أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أيمن عامر - الكهنوت في الإسلام (٢-;-)















المزيد.....


الكهنوت في الإسلام (٢-;-)


أيمن عامر

الحوار المتمدن-العدد: 4781 - 2015 / 4 / 18 - 23:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



الكهنوت هو السلطة المختصة بشئون الدين أو المسئولة عن الشئون الروحية في مجتمع من المجتمعات. قلنا إنه صحيح أن تاريخ الإسلام لم يعرف سلطة واحدة منظمة جامعة شاملة مختصة بأمر الدين، لكنه صحيح كذلك أن الإسلام قد عرف أشكالاً مختلفة لهذه السلطة وقد توزعت على أكثر من مؤسسة في غير هرمية أو تراتبية صارمة وفي غير البنية المعهودة للسلطة الكهنوتية في المسيحية والمتمثلة في الكنيسة برجالها وعلومها ورتبها.
تعلن الكنيسة ما هو معروف حتى دون إعلان منها أنها صاحبة السلطة الدينية في المجتمع، تقوم على شئون التبشير وترعى الأمور الروحية لشعبها وينضوي تحت جناحها كل من يريد أن يشغل منصباً دينياً في المسيحية، غير أنها لا تقول، ولا تجرؤ على أن تقول، إن كل من هو خارج عن سلطانها ليس مسيحياً.
والأمر في الإسلام مختلف، فليس فيه مؤسسة ذات بنية محددة معروفة فيها تراتبية وتقوم على «أسرار» الدين، غير أن أمور الدين لها حدود خير وأولى وأحق من يفتي فيها هو رجال الدين أو علماء الدين وفقهاؤه.
والعبرة في نهاية الأمر هي بمدى ما يشغله الدين من سلطة على نفوس أتباعه ومدى الحرية التي تتاح لهم بعيداً عنه. ونقول إن الأمر على غير ما يصوره أولئك الذين يرفعون شعار «لا كهنوت في الإسلام».
الإسلام بطبيعته - وكما يقولون هم في تباهٍ وفخر - دين شامل حاضر مع الإنسان (المسلم بالطبع) في كل شأن من شئون دنياه، وفي كل لحظة من وقته، وفي كل مكان يكون فيه فكأنما يتنفسه مع الهواء ويبتلعه مع الغذاء ويسري في عروقه كما يسري الدم. فما من تصرف وما من سلوك وما من حركة أو سكنة إلا وللدين في كل ذلك رأي وموقف، حتى قال بعضهم ناصحاً: البس نظارة الإسلام لترى كل شيء في صبغة الدين الحق فلا تأخذ ولا تدع إلا وفق أوامر الله ووفق ما يرتضيه.
وإنما يتأتى ذلك عن طريقين، أحدهما من طبيعة الدين (أي دين كان)، والثاني من طبيعة الدين الإسلامي نفسه.
أما الأول فهو العقيدة التي يتبناها المسلم ويتشربها عقله وضميره من أنه مسلم مؤمن بالله الكلي القدرة المطلق القوي الذي يحصي عليه سكناته وحركاته فيحاسبه عليها إما بنعيم مقيم وإما بجحيم خالد.
ومن ثم يصاحب هذا الإيمان المسلم في كل لحظة من لحظات حياته ابتغاء رضوان الله والجنة، واتقاء سخطه والنار، ومن أجل أن يكون في معية الله فينجو من قبضة العدم وتكتسب حياته معنى لا يكون لها دون هذا الإيمان.
والأمر الثاني الراجع إلى طبيعة الدين الإسلامي نفسه هو أنه - كما يقول علماؤه بل وعامة المتدينين به - عقيدة وشريعة معاً، أي أنه بعدما يكون قد رسخ وجوده كفكرة (أو عقيدة) متغلغلة في وجدان المسلم وضميره تصاحبه كظله أو كطيف أو قرين لا يغافله ولا يتخلى عنه وبعدما يصير المسلم مستعداً بكل كيانه لتلقي أوامر دينه حتى إنه ليكون من الخطل أحياناً محاولة التفكير فيها، وإنما يكون قصارى القول في حكم من أحكامها أو فرض من فروضها أن الله أمر بها وحسب.
