أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامي المصري - الشعب القبطي يتمزق بين شقي حجر الرحى الدولة و الكنيسة















المزيد.....


الشعب القبطي يتمزق بين شقي حجر الرحى الدولة و الكنيسة


سامي المصري

الحوار المتمدن-العدد: 1332 - 2005 / 9 / 29 - 11:06
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لاشك أن الأقباط هم صمام أمن مصر لما يأتي:
1. أرض مصر مطلوبة من كل طامع لأسباب سياسية اقتصادية استراتيجية بحتة، لذلك فشعبها مطلوب من عدو لا يحركه إلا الجشع. شعب مصر مطلوب ميتا أو في حكم الميت بصفة مستمرة, ليعمل كعبد في خدمة السيد المستعمر. من قبل التاريخ وحتى اليوم تقلب علي مصر كل صنوف المستعمرين من نوبيين وليبين وهكسوس وفرس ويونان ورومان وبيزنطيين وعرب وأتراك ومماليك وفرنسيين وإنجليز وروسيا الشيوعية وأمريكا الرأسمالية... لم يكن العيب في الإنسان المصري كما يزعم البعض، بل يرجع السبب في كل هذا للموقع الإستراتيجي الخطير الذي تسبب في أذى هذا الإنسان الطيب. إلا أن هذا الموقع نفسه هو الذي خلق في هذه البقعة من الأرض إنسان الحضارة الواعي الذي حمل علي منكبيه مسئوليتها عبر سبعة آلاف من السنين، ليقاوم استعمار بربري غير متحضر، رغم كل الأشكال الحضارية البراقة لتي يظهر بها. إن المؤامرة ضد مصر حقيقة تاريخية من ينكرها أو يتجاهلها فهو جزء من المؤامرة.
2. لذلك فإن أهم واجبات قائد الدفَّة الوطني لمصر هو أن يستمد قوته من الشعب، ويعمل معه ولحسابه وبه. يجمعه ويوحده بالعدل حول إيديولوجية وفكر مستقيم متسق، ليقف ضد عدو متربص بمصر بصفة دائمة. لذلك فقوة الحاكم الوطني لا يمكن أن يستمدها إلا من قوى الشعب ووحدته إن أراد الاستمرار والصمود. هذا هو ما فعله عبد الناصر ومن قبله سعد زغلول وأحمد عرابي ومحمد علي وصلاح الدين، فقد كان التعاون مع الشعب الطيب، والعمل من أجله، هو مصدر القوة لكل هؤلاء، كما كان في كل مرة دافعا لزيادة تآمر القوى الاستعمارية الطامعة في مصر. ولكن في أغلب الأحيان كان الحاكم يتواطأ مع المستعمر ضد الشعب، حتى يضمن لنفسه أمنا ولحكمه استمراراً فوق كرسي هزيل كخادم للمستعمر. فيستعيض عن الفعل بالكلام، وعن الوطنية بالشعارات والتعتيم والتسويف حتى تأتي الكارثة. واعتاد الشعب الطيب أن يجتر ألمه التاريخي فيفلسفه إلى أن تعبر الضربة، وبعد أن تعبر يبدأ في إعداد نفسه لضربة جديدة.
3. الكارثة الحقيقية تبدأ عندما يجد المستعمر له مسارات داخل الشعب نفسه، فيغرس بذار الفتنة، حتى يدمر الشعب نفسه بنفسه، فتستمر السيادة للمستعمر وحده. إن أخطر أسلحته هي عندما يعتمد على الصراع الديني أو العرقي داخل الوطن الواحد، ليحرك القوى المتصارعة لحسابه، فتكون الطامة الكبرى والخراب الكامل كما نراه اليوم في مواقع كثيرة من الأرض. إن هذا الأسلوب الاستعماري البربري الدنيء قديم، وقد تعاظمت إمكانياته في هذه الأيام، بما وفره له العلم من وسائل التقنية الحديثة. ولذلك فالأمر يحتاج إلى تيقظ أكثر للقيادة، ووعي فائق للشعب حتى يمكن تجنب الكارثة. إن أسوأ ظروف الحكم هو ما يعطي الفرصة ليد المستعمر ليدخل في ثنايا الشعب وينشر التعصب الديني، ليعبث بمقادير البلاد، سواء عن عدم الحنكة السياسية أو عن العمالة ، أو عن الإهمال والتغافل أو لأي سبب آخر. ويلزم أن نعترف أن هذا هو الواقع المصري اليوم.
