها الآلاف مِن المودّعين الذين رافقوها إلى أن دخلت مدار كوكب آخر.
كان الكوكب هائل الحجم وتكسوه الغابات وتكثر فيه الأنهار والينابيع والمحيطات، لكن لم يبدُ عليه ما يُشير إلى أيّة حضارة بشريّة، بل لم يكن هُناك ما يُشير إلى بشر متطوّرين، فحين هبطت المركبة إلى ارتفاعات متوسّطة من الكوكب ونظر الملك لقمان عبر منظار مُقرب رأى في الغابات كائنات أقرب في شكلها إلى القرود منها إلى البشر، كانت تتصارع فيما بينها كما تتصارع الوحوش غير أنّ بعضها كان يستخدم عصياً من أغصان الأشجار أو يضرب بالحجارة، فطلب الملك إلى قائد المركبة أن يهبط أكثر ليقترب من إحدى الغابات الكبيرة ويحلّق فوقها.
كان الصِّراع يدور بين قرود سود وقرود بيض، ويبدو أنّ القرود السّود هي التي غزت بلاد القرود البيض، فقد كان الطّقس في المنطقة بارداً مع أنّ الفصل في البلاد كان صيفاً كما توقّع الملك لقمان.
وبدا للملك أن القرود السود متطوّرة قليلاً عن القرود البيض، فقد كانت تقف على قوائمها الخلفيّة وتجيد استخدام العصي وقذف الحجارة، أمّا القرود البيض فلم تكن تقف إلاّ بصعوبة، وبدا أنّها تصارع من أجل البقاء مستخدمة أفواهها وقوائمها في الدّفاع، دون كبير أملٍ في النّصر، فقد كانت الغلبة واضحة للقرود السود لكثرتها وتفوّقها.
كانت بعض القرود البيض تنهزم أمام القرود السّودِ التي كانت تلاحقها بأعداد هائلة في مختلف أرجاء الغابة وقد تعالى صُراخها، فيما كان بعضها يُقاوم حين لا يجد مفرّاً من المقاومة.
وكُلّما فتكت جماعة من السّود بقرد أبيض توقّفت عن متابعة المُطاردة وتحلّقت حوله وشرعت في نهشِ لحمه نيّئاً.
هتفت الملكة مُتسائلة:
"هذه أوّل مَرّة في حياتي أرى فيها قرود لاحِمة، أتظن أنّهم بشر متخلّفون أم قرود؟"
"ليسَ هذا هو المهم يا حبيبتي"
"ما هو المهم إذن؟"
"هل هُم من خلقِ إبليس أم من خلقِ الطبيعة أم من خلق الله؟!"
"ماذا تقصد يا حبيبي؟"
"أقصد هل ينتمون إلى سُلالة آدم وحوّاء اللذين خلقهما الملاك إبليس أم أنّهم ينتمون إلى سُلالة أخرى خلقها الله، أم أنّهم ينتمون إلى سُلالة الخليّة البروتوبلازميّة التي تطوّرت بالانتخاب الطّبيعي وحافظت على سُلالتها المتنوّعة بالتِّناحر على البقاء؟!"
"ينبغي عليك أن تسأل إبليس على الأقل يا حبيبي"
"وإذا أخبرني أنّه لم يخلق هذه الحيوانات أو البشر المتخلّفين؟"
"تسأل إنكسمندر وإخوان الصّفا وابن مسكويه وابن خلدون والجاحظ في قبورهم فكُلّهم تحدّثوا عن أصل المخلوقات ونشوئها وارتقائها!!"
"ولماذا لا أسأل تشارلز داروين فقد يُفيدني أكثر من هؤلاء الأقدمين الذين سبقوه بمئات السِّنين؟"
"أنت الآن مؤمِن يا حبيبي وداروين أقام نظريّته في النّشوء بمعزل عن الحِكمة الإلهيّة، أمّا العرب المسلمون فلا، ثمَّ إنّ داروين بدأ من تشكّل الخليّة البروتوبلازميّة ولم يبحث في ما قبلها ليصِل إلى سِر الحياة فيها، أمّا العرب فحاولوا، كما أنّ داروين لم يفرّق بين التطوّر المكتسب الذي لا يورّث والصِّفات الجينيّة التي تورث!!"
فهتف الملك لقمان بدهشة:
"يا إلهي أنا لست متزوّجاً من حوريّة ملائكيّة فحسب، بل من عالِمة وفيلسوفة أيضاً وأنا لا أعرِف، أما زلتِ تظنِّين أنّ عقلك صغير يا حبيبتي؟"
"بل وصغير جدّاً يا حبيبي!"
"وماذا سيكون عليه عقلي إذن؟"
"لو أنّ عمرك مثل عمري يا حبيبي لفعل عقلك العجائب!"
"والله إنّي أشك في ذلك، على أيّة حال مهما كانت إجابة هؤلاء العلماء والفلاسفة، سأجد نفسي أمام دوّامة فظيعة"
"لماذا يا حبيبي؟"
"لأننا أصبحنا أمام ثلاث نظريّات للخلق وليس اثنتين"
"تقصد نظريّة الله ونظريّة إبليس ونظريّة النّشوء والارتقاء؟!"
"بالتأكيد، وإذا ما أخذنا بهذه النظريّات، قد نجد الذين خلقهم الله، والملائكة منهم ـ هم الأكثر تطوّراً وقدرات خارقة، والذين خلقهم إبليس أقل تطوّراً، أمّا الذين ما يزالون متخلّفين أو في آخر أطوار القردة فهم من تطوّروا ذاتياً!"
"ألا يمكن أن يوجد بشر متطوّرون أصبحوا بشراً بالانتخاب الطبيعي؟"
"احتمال ضعيف وإن كان فارق التطوّر بين البشر الإبليسيين والبشر الانتخابيين – إذا وجدوا – فارقاً بسيطاً إذا ما قورن بفارق التطوّر بين هؤلاء معاً وبين الملائكة الذين خلقهم الله"
"يبدو لي يا حبيبي أنّك ستضيع وأنت تبحث عن أسرار الخلق والحياة‍!"
"لقد ضعت وانتهى الأمر يا حبيبتي، ولم أستبعد منذ أن عرفت بقصّة الخلق الإبليسيّة أن اكتشف ثلاثة أنواع من البشر الآدم حوّائين، أَحدها ربّاني والثاني إبليسي والثالث انتخابي!"
"ومع ذلك قد لا تصِل إلى سِر الحياة يا حبيبي، إلا إذا كنت قد سِرت على الطريق الصَّح بعدم فصلك بين المادّة والرّوح!"
"ألم يُفكّر من سبقوني بذلك؟"
"بل فكّروا ومع ذلك لم يعرفوا فيما إذا توصّلوا إلى سِرّ الحياة"
"وكيف سأعرف أنا إذن؟"
"إذا لم يُساعدك الله فمشكلتك صعبة يا حبيبي، وآمل ألاّ تعود يوماً إلى مادّيتك الإلحاديّة!"
"تفاءَلي يا حبيبتي"
"أنا متفائلة جدّاً يا حبيبي لكنّي أعرف أنّك إنسان عنيد مُشاكس وليس من السَّهل إقناعك بشيء، وإذا ما اقتنعت بشيء لا تُلغي شكك فيه"
"يخالجني إحساس يا حبيبتي أن إيماني بوجود الله لن يتزعزع ثانية"
"آمل ذلك يا حبيبي"
"كفانا تحليقاً، وهيّا نهبط في هذه الغابة لعلّنا نعرف شيئاً عن أسرار هذا الكوكب"
"بل أسرار الحياة يا حبيبي!"
"وماذا سنجد من أسرار الحياة هُنا؟"
"لعلَّ وعسى!"
أمر الملك لقمان القوى الملائكيّة بفض الاشتباك بين قبائل القرود، ونزل هو والملكة إلى مجموعة من القرود السّود كانت تفترس بعض القرود البيض، حاولت القرود الهرب فمنحها الأمان، ووهبها لغة ليتمكّن من التّفاهُم معها، وحطّ هو والملكة على مقربة منها.
توقّفت بعض القرود عن التهام لحوم فرائسها ووقفت على أرجُلها وراحت تنظر إلى الملك والملكة بدهشة، فيما ظلَّ بعضُها ينهش لحم فرائسِه بنهم ويرقب ما يجري بحذر.
هتف الملك لقمان:
"السّلام عليكم!"
فرد عليه قرد كان يقف مُتكئاً على عصا ويتقدّم مجموعة من القردة المتحفزّة:
تأمَّل الملك لقمان أجسام القردة، كانت كبيرة الشَّبه بأجسام البشر وليست كما رآها عن بُعد، غير أنّها كانت مغطّاة بشعر كثيف طويل.
ودنا من جسم أحد القتلى من القرود البيض، لم تكن القرود السّود قد افترسته بعد، كان جسمه أقرب إلى جسم الإنسان أيضاً منه إلى جسم القرد، وكان شعرهُ أشقر، غير أنّ ظهره كان منحنياً قليلاً، وقد توقّفت القرود عن نهش لحوم القردة الأخرى التي كانت مطروحة ممزقة الأشلاء، ما عدا واحداً ظلَّ ينهش لحم رِجل كان يأخذها بيديه الاثنتين، وحين نظر إليه الملك لقمان أوقف فكيّه عن الحركة وظل رافعاً الرّجل أمام ذقنه وعيناه تحدجان الملك لقمان بقلق وتوجّس، وحين التقت عينا الملك لقمان بعينيه سكنت نظراته فيما ابتسم الملك لقمان وهتف:
"صحّة وعافية!"
فهتف القرد:
"تفضّل يا مولاي"
فقال الملك لقمان:
"شكراً ممنونك!"
فضحكت الملكة نور السَّماء وهتفت إلى الملك لقمان تخاطراً:
"ها أنت بدأت ترضخ لقوانين الطبيعة يا حبيبي!"
فهتف الملك بلهجة لا تخلو من انفعال:
"مستحيل أن أرضخ"
"لكنك تبدو كذلك!"
"لا! لست كذلك"
تساءَل الملك وهو يعود ليدنو من القرد ذي العصا:
"عفواً ماذا أنتم أيّها الكائن؟!"
"نحن بشر يا مولاي"
لم يُفاجأ الملك لُقمان بالإجابة، ومع ذلك راح يتأكّد:
"أمتأكّد أنت من ذلك؟"
"كُلَّ التأكيد!"
"ما أدراك أنّك مُتأكّد؟"
"حسب المفاهيم اللغويّة والمعرفيّة التي مُنحت لي قبل قليل فأنا متأكّد"
أطرق الملك لقمان للحظة وتساءَل:
"والبيض هل هم بشر أيضاً"
"أجل إنّهم بشر"
"لِمَ تأكلون لحومَهم إذن طالما تعرفون أنّهم بشر؟"
"نحن نأكل لحم البشر"
"تأكلون لحم البشر؟"
"أجل!"
"يخرب بيتك ألا يوجد نباتات لِتأكلوا ثمارها وحيوانات لتنهشوا لحومها حتّى تأكلوا لحم البشر؟"
"بل يوجد، لكنا افترسنا معظم منْ تمكّنا مِنَ افتراسِه مِنَ الحيوانات، وآتينا على ثمار النّباتات كُلّها، وهذا ما حدث في بلادِنا أيضاً"
"إذن هذه ليست بلادكم؟"
"لا، هذه بلاد البيض يا مولاي"
"وأنتم قمتم بغزوها؟"
"أجل يا مولاي، غزوناها بحثاً عن النّباتات والحيوانات لكنّا فوجئنا بوجود هؤلاء البيض فيها إلى جانب الحيوانات والنّباتات"
"فأتيتم على معظم الحيوانات والنّباتات والآن ستأتون على مُعظم البشر"
"وماذا سنفعل يا مولاي فأعدادنا هائلة، والجوع قد يفتك بنا"
فهتف الملك لقمان:
"أكان يجب أن تتكاثروا بهذا القدر؟"
"وماذا نفعل يا مولاي"
"حدّدوا النّسل يا أخي!"
وراحت الملكة تضحك، فيما الرّجل يجيب:
"نحن لا نريد أن نحدد النّسل ولا نعرف كيف يُحدد؟!"
"ولماذا لا تريدون أن تحددوه؟"
"لكي نبقى الأكثر والأقوى!"
"وهل يفترسكم البيض أيضاً فيما لو انتصروا عليكم أو انفردوا بأحدكم؟"
"البيض هُمْ من بدأوا غزو البلدان وافتراس البشر يا مولاي، ولا يفترسون السود فقط. بل والبيض أيضاً!"
"الله يخرب بيتكم وبيت الطبيعة وقوانينها وبيت هالحياة الفظيعة إليّ عايشينها!
ألن تتوقفوا عن افتراس بعضكم بعضاً؟"
"هذا ممكن يا مولاي إذا وجدت حيوانات ونباتات مثمرة تكفي لنا جميعاً"
"هذه مشكلة سأحلّها لكم، كم عدد سُكّان هذا الكوكب؟"
"لا نعرف يا مولاي"
"صحيح نسيت، فأنتم لا تعرفون العَد ولا يخطر لكم أن تحصوا بعضكم! طيّب هل يوجد سُكّان غيركم وغير البيض على الكوكب؟"
"يوجد يا مولاي بيض من عدّة أنواع وسود متنوّعون أيضاً، وثمّة بين السّود السُّمر من يأتون أفعالاً خارِقة مثلكم!"
"أف كيف؟"
"يُشعلون ناراً يا مولاي ويشوون اللحم عليها فتصبح رائحته طيّبة ومذاقه شهيّاً!"
"حقَّاً؟"
"أجل يا مولاي"
"فعلاً هؤلاء يأتون أفعالاً خارقة مثلنا، وهل يأكلون لحومكم هم أيضاً؟"
"أجل يا مولاي ويشوونها على النار، لكنّهم يفضّلون اللحم الأبيض لأنّه أطرى من لحمنا!"
"وأنتم ألا تعرفون إشعال النار؟"
"لا يا مولاي، لا يقدر على ذلك غير السَّحرة!"
"وإذا علّمتكم السّحر بماذا تكافئوني؟"
"هل تقدر على ذلك يا مولاي؟"
"أجل"
"نهديك مائة من أجمل إناثنا يا مولاي!"
وراح الملك والملكة يضحكان.
"وهل لديكم إناث جميلات؟"
"وأشار الرّجل إلى بعض الإناث كن يفترسن اللحم بشكلٍ وحشي وقد ترهّلت أثداؤهن وتدلّت شفاههن السُّفلى، فبدون للملك لقمان مِثالاً للبشاعة:
"مثل هؤلاء، أو أجمل قليلاً يا مولاي!"
"وهل هؤلاء جميلات؟"
"هذا الجمال الذي عندنا يا مولاي"
"وماذا سأفعل بهن؟"
"تفعل بهن ما تشاء، تتزوجهن مثلاً!"
وأغمي على الملكة من شدّة الضّحك فيما الملك لقمان يتساءَل وهو يشير إليها:
"وهل من لديه أُنثى بهذا الجمال يمكن أن يتزوّج من إناثكم؟"
فهتف الرّجل الأسود بدهشة:
"هل هي أُنثاك يا مولاي؟"
"أجل، ما رأيك بجمالها؟"
"إنّها أجمل من الشمس يا مولاي، هنيئاً لك بها!"
"الله يهنّيك.. وسأتنازَل عن المكافأة وأُعلمكم فنون السَّحر دون مقابل!"
"نكون شاكرين لك يا مولاي"
"وماذا يجيد هؤلاء السَّمر من فنون السّحر أيضاً؟"
"يحفرون كهوفاً في الجبال الصخريّة يا مولاي، ويستطيعون أن يفتكوا بطرائدهم عن بُعد باستخدام عصي طويلة لها رؤوس مدببة!"
"هل يمكنك أن تدلّني على بلادهم!"
"أجل يا مولاي، لكن ذلك يستغرق زمناً طويلاً"
"لا، معي لن يستغرق، هل أنت زعيم هؤلاء السّود؟"
"أجل أنا ملك قبائل السّود يا مولاي"
"وهل هُناك ملك لقبائل البيض أيضاً؟"
"يوجد ملك لكل قبيلة يا مولاي"
وأشار الملك لقمان إلى الملائكة ليأتوه بملك البيض، فجاءوا به محمولاً، وأوقفوه أمامه وهو يرتجف من شدّة الرّعب، فمنحه الملك لقمان الأمان واللغة وشيئاً من المعرفة، فأخذ يهدّئ من روعه.
هتف الملك لقمان:
"هل أنتم على استعداد لأن تتخلّوا عن الغزو والحروب وأكل لحم البشر إذا ما حللنا مشاكلكم أيّها الملك؟"
"سنفكّر يا مولاي!"
"أقول لك سأحِلُّ مشاكلكم تقول لي ستفكّرون؟!"
"السّود أبادوا مِنّا كثيرين يا مولاي"
"وأنتم أبدتم منهم وربّما من السُّمر والحمر أيضاً كثيرين، وآن الأوان لأن تبدأوا حياة جديدة".
"حين نعرف ما ستكون عليه هذه الحياة سنرى!"
وأحسَّ الملك لقمان للحظات وكأنّه يحاوِر إنسياً من سُكّان الأرض، فهتف:
"يا أخي أنت مهزوم أمام السود وضعيف القوى وتصر على معرفة كُل شيء مسبقاً؟"
"لكي أطمئن يا مولاي"
"اطمئن أيّها الملك، فستجد من الخيرات ما يكفيك ويكفي قبائلك كُلّها"
"قد نقبل حينئذ يا مولاي"
"جيّد! إذن ستذهب معنا إلى بلاد السُّمر والحمر لنبحث الأمرَ معهم"
"لم تعرّفنا على نفسك يا مولاي"
"أنا ملك قبائل السُّمر والبيض والسود والحمر في كوكب آخر"
"وهل هُناك كواكب أُخرى غير كوكبنا!"
"هُناك كواكب كثيرة أيّها الملك"
"وكل سُكّان هذه الكواكب مثلكم؟"
"مِثلنا ومثلكم أيضاً!"
"وكيف تطيرون وأنتم بلا أجنحة، هل أنتم سحره؟!"
"لا لسنا سحره، وهذه مسألة يصعب عليكم استيعابها أيّها الملك"
"وهل ذاك الشيء الذي يحلَّق في السَّماء لك؟"
"أجل أيّها الملك، إنّه لي"
"وهذه الأُنثى الجميلة؟"
"وهذه أيضاً لي!"
"ما أجملها، هل تأكلُ لحمها لو جُعت؟"
"لا، لن آكله حتّى لو مُتُ من الجوع، هل تظن أننا متوحشّون مثلكم؟"
"هي فعلاً جميلة إلى حد أن أكل لحمها سيكون خسارة كبيرة، هل تبقيها عندنا يوماً لنتفرّج عليها يا مولاي؟"
"تتفرّجون عليها فقط أم أنّ لديك نوايا أُخرى أيّها الملك؟"
"تقصد أن.."
"آه أن أن!"
ويبدو أن الملك الأبيض يعرف الخجل أو أنّه اكتسبه من المعرفة البسيطة التي منحه إيّاها الملك لُقمان، مع أنّه كان عارياً دون أن يعتريه الخجل، أمّا الآن فقد تولاّه الخجل بعض الشيء، فيما كانت الملكة تضحك كطفلة.
"لا يا مولاي، لن ألطّخ جسدها الجميل بقذارة جسدي!"
"إذا ساعدتموني في التخلّص من تناول لحم البشر وإقامة الصُّلح بينكم، والعيش بسلام وتعاون، سأجمُلكم لتصبحوا أنتم ونساؤكم جميلين مثلنا، وسأمنحكم المعرفة واللغة"
"هل أنت قادِر على ذلك يا مولاي؟"
"بإذن الله سأقدر"
"قلت الله يا مولاي؟"
"أجل أيّها الملك"
"ومن هو الله وماذا يكون؟!"
"لن تقدروا على معرفة من هُوَ إلاّ إذا تعاونتم معي"
"اُعاهدك على أن نتعاون معك يا مولاي"
"اتفقنا إذن، أين إناثكما؟"
وأشار ملك السود إلى مجموعة الإناث المفترسات، كنّ يأخذن أشلاء البيض بأيديهن وينهشن اللحم عن العظام.
فتساءَل الملك لقمان:
"كل هؤلاء لك؟"
"أجل يا مولاي"
"الا توجد بينهن من هي زعيمة أو ملكة مثلك؟"
"بل يوجد يا مولاي"
وأشار إلى واحِدة وهو يتفوّه بصوت أقرب إلى الهمهمة"
فهمهمت الملكة بدورها وألقت يداً كانت تنهش لحمها من يديها"
ونهضت ودنت من الملك الأسود وهي تمتص شفتيها تارة وتلحسهما بلسانها تارة أُخرى، وراحا يهمهمان بلغتهما.
وأشار الملك لقمان إلى الملك الأبيض ليأتي بملكته أيضاً، فأومأ بيده إلى جماعة من البيض كانوا يختلسون النّظر من خلف الأشجار، وهمهم بأصوات يختلف جَرْسُها عن الأصوات التي همهم بها الأسوّد، فانبرت أُنثى من بينهم وتقدّمت، وما أن وصلت حتّى راحت تهمهم مع زوجها.
تساءَ ل الملك لقمان:
"يبدو أنّ لكل قبيلة منكم لغتها؟"
فقال الملك الأبيض:
"نعم يا مولاي، لغاتنا مختلفة قليلاً، لكنّا نستطيع فهم بعضنا"
"وهل أخبرتما الملكتين بما اتّفقنا عليه؟"
"أجل يا مولاي ووافقتا بكلُ سرور!"
وأشار الملك لقمان بيده وإذا بالماء السَّاخنُ ورغوة الصابون يهطلان على الملكين والملكتين من السَّماء، فراحوا يصرخون وقد اعتراهم الرّعب"
فهتف الملك لقمان:
"لا تخافوا، استحّموا استحمّوا!"
فهتف الأسوّد:
"كيف سنستحم يا مولاي؟"
"أفركوا أجسادكم ودلّكوها وادعكوها لتطرحوا الأوساخ عنها، وإلاّ لن أصطحبَكم معي!"
وشرعوا في دعك أجسادهم وهم يتضاحكون ويتصايحون، ووضع الملك لقمان في أيديهم ليفا وطلب إليهم أن يدعكوا أجسادهم بها ما أمكنهم ذلك، وتخلّى السّود عن نهش اللحوم وراحوا يرقبون الملكتين والملكين وهم يضحكون، أمّا الآلاف من البيض والسّود الذين كانوا يختلسون النّظرات من خلف الأشجار ومن بين الأغصان فقد تجرّأوا على الاقتراب قليلاً وراحوا يرقبون ما يجري بدهشة.
همهمت أنثى من بين السّود ببضع همهمات، وبدا من حركاتها وفرحتها بما يجري أنّها ترجو الملك لقمان أن يمطر على الباقين مثلما أمطر على الملوك، ففهم الملك لُقمان عليها وهمهم لها هاتفاً ما معناه:
"هل تعدوني بعدم أكل لحم بعضكم بعضاً؟"
فهمهم بعض السّود بالإيجاب، فنظر الملك لقمان إلى البيض الذين أخذوا يقتربون دون أن يعتريهم الخوف، وهمهم لهم متسائلاً، فهمهموا بالإيجاب أيضاً، فأشار الملك بيده وإذا بالسَّماء تهطل على الغابات في المنطقة كُلّها ماءً ساخناً ورغوة صابون وليفاً، فشرعوا يتقافزون ويضحكون ويستحمّون.