وهذا منطقي من الزاوية التي يتطلبها الإيمان، فإذا كنت أؤمن بإله كلي القدرة عالم بكل شيء خالق لكل شيء سيحاسب الناس جميعاً على ما فعلوا وربما على ما تركوا، وإذا كان هذا الإله هو خالقي بلا شك فهو بالتأكيد أدرى بما يُصلح دنياي وأخراي. ومن ثم فإن المطلوب هو السمع والطاعة، ليس فحسب لأن عدم السمع يمثل عصياناً قد يؤدي إلى ما لا تُحمد عقباه من غضب الإله وعذابه، وإنما لأنه لا يُعقل أن أعصي الخالق القوي القادر الخيِّر العالم بكل شيء الذي لا يريد بي إلا كل خير والذي أرسل كلماته الخالدة في كتابه الباقي لكي تقوِّم الخطأ وترشد إلى الصواب، وأرسل رسوله كي يمثل قدوة ومثالاً يُحتذى، فلا يبقى للمسلم بعد من حجة يرتكن إليها في اتباع شيء أو شخص في غير ما يقول به الدين.
ومن ثم فهذه أوامر الله وتعاليمه مبثوثة في كتابه، وهذه هي سنة النبي تركها كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فبديهي - والأمر كذلك - أن تكون السلامة في السمع والطاعة والاتباع وأن يكون الهلاك في المخالفة والجدل والابتداع. ومن ثم فإن «أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي رسوله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»، وهو الحديث الذي صار تقليداً أن يفتتح به السلفيون والأصوليون خطب الجمعة في صلاتهم.
***
في أول عهود الإسلام كانت السلطة بشقيها (الديني والدنيوي) مجموعة في يد النبي وحده، صحيح أنه كان يشاور كبار الصحابة في الأمور المهمة إلا أن القرار الأخير كان له وحده «وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله»، وكان المسلمون جميعاً مأمورون دينياً بالاتباع والسمع والطاعة بحكم أن النبي هو المعصوم الذي لا يجوز عليه الخطأ وبحكم أنه مؤيد بالوحي من قبَل السماء.. «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم».. «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً».
وكان المسلم إذا ما حزبه أمر أو أُشكل عليه شيء في أمور دينه ودنياه يفزع إلى النبي ليهديه ويقر له التشريع الصحيح، وإذاً فقد كان النبي هو القاضي والمشرع والمنفذ.
ولما توفي النبي وصارت الخلافة إلى أبي بكر كانت السلطة كذلك في يده بوصفه «خليفة رسول الله» وإن شاركه الصحابة في أمر الفقه والتفسير، فهو وإن كان الصاحب الأول لا يوحى إليه، وحسبه أنه يجتهد.
ولما صار الأمر إلى معاوية وقامت الدولة الأموية توزع أمر السلطة نسبياً، كان معاوية ومن خلفه هو الحاكم أو الخليفة أو السلطان - سمِّه ما شئت - وكان هو أمير المؤمنين القائم على أمور المسلمين في تصريف شئون معيشتهم وحماية بيضة الدين وشريعته وأوامر الله ونواهيه.
ومع تطاول الزمن وتوسع الدولة، توسع أمر الكهنوت فنشأت المذاهب الفقهية التي تسيَّد منها الأربعة المعروفة (الحنبلي والمالكي والشافعي والحنيفي)، وكان لكل مذهب فقهاؤه وقضاته، وقد امتد هذا الأمر حتى سقوط الخلافة في عشرينات القرن الماضي، حيث تقوم المحاكم الشرعية في كل الولايات يلجأ إليها المتخاصمون، وحيث الأزهر، وحيث الجوامع تقف بمثابة معاهد لتخريج الفقهاء وتعليم المتعلمين أمور الدين من تفسير وفقه وحديث وسنة ودعوة.
وكما كان لأهل السنة مذاهبهم ومعاهدهم العلمية، كان الأمر كذلك عند الشيعة، فلهم مذاهبهم وأئمتهم وحوزاتهم العلمية.