4. الشعب المصري بطبعه من أكثر شعوب الأرض تدينا. وبقدر ما كان الدين في مصر مصدرا حضاريا خصبا بقدر ما كان فرصة هائلة للمستعمر لبث كل صنوف التخلف والتعتيم وزرع كل أسباب الصراع والانقسام باسم الدين المتوشح بالسلطان الإلهي.
من كل ما سبق نرى أن الوعي القومي وقوة التماسك الشعبي ووحدة نسيج الأمة هم أجهزة المناعة للكيان المصري ضد عدو يعمل في الظلام، دائم التربص بأمنها وسلامتها. ولقد كان الوعي القبطي الوطني هو خط الدفاع الرئيسي الذي صد هجمات الاستعمار بكل كفاءة وجسارة عبر الأزمان. إن اختراق هذا الخط الدفاعي الرئيسي اليوم لهو علامة مفزعة تهدد بسرعة قدوم كارثة محققة. دعنا نتكلم عنه بكل الصدق وكفانا تعتيم قبل أن نفاجأ بالكارثة. ماذا حدث لهذا الخط في الثلث الأخير من القرن العشريين؟
وقبل الخوض في الحديث يلزم أن نقدم للقارئ الخلفية التاريخية لهذا الموضوع
خلفية تاريخية
لقد كان الأقباط هم عماد الوطن والوطنية في كل مجالات العمل في مصر الذي ظل متماسكا وحتى العقد السادس من القرن العشرين. فالأقباط كانوا في موقع الصدارة من كل أنشطة الدولة. فمثلاً كانت الجامعة المصرية بكليَّاتها وأقسامها يتصدرها عقليات عملاقة من الأقباط إلى جانب المسلمين، حين كانت الجامعة تتمتع بالسمعة الطيبة عالميا على المستوى العالمي. فلقد كانت النزاهة والصدق هما معيارا العمل الجامعي والبحث العلمي دون تفرقة دينية أو شخصية، فمثلاً لم يكن ابن الأستاذ الجامعي يميَّز عن غيره من الطلبة. لقد بدأ عنصر التعصب الديني يزحف علي الجامعة تدريجيا منذ أربعينات القرن العشرين حيث بدأت الجامعة في خطها الهابط إلي أن بلغت ما بلغت إليه اليوم. وما نقوله علي الجامعات ينطبق أيضا علي كل مناحي النشاط الإنساني من سياسة واقتصاد وثقافة وفنون... فقد شارك فيه الأقباط بنصيب وافر. فكثيراً من كبار السياسيين وأعضاء البرلمان والأطباء والمهندسين والمحامين والكتاب والأدباء والفنانين... كانوا من الأقباط وكانوا موضعاً للثقة سواء من ناحية التفوق العلمي أو من ناحية النزاهة والسمعة الطيبة. وقد كان وجود الأقباط فوق قمة أجهزة العمل الوطني هو نتيجة لثورة سنة 19 بزعامة سعد زغلول ضد الاستعمار، والتي كانت قد أزكتها القومية المصرية، بوحدة الهلال مع الصليب. وقد كان لوجودهم علامة صحية تعبر عن الوحدة الوطنية وحق المواطنة لكل مصري طبقا لمعيار الكفاءة والقدرة على العطاء الوطني، وليس طبقا للتعصب الديني أو العرقي. كانت هذه الوحدة الوطنية تشكل درعا مانعا قويا يحمي العمل الوطني المصري.
