أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبد المنعم عرفة - الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [18]















المزيد.....


الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [18]


محمد عبد المنعم عرفة

الحوار المتمدن-العدد: 4782 - 2015 / 4 / 20 - 00:35
المحور: الادب والفن
    


الإمام والتصوف
تميز العصر الذي نشأ فيه الإمام بانتكاسة لعلم التصوف، حيث تعرض كسائر العلوم الأخرى إلى ظهور أفكار منحرفة وظواهر غريبة كالدجل والشعوذة والتواكل وترك التسبب، وتصدر للمشيخة من ليس لها أهلا من علم وتقوى وعرفان، الأمر الذي دعا الإمام أبا العزائم إلى الغيرة والتنبيه على هذه الأخطاء والانحرافات.
ويمكن تخليص ذلك فيما يلي:
1- غياب دور المرشد أو القدوة.
2- ندرة معاهد التربية الصوفية الصحيحة. فلم تعد الطرق الصوفية إلا مأوى للعاطلين أو الشاطحين.
3- اقتصار الطرق الصوفية على الاهتمام بالأزياء (المرقعات) والرايات والغلو والتقديس المفرط للمشايخ.
4- التفريط في التكاليف الشرعية باسم التصوف، والتحلل من الأخلاق باسم الصوفية، حتى أصبح علم التصوف عند الناس منكرا واسم الصوفية مرذولا.
5- ندرة الكتاب الصوفي النقي والمحقق على أساس من الكتاب والسنة وعقيدة السلف والجماعة ومذاهبهم الفقهية، فنجد الكتب إما مملوءة بالمغالاة أو الإفراط أو الشطح أو الألغاز التي لا يرتاح لها مطلع فضلا عن فقيه.
6- ميل الكثير ممن كتبوا عن التصوف أن يجعلوه في حيز ضيق تحت مسمى (علم الخاصة) مع أن موضوعاته وبحوثه لا غنى عنها لكل مسلم، بل هي مطلوبة من كل إنسان لارتباطها به ارتباطا قويا كتزكية النفس وعلم أمراضها وعلاجها، والعناية بصحة القلب، وتصريف النية وأحوال العباد وغيرها، وكلها أمور تكليفية في حق كل مسلم.
7- إن أكثر القائمين على هذا العلم والمتصدرين للمشيخة فيه أصبحت تصوراتهم قاصرة، ومفاهيمهم ضيقة، ويعيشون بعيدا عن عصرهم، وعن بديهيات إسلامية لا يصح أن تغيب عن أصغر مسلم، منها إبقاء المريدين في الزوايا والخلوات وحبسهم عن العمل العام والمشاركة الاجتماعية، ومنها إغفال الجهاد الذي كان هو السمة المميزة للتصوف في عصوره الأولى أمثال: أبي الحسن الشاذلي وأحمد البدوي والعز بن عبد السلام، وثورة سعيد الكردي النقشبندي في تركستان وجهاد المجددي في الهند.

كانت هذه العوامل مجتمعة كافية لتهيئة مناخ للعمل ودافعا قويا استنهض الإمام أبا العزائم إلى دخول هذا الميدان الذي يجمع الغالبية العظمى من طبقات المجتمع ليصحح المفاهيم ويأخذ بيد الحيارى ويرشد الراغبين ويقيم الحجة على المنكرين عملا بقوله صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يغيرهم من ناوأهم إلى قيام الساعة).

