أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ملحمة الملك لقمان (8) تتويج في السماء















المزيد.....



ملحمة الملك لقمان (8) تتويج في السماء


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4794 - 2015 / 5 / 2 - 18:40
المحور: الادب والفن
    


انطلق الموكب من المركبة على عرش طائر مكشوف إضاءته كنور النّهار. وقف الملك لقمان والملكة نور السماء في وسطه فيما أحاطته ثمان من حوريات الجن بينهن الأميرة ظل القمر، وقد جلسن واضعات أيمانهن على خدودهن، وحلّق إلى جوانبه الأربعة في أسراب منتظمة أربعمائة جنّي يمتطون الخيول المجنّحة، وقد طار ملك الملوك وبعض مرافقيه ليسبقوهم إلى روض الجنان.
وما أن أطلّ العرش الطائر على سماء الرّوض حتّى ضجّت السماوات العُليا بقرع الطّبول وإطلاق الأسهم النارية الملوّنة بالملايين، وصدحت الموسيقى من كافة أرجاء الكون وضجّ كُلّ من في الرّوض بالنهوض والتصفيق الحاد وزغردت حوريّات الجن فيما لوّح الملك لقمان بيده وكذلك فعلت الملكة نور السماء.
راح العرش يحلّق في سماء الروض مارّاً فوق المدعوين، الذين ناف عددهم على عشرة مليارات مدعو من الجن والإنس، وكُلّما كان العرش يقترب من مكان، كان تصفيق الموجودين فيه يزداد حدّة.
وحين شاهد الملك «دامرداس» ملك ملوك الجن الصُّفر الأميرة نور السماء، طار صوابه وامتلأ قلبه بالغضب وأحسّ أنّه سيتفجّر غيظاً وقهراً، فانتفض في مجلسه وراح يهزّ رأسه بشدّة حتى أحسّ من كانوا يحيطون به بهول ما ألمّ به دون أن يعرفوا السبب، ماعدا بعض ملوك الجن الذين كانوا يعرفون قصّته، ولم تمر سوى برهة من الزمن حتى اندلعت عواصف ناريّة أحاطت سماء كوكب الزهرة من كل النّواحي، على مسافة لا تبعد أكثر من خمسين ألف ميل عنه، فانتفض ملك الملوك شمنهور الجبّار بدوره، وقد دبّ في رأسه الجنون، فأمر جيوشه بأن تُهبّ الأعاصير الملتهبة في مواجهتها، فكان على بُعد حوالي ثلاثين ألف ميل من كوكب الزّهرة أن هدرت الأعاصير الشمنهورية الملتهبة في مواجهة العواصف الدامرداسيّة الناريّة وراحتا تنطلقان بسرعات جنونية هائلة لمواجهة بعضهما. وحين نظر الملك دامرداس إلى الملك شمنهور ورآه ينظر إليه هو والملك حامينار والد الأميرة نور السّماء، أيقن أنّهما عرفا أنّه هو من يقف خلف هذه العواصف الناريّة الجبارة، فأشاح وجهه عنهما ليبعد الشكّ عن نفسه، فظلّ ملك الملوك يحدّق إليه ويبتسم بخبث.
كلّ هذا والناس ومعظم الجن لا يدرون بما يجري، والملك لقمان والملكة نور السماء يحلّقان في سماء الرّوض، لكن ما أن التقت الأعاصير بالعواصف على بُعد حوالي أربعين ألف ميل من الكوكب حتّى ارتجّت السماء وأرض الزهرة وهدرت الرّعود وهوت الصواعق وتناثرت الشّهب والنيازك. والتمعت البروق الهائلة، فنظر الناس والجن وإذا بالآفاق البعيدة من حول الكوكب تلتهب بنار كونيّة هائلة، فارتعب كثيرون، وأدرك الملك لقمان أنّ ثمّة أمراً خطيراً يجري، فتساءل موجّهاً كلامه إلى الملكة نور السماء وهما يحلّقان في سماء الرّوض، فحاولت الملكة نور السّماء أن تقلل من شأن ما يجري مع أنّها كانت متخوّفة من أن يتحوّل ليل الحفل إلى حرب ضروس تحرق الأخضر واليابس:
«ليس ثمة ما يستوجب أن يشغل بال مولاي، إنهم بعض ملوك الجن يستعرضون قواهم يا مولاي!»
«ولمَ لم يستعرضوها إلاّ الآن؟»
«سأخبرك فيما بعد يا مولاي!»
«لكني قلق أيتها الملكة، لقد أحسست بالسماء ترتج، وها هو الأفق أينما نظرت يلتهب بالنار وتتصاعد منه الشّهب، وكأن براكين قد تفجّرت فيه»
«لا عليك يا مولاي، فجيوشك تحرس السماوات حتّى إلى ما وراء حدود كوكب الزهرة، وليس ثمة قوة قادرة على تجاوز أعاصيرها النيرانيّة الهائلة، فلا تقلق»
وجاهد الملك لقمان ليحتفظ برباطة جأشه فيما كان العرش يهبط في الروض وسط تصفيق الجميع وتحليق الحُراس من الجن في السماء.
أخذ الملك لقمان بيد الملكة نور السماء وصعدا بضع درجات تتبعهما الحوريّات الثماني، ليقفا على العرش الروضي الذي كان يدور ببطء شديد كي يراه الحضور من كل الجهات، فيما جلست الحوريات على أطرافه وأعدن وضع أيديهن على خدودهن.