ولقد اختلفت أمور السياسة عند أتباع المذهبين الكبيرين، فالسنة يقولون بالبيعة التي تنعقد بموافقة وجهاء القوم على تولية أحدهم السلطة أو الخلافة، حتى قال بعضهم إن البيعة تنعقد بالرجلين بل والرجل الواحد. ومنهم من يتشدد في أهمية الإمارة والمبايعة إعمالاً للحديث «إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم».. والحديث «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، وبهذا صار أمر الخلافة أو السلطة الزمنية شأناً دينياً خالصاً يدخل في باب الإلزام والوجوب والحكم بالحل أو بالحرمة، ومنهم من قال بالتسليم للحاكم المتغلب بالشوكة نظراً لرؤيتهم أن الحكم الظالم خير من الفتنة التي تأكل الأخضر واليابس.
هذا في أمر الولاية الكبرى أو الإمارة أو الرئاسة. وإذا ما استتب الأمر لحاكم ما فما أسهل أن يجد حوله من العلماء والفقهاء والمشرعين والمفسرين من يخرج له أشد الأحكام تعسفاً وجوراً وميلاً عن الحق، وإنما يرجع ذلك إلى المرونة التي اتسم بها الإسلام في أمور التشريع والأخذ بالأعراف السائدة، وتساهله في أمر رأس السلطة فلم يقطع في ذلك برأي ولم يحدد وسيلة معينة لاختيار الحاكم، وإنما هي مبادئ عامة ينبغي توافرها في الحاكم، وما أسهل أن يدعيها من شاء في نفسه، ومتى ما تغلَّب على خصومه خضعت له الأعناق وتمت له البيعة.
وكما أن أمر السلطة الزمنية غير واضح في تاريخ الإسلام، فكذلك أمر الكهنوت أو السلطة الدينية، فالدين النصيحة لأولي الأمر وخاصة المؤمنين وعامتهم، وأمر الدين ليس حكراً على أحد، وكل من يفقه أمور لغته ودينه يجوز له أن يدعو إلى الدين وأن يضرب في الفُتيا بسهم. ولهذا كان أمر هذا الكهنوت شائعاً في المسلمين، ولهذا أيضاً انتشرت الكتاتيب والمعاهد التي تُخرِّج الدعاة والفقهاء والقضاة الشرعيين. وبسبب من هذه المرونة في أمر الكهنوت الإسلامي كان سهلاً جداً على الخليفة أو السلطان أو الحاكم - أياً كان لقبه - أن ينتقي من هؤلاء المتعلمين من يشاء ليصيروا دعامته وسنده الديني والفقهي فيخفض من يشاء ويرفع من يشاء، وقد تنشأ معارضة دينية تصارع علماء السلطان، وقد تصارع السلطان نفسه إن سمحت الظروف بذلك، إلى أن يذهب أمر السلطان وتدول دولته فيأتي غيره ويصنع مثل صنيع سابقه فيُبعد علماء ويقرب آخرين ويتخذ من التشريعات والقضاة والمنفذين ما يوافق رؤيته وهواه أحياناً.
كانت مصر تدين بالمذهب الشيعي في أيام الفاطميين. ولما جاء صلاح الدين قضى على هذا المذهب فأحرق المكتبة الفاطمية وعزل القضاة الشيعة وأحل فقهاء المذاهب السنية مكانهم، وحوَّل التعليم في الأزهر الذي أنشئ في الأصل ليكون قلعة لنشر المذهب الشيعي ليصبح رأس المعاهد العلمية السنية في العالم الإسلامي أجمع.
***
وبسبب من طبيعة السلطة الدينية في الإسلام، ورغم وجود الخلافة الإسلامية القوية في العهدين الأموي والعباسي وإلى أيام المماليك، كانت السلطة الدينية تابعة في أغلب الأحوال إلى السلطة السياسية أو الزمنية.