وكانت الرّغوة التي أنزلها الملك لقمان من زيت الزيتون النقي وخالية من المواد الكيميائية كي لا تؤذي الأشجار، وكانت حرارة الماء أقل قليلاً من حرارة جسم الإنسان.
فرغ الملوك من الاستحمام فأنزل الملك لُقمان عليهم مناشف وما أن نشّفوا أجسادهم حتّى ستر عوراتهم بقماش أخضر، ولم يلبسهم لباساً كامِلاً لأن شعورهم كانت طويلة ولا تحتمل أجسادهم الملابس.
ودنا الملك لقمان من أشلاء وعظام البيض التي كانت متناثرة هُنا وهناك، فراح يجوب المكان بنظراته متابعاً تناثرها، وما لبث أن أخفى وجهه بيديه هاتفاً إلى الله وقوى الملائكة أن تساعده لإعادة الحياة إليهم، وظلَّ مُطرقاً للحظات دون أن يرفع يديه عن وجهه، ثمَّ رفعهما وهتف "قوموا" فأخذت الحياة تدبُّ في الأشلاء والعظام تكتسي باللحم والدم، والأطراف تتجمّع وتلتحم لينهض بعد ذلك بشر متطوّرون أكثر من مليون عام عمّا كانوا عليه قبل افتراسِهم، فبدوا بشراً حقيقيين في غاية الجمال والكمال، يرتدون أجمل الملابس فجثوا على ركبهم في كل مكان، أمام الملك لقمان ومن حوله وفي الغابات التي في المنطقة كُلّها، وجثا الملكان والملكتين وجميع أتباعهم على ركبهم، في كل الغابات جثوا، ودنا الملك لقمان من الملوك وهتف إلى ملك البيض الذي سأله من هو الله وماذا يكون، قائلاً:
"هذا هو الله أيّها الملك وهكذا يكون، رؤيته في قدرته وقدرته في رؤية فعله، إن تكونوا معه يكون معكم، وإن يكون معكم تكونوا معه، وإن تكونوا مع أنفسكم يكون معكم، وإن يكون مع نفسه تكونوا معه، هو واحد لا أحد غيره، وحدانيّته في تعدده وتعدده في وحدانيّته، هو الكُلُّ في الكُلِّ بالكُلّ، والكُلُّ بالكُلِّ في الكُلِّ هو!"
فخرَّ ملك البيض ساجداً وهو يهتف:
"إنّي آمنت بكَ وبإلهك يا مولاي، وسأوافق على أيّ حلٍّ تفرضه على سُكّان الكوكب"
وخرّ ملك السود والملكتين، وخرَّ جميع من في الغابات، معلنين إيمانهم، فأشار الملك لقمان بيده في كل الاتجاهات وإذا بهم يتحوّلون من آخر أطوار القردة إلى الطور الإنساني المتقدّم الذي بدا فيه القتلى، ومنحهم لغة ومعرفة متطوّرتين.
وأشار الملك لقمان بيده مرّة ثانية، فنبتت ملايين الأشجار المثمرة، وأشار مَرّة ثالثة وإذا بقطعان الحيوانات على اختلاف أنواعها تملأ الغابات والسّهوب، وأشار مَرّة رابعة وإذا بآلاف الموائد من الأطعمة المختلفة والشّراب تمتد في كل مكان، واللحوم تُشوى على نيران هادئة. فصرخ كُلَّ من في الغابات هاتفين: "الله، الله" ليتردد رجع أصواتهم من الأودية وسفوح الجبال.
ودعاهم الملك لقمان إلى النّهوض، فنهضوا ليهتف إليهم:
"هيّا تصالحوا، فمن صالح أخاه الإنسان تصالح مع الله، ومن عانق أخاه عانق الله، ومن قبّل أخاه قبّل الله، ومن أحبّ أخاه أحبّ الله، وأحبّه الله، وقبّله وعانقه وتصالح معه"
فشرعوا جميعاً في العِناق وتبادُل القبل والرّقص، فبدوا فرحين إلى حد لم يبلغه بشر من قبل. فدعاهم الملك لُقمان إلى مائدة الله ليتناولوا الطّعام والشَّراب.

* * *
(8)
عقلٌ طوطمي!

أصعد الملك لقمان الملكين والملكتين معه إلى المركبة واستضافهم في إحدى الشُّرْفات.. كان الملكان مشدوهين بجمال الملكتين بعد تحوّلهما، وجمال النّساء اللواتي شاهداهن على المركبة.
أقلعت المركبة بسرعة تفوق سرعة الصوت بحوالي خمس مرات، قاصدة بلاد قبائل السُّمر. كان السُّمر قد خرجوا للصيد في الغابات وراحوا يطاردون الحيوانات بما فيها القردة المتطورّة وينصبون لها الكمائن أو يحاصرونها بإشعال النار في أطراف الغابة وملاحقتها من الجهات الأُخرى.
هبط الملك لقمان والملكة نور السَّماء على العرش الطائر ليحلّقا فوق غابة كبيرة كانت النيران تشتعل في أطرافها والحيوانات تُحاصَرُ خلفها، وترتد هاربة ناحية منتصف الغابة لتفاجأ بآلاف الرّماح والسّهام تنطلق نحوها دون تمييز، فتهرب يميناً أو شمالاً لتفاجأ بالنيران أو بجماعات مهاجمة أُخرى، فتضطر إلى خوض صراع انتحاري رهيب، يُصرع فيه الكثير منها بينما تنجح بعض الحيوانات القويّة في اختراق الحصار والفرار، خاصّة وأنّ المهاجمين كانوا يخلون لها الطريق بتمترسهم خلف الأشجار إذا ما عجزوا عن مواجهتها.
أنزل الملك لقمان مطراً غزيراً فأطفأ النار وأتاح لمن بقي سالماً من الحيوانات الخروج من الحِصار والهروب، وحين شاهد الرّجال السُّمر العرش يهبط نحوهم، والمركبة وحُرّاسها ومرافقوها يحلّقون في السَّماء تخلّوا عن الحيوانات التي اصطادوها وولّوا الأدبار، غير أن عرش الملك ظلَّ يُلاحقهم ويهبط نحوهم إلى أن اقترب منهم، فمنحهم الأمان وأشار إليهم بالتّوقف، فتوقّفوا.
هبط الملك والملكة من العَرش ليحطّا أمام مجموعة من الرّجال كانوا يسترون عوراتهم بجلود الحيوانات ويحملون رماحاً ونبالاً، ولم يكن بينهم نساء، وبدا واضحاً أنّهم يستحمّون، فلم يكونوا قذرين بشكل ظاهر، وكانت شعورهم طويلة بعض الشيء.
اكتسب الملك لقمان لغتهم بدلاً من أن يمنحهم لغة وخاطبهم متسائلاً:
"أين مليككم أيّها الرّجال؟"
فانبرى من بينهم شاب قوي البُنية وتقدّم بضع خطوات وتوقف ليجيب وهو يُركّز عقب رمحه في الأرض:
"وماذا تريد منه؟"
"أريد أن أتحدّث إليه"
"ألن تأسره أو تقتله؟"
"لا اطمئن، لن أفعل له شيئاً"
"وعن ماذا ستتحدّث إليه؟"
"عن شؤون الكوكب"
"هل تقسم أنّك لن تقتله ولن تُسيء إليه؟"
"بماذا سأقسم؟"
"بطوطمنا!"
"وما هو طوطمكم؟"
"النّسر الكبير!"
"النّسر الكبير؟ لعلّك تقصد العنقاء؟"
"بل النّسر الكبير"
"هل انحدرت قبائلكم منه؟"
"هذا ما قاله لنا أجدادنا!"
"وماذا عن القردة والكناغر والأسود والحيتان والخفافيش وغيرها، أليس بينكم من يتّخذ منها طواطم؟"
"توجد قبائل أُخرى من السُّمر والحمر تتخذ منها أو من بعض النّباتات طواطم لها"
"وهل تعبدون طوطمكم؟"
فضحك الشاب وهو يهتف:
"ولماذا هو طوطمنا إذا لم نعبده؟
"حسناً أيّها الشاب، أقسم بطوطمكم والطواطم كُلّها ألاّ أُسيء إلى ملككم"
ويبدو أنّ الشاب اقتنع أخيراً بكلام الملك لقمان:
"ملكنا في قصره في المدينة أيّها السيّد!"
"أُف، هل لديكم مدينة؟"
"أجل أيّها السيّد"
"هل تصحبونا إليه أم نرسل من يأتي به إلينا؟"
"أبونا الملك لا يأتي إلى أحد، كل النّاس يأتون إليه!"
تعجّب الملك لقمان لهذه الكِبرياء التي عند الملك، وتساءل:
"هل الملك أبوكم؟"
"أجل، وهو ممثل طوطمنا على الأرض"
وأدرك الملك لقمان حقيقة كانت غائبة عن باله، فالأب إله أيضاً وليس ملكاً فحسب.
"وهل هُوَ أبوكم كُلّكم؟"
"أجل!"
"كم زوجة لديه؟"
"كُلّ النّساء زوجاته!"
"وكُلّ الرّجال أبنائه؟"
"أجل!"
"عجيب، والنّساء ألسن بناته؟"
"أجل إنّهن بناته!"
"أي أنهن زوجاته وبناته في الوقت نفسه؟ غريب! ألا يترك نساء لكم وللرجال الآخرين؟"
"بلى، فهو لا ينكح المرأة إلاّ مَرّة واحدة، ويتركها لأبنائه"
"والواحد منكم ينكحها مرة واحدة ويتركها لغيره أيضاً؟"
"حسبما يريد أيّها السيّد"
"أيُّ عالمٍ هذا؟ ألا يوجد لأبيكم نسوة خاصّات به ولا يمسسهن غيره؟"
"بل يوجد لديه مائة!"
"وأنتم من أبناء هؤلاء المائة؟"
"بعضنا من أبنائهن وبعضنا من غيرهن"
"ألا تفرّقون بين أخواتكم وأمّهاتكم وغيرهن من النّساء؟"
"لا، لا نفرّق، نحن ننكح الجميع!"
"حتّى الأم والبنت؟"
"أجل!"
"ألا يوجد عندكم محرّمات؟"
"لا، لا يوجد شيء محرّم إلا قتل الملك الأب!"
"أيوه! إذن نذهب نحن إلى أبيكم بصفته ملككم وإلهكم، وإن كنت أعتقد أيّها الشاب أنني ملك أهم من أبيكم وكان يجب أن يحضر هُوَ إليّ!"
فانزعج الشاب وهتف بلهجة غلبت عليها الكبرياء والعُنجهيّة:
"لا يوجد في الدّنيا ملك أهم وأعظم من أبي!"
"ألأنه أبوك؟"
"بل لأنّه عظيم الُعظماء!"
"ما هي حدود مقدرته؟"
"مقدرته ومقدرة طوطمنا لا تُحد!"
"مثلاً؟"
"أنهّما يقدران على كُلّ شيء وعلّمانا إشعال النار وصنع الرّماح والنّبال وحفر الكهوف ورسم الحيوانات والبشر على الصخور، وغير ذلك كثير"
"هل لدى أبيك مركبة طائرة ويستطيع أن يطير مثلي وأن ينزل الأمطار كما فعلت أنا حين أطفأت نيرانكم لأنقذ الوحوش؟"
"لا، لكن جدّي الطوطم يطير وينزل الأمطار ويقدر على فعل كل شيء"
"هل رأيت جدّك هذا ينزل الأمطار؟"
"ومن يقدر على إنزالها غيره؟"
وعبثاً حاول الملك لقمان أن يجد وسيلة يتفاهم بها مع هذا العقل، ويعرف حدود وعيه ومعرفته.
"ألم تراني أيّها الشاب أنزل الأمطار، فكيف تقول أنه لا يقدر على ذلك غير طوطمك؟"
"لقد شاء هو أن تنزل!"
"يا أخي أنا وإلهي من شاءا وليس طوطمك النّسر!"
"بل طوطمي!"
"لا حولَ ولا قوّة إلاّ بالله.. طيّب! ما رأيك أيّها الشاب أن تدعو أنت طوطمك لأن يقوم بعمل ما، وأنا سأدعو إلهي، وسنرى من يستجيب إلهه له"
"إلهي قد لا يستجيب لي أيّها السيّد"
"لماذا؟"
"هو في الغالب لا يستجيب إلاّ لأبي لأنّه ممثله على الأرض!"
"وهل يستجيب لأبيك فعلاً؟"
"أجل، لأن أبي يقول ذلك"
"ولماذا استجاب لي وأنزل الأمطار على النار وأنا لا أؤمن به؟!"
"هو لم يستجب لك، هو شاء أن تنزل!"
"ألم يشأ أن تنزل إلاّ في اللحظة التي شئت فيها أنا؟"
"هذه حكمته!"
ونفخ الملك لقمان من فمه غاضباً:
"يبدو لي أنَّ التَفاهم معك مستحيل أيّها الشاب.. على أيّة حال أنا سأطلب الآن إلى إلهي أن يقصف الرَّعد بدويّ هائل فوق هذا المكان، لقد طلبت أيّها الشاب فاحترس أن ينشطر جسدك من شدّة القصف أو أن تخسف بك وبإخوتك الأرض.
والتمع برق هائل في سماء خالية من الغيوم وقصف رعدٌ خرَّ من جرّاء دويّة الشاب وأخوته وجميع السُّمر منبطحين على الأرض وقد أخفوا رؤوسهم بأيديهم، وانتاب الملك لقمان إحساس بأنه سينتصر أخيراً في هذا الحوار المستحيل!
راح السُّمر يصرخون ويرتجفون رعباً، فأوقف الملك لقمان القصف. وطلب إلى الرّجال أن ينهضوا، غير أنّهم بدلاً من ذلك، سجدوا وراحوا يشكرون طوطمهم الذي أنقذهم من الموت!
جنّ الملك لقمان وشعر بدخيلته تغلي وكأنّ بركاناً سيتفجّر فيها، فأشارت عليه الملكة بأن يهدأ ويكون صبوراً لأن إيمان هؤلاء الطوطميين مسألة في غاية العمى كما يبدو.
نهض الرّجال من سجودهم، فخاطب الملك الشاب:
"إذن تظنّون أنّ طوطمكم هو من أمر بقصف الرّعد؟"
"نحن لا نظن بل نجزم!"
وأدرك الملك لقمان أنّ السير بالحوار في الاتجاه الطوطمي لن يكون مجدياً، فتحوّل ليركّز على قدرات الملك الأب:
"ألا تقول لي كيف يُشعل أبوك النار أيّها الشاب؟"
"هذا سِر مُقَدّس لا يمكننا البوح به"
"حتّى لو كُنّا نعرف كيف نشعل النار؟"
"هل تعرفون؟"
أُف هذه مسألة سهلة عندنا، أُنظر"
ومَدّ الملك لقمان يده نحو كومة من الحطب فانطلقت من أصابعها أسهم ناريّة أشعلتها كُلّها.
"ما رأيك؟"
كان الشاب ينظر بدهشة إلى النار وما لبث أن نظر إلى الملك لقمان.
"ما رأيك؟ ما زلت تظنُّ أنّ أباك أعظم منّي وأهم؟"
"أجل أيّها السيّد رغم اعتقادي أنّك تملك قدرات عظيمة"
وأحسَّ الملك لقمان أنّ عقل الشاب بدأ يلين قليلاً، أشار بيده وإذا بمطر يهطل على النّار ليطفئها.
"طيّب أيّها الشاب، هل يستطيع أبوك أن لا يدع الرّماح والنّبال تخترق جسده؟"
"لا أعرف، هل تستطيع أنت أيّها السيّد؟"
"طبعاً أستطيع، فهيّا أنت وإخوتك، اطلقوا سهامكم ورماحكم علينا أنا والسيّدة"
"سنقتلكما أيّها السيّد"
"إن قتلتمونا يمكنكم أن تشوونا على النار وتأكلونا فلحمنا طيّب وشهيّ"
وسدد الشاب سهمه مغتبطاً بالفكرة التي ستتيح له التّخلّص من هذا العدو قبل أن يخلّص عليه وعلى قومه، وطلب إلى إخوته أن يسددوا رماحهم ونبالهم.
وضع الملك لقمان يده على كتفي الملكة نور السَّماء التي شرعت في الضّحك. أطلق الشاب وأخوته سهامهم ورماحهم لترتد متكسّرة من أمام جسميّ الملك والملكة وكأنّها ارتطمت بجدار زجاجي.
وقف الشاب وأخوته مشدوهين. تساءَل الملك لقمان:
"والآن أيّها الشاب من الأعظم أنا أم ملككم؟"
فهتف الشّاب بإصرار:
"بل ملكنا!"
وشعر الملك لقمان أنّه عاجز عن إدراك عقم هذه العقليّة لولا أن خطرت له فكرة:
"قل لي أيّها الشاب؟"
"نعم أيّها السيّد"
"هل يتوعّدكم طوطمكم بالعقاب الشّديد إذا ما آمنتم بغيره وبغير ممثله على الأرض، أو اعتقدتم بأن ثمّة من هو أقوى منهما؟!"
"أجل يا مولاي"
"بماذا يعاقبكم؟"
"يحملنا بمخالبه ويصعد بنا إلى أعالي السَّماء ويُلقينا من هُناك!"
"أيوه! وهل سبق أن حدث ذلك أمامكم؟"
"كثيراً أيّها السيّد"
"ماذا كان النّسر يفعل؟"
"يحمل أحدنا ويطير به، ثمّ يلقي به من الأعالي على الصّخور الجبليّة"
"وبعد ذلك؟"
"يهبط عليه ويشرع في نهش لحمه!"
"أيوه! وماذا لو حميتك من النّسر هل تؤمن بعظمتي؟"
"لا!"
"لماذا؟"
"لا أستطيع أن أغيّر قناعاتي بطوطمي"
"وماذا لو خيّرتك بين الإيمان بي وبإلهي أو قتلك؟"
"اقتلني إن استطعت لكنّي لن أُغيّر طوطمي"
"إذن هيّا أيّها الشاب حاوِل أن تدافع عن نفسك لأنني سأُهاجمك"
وتحفّز الشاب وإخوته مشهرين رماحهم ونبالهم وعصيهم لخوض معركة يدركون أنّهم سيهزمون فيها بيُسر، ولم يتنبّه الشاب لنفسه إلاّ وقوّة خفية تحمله وتصعد به إلى أعلى وتتوقف على ارتفاع خمسين متراً أو أكثر!
"آه أيّها الشاب، هل تؤمن بي وبإلهي أم أدع قوانا تصعد بك أكثر إلى أعلى وتقذف بك؟"
"يمكن أن تفعل ما تشاء لكنّي لن أؤمن بك وبإلهك!"
"هل تظن أنّك ستموت شهيداً وتذهب روحك إلى الجنّة؟!"
وكم فوجئ الملك لقمان بالإجابة، فقد طرح السُّؤال ساخِراً دون أن يقصده لاعتقاده أنّه لا يوجد جنّة عند الطوطميين:
"أجل فطوطمي سيحمل جسدي ويصعد به ليضعه في جنّة السّماء!"
"أيواه! هكذا إذن؟!"
وأشار الملك إلى الملاك أن يصعد به عالياً في السَّماء، فصعد به إلى أن بدا بحجم الغُراب، فطلب إليه الملاك أن يستسلم فلم يستسلم، فأشار إليه الملك لقمان أن يلقيه ويتبعه ليمسكه فور استسلامه إذا ما استسلم، وقبل ارتطامه بالأرض إذا لم يستسلم، فألقى به.. وعبثاً انتظر الملك لقمان أن يسمع كلمة من الشاب.
التقط الملاك جسده قبل أن يرتطم بالأرض، وحمله ليوقفه أمام الملك لقمان:
ربت الملك على كتفه وسأله:
"هل خفت؟"
فهتف الشاب بكبريائهِ:
"قليلاً!"
"هل كنت متأكِّداً من أنني سأميتك؟"
"أجل"
"هل يُمكنك أن تقول لي أين يكمن السِّر في إيمانك غير المحدود بطوطمك هذا، بحيث لم تستسلم حتّى وأنت تدرك أنّك ستلاقي حتفك؟!"
"ليسَ هُناك أكثر مما أخبرتك به، طموطمي يعدني بحياة راغدة في الجنّة إذا ما مُتُّ وأنا على إيماني به، ويتوعّدني بنهش لحمي إذا ما متُّ متخليّاً عن هذا الإيمان!"
وأدرك الملك لقمان أن المسألة باتت واضحة تماماً، وأنّه لن يتمكن بيُسر من ثني هذا الطوطمي الصغير عن إيمانه، فكيف بالطوطمي الكبير أبيه؟!
هاتفته الملكة تخاطراً:
"الآن عرفت يا حبيبي لماذا خرج أبناء الأرض يتعبّدون لآلهتهم بعد أن نزعنا الأسلحة وأمطرنا الجواهر!"
فهزّ الملك رأسه وسألها أن تفكّر معه لعلّها تتوصل إلى وسيلة تمكّنه من ثني هذا الطوطمي عن رفضه وعناده، فقالت:
"ما رأيك يا حبيبي أن تختصر الطّريق إلى هديه وتسأله كيف يمكنك أن تثنيه عن عبادة طوطمه وتجعله يؤمن بك وبإلهك؟"
وأعجبت الفكرة الملك لقمان فسأل الشاب على الفور وهو يتمنّى في سريرته أن يجيب.
أطرق الشاب للحظات متفكّراً وما لبث أن هتف:
"أن أرى طوطمي يسجد لك!!"
صفع الملك لقمان صلعته براحة يده وهو لا يصدّق أنّ هذه الفكرة غابت عن باله. وراح يهتف في دخيلته "يا إلهي" حين أدرك أنّ المشكلة العسيرة ستكون مع أبناء قومِه وكوكبه، فهي حقّاً أعسر وأعقد بكثير مما كان يتخيّل، أمّا مع الطوطميين الذين هُنا فقد تبيّن له أنّ المشكلة بسيطة إلى حد غير معقول، بعد كلّ هذا العَناء والرّفض، بل لم يكن هُناك مشكلة على الإطلاق.
شكر الملكة من أعماق قلبه لهذه الفكرة العظيمة، وهتف للشاب:
"هل يكفي أن يسجد لي نسرٌ واحد أيّها الشاب أم تريد أكثر؟"
"كما تريد أيّها السيّد"
وبدا أنّ الشاب يعتقد في قرارة نفسه أن أيّ نسرٍ لن يأتي ويسجد لهذا الرّجل، وراح يهيّءُ نفسه لإعلان النّصر على الملك.
خاطب الملك لقمان النّسور التي في المنطقة تخاطُراً طالباً إليها الحضور، وخلال لحظات كانت النّسور تقبل من كُلّ النّواحي محلّقة في السَّماء، وما أن رآها الرّجال السُّمر حتّى سجدوا على الأرض واضعين أيديهم فوق رؤوسهم، فأدرك الملك لقمان لماذا تختطفهم النّسور بهذه السّهولة، فهم يسجدون لها ويدفنون رؤوسهم بدلاً من المقاومة!
