أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - الملك لقمان ج2 (10) اغواء استيري!















المزيد.....



الملك لقمان ج2 (10) اغواء استيري!


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4808 - 2015 / 5 / 16 - 10:21
المحور: الادب والفن
    


(10)
إغواء أستيري!
ألحّت الملكة نور السَّماء على الملك لقمان أن يُعطي جسده بعض الحق، ويريح نفسه ليوم واحد على الأقل من عناء مشاكل الكواكب والبحث عن الحقيقة، فأذعن لها، تاركاً المركبة تنطلق بسرعاتها الخياليّة تجتاز ما يمكنها أن تجتازه من سماوات، وعندما استيقظ من النوم كانت الملكة نائمة، فغسل وجهه ونزل ليجلس في الحديقة إلى جانب المسبح ويأخذ قهوته هُناك.
كان الدلفينان يستكينان إلى الماء في البركة، وما أن شاهدا الملك لُقمان حتّى قاما باستعراض رائع في الماء. وجاءَ ت أستير تتثنّى كحوريّة من حوريّات البحار، وما أن حيّت الملك لُقمان حتّى سألها عن أحوالها، فأكّدت له أنّها في أحسن حال، واستأذنته لتنزل إلى المسبح لمشاركة الدّلفينين السِّباحة، فأذن لها قائلاً "تفضّلي" فشرعت تتعرّى أمام الملك ببطء متعمّدة أن تريه مفاتن جسدها وهي تدير نحوه صدرها تارة وظهرها تارة أخرى، ليتملّى بعينيه من قوامها. قبل أن تقفز إلى الماء وتغطس إلى الأعماق لتعانق جسد دلفين، فيندفع بها من الماء وينطلق قرابة أربعة أمتار إلى أعلى وهي تعانقه، فيما الدّلفين الآخر ينطلق معهما، ليعود ثلاثتهم إلى الماء بشكل احتفالي..
لم يخطر ببال الملك لقمان أنّه سيجد نفسه أمام محاولة إغواء فور وصوله إلى الحديقة. وقد نجحت أستير في إثارته بجسدها الأسطوري، وكم حاول أن يتناسى الأمر ولا ينظر إليها، أو يطرد صورة جسدها من مخيّلته، فراح يُداعب الظّباء، ويرقب اليمامات والفراشات والعصافير دون جدوى، فشرب قهوته على عجل وعاد إلى حُجرته وهو يقاوم رغبته فيها.
ولم يعرف الملك فيما إذا كان في حُلم أو أنّه راح يتخيّل جسد أستير مكان جسد الملكة نور السَّماء، فما أن دخل الحُجرة حتّى وجد أستير بشحمها ولحمها تتلوّى عارية على السَّرير مكان الملكة نور السَّماء، وتتأوّه بصوت مُثير يتوسّل، لإرواء جسدها الظَّامئ إلى الارتواء.
سألها الملك:
"هل أنتِ أستير أم أنا في حُلم؟"
فأجابت بصوت غانج:
"ألا ترى جسدي يا مولاي؟!"
"وأين الملكة؟ وكيف سبقتني إلى هُنا؟ وأية جُرأة هذه التي تدفعك لأن تستلقي على سريرنا بكل هذه الوقاحة؟!"
"أليست هذه رَغبة مولاي؟!"
"حتّى لو أصبح لديّ رغبة فيكِ بعد ما فعلته، فأنا أستطيع مُقاومتها".
"ولِمَ تقاومها يا مولاي، فالملكة قد لا تمانِع وربّما هي التي أوحت إليّ وأصعدتني من أسفل وأضجعتني في سريركما، واختفت قبل أن تصل، فأنا كما تعرف يا مولاي لا أستطيع أن أفعل ذلك بهذه السُّرعة دون مساعدة الملائكة!"
"مستحيل أن تكون الملكة فعلت ذلك!"
"إذا لا تصدّق يا مولاي فالقِ نظرة على المسبح والحديقة فلن تراني"
وتجاهل الملك لقمان طلبها وراح ينادي الملكة غير أنَّ أحداً لم يجبه، فيما أستير تتلوّى على السَّرير وتتوسّل بهستيريا جنسيّة!
خطرت ببال الملك لقمان فكرة، فأطرق للحظة يُفكّر، وما لبث أن أطل من نافذة المركبة على المسبح، لم تكن أستير هُناك كما توقّع، وظلَّ مصمماً على الفكرة التي خطرت بباله، إذ يبدو أنّ الملكة أحكمت إعداد المسألة لتبدو طبيعيّة.
عاد ليقف إلى جانب السَّرير ويهتف:
"إذا لم تعودي الملكة نور السَّماء فسأنزعج وأغضب وقد لا أواقعك بعد اليوم!"
فهتفت أستير وقد اعترتها الدّهشة:
"كيف سأكون الملكة وأنا أستير يا مولاي؟"
"بل أنتِ الملكة"
"بل أنا أستير وكل ما يسري في جسدي هو دم أستير، فلماذا لا تُريد مواقعتي؟"
"لأنّي لم أُحب حتّى اليوم من كل قلبي إلاَّ امرأة واحدة اسمها نور السَّماء، وحين أُحِبُّ غيرها أو لا أستطيع مقاومة رغبة عارمة تجاه أنثى ما، فسأفعل مع الأنثى الأصل لا مع الأنثى المتقمّصة".
وعادت الملكة نور السَّماء إلى شكلها النورسمائي لتهتف إلى الملك لقمان معتذرة ودمعتان تنزلقان على وجنتيها.
"معذرة يا حبيبي، نهضت من النوم فلم أجدك، ألقيت نظرة من الشّرفة فشاهدت عرض التعرّي الذي تقوم به أستير أمامك، فدبّت الغيرة في قلبي، وحين رأيتك تقاوم غوايتها وتصعد تقمّصت شخصيّتها لأمتّعك، وأحقق رغبتك، على أيّة حال يُمكنك أن تواقعها حين تشاء، وإذا ما شاهدتني غيرانة فتجاهل أمري".
