أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - طرف من مشهد الإعدام -رؤيا الغائب *















المزيد.....

طرف من مشهد الإعدام -رؤيا الغائب *


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 4808 - 2015 / 5 / 16 - 20:03
المحور: الادب والفن
    


طرف من مشهد الإعدام -رؤيا الغائب *

عن اخي الشهيد الرسام التشكيلي كفاح عبد إبراهيم 1957-1983

أفورُ بمكاني.. أتلظى بجحيم نواحي الأخرس محاصراً بأجساد الشرطة والصمت الهابط على الأجساد والحجر والتراب والعيون. الصمت الثقيل.. الصمت الذي أخرس الأفواه للحظة بدت كدهر، الصمت أخذ يدوي لحظة استقامة البنادق نحو الهياكل الناحلة دوياً وكأنه الحلكة. وحده اهتزاز الأجساد المرتجفة المشدودة جعل الأعمدة الخشبية تتزحزح وتئز أزيزاً خفيفاً كان يسمعه وحده وهو يقف خلف أجساد الشرطة القائمين في خرس الصمت. يصطخب. يفور. يضطرب متطلعاً نحو فوهة البنادق المصوبة التي استكملت مستقيمة وسكنت بانتظار الأمر.
- أر...................!.
وانبثق صراخ الطلقات أجوف من صمت الحديد البارد، فاصلة صمت، دفعة رصاص أخرى، فاصلة صمت، وأخرى.. وأخرى. جعل ينود على إيقاع ولولات قديمة مطبوعة في طيّات النفس الدفينة. ينود وضجيج الرصاص ملأ الكون غبرةً. شاهدهُ ينتفض بكامل جسده وكأنه يود الطيران إلى الأعالي.. إلى الأعالي. رده القيد، فأخذَ يجودُ بنفسه بانتفاضاتٍ متعاقبةٍ سريعةٍ كانتفاضاتِ طيرٍ ذبيحٍ. أعول وضاع عويله في جنون السعار الذي أصاب الجموع المحتشدة على أدراج ملعب تكريت. ساد الارتباك بين أفراد الشرطة المحيطين به، فتحركوا دون إرادة يميناً وشمالاً ثم انفجروا يكبرون بأصوات مرتعشة، بوجوهٍ راحت تلمع بنشوة استثارتها شهوة القتل الكامنة في عروق الأسلاف المتوحشين. طفقوا يدورون حوله أشباه مجانين. جنون أصاب الحجر والسماء والأفق والبشر وأعمدة الخشب والغبار وقرص الشمس الأرجواني وجعلها تصطخب اصطخاب أمواجٍ عاتيةٍ في عاصفة هوجاء. صرخ.. وصرخ حتى بح صوته وغاب، فلطم رأسه لطماً متلاحقاً عنيفا بكل ما تبقى لديه من قوة قبل أن تختلط الرؤية.. آلاف النسوة بوجوههن الشاحبة المطينة وعباءاتهن المشدودة حول الخصور يركضن ضاربات جباههن الدامية محتلات ساحة المقتل في صبيحة العاشر من عاشوراء. لعلعة طلقات الدوشكا تخرق عويل أمهاتٍ باكيات. أعلام حمر قانية تشتبك برايات خضر. ضجة حوافر الخيل قويةً، قريبةً تثير الغبرة وتسحق أجساد الحشد. كان يمسك كف أخيه خوفاً من الضياع ويندسان بين أجساد النسوة المحتشدة المتعرقة الفائحة برائحة الحليب وفوران الجسد الحزين، والناظرات بعيونٍ محتقنةٍ تصب دمعاً من دم إلى الحسين بن علي بن أبي طالب يسقطهُ من صهوة جواده سهم مسموم ذو ثلاث شعب. وحيداً وسط الأعداء غير قادرٍ على القيام، ينزع السهم ويرفع بصره نحو السماء. يكور كفه على الجرح فتطفح بالدماء، يرمي بها إلى السماء، يملأها ثانية من فيض النحر. يلطخ بها جبهته ولحيته المسدلة. يتعالى الصريخ. ينشجان بحرقة. تسكرهما روائح الحزن الفائحة من أجساد النسوة الملطخات بالطين والحناء وبقايا الأبخرة العالقة بثياب الحداد السوداء المخرمة بالورد. أجساد معجونة بالألم. لم يزل الجسد الناحل المثقب النازف ينتفض متشبثاً بأهداب الدنيا عاجزاً عن مسك أفواه الجروح، عاجزاً عن رؤية القتلة ومكان القتل، ينتفض هازاً خشبته، ينتفض لا يريد الهجوع. من أفق الغبرة الكالحة الدافنة قرص الشمس ظهر وجه أبيه عبد سوادي النجار بعروقه المحتقنة وهو ينشج نائحاً في غرفته المعتمة ثلاثة أيام بلياليها ونهاراتها، هاذياً آسفاً لضياع ابنه وكأنه يرى مشهد القتل هذا. تداخل عويله بعويل أبيه، بتصفيق وهلاهل ونواح، بتصفيق وأصوات إطلاق رصاص متقطعة. حملق متأرجحا على حافة السكر في وجوه الشرطة وهم يركضون دائرين حول وقفته، وجوه مندهشة، منتشية، مرعوبة، مضطربة، حائرة. يبرز غلام من خيم النسوة ، يتلفت حاملاً عصا خشبية طويلة، يدنو منه الفارس هاذباً على صهوة جواده، يعلوه بالسيف الناصل، يتدحرج الرأس قرب أقدامهم، تتراجع النسوة صارخات ذعراً. يحتضن أخاه كفاح. يرتجفان رعباً والطلاء الأحمر يسيل من عروق الدمية التي تصوراها رأس غلام حقيقي. يتخافت انتفاض الأجساد المربوطة متحولاً إلى رعشةٍ خفيفة. رآهم يترجلون من سيارات فخمة، ويتقدمون نحو الأجساد المحنية السارحة نحو السكون الأبدي. انهم يدنون بقاماتهم الفارعة وبدلاتهم العسكرية الزيتونية المميزة لجنود حماية الرئيس. يدنون بخطواتهم الشرسة حاملين بأيديهم هراوات طويلة سميكة من الحديد. أصبحوا على بعد متر واحدة.