كانت بريطانيا تعرف كيف تلعب بالدين في العمل السياسي كوسيلة فعالة لضرب العمل الوطني في مصر، فالشعب المصري متدين بطبعه سواء المسلمين أو المسيحيين. تأسست جماعة الإخوان المسلمين أولا في لندن في عام 1928، ردا على ثورة سعد زغلول الوطنية وعلي الدستور. بزغت حركة الإخوان المسلمين من مدينة الإسماعيلية حيث كانت تتمركز قوة قيادة الاحتلال البريطاني في مصر. فكانت المدينة مركزا لنشاط أجهزة الأمن البريطانية، حيث تُدبَّر كل المؤامرات وتحاك كل الجرائم ضد الشعب المصري. في هذه المدينة بالذات لم يكن ممكن أن يقوم أي نشاط سياسي إلا بتدبير أجهزة الأمن البريطانية. بعد الحرب العالمية الثانية بدأ النشاط السياسي للإخوان في التزايد من خلال المظاهرات الدامية والاغتيالات السياسية والتحرش بالمسيحيين، مما شتت الجهد الوطني وثبط همته عن القيام بأي عمل فعال من أجل الخلاص من الاستعمار، الأمر الذي كان موضعاً لآمال وأحلام الشعب المصري كله. إن التيار السياسي المتأسلم الذي بدأ بترتيب المستعمر البريطاني، شجعه الملك فاروق واستثمره لحسابه الخاص فلقد كان يتبارى مع الإنجليز في استقطاب التيار الإسلامي. ومما زاد الأمر سوءً ظهور بعض القيادات السياسية الملوثة والعميلة للملك مثل إسماعيل صدقي وعلي ماهر وأمثالهم ممن كانوا يعقدون الصفقات السياسية القذرة لبيع مصر. كما ظهرت الأحزاب السياسية التي كانت تبيع نفسها لكل مشتري وعلى رأسها حزب مصر الفتاة، الذي كان يفاوض الألمان لكي يساوم الإنجليز علي بيع مصر. وفي كل هذه المساومات كان الإخوان المسلمين هم الشريك الفعال المؤثر الذي يرجح كفة المساومة. أما القيادات القبطية المترفعة عن هذا التدني فقد التزمت بالشرف والوطنية، فكانت بمنأى عن كل هذه العمليات القذرة. لقد كان الأقباط في ترفع وطني فريد حتى أن المستعمر لم يحاول أن يبذل أي جهد للتقرب منهم بل كان يبذل قصارى جهده في تقويض الوحدة الوطنية لضرب الوجود القبطي علي الساحة السياسية. ولقد كان هذا الوجود القبطي علامة صحية ومقياس لسلامة جهاز المناعة القومي، وعلامة قيامه بالدور المنوط به. وكان هذا القياس نفسه يستخدمه الملك مع المستعمر بل يستهدفه لتدمير العمل الوطني في مصر بإشعال التيار الإسلامي. وعند قيام الثورة كان هذا التيار قد تغلغل في كل مناحي الحياة المصرية.
بعد قيام الثورة حاول عبد الناصر (شخصيا) الاحتفاظ بطبقة قبطية من المثقفين في مواقع المسئولية، بل جاهد في تنميتها واستثمارها لمصلحة مصر. فقد كان يقترب من المثقفين الأقباط ويقربهم منه كلما سنحت له فرصة. ولقد عمل جاهدا لدرء المظالم عنهم بقدر المستطاع. إلا أن التيار السياسي المتأسلم الممتزج بالتعصب الديني المرير كان قد بدأ قبل عبد الناصر بسنين طويلة. وكان الملك شخصيا يعمل علي تنمية التيار الإسلامي لحساب نفسه. وعند بدء الثورة كان هذا التيار قد تغلغل في كل مناحي الحياة المصرية. ولقد حاربه عبد الناصر بلا هوادة، إلا أنه لم يكن من المكن إزالته تماما فقد كانت سمومه قد استشرت إلى أعماق الفكر المصري على المستوى الشعبي. والأمر الأخطر أن مجلس قيادة الثورة نفسه (عدا عبد الناصر) كان ملوثا بفكر التعصب الديني، فكان من سدنته أنور السادات (من حزب مصر الفتاة)، وحسين الشافعي وكمال الدين حسين الذي شغل منصب وزير التعليم. ورغم كل الغلالة المتأسلمة المحيطة بعبد الناصر استطاع أن يعمل الكثير للأقباط