واستلقى الملك لقمان إلى جانبها وعانقها وهو يهتف:
"مواقعة جميلات السَّماوات كُلّهن لا تساوي عندي جمال عيني حبيبتي، فكيف أُتيحُ لشعور الغيرة أن يخدش شِغاف قلبها؟"
"يا حبيبي كُلّما تضمّني إلى حُضنِك أتوسّل إلى ربّي ألاّ يحرمني يوماً دفء الحنان المتدفّق من ثنايا ضلوعك"
"من غير نفس حبيبتي الجميلة بين الحوريّات ستنعم بدفء حناني، ومن غير روح حبيبتي فاتنة السموات سأمدُّ قلبي وسادة لتغفو عليه؟"
"يا حبيبي هواك يسري من روحك إلى روحي ليسري من خدّي إلى خدّي، ومن نهدي إلى نهدي، ومن قلبي إلى كبدي، ومن ضلعي إلى ضلعي ومن عرقي إلى عرقي، فلِمَ أخافُ أن يفرّقنا القدر لنكابد مع الأيّام مُرَّ النّوى؟"
"لو جاء القدر مع النّسيم ليفرّق بيني وبين مليكة الحُسن حبيبتي، لسللت سيفاً وقطّعت أشلاء القدر ومزّقت سدائم النّسيم"
"يا حبيبي دعني أتوحّد بقدسيّة جسدك وألتمس في روحك سرمديّة العشق لأخمد نيران الهواجس المجنونة"
"ابعدي يا نسائم الأقدار عن روح ظبية السَّماء حبيبتي ولا ترفّي بنسائمك على أهداب عينيها الوادعتين، ودعيها تمرح في سهوب صدري المشرع لأعناق الظّباء".
"يا حبيبي كُلّما توحّدت بفيض حُبّك واندمج كياني بأعماق روحك أحسست بالله ينبض في قلبي ويهيمن على روحي".
"توحّدي يا حبيبتي مع حُبّي وامخري شرايين عُمري على قاربك الرّباني الذي صنعه الله لإنقاذ النّفوس المتعبة"
"ليكن دمي قطرات حُبٍ تسري في شرايين حبيبي ولتكن روحي الرعشة التي تنتشي بها مسامات روحِه"
* * *
كانت شمس ما في فضاءٍ ما تتألّق في السَّماء مرسلة خيوط أشعتها الفضيّة لتنعكس من زجاج نوافذ المركبة، حين نزل الملك والملكة إلى الحديقة، فراحت الأسماك والدلفينان والظّباء والرشاءان والفراشات واليمامات والعصافير والنّباتات والورود تهتف مُرَحّبة بالملكة، وبدت أستير وهي تداري خجلها وتحاول ألاّ تنظر نحو الملك لقمان، غير أن الملك ناداها حين نظرت إليه، وفاجأها بسؤالها:
"ما رأيك أن نزوّجك يا أستير؟"
فأحنت أستير رأسها وهي تهتف:
"لا يوجد على المركبة من هو أعزب أو ليس لديه نساء يا مولاي؟
"يمكننا أن نتخذ لك زوجاً من أي كوكب قادم نهبط عليه"
"لا أشعر برغبة في الزّواج يا مولاي"
"ليكن حبيباً أو صديقاً يؤانسك ولا يدعك تشعرين بالوحدة"
"أشكرك يا مولاي، لا أظن أنني سأتقبّل أي رجل بسهولة"
"ما رأيك بأحد الملائكة الذين يرافقون المركبة، ألم يغازلك أحدهم؟"
"لا يا مولاي"
"لعلّهم لم يروكِ"
"كُلّهم رأوني يا مولاي"
"غريب، فعلاً غريب!"
وراح الملك يتجوّل هو والملكة في الحديقة وسط الزّهور التي أخذت ترتعش وترقّص ورودها فيما راحت البلابل والعصافير تغرّد وتزقزق بألحان منسجمة أضفت على الجو بهجة فائقة.
تساءَل الملك:
"متى أتيتِ بكل هذه البلابل والعصافير يا حبيبتي، لم أرها من قبل؟"
"آتيت بها هذا الصَّباح لأبعث البهجة في نفس حبيبي يوم راحته خاصّة وأن إقامتنا في المركبة ستدوم كما يبدو"
"يا إلهي يا حبيبتي، لو أنّ لكلِّ الرّجال في كل الكواكب زوجات مثلك لما وجدوا أيّة مشقّة في التوصّل إلى الحقيقة الإلهيّة والتوحّد مع الله!"
"لماذا لن يجدوا أيّة مشقّة يا حبيبي؟"
"لأن الله سيكون بين أحضانهم يا حبيبتي!"
"هل هذا إلحاد أم إيمان يا حبيبي؟"
"بل ذروة الإيمان يا حبيبتي"
وتابع الملك حين لم تقاطعه الملكة:
"رحمك الله يا كازنتزاكي، سأحضرك إلى جنّتي التي سأقيمها في السموات مع من سأحضرهم من عُظماء الأرض، وأدعك تحيا إلى الأبد إن استطعت، لعلّك لا تضطر ثانية إلى التفكير في مَدَّ قبعتك على قارعة الطّريق لتتسوّل من النّاس بضعة أيّام لتطيل عمرك قليلاً من الزّمن!"
"تقصد نيكوس كازنتزاكي الأديب اليوناني يا حبيبي؟"
"وهل في الوجود كازنتزاكي غيره يا حبيبتي، الأدباء والفنانون العُظماء لا يتناسخون في حياة البشر كما يتناسخ القادة السيّاسيّون"
"ولماذا خطر ببالك الآن يا حبيبي؟"
"لأنّه ممن أثّروا فيّ حتى العظم يا حبيبتي، ولأن علاقته بالله كانت قريبة من عُلاقتي وعلاقة جوته إلى حد ما، أكثر مما كانت قريبة من علاقة هيسه وثربانتس ودانتي ودوستويفسكي، مع أنّ هؤلاء نخروا عظامي، وخاصّة هذا الدينكوشوتي ثربانتس، سأحضره إلى جنّتي وأحضر له حبيبة أحلامه ليحيا معها في الواقع لا في الأحلام!"
"وهل ستحضر دانتي وبياترتيشي؟"
"طبعاً يا حبيبتي وأراغون وإلزا وجوته وجرتشن!
"يا حبيبي هل ستقيم جنّة للأدباء؟"
"للأدباء والعلماء والفنّانين والأنبياء والحُكماء، سأحقق كُلَّ أحلامهم يا حبيبتي، سأحيي أينشتاين وإن كنت غاضباً منه للمصائب النوويّة، وسأحيي ألفرد نوبل ومن قتلوا من أسرته، وقد أزعجه بسؤال واحد إذا ما أتاح لي ذلك"
"ما هو يا حبيبي؟"
"سأسأله عمّا إذا كان سيهب فائدة المليون جنيه للعلماء والأدباء والساعين إلى السَّلام، لو لم يقتل الانفجار الديناميتي خمسة من أفراد أُسرته؟!"