غير أن ذلك لم يمنع المعارضة من استغلال لحظات ضعف قبضة السلطة المركزية على الأطراف لتنشأ معارضة قوية مسلحة تهاجم رأس السلطة وعلماءه وتسمهم بالنفاق وابتغاء الدنيا وبيعهم دينهم من أجل عرض من متاع الدنيا، ويأخذون في حشد الأتباع حولهم يغرونهم بدعاوى انحراف الخلافة عن طريق الحق والعدل والرغبة في إقامة الإسلام وتطبيق شرعه التطبيق الصحيح، وما إن يكتمل لها من القوة والعتاد ما يؤهلها للتحرك حتى تستقل بجزء من أرض الخلافة تقيم عليه دعوتها، أو تهاجم الخلافة المركزية، وإذا ما انتصرت عليها دانت لها الرقاب وصارت هي صاحبة السلطة الجديدة حتى يظهر لها معارضون، وتدور الدائرة.
وهذا الأمر ليس جديداً، بل نستطيع القول إنه حدث منذ بدايات الإسلام الأولى، فما إن مات الخليفة الثالث عثمان بن عفان حتى بدأ النزاع على السلطة، وانقسمت الدولة الوليدة إلى شطرين كبيرين مسلحين متقاتلين، ولم يكن السلاح هو الوسيلة الحربية الوحيدة في ذلك الصراع، وإنما استُخدم الدين أصرح ما يكون الاستخدام حتى رُفعت المصاحف على أسنَّة الرماح طلباً لتحكيم الأمر الإلهي في شأن السلطة، وما انتبه هؤلاء إلى أن كلمة الله (وبسبب من الكهنوت) قد تميل مع هذا مرة ومع ذاك مرة حسب التأويل والإيمان، وكلنا نعرف القصة المشهورة عن مقتل عمار بن ياسر الذي قال له النبي «ستقتلك الفئة الباغية»، فلما حارب في صف علي وقتله رجال معاوية ووقع في نفوسهم شيء لمقتله رفعوا الأمر إلى معاوية فخرج من الأمر بقوله «إنما قتله من أخرجه»، ولم ينته أمر هذه الفتنة إلا باجتماع نفر من الخوارج واتفاقهم على قتل الثلاثة الذين رأوا أنهم أس الشرور وهم: علي ومعاوية وعمرو بن العاص، فنجح ابن ملجم في قتل علي وفشل صاحباه في قتل عمرو ومعاوية، ولما تنازل الحسن لمعاوية صار له الأمر خالصاً حتى سُمي ذلك العام «عام السنَّة والجماعة»، غير أن الحسين كان له كلام آخر وقاتل على الأمر حتى قُتل، قتله جيش يزيد بن معاوية. ومنذ ذلك الوقت لم تكف جماعة المسلمين عن التفرُّق والتشعُّب وولادة الفرق والطوائف والمذاهب، يتصارعون تحت راية الدين ويجدون من العلماء والفقهاء من يؤيدونهم حتى يكفِّر أحدهما الآخر ويُخرجه من الملة بأشد مما يُخرج اليهود والنصارى والمجوس وسائر الكافرين، حتى رأينا منهم من يهاجم بيت الله الحرام ويقتلع الحجر الأسود من مكانه ويذهب به إلى حيث سلطانه ليغيب الحجر عن مكانه أعواماً عديدة.
***
وبنظرة سريعة على تاريخ المسلمين السياسي/ الديني ستجد العجب، ستجد أنهم ما نجحوا وما استطاعوا التوصل إلى أسلوب لنقل السلطة سلمياً، بل كان الغالب أن يحدث ذلك بغاية العنف، وأن ينكل الحاكم بخصومه أشد التنكيل حتى كان منهم من يقتل أباه أو أخاه ليستأثر بالحكم، وحتى كان منهم من يشوه وليَّ العهد بأن يسمل عينه أو يقطع ذراعه كي يقطع عليه طريق الحصول إلى السلطة، إذ الخلافة تشترط السلامة الجسدية والبرء من العيوب التي تعوق الحاكم وتمنعه من إدارة شئون الدولة.
ومع كل حاكم يدور الزمن دورة فيسقط فقهاء وعلماء ويقوم آخرون غالباً ما يكونون الأذكى والأسرع فهماً لنفسية الحاكم ومعرفة توجهاته، فيفصِّلون له من النظريات والتشريعات السياسية والدينية ما يوافق هواه ورؤاه.