من أجل توحيد الصفوف واستثمار كل المشاعر الطيبة من أجل العمل الوطني الواحد. ومن بين أعماله : قراره الشجاع بإلغاء البند الثاني من الدستور (عام 1958) والذي ينص على أن "دين الدولة هو الإسلام" والقرآن مصدر من مصادر التشريع". وظل القانون معطل إلى أن أعاده السادات وبصورة أكثر رجعية لم يسبق لها مثيل في التاريخ المصري. عبد الناصر زاد نسبة قبول المسيحيين في الكليات العسكرية إلى 10% بعد أن كانت 2% وقد أعاد السادات النسبة إلى 2% ثم أحال العديد من الضباط المسيحيين إلي التقاعد في أول نشرة بعد حرب أكتوبر (يناير 1974). في زمن عبد الناصر توقف تماما الاعتداء علي المسيحيين والكنائس الذي بدأ أيام الملك. فبالرغم من العدد الكبير من الكنائس الذي تم بناءه في عصر عبد الناصر، لم يتعرض لهذا العمل أي من أفراد الشعب أو المسئولين. وفي بداية عصر السادات أحرقت كنيسة الخانكة كأول أعمال العنف بعد الثورة، ثم تزايدت هذه الأعمال بصورة مطردة خاصة بعد حرب أكتوبر واتفاقه مع إسرائيل. عبد الناصر أجج الشعور القومي والوطني وأشعل حب الوطن وروح الانتماء بين الشباب مسيحيين ومسلمين بصورة لم نعهدها في أيام الملك، وطبعا الشعور بالانتماء قد مات تماما في عصر السادات. ورغم حرص عبد الناصر الشديد علي عدم المساس بالأقباط وحقوقهم فلم يخلو الأمر من تجاوزات بل كانت هناك معاناة من دعاة الدين الذين شوهوا جهد عبد الناصر، في وحدة مصر، وتوفير حق المواطنة للجميع.
وبعد هذه اللمحة التاريخية الضرورية يمكن للقارئ متابعة الأحداث التي أدت إلي تمزيق جهاز المناعة القبطي في جسد مصر.
أولا: دور الدولة في تمزيق جهاز المناعة القبطي في جسد مصر:
لا شك أن السادات هو صاحب الفضل الأول في تهميش ثم تدمير دور القيادات القبطية في مصر وبالتالي ضرَب جهاز المناعة المصري في مقتل، الأمر الذي لم يحدث في أي وقت مضى، حتى في أكثر عصور الظلمة والجهل والتعصب. فحتى في العصر العثماني وعصر المماليك كان هناك استمراراً للدور الريادي للأقباط والذي لم ينقطع عبر التاريخ. وتمادى السادات في خطواته لتمزيق الكيان القبطي وإحكام القمع السياسي ضدهم، حتى وصلوا إلي ذروة المعاناة والاغتراب داخل بلدهم، فبعد أن أعطوا لوطنهم كل غالي وثمين، بالعرق والدم، عبر تاريخ طويل مُسجَّل، تنكرت لهم السلطات فجأة، فوجدوا أنفسهم بلا هوية وبدون حق المواطنة في بلدهم. صوت الخطباء المدوي من ميكروفونات المآذن تتهمهم بالكفر والشرك وتطلب لأولادهم اليتم. الدعاة الأفاضل من أمثال الشيخ الشعراوي يشنفون آذانهم بكل مهانة وتسفل على شاشات التلفزيون، ولا يستطيع أحد الرد عليهم. فكل المتسفِّلون في حماية القانون، في عمل ضد القانون، وضد حق المواطنة، في دولة العلم والإيمان! تأذي الأطفال في مدارسهم من معلمي الدين، من دعاة الانقسام والفرقة والتكفير تحت سمع وبصر المسئولين دون أن يحركوا ساكنا. الكتب الدراسية والنشرات الحكومية الرسمية تنعتهم بالكفر وتصفهم بكل شر. تأذي شبابهم ورجالهم ونساءهم في أعمالهم ومعاملاتهم اليومية وتعرضوا لأخطار أمنية دون أي مبادرة من القيادات السياسية والأمنية والثقافية. تأذت مسامعهم بكل تهمة قذرة، بسبب التخلف الثقافي والحضاري التي بلغت إليه مصر، التي كانت هي مصدر البعث الحضاري لكل الأرض. مصر الزخم الحضاري مصر الأم هتف ضدها الرعاع "لا قومية ولا وطنية" ولم يحاكمهم أحد على جرم الخيانة العظمى.