صعد ملك الملوك والملك حامينار تتبعهما حوريّتان تحملان تاجين ذهبيين مرصّعين بالماس على طبقين ذهبيين.
عرّف الملك شمنهور الملك لقمان على الملك «حامينار» فتصافحا بحرارة والملك لقمان يهتف:
«إنه ليشرّفني ويسعدني هذا التقرّب إلى أسرة جلالتكم أيها الملك»
«إنه لفخر لنا ولأسرتنا ولملوك وأمم الجن الحمر قاطبة يا مولاي»
رفع ملك الملوك التاج العادي عن رأس الملك لقمان ليتوجّه بالتاج الملكي ويلبّسه القلادة السحريّة، فيما توّج الملك حامينار الملكة نور السماء وسط وقوف الجميع وتصفيقهم.
جلس الملك لقمان والملكة نور السماء على كرسيّي العرش، وكان بريق الجواهر يشعُّ من رأسيهما من جرّاء انعكاس الأضواء عليه، فيما العرش يدور بهما ببطء ليتسنّى للجميع مشاهدتهما. وقد وقف ملك الملوك والملك حامينار خلفهما.
ما أن أنهى العرش دورته حتّى نهض الملك لقمان وشرع في إلقاء كلمة قصيرة بمناسبة التتويج:
«صاحبات الجلالة الملكات، أصحاب الجلالة الملوك..
صاحبات النّيافة السيّدات، صاحب المهابة الرّاعي الأكبر..
صاحبات المعالي العالمات، أصحاب النّاموس العُلماء والأدباء ورجال المعرفة..
أيتها الحوريات الفاتنات، أيها الشباب الأعزاء:
من القلب أقول لكم أهلاً ومرحباً، وعميق شكرنا لتشريفنا بحضوركم، واسمحوا لي أن أُحيي صاحب المهابة الراعي الأكبر، وأبناء كوكب الزهرة العظماء، الذين حقّقوا على كوكبهم معجزات حقيقية لم يرق إليها بشر معروفون حتى الآن، وليستميحونا عذراً لاستغلال الحفل المقام على شرفهم لإقامة حفليّ التتويج والزّفاف.
ضجّ الروض بتصفيق حار استمرّ لأكثر من دقيقتين على إيقاع الموسيقى..
واسمحوا لي أيّها الأعزاء من أبناء الزُّهرة، أن أهنّئ أبناء الأمم الجنيّة، وملوك الأمم الجنيّة، ونساء وفتيات وحوريّات وشباب الأمم الجنيّة، بإطلاق سراح ملك الملوك شمنهور الجبّار بعد ثلاثة آلاف عام من القهر والحرمان في سجون الطاغية سُليمان!!!
وراح الجن يصفّقون بأيديهم ويدقّون الأرض بأرجلهم فرحاً، فيما ملك الملوك يلوّح بيديه.
وإنّي أيّها الأحبّة من أبناء الجن لأعاهدكم، ألا يبقى جنيّ في قمقم إذا ما استطعنا الوصول إليه ومعرفة مكانه! وإني لأعاهدكم أيها الأحبة بأن ينتهي عهد القماقم والسجون إلى الأبد وألا يعود ثانية، وأن يولّي عهد السُّجود والرّكوع إلى غير رجعة».
جُنّت الجماهير الجنيّة والإنسيّة وراحت تصفق بأيديها وتدق الأرض بأرجلها، وتطلق المفرقعات في الفضاء، فيما الأفق البعيد يلتهب باحتدام الصراع بين العواصف والأعاصير، وجعل الملك لقمان الحناجر تبحّ من الهتاف حين صرخ طالباً إلى الجماهير الجنيّة أن تهتف بعده:
«فليسقط سليمان! وعهد سُليمان، إلى الأبد!!»
انطلقت مئات الزغاريد من أفواه الحوريّات لتصاحب الهُتاف، فيما اندفع الإنسيّون من أبناء الزهرة إلى الهُتاف مع الجن.. وما أن هدأ الهُتاف حتى تابع الملك لقمان:
«وإنّي أيّها الأحبّة، يا من أوليتموني ثقة أنا عاجز عن حملها، وتخالج نفسي الريبة بأن كاهلي سينوء بها، لأعاهدكم على أن أعمل على تغيير الصورة التي رسمت لكم في أذهان أبناء الإنس وبعض الجن في كل الكواكب، لتحل محلّها صورتكم النّبيلة وأعمالكم الخيّرة».
اهترأت الأكفّ من التصفيق، وبحّت الحناجر من الهتاف، وهمس ملك الملوك من خلف الملك لقمان:
«وتقول أنك لا تعرف مشاكل أبناء الجن يا مولاي؟»
«وإني قبل أن أودّعكم أيّها الأحبّة لأدعوكم لأن تحيطوني علماً بما لا أعرفه من مشاكلكم لعلّنا نستطيع معاً وسوياً أن نجد الحلول لها، وإنّا على ذلك لقادرون.
وإني أيها الأحبة، لأدعوكم منذ اليوم إلى أن ترفعوا هاماتكم وألا تحنوا رؤوسكم لكائن أبداً، وألا تسجدوا أو تركعوا لكائن أبداً، بشراً كان أم إلهاً، جناً أو ملاكاً!»
وتوقّف الملك لقمان للحظات يرقب هيجان جماهير الجن والإنس، التي راحت تهتف بملء حناجرها:
«عاش ملك الملوك لقمان العظيم»
فرفع الأديب لقمان يده، فتوقّفت الجماهير:
«بل قولوا عاش لقمان رسول الحرية، عاش لقمان رسول الخلاص، لأني سأدعوكم أيضاً إلى نبذ تعظيم الزّعماء، فلا عظيم بعد اليوم إلا أنتم، ولا مولى بعد اليوم غيركم»
هاجت الجماهير وماجت كالبحار متلاطمة الأمواج.