عشرون رجلاً، وعشرون هراوةً،، وعشرون محتضراً.
رآهم يرفعون الهراوات عالياً في غبار النهار وينهالون على الرؤوس المتدلية ضرباً رنَّ بالرغم من الهلاهل والصراخ والعويل وأزيز طائرتي هليكوبتر تحومان على ارتفاع منخفضٍ في سماء الملعب. يتصببان عرقاً في زحمة النسوة الباكيات والمرتعشات وجداً وألما والشمر بن ذي الجوشن يرفس الجسد المرتثِ بالجراح والملقى على الرمضاء. يخرق الصريخ الكون والشمر يعتلي صدر المحتضر ويقبض شيبته البيضاء المنقوعة أطرافها بالدم، يضربه اثنتي عشر ضربة. يتبدد وسط الحرس رائياً من بين سيقانهم المتحركة في سورتها؛ رأس الحبيب يتمادى في تدليه تحت وقع ضربات الهراوة الصاعدة النازلة على سمت الرأس. تلاشت الهلاهل ليحل محلها صراخ يشبه نواح تصاعد خفيا ساريا بصراخ رعب مبهم لحظة حزَّ رأس الحسين. يدفنان وجهيهما بعنقي بعضهما وكأنهما يخشيان أن يفقد أحدهم الآخر. كان يتشبث بساقي الحرس القريب بأصابع واهنة محاولاً القيام وهو يرى تناثر محتويات الرأس على تراب الملعب الحزين.
في صمت غروب الساحة وجد نفسه مرمياً على مقربة من الأجساد المجزرة المنثورة المتروكة على التراب مطلية بفيوض البنفسج المحمر المنسكب من أفق الغروب . كان لا يستطيع الحراك وحيداً، عاجزاً يحملق بالجسد الحبيب، القريب، المرمل بساخن دمه. ظلَّ مشدوداً إلى الأرض بقوةٍ غامضةٍ طاغيةٍ. رمى بصره نحو الأفق البعيد، فأعشاه تدفق ضوء الشمس اللاهث الدامي من قرصها الكبير الملامس خط الأفق. ترّسبّ في عجزه المحّكم وأغرز ناظريه بعين الشمس. ومن البعيد.. البعيد.. من قيعان الصمت وفيض البنفسج الخجلان أبصر سبع نساءٍ ينبعنَّ من لب الجمر ويقدمنَّ بأرديتهن السوداء ميممات صوب الجسد النازف. كنَّ يقتربنَ بأناة. أنعم النظر في وجوههن المطينة المخدشة الشاحبة الباركة في امتداد الألم والفجيعة، في أصابعهن الناحلة وأكفهنَّ المحناة. كنَّ يقتربن بخطوات متمهلة كخطوات سكارى يتمايلنَّ ذات يمين وذات شمال ويغرفن براحاتهنَّ الصاعدة النازلة مع حركة الأذرع بصمتٍ من فيضِ نزفِ الشمس الأبدي ليلطخن الوجوه، فتضيع الملامح المعتمة المظاهرة لقرصها الذي غطس نصفه خلف الهضبة البعيدة. مررنَّ على مقربةٍ من رقدته دون أن يلحظنه. أطلق صرخةً مدويةً من مكان تحجره في بقعته الظاهرة ، فرنت في صمت خواء الروح اللائبة بخرسها. ظل يصرخ ويصرخ وهو يهمش بذراعيه الممدودتين كغريقٍ.
كان الصمت دافقاً يحّجر الشمس والتراب، الجسد والأفواه، الأعمدة والآفاق، وهو يشخّص أمه بوجهها الجليل التعبان، وشعرها الشائب المفرود، وتضاريسها القديمة المصبوبة بالحزن وفواجع العمر، تقود أخواته الست اللواتي تحلقنَّ حول الجسد الوادع المستكين إلى أبديته، ثم انفجرنَّ بصراخٍ تحّشرج في الحناجر المطفأة وطفقن ينودنَّ في جلستهن المحيطة بالعزيز الغافي. كان يتطلع بعجز تام متلظياً بعذاب صراخهن المخنوق والعجز. ضّمتْ أمه جسد أخيه النازف بحنان وهي تسفح سيلاً من الدموع راح يغسل الجروح. أكبرهنَّ ظللته بردائها. أصغرهنَّ لاذت بجنبه مذعورةً تبغي الأمان. أخرى صبغت فاحم شعرها بفيض النحر. الأخرى لثمت فم الجروح. وأخرى ارتمت تقبل القدمين . والأخيرة عانقت كفه المفتوح والملقى على التراب.. وحيداً.. مهجوراً.. منسياً يتحجر في بقعة ترابه الرطب يحملق بذهول تارةً، ويشب صارخاً في أخرى فيضيع صراخه في البراري الشاسعة القفراء.
كنَّ يمسحن الجسد الشريف بأجسادهن ويغسلنه بالدمع.
كنَّ يغرقنَ والجسد بجمر الغروب الحزين.
لم يكف عن صراخه الأخرس المفجع إلى أن سقط في تيه الفراغ.. في هوة العدم.
______________________
*رؤبا الغائب صدرت عن المدى 1996 ونفذت
أعدت كتابتها العام الماضي وسوف تطبع في القاهرة