بذل الإمام أقصى ما يستطيع لنشر الثقافة بين الجماهير، وذلك لعلمه أنها خير أداة لتربية الشخصية الإنسانية على نمط إسلامي حق، وحمايتها من الانحراف عن صراط الله القويم بالوعي المدرك وبالكمال المستدرك. ومن خلال هذه التجربة الطويلة والنشطة استبان لـه أن تنقية الجو الروحي من نوازع الهوى وشوائب ومطامع النفس وضراوة الأنانية، فكان جنوح الإمام إلى إضافة التصوف في منهاجه التربوي، الذي غطى كل مجالات المعرفة واستوعب كل مناهج التربية تحت علم "جماعة آل العزائم" التي أسسها عام 1311 هـ 1893م، فلم تترك مجالا إلا وتكلمت فيه.
وقام يربى تلاميذه على منهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واهتم بتربية المريدين من كافة الجوانب، وخصوصا تزكية النفس التي حرص عليها الإمام أشد الحرص وخطط لها أساليبها التطبيقية من أقصر طريق موصل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخذ عنه أئمة الصوفية م وأرضاهم كان قواما على تزكية النفس والجسم معا وإحاطة النفس علما بما أودعه الله فيها من أسرار غامضة وحكم عجيبة تحيرت فيها العقول.

بين الإمام رسالة التصوف الروحية والأخلاقية، وبين أن التصوف أخلاق نبيلة، وتخل وتحل وتجل، وكما أنه تفوق في العبادة فإنه أيضا تفوق في العمل، وهو جهاد إلى أن يصل الإنسان إلى طور المعاد، وأن واجب رجال الطرق الصوفية أن يكونوا قدوة ليهدي الله بهم الحق والخير لأنفسهم والناس كافة، فتصبح العقيدة والعبادة والمعاملة والأخلاق، ويكونون من أهل المزيد فيتبعون من القول أحسنه.

كان التصوف مزدهرا في عصوره الأولى، ثم بدأت عوامل الضعف تسري إليه حتى وصل إلى ما هو عليه كما أسلفنا في عصر الإمام، أما الناس فقد انقسموا بالنسبة إلى التصوف والصوفية إلى عدة أقسام يمكن اختصارها فيما يلي:
1- طائفة تنكر على التصوف والصوفية : وهؤلاء
أ‌- إما أن يكونوا على غير تجربة صوفية أو إطلاع على علوم القوم ومشاربهم وأذواقهم، فهم ينكرون العلم وأهله، ولا يتكلفون مؤنة النظرة والبحث قبل رفض الأصل جملة واحدة.
ب‌- وإما أن يكون لهم سابق اطلاع على كتب القوم التي لم تسلم إما من الشطح والتفريط، أو المغالاة والتحريف.
ت‌- وإما أن يكونوا قد نظروا إلى حال معاصريهم وما هم عليه من منكرات فأنكروا، وهم معذورون في حكمهم.

2- طائفة بين المؤيدين والمعارضين للتصوف:
وهؤلاء هم الذين نظروا إلى التصوف كعلم فوجدوه لا غنى عنه للإنسان لما يحتويه من مباحث وأصول قائمة على الكتاب والسنة، ونظروا إلى أهله والمنتسبين لـه والمتزين بزيه فوجدوهم على غير ما طالعوه في كتب أشياخهم، فهم لا يجدون سبيلا أو دافعا للإنكار على التصوف من حيث كونه علم لازم وضروري، ويعترضون على الصوفية لخروجهم عن حد الالتزام بما قيدهم به التصوف المحرر على ضوء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

3- المتمصْوفة (أدعياء التصوف):
وهؤلاء هم الذين اتخذوا التصوف حرفة، والصوفية ستارا يجمعون من ورائه الدنيا ويسعون لنيل حظوظهم وأهوائهم وشهواتهم، فجعلوها تقاليد وطقوس، وجعلوها كرامات، وكم تاجروا وارتزقوا باسم التصوف المظلوم والصوفية البريئة، وهؤلاء هم أس الداء والبلاء، جعلوا التصوف من حياة كلها جهاد وعمل إلى حياة كلها تواكل وعزلة وبطالة وتكفف ومسألة، ومن حياة التجريد إلى حياة الثريد، ومن حياة العلم والمعرفة إلى الجهالة والخرافة، ومن حياة النور إلى الظلمة.. مما جعل التصوف يزدري ويحتقر، والصوفية منكرة مرذولة عزف الناس عنها.

