أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ملحمة الملك لقمان (9) ولادة وتنبؤات مأساوية!















المزيد.....



ملحمة الملك لقمان (9) ولادة وتنبؤات مأساوية!


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4795 - 2015 / 5 / 3 - 02:24
المحور: الادب والفن
    


(9)
ولادة وتنبؤات مأساوية!
أطرق الملك لقمان قليلاً قبل أن يُشير بحركة ثانية من يده، فقد أضمر أن يدعو إلى حفل تتويجه وزفافه كل من: عشتار وإيزيس وعشتاروت وعناة وتيامه وإنانا وأثينا وأفروديت والعذراء، ودليلة، والمجدليّة، ورحاب، وكليوباترا، وزنّوبية، وبلقيس، وعائشة، وزينب، وخديجة، وماريا، وهيلين الطرواديّة، وابنتها هرميونة، وبنلوب، وغيرهن من الآلهات والنسوة المشهورات في التاريخ، وما أن أنهى تعدادهن في مخيّلته، حتى أشار بحركة من يده، فلم يظهر على المسرح أحد، فأشار ثانية فلم يظهر أحد، فثالثة فلم يظهر أحد، فقد احتار الجن في أمرهم وعجزوا عن تلبية الطّلب، فأبلغوا ملك الملوك، فالتفت إلى الملك لقمان ليراه يجاهد ليكتم غيظه، فهتف:
«ماذا فعلت يا مولاي، أربكت الجن وجعلت الفوضى تدبّ في صفوفهم بطلباتك التعجيزية!»
«وهل هناك طلبات تعجيزية على الجن أيها الملك؟»
«أجل يا مولاي، ألم أقل لك أننا لا نقدر على إحياء الموتى، وهؤلاء اللواتي طلبتهن من الموتى!»
«لكن بعضهن من الآلهة، هل مُتْن هُنّ الأخريات؟!»
«إن لم يمتن، فإنّ قوانا لم تستطع بلوغهن يا مولاي!»
«أليس في وسعكم أن تعرفوا ما إذا كنّ ميّتات أو على قيد الحياة أيّها الملك؟!»
«ليس بهذه السّهولة يا مولاي!»
«لكني قرأت عن جنّي يُدعى «مفستوفيلس» جاء بهيلين الطرواديّة وخاطفها باريس وغيرهما»
«ربما أستحضر أرواحهم يا مولاي لكنه لم يحييهم!»
«هل هذا يعني أنّه في مقدوركم استحضار أرواح بعض هؤلاء اللواتي طلبتهن؟»
«كل من هُمْ من البشر نستطيع استحضار أرواحهم يا مولاي!»
«هذا عظيم! يعني إذا طلبت روح «زيوس» مثلاً وحضرت، فهذا يعني أنّه كان بشراً ولم يكن إلهاً»
«هذا صحيح يا مولاي»
«وإذا طلبت روح «هيلين» ولم تحضر، فهذا يعني أنّها شخصيّة خياليّة، وليس لها روح!»
«بالضبط يا مولاي»
«وإذا أردت إيجاد روح لشخصيّة خياليّة ألا يمكن أن يتمَّ ذلك؟»
«لا! لا يُمكن يا مولاي!»
«وإذا أردت تجسيداً لها حسب مواصفات معيّنة أُمليها أنا؟»
«ممكن أن تتقمّصها إحدى فتيات الجن يا مولاي إذا كانت أنثى، أما إذا كانت ذكراً فيمكن أن يتقمّصها ذكر!»
«حسن، فيما يتعلق بالشخصيات الحقيقية، هل لك أن تقول لي ما هو الفرق بين استحضار الرّوح واستحضار الجسد؟»
«الجسد الأصلي لا يُستحضر يا مولاي!»
«ما الذي يُستحضر إذن؟»
«جسد بلا روح يا مولاي»
«عجيب أمرك أيها الملك، كيف تقول أنّكم تستطيعون استحضار الأرواح، وكيف يمكن استحضار أجساد بلا أرواح؟!»
«الروح والجسد لا ينفصلان يا مولاي، إنّهما كُلٌّ واحد ، وما نستحضره هو روح وهميّة بجسد وهمي!»
«تقصد بلا حياة!»
«أجل يا مولاي»
«وهل يمكن أن نتحدّث مع هذه الروح وأن نمارس شيئاً مع هذا الجسد؟»
«يمكن أن تتحدث يا مولاي، لكن لا يمكن أن تمارس شيئاً مع الجسد لأنّه وهم!»
«حتى أنت ستجنني أيّها الملك، كيف يمكنني أن أتحدّث مع الروح ولا أستطيع أن أمارس شيئاً مع الجسد؟!»
«لا أعرف يا مولاي»
«جيد أنك لا تعرف أيها الملك، لأنك قُدتنا إلى حوار عقيم!»
«أنت الذي طلبت منّا طلبات خارقة يا مولاي!»
«طيّب! هل تظن أنّ هُناك بين الجن من يستطيعون استحضار الأرواح الحيّة، أي الأقرب إلى إحياء الموتى؟!»
«أظن أنّ الشياطين يستطيعون فعل ذلك يا مولاي!»
«يحيون الموتى؟»
«هذا ما أسمعه يا مولاي!»