***
وبسبب من هذه المرونة المعهودة في الكهنوت الإسلامي توافرت للناس حرية في التفكير والتأويل والتفسير إلى أن تعددت المذاهب والفرق بشكل يكاد يفوق الحصر. فما إن بعُد العهد نسبياً بزمن النبوة، وما إن دخل في الدين أناس من شتى العرقيات والأجناس والخلفيات الثقافية المختلفة، وما إن توسعت الدولة واحتكَّت بثقافات مغايرة حتى أخذ كل ذلك يصب في الخضمِّ الكبير الذي تفرَّعت عنه الفروع والجداول والأنهار. فمن سُنَّة إلى شيعة إلى جهمية إلى أشعرية إلى معتزلة إلى مُرجئة إلى إسماعيلية إلى قرامطة إلى اثني عشرية.. إلخ، ولم تتوقف هذه المذاهب والحركات عن التوالد حتى العصر الحديث.. بل إلى يوم الناس هذا.
***
ماذا نقول؟ أنقول إن تلك الحرية في أمر الكهنوت الديني وعدم تنظيمه في مؤسسة معروفة واضحة محددة قد انقلب شراً على الناس بعد أن كان يفتح آفاقاً من الحرية والمرونة؟ نكاد نجزم أن نعم.
***
لقد أباحت طبيعة الكهنوت الإسلامي تفرُّق الناس أحزاباً وشيعاً لا حصر لها، وأباحت لكل أحد من الناس أن يكون عالماً أو قاضياً أو فقيهاً يقول برأيه ويزعم أنه رأي الدين ويأخذ على غيره من الناس أنه يزعم أن رأيه هو رأي الدين فيرى القذى في عين أخيه ولا يرى الخشبة التي في عينه. وأتاحت هذه المرونة في طبيعة الكهنوت الإسلامي لكل حاكم أو طامح إلى الحكم أن يجمع حوله عدداً من العلماء يجمعهم من كل مكان ليكونوا له عوناً دينياً فيُكسبوه الشرعية ويجمعوا له الأتباع، يفعل ذلك في سهولة ويسر، إذ ليست هناك مؤسسة كهنوتية يستعطفها أو يحاربها حتى يستخلص منها من يؤيده من العلماء، وإنما هم موجودون على مدِّ يده، يُقنع من يُقنع منهم، ويغري من يغري منهم. بل إن هذه المرونة أتاحت ما هو أبعد من ذلك، أتاحت لكل من يرى في نفسه طموحاً للسلطة أو الزعامة من العلماء والفقهاء أن ينازع بنفسه ليكون السلطان أو الحاكم أو الخليفة فيجمع فرعي السلطة (الدينية والسياسية) بين يديه.
***
ولقد كان الأمل معقوداً على انتهاء كل هذه الفوضى مع بزوغ الدولة الحديثة وإسقاط الخلافة. ولقد حدث ما ينعش هذا الأمل في النفوس، إذ قامت الدول الحديثة في العالم العربي المبنية على فكرة القومية والمواطنة وتوزيع السلطات الثلاث (القضائية والتشريعية والتنفيذية) والفصل بينها، ونشأت الأحزاب ودارت عجلة العمل السياسي وتمتع الناس بقدر من الحرية والحراك السياسي والاجتماعي، إلى أن أطل شبح الماضي من جديد، يرفض الدولة الحديثة بتشريعاتها وقوانينها ودساتيرها، ويراها تقليداً أعمى للغرب، بل يراها صنيعة ذلك الغرب المستعمر، ويرفع اللافتات، ويحارب الحداثة حرباً ضروساً، ويدعو بكل قوته إلى إحياء دولة الخلافة وإن استخفى أحياناً تحت شعارات الصحوة الإسلامية أو الفكرة الإسلامية وغير ذلك، وإنما الهدف الأساسي هو إقامة الخلافة للعودة إلى العصر الذهبي ومجابهة الغرب الكافر وصنيعته في المنطقة، وما درى هؤلاء أنهم يقدمون بذلك أجلَّ الخدمات للغرب الذي يدَّعون محاربته ومعاداته، إذ هو لا يطمع أن يفعل بهم ما يفعلونه هم بأنفسهم من محاربة أوطانهم ورفع شعارات الخلافة والدولة الدينية لتستأثر كل جماعة بادعاء امتلاك الحق والجدارة بإقامة الخلافة فتُعمل سيفها في أبناء وطنها ويكون الصراع الطائفي والمذهبي المرير.