أخذت النّسور تهبط لتحطَّ أمام الملك لقمان ومن حوله وتسجد له، فحطّ أكثر مِن ألف نِسر، فخاطبها الملك لقمان تخاطراً معتذراً إليها لهذا الإجراء الطارئ الذي استوجبه اعتقاد هؤلاء القوم بأنّها آلهتهم، وخاطب الشّاب وإخوته طالباً إليهم رفع رؤوسهم فرفعوها، ليروا النّسور كُلّها ساجدة للملك لقمان. ولم يكن أحد يتوقّع ما حدث بعد ذلك، فقد أخذ بعض الرّجال يطعنون قلوبهم بالسِّهام وينتحرون وهم يصرخون بأصوات مفجعة، فيما راح آخرون يتفجّعون ويلطمون على رؤوسهم ويدقّون صدورهم بقبضات أيديهم، وينطرحون أرضاً ليتدحرجوا بُطناً وظهراً ويذرّون التّراب على رؤوسهم وأجسادهم ويدقّون الأرض بقبضات أيديهم، ويضربون رؤوسهم بها وبجذوع الأشجار، وينتفون شعورهم!
أشار الملك لقمان إلى النّسور لتنهض من سجودها وتطير إذا ما أرادت، على ألاّ تبتعد لأنّه سيصحبها معه ليقنع الملك أن النّسور ليست طوطمه وأنّه ليس ممثلها على الأرض.
طارت بعض النّسور لتحطّ على أغصان الأشجار أو لتحلّق فوق المكان، فيما ظلّت الأُخرى واقفة أمام الملك ومن حوله..
هتف الملك لُقمان بالرّجال السُّمر:
"كفاكم قتلاً لأنفسكم وتعذيباً وندباً أيّها الرّجال، توقّفوا، فلستم أوّل بشر يكتشفون زيف طواطمهم وآلهتهم، ويدركون أنهم خدعوا لآلاف الأعوام"
فتوقّفوا وشرعوا يتكوّمون على أنفسهم ويسجدون.
هتف الملك لقمان:
"هيّا انهضوا فإلهي لا يحبُّ السُّجود ولا يتوعّد الناس بنهش لحومهم"
فنهضوا ليهتف الشاب:
"إنّا آمنّا بِك وبإلهك أيّها السيّد"
فقال الملك لقمان:
"إنّي أقول لكم فاحفظوا كلامي ورددوه:
من آمن بكائن صالحٍ أو تعبّد له دون أن يعرف حقيقة الله، كان كمن يكفر بالله، ومن آمن بكائن صالح أو تعبّد له وهو يدرك حقيقة الله، كان كمن يؤمن بالله ويتعبّد له. فأدركوا حقيقة الله قبل أن تؤمنوا به وتعبدوه، فمن لم يدرك حقيقته، ضلَّ عن الإيمان به والتعبّد له"
أصعد الملك لقمان الشاب معه إلى العرش الطائر، وأشار إلى الباقين بحمل جثث إخوتهم الذين انتحروا وإحضار الطّرائد التي اصطادوها واللحاق بهم في الفضاء، فلم يصدّقوا أنّهم سيطّيرون إلاّ بعد أن حاولوا ليجدوا أنفسهم يطيرون بكل سهولة وقد تخلّصوا من ثقل أحمالهم.
انطلق العرش تحفّ به الملائكة والنّسور وتحلّق فوقه المركبة ويتبعه الرّجال السُّمر حاملين فرائسهم ومن انتحر من إخوتهم.
كانت مدينة الملك قد حُفرت في سلسلة من الجبال الصخريّة الشاهقة، وبدا أنّ معظم بيوتها من الكهوف، وكانت آلاف النّسوة يجبن الأودية وسفوح الجبال أو يسلكن المسالك الضّيقة التي حُفرت بين الكهوف، وكان مُعظمهن يحملن الماء على ظهورهن في قِرَبٍ من جلود الحيوانات، فيما أُخريات يحملن حزم الحطب، وكنّ يسترن فروجهنّ وشروجهن بقطع من جلود الحيوانات، أمّا أثداؤهن فقد كانت طليقة.
وحين أطلَّ موكب الملك لقمان على المدينة والجبال والسّفوح المحيطة بها، والأودية والطّرق المؤديّة إليها، وشاهد النّاس مئات النّسور تحفّ بالموكب شرعوا في السّجود وإخفاء رؤوسهم بأيديهم، بحيث لم تبق امرأة أو طفل أو رجل لم يسجد، حتّى الملك ومن كان في قصره من النّسوة والأبناء والبنات فقد سجدوا في باحةٍ أمام القصر وفسحات أمام الكهوف، وحين أخذ الموكب يحلّق فوق المدينة تساءَل الملك لقمان عن موقع القصر، فأشار الشّاب إلى جبل صخري مُنعزل بدت كهوفه منتظمة إلى حد كبير، وأخذت أبوابها أشكالاً هندسيّة مستطيلة علتها بعض النّقوش التي حُفرت في الصّخر.
كان الملك وحاشية القصر ما زالوا ساجدين، فتساءَل الملك لقمان:
"إلى متى سيظلّون ساجدين؟"
فأجاب الشاب:
"إلى أن تنصرف النّسور!"
هبط الملك والملكة والشّاب ليحطّوا في الباحة أمام الملك وبعض نسائه، فيما راح باقي الرّجال السُّمر يهبطون في الأماكن التي يريدونها، فرحين بتحليقهم في السَّماء وبفرائسهم وبدينهم الجديد الذي اتّبعوه، والذي أتاح لهم أن يطيروا كما النّسور ومعها، وأخذوا يطلبون إلى الساجدين النّهوض ليزفّوا لهم النّبأ ببطلان طوطميّة النّسر، لينهض بعض الساجدين والساجدات مشدوهين مبهوتين لا يلوون على شيء، وما يلبثون أن يشرعوا في اللطم والنّدب.
هتف الملك لقمان وهو يقف أمام الملك الساجد:
"السَّلام على الملك"
غير أنّ طوطميّة الملك تحرّم عليه التحدّث مع الآخرين خلال السّجود فلم يجب ولم يرفع رأسه، فهتف ابنه:
"انهض يا أبي فطوطمك لم يكن طوطماً ولا إلهاً!"
فأبعد الملك يديه عن رأسه ورفعه ليصرخ به:
"هل جننت يا ولد؟"
"لا يا أبي فهذا الرّجل الذي أمامك هو ملك النّسور والكائنات كُلّها، وقد سجدت له النّسور أمام عيوننا جميعاً:
فهتف الملك:
"إخرس يا ولد قطع الطوطم لسانك، هذا ساحِر وليس ملكاً على أحد!"
وأحسَّ الملك لقمان أنّه أمام المشكلة من جديد، غير أنَّ الشاب تجرّأ وهتف بحدّة في وجه أبيه:
"حتّى لو كان ساحِراً يا أبي، فلقد بهرنا بسحره، وبهرَ طواطمك وسخّرها لخدمته، فانظر إليها ها هي تحلّق فوقنا تنتظر أي إشارة منه لتستجيب له، فما هو طوطمك هذا الذي يستطيع ساحر أن يخضعه لإرادته، وهو القادر على كل شيء كما كنت تقول؟ لقد آمنّا بهذا الملك العظيم وبإلهه ولم نعد نؤمِن بك وبطوطمك"
فراح الملك يصرخ وهو ينظر عالياً إلى النّسور فيما ظلّت النّسوة ساجدات:
"لا! لا! أنزل عليهم غضبك يا طوطمي العظيم، اخسف بهم الأرض أو أرسل جيشاً يحملهم إلى أعالي السَّماء ليقذفهم من هُناك على الصّخور المسننة، أنزل عليهم نارك وصواعقك" مزّق أجسادهم إلى أشلاء، واعصف برياحك العاتية لتبدد شملهم في الفيافي والقفار"
وانتظر الملك أن تستجيب النّسور له، غير أنّ أياً منها لم يستجب فشرع يصرخ باكياً بصوت مُفجع ويلطم رأسه وصدره، ونهضت النّسوة الساجدات وشرعن في اللطم وأخذن يعتصرن أثداءَهن أو يمزّقنها بأظفارهن حتّى تخضبت بالدّم.
دنا الشاب من أبيه وأمسك يديه، فراح الأب يصرخ من أعماقه وهو يتفّلت من يدي الابن:
"اتركني، أطلق يديّ أيّها العاق، اتركني أموت!"
وكان معظم النّاس في المدينة قد شرعوا في النّدب والعويل واللطم، فلم يعد قلب الملكة نور السَّماء يحتمل ما يرى، فهتفت إلى الملك تخاطراً.
"افعل شيئاً أيّها الملك، أشعر أنّ قلبي سينفطر حُزناً على هؤلاء الناس".
فهتف لها:
"إنّي أتألم بدوري، وأشعر أنني في حيرة من أمري لا أعرف ماذا أفعل"
"لا يُعقل أن تقف عاجزاً يا حبيبي أمام مشكلة كهذه"
"قولي لي ماذا أفعل وسأنفّذ في الحال"
"دع النّسور تمثل أمام الملك وتقول له الحقيقة على لسانها"
راقت الفكرة للملك لقمان فسارع إلى مهاتفة النّسور، فراحت تهبط من السَّماء وتمثل أمام الملك، غير أنّ المكان لم يتّسع لها فراحت تحطّ في كل مكان تستطيع الوقوف عليه.
هدأ الملك وراح يحدّق إلى كوكبة النّسور التي حطّت أمامه، وتوقّفت النّساء بدورهن عن اللطم، وأطلق الشاب يديّ أبيه.
هتف نسر ضخم كان يتقدّم كوكبة النّسور:
"السّلام على الملك "عجاج العاصفة" الذي عبدني هو وأجداده دون الله وسائر المخلوقات، وجعلوني طوطمهم المقدّس"
فانشرح صدر الملك وهتف:
"وعلى طوطمي العظيم السَّلام"
"أقول لك أيّها الملك، إنّ أجدادك أخطأوا حين اتّخذوني معبوداً لهم، لاعتقادهم أنّهم انحدروا من سُلالتي، ولاعتقادهم أنني الأقوى، وأنا لست إلاَّ مخلوقاً لإله عظيم، له كُلُّ شيء، ومنه صار كُلّ شيء وهو القادر على كل شيء، فاتبع إلهي إله الملك لقمان الماثل أمامك، تجد ذاتك أيّها الملك، وتطمئن نفسك، وامتثل إلى ما يقولُه لك، فهو الساعي بعون الله ورعايته إلى إعلاء الحق وإيصال كلمة الله إلى الكائنات كُلّها!"
وراح الملك "عجاج العاصفة" ينظر إلى الملك لقمان الذي أنزل الطمأنينة في قلبه، فهتف:
"إنّي أيّها النّسر المقدّس أعلن إيماني بمليكك وإلهه، والله على ما أقول شهيد!"
ومَدّ الملك لقمان يده وأخذ بيد الملك عجاج العاصفة وأنهضه وصافحه.
أشار الملك عجاج إلى ابنه أن يعلن لإخوته دخول الدين الجديد، فكلّف الشاب من ينقل الخبر إلى الناس في المدينة والبلاد كُلّها.
وطلب الملك لقمان إلى قوى الملائكة أن يأتوه بكل مَن انتحر مِن الرّجال، فأتوا بهم، وما أن مددوهم أمامه حتى أشار إليهم هاتفاً "قوموا" فقاموا وكأنهم لم يكونوا أمواتاً، وكانوا حوالي مائة "فقامت الأفراح في المدينة بدل الأتراح، ونهضت نسوة الملك، وشرعن في الرّقص، وأثداؤهن ما تزال مخضبّة بالدّماء، فأشارت الملكة نور السَّماء بحركة من يدها وإذا بجراحهن تلتئم.
وطلب الملك لقمان إلى الملك عجاج العاصفة أن يُشير بحركة من يده في الفضاء، فأشار، وإذا بجبلٍ من الكباش المذبوحة والمسلوخة يُقام في الفضاء، فتساءَل الملك عجاج:
"ما هذا يا مولاي؟"
"لقد فديت شعبك بهذه الكِباش أيّها الملك، لتكون طعاماً للنسور، كي لا تختطف أحداً منهم أو من أبناء الكوكب بعد اليوم"
"كم أنت عظيم أيّها الملك؟"
"ما عظيم إلاّ الله أيّها الملك، هيّا أدعُ ضيوفك لأن يقلعوا ويأخذوا فرائسهم"
"كيف أفعل ذلك يا مولاي؟"
"أشِر بيدك إلى الكباش وقل لهم تفضّلوا"
فأشار الملك عجاج بيده إلى جبل الكباش الماثل في السَّماء وهو ينظر إلى النّسور ويهتف:
"تفضّلوا أيّها النّسور المقدّسين!"
فشرعت النّسور في الطيران ليأخذ كل نسرٍ فريسة بمخالبه ويتابع طيرانه عائداً إلى أعالي الجبال التي يستوطنها.
كانت بعض النقوش التي تمثّل الملك والنّسر قد حُفرت فوق الباب الرّئيسي للقصر، أمّا الأبواب الجانبيّة فكان يعلوها نقش للنسر وحده.
ودعا الملك عجاج الملك لقمان والملكة نور السّماء إلى دخول القصر، فدخلا ليجدا نفسيهما في قاعة واسعة بعض الشيء، غير أنّ جدرانها لم تكن مستقيمة ومسطّحة تماماً، فقد كان فيها بعض الحُفر والنتوءات، وكانت النّقوش التي على الجدران للنسور والملك غير متقنة كالتي في الخارج، ولم يكن هُناك أي مقاعد منحوتة للجلوس، غير أنّ محيط القاعة كان مفروشاً بجلود الحيوانات.
ورافق الملك عجاج الملك والملكة إلى الحُجرة الأُخرى، لم يكن فيها أي شيء يُلفت الانتباه سوى أنّه يوجد لها باب في كل جدار يؤدّي إلى حجرة أُخرى لها ثلاثة أبواب أيضاً تؤدّي بدورها إلى حُجرات لكلّ حُجرة منها ثلاثة أبواب، لتشكّل ما يشبه المتاهة داخل القصر.
تعجّب الملك لقمان لهذا الحِس الأمني عند الملك عجاج الذي هداه إلى التفكير في عمل متاهة داخل قصره، بينما لم يهده حتّى الآن كما يبدو إلى تدجين الحيوانات أو اكتشاف الزّراعة.
تأكّد الملك لقمان من ذلك حين استفسر منه عن الأمر، فأشار إلى أنّهم كانوا يحضرون بعض الحيوانات حديثة الولادة ويبقونها لبضعة أيّام ثمَّ يأكلونها، أمّا عن الزّراعة فلم يكونوا يعرفون شيئاً.
أدرك الملك لقمان أنّ عليه أن يفعل الكثير لأبناء هذا الكوكب قبل أن يغادره، فتطوير أجسامهم وأشكالهم ولغتهم ومعرفتهم، سيكون عبئاً عليهم إذا لم يبنِ لهم مساكن متطوّرة بعض الشيء تتلاءَ م مع حالة التطوّر التي وضعهم فيها، ولن يختلف الحال مع الزّراعة والصّناعة وتدجين الحيوانات وتربيتها، فلا بدَّ من إيجاد وسائل وأدوات إنتاج تساعدهم على ذلك.
وعاد الملك ليدرك في دخيلته أن تحقيق عدالة مُطلقة في الكواكب، بل بين البشر مسألة مستحيلة، ولو لم يكن الأمر كذلك، لوضع أبناء هذا الكوكب والكواكب الأخرى في مستوى حضاري متقدّم، كالمستوى الذي وصل إليه أبناء الزُّهرة أو بعض أبناء الأرض مثلاً! "لكن لماذا لم يفعل ذلك، هل ثمّة قوّة خفيّة في دخيلته أو خارجها لا تتيح له أن يفعل كل ما يُريد؟ أم أنّه يتخوّف من أن يثقل بطلباته على قواه المتعددة فلا تعود قادرة على تلبية رغباته؟ أو لعلّها المشيئة الإلهيّة التي لا يستطيع تجاوز حدودها: فهذا التّفاوت في التطوّر البشري والحضاري كان موجوداً مُنذ الأزل بين الأُمم، ولم يشذ عن ذلك إلاّ الملائكة، وحتى هؤلاء ثمّة تفاوت في قدراتهم ومعرفتهم والمستويات الحضاريّة التي يحيون فيها.
أحسّت الملكة نور السَّماء أن الملك لقمان يتيه في متاهة أُخرى غير متاهة الملك عجاج التي كان يتطلّع إلى سقوفها وجدرانها والملك يقوده من متاهة إلى متاهة ليجد نفسه ضائعاً في هذه المتاهات! هتفت إليه تخاطراً:
"لِمَ يا حبيبي تحاوِل أن تتخطّى الممكن إلى المستحيل؟"
"لأنني لم أنطلق من الأرض إلاّ لهدم أسوار المستحيل!"
"لكن المستحيل هو المستحيل وليس في الإمكان هدم أسواره!"
"سأهدمها، إن لم يكن ما جرى ويجري معي حتّى الآن مُجّرد حُلم طويل أو خيال أطول أو انبعاث لروحي أو جسدي من داخِل قبري في الصَّحراء بعد انتحاري، سأهدمها!!!"
وهتفت الملكة بهلَع:
"يا إلهي، هل عُدت يا حبيبي إلى التَّفكير في الحُلم والخيال وحتَّى انبعاث الأرواح؟!"
"إذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا هذه الأسئلة تلحُّ عليّ وتقلقني بين حين وحين إلى هذا الحد؟!"
"لأنّ الأمر ليس كذلك يا حبيبي، تلحُّ هذه الأسئلة عليك وتقلقك!"
"لا يا حبيبتي، فأنا في حياتي الواقعيّة كنت أسعى دائماً إلى المعقول والممكن، بل والممكن جدّاً، ولم أفكّر يوماً في المستحيل، المستحيل كنت أحياه في أحلام المنام أحياناً وفي أحلام اليقظة دائماً،حيث كنت أحلم بأن أكون ملكاً ولولا المستحيل الذي كنت أُحققه في أحلام اليقظة لما احتملت الحياة، وأكثر المستحيلات التي كانت تراود أحلامي هي صعودي إلى السَّماوات وتحقيق المُعجزات، حتَّى لو لم يتم ذلك إلاّ بحتفي، مع أنّه كان يحدث ـ كما أذكر ـ دون أن أموت، لكن حدوثه بعد محاولة انتحاري، جعلني أعتقد أنني أنتحرت، فهل انتحرت حقَّاً يا حبيبتي وغمرت رمال الصَّحراء جسدي، وما أنا الآن إلاَّ روح بجسد وهمي، وربّما بروحي وجسدي، وشاء الله أن يلّبي رغباتي ويريني حكِمته ومعجزاته؟"
"غير معقول أن تعود هذه الأفكار لتلّح عليك الآن يا حبيبي بعد أن نسيتها أو كدت! أؤكد لك أنّك لم تنتحر وأنّك لست في حُلم أو عالم متخيّل"
"آه يا حبيبتي، لو كان كلامك صَحيحاً لقبلت بالممكن وتخليت عن السَّعي إلى المستحيل!"
"وما أدراك يا حبيبي فقد يكون ما تظن أنّه المستحيل، هو الممكن عينه! ألم تحقق إنجازات كان من المستحيل عليك ذات يوم أن تحققها؟"
"أجل يا حبيبتي، حصل معي مثل ذلك في حياتي ما قبل الصعود إلى السَّماء، فحين راودني حُلم أن أكون أديباً لكثرة ما قرأت "ألف ليلة وليلة" و"تغريبة بني هلال" و"سيف بن ذي يَزَنْ" و"سالم الزير" و"سيرة عنترة" وغيرها، وأنا لم أنَلْ مِن التّعليم إلاّ ما خلّصني من شبح الأميّة، وكنت حينها مُراهقاً أرعى قطيعنا في جبال القُدس، بدا لي أنّ حُلمي مُستحيل، مُستحيل تماماً!"
"أرأيت يا حبيبي؟ ما هو الممكن وما هو المستحيل إذن؟! فما هو مستحيل اليوم قد يصبح ممكناً غداً، أو بعد شهر، أو بعد سنة أو بعد قرن!!"
"آه يا حبيبتي، رغم أنني لم أقتنع تماماً بوجهة نظرك، إلاّ أنني أجد دائماً في كلامك وسلوكك ومحبّتك لي ما يحفّزني ويدفعني إلى الأمام، وربّما لولاك لحاولتُ الانتحار مَرّة ثانية"
"هيّا الآن يا حبيبي، لنخرج من متاهة الملك عجاج لأنّي أكاد أختنق لقلّة الهواء"
وسارعا إلى الخروج برفقة الملك، وقفا على شرفة مُطلّة على المدينة الصخريّة، وراحا يرقبان الناس الذين كانوا يرقصون رقصاً بدائياً دون أي موسيقى، سوى الأصوات العجيبة التي كانوا يهتفون بها والضّرب براحات أيديهم على أفخاذهم وأكتافهم وصدورهم ضربات غير منتظمة، رغم أنهم كانوا يحاولون أن يوحّدوا حركاتهم وضرباتهم وأصواتهم ويوالفوا بينها لتؤدّي إيقاعاً منسجماً، إنّما دون جدوى.
هتف الملك إلى الملكة:
"بودّي أن أعرف حدود المعرفة التي منحتها لقبائل السوّد والبيض، قبل أن أمنحها للقبائل الأُخرى؟"
"يمكن أن تسأل الملكين والملكتين يا حبيبي"
"أخاف أن أُفاجأ بما لم أتوقّعه!"
"سلباً أم إيجاباً؟"
"ربّما في الحالين"
"لِمَ لَمْ تمنحهم معرفتك كُلّها؟"
"إنّه السؤال الذي سألته لنفسي وأدّى إلى حوارنا حول الممكن والمستحيل، فهل يمكن أن يستوعب هؤلاء الناس معرفتي التي تستند إلى ثقافات وحضارات مُتعددة، وهل يُعقل أن أقيم لهم مُدناً حديثة وأبني لهم المصانع والجسور والشّوارع والمطارات والأنفاق والسّدود؟ هل سيتقبّلون أن يكون لديهم طائرات وحافلات وما إلى ذلك، بعد أن كانوا يفترسون لحوم بعضهم البعض؟ لا أعرف لماذا أشعر أنّهم سيجنّون مهما حاولت أن أرقى بمعرفتهم، إنني لا أحبّذ هذه الفكرة، فوضعهم في الحضارة الحديثة قد لا يعفيهم من مشكلاتها، بدءاً بتلوّث البيئة مروراً بالأيدِز وغيره وانتهاء بتلوّث الإنسان نفسه من الداخل! الأفضل أن يبقوا قريبين من الطبيعة ليتنفّسوا هواء نقيّاً ويظلّوا بعيدين عن مشكلات العصر، خاصّة وأنني لم أمنحهم أيّة معرفة دينيّة سابقة غير التي عرفوها مِنّي اليوم".
"أنا أحبّذ هذه الفكرة أيضاً يا حبيبي، رغم اعتقادي أنّ كُلَّ هذه المشاكل يمكن حلّها كما حللناها على الأرض"
"أشك أننا حللنا كل شيء على الأرض يا حبيبتي، فالإنسان من الداخل ما يزال كما هو حسبما أعتقد!"
"هل ستعود إلى التشكيك ولم تكد تنتهِ منه بعد يا حبيبي؟"
"إذن دعيني أُفكّر بهدوء يا حبيبتي وأفعل ما هو ممكن كخطوة أولى نحو المستحيل!"
"ألم أقل لك إنني أحبّذ الفكرة يا حبيبي"
"ومع ذلك طرحتِ إمكانيّة تطويرهم نحو ما قد يبدو إنّه الأفضل"
"يمكن تأجيل هذه الفكرة خاصّة وأننا لا نعرف بالضبط حدود المعرفة التي منحتهم إيّاها".
