جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 4800 - 2015 / 5 / 8 - 17:44
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لو تقدر حساب الأمر بعقل جيد ونوايا حسنة وبعيدا عن المطامع المتفرقة والإستراتيجيات الدولية فهل سنخطأ الظن إذا قلنا أنه سيكون من حسن حظ الأطراف العراقية المختلفة الأديان والقوميات والمذاهب أن تعيش في بلد واحد, فثمة فائدة كبيرة سيحصل عليها الجميع حينما يجعلك الآخر تتوازن في عقلك وعواطفك إلى حيث بمكنك اللقاء معه على مشتركات يكون من شأن التفاعل الإيجابي بينها أن ينتج بنى وقيم إنسانية متحضرة. إن الأمر هنا يبدو قريب الشبه من مسألة الزواج بين الأقارب ذلك الذي يؤدي إلى نشوء اجيال تتوارث العاهات, والزواج من خارج دائرة الأقارب الذي يسمح بتراجع تلك العاهات وتحسين النسل.
لقد تغيرت البنى التي بإمكانها تأسيس الأمم القوية والمقتدرة وولت مع عهد الإستعمار القديم الثقافات الأحادية الجانب التي بإمكانها تأسيس بلد ومجتمع من خلال طغيانها على بقية الثقافات. ومع العراق ثمة من يظن ان التنوع بإتجاهاته المختلفة هو مصدر لإنتاج الكثير من المشاكل المستعصية التي قد لا تجد حلا بالنهاية سوى إفتراق الهويات الثانوية المختلفة ونزوح كل هوية إلى تأسيس بلد خاص بها.
ربما سيكون ذلك ممكنا إذا ما تمت العودة إلى الزمان القديم حيث كان بإمكان قومية معينة أو دين واحد أن يؤسس إمبراطورية لوحده, على ان تخضع بقية الأجناس والأديان إلى هيمنة العنصر المتغلب, لكن عالم اليوم قد تبدل وتعدل يمستويات وأشكال لم تعد تسمح بقيام دول على اساس عنصري, فإن وجدت هناك أغلبية عددية دينية أو قومية فإن ميلها إلى إعلاء ثقافتها على بقية الثقافات, وحقوقها على بقية الحقوق سوف يؤدي إلى تاسيس مجتمعات مقهورة قد تمنح الأغلبية إمتيازات شخصية لكنها على المستوى العام سوف تأكل من قدرتها على تأسيس مجتمع عادل ومتطور. وإذا ما حدث وإن أدى منهجها هذا إلى تداعيات إجتماعية وسياسية سلبية فإن علاج هذه التداعيات لن يكون عن طريق الهروب من المشكلة وإنما عن طريق معالجتها بحلول إنسانية بمقدورها أن تعدل المناهج المختلفة بالإتجاه الذي يجعلها قادرة أكثر على التآلف والتفاعل.
مع العراق هناك ثمة مشكلتين أساسيتين, هما المشكلة المذهبية بين الشيعة والسنة أولا وهناك أيضا المشكلة بين العرب والأكراد, مع عدد من المشاكل الثانوية التي قد لا ترتقي إلى حجم المشكلتين الأساسيتين لكنها من ناحية المبدأ تنطلق من عاهة مشتركة مصدرها غياب التفكير والمناهج الإنسانية المتحضرة, وتشمل هذه الخانة بشكل رئيسي الموقف من الأديان المتفرقة, كالمسيحيين والصابئة مثلما تشمل بقية القوميات المتفرقة الأخرى.
على صعيد المسألة الكردية, مضى زمن الإختلاف حول مشروعية الخيار الكردي وحق الأكراد حتى في دولة مستقلة.. رغم ذلك فإن الأمور باتت تقرأ بالعكس, فبدلا من أن يظل الأمر يناقش تحت عنوان الطغينة العربية التي تنكر حق الأكراد في تأسيس دولتهم الخاصة فهو بات يناقش تحت عنوان وهل من صالح الأكراد أنفسهم الإفتراق عن العراق لتأسيس دولتهم الخاصة, إضافة إلى أن نسبة لا باس بها من العرب العراقيين صاروا يعتقدون أن حل الدولتين سيأتي في صالحهم أيضا, فهو من ناحية خلاص من مشكلة كبيرة بات من المستحيل حلها إلا من خلال الإستعداد لتحمل تبعات مشاكل جديدة ناشئة من الإفتراق , إضافة إلى أنه من جهة أخرى محاولة سيسهل من خلالها العثور على الذات الوطنية العراقية وحمايتها بشكل أفضل. ومن الأكيد أن أكثر العرب الممانعين لقيام الدولة الكوردية كانوا لا يؤسسون ممانعتهم تلك على إنكارهم للحقوق القومية الكردية لكنهم يتصورون, مثل العديد من الأكراد أيضا, أن الحل الأفضل للكورد هوبقاؤهم جزء من دولة عراقية ديمقراطية يتقدم كيانها الوطني على كياناتها القومية المتعددة, وحينذاك فإن إختيار أي نموذج عالمي من نماذج الدول الإتحادية أو الفدرالية لغرض التماهي معه سيعيد حتما الطبيعة التكوينية العراقية بما يجعلها تتجاوز الوضع الحالي للدولة اللادولة.