4 – الصوفية المقلدين:
وهؤلاء قد يكون أحسن حالا إن كان التقليد في الأعمال الصالحة رغبة في التشبه بالصالحين والسير على دربهم:
وتشبهوا أن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالرجال فلاح
هذا إن كانت القدوة كاملة في الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما أن يكون التقليد ناتجا عن حب التمسك بما كان عليه شيخه بتسليم كامل ليس مع نظر ثابت وبغير علم ولا حجة ولا تحقق من موافقة العمل لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا ضرورة على أهل الطريق أكثر من نفعه، وضرره على نفسه أقوى من ذلك. أو يكون مقلدا لشيخ جاهل بالشريعة على غير دراية بالأحكام جاهل بطرق تسليك المريدين، فهذا أكثر ضررا لنفسه ، وهذا يعيش طول عمره ساكنا لا يتحرك من مكانه قدما واحدا وهو يظن لجهله أنه مع المقربين.

5 – صوفية الأذواق (أي الذين يتذوقون الأحوال والمقامات) :
وهؤلاء هم المغمورون في الخلق، وهم أهل الله الذين انجذبت أرواحهم إلى معرفة ربهم، سلكوا الطريق الصحيح فزكت نفوسهم، وتنزل الله عليهم بفضله، وعلمهم من لدنه علما أشرقت به بصائرهم، واستنارت به قلوبهم، وهوت إليه أفئدتهم، فهم بمناجاة ربهم يتلذذون، ومن رحيق شرابه يتناولون، بحسب مقاماتهم تعرف أذواقهم، يحفظ الله بهم سننه وآدابه، وهؤلاء كالكبريت الأحمر عزيز وجوده، وإن وجدوا لا يلتفت إليهم أو يهتم بهم وبشأنهم.

بدأ الإمام بتعريف التصوف بطريقة سهلة لتناسب مع كل مقام حتى ينكشف لأهل الطريق أنه لا يفارق السالك في سيره وسلوكه إلى الله تعالى، فقال:
التصوف:
• الأخذ بالأصول، والترك للفضول، والتشمر للوصول.
• ذكر مع اجتماع ، ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع.
• جمل النفس على الشدائد.. للري من أشرف الموارد.
• مفارقة الأشرار، ومصادقة الأخيار، ومتابعة الآثار والأخبار.
• أوله علم، وأوسطه عمل ، وآخره موهبة. فالعلم يكشف المراد، والعمل يعين على المطلوب، والموهبة تبلغ غاية الأمل.

الصوفـي :
ثم يعرف الصوفي الذي نهج نهج التصوف علما ومسلكا فيقول: "الصوفي عمل بكتاب الله مجاهدا، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهدا، الصوفي جاهد نفسه في الله حتى أطاعته، وانسلخ من مقتضيات نقائصه كما ينسلخ الليل من النهار. ويقول الصوفي من جاهد نفسه في ذات الله بتوفيق الله حتى صفا قلبه ووقته وحاله، فصافاه الله، فسمى صوفيا، وهو فعل ماض مبني للمجهول، بشري لـه، وهي كلمة ينشرح لها صدر الموصوف بها لما دلت عليه. وهو مذهب قديم ومنهج سابق وفق الله لـه المقربين، وقد تجمل بهذا المذهب كثيرون من الصحابة في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أهل الصفة من أئمة الصحابى كأبي ذر الغفاري وصهيب وسلمان وسعيد بن خذيمة والعبادلة وبلال وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وم أجمعين.
ولولا أن اللفظ مضبوط بالرواية لقلت إن صفي نسبة إلى أهل الصفة الذين أقبلوا بكليتهم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مجاهدين أنفسهم في ذات الله.