"وماذا لو سألته وكانت إجابته سلبيّة؟"
"لن يتغيّر شيء يا حبيبتي، سأشكره لأنّه أتاح لي أن أسأله ولأنه أجابني، وأدعوه لأن يقيم في قصره براحة نفس وهدوء بال"
"ألا تقول لي كيف كانت علاقة كازنتزاكي بالله قريبة من علاقتك؟"
"آخ يا حبيبتي، لا تذكّريني بآلامي مع الأدباء فقد بعت مؤلّفاتهم حين عضّني الجوع وحاصرني طمع الأصدقاء والناس، ولا أعرف بأي وجه سألقاهم حين أُحضرهم إلى جنّتي، وماذا سيكون رد فعل كازنتزاكي حين سأقول له، أعذرني لأنّي اشتريت مذكّراتك مَرّتين وأضعتها مرّتين، مَرّة حين أهديتها إلى فتاة أحبتني، ومَرّة حين اشتهت نفسي نصف فرّوج!"
"يا حرام يا حبيبي، أظن آنّ كازنتزاكي سيعذرك ويرثي الحال التي كنت عليها"
أرجو ذلك يا حبيبتي، لم أتصوّر يوماً أنّ فراق كتاب يحبّه المرء، قد لا يقل عن فراق حبيبة، تصوّري أنني بعت دونكيشوت بأربع فراريج؟!"
فضحكت الملكة، وهي تهتف:
"سيغضب كازنتزاكي منك حتماً، كيف تبيع مذكّراته بنصف فرّوج بينما تبيع دونكيشوت بأربعة فرايج؟!"
"يا حبيبتي مذكّرات كازنتزاكي بعتها عندما كانت الكتب رخيصة ولا تجد من يشتريها، أمّا دونكيشوت فبعته أيّام الغلاء، ولم يكن متوفّراً في الأسواق!"
"هكذا إذن، طيّب احكِ لي عن كازنتزاكي وعلاقتك به"
"يا حبيبتي قد لا يوجد أديب إلاَّ ولي معه علاقة ما"
"أرجوك، فقط علاقتك بكازنتزاكي"
"كان كازنتزاكي يبحث عن الله على الأرض يا حبيبتي، أمّا أنا فأبحث عنه في السماوات. وقد عاش كازنتزاكي هذا القلق منذ طفولته كما عشته أنا، ووصل إلى حافة الإلحاد خلال بحثه المضني عن الله، فذهب إلى الأديرة والكنائس باحثاً متسائلاً، وعاش مع الرّهبان، وسافر إلى فلسطين، وزار كنيسة القيامة في القدس حيث نهض الرّب يسوع، وكنيسة المهد في بيت لحم حيث ولد يسوع، ولم يجد الله، ليتني كنت موجوداً والتقيته لاصطحبته إلى دير مار سابا لعلّه يعثر عليه!"
"على من يا حبيبي؟"
"على الله يا حبيبتي!"
"وأين يوجد دير مار سابا وما هو؟"
"دير محفور في سفوح جبال القدس الشرقيّة البعيدة، في السفح الجنوبي الغربي لجبل المنطار تحديداً!"
"ولماذا لم يذهب كازنتزاكي إليه؟"
"ربّما لم يخبره عنه أحد، ثمَّ إن الدير بعيد، وطرقه جبليّة ووعرة"
"هل كنت ترعى الأغنام هُناك يا حبيبي؟"
"أجل يا حبيبتي كنت أرعى قطيعنا في هذه السّفوح، وتعلّقت قليلاً بالمسيحيين حين كنت ألتقي الرّهبان والسيّاح وأعزف لهم على نايي، فيتصدّقون عليّ بقريشات"
المهم يا حبيبتي، غادر كازنتزاكي فلسطين دون أن يرى الله ودون أن يخبره أحد أنّه رآه، وذهب إلى دير سانت كاترينا – كما أظن – في سيناء. قطع رحلة شاقّة في الصحراء على ظهر جمل إلى أن بلغ الدير.
مكث هُناك بضعة أسابيع ليعترف له راهب الديّر أنّه لم يرَ الله يوماً رغم السّنين الطّوال التي أمضاها منعزلاً في ذلك الدير في الصحراء، وراح الرّاهب ينتقد الدين مُشيراً إلى أن المسيحيّة لم توفّق بين الروح والجسد، بإقدامها على قمع رغبات الجسد لصالح الروح الذي هو الله، فشكره كازنتزاكي حيث وجد أخيراً من قال له شيئاً مُفيداً.
وحين عاد كازنتزاكي إلى اليونان لم يتوقّف عن البحث ولم يكلّ منه، فاعتكف في دير في جبل آثوس – أيضاً كما أظن – وذات ليلة فوجئ براهب – أظن أنّه كان طبّاخ الدير – يوقظه من نومه، ويقول له إنّه رأى الله ذات يوم وأنّه سيخبره بذلك شريطة ألاَّ يعرف أحدٌ في الدير هذا السِّر. فنهض كازنتزاكي من فراشه متلهفاً لسماع ما كان يود أن يسمعه منذ عشرات السِّنين، قال الراهب ما مفاده، أنّ مسؤول الدير أرسله ذات عام ليجمع حصّة الدير من محاصيل الأرض، وحين وصل إلى حقل الحصاد، رأى امرأة ترضع طفلها مخرجة نهدها كُلّه، لم يكن الراهب قد شاهد نهد امرأة في حياته، ويبدو أنّه نسي النّهد الذي رضع منه بعد أن أمضى في الدير قرابة أربعين عاماً، فتجمّد في مكانه للحظات وما لبث أن صرخ بالمرأة وزجرها مُعنّفاً طالباً إليها أن تختشي وتستتر، فأذعنت له واختشت واستترت.
وفي المساء أخليت غرفة للراهب لينام فيها، وجاءَ ته المرأة نفسها بطعام العشاء، وحين عادت لتأخذ الطّبق وجدت أنّه لم يأكل متذرّعاً بعدم رغبته في الطّعام.
وكم حاول الرّاهب تلك الليلة أن ينام، لكن عبثاً، فأينما نظر شاهد نهد المرأة يمثل أمامه، حتّى أن الضوء كان يتراءَ ى له كنهد المرأة، وحين أطفأه تخيّل النهد يُضيء بدلاً منه..