***
في عصرنا الحديث بزغ نجم الدعوات الدينية التي تريد العودة إلى أصل الإسلام، وكان من أقواها وأشهرها دعوة محمد بن عبد الوهاب في شبه جزيرة العرب والذي تحالف معه عبدالعزيز آل سعود حتى قامت المملكة السعودية التي يتوارث فيها عائلة واحدة ممتدة شأن السلطة السياسية ويعاونهم بالمدد الأيديولوجي والفكري والديني أحفاد محمد بن عبد الوهاب مع الاتفاق على توزيع غنائم السلطة والنفط.
ومن عجب أن كانت هذه الدعوات التي تزعم محاربة الاستعمار هي نفسها الحربة المسمومة الأشد فتكاً التي استعملها الاستعمار لتخريب أوطانها وتمزيقها دويلات ومذاهب وطوائف.
وفي مصر ظهر حسن البنا ليؤسس جماعة الإخوان المسلمين عام 28 داعياً إلى إحياء أمجاد الإسلام أو بالأحرى الخلافة الإسلامية، واستطاع الرجل تكوين تنظيم قوي يخرج في مظاهرات لها وزن. ولأنهم يدينون له بالسمع والطاعة حتى تقبيل اليد، ولأنه يمثل سلطة سياسية وإدارية ودينية في نفس الوقت فقد كان يستطيع تحريكهم متى شاء ونحو ما أراد.
في ذلك الوقت كانت الحياة الحزبية والسياسية في مصر مبشرة جداً وكانت الديمقراطية فاعلة إلى حد كبير، وكانت الأمة مصدر السلطات، غير أن ذلك لم يكن يروق للملك ولا للإنجليز ولا إلى حسن البنا وجماعته، وإن اختلفت أسباب كل فريق منهم.
وحينما خرجت المظاهرات المؤيدة لمصطفى النحاس، والداعية لتقليص سلطات الملك، هاتفة: الشعب مع النحاس، أوعز البنا إلى أتباعه فخرجت مظاهرات هاتفة: الله مع الملك، وإذا ما أُدخل الله في معادلة سياسية فسدت فساداً وبيلاً، ثم كانت البركة فيهم وفي حكم الضباط الأحرار بعد يوليو 1952 في القضاء على تلك التجربة الوليدة، ومن يومها والصراع دائر بين أصحاب العمامة وأصحاب الكاب العسكري.
وبعد حكم الشاه استطاع ملالي الشيعة في إيران أن يُحكموا قبضتهم على السلطة، وكان أول ما فعله الخميني أن نصب المشانق للمعارضة، وكان ممن قُتلوا عليها زميله في الزنزانة في عهد الشاه، ثم كان القرار العظيم بفرض الحجاب على النساء وقمع المظاهرات بالبطش والجبروت.
ومن المفارقات المدهشة أن المقاتلين الإسلاميين في أفغانستان ضد الاحتلال السوفيتي الشيوعي (الكافر) كانت تحركهم وتمدهم بالمدد المادي والمعنوي الولايات المتحدة الأمريكية (المؤمنة جداً) إلى أن انقلب السحر على الساحر وتحول مقاتلو أفغانستان وطالبان والقاعدة لمهاجمة أمريكا نفسها.
***
ولما انتبهت أمريكا للخطر الذي صنعته بيديها أخذت تخطط خططاً أخرى لنقل معارك الإرهاب الديني من أراضيها إلى أراضي العرب والمسلمين في الشرق الأوسط. وبعد ثورات الربيع العربي دارت الرحى بشدة وبسرعة محيرة للعقول والأبصار، ففي حين كان يطمح المتظاهرون في البلاد العربية إلى «الحرية والعيش والكرامة والعدالة» والتخلص من القهر والاستبداد إذا بالربيع ينقلب خريفاً ليأتي اليمين الديني المتشدد إلى السلطة ولينفجر بركان الصراعات المذهبية والطائفية فتحترق سوريا، وتسقط ليبيا في المستنقع، وتُنقذ تونس ومصر نسبياً، أما العراق فالتخطيط والتنفيذ فيه يجري من قبل ذلك، منذ 2003.