«حسناً أيها الملك، ماذا لو استحضرت الآن بعض الأرواح الإنسيّة، حسب إمكانياتكم طبعاً، إذ ليس لدي إمكانيّات شيطانيّة، ولا أعرف فيما إذا كانت الإمكانيات الدامرداسيّة قادرة على ذلك، لعلّني أعرف كيف ستظهر هذه الأرواح الوهميّة!!»
«أرجوك ألا تفعل ذلك يا مولاي، ويمكنك أن تقوم به وحدك فيما بعد، لتعرف الفرق بين الوهم والحقيقة!»
«لماذا أيها الملك؟»
«ستثير الرعب في قلوب الجميع إنساً وجنّاً»
«هل تخافون الأرواح أنتم أيضاً؟»
«كثيراً يا مولاي»
«لِمَ تخافونها؟»
«لأن لها قدسيّة في نفوسنا يا مولاي!»
«ليكن أيها الملك، سأترك ذلك إلى ما بعد»
«أحسّ الملك لقمان بخيبة أمل، فعادت نفسه إلى مساورة القلق، ومدّ يده اليُسرى على كتفي الملكة نور السماء وضمّها إليه وكأنّه يبحث عن الأمان والعزاء والإخلاد إلى الطمأنينة.
ألقت الملكة رأسها على كتفه وهي تأخذ يده إلى حُضنها وتحتويها بيديها وتستغرق في سكون وتأمّل، وكان الملك لقمان قد تنبّه إلى أنّه أهملها لبعض الوقت، فضمّ رأسها وقبّل شعرها بقدر ما أتاح له التاج الملكي وراح يهمس لها:
«أعتذر يا حبيبتي لإطالتي الكلام مع ملك الملوك»
«لا عليك يا حبيبي فقد كنت في شوق للتحدّث إلى أمّي وأبي وأختي ولم أشعر بابتعادك عنّي»
«أُحاول أن أنسى ما يجول في ذهني وأتوحّد بفيض حُبّك، غير أنّ مخيّلتي الهوجاء تسوق أمامي الرّؤى والتخيّلات المستحيلة حتّى على قدراتكم الخارقة!»
«أعلم أنّ طموحات حبيبي أعظم من أن تحققها خوارق الجن، لكني سأعمل على تحقيق المستحيل كي يهنأ قلب حبيبي»
«ما أجمل كلمة حبيبي وهي تنثال من شفتيك كنسيم نديٍّ، هل تعديني ألا تخاطبيني إلا حبيبي»
«أعد مولى قلبي ألا تنطق شفتاي ولا يدور على لساني إلا اسم حبيبي وكل الكلام الجميل»
«المسرح خلا من الراقصات ألا ترغب حبيبتي أن أقدّم لها ما يُضفي على فرح مهجتها فرحاً»
«أرغب أن أرى ما يجول في أعماق حبيبي معزوفاً بألحان الموسيقى»
«إن ما يجول في أعماق نفسي لأكبر من أن تعزفه موسيقى الأكوان كلّها يا حبيبتي، ولن تجدي فيه غير الحزن والألم والعذابات، ولو أنّ عزفي جميل لأسمعتك لحناً يصوّر بعض ما يدور في نفسي»
«هل تجيد العزف يا حبيبي؟»
«أعزف بشكل سيئ على الناي يا حبيبتي»
«أسمعنا شيئاً ونحن من سيحكم»
«أرجوك يا حبيبتي أن تعفيني كي لا أجلدك وأجلد عشرة مليارات ضيف بعزفي البائس الحزين»
«هل يعدني حبيبي أن يسمعني عزفه يوماً»
«أعدك يا حبيبتي»
«ومع ذلك أرجو حبيبي أن يطلب إلى فرقة موسيقية أن تعزف لحناً مما يجول في نفسه»
«سيكون ذلك مأساوياً يا حبيبتي، إذا ما أجاد العازفون التعبير عن بعض ما يعتلج في نفسي وتضطرم به أغوار قلبي»
«أحبُّ أن أرى شيئاً ملحّناً من أعماق حبيبي»
«وما ذنب ضيوفنا كي نغرقهم بلواعج أحزاني؟»
«بل وأحزاني يا حبيبي»
«وهل يحزن الجنّ أيضاً يا حبيبتي؟»
«نحن لا نختلف عن البشر إلا بقوانا الخارقة يا حبيبي»
وأشار الملك لقمان بحركة من يده فظهرت على المسرح فرقة موسيقية تضمُّ أكثر من مائتي عازف معظمهم من عازفي الناي والأرغول والعود والكمان والإيقاع والطبل والبزق والقانون، وغير ذلك من الآلات الموسيقية الشرقيّة والغربيّة، وقد ظهرت خلفهم فرقة كورال من عشرات المغنّيات.
ضجّ الحضور بالتصفيق الحار وانحنى العازفون والمغنيّات احتراماً وشرعوا في أخذ أماكنهم.
كان الجميع صامتين فأشار الأديب لُقمان بحركة من يده، فانساب لحن منفرد على ناي أجش، راح يتصاعد عالياً ليحلّق في سماوات الأكوان، يعبر الكواكب والأقمار، النجوم والمذنّبات، البحار والمحيطات، الصحاري والسّهوب والجبال، قاطعاً مئات آلاف آلاف الأميال ليجوب سماء فلسطين، ويرفرف في سماء القدس، ويشرع في الهبوط ليحط في حقل حصاد، ولترافقه النايات الأخرى بألحانها الأجشّة، ولتنطلق الإيقاعات بضربات خفيفة متواترة منذرة بولادة «ابن الشّقاء» وفي رواية أخرى رواها الأب أنه «ابن الزّنى» الذي سيُدعى «لقمان»:
كانت أمّه تحصد في الحقل حين جاءها المخاض، وكانت الشمس تتألّق وهي تطلُّ من خلف جبال القدس الشرقيّة لترسل أشعّتها معانقة أبراج الكنائس وقباب المساجد.