ومَرّت بضعة أيّام والمرأة تحضر الطّعام والرّاهب لا يأكل، فأخبرته المرأة قائلة أن لجسده عليه حق مثلما لله عليه حق، فلم يُذعن لها، ولم يفكّر في كلامها، ولم يأكل إلاَّ ما يدرأ عنه أنياب الجوع.. إلى أن جاءَت المرأة ذات ليلة ووضعت له الطّبق وتراجعت إلى الوراء ببطء ثمّ استدارت بهدوء لتخرج من الباب، وفجأة وثب الرّاهب خلفها ليأخذها بكل قوّته ويطرحها على السّرير ويشرع في مضاجعتها بجنون!
وفي ذلك الصّباح يا حبيبتي، رأى الراهب الله، قال إنّه شاهده يقف فوق سريره!!"
وتوقّف الملك لقمان عن الحديث، فيما الملكة تهتف "يا ألله" وتطرق في محاولة للربط بين القصّة وبين ما قاله لها الملك قبل أن يأتي على ذكر كازنتزاكي، ويبدو أنّها أدركت ما قصده فراحت تبتسم.
هتف الملك لُقمان:
"أعتذر يا حبيبتي إلى كازنتزاكي وقُرّائه وإلى الشعب اليوناني، لأنّي سُقت قصّته بطريقتي، وكما جمعت مُخيّلتي خيوطها من حوالي ستمائة صفحة من مذكّراته، قرأتها قبل أكثر من عشرة أعوام، فربّما أسأت إليها، وربّما أضفت كلمة غيّرت المعنى الذي قصده كازنتزاكي، ذكّريني يا حبيبتي لأقصّ عليك ذات يوم قصّة كاهن الاعتراف الفلسطيني في "لعبة كريّات هيسه الزجاجيّة!"
"حدّثني الآن يا حبيبي"
"لا اليوم تكفيك قصّة واحدة، على أيّة حال كان هذا الكاهِن يرى أنّه مذنب أكثر من المذنبين الذين كانوا يعترفون بين يديه للتكفير عن ذنوبهم وخطاياهم"
"كما تشاء يا حبيبي، لكن لا تنسى أنّك مدين لي بقصص كثيرة"
"لا، لن أنسى يا حبيبتي، عندي رغبة لأن أدعو أُسرة المركبة لتناول طعام الغداء معنا، طالما أنَّه يوم راحة، فقد اشتقت إلى الجميع"
"فكرة جميلة يا حبيبي"
"ثمَّ أين نسمتي الصّغيرة، أشعر وكأنّي لم أعانقها منذ دهر!"
ولم ينه كلامه إلاّ ونسمة تنزل من المركبة محلّقة على ظهر فرسها الحوريّة وهي تهتف "عمّو عمّو"
أخذها الملك بأحضانِه وهو يهتف "يا روح عمّو" ويتوحّد هو وإيّاها في عناق حار، وما لبث أن انطرح على العُشب وراح يتدحرج وهو يضمّها إلى حُضنه وهي تضحك بأعلى صوتها، وظلَّ يتدحرج إلى أن داخ دون أن تدوخ هي فتوقّف مستلقياً على ظهره، غير أنّها ألحت عليه قائلة:
"دحرجني كمان يا عمّو"
"دُخت يا حبيبتي"
"دُخِت؟"
"ايه، وتعبت كمان!"
"طيّب ارتاح يا عمّو لأجيب رشاي"
"ابقِ أنا سأجيبه يا حبيبتي"
وطار الرّشا ليأتي إليهما، فهتفت نسمة:
"يا ألله، طيّرته يا عمو!"
واستقبلت الرّشا بأحضانها لتجلسه إلى جانبها على بطن الملك، فهتف مُتأوّهاً:
"آي آي بطني يا عمّو، أنتِ والرّشا فوقي يا حبيبتي"
"طيّب احمله يا عمّو"
"وهل سأحمل الرّشا أم أحملك أنتِ؟"
"إشوي بس إشوي حتّى ما يزعل"
ونهض الملك ليحمل الرّشا إلى حُضنه ويركب نسمة على كتفيه.
كانت الملكة نور السَّماء تضحك وهي تحمل رشاها بدورها، فيما أستير تتعجّب مُبدية دهشتها من هذا الملك ذي القدرات الخارقة الذي يلعب مع الأطفال!
راح الملك يجوب الحديقة حاملاً نسمة والرّشا فيما اتّجهت الملكة إلى المسبح واليمامات تحلّق فوقها والفراشات تحوم من حولها والدلفينان يخرجان من الماء لتقبلهما وتعانقهما.
هتفت نسمة:
"خذنا عالمسبح عند خالِه نور يا عمّو"
"يلّه يا حبيبتي"
هبطت من المربكة فتاة ذات جمال ربّاني راحت تحلّق فوق الحديقة كحوريّة ملائكيّة بلباسها الأبيض الشّفاف، تحفّ بها عشر حوريّات كأنّهن الأقمار.
تساءل الملك:
"من هذه الحوريّة الملائكيّة يا حبيبتي؟"
وكم كانت دهشة الملك حين هتفت الملكة:
"هذه إحدى بنات خيالك يا حبيبي!"
"مذا تقصدين؟"
"إنّها حوريّة ملك الملوك"
"يا إلهي، مستحيل أن يخلق خيالي حوريّة بهذا الجمال، ربّما كذب أعوانه عليه حين أحضروها ليكف شرّه عنهم"
"يمكنك أن تسألها يا حبيبي"
"لن أسألها يا حبيبتي لعلّني أصدّق نفسي وأعتبرها من خلق خيالي"
وراحت الحوريّة تحلّق فوق المسبح ومرافقاتها يتبعنها كاليمامات البيض.
وما لبثت أن توقّفت في السَّماء لتتوقف مرافقاتها خلفها وتهتف:
"أُسعدت صباحاً يا مولاي"
فهتف الملك:
"بل أنتِ مولاتي ربّة الجمال يا أجمل وأسعد صباح!"
"عفو مولاي فما أنا إلاّ حوريّة جسدّها خيال مولاي في غفلة منه، ولم يستطع الملائكة تجسيد من هي أجمل منّي وأكمل بكثير في خيال مولاي!"
"أف! وهل ثمّة من هي أجمل منك في خيالي؟"
"أجل يا مولاي، وهذا ما عجز الملائكة عن تجسيده وإيجاد شبيه له، فأحضروني أنا لملك الملوك"
"حتّى لو كان ما تقولينه صحيحاً أيّتها الحوريّة، سأتوّجك ربّة للجمال على هذه المركبة"
"هذا تكريم فائق لم أحلم أن ينعم به مولاي عليّ"
وأشار إليها أن تهبط ليتوّجها فهبطت ليودِعَ نسمة ورشاها ظهر فرسها الحوريّة، ولتطلق الملكة نور السّماء رشاها، وليهبط كُلّ من في المركبة ليشهدوا تتويج ربّة الجمال.
