أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - عمّار العربي الزمزمي - حق الاختلاف















المزيد.....


حق الاختلاف


عمّار العربي الزمزمي

الحوار المتمدن-العدد: 4809 - 2015 / 5 / 17 - 19:10
المحور: العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
    



توطئة:
حق الاختلاف من المسائل الأكثر راهنية و حساسية في عالمنا اليوم خصوصا في الفضائين العربي و الإسلامي على الخوض فيها بالغ الصعوبة و التعقيد على المستويين النظـــــــري و العملي لوجود إشكاليات نظرية حقيقية من جهة و للتباعد في المرجعيات بين من يقدمون على الخوض فيها.
و كل حديث في المسألة من المفروض أن يأخذ بعين الاعتبار ثنائية طرفاها الاختــــــــلاف و الحق فيه. و يستدعي الوقوف عند الطرف الأول تحديد معنى الاختلاف و مستوياتـــــــــه و مجالاته و استتباعات إنكاره و الإعتراف به. أما الوقوف عند الطرف الثاني فيستدعي تحديد صاحب أو أصحاب هذا الحق و المفكرين له و من يضمن ممارسته و يرعاه و معرفة ما يقود إليه إنكار و شرط احترامه و معرفة ما إذا كان الإقرار القانوني بوجوده كافيا لجعله محترما في الممارسة و ما إذا كان لهذا الحق حدود و إذا كانت موجودة فمن يرسمها؟
طرح عام للمسالة:
إن الحديث عن الحق يوحي لأول وهلة على الأقل – بأننا إزاء قضية تستدعي المقاربة الحقوقية لكن تشعبها يجعلنا إزاء تقاطع ما هو حقوقي بما هو تاريخي و سياسي و ثقافي.
* مفهوم الإختلاف:
- لغة: هو التميز و عدم التطابق و التماثل و هو بذلك تجسيد للتعددية ففي الطبيعة لا يوجد كائنات متماثلات تماما و يعتبر الاختلاف من العوامل المهمة في عملية تطور الكائنـــــات. و في المجتمع البشر مختلفون من حيث:
- الجنس (إناث و ذكور)
- لون البشرة و العرق.
- العقائد (بعضهم غير متدين و الآخرون متدينون لكنهم ينتسبون إلى أديان مختلفة و طوائف و مذاهب داخل الدين الواحد)
- نمط العيش (المأكل و الملبس إلخ ...)
- العادات و التقاليد.
- إصطلاحا: ينظر إليه في علاقة بالحق. مما يجعله عدم اعتبار الخروج أو الانزياح عن المعايير و الأعراف السائدة في زمان و مكان معينين نقيصة و ربما عاهة و عدم تعيير من يفعل ذلك و التشهير به أو حمله بالإكراه على التخلي عن فعله.
* الإقرار بوجود الاختلاف لا يعني بالضرورة احترام حق الاختلاف.
فقد يكون الاقرار بوجود الاختلاف مقدمة لنفيه و مصادرته عمليا لأنه قد يقترن بالتعالي على الآخر المختلف فرد كان او جماعة و الرغبة في إلغائه فيكون شرط وجوده و قبوله هو تحوله إلى نسخة من الذاتي الفردية أو الجماعية. و قد يكون الإقرار بوجود الاختلاف مقدمة للتعايش فيكون التسامح و احترام الآخر المختلف. و بين هذا و ذاك توجد درجات من الرفض و القبول.
فالقول بأن المرأة مرأة و الرجل رجل أي الإقرار بوجود أنوثة و ذكورة كمعطى ثابت لا يعني بالضرورة اعتبار المرأة ككائن بشري تام الحقوق مكافئ للرجل بل يكون في الغالب منطلقا للتعالي عليها و اضطهادها.
و الإقرار باختلاف لون البشرة و العرق قد يقود إلى العنصرية و الميز العنصري.
و الإقرار بوجود مذاهب و طوائف و أديان مختلفة لا يقود بالضرورة إلى التسامح و بالتالي التعايش بين معتنقيها و الما قد يقود إلى التعصب و تكفير هذا الطرف أو ذاك لغيره المختلف عنه و محاولة إلغائه و ربما إبادته.
و الإقرار باختلاف الهويات و الثقافات قد لا يقود إلى محاولة جعل هذا الاختلاف مصدر إثراء و إنما قد يقود إلى اعتبار ثقافة الآخر متخلفة و السعي إلى طمسها مثلما فعلت القوى الاستعمارية في مستعمراتها.
و في غياب احترام حق الاختلاف يحصل التمييز الذي هو بمعناه الواسع عزل أفراد أو مجموعة و معاملتهم بشكل مختلف عن الآخرين.