الصوفيـة
عرف الإمام الصوفية فقال: "هم الذين صفت قلوبهم من شوائب الكون، وتطهرت نفوسهم من رجس الشهوات، وتعلقت هممهم بالله تعالى، فنوا عما سواه، ووجهوا وجههم شطره، لم تحجبهم الكائنات عن شهود مبدعها، ولم تشغلهم الآيات الجلية عن فهم إشاراتها وذوق معانيها، هم عبيد الله السائرون على منهج نبيه صلى الله عليه وسلم، وهم الذين تلقوا أسرار التوحيد وأنوار الحكمة بقلوب واعية ونفوس صافية عن العلماء العارفين بالله ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسموا صوفية إما: لأن أئمتهم أهل الصفة، أو لأن كل واحد منهم (صوفي) فعل ماض مبني للمجهور أي صافاه الله، أو لأنهم كانوا يلبسون الخشن من الصوف تزهدا.
سئل الإمام يوما أثناء درس من دروسه عن الصوفية مبدءا وقصودا، فأجاب رضوان الله عليه على البديهة والكتبة يكتبون:
إن هذا اللفظ لا دليل لغويا يدل على أنه مشتق من الاستصفاء ولا من الاصطفاء ولا من الصف ولا من الصفة نسبة لأهل الصفة ولا من الصوف، والظاهر أن مدلوله فعل ماض مبني للمجهول خبرا عن صفاء قلب من سمى به.
والصوفية إمامهم الأول بعد أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم الله وجهه سيدنا أبو ذر الغفاري وسيدنا سلمان الفارسي ما.

معلوم أن الأشياء كلها لها ظاهر، وباطن وهو لبها، فكذلك الدنيا والآخرة. وللدنيا أبناء، وللآخرة أبناء:
1- فأبناء الدنيا شغلوا بما تقتضيه حظوظهم وشهواتهم وأهواؤهم وما يدعوهم إليه الحس والجسم، فرضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)(الرعد: من الآية26). فاستخدموا جوهر النفس النوراني ونور العقل الروحاني لتحصيل كمالات الجسد الفاني جهلا بالآخرة أو تجاهلا.
2- والصوفي عرف قدر الدنيا بالتعليم، وتحقق زوالها بالتفكير، أيقن أن بعدها دار هي الدار حقا لا يسعد فيها إلا من تخلى عن دنس الأجسام، وخبث الشياطين، ودناءة البهائم، وبلادة النباتات، وثقل الجمادات، حتى يتشبه بعالم الملكوت الأعلى.