انحنت الرّبّة أمام الملك ثمّ استقامت في وقفتها ليتقدّم منها ويضع على رأسها تاجاً من الذّهب الخالص المرصّع بالماس، وفي جيدِها عقداً من اللؤلؤ، وليلبس الجواري عشرة تيجان من الذّهب المُرصّع بالزمرّد.
صفّق الحضور ابتهاجاً بالتتويج ودعا الملك لقمان الجميع إلى حفل غداء في الحديقة على شرف ربّة الجمال، وراح يُصافِحهم واحداً واحداً ويطمئن عليهم وخاصّة أبناء الإنس منهم، الذين قد لا يتآلفون مع الملائكة.
حين أوشك حفل الغداء على الانتهاء سأل الملك لقمان قائد المركبة:
"هل تعرف في أي سماء نحن أيّها الرّائد؟"
فأجاب قائد المركبة بالنّفي، غير أنّه أكّد أن المركبة تجاوزت سبع شموس منذ أن انطلقت من فضاء الكوكب المُطوّر، وهي الآن تحلّق في سماء الشمس الثامنة، فهتف الملك متسائلاً بدهشة:
"هل هذا يعني أننا تجاوزنا سبع سماوات في انطلاقتنا الأخيرة أيّها الرائد؟"
"إذا ما اعتبرنا كل شمس بسماء يا مولاي"
"وإذا ما أضفنا السماوات السابقة نكون قد تجاوزنا أكثر من اثنتي عشرة سماء"
"أظن ذلك يا مولاي"
وأدرك الملك لقمان أنّه في متاهة سماوات قد لا يُعرف أوّلها من آخرها، فهتف متسائلاً:
"إذن أين تكون السَّماء السابعة التي أَحلم بالوصول إليها؟"
فقال الرائد:
"والله لا أعرف يا مولاي"
ونظر الملك إلى الملكة نور السَّماء لعَلَّ لديها ما يطمئنه، فقالت:
"يبدو لي يا حبيبي أنّ هُناك آلاف السماوات!"
فأكّدت بقولها الشّكوك التي راحت تراوده، فلم يجد غير القول:
"يا إلهي، هذا يعني أننا نضيع في فضاء لا نهاية له"
فقال ملك الملوك:
"رُبّما تكون الأرض في السَّماء السابعة السُّفلى يا مولاي، ومعظم ما تجاوزناه حتّى الآن لم يكن إلاّ في السموات السُّفلى"
وبدأ الملك لقمان معجباً بالفكرة:
"وبذلك قد نكون الآن في السَّماء الخامسة العُليا:
"هذا ممكن يا مولاي"
وشككت الملكة في ترجيح صحّة هذه التوقّعات، مُشيرة إلى أنّ كل معلوماتهم السابقة عن الفضاء والسَّماوات لم تكن أكثر من تصوّرات موروثة غير صحيحة، حتّى أنّها شككت في أن يكون الكوكب الذي يقيمون عليه في العالم الأسفل!
فتساءَل الملك لقمان بدهشة مخاطباً الجميع:
"هل هذا يعني أنّكم أضعتم كواكبكم ولم تعودوا تعرفون أين هي؟
وكم كانت دهشة الملك حين أجابت الملكة:
"أجل يا حبيبي، للأسف لا يستطيع أي مِنّا أن يحدد من هُنا أين يكون كوكبه، فهل هو تحت أم فوق، أعلى أم أسفل، ناحية الشرق أم ناحية الغرب، في السماوات العُليا أم في السماوات السُّفلى!"
"وكيف ستعودون إليها فيما لو شئتم؟"
"إن لم تُسعفنا قوانا الخفيّة فلن نتمكن من العودة يا حبيبي"
ونظر الملك لقمان نحو قائد المركبة متسائلاً:
"وماذا عن الكوكب المتطوّر الذي أتيتم بهذه المركبة منه أيّها الرّائد، ألا تعرف الآن أين هُو؟"
"للأسف لا أعرف يا مولاي ولا يمكنني الذّهاب إليه دون اللجوء إلى قوانا الخفيّة"
وزفر الملك متأفقاً ثمَّ هتف:
"كنت أدرك عدم وجود أعلى وأسفل في هذا الكون، ومع ذلك ظللت أحلم بالوصول إلى السَّماء السابعة العُليا انطلاقاً من تصوّراتي الموروثة"
تساءَل ملك الملوك:
"هل يمكن ألاّ يكون في الكون أعلى وأسفل يا مولاي؟"
"كل شيء ممكن أيّها الملك؟"
فقالت الملكة:
"حتّى لو عرفنا مركز الكون يا حبيبي؟"
"وكيف سنعرف مركز الكون ونحن لا نعرف فيما إذا كان حجمه محدوداً أم متمدداً؟ وحتّى لو عرفنا ذلك فإن وجود الشيء سيظل أعلى بالنسبة إلى ما هو أسفل منه، وسيظل أسفل بالنسبة إلى ما هو أعلى منه"
"وماذا ستعمل الآن يا حبيبي؟"
"لو أجزم بصحّة توقعاتنا بعدم وجود سماء سابعة، لبحثنا عن كوكب نستقر عليه قبل التفكير في أيّة خطوة لاحقة"
وتوقّف الملك لقمان فجأة ليلتفت حوله وإذا بآلاف الرّماح التي كانت منطلقة نحوه من كل الجهات تتكسّر في الفضاء وكأنّها ارتطمت بجدار صلب.
دبّ الذُّعر في قلوب بعض من كانوا على المائدة وهم يرقبون تكسّر آلاف الرّماح التي انهمرت فجأة من كل صوب حتّى من أعلى، والتصقت الملكة نور السَّماء بجسد الملك لقمان.