#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نماذج مدعي الثقافة والمعارضة زمن سلطة الطوائف -الفأر -
- كوابيس التخفي زمن الدكتاتور
- الإنسان الحقيقي لا يخشى من الصدق وعرض تجاربه
- مشاهدات من زيارتي الأولى إلى العراق 2004 2- المثقف العراقي ا ...
- مشاهد من زيارتي الأولى للعراق 2004 1- المثقف العراقي الجديد
- السرد العراقي وتطوره التاريخي 2- الرواية
- السرد العراقي وتطوره التاريخي: 1- القصة القصيرة
- 2- ضد الحرب وحتى العادلة
- الطيران الأخير
- 1-ضد الحرب حتى العادلة (مشهد الزوجة العراقية عند مقتل زوجها)
- أصدقائي الأدباء 1- شاكرالأنباري
- باب الظلام
- أساتذتي 1- وفاء الزيادي الشيوعي الوديع
- أيها المثقف العراقي لا تزيد سعار الحرب الطائفية العراقية الم ...
- فداحة العنف حتى الثوري -فصل يثبت العنوان-
- قصائد عن تجربة قديمة
- من كافكا إلى غوركي
- كّتاب قادسية صدام 9- جاسم الرصيف
- كتاب قادسية صدام 8- الكتابة المضادة.
- كتاب قادسية صدام 8- بثينة الناصري


المزيد.....




- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - طرف من مشهد الإعدام -رؤيا الغائب *