من الشباب القبطي من ترك بلده محطماً، فماذا نتوقع له بعد أن وجد نفسه حرا؟ ماذا نتوقع من رد الفعل، بعد معاناته في بلده بهذه الصورة الآثمة؟ ماذا ننتظر من شاب صغير لم يتمرس علي مفهوم الوطنية في بلده بشكل عملي، (كما كان الحال في أيام جمال عبد الناصر) بل فتح عينيه ليري مجتمع يلفظه ويتنمر له دون سبب واحد إلا لأنه قبطي أي مصري. فلو انحرف هذا الشاب فليس الذنب ذنبه بل إنها مسئولية من دفعه للانحراف. إن اضطهاد أقباط مصر لهو واقع بدأه بصورة مروعة السادات منذ أن أطل علينا بوجهه وأنيابه وخيانته. أن اضطهاد أقباط مصر حقيقة من ينكرها كذاب وأعمى. ولقد اخذ السادات أجره ممن أعطاهم الحق في أذية الأقباط. اضطهاد الأقباط هو أحد مظاهر التخلف الثقافي الذي انزلق بمصر كلها لفساد يرين بظلاله الكئيبة، مؤثرا بشكل مباشر علي كل فرد سواء كان مسلم أو مسيحي. فالمسلمون ليسوا في حال أفضل نتيجة للوضع الفوضوي الذي تعانيه مصر كلها نتيجة للتعصب والفساد والتمزق الفكري. يكفي النظر إلي شباب مصر المتعطل الممزق الضائع لندرك حجم المحنة التي يعيشها وطننا اليوم، مسرعاً الخطو نحو كارثة.
لست أجد تبريراً لمن أخطأ في حق الوطن مسيحيا كان أم مسلما. ولكن من مد يده للمستعمر ليضرب أبناء وطنه ويشيع الإرهاب والقتل والدمار المادي والمعنوي من أجل حفنة من الدولارات ، هو أكثر جرما بما لا يقاس ممن عانى الغبن والقهر فمد يده مستغيثا بنفس المستعمر. في كلتا الحالتين المستعمر هو المستفيد الأوحد من الفتنة الدائرة في الظلام، متحجبة خلف أردية السواد باسم الدين. من العجيب أن الخائن الأول يرفع صوته عاليا بلا خجل، لاتهام الثاني بالعمالة حتى يشغل الناس عن جرمه الأكبر وعمالته الأبشع والأقوى أثرا بما لا يقاس. وفي هذا الجو من البلبلة يضيع الحق تحت إشراف وتنسيق مايسترو خبير بالخراب فيمزق الوطن تحت ضربات في مقتل.
لقد ضرَب السادات جهاز المناعة الرئيسي في جسد الوطن، مما يُعرِّض مصر كلها لكارثة محققة علي المدى القريب والبعيد. إن التعصب الديني في مصر حقيقة تحتاج إلي دراسة علمية تاريخية اجتماعية واعية على مستوى الدولة ومعاهد الأبحاث والصحافة وأجهزة الإعلام في مصر. إن ترك هذا الموضوع دون حل يعطي الفرصة سانحة لأعداء مصر للتدخل بحجة الحل وفي هذا كارثة. إن الشرخ بين عنصري الأمة يزداد اتساعا، وحدة الخلاف تزداد على كلا الجانبين بشكل مخيف ينذر بخطر لا أريد أن يفاجئنا بكارثة داهمة. إن المسكنات والتعتيم وعدم الشفافية والتغطية على هذا الواقع من جانب، ثم الجهل بحقيقة الأمور والتجاهل يزيد الأمر خطورة . ألم يحن الوقت بعد للعلاج قبل أن تطل علينا الكارثة؟ ألم يحن الوقت بعد ليلتقي شرفاء هذا البلد من مسيحيين ومسلمين ليوقفوا هذه المهزلة الدائرة ضد مصر وأمنها لحساب المستعمر، حتى بعد أن برزت علينا أنيابه وأطلت علينا مخالبه؟ حتى متى يقف عقلاء مصر في موقع المتفرج لنلقى قدرنا المحتوم دون تدبر أو فطنة؟!!!