* لمسألة حق الاختلاف تاريخ:
لقد سلكت البشرية طريقا متعرجا قبل أن تصل إلى المصادقة على المواثيق الدولية المعروفة اليوم و التي تقر حق الاختلاف للأفراد و الجماعات.
ما ميز الفترات السابقة للعصر الحديث هو طغيان الرؤية الدينية للإنسان و لعلاقته بالآخــر. و قد تضمنت النصوص الدينية الكبرى دعوات إلى التآخي فأخلاق المسيح جوهرها المحــبة و التغاضي عن إساءة الآخر و بالتالي التسامح و الاسلام تحدث عن الأخوة في الله و رفع شعار "لا فرق بين عربي و أعجمي إلا بالتقوى"
و ما دمنا في فضاء حضاري إسلامي فلنتوقف بصفة خاصة عند موقف الإسلام من مسألة الإختلاف.
نجد إقرارا واضحا بالاختلاف بين البشر في أكثر من سورة قرآنية. لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين" (هود / 118)
"لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبهوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" (المائدة / 48)
و تضمن النص القرآني دعوة إلى الحوار مع المخالفين و الابتعاد عن العنف في التعامل معهم.
"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضك عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين" (النحل / 125)
و نهى النص القرآني صراحة على الإكراه في الدين:
"و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (يونس / 99)
"لا إكراه في الدين فقد تبين الرشد من الغيء" (البقرة /256)
و قد تم التأكيد أكثر على أهل الكتاب.
" و لا تجادوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا" (العنكبوت /46)
" قل يا أهل الكتاب تعالوا على كلمة سواء بيننا و بينكم" (آل عمران / 64)
لكن تاريخيا حصل تباعد بلغ حد التناقض بين منطوق هذه الآيات أي النص القرآنــــــــــــي و التشريعات و كثيرا ما تم تأويل النصوص بما يخدم الأغراض السياسية فتراجعت ثقافة الحوار و الاختلاف و سادت ثقافة الاقضاء و التكفير بين المذاهب و الفرق الإسلامية المختلفة أو بين المسلمين و غير المسلمين الذين اعتبرت أراضيهم أرض جهاد.
إن الوقوف على أرضية دينية و اعتبار الانسان فردا من أمة أو ملة تجمعها رابطة دينية جعلت العلاقة بالآخر فردا أو جماعة – قائمة على إنكار حق الاختلاف إلى حدّ كبير. فالخارج عن الملة كافر – و هذا يجعله يواجه التعصب الأعمى و الاضطهاد و قد يصل الأمر حدودا قصوى فيتعرض للرق أي أن شرط تمتع الانسان بنفس الحقوق هو تخليه عن عقيدته و دخوله في ملة غيره – و حتى إذا كان على نفس العقيدة و خرج منها اعتبر مرتــدا و أقيمت عليه الحدود التي هي القتل. و قد اعتبر أهل الكتاب ذميين أو أهل ذمة لهم حقوق محددة و عليهم جزية مقابل إقرارهم على ديانتهم و كان يطلب منهم التميز عن غيرهم في اللّباس (فيحملون على وضع الزنار) مما يجعلهم رعايا من درجة ثانية في عصر لا يمكن الحديث فيه عن مواطنة.
و لئن لم يعرف الفضاء الإسلامي محاكم التفتيش فإنه عرف قمع المخالفين و قتلهم بسبب مخالفتهم للعقائد الرسمية كما عرف الفتن و الحروب بسبب اختلاف المذاهب و الفرق الدينية.
صحيح أن اليهود مثلا اجبروا على مغادرة الاندلس بعد خروج العرب و المسلمين منهـــــــا و عاشوا الشتات لكنهم كانوا قبل ذلك أهل ذمة و هو وضع لا يمكن قبوله اليوم.
و منذ العهد اليوناني ثمّة تطوّر غير ديني للإنسان. ففلاسفة اليونان نظروا إليه بوصفه مواطنا. أكثر من ذلك تحدث أرسطو عن الاختلاف كشرط لقيام المدينة. فقد قال في كتاب السياسة: "لا نقيم مدينة انطلاقا من بشر متماثلين"
لكن الحديث عن الانسان و المواطن لم يكن يتجاوز دائرة الأحرار أما العبيد فكان قدرهم الاقصاء من الحياة النشيطة للمدينة خصوصا في مجالي السياسة و الثقافة – و كانت علاقة المدينة ببقية المجموعات البشرية قائمة على الاستعلاء فكان اليونانيون يعتبرون قسما كبيرا من سكان حوض البحر المتوسط برابرة.
و يجب أن ننتظر العصر الحديث حتى تتبلور مقولة الإنسان بغض النظر عن جنســـــــــــه و لونــــه و عرقه و دينه و منزلته الاجتماعية إلخ ... فلم يعد يتحدّد بالخصوص بعقيدته الدينية و انتمائه إلى ملة محدّدة.
و ابرز النصوص التي أقرت حقوق الإنسان:
- إعلان حقوق الإنسان و المواطن الذي صدر عند قيام الثورة الفرنسية و تحديدا يوم 26 أوت 1789 و كمله إعلان حقوق المرأة و المواطنة الصادر في سبتمبر 1791 و لو أن الجمعية العامة الفرنسية لم تقره.
- الإعلان العالمي لحقوق الانسان الذي أصدرته الأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948 و ما تلاه من نصوص مكملة له خصوصا حول حقوق المرأة و الطفل.