لن يطمئن بالي إلاّ بعد أن أعرف ماذا فعلت بوعيهم، لكن هل أفعل ذلك الآن أم نتركه إلى ما بعد الذّهاب إلى بلاد الحمر؟"
"يمكنك أن تسألهم خلال التحليق يا حبيبي"
"فكرتك جيّدة، سأطوّر الملك عجاج ليذهب معنا إذ ليس من اللائق أن يبقى شبه عار ومتخلّف بيننا، وآمل ألاّ تحدث مشاكل مع القبائل الحُمر ونفاجأ بطوطم أكثر تعقيداً من الطوطم العجاجي"
"هل سينفذ صبرك يا حبيبي إذا ما واجهت ذلك؟"
"لا أظن، لكنّي أريد أن أختصر الزّمن لأصل إلى السّماء السابعة، وهذا الكوكب سيأخذ من وقتي الكثير كما يبدو"
"يمكنك أن تُرسل من يُحضر الملوك جميعاً في هذا الكوكب"
"أحضرهم اختطافاً دون أن يقتنعوا بوجهة نظري؟"
"يُمكن لمن ترسله أن يتصرّف معهم بأسلوب ودّي!"
"إذا أنا وأنتِ كدنا أن نعجز أمام العقل الطوطمي، فكيف سيتصّرف المُرسَلون؟"
"لكنك أرسلت ملايين الرُّسْل إلى الكواكب التي خلّفتها وراءَك دون أن تراها"
"والغريب أن أحداً من هؤلاء الرُّسُل لم يطلب مِنّي المساعدة، وكأنّهم أخضعوا الكواكب كُلّها دون مشاكل، على أيّة حال سأرى ماذا سنفعل بعد أن نقابل قبائل الحمر، قد لا أجد حلاً غير ذلك"
والتفت الملك لقمان إلى الملك عجاج العاصفة وأخبره بالمهمّة التي جاء إلى بلاده من أَجلها برفقة ملكيّ قبائل السود والبيض، فأبدى الملك موافقته على الصُّلح والتّعاون حسب ما يقرر الملك لقمان، فشكره الملك لقمان وهو ينظر إلى جسده.
"أنت في حاجة إلى حمّام أيُّها الملك، هل لديك حمّام؟"
"لا يا مولاي، عندما أستحم أذهب مع نسائي إلى النّبع وهن يقمن بتحميمي"
"ما رأيك بحمّام هُنا؟"
"الماء الذي هُنا لا يكفي يا مولاي، ثمَّ إنني لا أستحم إلاّ مع نسائي"
"الماء عليّ أنا أيّها الملك، ويمكنك أن تستعين بنسائك ليحممنك!"
"وهل هذا ضروري يا مولاي؟"
"طبعاً لأنّي سألبسك حُلّة جديدة وأصعدك معي إلى المركبة لنذهب إلى بلاد قبائل الحُمر"
"أين الماء يا مولاي؟"
"تحب أن تستحم في الخارج أم داخل القصر أيُّها الملك؟"
"لا، هُنا يا مولاي!"
"إذن هيّا، انضم إلى نسائك"
فهتف الشاب:
"وأنا يا مولاي؟"
"وأنت أيضاً يمكنك أن تنضم إليهم"
وانضم الملك وابنه إلى كوكبة النّساء اللواتي توقّفن عن الرّقص.
أمطر الملك لقمان ماءً ساخناً ورغوة صابون وليفاً عليهم، فشرعوا يضحكون ويصرخون وينزعون جلود الحيوانات عن أجسامهم.
وأشار الملك لقمان بيديه، لينزل الماء السّاخن وملحقاته في كل مكان فيه ناس.
وما أن استحمَّ الجميع ونشّفوا أجسادهم حتّى طوّرهم الملك ليضعهم في المستوى الحضاري الذي وضع فيه قبائل السود والبيض، وألبسهم لباساً مناسباً، وحين أحس الملك عجاج أنّ حدثاً خارقاً قد طرأ عليه وعلى شعبه، وشاهد نفسه باللباس الملكي، وقد تحوّلت نساؤه إلى ملكات جمال، أمر نساءَ ه وشعبه أن يسجدوا للملك لقمان، وهمَّ بدوره للسجود، غير أنّ الملك لقمان نهاه عن ذلك وأشار إلى النّسوة والشعب بعدم السّجود.
أغدق الملك لقمان الخيرات على المدينة والبلاد كُلّها، وترك الناس في أجمل الأفراح، ليصعد هو والملكة نور السَّماء إلى المركبة مصطحبين الملك عجاج العاصفة، وإحدى زوجاته التي كانت كبيرة الملكات حسبما عرَف وإن كانت الأصغر سِنّاً، غير أنّها كانت الأجمل، وقد أضفى التطوير عليها جمالاً أخّاذاً.
عرّف الملك لقمان الملوك والملكات على بعضهم البعض، وصالحهم، ودعاهُم إلى الجلوس في حديقة المركبة إلى جانب المسبح، وأفرد لهم مائدة من الطعام والشّراب، وقد بهرهم جمال "أستير" الذي كان يُضاهي جمال الملكة نور السَّماء.
أقلعت المركبة بالسُّرعات العاديّة يحفّ بها آلاف الحُرّاس والمرافقين من الملائكة، وشرعت الأسماك والدّلفينان في استعراض راقص في المسبح، فيما كانت الظبّاء تخلد بوداعة إلى نباتات الحديقة، واليمامات تحطُّ على الأشجار والفراشات تحلّق مع النّسيم، والملكة نور السَّماء تحضن رشاها وتتمتع بجمال أحبائها!

* * *
(9)
شهاب من السَّماوات العُليا!

غابت الشمس فتلألات السَّماء بآلاف النّجوم وحَلّق فيها عشرات الأقمار ليعُمَّ الجوّ نورٌ أخّاذ، وشرعت "أستير" تتلوّى على أنغام موسيقى راقصة فأذهلت الملوك والملكات، وطار صواب ملك الملوك فهتف إلى الملك لقمان تخاطراً:
"أخ يا مولاي تأبّت عليّ هذه الحوريّة الآدميّة ولولا مخافتي من غضبك لنلتها عنوة وجعلتها تروي لأحفاد أحفادها خُرافيّة هذه المضاجعة!"
فهتف الملك لقمان:
"الله لا يسلّمك ألن تترك امرأة من شرّك، حتى أستير راودتها عن نفسها؟"
"ماذا أفعل يا مولاي؟ كيف سأقاوم إغراء هذا الجمال الكامِل بعد ثلاثة آلاف عام من...!!"
"يا أخي عندك عشرات الجميلات ويمكنك أن تُحضِر الآلاف إن شئت ألا يكفيك ذلك؟"
"لا يا مولاي، كل جمال وله خصوصيّته ونكهته ومتعته، وكُلّما ضاجعت امرأة جديدة شعرت بمحبّة الله وأحسست أنّه قريب مِنّي!"
"ألم تجد غير الجسد لتتقرّب به إلى الله؟"
"الله جميل كامل ويحبُّ الجمال وما يسمو نحو الكمال يا مولاي، ويحبُّ من يسعى إليهما!"
فوجئ الملك لقمان بهذا الكلام من ملك الملوك فهتف:
"هذه أفكار جديدة عليك أيّها الملك"
"من يعرف أفكار مولاي ليس من العسير عليه أن يقتبس شيئاً منها!"
"هل سمعتني أقول ذلك؟"
"سمعتك تقول ما يشبهه أو لعلّه يكاد أن يكون نفسه يا مولاي"
"الله لا يسلّمك يا بعيد! وماذا فعلت للمرأة حين تأبّت عليك؟"
"انتقمت منها بأن استحضرت حوريّة ذات جمال قد لا يوجد مثله في السموات والكواكب كُلّها يا مولاي، تعمّدت أن أطرحها في الحديقة على مرأى منها، أوحت لي أنّها ابتعدت لكني عرفت أنّها تختلس النّظرات من بين أغصان الأشجار، فقد داخت ووقعت أرضاً حين رأت قضيباً تخرُّ له النّساء ساجدات ولم تر مثله في حياتها يا مولاي"
"الله يخرب بيتك يا شيخ، هل بدأت تعذب المرأة مُنذ الآن وهي ضيفة عندنا؟"
"كانت متمتّعة يا مولاي، هل هذا تعذيب أيضاً؟"
"وكيف استحضرت هذه الحوريّة؟"
"ألن تغضب عليّ يا مولاي؟"
"لا لن أغضب"
"طلبت إلى قواي أن تُحضِر لي أجمل حوريّة يمكن أن يجسّدها خيال مولاي فعجزت عن ذلك لأنّه فوق قدرتها، فوبختها فأحضرت لي ما قدرِت عليه!
"وكيف كانت؟"
"لا أظن أنني قادر على وصف جمالها يا مولاي، لكن في ميسوري القول أنّها ليست مخلوقة من طين، بل من مسك وعنبر وكافور وزعفران وفل وقرنفل، وجسمها شفّاف إلى حد أنك تستطيع أن تتمارى في خدّها، وترى الماء من روحها، وتبدو لك عظامها من خلال مائة ثوب من الحرير إذا ما دققت النّظر!"
"الله لا يسلم فيك ولا عظم، حتى خيالي أخذت تستغله أيها العفريت، ثمّ كيف احتملت حوريّة بهذا الجمال والرقّة جلافتك وغلاظتك وثخانة وطول بلواك؟!"
"كُنت ناعِماً ورقيقاً معها يا مولاي، داعبتها وقبّلتها وتعبّدت بجسدها دون أن أولجه فيها يا مولاي!"
"وأين هيّ الآن؟"
"أسكنتها جناحاً خاصّاً ووضعت في خدمتها عشر أميرات يا مولاي"
"ألن تحضرها كي نراها؟"
"أخاف عليها من ضيوفك هؤلاء يا مولاي أن يفتكوا بها أو أن يُغمى عليهم إذا ما رأوا جمالها!"
ودنت "أستير" من الملك لقمان بملابسها الشّفافة التي تفضح بعض أسرار جسدها، وانحنت عليه وراحت تنثني وتتلوّى كأفعى أمام ناي ساحِر هندي وتهزّ نهدين استعصيا على الترهّل وتاقا إلى الرّضاعة، وتموّج بطناً ذا سُرّة تتوسل إلى شفاه تلثمها، وترقّص ردفين ينضحان شهوة وتشوّقاً إلى المداعبة!
أحسَّ الملك لقمان بنسمة راعشة اجتاحت جسدة كُلّه، فقاوم رغبته في اشتهاء جسدها، وضمَّ رأس الملكة نور السَّماء وحاوَل أن يستكين إليه.
أثارت "أستير" غيرة الملكات المُطوّرات فنهضن إلى الرّقص، فألبسهن الملك لقمان ثياباً ملائمة، وشرعن يهززن أردافهن في محاولة مُضحكة لتقليدها.
انشغل الملك لقمان بمراقبة الطّريقة التي يتناول بها ضيوفه الطّعام، وقد تعمّد أن يضع أمامهم شوكاً وسكاكين ليرى كيف سيستعملونها، وفعلاً استخدموها كبشر متحضّرين، هتف تخاطراً إلى الملكة نور السَّماء فاقترحت عليه أن يسألهم بعض الأسئلة في المعرفة، فشرع في ذلك على الفور مبتدئاً بسؤال بسيط:
"من منكم يعرف ما هي الزّراعة يا أصحاب الجلالة؟!"
فهتف ملك السّود:
"الزّراعة ما تنبته الأرض يا مولاي"
فقال الملك لقمان "جيّد" ونظر إلى الملك الأبيض فقال:
"ما تنبته الأرض بمساعدة الإنسان يا مولاي"
فهتف الملك لقمان "أحسنت أيّها الملك" ونظر إلى الملك عجاج العاصفة، فقال:
"الزّراعة هي ما يفعله الإنسان لتحسين وإكثار ما تنبته الأرض يا مولاي!"
فهتف الملك لقمان:
"ممتاز أيّها الملك، وكيف يمكن أن يتم ذلك؟"
"لا بُدَّ من فرز أنواع النّباتات عن بعضها البعض يا مولاي، واستصلاح الأراضي الملائمة لذلك، فالحبوب مثلاُ يمكن زرع كل نوع منها على حِدَة. ويمكن عمل ذلك مع الخضار والفواكه ومختلف الأشجار المثمرة وغير المثمرة".
"ممتاز! من منكم يعرف كيف تُحرث الأرض؟"
فأخذ الملوك يضحكون فتساءَل الملك لقمان:
"ما المضحك في الأمر يا جماعة؟"
فقال الملك عجاج:
"أنت تسألنا أسئلة بسيطة يا مولاي!"
"حقَّاً؟"
"أجل يا مولاي، فكُلّنا نعرف أن الأرض تُحرَث بمحراث يجرّه ثوران!"
ضحكت الملكة نور السَّماء وضغطت بيدها على يد الملك لقمان:
"ألا يمكن أن يجرّه حصان أو حماران أو فيل مثلاً؟"
"بلى ممكن يا مولاي"
"وهل المحراث الذي ستستخدمونه من الخشب أم ماذا؟"
"لا يا مولاي من الحديد المقوّى!"
"جيّد أيّها الملك"
وهتفت الملكة تخاطراً:
"حرام عليك يا حبيبي أنت وضعتهم في عصور متخلّفة!"
وتجاهل الملك لقمان هُتَاف الملكة وسأل الملوك:
"من منكم يعرف ما هي الكهرباء؟"
فهزّ الملوك رؤوسهم سلباً، فسألهم عن الصِّناعة، فتبيّن له أنّهم تلقّوا منه معرفة متوسطة عنها، ثمَّ بدأ يُصعّب الأسئلة بأن سألهم عن الأُسرة ليجيبوا إجابات مختلفة، فقد قال ملك السّود: إن الأُسرة هي العشيرة، وقال ملك البيض: إنّها القبيلة، أمّا الملك عجاج فقد قصرها على الزّوج وزوجاته وأولاده. فعقد لقمان الأسئلة أكثر بأن سألهم عن المعرفة، فقال ملك السود:
"المعرفة هي مجموعة المكتسبات العقليّة التي يحصّلها المرء خلال حياته!"
وقال ملك البيض:
"المعرفة هي مجموعة المفاهيم والأفكار والمعارف المختلفة التي توصّل إليها البشر".
وقال الملك عجاج:
"المعرفة هي الإدراك العقلي للوجود وما فيه!"
فوجئ الملك لقمان بالإجابات، فسأل الملوك عمّا إذا بدأت المعرفة قبل الوجود الإنساني أم بعده، فأجابوا جميعاً بأنّها وجدت بعده، وحين سأل عمّا إذا تولَد المعرفة مع المرء أم أنّها تكتسب؟ أجابوا جميعاً بأنّها تكتسب، فسأل كيف؟ فقال الملك عجاج بالفعل والتعلّم واللمس والإحساس والتجربة والممارسة والرّؤية والسَّمع والشّم والذّوق والتأمّل والتبصّر والغريزة!
فوجئ الملك لقمان بإجابة الملك عجاج وبهذا التّباين في الوعي الذي صار الملوك عليه، وأدرك أنّ إمكانيّة إيجاد وعي متشابه لديهم في كل شيء مسألة مستحيلة تماماً، فسأل سؤالاً – كان يأمل أن يكون السُّؤال الأخير – عمّا إذا كانت المعرفة ثابتة أم مُتغيّرة؟
فأجاب ملك السّود أنّها ثابتة، وأجاب ملك البيض أن ثمّة حقائق ثابتة وثمّة حقائق هُناك احتمال كبير لتغيّرها مع تغيّر الزَّمن، أمّا الملك عجاج فقد صعق الملك لقمان حين أجاب أنّه لا توجد معرفة ثابتة بل متغيّرة باستمرار حسب تغيّر الزّمن وتطوّر المفاهيم، وليس بالضرورة أن تتغيّر المعرفة كل عام مثلاً، إذ ثمّة حقائق يمكن أن تدوم آلاف الأعوام لكنها لا تلبث أن تتغيّر شيئاً فشيئاً إلى أن تؤديّ إلى حقائق أُخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية!.
خاطر الملك لقمان الملكة نور السَّماء هاتفاً:
"أنا لا أعرف ماذا فعلت بهؤلاء الناس، وكيف أوجدت لديهم هذا التبّاين والتناقض في الوعي، فكيف بمن لا يعرف ما هي الكهرباء أن يرى أنّ المعرفة لم توجد إلاَّ بعد الوجود الإنساني، وأنْ يرى أنّه لا توجد حقيقة ثابتة؟ فأنا شخصياً أعتقد أنّه توجد حقيقة ثابتة، كأن أرى أن حاصل (5+5=10) أو أن أرى أنّ الماء هو الماء ولن يصير جماداً مثلاً! فمن أين جاء الملك عجاج بهذه الأفكار وأنا لم أمنحه إلاَّ معرفة محدودة؟!".
فأجابت الملكة:
"ما أدراك يا حبيبي، قد يأتي يوم وتتغيّر قوانين الرّياضيات ورموز الأرقام وحاصل جمعها أو طرحها أو ضربها، وقد يصير الماء حجراً أو ناراً!"
"لكن من أين أتى بهذه الأفكار؟"
"هذا ما لا أعرفه يا حبيبي"
"أي مأزق هذا الذي وضعت نفسي فيه؟"
ووجّه الملك لقمان سؤالاً جديداً على ضوء ما سمعه:
"ما رأيكم بالوجود الإلهي يا أصحاب الجلالة، فهل هو حقيقة ثابتة أم متغيّرة أم غير موجودة أصلاً؟"
فقال ملك السود:
"الوجود الإلهي حقيقة أزليّة يا مولاي"
وقال ملك البيض:
"إن الحقيقة الإلهيّة قد تصحُّ في بعض وجوهها وقد لا تصح في الوجوه الأُخرى".
وقال الملك عجاج:
"إنَّ الحقيقة الإلهيّة كغيرها من الحقائق قابلة للتغيّر وربّما للزّوال يا مولاي!!"
فهتف الملك لقمان وهو يُفاجأ ثانية بما لم يتخيّل على الإطلاق أنّه سيصدر عن الملك عجاج:
"هل هذا يعني أيّها الملك أنّ البشر جميعاً قد يتوصّلون يوماً إلى نفي وجود الله؟!"
فهتف الملك عجاج بثقة:
"أجل أيّها الملك!"
ولم يعد الملك لقمان قادراً على فهم ما جرى، فقد شاهد نفسَه أمام نفسِه قبل أن يخرج له ملك الملوك مِن القمقم، وقبل أن يصعد إلى السَّماء، بل قبل أن يفكّر في الانتحار، أصلح من وضع جلسته في المقعد على مائدة الطعام، وألقى رأسه على يد الملكة وأغمض عينيه وراح يتنفّس بعمق. خاطرته الملكة:
"لا تتعب نفسك يا حبيبي"
فخاطرها مُصِرّاً على ما يقوله:
"لقد اقتنعت تماماً الآن يا حبيبتي أنني إمّا في حُلم أو أنني أتخيّل، أو أنّ ما هو إلى جانبك هو روحي أو جسدي، وليس مهمّاً أن يكون قبل انتحاري أو بعده، فالنّبي محمد حسب قول أم المؤمنين عائشة سرى إلى المسجد الأقصى بروحه ولم يسرِ بجسده، وحسب قول معاوية بن أبي سُفيان أنّ الإسراء كان رؤيا، حتّى أنّ الله تعالى اعتبره كذلك حين قال في كتابه "وما جعلنا الرّؤيا التي أريناك إلاّ فتنة للناس" فلماذا لا يكون كلُّ ما يجري معي شيئاً من هذا القبيل، أو من قبيل قيامه يسوع المسيح من قبره وصعوده إلى السَّماء؟‍!"
وقررت الملكة نور السَّماء حسم المسألة بتوقّع كُل الاحتمالات:
"حتى لو كان الأمر كذلك يا حبيبي، فأنت هُوَ أنت إن نهضت من بين الأحياء أو من بين الأموات، وحُلمك هو أنت وخيالك هو أنت، وروحك هو أنت وجسدك هو أنت، قال تعالى في الخَبرِ عن إبراهيم عليه السَّلام إذ قال لابنه:
"يَا بنيّ إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك" ثمَّ مضى ليذبحه فافتداه الله بكبش. وقال الحسن بن علي كرّم الله وجهيهما" فعرفت أنّ الوحي من الله يأتي الأنبياء إيقاظاً ونياماً!" فأرح نفسك واطمئن يا حبيبي، فأنت لقمان إن كنت روحاً أو جسداً وإن كنت تحلم أو تتخيّل، فلا تدعني أقول فيك ما قاله شاعر العرب قبل أكثر من ألف عام:
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشّقاوةِ ينعمُ"


فهتف الملك لقمان:
"يبدو أنني سأشقى إلى الأبد يا حبيبتي حتّى لو تبوّأت مكان الله نفسه!"
وهتف هاتف في دخيلته ينذره باستنفار قواه لانطلاق شهاب هائل الحجم نحوه مِن السَّماوات العُليا، فسأل عن سرعته، فأجابه أنها عالية جدّاً، وأنّه سيجتاز مسافة تبعد عن السَّماء التي هم فيها آلاف الملايين من السِّنين الضوئية، وأبلغ الهاتف الملك لقمان أنّ نهايته ستكون حتميّة إذا لم تنجح قواه في التصدّي له. وحاول الملك لقمان أن يعرف من يهتف إليه غير أنّ الصوت توقّف عن الهتاف.
أدركت الملكة أنّ شيئاً ما قد حدث حين رأت الملك يتوقّف فَجأة عن محاورتها أو الإصغاء إليها.
أوعز الملك لقمان إلى بعض قواه لتستنفر كُلَّ طاقاتها وتطلعه على أخبار الشّهاب أوّلاً بأوّل دون أن تتصدى له، وحاول أن يخفي قلقه فيما الملكة تتساءَل:
"هل حدث شيء يا حبيبي؟"
"لا يا حبيبتي لا تقلقي، يبدو أنّه شهاب خرج عن مساره وقد يقترب من السَّماء التي نحن فيها الآن".
وابتعد عن الموضوع بأن سأل الملوك عمّا إذا بلغوا بلاد الحُمر، فأجاب الملك عجاج أنّهم بلغوها.
ألقى الملك لقمان نظرة إلى أسفل فشاهد آلاف المشاعل تتحرّك على الأرض، فسأل الملوك:
"هل لديكم فكرة أين يتّجه حملة المشاعِل هؤلاء؟"
فأجاب الملوك بالنّفي.
"أليس لديكم فكرة عن دينهم؟"
فقال الملك عجاج:
"نسمع أنّهم يعبدون الشّمس والأقمار يا مولاي ويقدّسون النّساء!"
استغرب الملك لقمان ذلك وتساءَ ل:
"كم هو غريب أمر كوكبكم هذا الذي يوجد عليه بشر لا يعبدون شيئاً ولا يعرفون حتّى ما هي العبادة، بينما آخرون يعبدون الطوطم وآخرون يعبدون الشّمس والأقمار"
هبطت المركبة لينزل الملك لقمان والملكة نور السَّماء وحدهما.
حلّقا فوق أرتال حملة المشاعل إلى أن بلغا ساحة كبيرة في أرض خالية من الأشجار وشبه منبسطة، أحيطت بخصوص بدائيّة أُقيمت من أغصان الأشجار بأشكالٍ مخروطيّة وهرميّة.