ثانيا - دور الإدارة الكنسية في تمزيق جهاز المناعة القبطي في جسد مصر:
من العجيب أن يتوازى خط الرئيس أنور السادات المدمر للكيان القبطي مع خطا آخر لا يقل عنه خطرا من داخل الكنيسة. من العجيب أن تعبث بنا الأقدار حتى يتزامن المساران. فبقدر ما حارب السادات، المثقف والمفكر القبطي، بقدر ما قامت الإدارة الكنسية بنفس العمل وفي نفس الوقت. فالمثقف القبطي -المسالم الذي يحترم نفسه وعقله- وجد نفسه خارج المجتمع المصري، لا يجد مجالاً لتوظيف إمكانياته الضخمة لخدمة الوطن. وفي نفس الوقت لفظته الكنيسة ورفضت مساهماته الضرورية في العمل القبطي، الذي هو عنصر حيوي لكل العمل الوطني. فالبابا المتمركز حول شخصه مؤلها ذاته، ليصير وحده كل شيء ، ليس فقط على المستوى الكنسي بل علي المستوي القبطي بكل أنشطته. الدولة رحبت بتصرف البابا جدا حتى يرتاح بالها ويكون تعاملها مع شخص واحد تستطيع أن تسكته أو تساومه ويساومها على حساب المصلحة القومية للأقباط بل علي حساب أمن جهاز المناعة في جسد مصر.
البابا من حقه وحده أن يفكر فينصاع الجميع لقراراته، وعليهم التنفيذ دون حق التفكير. من حق البابا أن يأمر فيطاع دون أي دراسة لقراراته ودون مشورة أو تدبُر، الأمر الذي لم تعرفه الكنيسة القبطية في تاريخها الطويل عبر ألفين من الأعوام. فهو الأوحد صاحب السلطان الإلهي ومن سلطانه يتسلسل السلطان إلى باقي الرتب الكنسية. أما "العلماني" كما يحلو لهم أن يلقبوه- أي الشعب والمثقفون (تسميهم الكنيسة الأراخنة أي الرؤساء) فهم جميعا خارج هذا التسلسل السلطاني تماما. وأي مثقف (أرخن) ممكن الاستفادة منه يلزم أن يوضع تحت العمة حتى يكون تحت السلطان المباشر للبابا حتى لا تسول له نفسه أن ينطق بما لا يقوله البابا. أما المثقف الذي يرفض الدخول تحت العمة فيلزم محاربته وعزله وتكفيره، وبذلك لا يمكن وضع إمكانياته في خدمة المجتمع الكنسي أو المصري مهما كانت ثمينة، ولازمة وضرورية. وكما رحبت الدولة بإسكات الكنيسة للمثقف القبطي، استثمر البابا ما فعله السادات من ضرب المثقف القبطي لحساب نفسه، فأخرس البابا كل صوت قبطي في الكنيسة وخارج الكنيسة. وأبطل كل نشاط كنسي حتى أعمال الرحمة إلا إذا كان يحمل اسمه وصورته ويخضع له ماليا وإداريا.