انطلق صوت مغنّيات الكورال منخفضاً بطيئاً رتيباً:
في الحقل كانت تحصد
حين جاءها المخاض
في الحقل كانت تحصد
وضعت يدها على بطنها وتأوّهت، وما لبثت أن انطرحت أرضاً وراحت تُزحِرُ وموجات الطلق تدهمها واحدة إثر أُخرى.
ضجّت كل الآلات الموسيقيّة في صخب راح يعلو تارة وينخفض قليلاً تارة ويستصرخ جائراً تارة أخرى وسط لجّة الكورال:
انطرحت أرضاً
تأوّهت الأم وانطرحت أرضاً
راحت تُزحِرُ الأمُّ
راحت تُزحِرُ وموجات الطلق تدهمها
اندفع «ابن الشقاء» من فرج أمِّه وراح يصرخ باكياً حين اصطدم رأسه بالأرض.
تصاعدت أنغام فرحة رافقها صوت الكورال:
ولد ابنُ الشقاء
في الحقلِ ولد ابن الشّقاء
وراح يصرخُ،
حين صَدم رأسُه الأرض
راح يصرُخ
وكانت أشعة الشمسِ
تعانق أبراج الكنائسِ
وقبب المساجد
في مدينة القدس
بلغت الأنغام ذروة تصاعدها، وما لبثت أن عادت إلى الخفوت والتباطؤ شيئاً فشيئاً إلى أن أخذت تتصاعد في توتّر وتوجّس، فما أن مسحت الأمُّ الوليد وأرضعته من ثديها ولفّعته حتّى أوعز الأبُ إليها أن تنهض لتستأنف الحصاد.
ألقته في حذلٍ بين غمور الحصاد، وظلّلته بمنديل فرشته على عيدان منتصبة من القصب لتعمل له خُصّاً. ونهضت تحصد القمح.
مسحته ولفّعته
ومن ثديها أرضعته
وعادت إلى الحصاد
حين أوعز إليها الأبُ
عادت إلى الحصاد
تاركة الطفل في المهد
تحت الخُصِّ
بين غمور الزَّرع
انداحت الأنغام سارحة في غياهب القدر المجهول، وما لبثت أن أخذت تتواتر، منذرة بالشؤم والرّعب، فحين جاءت الأمّ تعدو إلى الوليد في قيلولة الغداء، وسط حَرِّ القيظ، وجدت أفعى تلتف حول جسده في المهد، فلم تقدر على الصراخ كي لا تخيف الأفعى وتلدغ الطفل، ولم تقدر على فعل أي شيء، فراحت تدورُ حولَ الخُصّ حانية الظهر والرُّعب يستولي عليها لتبدو وكأنها أصيبت بالصمم والبكم والصرخات المتوجّسة المستغيثة تُكبتُ في أعماقها أو تتلاشى قبل أن تصل إلى شفتيها.
انطلق صوت الكورال منذراً بالرّعب:
أجل أفعى
حين جاءت تعدو
وسط حرِّ القيظِ
وجدت في مَهدِه أفعى
تلتف حول جسده
فأُصيبت بالصّمم والبكم
ولم تقدر على الصُّراخ
ساد الاضطراب والقلق والتّوجس ألحان الموسيقى المتصارعة، وانطلق نقرٌ رتيب على الإيقاع رافقته آهاتٌ على النّاي.
مدّت الأمُّ يديها، متوجّسة مدّت يديها، لتأخذ الطفل من أحضان الأفعى، لكن الأفعى كانت تلتف حول رجليه وتتمدد على بطنه وتلقي رأسها على صدره، فأنّى لها أن تأخذه، فأعادت يديها وجثت على ركبتيها إلى جانب المهد، وراحت تناشد الأفعى متوسّلة إليها بالله والأنبياء ألا تفجعها بوليدها:
متوسّلة إليها
راحت الأمُّ تناشد الأفعى
متوسّلة إليها:
أستحلفك بالله القدير
بالعذراء وإبراهيم الخليل
بمحمّد وموسى وابن الجليل
ألا تفجعيني بمن في المهد صغير
ألا تفجعيني بمن في المهد صغير
كانت الموسيقى تنوح بمرافقة الكورال متوسّلة بكل ما في الألحان والأنغام من قدرة على التعبير عن التوسّل والاستغاثات.
أخذت الأفعى تفكّ طيّات جسدها من حول جسد الوليد وتنزل رأسها عن صدره، وما لبثت أن غادرت الحِذل وانسابت بين غمور الحصاد.