الصوفي علم قدر الدنيا والآخرة فقدم ما يبقى على ما يفنى ، وباع ما يزول بما يدوم، ورأى في نفسه عوائق تعوقه من بلوغ كماله الحقيقي.. تلك العوائق راسخة في فطرته، راسبة في حقيقته، جواذبها إلى الرذائل قوية، ودافعها عن نيل الخير شديدة، ومقتضياتها التي توبق في الدرك الأسفل من النار ملازمة، ولكنه سطعت على جوهر نفسه أنوار تلك الكمالات من جانب الروح ونداه الحق من قلبه.. (إني أنا ربك.. خلقتك لذاتي وخلقك لك كل شيء، ومنحتك ا لحرية والإرادة، وبينت لك الشر، وأعددت لك النظر إلى وجهي في دار كرامتي وجوار الأطهار المقربين من اصطفيتهم من خلقي). فسمع ولبي، وحن واشتاق، ثم دعته فطرته الحيوانية في دار البلية، فنظر وفكر وتأمل وتدبر، فرأى الدنيا قد آذنته بزوالها، وأشهدته عملها في أبنائها، فرآهم بين راحل إلى القبور وبين غافل عن الآخرة مغرور، فجاهد نفسه من الله حتى أطاعته، وانسلخ من مقتضيات نقائصه كما ينسلخ الليل من النهار، صغرت والله الدنيا في عينه حتى كره المقام فيها بين أهله لولا رحمته ببني جنسه ليدعوهم إلى الخير، واستوحش والله حتى من نفسه، وتمنى أن يكون نفسه الثاني في رمسه شوقا إلى جوار حبيبه المختار، والأنس بالصفوة الأطهار في مقعد صدق عند مليك مقتدر، رجع بكليته إلى الماضي مسارعا إلى ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقيدة والعبادة والأحوال النبوية والأخلاقية الربانية ومعاملتهم الله تعالى في خلقه، رجع إلى الماضي من السنة السمحاء والطريقة المستقيمة فكان غريبا بين أهله لجهلهم بالسنة وتساهلهم بالملة، ولو ظهر بينهم رجل من الصحابة لأنكروا حاله وجهلوا أعماله، ولكن الصوفي قوي في دين الله، لا تأخذه لومة لائم في الله، شهد الحق حقا فاتبعه مسارعا، والباطل باطلا فاجتنبه فازعا، يغار لله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عمل بكتاب الله مجاهدا، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهدا، فسبحت نفسه الطاهرة في ملكوت الله بين صفوف ملائكة الله، فرفعه الله قدرا، لأن الصوفي مجاهد والملائكة غير مجاهدين، ينازل بالمجاهدة فطرته والملائكة على الخير مفطورون، قال تعالى ) وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً)(النساء: من الآية95).
لم تقف همة الصوفي على السياحة في ملكوت الله الأعلى، بل فرت إلى لوامع وميض أنوار قدس العزة والجبروت، فألهت إلى الإشراف على القدس الأعلى، فجذبتها العناية الأزلية واختطفتها يد الحسنى بالسابقية، فأشرف على قدس العزة والجبروت، فأشرقت عليه أنوار مشاهد التوحيد العلية، فاتحد بالحق مفارقا للخلق وهو في الخلق محفوظ الظاهر والباطن، فألهمه الله تعالى نور البيان في فهم القرآن، ومنحه المنة بذوق السنة، فكان أمة وحده.
جعل الله لـه نورا منه سبحانه حفظه به من دواعي الفطر ولوازم الطبع، ومقتضيات رتبته من مراتب الوجود. وجعله نورا لأهل عصره، يجمل بأعماله الأشباح، وبعلومه الأرواح، ويجذب القلوب إلى علام الغيوب، ألقى الله عليه محبة منه فأحبه كل شيء إلا شياطين الإنس والجن الذين جعلهم الله قطاعا لطريقه.

الصوفية لا خلاف بينهم في كل زمان ومكان، وبدايتهم تزكية النفوس من أدرانها، وتطهير الأجسام من نجاستها المعنوية، والاتصال بالمرشد الكامل الذين يتلقون عنه العقيدة الحقة، ويتشبهون به في الأعمال السنية، والأخلاق المرضية، والمعاملات المقربة إلى الله تعالى. لأن المرشد وارث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يورث درهما ولا دينارا ولا أطيانا وعقارا ولكنه صلى الله عليه وسلم ورث نورا وهدى وحكمة وبيانا، قال تعال )كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة:151) ، فهذه الخيرات هي ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ورثها الله بفضله من شاء من عباده.
الصوفية هم أنصار اله وأنصار رسوله صلى الله عليه وسلم في كل زمان ومكان، سترهم الله عن أعين الجهلاء وأخفاهم عن أهل الظلم والطغيان، ولكنهم هم النجدة عند الشدة والقوة عند الضعف والحصون عند الخوف. ذلوا ولانوا وخشعوا واختفوا وتستروا.. نعم، ولكنهم إذا غضبوا لله غضب الله لهم، وإذا دعاهم الحق لبوه رخيصة دماؤهم عليهم حنينا إلى الموت في سبيله والقتل في إعلاء كلمته، متى تحركوا لله لا يسكنون حتى يظهر الحق أو يتصلوا بدار الحق، كم لهم صولة لله بالله أزالوا باطلا تعسر زواله على الجيوش الجرارة، فهم الأنوار التي تسطع في حالك الظلمات فتمحوها.