و لئن شهدت كثير من البلدان الغربية ثورات ديمقراطية بقيادة البورجوازية رفعت راية المواطنة فإن المبادئ التي نادت بها لم تثبت إلا بمرور الوقت. استغرق الأمر قرنا بالنسبة لغرسنا مثلا. و قد حصلت انتكاسات في ظل النظم الكليانية التي لم تقم على أساس ديني أو طائفي لكنها كرست هيمنة الحزب الواحد و الرأي الواحد و ضربت بذلك حق الاختـــــلاف. و على المستوى الدولي كرست الدول الغربية علاقات غير متكافئة مع مستعمراتها فهيمنت عليها و لم تحترم سيادتها و هوياتها و ثقافاتها كما فشلت في تحويل حق الاختلاف الذي تقره تشاريعها إلى واقع فعلي في بلدانها بالنسبة لمواطنيها الذين هم من أصول أجنبية و خصوصا من بلدان الجنوب.
التونسيون و حق الإختلاف
أ/ عرفت تونس منذ قرون طويلة درجة كبيرة من التجانس العرقي و الديني و المذهبي قالما نجد له مثيلا في أقطار عربية و إسلامية أخرى مما جعل الإختلاف لا يطفوا على السطح بحدة إلا في فترة الأزمات. و مع ذلك يمكن أن نشير إلى أشكال تمييز مختلفة الدرجات (بين الرجال و النساء و بين الأحرار و العبيد و بين العناصر العربية و العناصر الامازيغية و بين المسلمين و غير المسلمين و خصوصا اليهود و بين القبائل إلى أخره ...)
ب/ و في ظل نظامي بورقيبة و بن علي لئن ابقى الدستور على الإسلام كدين رسمي للدولة فقد نص على الحقوق الأساسية التي تقر حق الإختلاف على أساس المواطنة إذ تضمنت فصوله علاوة على حرية الرأي و التنظيم حرية المعتقد و جاءت مجلة الأحوال الشخصية لتضع حدا على المستوى التشريعي لعديد مظاهر التمييز بين الرجل و المرأة لكن التنقيحات المتتالية للدستور و القوانين غير الدستورية أفرغت الدستور من محتواه. و قد كرست السلطة هيمنة الحزب الواحد ثم اقامت تعددية موهومة من خلال السماح بتكوين أحزاب معارضة على المقاس و وضعت يدها على المنظمات الجماهيرية و اقامت نظام بوليسيا يحصي على المواطنين حركاتهم و سكناتهم مما أفضى إلى سيادة الرأي الواحد و إقصاء المخالفــيـــــــن و إسكاتهم و مطاردتهم و إيقافهم و تعذيبهم و إحالتهم على محاكم إستثنائية و مراقبتهم إداريا و تجريدهم من حقوقهم السياسية و المدنية و حرمانهم من الشغل و جوازات السفر. و قد تعطل الحوار بين السلطة و الجموع فكانت ترد على تحركاتها بإستعمال العنف (26 جانفي 1978 و أحداث الخبز في ديسمبر 1983 و جانفي 1984)
و لئن أسهمت أجهزة الدولة و مؤسسات السلطة و حزبها الحاكم في القضاء شبه التام عل ما يقتضيه حق الإختلاف من مناخ ديمقراطي و حرية فإنها لم تكن العامل الوحيد الذي صادر حق الإختلاف فثم حوامل أخرى لابد من الإشارة إليها:
- وجود إرث تاريخي لم تفلح دولة الاستقلال في تصفيته فتشريعات المكرسة لحقوق المرأة جعلتها تخطو خطوات كبيرة على طريق تحررها. لكنها لم تقض على العقلية الذكورية الموروثة منذ قرون. و التميز بين البيض و السود الذي ليس له سند قانوني ضلت رواسبه ظاهرة للعيان من خلال تهميش السود و الاستعلاء عليهم خصوصا في مستوى الخطاب الموجه إليهم و ضدهم. و لو أن الأمور لا تصل إلى ما وصلت إليه في جنوب إفريقيا أو أمريكا. و لم تفلح السلطة في القضاء على النعرات الجهوية بالقدر الكافي نتيجة الحيف الذي لحق الجهات الداخلية على وجه الخصوص مما جعل هذه النعرات تطفو على سطح من حين إلى أخر.
- بروز الإسلام السياسي لأسباب يطول شرحها منها أزمة الحركة التحديثية التي عاشتها البلاد خصوصا في ظل دولة الإستقلال. و لم يكن صراع هذا الإسلام في البداية موجها ضد السلطة و إنما ضد المعارضة و خصوصا اليسار. و قد احتضنته السلطة و ساعدته على الإنتشار من خلال طبع منشوراته و غض الطرف عن نشاطه بالمساجد العادية و فتح مساجد جديدة له بالمعاهد و الكليات و ذلك لخنق اليسار و كسر شوكته. و قد نشأ الإسلام السياسي رافضا للإسلام الرسمي المرتبط بالسلطة و كان ذا مرجعية إخوانية (فكر حسن البنا و خصوصا سيد قطب و أبي الأعلى المودودي) لذلك كان تكفيريا (يكفر كل سلطة غير الخلافة الإسلامية و يكفر التنظيمات الحزبية و النقابية و المجتمع برمته إذ كان يتحدث عن جاهلية القرن العشرين و ما تقتضيه من اسلمة للمجتمع غير أن التكفير طال بدرجة أولى الخصوم السياسيين و في مقدمتهم اليساريين.)
و نتيجة لجملة من العوامل المحلية (إنحصار المد اليساري جراء الضربات المتتالية التي تلقها من السلطة و أزمة السلطة التي تجلت من خلال الصراع بين مختلف أجنحتها على خلافة بورقيبة) و إقليمية (نجاح الثورة الإيرانية) و دوليا (تورط الإتحاد السفياتي في أفغانستان الذي كان من العوامل التي عجلت بإنهياره) نتيجة لكل هذه العوامل وضع الإسلام السياسي نصب عينيه إفتكاك السلطة و أنهى مهادنته لحلفاء الأمس و دخل معهم في مواجهة. و كان رد السلطة عنيفا إذ سعت إلى إستئصاله. و خلاف لما يقوله أنصاره فإن سبب التصادم ليس دفاعه عن الدين و معادات السلطة له بل رغبة كل طرف في إحتكار التكلم بإسم الدين و توظيف منابره في خدمة أهدافه السياسية. لم تكن سلطة بن علي و لا بورقيبة قبله معادية للدين و لم تحارب معارضيها لتدينهم و إنما لممارستهم العمل السياسي المناهض لها تحت راية الدين.