شرعت الموسيقى في استعادة أجواء الفرح فاستعاد الكورال فرحهُ:
حلّت الأفعى نفسها
من حول الجسد الصّغير
حلّت الأفعى نفسها
وغادرت الحِذلَ
غادرت المهدَ
وانسابت بين غمور الحصاد
أوغلت الأنغام في الفرح، فقد أخذت الأم الوليد، وضمّته إلى صدرها، وعانقته، ودارت به حول نفسها فرحة به:
بالحضن أخذت وليدها
بالحضنِ أخذت الأمُّ وليدها
وضمّته وعانقته
ودارت به حول نفسها
فرحة بهِ
غير أن الموسيقى أخذت تخفت أنغامها شيئاً فشيئاً وتعود إلى التوتّر والصّراع ثانية، فقد أقبل الأب والحاصدون من الحقل، فرأوا الأفعى في طريقهم، فانحنوا يأخذون الحجارة بأيديهم ويرجمونها كي يقتلوها، فحاصروها من كلِّ الجهات:
من كل الجهات
حاصر الأب والحاصدون
الأفعى
بالحجارة من كل الجهات.. حاصروها
حين رأوها
فاستغاثت الأفعى بالأم هاتفة «أجيريني» والتجأت إلى غمرِ زرع، سمعت الأم استغاثتها فألقت الوليد في الحذلِ واندفعت تعدو صارخة بالأب والحاصدين «لا، لا تقتلوها»
بالأم استغاثت
بالأم استجارت
بالأم استغاثت الأفعى واستجارت
فصرخت:
لا تقتلوها
لا تقتلوها
صرخت الأمُّ بالأب والحاصدين
لا تقتلوها
أستحلفكم بالله لا تقتلوها
واندفعت تعدو
نحو الأفعى اندفعت
الأمُّ تعدو
توقّف بعض الحاصدين عن رمي الحجارة نحو الأفعى، فيما استمرّ الأبُ وآخرون برجمها، غير أنّ القشّ كان يحميها من وقع الحجارة على جسدها، اندفعت الأم لتلقي نفسها فوق الغمرِ حيث الأفعى، فأصابتها بعض الحجارة التي كان يقذفها الأب والحاصدون:
فوق الغِمرِ حيث الأفعى
اندفعت الأمُّ
وطرحت نفسها
فأصابتها بعض الحجارة
بعض حجارة الأبِ والحاصدين
أصابتها
تصارعت أنغام الموسيقى بجنون وسط صُراخ الأب «لِمَ أيّتها العاهرة، لِمَ أيّتها الزانية، لم تدافعين عن أفعى، هل طار عقلك، أم لأنّك أفعى مثلها؟‍‍!»
أيتها الزانية
أيتها العاهرة
قال الأبُ
لم تدافعين عن أفعى
أيّتها الزانية
هل طار عقلك
أم لأنك أفعى
لأنك أفعى مثلها
أيّتها العاهرة؟!
أغرقت الألحان في التوحّد بالألم، معبّرة عن عذابات الأم، فبكى جميع الضّيوف، عشرة مليارات من الإنس والجن شرعوا في البكاء والتوحّد مع الموسيقى والأنغام، حتّى الملك شمنهور، كان أكثر الحاضرين حُزناً، فتحوّل الجو، من جوّ فرح قبل الألحان إلى جوّ عذابات وآلام خلالها، وراح الملك شمنهور يصرخ باكياً:
«لم يا مولاي تعيدني إلى تذكّر أيّام حُزني في سجني الطّويل، لِمَ تدعني أبكي على نفسي بعدَ أن حررتني، لِمَ لا تدعني أعيش الفرح وأنسى أيّام البؤس والشّقاء والآلام، أستحلفك بمليكة قلبك نور السّماء أن توقِف هذه الموسيقى لأنّ نياط قلبي تقطّعت من فرط الحزن»
وارتفع صوت الكورال، ليُعيد الملك شمنهور إلى الصمت والدموع:
إلى حُضنها
حملت الأمّ الأفعى
إلى حُضنها
وسارت بها
إلى أطراف الحقل سارت بها
وهناك في أطراف الحقلِ
أطلقتها
في أطراف الحقل
أطلقت الأمُّ الأفعى
إلى حال سبيلها
-إلى حال سبيلها أطلقتها-
أخذت أجواء الفرح تعود إلى الأنغام شيئاً فشيئاً فيما كانت الملكة نور السماء تتشبّث بجسد الملك لقمان وتبكي معه، لتختلج دموعهما في أسمى لحظات التوحّد، فيما شرع صوت الكورال ينشد مُردداً:
بيد أنّها قبل أن تنطلق
قبل أن تنطلق الأفعى
إلى حال سبيلها
وقفت على ذيلها
على ذيلها وقفت الأفعى
وخاطبت الأمّ:
«لقمان» سيدعى ابنُك
ويكون غلاماً فصبيّاً
وسيغرق في دروب البؤس
في دروب البؤس والشقاء
سيغرق ابنُك
ويكون فدائياً!
ويكون صحفياً!
قبل أن يغدو أديباً كبيراً
أديباً كبيراً سيغدو ابنُك
وسيغدو ملكاً عظيماً
ملكاً عظيماً سيغدو ابنُك
ويحكم على الأكوان
على الأكوان سيحكم ابنُك
قبل أن يواجه قدره
ويرحل عن الدّنيا
راحت الموسيقى توغل في الفرح مجّسدةً أحاسيس الأم بعد تنبؤات الأفعى، لتعيد البسمة إلى الحزناء والباكين من ملايين المستمعين والمشاهدين.. وما لبثت أن أخذت تبطئ شيئاً فشيئاً لتتوقف.
نهض الملايين ليصفقوا بحرارة، ووقفت الفرقة لتحيّة الجمهور، ووقف الملك لقمان ورفع تاجه عن رأسه وقلبه رأساً على عقب وهو ينحني احتراماً لأعضاء الفرقة، وما لبث أن ترك المائدة وهرع ليعانق العازفين والمنشدات اللواتي استطعن أن ينقلن بالكلمة كل ما كان يدور في خياله، وكذلك فعلت الملكة نور السماء، وسط جنون التصفيق وحرارة الدّموع التي راحت تنهمر على الوجنات.