أما على الصعيد المذهبي, وبميزان التجاذب او التضاد الشيعي السني فثمة حقائق بدت تعيد تكوين نفسها من جديد. من جانب أن التأكيد على علمانية الدولة العراقية قبل الإحتلال الأمريكي ومنذ نشأتها الحديثة في أعقاب الحرب العالمية الأولى لا يلغي حقيقة أن تكوين السلطة لم تكن تتناغم مع طبيعة الدولة العلمانية المفترضة, أما الميل للتأكيد على أن الدولة العراقية السابقة, بالمقارنة مع دولة الطوائف الحالية, لم تكن دولة طائفية فهو ميل يتجاوز الحاجة إلى الإجابة على مجموعة من التساؤلات الهامة التي سيكون في مقدمتها وهل جاءتنا الطائفية الحالية بالبارشوت. وسوف تقودنا محاولة الإجابة على السؤال الأخير إلى وجوب التمييز بين شكلين اساسيين من اشكال الطائفية هما الموروثة والمكتسبة, وهنا فإن الخلط بين ما هو موروث وما هو مكتسب لا يؤدي بطبيعة الحال إلى التأسيس لإستنتاجات عادلة, فالدولة (العليمانية) التي تأسست بعد الحرب العالمية الأولى لم تكن مسؤولة عن موروث طائفي كان إمتد على قرون من المواجهات الطائفية, وان من الضروري التساؤل فيما إذا كانت أشكال الممارسات الطائفية القائمة أنذاك تكفي لتأسيس أحكام نهائية بطائفية تلك الدولة, وفيما إذا كانت الطائفية ذاتها هي طائفية سياسية ام إجتماعية, وهل كانت من النوع الموروث أم النوع المكتسب . إن شتم الطائفية والوقوف في رقعة تلك الشتيمة دون أي ميل مهني لدراستها ومتابعة أشكالها ومستوياتها ومضامينها سيجعل الثغرات الإجتماعية مفتوحة بإتجاه مرور الثقافات الطائفية, فنكران الظاهرة لا يكفي كما أن الشكوى منها لن تصح إذا كانت تؤدي إلى تأسيس ضدها النوعي كما حدث في العراق بعد الإحتلال.
الواقع ان تأسيس نظام ما بعد الإحتلال القائم على شرعية التقسيم الطائفي للدولة والمجتمع العراقي لا يسمح بدراسة موضوعية وحرفية للمشكلة الطائفية في العراق, فعلى الجانب (الشيعي) هناك تهويل حقيقي لحجم المشكلة, وخاصة في مرحلة الدولة العراقية الحديثة, أما على الجانب (السني) فهناك رفض كامل لوجود مستويات واشكال طائفية سابقة. وبين التهويلين فإن الباحث في الشأن الطائفي يواجه صعوبة أكيدة في محاولته فك الإشتباك بين الحقائق الموضوعية, ذلك الذي يخلقه التهويل من جانب أو التبسيط على الجانب الاخر.
وما يضيف إلى المشكلة أن هناك خلطا أكيدا ما بين أنواع الطائفية ذاتها, إذ لا يجري في الكثير من الأحيان التمييز بين الطائفية (السياسية) والطائفية (الإجتماعية). فالأولى كما يجب ان يكون معلوما هي تلك التي تخص طبيعة الدولة ذاتها, أي هل هي دولة علمانية بدستور وقوانين غير طائفية, أما الثانية, اي الإجتماعية, فهي طائفية أفراد المجتمع, وخاصة شكلها الموروث, والذي يحتاج لتراجعه إلى فترة طويلة من النشاط الذي تكرسه الدولة العلمانية غير الطائفية, على مستوى الثقافة والإنجازات المختلفة, السياسية منها والإقتصادية. وتتضاعف المشكلة كثيرا وتضيع القدرة على تقديم الحلول الصائبة حينما يجري إسقاط ما هو شخصي وإجتماعي على ما هو سياسي, وما هو موروث على ما هو مكتسب, ثم يكون هناك جنوح لإستخلاص نتائج وتأسيس نظريات قائمة على الخلط بين الحقائق وعلى ضياع التعريفات اللائقة.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