- في غياب الديمقراطية و آلياتها من حرية تنظيم و تعبير و إنتصاب القمع ساد التوتر الذي كثيرا ما بلغ درجة العنف سواء بين الأطراف السياسية المعارضة فيما بينها أو بينها و بين السلطة. و يكفي أن نذكر بما عاشته الجامعة التونسية من صراع عنيف بين اليسار و أنصار الإسلام السياسي أو بما أقدم عليه أنصار الإسلام السياسي من تفجيرات للنزل و لمقرات الحزب الدستوري الحاكم و استهداف بماء الفرق لبعض أعوانه أو حملا للسلاح ضد اجهزة الأمن (أحداث سليمان)
- و ثمة ظاهرة أشد خفاء لرفض الإختلاف و هي غياب الديمقراطية في التعامل بين الفصائل المنتمية إلى تيار فكري واحد أو بين أعضاء الحزب أو الفصيل الواحد. فالمجموعات السياسية المقموعة أصبحت تعيد إنتاج القمع المسلط عليها مما جعلها فئوية تجاه غيرها و غير ديمقراطية داخلها. و قد توقفت عند هذه الظاهرة في كتابي "ذاكرة تأبى المصادرة" : سيرة معارض لحكم بورقيبة من ابناء جيل الإستقلال" بوصفي سجينا سياسيا سابقا و عضوا بتجمع الدراسات و العمل الإشتراكي التونسي المعروف بــ برسبكتيف / العامل التونسي.
د/ الثورة و أثرها على حق الإختلاف:
أفرزت الثورة أثرين متناقضين:
- زوال الديكتاتورية وفر هامشا كبيرا من الحرية رغم وجود تهديدات جدية لها مما أتاح تعددية سياسية واضحة.
- تفاقم ظاهرة التشدد و التطرف الذين هما نقيض لحق الإختلاف و يعود هذا إلى عوامل مختلفة منها:
* عامل محلي: فقد سعت حركة النهضة إلى تطبيع برنامجها الأقصى المتمثل في "أسلمت المجتمع" فأطلقت يد كل الجماعات ذات المرجعية الإسلامية بما في ذلك التكفيرية المتشددة التي تمارس الإرهاب و غضت الطرف على أنشطتها سواء في الداخل أو في الخارج من تسلح و تدرب على السلاح ... و افسحت المجال أمام الدوعاة المحليين و الأجانب لنشر الخطاب التكفيري.
* عامل إقليمي: افرز بما يسمى بالربيع العربي وضعا تميز بصعود الإسلام السياسي الذي وجد دعما من قطر و تركيا و قد ساعد وجود النهضة في السلطة على التواصل مع بؤر التوتر في ليبيا و سوريا و تسفير الشباب للتدرب على القتال و الإنخراط في ما تعتبره جهادا.
* عامل دولي: مراهنة أمريكا و الدول الغربية على من تسميهم ممثلي للإسلام السياسي المعتدل و تزكية صعودهم إلى السلطة في تونس و مصر و التعامل مع المجموعات المتشددة للإطاحة بالنظم القائمة في ليبيا و سوريا.
الإشكاليات التي يثيرها حق الإختلاف
يثير حق الإختلاف إشكاليات نظرية و عملية:
- القول بوجود طبيعة بشرية يتعارض مع الحديث عن حق الإختلاف و نحن ننتصر لحق الإختلاف على حساب ما يسمى طبيعة بشرية.
- بعضهم يرى تعارضا بين العدالة و حق الإختلاف فهم يعتبرون التفاوت الإجتماعي من مظاهر الإختلاف و يرجعون التفاوت إلى وجود حق الملكية الفردية التي يعتبرون كل مساس بها إعتداء على الحرية بينما المنادون بالعدالة يدعون إلى إلغاء الملكية الفردية (و هذا هو الحل الأقصى) أو على الأقل إلى تحديدها و وضع ضوابط لها و يعترضون على ما يسمى الليبرالية المتوحشة. و الدفاع عن هذا المظهر من الإختلاف ما هو إلا تبرير للإستغلال و الحيف الإجتماعي. بالعكس من المفروض إعتماد مبدأ التمييز الإيجابي لمن هم أقل حظا من غيرهم سواء كانوا افرادا أو فيئات أو جيهات أو بلدان لتحقيق العدالة.
- و لعل أخطر إشكال يثار هو مدى صحة الحديث عن حدود الإختلاف. هل للإختلاف حدود؟ و إذا كانت موجودة فمن يرسمها؟ و إذا ترجمنا هذا عمليا نجد أنفسنا إزاء تساؤلات من نوع: هل يبيح حق الإختلاف الحق في التعبير عن مواقف منافية للمثل الديمقراطية (الميز العنصري، الفكر النازي، الفكر التكفيري، الدعوى إلى الإرهاب ...)؟
الغربيون حسموا الأمر فلا حرية لأعداء الحرية فمنعوا مثلا الفاشيين و النازيين من إعادة تكوين أحزابهم و ممارسة أنشطتهم و القيام بدعايتهم. و نحن ماذا ننتظر؟ إلى متى نسمح لمن لا يؤمنون بالنظام الجمهوري و يونادون بإقامة دولة الخلافة الإسلامية بالدعاية لمشروعهم؟ و إلى متى نسمح للتكفيرين بنشر فكرهم و الدعوة إلى العنف و القتل؟ ليس من الحكمة محاورة من يرفض الحوار و يسعى إلى إلغاء الأخر. لا يمكن أن نحاور من يتدرب على السلاح و يعد المتفجرات و لا مع من إختار هذا النهج فكرا و ممارسة لكن ذلك لا يعني إنتهاك حرمتهم البشرية.
كيف يتحقق حق الإختلاف؟ و من يضمن قيامه و بقائه؟ أول شرط لقيام حق الإختلاف هو إرساء العلاقات بين افراد المجتمع على أساس المواطنة في ظل حكم مدني ديمقراطي تعددي و الدولة هي الضامنة لحق الإختلاف عبر التشريعات و المؤسسات لكن هل ذلك كاف؟ بالطبع لا للمجتمع المدني دور فعال في التنبيه إلى ما يحصل من خروقات و الضغط من أجل معالجة الوضعيات التي تنجم لكن الضامن الأكبر يبقى المواطن نفسه. يجب أن تتغير العقليات و هنا يأتي دور المؤسسة التعليمية و المؤسسات الثقافية و القضاء و الإعلام.