كان الآلاف من حملة المشاعل يتجّمعون في السَّاحة وينصبون حلقات الرَّقص العنيف. أضاء الملك لقمان المكان إضاءَ ة خفيّة وراح يحلّق فوقه هو والملكة، كان الآلاف من الرّجال والنّساء يتناثرون هُنا وهُناك ويمارسون الجنس بَأوضاع مختلفة، فيما كان آخرون ينتظمون في الحلقات الراقصة التي بدت إحداها كبيرة، وقد أُحيطت بالنساء وأُنيرت بالمشاعل المغروسة في الأرض، فيما كان الرّجال يرقصون في وسطها على أنغام طبول بدائيّة، ويبدو أنّ النّسوة يخترن من يبرع في الرّقص أكثر من غيره ويقتدنه للمضاجعة.
هتف الملك لقمان:
"يبدو أنّ هذا أوّل معبد للشمس والقمر على الكوكب، ويبدو أن الناس هُنا متطوّرون أكثر من الذين مررنا عليهم"
كانت الملكة قلقة من قصّة الشّهاب متخوّفة من أن ينساها الملك، وقد استنفرت كُل قواها وأخبرت أباها وأمّها وملك الملوك والملك دامرداس ليستنفروا قواهم، فلم تجب الملك لقمان بل تساءَ لت:
"أين أصبح الشّهاب يا حبيبي؟"
"ما زال يبعد عنّا أكثر من ألف مليون سنة ضوئية يا حبيبتي، لا تقلقي"
"هل طلبت إلى بعض القوى مواجهته؟"
"لا، لن أواجهه إلاَّ إذا دخل سماءنا يا حبيبتي"
"هل تتوقع أن يحترق ويتناثر بفعل عوامل طبيعيّة قبل أن يصل سماءنا؟"
"إن لم يكن مسيّراً من قوى ملائكيّة أو إلهيّة فالأمر ممكن، وإذا ما دخل سماءَنا فليس من الصّعب مواجهته"
"هل أنت متأكّد من ذلك يا حبيبي؟"
"أجل يا حبيبتي"
"هل سألتهم كم يبلغ طولُه وعرضه؟"
"قيل لي أن طوله لا يقل عن مائة ألف ميل، وعرضه حوالي عشرين ألف ميل!"
"يا إلهي هذا مذنّب وليس شهاباً، كيف يمكن أن تصبر عليه إلى أن يدخل مدار سمائنا، فقد يدمّرنا في اللحظة التي سيجتاز فيها السَّدائم المحيطة بسمائنا"
"لا تخافي يا حبيبتي!"
قال الملك لقمان ذلك وهاتف يهتف في دخيلته ليخبره أنّ الشّهاب يدمّر كل السّدائم الطبيعيّة التي يواجهها في مساره، وينجم عن ذلك بريق هائل.
قالت الملكة:
"قد يؤثر تدميره على النظام الشمسي في هذه السَّماء"
"سألت عن كل شيء يا حبيبتي وقيل لي أنّه لا يؤثّر، وسأختار فضاءً مُناسباً لتدميره"
وعادت الملكة لتلح على إمكانيّة القوى اللقمانيّة:
"هل تأكّدت من أنّ قواك قادرة على تدميره؟"
"أجل يا حبيبتي تأكدّت"
"ومن تعتقد أنّ له مصلحة في قتلك يا حبيبي؟"
فوجئ الملك بمعرفتها بما يجري:
"من قال لك يا حبيبتي أنّ الشّهاب منطلق نحوي؟!"
"هذا أمر لا يمكن أن يُخفى عليّ يا حبيبي!"
"ربّما الملاك إسرافيل يا حبيبتي"
"هل تظن أنّه سمع الهُتَاف الذي دار بينك وبين الملاك إبليس؟"
"بالتأكيد، فكل الملائكة استمعوا إلى الهُتاف"
"لقد أخفتني أكثر، فقدرة إسرافيل ثاني قدرة في الأكوان والسماوات بعد قدرة الله، وما هذا الشّهاب إلاّ شذرة لا تكاد تذكر منها، ولا أظن أننا سننتصر عليه يوماً إذا ما شرع فعلاً في خوض حرب ضدّنا!
"لِمَ هذا التشاؤم يا حبيبتي؟ سننتصر لأن الله معنا!"
"أحمد الله أنّك تعود إليه بالسُّرعة التي يغادر روحك فيها"
"لم يغادرني الله يوماً يا حبيبتي ولم أغادره حتّى في ذروة إلحادي!"
"إنّي أتضرّع إليه أن يحل في روحك بكل جبروته وأن يملأ نفسك بكل عظمته لعلّك لا تعود إلى الشَّكِ يوماً، ويظل اليقين هاجسك".
"وأنا أتضرّع إليه وأتوسّل يا حبيبتي.. هيّا لنهبط إلى معبد الشَّمس، أو لعلّه معبد القمر؟"
"ليكن ما يكون، وآمل أن تكون مهمتك سهلة هذه المرّة، وإيّاك أن تشغلك عن مواجهة الشّهاب المرعب المنطلق نحونا".
"لا تقلقي يا حبيبتي، ما دام كل شيء يسير حسب مشيئة الله"
كان الناس ينظرون إلى المركبة التي بدت لهم كمجموعة أضواء تحلّق في السَّماء، وحين شاهدوا الملك والملكة توقّفوا عن طقوسهم وأخذوا يتحفّزون استعداداً لمواجهة غير متوقّعة، فقد أخذ بعضهم عصيهم ورماحهم فيما راح آخرون ينزعون المشاعل من الأرض ليقاتلوا بها.
رفع الملك لُقمان يديه الاثنتين قليلاً في محاولة لإقناع الناس أنّه رسول سلام، وهبط هو والملكة على مقربة من حشد من الرّجال وقفوا إلى جانبي مجموعة من النّساء بينهن امرأة جملية عارية الصَّدر جلست على مقعد من القصب فُرِش بالفرو، ووضعت على رأسها تاجاً بقرني ثور! وتدلّت على صدرها قلادتان إحداهما من الصَّدَف والأُخرى من الحلزون!.
اكتسب الملك لقمان لغتهم التي تبيّن له أنّها أرقى من لغة قبائل السُّمر، وردّ على الجميع تحيّة المساء رافقها بحركة من يده، فردّوا على تحيّته بأصوات غير متهدّجة توحي بالطمأنينة.
دنا الملك بضع خطوات هو والملكة نور السَّماء ليقفا في مواجهة المرأة الجالسة على المقعد، وهتف:
"أنا رسول سلام جئت لأقيم سلاماً بين سُكّان هذا الكوكب وأمنحهم الخير والبركة والمعرفة"
ونهضت المرأة عن مقعدها وهتفت:
"الرّبّة" نور القمر وضياء الشّمس ترحّب بضيفها الرّسول ورفيقته في بلادها"
وأَمرت بإحضار مقعدين إلى جانبها ودعتهما للجلوس.
قال الملك وهو يجلس:
"إنّي أعتذر أيّتها الربّة لتسببنا في إيقاف طقوسكم المقدّسة بقدومنا المُفاجئ"
فقالت الرّبة بصوت هادئ:
"إنّها طقوس نمارسها كل يوم أيّها الرّسول الكريم ويمكننا أن نستأنفها طالما عرفنا أنكّم رُسل خير"
"كم يُسعدنا ذلك أيّتها الرّبّة!"
وأشارت الرّبّة نور القمر وضياء الشّمس بحركة من يدها لتُستأنف الطّقوس، فألقى الرّجال نبالهم ورماحهم خارج السَّاحة وأعادوا المشاعل إلى مواضعها وشرعوا في الرّقص على إيقاعات الطّبول لتتحلّق النّساء من حولهم جلوساً، فيما استأنف من كانوا يمارسون الحُبُّ طقوسهم.
أخذت بعض الأقمار تغيب مما أضعف الإنارة في المكان، وكان الملك لقمان قد أوقف إنارته الخفيّة بعد هبوطه.
هاتفته الملكة نور السّماء وإحساس ينتابه بأن مهمّته مع هذه الرّبة ستكون سهلة:
"يبدو لي يا حبيبي أنّ الربّة هي الأجمل بين النّساء"
فهاتفها قائلاً:
"كيف بدا لك ذلك على نور هذه الأضواء الضّعيفة؟"
"يمكنك أن تنير المكان أكثر إذا أحببت أن تتأكد"
"إذا كانت دلالة اسمها ترتبط بجمالها فهي الأجمل قطعاً!"
والتفت الملك لُقمان إلى الرّبة وسألها:
"هل ترغب جلالة الرّبّة في أن أنير لها المكان بشكل أفضل؟"
وبدا أنّ الرّبّة لم تُفاجأ بالسؤال، فقالت:
"أكون ممتنة للرسول الكريم"
أطفأ الملك لقمان المشاعل ونثر في الوقت نفسه في فضاء المكان آلاف المصابيح الحُمر التي بدت كالشّموع، فأضفت على الأجواء جمالاً رائعاً.
تعالت هُتافات الدّهشة من الرّجال والنّساء فيما الرّبة تهتف متسائلة:
"هل يجيد الرّسول الكريم فنون السحر؟"
فهتف الملك لقمان:
"لا أيّتها الرّبة"
"ما هذا إذن أيّها الرّسول؟"
"هذه قدرة إلهي أيّتها الرّبّة"
"هل إلهك أعظم منّي أيّها الرّسول"
"عفواً أيّتها الربّة فأنا لا أعرف ما هي قدرتك"
"أنا ربّة الشمس والأقمار والنّجوم، ربّة السَّماء والأرض. الماء والهواء، الخِصب والحكمة، النور والظّلام، الحيوان والنّبات الخير والجمال!"
"والإنسان من ربّهُ أيّتها الرّبة؟"
"الإنسان هو الرّب الصغير ابن الأرباب الأربعة الكبار!"
"ومن هُم الأرباب الأربعة الكبار أيّتها الرّبّة؟"
"الأقمار والأرض والشمس والسماء"
"هؤلاء أكثر من أربعة أيّتها الرّبة"
"لا أيّها الرّسول فالأقمار كُلّها ليست إلا قمراً واحداً!"
واستغرب الملك ما يسمعه وتابع تساؤلاته:
"وكيف يكون الإنسان ابناً لأربعة أرباب؟"
"الشمس والسَّماء يشكّلان جسداً واحداً هو الذكر، والأقمار والأرض يشكّلان جسداً واحداً هو الأنثى، ومن مضاجعتهما الأولى جاء ربّنا النّبات ومن مضاجعتهما الثانية جاء ربّنا الحيوان، ومن مضاجعتهما الثالثة جاءت ربّتنا الأُنثى الأولى، ومن مضاجعتهما الرابعة جاء ربّنا الذّكر الأول، ومن مضاجعتهما الخامسة جاء ربّنا النجم الأول، وظلاَّ يتضاجعان وكُلّما تضاجعا أنجبا نجماً ربّاً إلى أن امتلأت السماء بالنجوم، أمّا الربّان الذكر والأنثى فقد ظلاّ يتضاجعان على جسد الأرض وينجبان الأرباب، وما زالوا يتضاجعون كما ترى وينجبون الرّبّات والأرباب!"
وجد الملك لقمان نفسه في متاهة غير معقولة أين منها متاهة الملك عجاج. هتفت الملكة تخاطُره:
"هل هذا معبد عشتاري بدائي يا حبيبي أم صومعة متصوّفين من طراز فريد!"
فخاطرها الملك:
"يبدو أنني سأضيع في هذا العالم يا حبيبتي"
وراح يتأكّد من الرّبّة:
"هل أُفهم من كلامك أيّتها الرّبّة أن كل كائن بحد ذاته هو رب وابن رب ورب الكائنات كُلّها في الوقت نفسه؟!"
فهتفت الرّبّة:
"أجل أيّها الرّسول الكريم، لكنْ هُناك أرباب صغار وأرباب كبار وأرباب أكبر!"
لم يكن الملك يتوقّع أنّه سيجد فهماً كهذا الفهم على كوكب بدائي، فبدا في غاية الدّهشة:
"وهل أنتِ الرّبّة الأكبر والأقدر في هذه البلاد؟"
"أجل أيّها الرّسول فأنا أمثل الآباء السّماويين على الأرض ومقدرتهم هي مقدرتي!"
"وماذا عن أُمّك وأبيك الأرضيين؟"
"أمّي كانت ربّة كبيرة وماتت، غير أنّ روحها حَلّت في هذه الفتاة عندما ولدت (وأشارت إلى فتاة كانت تقف إلى جانبها) أمّا أبي أيّها الرّسول الكريم فلا أعرفه، فنحن كما ترى المرأة تضاجع رجلاً كُلَّ يوم غير الرّجل الذي ضاجعته بالأمس".
"هل هذا يعني أنّ كل امرأة تضاجع كل رجال القبيلة؟"
"بل رجال القبائل كُلّها أيّها الرّسول، إلاّ إذا مات جسدها قبل أن تضاجعهم جميعاً"
"وهل تعتقدون أنّ الرّوح تحِلُّ في جسد مولود جديد أيّتها الرّبّة"
"أجل أيّها الرّسول فالرّوح لا تموت"
"وماذا عنك هل تضاجعين الرّجال جميعاً"
"لا أيُّها الرّسول أنا لا أُضاجع إلاَّ الأقوى والأجمل"
وراحت الأسئلة تزدحم في مخيّلة الملك لقمان، فيما الملكة تُخاطره هاتفة:
"يبدو لي يا حبيبي أنّ مهمّتك لن تكون سهلة كما توقّعت! ثم أين وصل الشّهاب هل نسيته يا حبيبي؟"
"لا، لا تخافي يا حبيبتي لم أنسه"
كان الرّجال قد انخرطوا في رقصٍ عنيف وراحوا يظهرون مفاتن أجسادِهم وقوّة عضلاتهم بحركات مثيرة، مما دَفع العديد من النّسوة إلى الشّروع في الرّقص المثير، فيما كان بعضهن يعجبن ببعض الرّاقصين فيقتدنهم إلى خارج السّاحة أو يطرحنهم فيها ليشرعوا معاً في طقوسهم الجنسيّة.
وتقدّم راقصان قويّان وراحا يتخطّمان برشاقة وقوّة أمام الرّبة والملكة نور السَّماء، ليعرضا جسديهما العاريين.
كتم الملك لقمان ضحكة في دخيلته فيما هتفت الملكة:
"مهمّتك تعقّدت كثيراً يا حبيبي"
وراح أحد الرّاقصين يستعرض جسده بوقاحة عجيبة مُثيرة أمام الملكة نور السَّماء، فيما هتفت الرّبّة مخاطبة الملكة:
"سنؤجّل حديثنا أيّها الرّسول الكريم إلى ما بعد انتهاء طقوسنا التعبّدية، تفضّلوا وشاركونا طقوسنا!"
ونهضت الرّبّة لتنزع ما كان يستر جسدها، وشرعت تتلّوى أمام الملك لقمان في رقص جنسيّ مُثير.
وجد الملك لقمان نفسه في وضعٍ محرج لم يعشه في حياته، فاعتذر بأدب:
"معذرة أيّتها الرّبّة فأنا لا أجرؤ على مواقعة الرّبات"
"وهذه الرّبّة التي معك ألم تواقعها؟"
"إنّها ليست ربّة أيتها الرّبّة"
"من هي بهذا الجمال أيّها الرّسول لا تكون إلاّ ربّة!"
ودنت الرّبّة من الملك أكثر من ذي قبل وهي تهزّ نهديها وتتلوّى فيما الرّاقص يحاصر الملكة بوقاحة غير معقولة، أمّا الراقص الآخر فقد ابتعد حين رأى أنّ الربّة مهتّمة بالضيف مع أنّه لم يرقص ولا يبدو فحلاً!
خاطرت الملكة الملك:
"يبدو أن هؤلاء القوم سيغتصبوننا يا حبيبي ما العمل؟"
ولم تكد تنهِ عبارتها إلاَّ والملك لقمان يستحضر امرأة عارية بدت وكأنّها هيلين الطّرواديّة لروعة جمالها ويدفعها في وجه الرّاقص ليبعده عن الملكة، ويدعو في الوقت نفسه ملك الملوك الذي هبط على الفور ومثُل أمام الرّبة مشهراً عضواً مُرعباً، وما أنّ رأته الرّبّة حتى شهقت من أعماقها وانقضت عليه لتحتويه بقبضتيها اللتين لم تطبقا عليه وتشرع في مصارعته وهي تهتف للملك لقمان:
"أنت حقّاً رسول إله عظيم أيّها الضيف الكريم وتمنح الخير والبركة!"
وخاطر الملك لقمان ملك الملوك:
"جاء وقتك أيّها الملك، لم أُفكر يوماً أنّ طاقتك الجنسيّة ستنقذني من مأزق كهذا!"
"آه يا مولاي ليتك تواجه دائماً بمآزق مثل هذا المأزق، هل أدوّخ لك الرّبة وتابعاتها؟"
"دوّخ من تُريد، لكن إيّاك أن تُثار غيرة الرّجال وينقضون عليك!"
"لا تخف يا مولاي!"
كان الرّاقص قد غَرِقَ في جسد "هيلين" وراح يتعبّد فيه بنهم بالغ، فيما النّسوة الأُخريات يتحلّقن حول الرَّبّة ويرقبن صراعها مع عضو ملك الملوك الخُرافي بعيون شرهة، غير أنّ غيرة الرّاقصين قد أُثيرت كما يبدو فانقضوا عليهن وشرعوا في مواقعتهن بعنف، ليكتمل الطّقس التعبّدّي!
غرقت الملكة نور السَّماء في الضّحك، هاتفها الملك:
"آن الأوان لمواجهة الشّهاب، سأبتعد عن ساحة المعبد، يمكنك أن تبقي إذا أحببت أن تتفرّجي على الطّقوس التعبديّة!"
فهتفت الملكة:
"وهل يُعقل أن أتركك وحدك يا حبيبي في مواجهة كهذه، لتذهب الطّقوس إلى الجحيم!"
"هيّا إذن"
* * *

وطارا ليبتعدا عن منطقة المعبد ويحلّقا في الفضاء.
نظر الملك إلى أعلى فشاهد الشّهاب يومض منطلقاً من أعالي السَّماوات، ونظرت الملكة بدورها لتراه فهتفت:
"إلى متى تنتظر يا حبيبي؟"
"ما يزال في سماء بعيدة عن سمائنا!"
"لماذا لا تفجّره فيها؟"
"ربّما لن يصل إلينا وربّما لا يقصدني، يجب أن أتأكد"
"ومتى ستتأكّد يا حبيبي؟"
"عندما يدخل سماء نا!"
وتناثرت مئات النّيازك والذّيول الملتهبة حين اصطدم الشّهاب بمواد في الفضاء اعترضت طريقه.
"يبدو أنّه يدمّر كُلَّ ما في طريقه ليفتته إلى شظايا مُنصهرة!"
"هذا أمر طبيعي يا حبيبتي، هل أنت خائفة؟"
"كثيراً يا حبيبي"
"تمالكي أعصابك"
وكان في ميسور الملكة أن تتمالك أعصابها لو لم يصطدم الشّهاب بمواد أُخرى في طريقه ويحيلها إلى آلاف الشّظايا الملتهبة، فالتصقت بجانب الملك لقمان وتشبّثت بيديها بعضده.
"أظن أنّه بدأ يقترب من سمائنا، فحجمه بدأ يتّضح لنا أكثر من قبل"
أجل يا حبيبتي لا تخافي"
وشرع الشّهاب يشقُّ السّدائم المحيطة بالسَّماء لتتناثر على جانبيه آلاف الشّظايا النيزكيّة، فبدا وكأنّه قارب هائل الحجم يمخر عباب محيط شاسع، ودوّى فجأة صوت راح يُرعِدُ في السَّماء:
"أين ستذهب منّي يا لقمان؟"
أطرقت الملكة للحظة وقد اجتاحها رُعب فظيع ثم هتفت:
"صوت من هذا يا حبيبي؟"
كان الملك لقمان مطرقاً وهو ينظر إلى الشِّهاب كيف يشقُّ السّدائم بقوّة خارقة وحشيّة ويحيلها إلى حمم منصهرة منقذفة في الفضاء.
جاهد بكلّ قوّته وقواه وإيمانه بالله ليتمالك أعصابه ويحافظ على رباطة جأشِه، وهتف بصوت خفيض:
"لا أعرف يا حبيبتي رُبّما صوت إسرافيل"
"لِمَ لا تجيبه؟"
"ومِن أين سأمتلك هذا الصوت الهائل؟"
"استعن بقواك يا حبيبي"
وعاد الملك لُقمان إلى إطراقته وإذا بصوتٍ هائل يهتف في الفضاء مُجيباً:
"ماذا فعلت لك أيّها الهاتف لتقصدني دون غيري مِنَ البشر؟"
"لأنّك تجاوزت حدود البشر والجن والملائكة يا لقمان"
"بَم تجاوزتها أيّها الهاتف؟"
"ببحثك عن الحقيقة يا لقمان، واكتسابك قدرات خارقة لم تمنح من قبل إلاّ لملائكة معدودين، ألا تعرف هذا؟"
"وماذا يُضيرك في الأمر إن كان قد حدَث فِعلاً أيها الهاتف؟!"
"وماذا سيضيرني غير هذا يا لُقمان؟"
"لكني أيّها الهاتف إن كنت قد تجاوزت حدودي فلم أتجاوزها إلاَّ بمشيئة إلهي القدير، فلِمَ تُعارض مشيئة الله؟"
"بل مشيئة اللعين إبليس يا لُقمان"
"بل ميشئة إلهي أعوذ به مِنكَ!"
"إن كانت مشيئة إلهك فأرني اليوم قدرتك قبل أن أُحيل الكوكب الذي أنتَ عليه إلى دمارٍ شامِلٍ يتناثر حِمماً في الفضاء"
"لِمَ لا تنبذ الشرّ أيّها الهاتف وتسعى إلى المحبّة والخير لعَلَّ الله يستجيب إلى سعيك ويزرعهما في قلبك؟"
"لم يعد بيني وبينك إلاَّ الهول والحرب والدّمار يا لقمان، حتّى لو أدّى ذلك إلى تدمير الأكوان والسماوات كُلّها!"
"يا إلهي! لِمَ لا تكتفي بتدميري وحدي دون أن تؤذي غيري من الكائنات؟"
"لأنّ لعنتي حلّت وستحلُّ على كلّ كوكب تهبط عليه أو تطبق فيه تعاليمك يا لقمان"
"ولِمَ حلّت لعنتك وستحلُّ أيها الهاتف؟"
"لأنّك جعلت البشر والجن والملائكة يتلمّسون طريق الحقيقة!"
"يا إلهي! ولم أنتَ ضدّ ذلك أيّها الهاتف؟"
"كم أنت ساذج يا لقمان، أم أنّك تتظاهر بالسَّذاجة؟ ألم تدرك بعد أنَّ للحقيقة وجهين، وجّه لا يعرفه إلاَّ الله، ووجه لا يعرفه أحد غيري، ولن أسمح لأحد من الإنس والجنّ والملائكة أن يعرفهما".
"أهي مشيئتك؟"
"وحكمتي أيضاً يا لقمان"
"أيّة حكمة هذه التي تقضي بإفناء حياة كوكب نكاية بحياة كائن صغير مثلي، مستعد لأن يقدّم لك حياته مقابل ذلك"
"لقد فات الأوان يا لُقمان"
"إنّي أتوسَّل إليك"
ولم يجب الهاتف. فتساءَ ل الملك لقمان:
"ألا تخبرني من أنت أيّها الهاتف؟"
"لماذا تريد أن تعرف من أنا يا لقمان؟!"