تساءَل ملك الملوك:
"هل عاد خصمك يا مولاي؟"
"أجل أيّها الملك، يبدو أنّه سيخوض معركته معي حتّى النهاية، الغريب أنّه لجأ إلى أسلحة بدائيّة بدلاً من الشّهب والنيازك والأجرام"
فقالت الملكة:
"لكنها انطلقت فجأة ومن مسافة قريبة يا حبيبي"
"ولماذا لا طالما أنّ خصمي قادر على ذلك كما يبدو"
"هل أخذت احتياطاتك يا حبيبي فيما لو هاجمك عن قرب أكثر؟"
"لا تخافي يا حبيبتي، هُناك أربعة من الملائكة المخفيين يقفون دائماً من حولي ولا يتيحون حتّى لذبابة أن تقترب مِنّي"
وتنفّست الملكة الصعداء وتساءَلت:
"أين سنتجه الآن يا حبيبي؟"
وأرسل الملك لقمان نظراته إلى ما لا نهاية، وهتف:
"أرى قمراً قريباً مِنّا سنهبط عليه"
وتطلّعت الملكة فلم تر شيئاً، فقالت:
"لا أرى شيئاً يا حبيبي"
"أنا أرى يا حبيبتي، وأرى على القمر ملايين الناس يحملون جثثاً على نعوش حملت على أكتافهم، وأرى محارق كبيرة يلقون الجثث فيها، وأرى نهراً يتعبّد الناس من حوله ويلقون أطفالهم وبناتهم وأبناءَ هم في مياهه، وأرى آلاف الناس يُضربون بالعصي، وآلاف الآخرين ينهالون بعصيهم على جذوع الأشجار"
أبدت الملكة دهشتها ووقف كل من على المائدة وراحوا ينظرون فلم يروا شيئاً.
تساءَلت الملكة:
"هل بدأت ترى عن بُعد يا حبيبي؟"
فقال الملك:
"أجل يا حبيبتي، أستطيع الآن إذا ما شئت أن أرى ما وراء الجبال، وما خلف الجدران.
"هل هذا يعني أنّك بدأت ترى إلى ما لا نهاية يا حبيبي؟"
"لا يا حبيبتي، فلا يقدر على ذلك إلاَّ الله"
"أحمد الله الذي منحك كُلَّ هذه القوى يا حبيبي"
"الحمد له، والشكر له يا حبيبتي"
وأقلعت المركبة بسرعة خياليّة ليبدو القمر الذي تحدّث عنه الملك لُقمان.
وما أن حلّقوا فوقه حتّى شاهدوا آلاف البشر يسيرون في أرض جرداء ويحملون آلاف الجثث على نعوش محمولة على أكتافهم، وهم يهتفون بأصوات حزينة باكية وكأنّهم يندبون، كانوا يتجّهون نحو وهدة كبيرة من الأرض أشعِلت فيها نار، راحوا يلقون فيها الجثث.
هبط الملك والملكة من المركبة وراحا يحلّقان فوق أرتال حاملي النّعوش إلى أن اقتربا من الوهدة التي تشتعل فيها النار وتلقى فيها الجثث، فحطّا على مقربة من الناس الذين توقّفوا عن الحداء وإلقاء الجثث في النار.
اكتسب الملك لقمان لغتهم وحيّاهم ثمَّ سألهم عن أسباب موت هؤلاء الناس، فأخبروه أنّ البلاد أصيبت بأمراض يجهلون ما هي بعد أن حلَّ عليهم غضب ربّهم النهر، ففتكت بملايين الناس.
ألقى الملك لقمان نظرة نحو بعض الموتى مستعيناً بقواه، فعرف أن الكوكب كُلّه يتعرّض للأوبئة الفتّاكة كالطاعون والجدري والملاريا والكوليرا.
أطرق كعادته وراح يرسل نظراته إلى كل الاتجاهات حيث أرتال حاملي النّعوش، وكُلّما أرسل نظراته نحو رتل دبّت الحياة في أجساد الموتى ونهضوا عن النّعوش وقد أُعيدت لهم صِحتهم وتخلّصوا من أمراضِهم.
وما أن فرغ الملك لقمان من إعادة الحياة إلى كل الأموات حتّى نظر إلى الوهدة حيث المحرقة التي تأججت نيرانها، فأخذت ألسنتها تقصر لتتلاشى وسناها يخبو ليتحوّل إلى فحم أسود أو رماد راحت تبدو منه بعض الأيدي والأرجل والرّؤوس والأمعاء والأشلاء البشريّة التي راحت تجهد لتنبعث من بين أكوام الفحم والرّماد وتلتئم بأجسادها، فبدت وكأنّها خلايا نحلٍ أو جبل من النّمل تكوّم فوق بعضه البعض، فراح يُصارع من أجل النجاة، وما لبثت بعض الأجساد أن أخذت في التشكّل لتطير في الهواء مبتعدة عن الوهدة متيحة للأشلاء الباقية أن تشكّل أجسادها وتنهض من فنائها وتعود إلى الحياة.
أخذت الأجساد تتشكّل بالعشرات ثمَّ بالمئات وتندفع إلى أعلى لتضجّ السَّماء بالأجساد المحلّقة التي راحت تحطّ في كل مكان، راقب الملك لقمان والملكة نور السَّماء الحياة بصمت وخشوع إلى أن عادت إلى جميع من التهمت أجسادهم نيران المحرقة، وكانوا قرابة مليونين من البشر.
خرج الملايين من الناس من هول الدَّهشة التي ألّمت بهم وشرعوا يخرّون ساجدين في كُلِّ مكان، ولأوّل مَرّة لم يطلب الملك لقمان إليهم النّهوض، بل راح يرسل بصره وبصيرته إلى كافة أنحاء الكوكب، فنظر أوّلاً إلى الشرق فشاهد خلف الجبال والسّهوب آلاف مواكب الموتى وآلاف الحرائق التي تندلع في كل مكان وتحرق فيها الجثث، فأعاد الحياة إلى الموتى الذين لم تحرق جثثهم بعد، وإلى الموتى الذين تحوّلت جثثهم إلى رماد، ثمَّ أرسل بصره إلى الشّمال ليخترق الجبال والبحار والمحيطات، فشاهد آلاف المواكب والحرائق، فأعاد الحياة إلى الجميع، ثمَّ أرسل بصره إلى الغرب فشاهد آلاف الأهوال فأعاد الحياة إلى الموتى، ونظر أخيراً إلى الجنوب فشاهد ما هو أكثر هولاً ورعباً، فأعاد الحياة إلى الموتى والمحروقين، فضجّت السَّماء فوق الكوكب القمري بملايين البشر الذين راحوا يحطّون على الأرض ويسجدون، ليسجد كل سُكّان الكوكب ممن أعيدت لهم الحياة، أمّا أولئك الذين كانوا يلقون بأبنائهم في النّهر فقد راحوا يهزجون بالأناشيد الدينيّة ويلقون بالمزيد من الأطفال والبنين والبنات في مياه النّهر الإله، لاعتقادهم أنّه استجاب لتضحياتهم وما قدّموه من قرابين، فصفح عنهم وأعاد الحياة إلى موتاهم، وكانت هذه حال الآلاف من الذين كانوا يضربون جذوع الأشجار بالعصي والهروات والبلطات، فقد اعتقدوا أنّهم نجحوا في طرد الشياطين التي سلّطها ربّهم عليهم لتنزل بهم الأمراض، فتابعوا ضرب الجذوع وتحطيمها لطرد أرواح الشياطين منها، وكذلك المرضى الذين كانوا يُضربون أو يرقصون لطرد الشياطين من أجسادهم فقد تابعوا طقوسهم اعتقاداً منهم أنّ ربّهم سيستجيب لهم ويخلّصهم من أمراضهم، كما خلّص من ماتوا ومن أُحرقوا.