خاتمة:
لا أجد ما أختم به خيرا مما ختمت به كتابي "ذاكرة تأبى المصادرة" الذي انتهت من تحريره في صائفة 2010 أي قبيل الثورة: "أيّ مشروع لا يؤمن اليوم بالديمقراطية و حقوق الإنسان لن يكتب له النجاح على المدى الطويل. لكن لا يجب أن يكون الحديث عن الديمقراطيــــــــة و حقوق الإنسان من الشعارات الجوفاء التي ترفعها السلطة للإستهلاك أو ترفعها المعارضة في وجه السلطة القائمة ثم تتنكر لها حالما تعتلي سدة الحكم. و لا يجوز بأي حال من الأحوال أن نطالب كمعارضين بمعاملتنا معاملة إنسانية و ندين القمع ثم ننظر فيما بعد إلى مخالفينا كأعداء للثورة يجب أن يسحقوا دون رحمة و أن يوضعوا في مزبلة التاريخ. لا شيء بما في ذلك معادات الثورة يبرر إنتهاك حرمة الذات البشرية. فأن تمنع أفرادا أو مجموعات من الإساءة بالفعل لا بالقول إلى مشروع مجتمعي تلتف حوله الأغلبية شيء و أن تنتهك حرمتهم و ذواتهم فذاك شيء أخر. بكلمة نحن بحاجة إلى ان يتحول الإيمان بالديمقراطية و حقوق الإنسان إلى جزء لا يتجزأ من بنيتنا الذهنية".