«واتركوا أيّها الأحبة كلمات التعظيم والتبجيل، نتداولها نحن الزّعماء فيما بيننا في المناسبات الرّسمية من قبيل اللياقة والاحترام»
«عاش لقمان رسول الحرية. عاش لقمان رسول الخلاص»
«وأوصيكم أيها الأحبة، أن تحبّوا بعضكم، وألا تدعوا الكُره يراود نفوسكم، وألا تُكرهوا أخاكم على ما لا يرضاه، وأن تتشاوروا فيما بينكم، وأن تأخذوا برأي الأغلبية، وأن تسعوا إلى الحقيقة، وتبحثوا عن المعرفة، وتبدوا رأيكم في كل ما يتعلّق بحياتكم، وما يكتنف الوجود من حولكم، وألا تدعوا للخوف سبيلاً إلى نفوسكم.
وإني لأوصيكم أيّها الأحبّة بأبناء كوكب الزُّهرة الذين أولوا ضيافتنا كل الكرم والرّعاية، فمدّوا أيديكم لهم كلّما دعت حاجتهم إليكم، وكونوا لهم إخوة وعوناً وسنداً في السّراء والضّراء، وأفيدوا من تجربتهم الخلاّقة، في السُّموّ بالحياة الإنسانية..
عاشت أمم الجن والإنس!
فهتفت الجماهير خلف الملك لقمان مردّدة ما يقوله.
عاشت وحدة الكواكب!
عاشت الحريّة. عاشت المحبّة»
صفّقت الجماهير طويلاً بعد انتهاء الكلمة. وبادر كبار المدعوّين إلى تهنئة الملكين بالصّعود تباعاً إلى العرش وملك الملوك يعرّف الملك لقمان على كبار ملوك الجن، وكان آخر الناهضين للتهنئة الملك دامرداس والملوك العشرة من أتباعه، وكانت الأعاصير الملتهبة تخوض صراعاً مريراً مع العواصف الناريّة، وقد أفلحت في احتوائها وجعلها تدور في فلكها إلا أنها لم تتمكن من إيقاف هبوبها.
وكان الملك دامرداس قد أضمر أن يشعل فتيل حرب لا تبقي ولا تذِر بمجرّد انتهاء مراسم التتويج، وقد استدعته أُصول الضيافة واللياقة الملكية ألاّ ينصرف دون أن يستأذن ويهنّئ الملك لقمان بتتويجه.
صافح الملك دامرداس الملك لقمان بوجه مُتجهّم، ولم يصافح الملكة نور السماء التي كانت تقف على أعصابها! وطلب على الفور الإذن بالانصراف متذرّعاً بانشغاله بشؤون ممالكه، فأدرك الملك لقمان أنّ في الأمر شيئاً رهيباً، فاستوقفه هاتفاً بحزم:
«ليسمح لي صاحب الجلالة الملك أن أبدي أسفي وعجزي عن السّماح له ولأصحاب الجلالة ملوكه بالانصراف ما لم نقم بواجب ضيافتهم وإكرام مقامهم الجلالي!»
فوجئ الملك دامرداس بهذا التهذيب الجمّ وجمال النطق مما لم يعتد على سماعه من معظم ملوك الجن، فأجاب بلهجة مهذّبة بعض الشيء لكنها لا تخلو من استفزاز جعل دخيلة الملك شمنهور تضطرم بالنار:
«ليسمح لي جلالتكم بإبداء شكّي في مقدرته على إكرام مقامنا ورأب الصّدع الذي زرعه قومه في نفوسنا»
أدرك الملك لقمان أنّ المسألة في غاية الخطورة، وأن هذا الملك ربما أُهين، وقد يبغي شيئاً كبيراً لإرضائه، ربما لا يقل عن مملكة من ممالك الجن الحمر، وأدرك أن الحرب المستعرة في الآفاق البعيدة بين العواصف والأعاصير، لم يشعل فتيلها أحد غيره:
«اسمح لي أن أقول لكم أيها الملك العظيم أننا نحن معشر العرب من أبناء الأرض لا يثير الألم في نفوسنا أكثر مما يثيره إزعاج الضيف أو إهانته، ولا أظن أيها الملك العظيم أنّي بتتويجي اليوم ملكاً على ملوك الجن الحمر قادرٌ على أن أتخلى عن إنسيتي وعادات آبائي وأجدادي، فإن أساء إلى شخصك، أو أهان مقامك السامي أحد من قومي وأنت في ضيافتي، فأخبرني، وإن شئت نصراً على عدو فاطلب لتجد جيوشي طوع يديك، وإن شئت نفوذاً أو جاهاً أو سلطة فإنّي أضع جميع ممالكي تحت نفوذك، وإن شئت دماً فإني مستعدّ لأن أقدّم دمي قرباناً على مذبح إكرامِك على أن تبرح ضيافتي متكدّراً غاضباً مهموماً»
أدرك الملك دامرداس أنه أمام ملك عظيم إن لم يكن مجنوناً أو مدّعياً، فقرر أن يختبر صدق أقواله:
«عفواً جلالة الملك، إن مطلبي لصغير أمام ما تعرضه من عظيم كرمك»
«اطلب تنلْ أيها الملك»
«إنّي لفي ريبة من أن يتراجع جلالتكم»
«أُشهد على نفسي جلالة الملك شمنهور وجلالة الملك حامينار، وجلالة الملكة نور السماء وأصحاب الجلالة الملوك العشرة من أتباعكم»
«ولن تغضب جلالتكم؟»
«بل سأكون سعيداً بتلبية طلب جلالتكم»
وصمم الملك دامرداس على طلب يد الملكة نور السماء التي أخذ قلبها ينبض بسرعة شديدة فيما أخذ قلب أبيها وقلب ملك الملوك يتأجّجان غضباً:
«لقد سبق لي وأن تقدمت بطلب يد الملكة نور السماء من أبيها، فأبت مبدية عدم رغبتها في الزواج، إلى أن فوجئت هذا المساء بقرانها من جلالتكم، إنّه ليشرّفني أيها الملك أن أتقدّم بطلب يدها من جلالتكم»
رانَ صمت فظيع شمل جميع الواقفين على منصّة العرش، وبدا الملك لقمان وكَأنّهُ لم يُفاجأ إطلاقاً بالطلب، ألقى نظرة نحو الملكة نور السماء وابتسامة طفيفة مشحونة بالثقة العالية بالنفس ترتسم على شفتيه، أدركت الملكة نور السماء مغزاها على الفور، فمدّ يده إليها فأخذتها بيدها، فقدّمها نحو الملك دامرداس قائلاً:
«إنّه ليشرّفني ويُسعدني أن أهب جلالتكم قطعة من قلبي، ولو أنكم طلبتم قلبي نفسه وممالك الجن الحمر جميعاً، لكان ذلك أهون عليّ، فهنيئاً لجلالتكم بدرّة الأكوان وفاتنة الأزمان الملكة نور السماء، وإنّي لآمل أيها الملك أن تحيطوها برعايتكم، وتشملوها بعنايتكم، وتغمروها بفيض مشاعركم، وتصونوها بأهداب عيونكم!»
ومدّ الملك دامرداس يده ليأخذ بيد الملكة نور السماء ويقرّبها إليه ويوقفها إلى جانبه دون أن يفلت يدها، وقد أدرك، أنه أمام ملك عظيم لم يسمع عن مثيل لكرمه بين الإنس والجن. فهتف بصوت غاية في التأثّر والانفعال فيما كان الصمت يطبق على رؤوس الجميع:
«إنّي أيها الملك الأعظم لأعجز عن إيجاد الكلمات اللائقة بشكر مقامكم الجلل، والثّناء على كرمكم العظيم، وإنّي لو قدّمت لكم ممالكي في المشرق والمغرب والسماوات العُليا والسُفلى، وكل نسائي وكريماتي وجواريّ، لما استطعت أن أفيكم عظمة كرمكم، وشهامة نبلكم، لذا أعلن أمام مهابة جلالتكم بتشرّفي بقبول هبتكم الملكة الجليلة نور السماء، التي هي حقاً دُرّة الأكوان وفاتنة الأزمان، واتخاذها أختاً لي وشريكة في الحكم، ومالكة للقلادة السماوية لأقوام الجن الصّفر، وتقديمها في الوقت نفسه هبة مني لجلالتكم لعلّني بهذا أُقابل عظمة كرمكم بما تستحق أن يقابلها أو يضاهيها، وحتى لا يُقال بين معشر الجن والإنس، أنّ الملك دامرداس، كافأ نبل الكرم وعظمته بما هو أقل منه نُبلاً وعظمة»
وقدّم الملك دامرداس الملكة نور السماء نحو الملك لقمان، ليأخذ بيدها ثانية وسط دهشة الجميع الذين تنفّسوا الصُّعداء، وخمدت النيران التي كانت تضطرم في أفئدتهم، وامتلأت نفوسهم غبطة، وأعجبوا بحكمة الملك لقمان العظيمة التي فاقت حكمة سليمان. وحلّت قضية كبيرة، وأوقفت حرباً كونيّة مرعبة، وحوّلت ملكاً جباراً من عدوٍ لدود إلى صديق ودود ونصير دائم خلال لحظات.
وكان الملك شمنهور والملك دامرداس قد رفعا يديهما وأعطيا إشارة وقف الحرب، فهدأت العواصف الناريّة والأعاصير الملتهبة التي كانت تتصارع بجنون على مسافة من محيط كوكب الزهرة.
عادت الملكة نور السماء لتأخذ مكانها إلى جانب الملك لقمان الذي بادر إلى القول:
«إني حقاً لأقف عاجزاً عن النطق والتعبير عما يكتنف نفسي، وأنا أتقبّل من جليل عظمتكم أجمل درّة عرفتها الأكوان، فأنّى للغات أن تسمو بلواعج النّفس حين تفيض بعظائم المشاعر؟!»