وأمر الملك لقمان أن تكون هذه الفرقة، الفرقة الخاصّة بالقصر الملكي، على أن تأتي فيما بعد إلى الكوكب الذي سيقيم عليه..
وما أن أنهى الملك لقمان والملكة نور السماء تهنئة الفرقة بالنجاح الذي حققته حتّى أشار إليها أن تعزف ألحاناً راقصة، وعاد هو والأميرة ليجلسا في مكانهما.
شرعت موسيقى فرحة راقصة تتصاعد شيئاً فشيئاً، فأخذ الناس يتحوّلون من الحُزن إلى الفرح، وما لبثت الموسيقى أن استفزّت كُلّ حواسّهم، فنهضوا جميعاً إلى الرقص، عشرة مليارات من الإنس والجن نهضوا إلى الرّقص، لتضجّ بهم كل صالات ومسارح الروض وحدائقه وممراته. إنس مع إنسيات وإنس مع جنيّات وجن مع جنيّات، وجن مع إنسيات، كُلّهم نهضوا إلى المرح والفرح والرقص، كلّهم دُفعوا إلى اللهو حين ناداهم من أعماقهم هاجس، طالباً إليهم التمتّع بالفرح بعد أن تحسسوا ويلات الحزن. فراحوا يغرقون في اللهو المُجوني والرّقص الجنوني، ماعدا الملك لقمان والملكة نور السماء، اللذان اتّحدا في جسد واحد بعد أن نهضت الملكة لتجلس في حضن الملك ليحتويها بكل جسده، وفيض مشاعره، ويتمنّى لو أنه في مقدوره أن يشقّ جوانح صدره ليبقيها فيه.
همست الملكة وهي تطوّقه بيديها لتداعب أنفاسها أُذنه:
«هل كانت هذه حقاً ولادة حبيبي، كنت خائفة أن تلدغك الأفعى»
قبّل أُذنها قبلات خفية وهمس:
«إذا صدقت أمي يا حبيبتي»
انتعش جسدها وقشعريرة لذيذة تجتاحه من جرّاء تقبيلها على أذنها والهمس فيها.
«أكانت ولادة حبيبي مخيفة إلى هذا الحد؟!»
«لم تكن ولادتي إلا بداية شقاء يستحيل أن يحتمله بشر يا حبيبتي»
«ومع ذلك احتمله حبيبي»
«لأن كل ما تعرّضت له من شقاء بعد ذلك لا يختلف كثيراً عن شقاء الولادة والطّفولة، بل كان أرحم في بعض الأحيان»
«متى سيحدثني حبيبي عن حياته؟»
«لا أعرف، ربّما أُحدثك عن شيء منها، أما عنها كُلّها فهذه مسألة طويلة تحتاج إلى روايات! فهناك فترة الطفولة وحتى سن المراهقة وهربي من بيت أبي، وهي أقسى ما عشته. تأتي شقاواتي الأخرى حتى سن ما بعد العشرين، حيث فترة النضال التي كُلّفت فيها بمهام صعبة، ودخلت السّجون.. ومن ثمّ تحوّلي إلى الصحافة والأدب منذ سن الرابعة والعشرين، أي نصف عمري الآن، وهذه الفترة شهدت الكثير من الأحداث، ففيها تزوّجت مرّتين وعشقت كثيرات، وارتكبت حماقات مع عاهرات وغير عاهرات من الإنسيّات! وكتبت بعض القصص والروايات.. أما الأهم في حياتي فهو ما يبدأ بمحاولة انتحاري وعثوري على ملك الملوك وقدومك إليّ وزواجي منك وتتويجي ملكاً، وما لا أعرف إلى أين سينتهي»
«هل ستكتب ذلك إذا ما أتيح لك؟»
«تقصدين حياتي كلّها؟»
«ممكن، لماذا لا أكتبها إذا ما أُتيح لي ذلك، أظن أن فيها ما يمكنه أن يفيد البشر، خاصّة إذا ما تحدّثت بصدق، فالأدب دون صدق ليس له أيّة قيمة حقيقية يا حبيبتي»
«وهل ستكتب عنّي يا حبيبي؟»
«وهل يعقل أن أنسى روحي يا حبيبتي؟»
«إذن ستكتب عنّي بشكل جميل»
«لا أظن أنني سأكتب في حياتي أجمل مما سأكتبه عنك يا حبيبتي»
«متى سأقرأ بعض كتابات حبيبي السابقة؟»
«بعد أن نأتي بها من الأرض»
«هل فيها شيء من حياتك؟»
«كثير يا حبيبتي، فأنا لا أستطيع الكتابة خارج حياتي وأفكاري، فأزجُّ بشيء منها في أدبي، أو أستوحي منها»
«لكن هل سيصدّق القُرّاء أنّك تزوّجت من حوريّة جنيّة وأصبحت ملك ملوك؟!»
ولِمَ لا يصدّقون طالما أنّ هذا هو ما حَدَث بالفعل يا حبيبتي؟ سيصدّقون قطعاً، وسيصدّقون أنني سأُنجب من هذه الحوريّة طفلاً نصفه الأعلى ملاك جنّي، ونصفه الأسفل إنسي، فنحن شعوب المعجزات يا حبيبتي، ولا نصدّق غير المعجزات، وقد صدّقنا أن الله نفخ في فرج فلسطينية لتنجب لنا يسوع المسيح، وصدقنا أن النّبي محمد صعد إلى السماء السابعة والتقى الله، فلمَ لا نصدّق أنني سأنجب منك نسلاً جديداً يوحّد بين الإنس والجن في الجسد والعقل، وهذا ما سيحدث بالفعل إذا صدقت تنبؤاتي يا حبيبتي!!»