#عمّار_العربي_الزمزمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ارهابيون لكن
- هل رحل حقاّ عمّار منصور المثقّف الحّر الذي لم تقتل السياسة ف ...
- اغتيال المناضل شكري بلعيد الأبعاد و الدلالات و خطأ الحسابات
- الجبهة الشعبية لتحقيق أهداف الثورة في تونس بين الطموحات و مق ...
- ما الذي يحدث في تونس؟ اضطرابات مفتعلة أم بوادر ثورة ثانية أم ...
- اعادة تشكيل الخارطة السياسية التونسية :المخاض العسير وخطر ال ...
- احتضان تونس لاشغال المنتدى الاجتماعي العالمي : الابعاد و الر ...


المزيد.....




- محتجون في كينيا يدعون لاتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ
- التنظيمات الليبراليةَّ على ضوء موقفها من تعديل مدونة الأسرة ...
- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية


المزيد.....

- مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة / عبد الرحمان النوضة
- الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية ... / وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
- عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ ... / محمد الحنفي
- الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية / مصطفى الدروبي
- جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني ... / محمد الخويلدي
- اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956 / خميس بن محمد عرفاوي
- من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963.......... / كريم الزكي
- مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة- / حسان خالد شاتيلا
- التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية / فلاح علي
- الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى ... / حسان عاكف


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - عمّار العربي الزمزمي - حق الاختلاف