"لعلّي أهديك إلى الله وأزرع المحبّة والخير في قلبك"
"أنا عدوّك اللدود يا لُقمان، والله موجود في قلبي قبل أن يوجد في قلبك!"
"وهل يُقدم من يوجد الله في قلبه على ما تفعله؟"
ولم يجب الهاتف، فقال الملك لقمان بقلب مُنفطر:
"إنّي أستعين بإلهي عليك"
وأطرق الملك لقمان للحظات لعّلَّ الهاتف يقول كلمة أخيرة، غير أنّه لم يقل.
أخذ الشّهاب يقترب كسهم هائل الحجم شاقاً السَّدائم أمامه، مُنيراً الفضاء من حوله.
التحمت الملكة نور السَّماء بجسد الملك لُقمان، فاحتواها بيديه وضمّها إلى صدره وهو يحدّق إلى السَّماء، ويهتف إلى الله من أعماق قلبه، متوسّلاً إليه بكلِّ خلجات جسده، وما يعتمل في نفسه، مستنهضاً كُلَّ قواه، هاتفاً في اللحظة الأخيرة:
"اللهم اجعلني قتيلاً لا قاتلاً – إذا كان بقائي سيؤدّي إلى فناء الحياة على أيٍ من الكواكب، واللهُمَّ انصرني على أعدائي إذا كان نصري سيؤدّي إلى بقاء الحياة، ورفع كلمة الحق، وسبر أغوار الحقيقة، وإظهارها للملأ"
انبثق من أعالي السَّماء شهاب هائل لا يقلُّ حجمه عن حجم ذاك الشّهاب، وانطلق يشقُّ الفضاء صاعِداً إلى أعلى بسرعة خياليّة تفوق سُرعة ذاك، ولم تمض سوى ثوان حتّى اصطدم الشّهابان في فراغ شاسع في الأعالي السَّماويّة البعيدة عن الأقمار، فنجم عن اصطدامهما برق مُشعّ أضاء السَّماء من أقصاها إلى أقصاها ليطمس نور الأقمار والنّجوم ويحيل السَّماء إلى ما هو أقرب إلى ضوء النّهار، وهو يتشظّى ويتشعّب في الفضاء منتشراً في كل الاتجاهات، ناثِراً ملايين النيازك المشعّة، ومحدثاً صوتاً كأنّه صوت ملايين الرّعود وقد قصفت في آن واحد، سمع الملك والملكة دويّه الذي ارتجت منه الكواكب والأقمار والنّجوم والأجرام التي ما لبثت أن أخذت تحمُّر شيئاً فشيئاً لتبدو كالمذنّبات وهي تتابع انقذافها في الفضاء، دون أن تصطدم بغير السَّدائم التي كانت تجتازها لينبعث منها شررٌ كالجمر المتناثر.
تنفّست الملكة نور السَّماء الصعداء ورفعت رأسها عن صدر الملك لقمان، وهي تتابع بنظراتها النيازك المنقذفة في الفضاء.
هتف الهاتف بصوته المدوّي:
"إن نجوت هذه المرّة يا لُقمان فلن تنجو في المرّة القادِمة"
ندّت عن الملكة نور السَّماء صرخة خفيفة، فربت الملك لُقمان على ظهرها وهو يهتف بالصوت المدوّي:
"سأنجو بقدرة إلهي أيّها الهاتف"
ولم يجب الهاتف، وكان جميع الملائكة قد استمعوا إلى الحوار الذي جرى بين الملك لُقمان والهاتف وشاهدوا المواجهة التي تمّت بين الشّهابين، والنَّصر الذي تحقق للملك لقمان، فشرعوا يمّجدون اسم الله في كافة السَّماوات والكواكب والأكوان. وكان ملك الملوك شمنهور الجبّار قد قطع معتذراً طقوس الجنس المقدّس، مؤكداً للربة "نور القمر وضياء الشمس" وأتباعها أنّ مولاه يواجه معركة مصيريّة لا يستطيع أن يقف متفرّجاً أو غارقاً في مُتعهِ خلالها، فأثنت الرّبة عليه وباركته!
وفيما كان الملك لقمان يحلّق عائداً وسط تهليل الملائكة في الأكوان، هاتفه الملاك إبليس مهنّئاً ومُشيراً إلى أنّ الصَّوت الذي هاتفه، كان شبيهاً بالصَّوت الذي خاطبه قبل خلق آدم وحوّاء إن لم تخنه ذاكرته. فشكره الملك لقمان وطلب إليه مساعدته في حَلّ بعض الألغاز المتعلّقة بالجن وخلق آدم وحوّاء، ولا سيّما أنَّ الهاتف ذكرَ الجنَّ إضافة إلى البشر والملائكة خلال هُتَافه، فهاتفه الملاك إبليس قائلاً:
"ما أعرفه يا أخي لُقمان أَنّ الله لم يخلِق جناً وشياطين، خاصّة بعد مُحادثتك مع الله وتأكيدك لي على أنّه لم ينزّل مرتبتي إلى جنّي"
"من أين جاءَ ت التسمية إذن؟"
"التسمية لم تأتِ إلاَّ بعد قصّة الأديم، إذ لم أَسمع بها قبل ذلك!"
"ألا يمكن لمن أطلق هذه التسمية أن يكون قد خلق الجن والشياطين فيما بعد؟"
"والله إنّي لا أعرف يا أخي"
"وهل كنت تعرف حين أقدمت على خلق آدم وحوّاء أنّ الله قد منحك بعض القدرة على الخلق؟"
"نعم، لكني لم أكن أعرف سوى خلقِ النّبات والحيوان، وقد استعنت بما خلقه الله من نبات وحيوان في الجنّة"
"ألا تقول لي ماذا كانت مرتبتك عند الله بين الملائكة؟"
"لقد كنت الثاني بعد إسرافيل"
"آه، يا أخي إبليس، وماذا ستقول لي عن آدم وحوّاء، يبدو لي أنَّ هُناك أكثر من آدم وحوّاء اللّذين خلقتهما أنت؟!"
"ما أعرفه يا أخي لقمان أنّه لا يوجد كوكب عليه حياة بشريّة إلاّ وله آدمه وحوّاؤه بأسماء مختلفة، وإن لم يكونا من نسل آدم وحوّاء اللذين خلقتهما أنا، فهما من نسل آدم وحوّاء اللذين جاءا بفعل القوّة الكامنة الطبيعيّة!!"
"وما هي القوّة الكامِنة الطّبيعيّة يا أخي؟"
"إنَّها رغبة الطَّبيعة في التَّوحد مع الله ومساعدته على خلقِ ما يُريد له أن يُخلق"
"وهل خلقت هذه الطّبيعة آدمها وحوّاءَ ها قبل أن تخلق أنت آدمك وحوّاءَ ك؟"
"لا يا أخي، فما أعرفه أنّ آدمي وحوّائي كانا أوّل مخلوقين إنسانيين، وقد سبقت بخلقهما الطبيعة بما لا يقلُّ عن ثلاثة ملايين سنة!"
"ألا تظن أنّ الله قد خلق أيضاً آدمه وحوّاءَ ه؟"
"إن شئت الحق فأنا لا أعرف ذلك يا أخي!"
"وإسرافيل؟!"
"أيضاً لا أعرف يا أخي، وإن كنت أظن أن إسرافيل قادر على فعل ذلك إذا ما أراد!"
"آهٍ يا أخي إبليس، لا أعرف متى سأصل إلى الحقيقة، فكُلّما أمسكت خيطاً مِنها، ضاعت مِنّي مئات الخيوط"
"اصبر يا أخي فنحن في حاجة إليك"
"لِمَ لَمْ تحاول أنت البحث عن الحقيقة يا أخي؟"
"لأنني كنت أظنّ أنّي أعرفها!"
"وماذا عن المعرفة التي منحتها للمخلوقين اللذين خلقتهما، هل منحتهما معرفة متطوّرة؟"
"لا يا أخي، فأنا لم أكن قادراً على ذلك!"
"ألم يعرفا إشعال النار مثلاً بَعد أن خلقتهما؟"
"لا، لكنهما تعلّما ذلك فيما بعد، وربّما استناداً إلى المعرفة التي اكتسباها خلال وجودهما لبعض الوقت في الجنّة؟!"
"وماذا عن المعرفة اللاحقة لأجيالهما، هل اكتُسبت دون مساعدتك؟"
"أجل يا أخي، فلم أعد أتدخّل في شؤون ما خلقت!"
"وماذا عن الدين، ألم تعلّمهم دينك؟"
"بلى، علَمتهم، لكن أجيالهم اللاحقة تخلّت عنه!"
"ولِمَ لمْ تعد تتدخّل في شؤونهم يا أخي؟"
"لأنني أحبهم ولا أُريد أن أزعجهم، أو أفرض عليهم ما لا يُريدون"
"وماذا عن قابيل وهابيل يا أخي، هل أنجب آدمُك وحوّاؤك قابيل وهابيل؟!"
"لا يا أخي، بل "هاريد" وماريد""
"غريب! وهل قتل هاريد ماريد؟"
"لا يا أخي، لم يقتل أي منهما الآخر"
"ومن يكون آدم وحوّاء اللذان أنجبا قابيل وهابيل؟!"
"هذان من نسل جاء بعد ملايين السِّنين، يعود إلى نسل آدم وحوّاء اللذين خلقتهما أنا!"
"هل تقصد أنّهما لم يأتيا إلاَّ منذ بضعة آلاف من الأعوام؟!"
"نعم، وقد ظهرا لأوّل مَرّة في بلاد سومر وأكَّاد!"
"هل في مقدورك يا أخي أن تقول لي إلى أي آدم وحوّاء أنتمي أنا؟!"
"إلى آدم وحوّاء اللذين خلقتهما أنا!"
"أشكرك يا أخي، واعذرني إذا ما أثقلت عليك"
"العفو يا أخي"
* * *
هبط الملك لقمان والملكة نور السَّماء على الأرض ليجدا الرَّبّة نور القمر وضياء الشمس قد أوقفت طقوس العبادة المقدّسة تضامناً مع الملك لقمان أثناء مواجهته للشهاب. وصافحت الملك وهنّأته بالنصر، وأعلنت له أنّها آمنت به وبإلهه بعد أن شاهدت المواجهة التي جرت بين شهابه والشّهاب الآخر، فاعتذر لها الملك عمّا جرى وشكرها لإقدامها على هذا الموقف النّبيل، وتقديراً لها ولشعبها قام الملك بتطويرهم ليصبحوا في مستوى القبائل التي طوّرها، وملأ أرضهم بالخيرات.
وحين شاهدت الرَّبّة نفسها ترتدي أجمل الملابس وشعبها يرفل بثياب جديدة، ووعيها يتحوّل إلى وعي جديد أمرت الشّعب أن يسجد أمام الملك لقمان وخرّت بدورها ساجدة، فأنهضها الملك بيديه وأمر الشّعب أن ينهض.
وطلبت الرّبّة إلى الملك أن يسمح لها بتقبيله فسمح لها فقبلته قبلة على خدّه الأيسر وقبله على خدّه الأيمن، وقبّلها هو على جبينها وقال لها:
"لقد نزلت محبّتك في قلبي أكثر من غيرك من بني البشر أيّتها الرّبّة فتمنّي عليّ ما تريدين"
فقالت الرّبّة:
"إنّي لا أتمنّى إلا سلامة مولاي ونصره على جميع أعدائه"
فقال لها الملك:
"سلّمك إلهي أيّتها الرّبّة، لكن يجب أن تتمنّي عليّ، لأنّي أشعر برغبة لأن أقدّم لك شيئاً لم أقدمه لأحد قبلك"
فقالت الرّبّة:
"هل يقدر مولاي على بناء بيت لي وبيوت لشعبي؟"
فقال الملك لقمان:
"بإذن إلهي سأقدر"
وأطبق الملك بيديه على وجهه وراح يفكّر، فأدرك أنّه لا بُدّ من بناء بيوت لكلِّ سُكّان الكوكب. فرفع يديه عن وجهه ونظر غرباً على مدى البصر وإذا ببيوت جميلة من الحجر تنتصب كأنّها القصور في السّهول والسُّفوح والجبال، واستدار الملك لقمان نصف خطوة إلى الشّمال ونظر ليفعل الشيء نفسه، ثمَّ استدار إلى الشّرق ليفعل الشيء نفسه، ثمَّ إلى الجنوب ليفعل الشيء نفسه وليعلن بعد ذلك أنّ كافة أراضي الكوكب من أقصاه إلى أقصاه قد أُقيمت فيها البيوت التي تكفي لكلِّ الشّعوب والأمم والقبائل وتزيد.
وكان الملك لقمان قد ترك المنطقة المحيطة بالمكان الذي همّ فيه ليقيم عليها قصراً للرّبة، فأوعز إلى الشّعب بإخلاء المنطقة التي أمامه وإلى جانبيه، فراح الناس يبتعدون ويقفون وراءَه، وحين أشار بيده انتصب أمامه قصرٌ هائل الحجم بثلاثة أجنحة على شكل مستطيل مفتوح من الجهة التي أمامهم، وكل جناح بطول ألف متر ويضمَّ أربعة طوابق، كُلّ طابق يضمّ مائة حُجرة وقاعة ورواقاً وأربعة صالونات. وقد أُقيمت واجهات الأجنحة على أعمدة ضخمة علتها أقواس في غاية الجمال، وعلا القصر ثلاثة أبراج عالية أُقيمت في منتصف كل جناح، ومائة برج قصير، كل برج منها بطول مائة متر، ويضمُّ ثلاث قباب مُذهّبة يفصل بين كل قبّة وقبّة عمود من رُخام محاط ببلكونة دائريّة رُخاميّة. أمَّاً الأبراج الثلاثة العالية فكانت أطوَل من البروج تلك بمقدار الضّعف، وضمَّ كُلُّ برج ستّة قباب وست بلاكين. أمّا المساحة المستطيلة الواقعة بين الأجنحة الثلاثة وكذلك المساحة المحيطة بالقصر من كُلّ الجهات، فقد حوّلها الملك لقمان إلى حدائق غنّاء، تدفّقت منها الينابيع، وأينعت فيها أجمل الأشجار المثمرة، وانتظمت في ممراتها أجمل الورود والزّهور ونباتات الزينة وانتصبت فيها النّوافير ذات الأشكال البديعة، التي راحت ترذُّ الماء من حولها، وحلّقت أسراب العصافير المختلفة مزقزقة في فضائها، وغرّدت البلابل على الأشجار، حتّى بدت وكأنها قطعة من الجنّة.
وكانت الرّبّة نور القمر وضياء الشّمس مأخوذة بالدّهشة وقد أحسّت بالأرض تتحرّك تحت قدميها لتتحوّل إلى جزء من حديقة القصر، ولتجد نفسها تقف هي والملكة نور السَّماء والملك لقمان "وهيلين الطرواديّة" وبعض أبناء شعبها فيها.
وقبل أن تخرج الرَّبّة من دهشتها أتى لها الملك لقمان بجواد عربي أصيل رائع الجمال أُسرِج ظهره بسرج مُرصّع بالجواهر تدلّى منه ركابان من ذهب، وفوجئت الرّبة به يحكُّ كتفها برأسه ويهتف لها قائلاً:
"مرحباً أيّتها الرّبّة نور القمر وضياء الشمس"
فطار عقل الرّبّة وراحت تعانق الجواد، وما لبثت أن وجدت نفسها ترتفع عن الأرض لتمتطيه خنصره على جانب واحد، ونظراً لأن الجواد كان يعي ويتكلّم، فلم يضع الملك لقمان لجاماً في فمه، وكان من السَّهل على الرَّبّة أن تتحكّم به دون أن تمسك العنان الجلدي المرصّع بالأنجم الذَّهبيّة، إن أرادت.
نزلت الرّبة عن الجواد وراحت تتجوّل هي والملك والملكة في حدائق القصر. وأخبرها الملك لقمان بما جاء من أجله، فعرف منها أنّ هُناك مئاتِ الشّعوب ومئات الملوك والأرباب ومئات الأديان على هذا الكوكب، فلم يكن أمام الملك إلاّ إحضار الملوك والأرباب جميعاً، فأقدم على تطوير جميع السُّكان دون أن يراهم وأرسل رسلاً من الملائكة لإبلاغ الملوك والأرباب بضرورة حضورهم مؤتمر السّلام الذي يُعقد في بلاد الرّبّة نور القمر وضياء الشمس تحت إشراف الملك لقمان الذي قام بعون إلهه بتطويرهم وبناء البيوت لهم وإغداق الخيرات عليهم. فأحضر الملائكة قرابة ألف ملك ورب على خيول طائرة مجنّحة، دون أن تعترض دعوتهم أيّة عقبات.
استقبلت الرّبة الضيوف جميعاً وعقد المؤتمر في إحدى قاعات القصر التي أقام فيها الملك لقمان مُدرّجاً كبيراً.
لم يُفاجأ الملك لُقمان حين لم يعترض أحد على إتّحاد بلدان الكوكب والنّظام الذي اقترحه عليها، بعد الخيرات التي أغدقها عليها والأعمال التي أنجزها لها، المفاجأة كانت التكاثر الهائل في عدد السُّكّان، فماذا سيفعل سُكّان الكوكب بعد أن تفيض البلاد كُلّها بالناس؟ وعبثاً حاول الملك لقمان إيجاد حل لهذه المعضلة دون تحديد النّسل، حتّى بعد أن طُرحت إمكانيّة نقل فائض السّكان إلى كوكب آخر غير مأهول، فالمشكلة ستتكرر إلى أن تمتلئ الكواكب كُلّها بالبشر وحينئذٍ سينشب الصّراع من جديد ليفتك القوي بالضّعيف، وقد يهيمن في النّهاية من يُنجب أكثر، خاصّة إذا ما نزعت الأسلحة وتوّقفت الحُروب بين الكواكب. فكان لا بُدّ من تحديد النّسل. وبعد مُداولات طويلة أقنع الملك لقمان الملوك والأرباب بوجهة نظره، وعيّن ملاكاً لمساعدة المجلس على إدارة شؤون الكوكب وإقامة العدل بين سُكّانه، وقد انتخب مجلس الملوك والأرباب الرّبة نور القمر وضياء الشمس رئيسة له لمدّة أربعة أعوام غير قابلة للتجديد، بعد أن جعلت قصرها مقرّاً له مدى الحياة.
وأمرت الرّبّة بأن تُقام الأفراح والولائم احتفاء بالمناسبة وإحلال السَّلام والمحبّة والتّعاون بدلاً من كل ما كان سائداً في بلدان الكوكب.
اعتذر الملك لُقمان عن حضور الاحتفالات، فودّع الجميع وصعد هو والملكة نور السَّماء إلى مركبته، لينطلق إلى سماء جديدة ويوكل الكواكب التي يتجاوزها دون أن يهبط عليها إلى الملائكة.

* * *
(10)
إغواء أستيري!

ألحّت الملكة نور السَّماء على الملك لقمان أن يُعطي جسده بعض الحق، ويريح نفسه ليوم واحد على الأقل من عناء مشاكل الكواكب والبحث عن الحقيقة، فأذعن لها، تاركاً المركبة تنطلق بسرعاتها الخياليّة تجتاز ما يمكنها أن تجتازه من سماوات، وعندما استيقظ من النوم كانت الملكة نائمة، فغسل وجهه ونزل ليجلس في الحديقة إلى جانب المسبح ويأخذ قهوته هُناك.
كان الدلفينان يستكينان إلى الماء في البركة، وما أن شاهدا الملك لُقمان حتّى قاما باستعراض رائع في الماء. وجاءَ ت أستير تتثنّى كحوريّة من حوريّات البحار، وما أن حيّت الملك لُقمان حتّى سألها عن أحوالها، فأكّدت له أنّها في أحسن حال، واستأذنته لتنزل إلى المسبح لمشاركة الدّلفينين السِّباحة، فأذن لها قائلاً "تفضّلي" فشرعت تتعرّى أمام الملك ببطء متعمّدة أن تريه مفاتن جسدها وهي تدير نحوه صدرها تارة وظهرها تارة أخرى، ليتملّى بعينيه من قوامها. قبل أن تقفز إلى الماء وتغطس إلى الأعماق لتعانق جسد دلفين، فيندفع بها من الماء وينطلق قرابة أربعة أمتار إلى أعلى وهي تعانقه، فيما الدّلفين الآخر ينطلق معهما، ليعود ثلاثتهم إلى الماء بشكل احتفالي..
لم يخطر ببال الملك لقمان أنّه سيجد نفسه أمام محاولة إغواء فور وصوله إلى الحديقة. وقد نجحت أستير في إثارته بجسدها الأسطوري، وكم حاول أن يتناسى الأمر ولا ينظر إليها، أو يطرد صورة جسدها من مخيّلته، فراح يُداعب الظّباء، ويرقب اليمامات والفراشات والعصافير دون جدوى، فشرب قهوته على عجل وعاد إلى حُجرته وهو يقاوم رغبته فيها.
ولم يعرف الملك فيما إذا كان في حُلم أو أنّه راح يتخيّل جسد أستير مكان جسد الملكة نور السَّماء، فما أن دخل الحُجرة حتّى وجد أستير بشحمها ولحمها تتلوّى عارية على السَّرير مكان الملكة نور السَّماء، وتتأوّه بصوت مُثير يتوسّل، لإرواء جسدها الظَّامئ إلى الارتواء.
سألها الملك:
"هل أنتِ أستير أم أنا في حُلم؟"
فأجابت بصوت غانج:
"ألا ترى جسدي يا مولاي؟!"
"وأين الملكة؟ وكيف سبقتني إلى هُنا؟ وأية جُرأة هذه التي تدفعك لأن تستلقي على سريرنا بكل هذه الوقاحة؟!"
"أليست هذه رَغبة مولاي؟!"
"حتّى لو أصبح لديّ رغبة فيكِ بعد ما فعلته، فأنا أستطيع مُقاومتها".
"ولِمَ تقاومها يا مولاي، فالملكة قد لا تمانِع وربّما هي التي أوحت إليّ وأصعدتني من أسفل وأضجعتني في سريركما، واختفت قبل أن تصل، فأنا كما تعرف يا مولاي لا أستطيع أن أفعل ذلك بهذه السُّرعة دون مساعدة الملائكة!"
"مستحيل أن تكون الملكة فعلت ذلك!"
"إذا لا تصدّق يا مولاي فالقِ نظرة على المسبح والحديقة فلن تراني"
وتجاهل الملك لقمان طلبها وراح ينادي الملكة غير أنَّ أحداً لم يجبه، فيما أستير تتلوّى على السَّرير وتتوسّل بهستيريا جنسيّة!
خطرت ببال الملك لقمان فكرة، فأطرق للحظة يُفكّر، وما لبث أن أطل من نافذة المركبة على المسبح، لم تكن أستير هُناك كما توقّع، وظلَّ مصمماً على الفكرة التي خطرت بباله، إذ يبدو أنّ الملكة أحكمت إعداد المسألة لتبدو طبيعيّة.
عاد ليقف إلى جانب السَّرير ويهتف:
"إذا لم تعودي الملكة نور السَّماء فسأنزعج وأغضب وقد لا أواقعك بعد اليوم!"
فهتفت أستير وقد اعترتها الدّهشة:
"كيف سأكون الملكة وأنا أستير يا مولاي؟"
"بل أنتِ الملكة"
"بل أنا أستير وكل ما يسري في جسدي هو دم أستير، فلماذا لا تُريد مواقعتي؟"
"لأنّي لم أُحب حتّى اليوم من كل قلبي إلاَّ امرأة واحدة اسمها نور السَّماء، وحين أُحِبُّ غيرها أو لا أستطيع مقاومة رغبة عارمة تجاه أنثى ما، فسأفعل مع الأنثى الأصل لا مع الأنثى المتقمّصة".