«إن عظمة كرمكم، كانت خير تعبير عن فيض مشاعركم أيها الملك العظيم. اسمحوا لي أن أُعبّر عن فرحتي بتتويجكما، بإهداء الملكة نور السماء القلادة السّماوية، وإهدائكم القلادة السحريّة للجن الصُّفر»
ودون أن يسأل الملك لقمان عن سرّ هذه القلادة، مدّ عنقه بعد عنق الملكة نور السماء ليلبّسه الملك دامرداس إيّاها، غير أنه هتف:
«بِمَ سأقدر على مكافأتكم أيها الملك العظيم؟»
«صداقتكم لي وزواجكم من أُختي في العهد هي أكبر مكافأة أيها الملك»
نزل الجميع عن منصّة العرش وانضموا إلى مائدة كبار الملوك حيث يجلس الراعي الأكبر وشاهل بيل والسيدة سلمنار. وقد رغب الملك لقمان في الجلوس إلى جانب الراعي الأكبر، فأدرك ملك الملوك، أنّهما سيمضيان الليلة في الحوارات الفكريّة، فهتف:
«اسمح لي يا مولاي، هذه الليلة ليلة فرح وسنحتفل أيضاً بانعتاقي من السّجن ولقائي بزوجاتي وبناتي وأولادي وملوكي وممالكي، وليس بتتويجكما وزواجكما فقط، ولن ندعكم أنت والراعي الأكبر والملكة نور السماء تمضونها في الحوارات الفكريّة والفلسفيّة»
لم يجد الملك لقمان بُدّاً من الإذعان فجلس في مواجهة الراعي الأكبر وزوجته،وكان إلى جانبيهما السيد شاهل بيل والسيدة سلمنار ونائب الراعي الأكبر وزوجته، وبعض الكبار من ضيوف الإنس، وجلس إلى يسار الملك لقمان الملكة نور السماء فأبوها الملك حامينار فزوجته الملكة «شامنهار» فابنتهما الأميرة ظل السماء، ثمّ بعض الملوك والملكات، وجلس إلى يمينه الأميرة ظل القمر، فالملك شمنهور، فزوجته الأولى الملكة «نسيم الريح» فالملك دامرداس، فزوجته الملكة «ظل السحاب» فبعض الملوك وزوجاتهم.
وما أن أخذ الجميع أماكنهم حتى عمّت سماء الروض جيوشٌّ جرّارة، من أمم الجن جميعاً، وكان كل جيش يمر محلّقاً بعد الآخر، تركب أفواج منه الخيول المجنّحة، وأفواج أخرى يحلّق جنودها بأجنحة، وأفواج تركب الظّباء، وأفواج تركب الزّرافات، وأفواج تحلّق دون أجنحة ودون أن تركب شيئاً، وتقوم بألعاب بهلوانية في الفضاء، وحركات شيطانية وسط إضاءة ملونة باهرة وأسهم ناريّة ساحرة، وأسماك طائرة وغزلان رامحة وطيور في السماوات مُغرّدة، وجنّ يأخذون أشكالاً مختلفة، وموسيقى فرحة تصدح من كافة الأرجاء.. وكان أكبر الأفواج المحلّقة، فوج الجن السّود الذي أخذ شكله الجنيّ، فبدا كل جنيّ فيه بحجم جبل هائل، وحين مرّ من فوق الروض، غطّاه من أقصاه إلى أقصاه وحجب الأفق من كافة الاتجاهات، وكان أفراده يحملون بعض الكواكب والأقمار على ظهورهم، فأدهشوا الجميع بجبروتهم!
وتوالت الاستعراضات الجنيّة في السماء فظهرت أفواج من الجن الخضر، أخذت شكل الإنس، وسارت في طوابير فائقة الانتظام وكأنها تسير على الأرض، وكان يسمع لها وقع خطا مما أدهش الجميع!
أما آخر الأفواج التي حلّقت في السماء فقد كانت أفواج الجن الزرق الذين عملوا العجب، فقد حلّق السرب الأول في شكل بشر ثابتين كالأصنام في صفّ منْتظم، ودون أن تنم عنهم أية حركة، وهم يقفون على أهبة الاستعداد ويرتدون زياً عسكرياً أزرق، تبعهم فوج من آلاف اليمامات الزرق التي حلّقت في مشهد منتظم أخّاذ فاردة أجنحتها دون أن ترفّ بها.. تلاه سرب من الحوريّات يحلّقن طائرات بملابس شفّافة بدت كلون البحر، وكنّ يفردن أيديهن ويضممن أرجلهن.. تلاهن سرب من الأفاعي العملاقة لهن رؤوس حوريّات وشعور طويلة كانت متدلّية في الفضاء، فأدهشن الجميع بجمال وجوههن وطول قاماتهن الأفعوانيّة!
واختتم العرض السّمائي بمشهد غاية في الجمال، لكلّ أنواع الحوريات ومن جميع طوائف الجن. حوريّات في شكل جنّيات وحوريّات في شكل إنسي وحوريّات البحر اللواتي أجسامهن أجسام أسماك ورؤوسهن رؤوس إنسيّات أو جنّيات، بعضهن بأجنحة وبعضهن بلا أجنحة، وحوريّات لهن أجسام غزالات ورؤوس إنسيّات وحوريّات لهن أجسام أفاعٍ ورؤوس جنّيات، وحوريّات لهن رؤوس إنسيّات وأجسام حمام وحوريّات لهن رؤوس إنسيّات وأجسام خيول..
وحين انتهت الاستعراضات السمائية، وخلا الجو إلا من الحُرّاس والمرافقين، أراد الملك لقمان أن تحضر فرقة من حوريّات الجن للرقص، فنظر إلى ملك الملوك، طالباً إليه أن يرفع العرش من مكانه كي تتسع صالة الرّقص، فأخبره ملك الملوك أنّه الآن ليس في حاجة إليه بعد أن ارتدى القلادة السّحرية، ما عليه إلا أن يشير بحركة من يده حتّى ينفّذ على الفور كل ما انتواه في عقله، فلم يُصدّق الملك لقمان نفسه، إلا بعد أن أشار بيده ليختفي العرش من المكان وتبدو صالة المسرح المستديرة للعيان وقد أعدّت للرقص والمرح. فأشار الملك لقمان بحركة ثانية من يده لتظهر على المسرح مائة فاتنة من الجنّيات الحوريات، بالأزياء الحريريّة الشّفافة القصيرة رافلات، وعن الأكتاف والنّهود والأفخاذ حاسرات، طويلات الشّعور، نحيلات الخصور، مورّدات الخدود، جامحات النهود، كحيلات العيون. في ظلال الجفون، برموشٍ سابلات.. ووجانٍ ناعسات، شامخات الأنوف، رقيقات الشّفوف! غزلانيات الأعناق، صغيرات الأشداق، كاعبات الصّدور، آسرات الخُصور، مكتنزات الأرداف، ظبيانيّات الأظلاف.