ويمكن لمن لم يعي التاريخ الكنسي أن يتصور أن هذا هو الوضع الكنسي أصلاً، والواقع أن القانون الكنسي والكتاب المقدس يعلِّمان بغير ذلك تماماً. فأراخنة الشعب (العلمانيون) هم أعلى سلطة في الكنيسة، فهم وحدهم الذين يرشحون الأفراد لانتخاب البابا والأساقفة وكل قسوس الشعب، الأمر الذي أهمل تماما في هذه الأيام. الأراخنة (وليس كما يلقبونهم بالعلمانيين) هم أصحاب المشورة ومن حقهم تقويم الأسقف والبابا إذا أخطأ، ومن حقهم طلب محاكمته وعزله كما حدث في إقصاء الأنبا يوساب الثاني عن كرسيه في عام 1956. الأساقفة والكهنة هم خدام (كما تسميهم كل كتب الكنيسة) يقاموا من أجل الشعب، كما يعرِّف القديس بولس رئيس الكهنة، "يقام لأجل الناس في ما لله" (عب 1:5). فليس الشعب من أجل الكاهن بل الكاهن من أجل الشعب. يقام في حدود ما لله فقط. يقام للخدمة الدينية والرعاية، وفي المقابل يستوجب الكاهن الإكرام والاحترام. أما في عصر الأنبا ِشنودة فالصورة أصبحت معكوسة، فالبابا هو سيدنا الذي يحلو له أن يلقب نفسه "بصاحب أخطر وظيفة على الأرض". فهو صاحب السلطان الإلهي الأوحد في الحل والربط. وهذه هي نفس الصورة المظلمة "لأصحاب الحل والعقد" على الطرف الآخر المتأسلم والذي زج بالعالم لهاوية الإرهاب. وبذلك تملَّك الإرهاب الفكري على كلا الجانبين، المتأسلم والمتمسح، ليدمر الفكر المصري، مدججا بسلاح السلطان الإلهي والعصمة الدينية.
لقد أسكتت وأبكمت الإدارة الكنسية صوت المثقف القبطي فوجد نفسه مهمشا داخل الكنيسة وخارجها وكل من كان يحترم نفسه صمت عن الكلام. وعندما يصمت العقلاء والمثقفون يرتفع صوت الجهلة والحمقى. الإدارة الكنسية لا تخاف الحمقى والمنتفعون والجهال بل إنها تشجعهم سرا حتى يظهر صوتها وكأنه مؤثر ورزين في العلن.

إن مصلحة مصر العليا هي في أن تتعامل الدولة مع المثقفين من الأقباط مباشرة

وللحديث في مشكلة الكنيسة مع المثقفين بقية طويلة جدا



#سامي_المصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البابا شنودة وانتخابات الرئاسة
- انغلاق العقل القبطي في عصر البابا شنودة
- حول الأزمة الدينية في مصر : الخلل الذي كشفته وفاء


المزيد.....




- ترامب يتهم اليهود المؤيدين للحزب الديمقراطي بكراهية دينهم وإ ...
- إبراهيم عيسى يُعلق على سؤال -معقول هيخش الجنة؟- وهذا ما قاله ...
- -حرب غزة- تلقي بظلالها داخل كندا.. الضحايا يهود ومسلمين
- عالم أزهري: الجنة ليست حكرا على ديانة أو طائفة..انشغلوا بأنف ...
- عالم أزهري: الجنة ليست حكرا على ديانة أو طائفة..انشغلوا بأنف ...
- يهود متطرفون من الحريديم يرفضون إنهاء إعفائهم من الخدمة العس ...
- الحشاشين والإخوان.. كيف أصبح القتل عقيدة؟
- -أعلام نازية وخطاب معاد لليهود-.. بايدن يوجه اتهامات خطيرة ل ...
- ما هي أبرز الأحداث التي أدت للتوتر في باحات المسجد الأقصى؟
- توماس فريدمان: نتنياهو أسوأ زعيم في التاريخ اليهودي


المزيد.....

- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود
- فصول من فصلات التاريخ : الدول العلمانية والدين والإرهاب. / يوسف هشام محمد
- التجليات الأخلاقية في الفلسفة الكانطية: الواجب بوصفه قانونا ... / علي أسعد وطفة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامي المصري - الشعب القبطي يتمزق بين شقي حجر الرحى الدولة و الكنيسة