وعادت الملكة نور السَّماء إلى شكلها النورسمائي لتهتف إلى الملك لقمان معتذرة ودمعتان تنزلقان على وجنتيها.
"معذرة يا حبيبي، نهضت من النوم فلم أجدك، ألقيت نظرة من الشّرفة فشاهدت عرض التعرّي الذي تقوم به أستير أمامك، فدبّت الغيرة في قلبي، وحين رأيتك تقاوم غوايتها وتصعد تقمّصت شخصيّتها لأمتّعك، وأحقق رغبتك، على أيّة حال يُمكنك أن تواقعها حين تشاء، وإذا ما شاهدتني غيرانة فتجاهل أمري".
واستلقى الملك لقمان إلى جانبها وعانقها وهو يهتف:
"مواقعة جميلات السَّماوات كُلّهن لا تساوي عندي جمال عيني حبيبتي، فكيف أُتيحُ لشعور الغيرة أن يخدش شِغاف قلبها؟"
"يا حبيبي كُلّما تضمّني إلى حُضنِك أتوسّل إلى ربّي ألاّ يحرمني يوماً دفء الحنان المتدفّق من ثنايا ضلوعك"
"من غير نفس حبيبتي الجميلة بين الحوريّات ستنعم بدفء حناني، ومن غير روح حبيبتي فاتنة السموات سأمدُّ قلبي وسادة لتغفو عليه؟"
"يا حبيبي هواك يسري من روحك إلى روحي ليسري من خدّي إلى خدّي، ومن نهدي إلى نهدي، ومن قلبي إلى كبدي، ومن ضلعي إلى ضلعي ومن عرقي إلى عرقي، فلِمَ أخافُ أن يفرّقنا القدر لنكابد مع الأيّام مُرَّ النّوى؟"
"لو جاء القدر مع النّسيم ليفرّق بيني وبين مليكة الحُسن حبيبتي، لسللت سيفاً وقطّعت أشلاء القدر ومزّقت سدائم النّسيم"
"يا حبيبي دعني أتوحّد بقدسيّة جسدك وألتمس في روحك سرمديّة العشق لأخمد نيران الهواجس المجنونة"
"ابعدي يا نسائم الأقدار عن روح ظبية السَّماء حبيبتي ولا ترفّي بنسائمك على أهداب عينيها الوادعتين، ودعيها تمرح في سهوب صدري المشرع لأعناق الظّباء".
"يا حبيبي كُلّما توحّدت بفيض حُبّك واندمج كياني بأعماق روحك أحسست بالله ينبض في قلبي ويهيمن على روحي".
"توحّدي يا حبيبتي مع حُبّي وامخري شرايين عُمري على قاربك الرّباني الذي صنعه الله لإنقاذ النّفوس المتعبة"
"ليكن دمي قطرات حُبٍ تسري في شرايين حبيبي ولتكن روحي الرعشة التي تنتشي بها مسامات روحِه"
* * *

كانت شمس ما في فضاءٍ ما تتألّق في السَّماء مرسلة خيوط أشعتها الفضيّة لتنعكس من زجاج نوافذ المركبة، حين نزل الملك والملكة إلى الحديقة، فراحت الأسماك والدلفينان والظّباء والرشاءان والفراشات واليمامات والعصافير والنّباتات والورود تهتف مُرَحّبة بالملكة، وبدت أستير وهي تداري خجلها وتحاول ألاّ تنظر نحو الملك لقمان، غير أن الملك ناداها حين نظرت إليه، وفاجأها بسؤالها:
"ما رأيك أن نزوّجك يا أستير؟"
فأحنت أستير رأسها وهي تهتف:
"لا يوجد على المركبة من هو أعزب أو ليس لديه نساء يا مولاي؟
"يمكننا أن نتخذ لك زوجاً من أي كوكب قادم نهبط عليه"
"لا أشعر برغبة في الزّواج يا مولاي"
"ليكن حبيباً أو صديقاً يؤانسك ولا يدعك تشعرين بالوحدة"
"أشكرك يا مولاي، لا أظن أنني سأتقبّل أي رجل بسهولة"
"ما رأيك بأحد الملائكة الذين يرافقون المركبة، ألم يغازلك أحدهم؟"
"لا يا مولاي"
"لعلّهم لم يروكِ"
"كُلّهم رأوني يا مولاي"
"غريب، فعلاً غريب!"
وراح الملك يتجوّل هو والملكة في الحديقة وسط الزّهور التي أخذت ترتعش وترقّص ورودها فيما راحت البلابل والعصافير تغرّد وتزقزق بألحان منسجمة أضفت على الجو بهجة فائقة.
تساءَل الملك:
"متى أتيتِ بكل هذه البلابل والعصافير يا حبيبتي، لم أرها من قبل؟"
"آتيت بها هذا الصَّباح لأبعث البهجة في نفس حبيبي يوم راحته خاصّة وأن إقامتنا في المركبة ستدوم كما يبدو"
"يا إلهي يا حبيبتي، لو أنّ لكلِّ الرّجال في كل الكواكب زوجات مثلك لما وجدوا أيّة مشقّة في التوصّل إلى الحقيقة الإلهيّة والتوحّد مع الله!"
"لماذا لن يجدوا أيّة مشقّة يا حبيبي؟"
"لأن الله سيكون بين أحضانهم يا حبيبتي!"
"هل هذا إلحاد أم إيمان يا حبيبي؟"
"بل ذروة الإيمان يا حبيبتي"
وتابع الملك حين لم تقاطعه الملكة:
"رحمك الله يا كازنتزاكي، سأحضرك إلى جنّتي التي سأقيمها في السموات مع من سأحضرهم من عُظماء الأرض، وأدعك تحيا إلى الأبد إن استطعت، لعلّك لا تضطر ثانية إلى التفكير في مَدَّ قبعتك على قارعة الطّريق لتتسوّل من النّاس بضعة أيّام لتطيل عمرك قليلاً من الزّمن!"
"تقصد نيكوس كازنتزاكي الأديب اليوناني يا حبيبي؟"
"وهل في الوجود كازنتزاكي غيره يا حبيبتي، الأدباء والفنانون العُظماء لا يتناسخون في حياة البشر كما يتناسخ القادة السيّاسيّون"
"ولماذا خطر ببالك الآن يا حبيبي؟"
"لأنّه ممن أثّروا فيّ حتى العظم يا حبيبتي، ولأن علاقته بالله كانت قريبة من عُلاقتي وعلاقة جوته إلى حد ما، أكثر مما كانت قريبة من علاقة هيسه وثربانتس ودانتي ودوستويفسكي، مع أنّ هؤلاء نخروا عظامي، وخاصّة هذا الدينكوشوتي ثربانتس، سأحضره إلى جنّتي وأحضر له حبيبة أحلامه ليحيا معها في الواقع لا في الأحلام!"
"وهل ستحضر دانتي وبياترتيشي؟"
"طبعاً يا حبيبتي وأراغون وإلزا وجوته وجرتشن!
"يا حبيبي هل ستقيم جنّة للأدباء؟"
"للأدباء والعلماء والفنّانين والأنبياء والحُكماء، سأحقق كُلَّ أحلامهم يا حبيبتي، سأحيي أينشتاين وإن كنت غاضباً منه للمصائب النوويّة، وسأحيي ألفرد نوبل ومن قتلوا من أسرته، وقد أزعجه بسؤال واحد إذا ما أتاح لي ذلك"
"ما هو يا حبيبي؟"
"سأسأله عمّا إذا كان سيهب فائدة المليون جنيه للعلماء والأدباء والساعين إلى السَّلام، لو لم يقتل الانفجار الديناميتي خمسة من أفراد أُسرته؟!"
"وماذا لو سألته وكانت إجابته سلبيّة؟"
"لن يتغيّر شيء يا حبيبتي، سأشكره لأنّه أتاح لي أن أسأله ولأنه أجابني، وأدعوه لأن يقيم في قصره براحة نفس وهدوء بال"
"ألا تقول لي كيف كانت علاقة كازنتزاكي بالله قريبة من علاقتك؟"
"آخ يا حبيبتي، لا تذكّريني بآلامي مع الأدباء فقد بعت مؤلّفاتهم حين عضّني الجوع وحاصرني طمع الأصدقاء والناس، ولا أعرف بأي وجه سألقاهم حين أُحضرهم إلى جنّتي، وماذا سيكون رد فعل كازنتزاكي حين سأقول له، أعذرني لأنّي اشتريت مذكّراتك مَرّتين وأضعتها مرّتين، مَرّة حين أهديتها إلى فتاة أحبتني، ومَرّة حين اشتهت نفسي نصف فرّوج!"
"يا حرام يا حبيبي، أظن آنّ كازنتزاكي سيعذرك ويرثي الحال التي كنت عليها"
أرجو ذلك يا حبيبتي، لم أتصوّر يوماً أنّ فراق كتاب يحبّه المرء، قد لا يقل عن فراق حبيبة، تصوّري أنني بعت دونكيشوت بأربع فراريج؟!"
فضحكت الملكة، وهي تهتف:
"سيغضب كازنتزاكي منك حتماً، كيف تبيع مذكّراته بنصف فرّوج بينما تبيع دونكيشوت بأربعة فرايج؟!"
"يا حبيبتي مذكّرات كازنتزاكي بعتها عندما كانت الكتب رخيصة ولا تجد من يشتريها، أمّا دونكيشوت فبعته أيّام الغلاء، ولم يكن متوفّراً في الأسواق!"
"هكذا إذن، طيّب احكِ لي عن كازنتزاكي وعلاقتك به"
"يا حبيبتي قد لا يوجد أديب إلاَّ ولي معه علاقة ما"
"أرجوك، فقط علاقتك بكازنتزاكي"
"كان كازنتزاكي يبحث عن الله على الأرض يا حبيبتي، أمّا أنا فأبحث عنه في السماوات. وقد عاش كازنتزاكي هذا القلق منذ طفولته كما عشته أنا، ووصل إلى حافة الإلحاد خلال بحثه المضني عن الله، فذهب إلى الأديرة والكنائس باحثاً متسائلاً، وعاش مع الرّهبان، وسافر إلى فلسطين، وزار كنيسة القيامة في القدس حيث نهض الرّب يسوع، وكنيسة المهد في بيت لحم حيث ولد يسوع، ولم يجد الله، ليتني كنت موجوداً والتقيته لاصطحبته إلى دير مار سابا لعلّه يعثر عليه!"
"على من يا حبيبي؟"
"على الله يا حبيبتي!"
"وأين يوجد دير مار سابا وما هو؟"
"دير محفور في سفوح جبال القدس الشرقيّة البعيدة، في السفح الجنوبي الغربي لجبل المنطار تحديداً!"
"ولماذا لم يذهب كازنتزاكي إليه؟"
"ربّما لم يخبره عنه أحد، ثمَّ إن الدير بعيد، وطرقه جبليّة ووعرة"
"هل كنت ترعى الأغنام هُناك يا حبيبي؟"
"أجل يا حبيبتي كنت أرعى قطيعنا في هذه السّفوح، وتعلّقت قليلاً بالمسيحيين حين كنت ألتقي الرّهبان والسيّاح وأعزف لهم على نايي، فيتصدّقون عليّ بقريشات"
المهم يا حبيبتي، غادر كازنتزاكي فلسطين دون أن يرى الله ودون أن يخبره أحد أنّه رآه، وذهب إلى دير سانت كاترينا – كما أظن – في سيناء. قطع رحلة شاقّة في الصحراء على ظهر جمل إلى أن بلغ الدير.
مكث هُناك بضعة أسابيع ليعترف له راهب الديّر أنّه لم يرَ الله يوماً رغم السّنين الطّوال التي أمضاها منعزلاً في ذلك الدير في الصحراء، وراح الرّاهب ينتقد الدين مُشيراً إلى أن المسيحيّة لم توفّق بين الروح والجسد، بإقدامها على قمع رغبات الجسد لصالح الروح الذي هو الله، فشكره كازنتزاكي حيث وجد أخيراً من قال له شيئاً مُفيداً.
وحين عاد كازنتزاكي إلى اليونان لم يتوقّف عن البحث ولم يكلّ منه، فاعتكف في دير في جبل آثوس – أيضاً كما أظن – وذات ليلة فوجئ براهب – أظن أنّه كان طبّاخ الدير – يوقظه من نومه، ويقول له إنّه رأى الله ذات يوم وأنّه سيخبره بذلك شريطة ألاَّ يعرف أحدٌ في الدير هذا السِّر. فنهض كازنتزاكي من فراشه متلهفاً لسماع ما كان يود أن يسمعه منذ عشرات السِّنين، قال الراهب ما مفاده، أنّ مسؤول الدير أرسله ذات عام ليجمع حصّة الدير من محاصيل الأرض، وحين وصل إلى حقل الحصاد، رأى امرأة ترضع طفلها مخرجة نهدها كُلّه، لم يكن الراهب قد شاهد نهد امرأة في حياته، ويبدو أنّه نسي النّهد الذي رضع منه بعد أن أمضى في الدير قرابة أربعين عاماً، فتجمّد في مكانه للحظات وما لبث أن صرخ بالمرأة وزجرها مُعنّفاً طالباً إليها أن تختشي وتستتر، فأذعنت له واختشت واستترت.
وفي المساء أخليت غرفة للراهب لينام فيها، وجاءَ ته المرأة نفسها بطعام العشاء، وحين عادت لتأخذ الطّبق وجدت أنّه لم يأكل متذرّعاً بعدم رغبته في الطّعام.
وكم حاول الرّاهب تلك الليلة أن ينام، لكن عبثاً، فأينما نظر شاهد نهد المرأة يمثل أمامه، حتّى أن الضوء كان يتراءَ ى له كنهد المرأة، وحين أطفأه تخيّل النهد يُضيء بدلاً منه..
ومَرّت بضعة أيّام والمرأة تحضر الطّعام والرّاهب لا يأكل، فأخبرته المرأة قائلة أن لجسده عليه حق مثلما لله عليه حق، فلم يُذعن لها، ولم يفكّر في كلامها، ولم يأكل إلاَّ ما يدرأ عنه أنياب الجوع.. إلى أن جاءَت المرأة ذات ليلة ووضعت له الطّبق وتراجعت إلى الوراء ببطء ثمّ استدارت بهدوء لتخرج من الباب، وفجأة وثب الرّاهب خلفها ليأخذها بكل قوّته ويطرحها على السّرير ويشرع في مضاجعتها بجنون!
وفي ذلك الصّباح يا حبيبتي، رأى الراهب الله، قال إنّه شاهده يقف فوق سريره!!"
وتوقّف الملك لقمان عن الحديث، فيما الملكة تهتف "يا ألله" وتطرق في محاولة للربط بين القصّة وبين ما قاله لها الملك قبل أن يأتي على ذكر كازنتزاكي، ويبدو أنّها أدركت ما قصده فراحت تبتسم.
هتف الملك لُقمان:
"أعتذر يا حبيبتي إلى كازنتزاكي وقُرّائه وإلى الشعب اليوناني، لأنّي سُقت قصّته بطريقتي، وكما جمعت مُخيّلتي خيوطها من حوالي ستمائة صفحة من مذكّراته، قرأتها قبل أكثر من عشرة أعوام، فربّما أسأت إليها، وربّما أضفت كلمة غيّرت المعنى الذي قصده كازنتزاكي، ذكّريني يا حبيبتي لأقصّ عليك ذات يوم قصّة كاهن الاعتراف الفلسطيني في "لعبة كريّات هيسه الزجاجيّة!"
"حدّثني الآن يا حبيبي"
"لا اليوم تكفيك قصّة واحدة، على أيّة حال كان هذا الكاهِن يرى أنّه مذنب أكثر من المذنبين الذين كانوا يعترفون بين يديه للتكفير عن ذنوبهم وخطاياهم"
"كما تشاء يا حبيبي، لكن لا تنسى أنّك مدين لي بقصص كثيرة"
"لا، لن أنسى يا حبيبتي، عندي رغبة لأن أدعو أُسرة المركبة لتناول طعام الغداء معنا، طالما أنَّه يوم راحة، فقد اشتقت إلى الجميع"
"فكرة جميلة يا حبيبي"
"ثمَّ أين نسمتي الصّغيرة، أشعر وكأنّي لم أعانقها منذ دهر!"
ولم ينه كلامه إلاّ ونسمة تنزل من المركبة محلّقة على ظهر فرسها الحوريّة وهي تهتف "عمّو عمّو"
أخذها الملك بأحضانِه وهو يهتف "يا روح عمّو" ويتوحّد هو وإيّاها في عناق حار، وما لبث أن انطرح على العُشب وراح يتدحرج وهو يضمّها إلى حُضنه وهي تضحك بأعلى صوتها، وظلَّ يتدحرج إلى أن داخ دون أن تدوخ هي فتوقّف مستلقياً على ظهره، غير أنّها ألحت عليه قائلة:
"دحرجني كمان يا عمّو"
"دُخت يا حبيبتي"
"دُخِت؟"
"ايه، وتعبت كمان!"
"طيّب ارتاح يا عمّو لأجيب رشاي"
"ابقِ أنا سأجيبه يا حبيبتي"
وطار الرّشا ليأتي إليهما، فهتفت نسمة:
"يا ألله، طيّرته يا عمو!"
واستقبلت الرّشا بأحضانها لتجلسه إلى جانبها على بطن الملك، فهتف مُتأوّهاً:
"آي آي بطني يا عمّو، أنتِ والرّشا فوقي يا حبيبتي"
"طيّب احمله يا عمّو"
"وهل سأحمل الرّشا أم أحملك أنتِ؟"
"إشوي بس إشوي حتّى ما يزعل"
ونهض الملك ليحمل الرّشا إلى حُضنه ويركب نسمة على كتفيه.
كانت الملكة نور السَّماء تضحك وهي تحمل رشاها بدورها، فيما أستير تتعجّب مُبدية دهشتها من هذا الملك ذي القدرات الخارقة الذي يلعب مع الأطفال!
راح الملك يجوب الحديقة حاملاً نسمة والرّشا فيما اتّجهت الملكة إلى المسبح واليمامات تحلّق فوقها والفراشات تحوم من حولها والدلفينان يخرجان من الماء لتقبلهما وتعانقهما.
هتفت نسمة:
"خذنا عالمسبح عند خالِه نور يا عمّو"
"يلّه يا حبيبتي"
هبطت من المربكة فتاة ذات جمال ربّاني راحت تحلّق فوق الحديقة كحوريّة ملائكيّة بلباسها الأبيض الشّفاف، تحفّ بها عشر حوريّات كأنّهن الأقمار.
تساءل الملك:
"من هذه الحوريّة الملائكيّة يا حبيبتي؟"
وكم كانت دهشة الملك حين هتفت الملكة:
"هذه إحدى بنات خيالك يا حبيبي!"
"مذا تقصدين؟"
"إنّها حوريّة ملك الملوك"
"يا إلهي، مستحيل أن يخلق خيالي حوريّة بهذا الجمال، ربّما كذب أعوانه عليه حين أحضروها ليكف شرّه عنهم"
"يمكنك أن تسألها يا حبيبي"
"لن أسألها يا حبيبتي لعلّني أصدّق نفسي وأعتبرها من خلق خيالي"
وراحت الحوريّة تحلّق فوق المسبح ومرافقاتها يتبعنها كاليمامات البيض.
وما لبثت أن توقّفت في السَّماء لتتوقف مرافقاتها خلفها وتهتف:
"أُسعدت صباحاً يا مولاي"
فهتف الملك:
"بل أنتِ مولاتي ربّة الجمال يا أجمل وأسعد صباح!"
"عفو مولاي فما أنا إلاّ حوريّة جسدّها خيال مولاي في غفلة منه، ولم يستطع الملائكة تجسيد من هي أجمل منّي وأكمل بكثير في خيال مولاي!"
"أف! وهل ثمّة من هي أجمل منك في خيالي؟"
"أجل يا مولاي، وهذا ما عجز الملائكة عن تجسيده وإيجاد شبيه له، فأحضروني أنا لملك الملوك"
"حتّى لو كان ما تقولينه صحيحاً أيّتها الحوريّة، سأتوّجك ربّة للجمال على هذه المركبة"
"هذا تكريم فائق لم أحلم أن ينعم به مولاي عليّ"
وأشار إليها أن تهبط ليتوّجها فهبطت ليودِعَ نسمة ورشاها ظهر فرسها الحوريّة، ولتطلق الملكة نور السّماء رشاها، وليهبط كُلّ من في المركبة ليشهدوا تتويج ربّة الجمال.
انحنت الرّبّة أمام الملك ثمّ استقامت في وقفتها ليتقدّم منها ويضع على رأسها تاجاً من الذّهب الخالص المرصّع بالماس، وفي جيدِها عقداً من اللؤلؤ، وليلبس الجواري عشرة تيجان من الذّهب المُرصّع بالزمرّد.
صفّق الحضور ابتهاجاً بالتتويج ودعا الملك لقمان الجميع إلى حفل غداء في الحديقة على شرف ربّة الجمال، وراح يُصافِحهم واحداً واحداً ويطمئن عليهم وخاصّة أبناء الإنس منهم، الذين قد لا يتآلفون مع الملائكة.
حين أوشك حفل الغداء على الانتهاء سأل الملك لقمان قائد المركبة:
"هل تعرف في أي سماء نحن أيّها الرّائد؟"
فأجاب قائد المركبة بالنّفي، غير أنّه أكّد أن المركبة تجاوزت سبع شموس منذ أن انطلقت من فضاء الكوكب المُطوّر، وهي الآن تحلّق في سماء الشمس الثامنة، فهتف الملك متسائلاً بدهشة:
"هل هذا يعني أننا تجاوزنا سبع سماوات في انطلاقتنا الأخيرة أيّها الرائد؟"
"إذا ما اعتبرنا كل شمس بسماء يا مولاي"
"وإذا ما أضفنا السماوات السابقة نكون قد تجاوزنا أكثر من اثنتي عشرة سماء"
"أظن ذلك يا مولاي"
وأدرك الملك لقمان أنّه في متاهة سماوات قد لا يُعرف أوّلها من آخرها، فهتف متسائلاً:
"إذن أين تكون السَّماء السابعة التي أَحلم بالوصول إليها؟"
فقال الرائد:
"والله لا أعرف يا مولاي"
ونظر الملك إلى الملكة نور السَّماء لعَلَّ لديها ما يطمئنه، فقالت:
"يبدو لي يا حبيبي أنّ هُناك آلاف السماوات!"
فأكّدت بقولها الشّكوك التي راحت تراوده، فلم يجد غير القول:
"يا إلهي، هذا يعني أننا نضيع في فضاء لا نهاية له"
فقال ملك الملوك:
"رُبّما تكون الأرض في السَّماء السابعة السُّفلى يا مولاي، ومعظم ما تجاوزناه حتّى الآن لم يكن إلاّ في السموات السُّفلى"
وبدأ الملك لقمان معجباً بالفكرة:
"وبذلك قد نكون الآن في السَّماء الخامسة العُليا:
"هذا ممكن يا مولاي"
وشككت الملكة في ترجيح صحّة هذه التوقّعات، مُشيرة إلى أنّ كل معلوماتهم السابقة عن الفضاء والسَّماوات لم تكن أكثر من تصوّرات موروثة غير صحيحة، حتّى أنّها شككت في أن يكون الكوكب الذي يقيمون عليه في العالم الأسفل!