أشار الملك لقمان إلى الساجدين أن ينهضوا ويتبعوه، وطار لينهض الملايين من سجودهم ويطيروا خلفه، أمّا أولئك الذين كانوا يسجدون في بلدان بعيدة على الكوكب، فقد نهضوا وطاروا ليجدوا أنفسهم مسيّرين في طيرانهم إلى الناحية التي يحلّق فيها الملك لقمان، ليحلّقوا مع المحلّقين خلفه.
وحين اقترب الملك لقمان والملكة نور السَّماء من سهل فسيح بدا فيه مئات الآلاف مِن النّدابين واللطامين، كان عشرات الملايين من البشر قد لحقوا بالموكب السّماوي وطاروا خلفه.
هبط الملك والملكة فوق رتل كبير من الناس العُراة ضمَّ مئات الآلاف من المرضى، كان آلاف آخرون ينهالون على أجسادهم بالعصي والسيّاط لطرد الشياطين من أجسادهم وتخليصهم من أمراضهم، فخاطبهم الملك لقمان قائلاً: "هيّا اتبعوني أيّها الحمقى" فوجدوا أنفسهم يتخلّصون من أمراضهم ويطيرون ليتبعوه، حتّى أولئك الذين كانوا يضربونهم من الكهنة والمشعوذين، فقد وجدوا أنفسهم مُرغمين على الطيران خلف الطائرين!
وحلّق الملك لقمان برفقة الملكة نور السَّماء فوق مئات الآلاف من الناس، انتظموا في حلقات واحدتها حول الأُخرى وراحوا يلطمون أنفسهم بالسلاسل والعصي والحبال وقبضات الأيدي، فكانت بضع حلقات تلطم بالأيدي على الصّدور، تليها بضع حلقات تلطم بالسلاسل على الظّهور ثمَّ بضع حلقات تضرب أجسادها بالعصي على الأفخاذ والأرداف، ثمَّ بضع حلقات تلطم أكتافها بالحبال، فبضع حلقات تضرب أعناقها بأغصان الأشجار الطريّة. وكانت الدّماء تخضب أجساد جميع اللطامين.
وكانوا يفعلون ذلك لطرد الشياطين من أجسادِهم وتخليص أنفسهم من الأمراض، فأشفاهم الملك لقمان وهتف إليهم "اتبعوني أيّها الحمقى" فطاروا في الفضاء ليتبعوه، مع الملايين الذين كانوا يتبعونه.
وتوقّف الملك لقمان فوق حلقات الرّقص العنيف لمئات الآلاف من النساء اللواتي كن يرقصن عاريات ويضربن أجسادهن بقبضات أيديهن لتخليص أنفسهن من الشياطين والأمراض فأشفاهنّ وهتف إليهن "اتبعنني أيّتها الحمقاوات" فطارت النسوة ليتبعن موكب الملك.
وأرسل الملك بصره إلى كافة أرجاء الكوكب ليخلّص الجميع من حلقات اللطم والأمراض ويرغمهم على الحضور إليه، وراح يتابع طيرانه وملايين الطائرين من سائر أنحاء الكوكب ينضمّون إلى الموكب الذي ملأ الفضاء وحجب ضوء الشمس.
اقترب الموكب من غابة كبيرة كان مئات الآلاف قد اجتاحوها ضرباً بعصيهم وبلطاتهم لطرد الشياطين التي يعتقدون أنّها تستوطن أيضاً جذوع الأشجار وتسبب النكبات وتنزل بالناس الأمراض، فحطّموا بعض جذوع الأشجار وهربت آلاف الحيوانات من أمامهم على غير هُدى لهول الرّعب الذي ألم بها.
صرخ بهم الملك لقمان "هيّا اتبعوني أيّها الحمقى، فالشياطين في أدمغتكم وليست في جذوع الأشجار!" فألقوا عصيهم وبلطاتهم وطاروا خلف الموكب الملكي، وأرسل الملك أبصاره إلى كل الجهات حيث مئات الغابات التي اجتاحها الناس، فألقوا عصيهم وبلطاتهم وطاروا ليتقاطروا عبر الفضاء نحو الموكب الملكي المهيب الذي أخذ يقترب من النهر الكبير، حيث انتشر على شطآنه الملايين من أبناء الكوكب وراحوا يلقون أطفالهم وأبناءَ هم وبناتهم في لجّة مياهه، وهم يهزجون بالأناشيد سائلين النّهر رضاه وغفرانه وصفحه، فصرخ بهم الملك لقمان بصوت تردد صداه من كافة أرجاء الكوكب ومن سماواته العُليا:
"كفاكم حماقة أيّها البُلهاء وتوقّفوا عن إلقاء أبنائكم وبناتكم في مياه النهر، فهو ليس في حاجة إلى أجساد أطفالكم، وهو لم يرسل لكم الشياطين ولم ينزل بكم الأمراض".
وحين سمع الناس صوت الملك وشاهدوا موكبه العظيم توقّفوا عن ترديد الأهازيج وإلقاء الأطفال والأولاد في مياه النّهر، وأوقف الملك لقمان مياه النّهر عن الجريان وشرع في إعادة الحياة، بقدرة الله العظيم، إلى ملايين الأطفال والأولاد والبنات الذين قذفت أجسادهم فيه، فأخذت الأجساد تطفو على مياه النَّهر وهي تحرّك قوائمها وما تلبث أن تطير محلّقة في الفضاء لتنضم إلى الموكب السَّماوي.
وتابع الملك طيرانه فوق النّهر العظيم وكُلّما اجتاز مسافة فوقه صعد منه آلاف الأولاد والفتيات وحلّقوا ليتبعوا الموكب.