وغمرت الملكة نور السّماء فرحة كبيرة وراحت تطوّق عنق الملك لقمان فيما هو يحتضنها ويتابع:
«وسيتكلّم هذا الفتى في المهد وسندعوه «قاهِر الأكوان»»
«لا يا حبيبي هذا الاسم لا يعجبني»
«سمِّهِ أنتِ»
«سنسمّيه قمر الزّمان!»
«لا! أُريد اسماً جديداً وليس من ألف ليلة وليلة!»
«طيب! نسمّيه غيث السماء»
«غيث السماء؟»
«أليس جميلاً؟»
«غيث ومطر وأعاصير وعواصف وسحب، ألا يوجد غير هذه التسميات؟»
«آه! ذكّرتني، سحُب، سنسميه «سحب السماء» يا حبيبي، أنا فعلاً أحبّ هذه التسميات!»
«يبدو أنّك تصرّين على أن يظل الاسم مقترناً باسمِك»
«أليس جميلاً هذا الأخير؟»
«يعني، لا بأس به، ما رأيك أن نحل الموضوع بيننا؟»
«وهل سنتشاجر منذ الآن على تسمية الغُلام يا حبيبي؟»
«لا يا حبيبتي لن نتشاجر، كُنت أودّ أن نجمع السماء أيضاً ونسميه "سُحب السماوات!"»
«الأمير سُحب السماوات ابن الملك لقمان ابن الملكة نور السماء! جميل يا حبيبي، أنا موافقة»
«عظيم، إياك أن تتراجعي!»
«لا لن أتراجع، وماذا بعد؟»
«تريدين أن أتنبأ بمستقبله بعد ذلك؟»
«بل وبمستقبلنا أيضاً يا حبيبي»
«وهل أنتم تحبّون الأحلام والتنبؤات مثلنا معشر الإنس؟»
«إنها المرة الأولى التي أحلم فيها في حياتي يا حبيبي، أكمل أرجوك!»
«يا حرام يا حبيبتي، سأحلُم لك كل يوم!»
«هيّا احلم لي يا حبيبي أرجوك»
وراح الملك لقمان يربت على ظهرها وهي تستكين إلى حُضنه كطفل، فيما كان الرّقص على أشدّه في الرّوض.
«سيكون ابننا الأمير سُحب السموات، أجمل غلمان السموات والأرض، بحيث لا تنظر إلى جماله امرأة إلا ويُغمى عليها، ونظراً لأن نصفه جنّي ونصفه الآخر إنسي، فإن آلاف النساء والفتيات من الإنس والجن سيغرمن به وينتحرن في سبيل حُبّه حين يشبُّ!»
«ولماذا ينتحرن يا حبيبي؟»
«لأنّهن سيغرمن به، وهو لا يستطيع طبعاً أن يحبَّ كل واحدة ستغرم به، فلا تحتمل الحياة بعد ذلك فتنتحر!! إنسيّات وجنّيات سينتحرن، بالسكاكين والسيوف سينتحرن، وبإلقاء أنفسهن من سطوح المنازل والبنايات سينتحرن، وبقذف أنفسهن من السموات إلى الكواكب سينتحرن، أو حتّى سينتحرن خنقاً بالغازات!»
وقاطع أحلامهما صوت ملك الملوك هاتفاً وهو ينحني عليهما:
«ألن ترقصا يا مولاي؟»
نظر إليه الملك لقمان بطرف عينيه وزجره:
«يا أخي حل عن سمانا قطعت حبال أحلامنا!»
نقزَ الملك شمنهور خوفاً واستقام في وقفته وهو لا يُصدّق أنه يمكن لمولاه أن يتكلّم بهذه اللغة وهذه اللهجة، فظلّ محدّقاً بدهشة إلى أن زجره الملك لقمان ثانية:
«خلص قلت لك حِل!»
دار الملك شمنهور على عقبيه وانصرف دون أن يعلم ما ألمَّ بمولاه.
«أين وصلنا يا حبيبتي؟»
«عند هؤلاء الفتيات والنسوة اللواتي سينتحرن من أجل سحب السموات، لكن!»
«لكن ماذا يا حبيبتي؟»
«لو أنّهن لا ينتحرن، فأنا لا أحبُّ الموت!»
«وماذا سأفعل يا حبيبتي إذا كان جمال الأمير سيخلب عقولهن، ويثنيهن عن رشدهن؟!»
«طيّب، أكمل لي ماذا سيحدث بعد ذلك؟»
فهتف الملك لقمان دون تردد وكأنه يهتف بما هو عادي:
«سأواجه قدَري يا حبيبتي!»
ورفعت الملكة نور السماء رأسها عن عنقه وهتفت بدهشة:
«ماذا تقصد يا حبيبي؟»
«سأموت يا حبيبتي، وعلى الأرجح سأُقتل!»
وراحت تضرب بقبضة يدها الصّغيرة على كتفه وهي تهتف:
«لا،لا،لا أُريدك أن تُقتل أو تموت، ولا أريد أن تحلم لي مثل هذه الأحلام»
«يا حبيبتي حتّى لو لم أُقتل، سأموت لأنني لن أعيش مثلك ألاف الأعوام أو إلى الأبد!»