وقد اثبت التاريخ ما أظهره الله تعالى بهم، منهم آل بدر أنصار الله المهاجرون استضعفوا في أوطانهم ففروا إلى الله تعالى، والفقراء من الأنصار الذين خرجوا ليقابلوا تجار من الشام فقابلوا صناديد العرب وجمراتها، فكان كل رجل منهم كأنه جيش جرار.. غضبوا لله تعالى غضبة محت الكفر وأهله، وفي كل عصر وزمان قام فيه أهل الطغيان ليطفئوا نور الله بأفواههم، أشرقت أنوار الصوفية فمحت الظلمات، وهم الذين نشروا تلك الأنوار في سائر الأقطار بالقرآن والسنان شوقا إلى لقاء ربهم وحبا في إعلاء كلمة الحق.
وأهل الصفة م هم الذين بثوا تلك الروح العالية في كل الحوادث. أقبل جيش الروم عندما قام الصحابة لفتح القسطنطينية ، وكانوا م قليلين وجيش الروم يناهز الستمائة ألف مقاتل، فهجم رجل من التابعين على قلب الجيش منفردا فناداه آخر قائلا أرجع فإن الله يقول (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )(البقرة: من الآية195)، فصاح سيدنا أبو أيوب الأنصاري- وهو من كبار أئمة الصوفية قائلا (ويحك.. لقد نزلت الآية فينا وأنا أعلم سبب نزولها، ليست التهلكة الإقدام على هذا الجيش وإنما التهلكة الإحجام، فإن المؤمن إذا أقبل فاستشهد لأحياه الله الحياة الحقة وإذا أحجم هلك).. ثم كبر وهجم على الجيش كله منفردا فاخترق صفوفه وأقبل المسلمون بعزيمة ماضية وراءة، فهزم الله جيش الروم وكادت تفتح القسطنطينية لولا موت أمير المؤمنين معاوية ورجوع أمير الجيش وقواده لهذا الحادث العظيم، فكان الصوفي في وقت الغيرة لله يجعل من معه مشاهدا فردوس الله، ليس بينه وبينها إلا أن يطعن بسنان أو يضرب بسيف ، فهم م زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، ولكنهم عند المقتضيات يقومون لله رغبة لإعلاء كلمته سبحانه.
وهم الذين إذا أقدموا لم يحجموا، يعملون ولا يقولون، كثرت أعمالهم وقلت أقوالهم، خافوا مقام ربهم ونهوا النفس عن الهوى، لهم جانب مع الله تعالى إذا سألوه استجاب لهم، ولهم أعمال خالصة لذات الله إذا قاموا بها كان الله معهم ولهم.
لم تقم دولة من دول الإسلام إلا وهم مؤسسوها، ولم تقم فتنة من أعداء المسلمين إلا وهم مطفئوها، أول الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامهم، ودام الأمر فيهم إلى سيدنا الحسن السبط عليه السلام، ومدتهم عمر الخلافة حتى انتقلت إلى الملك العضود، وهم الذين قلبوا دولة بني أمية وأعادوا الدولة لبني هاشم، وهم الذين أيدوا دولة آل عثمان حتى شيدت المساجد في بودابست وفي بولونيا، ولم يبق إلا أن تصير أوربا إسلامية كما كان أولا، والتفت الصوفية إلى خلواتهم وتجريدهم عندما رأوا أنه لا حاجة لهم لقوة سلطان المسلمين، وهم الذين ردوا الصليبين عن الثغور الإسلامية في زمان صلاح الدين الأيوبي عندما غاروا لله غيرة سلبت عقول الإفرنج حتى أصبح الحليم سفيها. ولا غرابة: فإن درويشا لم يبلغ خدمة المرشد غار لله هو ودراويشه غيرة قهرت ملك الحبشة وجيوش الطليان وجنود فرنسا والجيش المصري والإنجليزي، حتى مات منصورا ظافرا وجيشه على أبواب مصر، ولكن غادرته المنية وقام الأمر غير الدراويش فاختلفت القلوب وتغيرت.
وللصوفية أسرار فوق كل قوة لأنهم تابوا إلى الله فعلموا بالأسباب، حتى إذا قاموا بقدر طاقاتهم رجعوا بالكلية إلى مسبب الأسباب فكان معهم ولهم.
وناهيك بقوم يعلمون بما أمرهم الله ويجاهدون بأنفسهم أكبر المجاهدة في ذات الله ثم يسارعون غيرة لله في محو ما يكره وإظهار ما يحب، فإذا لم تساعدهم الأسباب التجئوا إلى القوة التي هي فوق الأسباب وهي قوة الله تعالى.