فتساءَل الملك لقمان بدهشة مخاطباً الجميع:
"هل هذا يعني أنّكم أضعتم كواكبكم ولم تعودوا تعرفون أين هي؟
وكم كانت دهشة الملك حين أجابت الملكة:
"أجل يا حبيبي، للأسف لا يستطيع أي مِنّا أن يحدد من هُنا أين يكون كوكبه، فهل هو تحت أم فوق، أعلى أم أسفل، ناحية الشرق أم ناحية الغرب، في السماوات العُليا أم في السماوات السُّفلى!"
"وكيف ستعودون إليها فيما لو شئتم؟"
"إن لم تُسعفنا قوانا الخفيّة فلن نتمكن من العودة يا حبيبي"
ونظر الملك لقمان نحو قائد المركبة متسائلاً:
"وماذا عن الكوكب المتطوّر الذي أتيتم بهذه المركبة منه أيّها الرّائد، ألا تعرف الآن أين هُو؟"
"للأسف لا أعرف يا مولاي ولا يمكنني الذّهاب إليه دون اللجوء إلى قوانا الخفيّة"
وزفر الملك متأفقاً ثمَّ هتف:
"كنت أدرك عدم وجود أعلى وأسفل في هذا الكون، ومع ذلك ظللت أحلم بالوصول إلى السَّماء السابعة العُليا انطلاقاً من تصوّراتي الموروثة"
تساءَل ملك الملوك:
"هل يمكن ألاّ يكون في الكون أعلى وأسفل يا مولاي؟"
"كل شيء ممكن أيّها الملك؟"
فقالت الملكة:
"حتّى لو عرفنا مركز الكون يا حبيبي؟"
"وكيف سنعرف مركز الكون ونحن لا نعرف فيما إذا كان حجمه محدوداً أم متمدداً؟ وحتّى لو عرفنا ذلك فإن وجود الشيء سيظل أعلى بالنسبة إلى ما هو أسفل منه، وسيظل أسفل بالنسبة إلى ما هو أعلى منه"
"وماذا ستعمل الآن يا حبيبي؟"
"لو أجزم بصحّة توقعاتنا بعدم وجود سماء سابعة، لبحثنا عن كوكب نستقر عليه قبل التفكير في أيّة خطوة لاحقة"
وتوقّف الملك لقمان فجأة ليلتفت حوله وإذا بآلاف الرّماح التي كانت منطلقة نحوه من كل الجهات تتكسّر في الفضاء وكأنّها ارتطمت بجدار صلب.
دبّ الذُّعر في قلوب بعض من كانوا على المائدة وهم يرقبون تكسّر آلاف الرّماح التي انهمرت فجأة من كل صوب حتّى من أعلى، والتصقت الملكة نور السَّماء بجسد الملك لقمان.
تساءَل ملك الملوك:
"هل عاد خصمك يا مولاي؟"
"أجل أيّها الملك، يبدو أنّه سيخوض معركته معي حتّى النهاية، الغريب أنّه لجأ إلى أسلحة بدائيّة بدلاً من الشّهب والنيازك والأجرام"
فقالت الملكة:
"لكنها انطلقت فجأة ومن مسافة قريبة يا حبيبي"
"ولماذا لا طالما أنّ خصمي قادر على ذلك كما يبدو"
"هل أخذت احتياطاتك يا حبيبي فيما لو هاجمك عن قرب أكثر؟"
"لا تخافي يا حبيبتي، هُناك أربعة من الملائكة المخفيين يقفون دائماً من حولي ولا يتيحون حتّى لذبابة أن تقترب مِنّي"
وتنفّست الملكة الصعداء وتساءَلت:
"أين سنتجه الآن يا حبيبي؟"
وأرسل الملك لقمان نظراته إلى ما لا نهاية، وهتف:
"أرى قمراً قريباً مِنّا سنهبط عليه"
وتطلّعت الملكة فلم تر شيئاً، فقالت:
"لا أرى شيئاً يا حبيبي"
"أنا أرى يا حبيبتي، وأرى على القمر ملايين الناس يحملون جثثاً على نعوش حملت على أكتافهم، وأرى محارق كبيرة يلقون الجثث فيها، وأرى نهراً يتعبّد الناس من حوله ويلقون أطفالهم وبناتهم وأبناءَ هم في مياهه، وأرى آلاف الناس يُضربون بالعصي، وآلاف الآخرين ينهالون بعصيهم على جذوع الأشجار"
أبدت الملكة دهشتها ووقف كل من على المائدة وراحوا ينظرون فلم يروا شيئاً.
تساءَلت الملكة:
"هل بدأت ترى عن بُعد يا حبيبي؟"
فقال الملك:
"أجل يا حبيبتي، أستطيع الآن إذا ما شئت أن أرى ما وراء الجبال، وما خلف الجدران.
"هل هذا يعني أنّك بدأت ترى إلى ما لا نهاية يا حبيبي؟"
"لا يا حبيبتي، فلا يقدر على ذلك إلاَّ الله"
"أحمد الله الذي منحك كُلَّ هذه القوى يا حبيبي"
"الحمد له، والشكر له يا حبيبتي"
وأقلعت المركبة بسرعة خياليّة ليبدو القمر الذي تحدّث عنه الملك لُقمان.
وما أن حلّقوا فوقه حتّى شاهدوا آلاف البشر يسيرون في أرض جرداء ويحملون آلاف الجثث على نعوش محمولة على أكتافهم، وهم يهتفون بأصوات حزينة باكية وكأنّهم يندبون، كانوا يتجّهون نحو وهدة كبيرة من الأرض أشعِلت فيها نار، راحوا يلقون فيها الجثث.
هبط الملك والملكة من المركبة وراحا يحلّقان فوق أرتال حاملي النّعوش إلى أن اقتربا من الوهدة التي تشتعل فيها النار وتلقى فيها الجثث، فحطّا على مقربة من الناس الذين توقّفوا عن الحداء وإلقاء الجثث في النار.
اكتسب الملك لقمان لغتهم وحيّاهم ثمَّ سألهم عن أسباب موت هؤلاء الناس، فأخبروه أنّ البلاد أصيبت بأمراض يجهلون ما هي بعد أن حلَّ عليهم غضب ربّهم النهر، ففتكت بملايين الناس.
ألقى الملك لقمان نظرة نحو بعض الموتى مستعيناً بقواه، فعرف أن الكوكب كُلّه يتعرّض للأوبئة الفتّاكة كالطاعون والجدري والملاريا والكوليرا.
أطرق كعادته وراح يرسل نظراته إلى كل الاتجاهات حيث أرتال حاملي النّعوش، وكُلّما أرسل نظراته نحو رتل دبّت الحياة في أجساد الموتى ونهضوا عن النّعوش وقد أُعيدت لهم صِحتهم وتخلّصوا من أمراضِهم.
وما أن فرغ الملك لقمان من إعادة الحياة إلى كل الأموات حتّى نظر إلى الوهدة حيث المحرقة التي تأججت نيرانها، فأخذت ألسنتها تقصر لتتلاشى وسناها يخبو ليتحوّل إلى فحم أسود أو رماد راحت تبدو منه بعض الأيدي والأرجل والرّؤوس والأمعاء والأشلاء البشريّة التي راحت تجهد لتنبعث من بين أكوام الفحم والرّماد وتلتئم بأجسادها، فبدت وكأنّها خلايا نحلٍ أو جبل من النّمل تكوّم فوق بعضه البعض، فراح يُصارع من أجل النجاة، وما لبثت بعض الأجساد أن أخذت في التشكّل لتطير في الهواء مبتعدة عن الوهدة متيحة للأشلاء الباقية أن تشكّل أجسادها وتنهض من فنائها وتعود إلى الحياة.
أخذت الأجساد تتشكّل بالعشرات ثمَّ بالمئات وتندفع إلى أعلى لتضجّ السَّماء بالأجساد المحلّقة التي راحت تحطّ في كل مكان، راقب الملك لقمان والملكة نور السَّماء الحياة بصمت وخشوع إلى أن عادت إلى جميع من التهمت أجسادهم نيران المحرقة، وكانوا قرابة مليونين من البشر.
خرج الملايين من الناس من هول الدَّهشة التي ألّمت بهم وشرعوا يخرّون ساجدين في كُلِّ مكان، ولأوّل مَرّة لم يطلب الملك لقمان إليهم النّهوض، بل راح يرسل بصره وبصيرته إلى كافة أنحاء الكوكب، فنظر أوّلاً إلى الشرق فشاهد خلف الجبال والسّهوب آلاف مواكب الموتى وآلاف الحرائق التي تندلع في كل مكان وتحرق فيها الجثث، فأعاد الحياة إلى الموتى الذين لم تحرق جثثهم بعد، وإلى الموتى الذين تحوّلت جثثهم إلى رماد، ثمَّ أرسل بصره إلى الشّمال ليخترق الجبال والبحار والمحيطات، فشاهد آلاف المواكب والحرائق، فأعاد الحياة إلى الجميع، ثمَّ أرسل بصره إلى الغرب فشاهد آلاف الأهوال فأعاد الحياة إلى الموتى، ونظر أخيراً إلى الجنوب فشاهد ما هو أكثر هولاً ورعباً، فأعاد الحياة إلى الموتى والمحروقين، فضجّت السَّماء فوق الكوكب القمري بملايين البشر الذين راحوا يحطّون على الأرض ويسجدون، ليسجد كل سُكّان الكوكب ممن أعيدت لهم الحياة، أمّا أولئك الذين كانوا يلقون بأبنائهم في النّهر فقد راحوا يهزجون بالأناشيد الدينيّة ويلقون بالمزيد من الأطفال والبنين والبنات في مياه النّهر الإله، لاعتقادهم أنّه استجاب لتضحياتهم وما قدّموه من قرابين، فصفح عنهم وأعاد الحياة إلى موتاهم، وكانت هذه حال الآلاف من الذين كانوا يضربون جذوع الأشجار بالعصي والهروات والبلطات، فقد اعتقدوا أنّهم نجحوا في طرد الشياطين التي سلّطها ربّهم عليهم لتنزل بهم الأمراض، فتابعوا ضرب الجذوع وتحطيمها لطرد أرواح الشياطين منها، وكذلك المرضى الذين كانوا يُضربون أو يرقصون لطرد الشياطين من أجسادهم فقد تابعوا طقوسهم اعتقاداً منهم أنّ ربّهم سيستجيب لهم ويخلّصهم من أمراضهم، كما خلّص من ماتوا ومن أُحرقوا.
أشار الملك لقمان إلى الساجدين أن ينهضوا ويتبعوه، وطار لينهض الملايين من سجودهم ويطيروا خلفه، أمّا أولئك الذين كانوا يسجدون في بلدان بعيدة على الكوكب، فقد نهضوا وطاروا ليجدوا أنفسهم مسيّرين في طيرانهم إلى الناحية التي يحلّق فيها الملك لقمان، ليحلّقوا مع المحلّقين خلفه.
وحين اقترب الملك لقمان والملكة نور السَّماء من سهل فسيح بدا فيه مئات الآلاف مِن النّدابين واللطامين، كان عشرات الملايين من البشر قد لحقوا بالموكب السّماوي وطاروا خلفه.
هبط الملك والملكة فوق رتل كبير من الناس العُراة ضمَّ مئات الآلاف من المرضى، كان آلاف آخرون ينهالون على أجسادهم بالعصي والسيّاط لطرد الشياطين من أجسادهم وتخليصهم من أمراضهم، فخاطبهم الملك لقمان قائلاً: "هيّا اتبعوني أيّها الحمقى" فوجدوا أنفسهم يتخلّصون من أمراضهم ويطيرون ليتبعوه، حتّى أولئك الذين كانوا يضربونهم من الكهنة والمشعوذين، فقد وجدوا أنفسهم مُرغمين على الطيران خلف الطائرين!
وحلّق الملك لقمان برفقة الملكة نور السَّماء فوق مئات الآلاف من الناس، انتظموا في حلقات واحدتها حول الأُخرى وراحوا يلطمون أنفسهم بالسلاسل والعصي والحبال وقبضات الأيدي، فكانت بضع حلقات تلطم بالأيدي على الصّدور، تليها بضع حلقات تلطم بالسلاسل على الظّهور ثمَّ بضع حلقات تضرب أجسادها بالعصي على الأفخاذ والأرداف، ثمَّ بضع حلقات تلطم أكتافها بالحبال، فبضع حلقات تضرب أعناقها بأغصان الأشجار الطريّة. وكانت الدّماء تخضب أجساد جميع اللطامين.
وكانوا يفعلون ذلك لطرد الشياطين من أجسادِهم وتخليص أنفسهم من الأمراض، فأشفاهم الملك لقمان وهتف إليهم "اتبعوني أيّها الحمقى" فطاروا في الفضاء ليتبعوه، مع الملايين الذين كانوا يتبعونه.
وتوقّف الملك لقمان فوق حلقات الرّقص العنيف لمئات الآلاف من النساء اللواتي كن يرقصن عاريات ويضربن أجسادهن بقبضات أيديهن لتخليص أنفسهن من الشياطين والأمراض فأشفاهنّ وهتف إليهن "اتبعنني أيّتها الحمقاوات" فطارت النسوة ليتبعن موكب الملك.
وأرسل الملك بصره إلى كافة أرجاء الكوكب ليخلّص الجميع من حلقات اللطم والأمراض ويرغمهم على الحضور إليه، وراح يتابع طيرانه وملايين الطائرين من سائر أنحاء الكوكب ينضمّون إلى الموكب الذي ملأ الفضاء وحجب ضوء الشمس.
اقترب الموكب من غابة كبيرة كان مئات الآلاف قد اجتاحوها ضرباً بعصيهم وبلطاتهم لطرد الشياطين التي يعتقدون أنّها تستوطن أيضاً جذوع الأشجار وتسبب النكبات وتنزل بالناس الأمراض، فحطّموا بعض جذوع الأشجار وهربت آلاف الحيوانات من أمامهم على غير هُدى لهول الرّعب الذي ألم بها.
صرخ بهم الملك لقمان "هيّا اتبعوني أيّها الحمقى، فالشياطين في أدمغتكم وليست في جذوع الأشجار!" فألقوا عصيهم وبلطاتهم وطاروا خلف الموكب الملكي، وأرسل الملك أبصاره إلى كل الجهات حيث مئات الغابات التي اجتاحها الناس، فألقوا عصيهم وبلطاتهم وطاروا ليتقاطروا عبر الفضاء نحو الموكب الملكي المهيب الذي أخذ يقترب من النهر الكبير، حيث انتشر على شطآنه الملايين من أبناء الكوكب وراحوا يلقون أطفالهم وأبناءَهم وبناتهم في لجّة مياهه، وهم يهزجون بالأناشيد سائلين النّهر رضاه وغفرانه وصفحه، فصرخ بهم الملك لقمان بصوت تردد صداه من كافة أرجاء الكوكب ومن سماواته العُليا:
"كفاكم حماقة أيّها البُلهاء وتوقّفوا عن إلقاء أبنائكم وبناتكم في مياه النهر، فهو ليس في حاجة إلى أجساد أطفالكم، وهو لم يرسل لكم الشياطين ولم ينزل بكم الأمراض".
وحين سمع الناس صوت الملك وشاهدوا موكبه العظيم توقّفوا عن ترديد الأهازيج وإلقاء الأطفال والأولاد في مياه النّهر، وأوقف الملك لقمان مياه النّهر عن الجريان وشرع في إعادة الحياة، بقدرة الله العظيم، إلى ملايين الأطفال والأولاد والبنات الذين قذفت أجسادهم فيه، فأخذت الأجساد تطفو على مياه النَّهر وهي تحرّك قوائمها وما تلبث أن تطير محلّقة في الفضاء لتنضم إلى الموكب السَّماوي.
وتابع الملك طيرانه فوق النّهر العظيم وكُلّما اجتاز مسافة فوقه صعد منه آلاف الأولاد والفتيات وحلّقوا ليتبعوا الموكب.
وكان طول النهر حوالي عشرة آلاف ميل وعرضه حوالي خمسة أميال، ويصبُّ في محيط شاسع، فاضطر الملك إلى مضاعفة سرعته ليجتازه من أوَله إلى آخره ويحلّق فوق مياه المحيط لتصعد منه ملايين الأجساد وتحلّق في السَّماء خلف الموكب ومن حولِه، لتحتشد السَّماء بأكثر من خمسة مليارات من البشر الذين أعيدت لهم الحياة، وأكثر من خمسة مليارات من البشر الذين أشفاهم مِن أمراضهم أو جعلهم يرافقون موكبه.
أرسل الملك لقمان بصره إلى كل الجهات، ليرى الفضاء على مدى البصر محتشداً بالمليارات من البشر، فهتف بصوت سُمع في الأرض والسَّماء:
"إنّ مَن أعاد لكم الحياة وأشفاكم مِن أمراضكم هُو إلهي الذي لا إله غيره، فآمنوا به واعبدوه"
فأخذ المليارات من البشر يهبطون من السَّماء ويخرّون على الأرض ساجدين ليملأوا السّهوب والشّعاب، السّفوح والتلال، الغابات والحقول، وشواطئ الأنهار والبحار والمحيطات، ليسجد كُلُّ من على الأرض حتّى الأطفال والدّواب، الطير والنّبات، الأشجار والأحجار، الصخور والأسماك، الحيوانات والحشرات، الجبال والتّلال، ولتسَجَد كل الكواكب في الفضاء، وكل الأقمار، وكل الشّموس، وكل الشّهب والنيازك، وكل السّدائم، بل كل الكائنات، ليهتف الملك لقمان وهو يرى إلى عظمته وجلاله، وتجلّي قدرته التي ما بعدها قدرة، سبحانه لا إله إلاّ هُو، وحده لا شريك له في المُلك، إنّه على كُلّ شيء قدير:
"اِرفعوا رؤوسكم، إنّ الله ليس في حاجة إلى من يسجد له"
فرفع البشر رؤوسهم وظلّوا جاثيين على ركبهم، فيما راحت أعينهم تتساءَل وأصواتهم تتردد في كل مكان لتختلط بأصوات النباتات والحيوانات والكائنات السَّماويّة التي استقامت في وضعها وراحت تتساءَل بدورها مع البشر:
"كيف نتعبّد لإلهنا العظيم يا لُقمان؟"
فهتف الملك لقمان بصوت تردد صداه من كافة أرجاء الكون:
"من شاء منكم أن يتعبّد إلى الله فليحبّه من كُلِّ قلبه ومن أعماق نفسه، فلا عبادة عند الله أكبر من المحبّة التي ينبض بها القلب وتختلج بها لواعج النّفس"
فشرع الملايين من البشر يشهقون بعمق باسطين راحات أيديهم على صدورهم، مغمضين عيونهم، زافرين الهواء من رئاتهم، مكررين ذلك بضع مرّات، ليستشعروا بقلوبهم وأنفسهم ما لم يستشعروه في حياتهم قط، من راحة بال وهدوء نفس وطمأنينة قلب، وما لبثوا أن وجدوا ذواتهم تحلّق في ملكوت الكينونة الإلهيّة، لتتحد بذات الله وتتوحد مع روحه الربّانيّة.
لوّح الملك لقمان بيده، مُشيراً إلى الجميع أن ينصرفوا إلى حال سبيلهم وأن يعودوا إلى أوطانهم مانحاً إيّاهم القدرة على التحليق ليتمكنّوا مِن العودة إلى بلدانهم، واعداً إيّاهم بمن يساعدهم في حياتهم ويعلّمهم شريعة الله، فأخذوا يطيرون ليتفرّقوا في كل الجهات وأرواحهم تحلّق مع روح الله.
وما أن خلا المكان من البشر حتّى هبط الملك لقمان إلى شاطئ المحيط وسجد للمرّة الثانية في حياته السَّماويّة، وفيما كان ساجداً هتف صوت الله في دخيلته:
"أتسجد لي يا لقمان وأنت تنزّهني عن السّجود"
فرفع الملك لقمان ظهره ليظلَّ جاثياً على ركبتيه باسطاً راحتيّ يديه عليهما وكأنّه في طقس صلاة إسلاميّة، فيما كانت مئات الهواجس والأفكار تتصارع في مخيّلته حاثّةً إيّاه على عدم التشكيك في الوجود الإلهي العظيم بعد اليوم، فلم يجد إلا أن يهتف بما هتف به في سجدته الأولى لإله بشري:
"إنّي أسجد لك لأنّي اقتنعت أنّك حقّاً إله".


نهاية الجزء الثاني
30/10/1994

الفهرس
الجزء الأول

محاولة انتحار ....................................................................................................... 9
رؤيا شيطانية....................................................................................................... 36
صعود إلى الفضاء............................................................................................... 60
ليلة راقصة على الكوكب سوهار................................................................... 94
حقيقة وخيال وجن وخوازيق............................................................................. 115
بطّيخ وبغال وزنى أبوي .................................................................................... 136
حرب جنّية وغزل كوني ................................................................................. 162
تتويج في السّماء................................................................................................ 190
ولادة وتنبؤات مأساوية.................................................................................... 209
رؤية شيطانيّة وآيات ربّانية.............................................................................. 232
صفات محمّدية وهدايا جنيّة............................................................................ 249
مسّاج كوني وحروب كوكبيّة...................................................................... 266
جهنّم الإله داجون............................................................................................. 290
الجزء الثاني
حديث عن كلينتون في أعماق خليج نسمة.....................................................312
عرش الإله داجون الحادي عشر......................................................................353
الآلهة الطيّبون...................................................................................................362
تحطيم الأصنام.................................................................................................398
عويل في الغابات................................................................................................423
الله. الكمال. الفضيلة.....................................................................................450
الله ورسوله والعفاريت......................................................................................501
عقل طوطمي...................................................................................................538
شهاب من السماوات العُليا...............................................................................562
إغواء أستيري....................................................................................................591



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شاهينيات (116) قورش الفارسي يأمر بإعادة بناء بيت يهوة .
- ألملك لقمان . الجزء الأول. رواية .
- صديقاتي وأصدقائي وقرائي : أنتم زاد روحي !
- الملك لقمان ج2 (10) اغواء استيري!
- الملك لقمان . الجزء الثاني. (9) شهاب من السموات العليا!
- شاهينيات (115) السبي البابلي وتحرير قورش الفارسي لليهود.
- ألملك لقمان.الجزء الثاني . (8 ) عقل طوطمي!
- الملك لقمان . الجزء الثاني. (7) الله ورسوله والعفاريت !!
- محمود شاهين : مخطوطات تبحث عن ناشر
- شاهينيات (114) ذكر العرب كغزاة لبني اسرائيل .
- ألملك لقمان.الجزء الثاني . (6 ) األله. ألكمال. الفضيلة .
- الملك لقمان . الجزء الثاني. (5) عويل في الغابات!
- شاهينيات (113) بعض قصص سليمان وبلقيس!
- الملك لقمان . الجزء الثاني.(4) تحطيم الأصنام !
- شاهينيات (112) أخبار الأيام أخبار مكررة عن شجرة العائلة التو ...
- ألملك لقمان.الجزء الثاني . (3 ) الآلهة الطيبون!
- الملك لقمان . الجزء الثاني.(2) عرش الإله داجون الحادي عشر.
- الملك لقمان .الجزء الثاني (1) حديث عن كلينتون في أعماق -خليج ...
- شاهينيات (111) قابيل وهابيل وحواء يختفون من شجرة العائلة الت ...
- ملحمة الملك لقمان (13) جهنم الإله داجون!( الفصل الأخير من ال ...


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ألملك لقمان . رواية . الجزء الثاني.