«لا أرجوك يا حبيبي ألا تفكّر في ذلك، قد نجد إكسيراً يُطيل عمرك!»
«لن يُطيل عمري يا حبيبتي إلا ثمرة لعينة آكلُها من شجرة الحياة التي زرعها الله في الجنّة!»
«قد نصل إلى الجنّة يا حبيبي وتأكل من ثمر الشجرة حتى تشبع!»
«آمل ذلك يا حبيبتي»
«حدّثني عن ابننا»
وراحت تطوّق عنقه وتلتحم بجسده.
«يا حبيبتي هذه مجرد أحلام وتنبؤات وليس من المؤكد أن تكون قدراً»
«ومع ذلك، لا أريد موتاً فيها»
«لكن أنا متُّ وانتهى أمري يا حبيبتي، ولا يصح أنْ نغير الأحلام على مزاجنا!»
وأسلمت الملكة نور السماء قدرها إليه وراحت تلتحم بجسده وكأنّه سيرحل عنها الآن، فيما هو يتابع تنبؤاته المرعبة:
«سيستلم ملك الملوك الحكم من بعدي على كل الكواكب التي ستكون تحت سلطتي بما فيها كوكب الأرض، ويعيث فيها خراباً ودماراً، ويشرع في شنّ حروب مرعبة، وانتقامات فظيعة، ومسوخات مخيفة، ليفتك بآلاف الملايين من البشر»
وبالكاد حتّى همست الملكة:
«ولمَ سيفعل كلّ هذا الدمار يا حبيبي؟»
«انتقاماً لمقتلي يا حبيبتي، فالناس الذين أحببتهم سيقتلونني غيلة وغدراً، ولن يحتمل ملك الملوك ذلك فيشرع في تدمير العالم»
وشعر الملك لقمان بالملكة تتجمّد بين أحضانه، فراح يملسُ على شعرها برفق ويتابع:
«تقبلين أنتِ في البداية بعض أفعالهِ على مضض، لأنك ستقاومين الرغبة في الانتقام، خاصّة وأنك كنت تعرفين أنني كنت أعرف أنني سأقضي نحبي على أيدي بني البشر، ومع ذلك حافظت على جمال إنسانيّتي ولم ألوّث يديّ بدماء البشر، وحين ينتصر الخير في نفسك تحاولين عبثاً ردع ملك الملوك، فحقده سيكون عظيماً وانتقامه لمقتلي سيكون فظيعاً، بحيث لن يبقى طفل في الأرض وبعض الكواكب الأُخرى لن يبكي أمّه وأباه، وأخته وأخاه، ويعيش الليالي الطّويلة على الملح والماء!
فينشب صراع بينك وبينه، لا يلبث أن يتحوّل إلى صراع على السلطة، ثمّ يتحوّل إلى حرب ضروس، تدوم بضعة أعوام، يهزمك فيها هزائم منكرة، ويقضي على كل جيوشك وجيوش أبيكِ وجيوش الملك دامرداس، وجيوش كل الملوك الذين سينضمون إليك، فيهبُّ بعض الملوك والآلهة من أصدقائي في الكواكب والأكوان لنجدتك، فيتم لك النصر على أيديهم بعد حروب طاحنة، تقتلين فيها الملك شمنهور الجبار وتهزمين جيوشه شر هزيمة وتستلمين السُّلطة، وتقدمين على إعادة ترتيب أوضاع الكواكب، وتنادين بالسّير على طريقي، ونشر المحبّة وإحلال السّلام بين البشر والبشر، وبين الجنّ والجن، وبين الجن والبشر، وبين البشر والجن والآلهة، فيعمّ السلام وتسود المحبّة»
كانت الملكة نور السماء قد أخذت تتعرّق وهي تتوحّد بجسد الملك لُقمان، وتقاوِم بكلِّ قوتها الانفعالات التي يُثيرها حديث أحلامه وتنبؤاته في نفسها، وما أن توقّف عن الحديث، حتّى أحسّ بأنفاسها تهمس متوسّلة:
«وابننا يا حبيبي، ماذا حدث لابننا بعد كلِّ هذه الفظائع والآلام؟»
«سيعيش في كنفك يا حبيبتي إلى أن يبلغ أشدّه ويؤتى قدراً وافراً من العِلم والحكمة!»
«وماذا سيحدث بعد ذلك؟»
«ستتنازلين له عن العرش»
«وهل سيتبع طريقتي وطريقتك في الحكم؟»
«أجل. وستفخرين به كثيراً، وسيكون ملكاً عظيماً وعالماً وحكيماً كبيراً، وتسود المحبّة والسّلام في عهده كما لم يسودا من قبل»
وراحت تتنفّس بعمق مستشعرة بعض الراحة والطمأنينة ثمّ همست:
«سأعمل بكُل ما أوتيت من مقدرة لتغيير مجرى هذا القدر الذي رسمته مخيّلتك، ولن أسمح بأن تُراق نقطة دم!»