أفخاذهن ممتلئات، وسيقانهن ممشوقات، وركبهن بآيات الجمال ممسوحات.
المخفي منهنّ أعظم من كل عظيم، من خلقة إله ذوّاق أو شيطان رجيم!!
رحن يتهادين على المسرح كاليمام، ويتمايلن يمنة ويسرة بانسجام، يتخطّمن كحجلاتٍ شاردات، ويتقافزن كظبيات جافلات، يقبلن كأطياف الأحلام، ويدبرن كأنوارٍ في الظّلام، ففتنّ برقصهن الحضور، وبجمالهن الملك شمنهور، الذي أخذ دِنّاً من الخمر وشرب نخب الملك لقمان، ثم همس يخاطبه:
«أستحلفك بنور السماء وبكل أقوامك من الجن يا مولاي كيف أحضرت هؤلاء الفاتنات، لا أذكر أنني في حياتي طلبت راقصات من الجن، إلا وقلت لهم، ائتوني بأجمل الراقصات، فلم يحضروا من هُنّ أجمل منهن»
راح الملك لقمان يضحك وهو يهتف:
«هذا سر المهنة أيّها الملك!»
فغرَ الملك شمنهور فمه دهشةً وحيرةً وهو يكاد ألا يصدّق ما يسمعه:
«هل بدأت تفهم في أسرار الجن أكثر منّي يا مولاي؟»
«لا! العفو أيها الملك»
«أين السّر إذن؟»
«لقد أمليت عليهم مواصفات جمال الراقصات اللواتي أريدهن وأعمارهن وأطوالهن واللباس الذي يرتدينه والرّقص الذي يؤدينه»
أطرق الملك شمنهور للحظة يفكّر.
«هل فعلت كل هذا خلال تلك اللحظة التي أشرت بيدك فيها يا مولاي؟»
«بالتأكيد»
«هذا ما أعجز أنا عنه يا مولاي، حتى أنني لا أستطيع أن أتخيّل، ألم أقل لك أنكم معشر الإنس أكفأ منّا بعقولكم وقوة خيالكم؟»
«آمل ذلك أيها الملك»
«بل وإنّي لآمل يا مولاي أن تحقق باستخدام هذه القلادة كل المعجزات التي نعجز نحن عن تحقيقها. لكن يا مولاي!»
وبدا الملك شمنهور متردداً بعض الشيء، فقد كانت الأميرة «ظل القمر» تجلس بينه وبين الملك لقمان، وكانا يتحدثان بتقريب رأسيهما أمامها، وهي تستند بظهرها إلى الوراء كي تتيح لهما الحديث، وكان كما يبدو خجلاً بعض الشيء من أن تسمعه.
«ماذا أيها الملك؟»
خفض ملك الملوك صوته:
«إن شئت الحق، أنا أخجل منك ومن الأميرة ظل القمر ومن نسائي وعشيقاتي وجواريّ، مع أنّهن يعرفنني على حقيقتي!»
«عرفت ماذا تريد أيها الملك؟»
«أتوسّل إليك يا مولاي أن تبقي هؤلاء الراقصات الفاتنات ولا تأمر بإعادتهن من حيث أتين، لأمضي معهن ولو ليلة واحدة!»
«لكنهن كثيرات أيها الملك!»
«بل هُن قليلات بعد ثلاثة آلاف عام يا مولاي!»
«أليس في مقدورك أن تطلبهن إذا ما صرفتهن؟»
«هذا ما لا أستطيعه يا مولاي أرجوك!»
«حتى لو أمرت الجن بإحضار الراقصات اللواتي أحضروهنّ إليّ»
وأدرك الملك شمنهور أنه لا يشغّل عقله أحياناً:
«آه فعلاً، كيف غاب هذا الأمر عن بالي يا مولاي؟»
«لا أعرف!»
«لقد لفتّ انتباهي إلى ما يريح عقلي يا مولاي، ليس عليّ بعد الآن إلا أن أُلاحظ وأرقب طلباتك، لأحصل على ما هو أجمل وأكثر كمالاً!»
«لكن دون إكراه أيّها الملك، إيّاك والإكراه، ضاجع من تريد برضاها وليس رغماً عنها!!»
«والآلهة إنّي لم أُكرِه أُنثى في حياتي يا مولاي، إلا هؤلاء اللواتي يحببن!»
«يحببن ماذا أيها الملك؟»
«يحببن العنف والاغتصاب يا مولاي، ولا يجدن متعتهن إلا بهما!»
«حتى عندكم؟! كنت أظن أن هؤلاء بين الإنس فقط»
«أوه يا مولاي لو أنّك!!»
«أيها الملك أنا لم أفعل ذلك مع الإنسيّات فهل سأفعله مع الجنّيات، لا قدرة لي على هذه الرّغبات، حتى في الحالات التي كنت فيها أنا الضّحيّة، لم أقدر على ذلك!»