ثم إذا بالمتشددين يتقاطرون كالذباب من كل حدب وصوب ليس من أفغانستان وباكستان فحسب، ولا حتى من البلاد العربية، بل من بلاد الغرب نفسه، يتقاطرون إلى أرض الخلافة، أرض الأحلام السوداء والصراعات المريرة، فيتجمعون في العراق ويمتدون إلى سوريا وارثين ذلك الميراث الأسود الذي خلَّفه أبو مصعب الزرقاوي. وبدلاً من أن يتوحد أبناء الوطن الواحد لمجابهة الاستعمار ومجابهة مشاكلهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية ينقسمون أحزاباً وشيعاً.
هذا ما فعله أبو مصعب الزرقاوي حين قسم الجيش المحارب لأمريكا إلى شيعة وسنة وأخذ يقتل بعضهم بعضاً. وهذا ما فعله خلفه الخبيث أبو بكر البغدادي زعيم «داعش» الذي خلق في المنطقة دوامة سوداء كالثقب الأسود لا أحد يعلم متى تنتهي ولا إلى ماذا تصير.
وكان طبيعياً أن تتطور الأمور في مجراها الطبيعي. فالعراق تحكمه الطائفية، وحزب الله يحارب في أرض ليست له، وحاكم سوريا علوي يواجه الجيش الحر الإسلامي السني، وداعش تكره الشيعة أكثر مما تكره اليهود وتفسِّق بل تكفِّر عامة المسلمين بمن فيهم الإخوان والسلفيون والجيش الحر نفسه.. وتستمر الدوامة وتشتد حدتها أكثر فأكثر.
وفي اليمن لا يهدأ لعلي عبدالله صالح بال حتى يشعلها فتنة طائفية ويركب الحوثيون رءوسهم ويسعون للاستيلاء على السلطة فتشعر السعودية بأنها مهددة فتكوِّن حلفاً سنياً لمواجهة الحوثيين الشيعة، وشيخ الأزهر يدين المذابح التي يتعرض لها أهل السنة في العراق!! ولا أحد يعرف أيقصد الدواعش أم غيرهم، تركيا تطمح إلى إعادة دولة الخلافة العثمانية، وإيران تصرح على لسان مستشار الرئيس الإيراني أن الإمبراطورية الفارسية قادمة وعاصمتها بغداد، وفور هذا التصريح كانت ضربات «عاصفة الحزم» للحوثيين في اليمن.. فهل ستسكت إيران، أم ستسعى لتجريب أسلحتها حتى لا يفسدها الركود؟!
***
كل هذه الصراعات المريرة يدعمها كهنوت ديني، إلا أنه مع الأسف أشبه بالجهل المقدس، الذي لا يكون من نتيجته إلا الحمق والعنف والقتال والخراب، ومن حق كل أحمق أو جاهل حفظ آيتين أو سمع حديثين، وإن كانا موضوعين، أن يفتي وأن يؤسس جماعة دينية تطالب بنصيبها في التركة. ولكن إن استمر الوضع هكذا فستدخل المنطقة المحرقة، ولن تكون هناك مغانم ولا مناصب تستحق الصراع من أجلها.
غير أن الحمق الديني من أخطر أنواع الحمق، وإن كان لهذه الصراعات الدينية المريرة من نتيجة فنرجو أن تكون القضاء على هذا الجهل المقدس.



#أيمن_عامر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكهنوت في الإسلام (1)
- هم صنيعتنا
- مكانة الحرية الدينية
- الإسلاميون والتكنولوجيا
- مثلث الرعب: التكفير - القتال - السلطة (الحاكمية)
- محاولات الإصلاح من داخل السياق
- لماذا تتعثر محاولات الإصلاح الديني؟
- من أين جاءت داعش؟


المزيد.....




- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أيمن عامر - الكهنوت في الإسلام (٢-;-)