«يا حبيبتي، المقدّر لا مفرّ منه. أنا لم أسمع أنّ أحداً استطاع مواجهة قدره أو الهروب منه، وما عليكِ إلا أن تكملي كتابة سيرة حياتنا لأنني سأكون قد شرعت في كتابتها ووصلت فيها إلى ما قبل مقتلي، أكملي كتابتها فقد يكون فيها فائدة وعبرة للبشر، وسأطلق على الرّواية الأولى منها اسمي، وحين تتمّين كتابتها بتشييع جنازتي، اشرعي في كتابة الرّواية الثانية وأفضل أن يحمل عنوانها «ملك الملوك» لأنها ستتحدّث عن حروبه وأهواله مع الكواكب والبشر. ومن ثمّ ستأتي الرّواية الثالثة التي تتحدّث عن فترة حُكمك وأفضّل أن أسميها «الملكة نور السماء» أما الرواية الرابعة والأخيرة فستكون بعنوان «الملك سحب السماوات» وهذه تتحدث عن الحقبة التي سيحكم فيها ابننا، وستنشر وهو على قيد الحياة، وسيقرأ الإنس والجن جميعاً سيرة حياتنا ويحتفظون بها مدى الدّهر، لتتناقلها الأجيال!!»
«لو أنك يا حبيبي أوصلتني إلى هذه النهايات السعيدة دون أن تتنبأ بموتك وموت ملك الملوك وهذه الحروب المدمّرة والآلام الفظيعة، لكنت عشت حُلماً جميلاً»
«أنا آسف يا حبيبتي، فحتى أحلامنا، لا يُتاح لنا أن نتحكّم في وقائعها معظم الأحيان»
وضمّته بشدّة ثانية وهي تهتف:
«أنا خائفة يا حبيبي»
«لماذا يا حبيبتي؟»
«لأن ما تنبأت به الأفعى لأمِّك قد حدث فعلاً، وأخاف أن لا أقدر أنا على تغيير مجرى القدر، ويحدث ما تنبأت به أنت في حُلمك!»
«يا حبيبتي، حتى لو حدث، فهو لن يحدث قريباً، فلِم تفكرين فيه منذ الآن، تخيّلي أنني عشت ثمانية وأربعين عاماً حتى تحققت نبوءات الأفعى لأمّي بأنني سأكون ملكاً، ولم تتحقق إلا في اللحظة التي يئست فيها من الحياة وقررت الانتحار!»
«لن أحتمل ذلك حتى لو لم يحدث إلا بعد ألف عام، لا أعرف بأيّة قوّة خارقة سأواجه محنتي فيك!»
وقبّلها قبلة حارّة لتصحو على نفسها وتنسى هذا الحُلم الفظيع، لكن ما أن أتى ملك الملوك بعد لحظات حتّى راحت تنظر إليه بعينيّ الرّيبة، وتغمر رأسها في عنق الملك لقمان، وغدا من المستحيل عليها بعد هذه التنبؤات الفظيعة أن تنسى أن الملك لقمان سيموت وأنّ حروباً طاحنة ستنشب بينها وبين ملك الملوك، فصممت على الشّروع في تغيير مجرى القدر، بمجرّد ما تتاح لها الفرصة، لتظل الحياة سعيدة وجميلة.
كانت فرقة الموسيقى قد أُنهكت من جرّاء العزف، وكذلك أُنهك الراقصون دون أن يتوقفوا، إلى أن جاء ملك الملوك ليذكّر الملك لقمان بأنّه نسي أن يوقف الفرقة عن العزف!
«أوه أيّها الملك حقّاً نسيت!»
ورفع الملك لقمان يده، فراحت الموسيقى تختتم وصلتها الطّويلة، ليعمّ التصفيق كافة أرجاء الرّوض ويعود الإنس والجن إلى موائد الطّعام والشّراب، ليأكلوا كما لم يأكلوا من قبل، وليشربوا كما لم يشربوا من قبل، وليتبادلوا العناق والقبل كما لم يتبادلوهما من قبل.

* * *



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملحمة الملك لقمان (8) تتويج في السماء
- شاهينيات . الفصل (109) محاولات تأريخية فاشلة لا علاقة لها با ...
- ملحمة الملك لقمان. (7) حرب جنية وغزل كوني !
- شاهينيات . الفصل (108) ياهو يجزر كل من اتبع عبادة البعل من ا ...
- (6) بطّيخ وبغال وزنى أبوي!!
- أسفار التوراة : قراءة نقد وتعليق . (3) قضاة . راعوث. صموئيل ...
- ملحمة الملك لقمان.(5) حقيقة وخيال وجن وخوازيق!
- أسفار التوراة . قراءة، نقد وتعليق .(2) خروج . لاويين . عدد. ...
- شاهينيات (107) ايليا يصعد إلى السماء قبل قدوم المسيح!
- ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (4) ليلة راقصة عل ...
- ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (3) صعود إلى الفض ...
- ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (2) رؤيا شيطانية!
- قصة الخلق التوراتية . طوفان نوح . دخول اليهود إلى مصر وخروجه ...
- لملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (1) محاولة انتحار
- باقون في رنّة الخلخال ! وذاهبون أنتم في المحال !
- شاهينيات (106) حروب متخيلة وارتداد عن عبادة يهوة كالعادة .
- شاهينيات (105) إيليا يذبح أربعمائة وخمسين نبيا من أنبياء الإ ...
- شاهينيات (104) سليمان يغرق في حب نساء الشعوب فيتزوج 700 امرأ ...
- شاهينيات (10) سليمان يبني بيتين اسطوريين له وللرب يهوه !
- شاهينيات (102) موت داود وتملك سليمان . * (1048) سليمان يصفي ...


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ملحمة الملك لقمان (9) ولادة وتنبؤات مأساوية!