«وهل تفعل النسوة ذلك عندكم يا مولاي؟»
«أحياناً تفرض امرأة نفسها عليك بفظاظة ووقاحة وأنت لا رغبة لك فيها.. لكن ألا يوجد عندك مشكلة غير النّساء الآن أيها الملك؟»
«والآلهة كلّها التي عبدتها والتي سأعبدها أنّه لا يوجد عندي غيرها يا مولاي»
«الأيام أمامك وأظن أنّك ستقرف النّساء، غير معقول هذا الذي فعله بك سُليمان!»
«قتلني يا مولاي، قتلني!»
«الآن قل لي، هل تعرف شيئاً عن مقدرة هذه القلادة التي ألبسني إيّاها الملك دامرداس؟»
«بالمناسبة يا مولاي أنا لم أكن أعرف أنك عظيم إلى هذا القدر؟»
«أوه هلَكتني بتعظيمك هذا يا أخي، ألا يكفي ما أسمعه وسأسمعه من تعظيم بعد الآن؟»
«مولاي، لو كنت أنا مكانك لما استطعت تفادي الحرب الضّروس التي لن تقضي على الملايين من الجن فحسب، بل على سُكّان كوكب الزهرة أيضاً. ما يدهشني يا مولاي أنك كسبت الحرب وجعلت الملك دامرداس حليفاً ونصيراً لنا، ببضع كلمات بليغة، ورباطة جأش، ورجاحة عقل لا غير، الغريب أنك أيضاً أرغمت الملك دامرداس على أن يتحدّث بلغة مهذّبة لم أسمعها منه في حياتي ما قبل السجن»
«ألم أقل لك أنّ الكلمة الطيّبة قد تفعل أفضل مما تفعله الحروب أيها الملك، بل ما يستحيل على الحروب أن تفعله؟!»
«أظن أنك قلت لي ذلك يا مولاي»
«نحن معشر الإنس والجن لا ينقصنا إلا التغلّب على الشر في نفوسنا وزرع المحبة والخير، وساعتئذ لن يكون هناك إلا السلام والعدالة والمحبّة!»
«وهل كنت تفعل ذلك خلال حوارك مع الملك دامرداس؟»
«أجل أيها الملك، قذفت بالشر بعيداً وقررت خوض المعركة بالمحبة، والكلمة الطيّبة، وأنا أرى الأفق البعيد يضطرم بالعواصف والأعاصير الملتهبة!»
«وهل كنت واثقاً من النصر؟»
«نعم! كنت واثقاً أنني سأنتصر أيّها الملك، واسأل الأميرة نور السماء حين ابتسمت لها أدركت على الفور ما أقصده»
«لكن كيف عرفَتْ؟!»
«لأنها نور السماء وليست أنت! ثلاثة آلاف عام جعلت عقلك جامداً، سأعلّمك الشطرنج كي تحرّك عقلك وتنشّطه قليلاً!»
«والشيطان يا مولاي؟ ماذا لو تدخّل الشيطان بينكما أنت والملك دامرداس، وضللكما، وزرع المزيد من نوازع الشر في نفسيكما، فماذا كان سيحصل حينئذ؟!»
«أين هو الشيطان أيّها الملك، إنه فينا نحن، في أنفسنا، وما لم نتفوّق عليه، وما لم نقتله في دواخِلنا لن نعرف طعم السلام والمحبّة والخير والسعادة»
«مولاي! ملوك الشياطين معنا على المائدة وليسوا في نفوسنا، وربما يعرفون ويسمعون كل ما يدور بيني وبينك الآن، ولا أعرف كيف هداهم الله ولم يتدخّلوا بينك وبين الملك دامرداس؟!»
«ماذا تقول أيها الملك؟»
«على مائدتك يا مولاي كل أنواع الجن، الشياطين منهم والطيبين، الأبالسة والملائكة، المردة والعفاريت، الأخيار والأشرار!»
«أريد الشياطين تحديداً من هُم؟»
«إنهم السود وإن لم يكونوا سوداً، بل سُمراً، وقد هنأوك وصافحوك!!»
«هل تقصد ذاك الملِك الأسمر الجميل «إبليس» وأعوانه من الملوك الذين يجلسون إلى جانبه؟!»
«كنت أظن أنه مجرد اسم على مسمّى، هل يُعقل أن يكون هذا الإنسان الجميل هو إبليس الشيطان نفسه؟!»
«على الأرجح أنه هو يا مولاي!»
«يجب أن أجلس معه وأتحدّث إليه»
«الأيام قادمة يا مولاي، لم العجلة؟»
«أيها الملك، هل يُعقل أن يكون إبليس جالساً إلى مائدتي ولا أتحدّث إليه، إبليس الذي كنت أظن أنني ما أن فتّحت عينيّ على الدُّنيا حتى ظهر أمامي، وأغواني لكي أفعل كذا وكذا حتى مع البطيخة، هل يُعقل أن أدعه يفلت من يديّ دون أن أجلس معه طويلاً؟!»
«أقسم لك يا مولاي أنني سأدعك تملّ من التحدث إليه، لكن هذه الليلة نحن في وضع خاص، وربّما هو يريد أن يتمتّع بالسّهر والخمر والنساء!»
«إني لا ألمُس في هيئته إلا الوقار أيها الملك، ومع ذلك فأنت محق، فاللقاء معه يحتاج إلى جو غير هذا الجو، ينبغي أن نكون وحدنا لنتحاور طويلاً، لكن لو يتاح لي أن أُرحب به كما يليق بمقامه!»
«وهل سترحّب به أيضاً يا مولاي؟»
«طبعاً أيها الملك، أليس ضيفنا هو وأعوانه؟»
«لن أخفي عليك يا مولاي، فأنا لا أُحبه ولا أحب قومه، وما دعوتهم إلا من أجلِك!!»