وهكذا نجد الإمام قد كشف النقاب عن الصوفي وحقيقة الصوفية بما يجعلك تفرق بين صوفية الأحوال والأعمال والجهاد والمجاهدة، وصوفية الأقوال والأوراق والارتزاق بعين المنصف للحق المبين للحقيقة الرافع للوهم والخيال. وفي سبيل ذلك قام بما يلي:
1- قدم علم التصوف في قالب خال من التعقيد والتراكيب الرمزية التي تجعل الأمر غيبا عن المدارك والعقول.
2- جمع بين طريقي السابقين في الوصول وهي:
أ‌- طريق الإشراق: أو ما يسمونه الجلاء والتصفية. لأنها مبينة على تصفية القلوب والسرائر بتخليتها من الرذائل بالفضائل.. أو ما يقولون عنه: إذا زكت النفوس من الأغيار والأكدار أشرقت عليها شموس المعارف والأسرار، وفي ذلك قال الإمام: جاهد تشاهد، وقال: من حاسب نفسه عوفي من العقاب.
ب‌- طريقة البرهان: التي اشترطت إصلاح الظاهر أولا وعلاجه قبل علاج الباطن لقوله صلى الله عليه وسلم (تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة.. وهو إمام العمل والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء).
والجمع بينهما يكون الكمال للساك، فيكون قد اتقن الشريعة والطريقة، وسار على الحقيقة.
3- بين أن التصوف علم وذوق متلازمان، فعلم مجرد لا ينتج ، وذوق بغير علم لا يكون.
4- نبه على عدم الدخول في الجدل مع المنكرين، وأكد ضرورة صرف أنفاس المريد في مرضاة الله سبحانه وتعالى.
5- اهتم بتزكية النفس فهي الجهاد الأكبر، وتصفية القلب فهو الطهارة الكبرى، وكان دائما يقول: (زك نفسك قبل السماع لتشرق عليك أنوار المعرفة، فإن النفس كالبدن إن لم يكن صحيحا كلما غذيته ازداد مرضا).
ومن هنا ندرك أن الإمام اهتم بالوعاء الذي يوضع فيه العطاء الرباني، ولإظهار هذا المعنى كان يقول
لا تمنعن ما عون شراب الراح * طهره يشهد حضرة الفتاح
لا تمنعنه ترى جميلا ظاهرا * قد لاح بالتنزيه للأرواح

6- عمل على إحياء ما اندرس من أحوال الأئمة السابقين ومقاماتهم وأذواقهم ، فكان متمما لما أرسَوْهُ من قواعد للتصوف، مشيرا إلى ما تطاولت إليه يد العابثين أو حرفته يد الغالين حتى أجلى صورة التصوف الحقي، وقدم صورة كاملة للصوفي الكامل الذي يكون في الأمة طبيبا لأمراضهم حكيما في مداواة أحوالهم

يتبع



#محمد_عبد_المنعم_عرفة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [17]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [16]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [15]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [14]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [13]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [12]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [11]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [10]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [9]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [8]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [7]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [6]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [5]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [4]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [3]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [2]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [1]
- فن الإستمتاع بالحياة [2]
- فن الإستمتاع بالحياة [1]
- النقاب عادة لا عبادة وليس من الإسلام [2]


المزيد.....




- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبد المنعم عرفة - الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [18]