وكان طول النهر حوالي عشرة آلاف ميل وعرضه حوالي خمسة أميال، ويصبُّ في محيط شاسع، فاضطر الملك إلى مضاعفة سرعته ليجتازه من أوَله إلى آخره ويحلّق فوق مياه المحيط لتصعد منه ملايين الأجساد وتحلّق في السَّماء خلف الموكب ومن حولِه، لتحتشد السَّماء بأكثر من خمسة مليارات من البشر الذين أعيدت لهم الحياة، وأكثر من خمسة مليارات من البشر الذين أشفاهم مِن أمراضهم أو جعلهم يرافقون موكبه.
أرسل الملك لقمان بصره إلى كل الجهات، ليرى الفضاء على مدى البصر محتشداً بالمليارات من البشر، فهتف بصوت سُمع في الأرض والسَّماء:
"إنّ مَن أعاد لكم الحياة وأشفاكم مِن أمراضكم هُو إلهي الذي لا إله غيره، فآمنوا به واعبدوه"
فأخذ المليارات من البشر يهبطون من السَّماء ويخرّون على الأرض ساجدين ليملأوا السّهوب والشّعاب، السّفوح والتلال، الغابات والحقول، وشواطئ الأنهار والبحار والمحيطات، ليسجد كُلُّ من على الأرض حتّى الأطفال والدّواب، الطير والنّبات، الأشجار والأحجار، الصخور والأسماك، الحيوانات والحشرات، الجبال والتّلال، ولتسَجَد كل الكواكب في الفضاء، وكل الأقمار، وكل الشّموس، وكل الشّهب والنيازك، وكل السّدائم، بل كل الكائنات، ليهتف الملك لقمان وهو يرى إلى عظمته وجلاله، وتجلّي قدرته التي ما بعدها قدرة، سبحانه لا إله إلاّ هُو، وحده لا شريك له في المُلك، إنّه على كُلّ شيء قدير:
"اِرفعوا رؤوسكم، إنّ الله ليس في حاجة إلى من يسجد له"
فرفع البشر رؤوسهم وظلّوا جاثيين على ركبهم، فيما راحت أعينهم تتساءَل وأصواتهم تتردد في كل مكان لتختلط بأصوات النباتات والحيوانات والكائنات السَّماويّة التي استقامت في وضعها وراحت تتساءَل بدورها مع البشر:
"كيف نتعبّد لإلهنا العظيم يا لُقمان؟"
فهتف الملك لقمان بصوت تردد صداه من كافة أرجاء الكون:
"من شاء منكم أن يتعبّد إلى الله فليحبّه من كُلِّ قلبه ومن أعماق نفسه، فلا عبادة عند الله أكبر من المحبّة التي ينبض بها القلب وتختلج بها لواعج النّفس"
فشرع الملايين من البشر يشهقون بعمق باسطين راحات أيديهم على صدورهم، مغمضين عيونهم، زافرين الهواء من رئاتهم، مكررين ذلك بضع مرّات، ليستشعروا بقلوبهم وأنفسهم ما لم يستشعروه في حياتهم قط، من راحة بال وهدوء نفس وطمأنينة قلب، وما لبثوا أن وجدوا ذواتهم تحلّق في ملكوت الكينونة الإلهيّة، لتتحد بذات الله وتتوحد مع روحه الربّانيّة.
لوّح الملك لقمان بيده، مُشيراً إلى الجميع أن ينصرفوا إلى حال سبيلهم وأن يعودوا إلى أوطانهم مانحاً إيّاهم القدرة على التحليق ليتمكنّوا مِن العودة إلى بلدانهم، واعداً إيّاهم بمن يساعدهم في حياتهم ويعلّمهم شريعة الله، فأخذوا يطيرون ليتفرّقوا في كل الجهات وأرواحهم تحلّق مع روح الله.
وما أن خلا المكان من البشر حتّى هبط الملك لقمان إلى شاطئ المحيط وسجد للمرّة الثانية في حياته السَّماويّة، وفيما كان ساجداً هتف صوت الله في دخيلته:
"أتسجد لي يا لقمان وأنت تنزّهني عن السّجود"
فرفع الملك لقمان ظهره ليظلَّ جاثياً على ركبتيه باسطاً راحتيّ يديه عليهما وكأنّه في طقس صلاة إسلاميّة، فيما كانت مئات الهواجس والأفكار تتصارع في مخيّلته حاثّةً إيّاه على عدم التشكيك في الوجود الإلهي العظيم بعد اليوم، فلم يجد إلا أن يهتف بما هتف به في سجدته الأولى لإله بشري:
"إنّي أسجد لك لأنّي اقتنعت أنّك حقّاً إله".
نهاية الجزء الثاني
30/10/1994



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الملك لقمان . الجزء الثاني. (9) شهاب من السموات العليا!
- شاهينيات (115) السبي البابلي وتحرير قورش الفارسي لليهود.
- ألملك لقمان.الجزء الثاني . (8 ) عقل طوطمي!
- الملك لقمان . الجزء الثاني. (7) الله ورسوله والعفاريت !!
- محمود شاهين : مخطوطات تبحث عن ناشر
- شاهينيات (114) ذكر العرب كغزاة لبني اسرائيل .
- ألملك لقمان.الجزء الثاني . (6 ) األله. ألكمال. الفضيلة .
- الملك لقمان . الجزء الثاني. (5) عويل في الغابات!
- شاهينيات (113) بعض قصص سليمان وبلقيس!
- الملك لقمان . الجزء الثاني.(4) تحطيم الأصنام !
- شاهينيات (112) أخبار الأيام أخبار مكررة عن شجرة العائلة التو ...
- ألملك لقمان.الجزء الثاني . (3 ) الآلهة الطيبون!
- الملك لقمان . الجزء الثاني.(2) عرش الإله داجون الحادي عشر.
- الملك لقمان .الجزء الثاني (1) حديث عن كلينتون في أعماق -خليج ...
- شاهينيات (111) قابيل وهابيل وحواء يختفون من شجرة العائلة الت ...
- ملحمة الملك لقمان (13) جهنم الإله داجون!( الفصل الأخير من ال ...
- الملك لقمان .(12) مساج كوني وحروب كوكبيّة!
- بوح الكلمات : خواطر .ذكريات . أشعار. قصص.
- ملحمة الملك لقمان (11) صِفات محمّدية وهدايا جنّية!
- شاهينيات الفصل (110) ملاك يهوة يبيد 185 ألف أشوري !


المزيد.....




- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - الملك لقمان ج2 (10) اغواء استيري!