«من أجلي؟»
«طبعاً يا مولاي، لعلّك تعرف منه ذات يوم شيئاً من الحقيقة التي تبحث عنها، وما دعوته اليوم إلا لتتعرّف إليه، وستتاح لك الفرصة للترحيب به، فالليل أمامنا طويل»
«أشكرك أيها الملك»
كانت الملكة نور السماء تتحدّث إلى أبيها وأمّها، أمّا الأميرة «ظل القمر» فقد وجدت نفسها محشورة بين ملك الملوك والملك لقمان، وهما يتحدثان وهي صامتة، حتى أنّهما لم يُتيحا لها أن تأكل أو تشرب شيئاً، فبادر الملك لقمان إلى الاعتذار منها، فسارعت إلى القول:
«لكن الملك لم يجبك عن سر القلادة يا مولاي!»
«آه أشكرك أيّتها الأميرة، لقد نسيت حقّاً أنني سألت الملك شمنهور عن سر هذه القلادة التي أهداني إيّاها الملك دامرداس»
فهتف الملك شمنهور:
«لا أعرف عن أسرارها الكثير يا مولاي، لكن تسخير طاقاتها لا يختلف عن تسخير طاقات قلادتنا، فما أن تنوي شيئاً يتعلّق بها وأنت تلمسها أو تمسكها حتّى تنفّذه لك، وستكتشف حدود قدراتها الكليّة عبر الممارسة، لكن إياك أن تغضب على القلادتين أو تطوّح بهما أو تقطعهما أو تدوس عليهما أو تحطمهما!!»
«ماذا سيحدث حينئذ أيها الملك؟»
«إن عنّفت إحدى القلادتين عنّفت جميع الجن التابعين لها، وإن طوّحت بها طوّحت بهم، وإن قطّعتها مزّقت أجسادهم، وإن دُست عليها دُست على أحشائهم، وهذه أسرار لا يعرفها إلا الجن والآلهة ومن يحملون الحُليّ والأدوات المسحورة يا مولاي»
جحظت عينا الملك لقمان، وأحسّ أنّه سيفقد صوابه ذات يوم إذا لم يظل مدركاً أنّه يعيش في عالم مُدهش قد يتعرض فيه لما هو مدهش ومعجز وخارق للمألوف كل لحظة، ولم يدرك حدود أبعاد تتويجه ملكاً على الجن الحُمر إلا الآن، فلقد غدت أرواح هؤلاء وربّما أرواح الجن الصّفر أيضاً بين يديه!»
تنفّس ملء رئتيه قبل أن يهتف:
«شيء جيّد أنك أخبرتني أيها الملك، كنت في لحظة غضب أو انفعال سأفعل شيئاً من ذلك، خاصّة إذا لم تستجب إحدى القلادتين لي، أو عجزت عن تحقيق طلبي»
«يجب أن تضع في اعتبارك يا مولاي أنّهما تعجزان عن فعل كل ما يعجز أتباعهما فعله»
«لكن كيف لي أن أعرف حدود قدراتهما وقدرات أتباعهما؟»
«بالتجربة يا مولاي، أنا مثلاً لم أكن أعرف أنّ لدى عامة الجن فتيات بهذا الجمال الذي يرقص أمامنا على المسرح الآن، لأني لم أكن أفكّر في اختيار طلبي، كنت أُصدِر أوامري فقط»
«التجربة وحدها لا تكفي أيها الملك، لابدّ لي من معرفة القدرات التي بين يدي أو تحت تصرّفي كي أُقرر على ضوئها ماذا بوسعي أن أفعل»
انتهت الوصلة الأولى من رقص الفتيات، صفّق الحضور بحماس شديد، أشار الملك لقمان بحركة من يده فابتعدت الفتيات جانباً، وقد أفردت لهن مائدة كبيرة من الطّعام والشّراب ليجلسن إليها..
* * *



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شاهينيات . الفصل (109) محاولات تأريخية فاشلة لا علاقة لها با ...
- ملحمة الملك لقمان. (7) حرب جنية وغزل كوني !
- شاهينيات . الفصل (108) ياهو يجزر كل من اتبع عبادة البعل من ا ...
- (6) بطّيخ وبغال وزنى أبوي!!
- أسفار التوراة : قراءة نقد وتعليق . (3) قضاة . راعوث. صموئيل ...
- ملحمة الملك لقمان.(5) حقيقة وخيال وجن وخوازيق!
- أسفار التوراة . قراءة، نقد وتعليق .(2) خروج . لاويين . عدد. ...
- شاهينيات (107) ايليا يصعد إلى السماء قبل قدوم المسيح!
- ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (4) ليلة راقصة عل ...
- ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (3) صعود إلى الفض ...
- ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (2) رؤيا شيطانية!
- قصة الخلق التوراتية . طوفان نوح . دخول اليهود إلى مصر وخروجه ...
- لملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (1) محاولة انتحار
- باقون في رنّة الخلخال ! وذاهبون أنتم في المحال !
- شاهينيات (106) حروب متخيلة وارتداد عن عبادة يهوة كالعادة .
- شاهينيات (105) إيليا يذبح أربعمائة وخمسين نبيا من أنبياء الإ ...
- شاهينيات (104) سليمان يغرق في حب نساء الشعوب فيتزوج 700 امرأ ...
- شاهينيات (10) سليمان يبني بيتين اسطوريين له وللرب يهوه !
- شاهينيات (102) موت داود وتملك سليمان . * (1048) سليمان يصفي ...
- شوربة عدس سبع نجوم !


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ملحمة الملك لقمان (8) تتويج في السماء