عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4772 - 2015 / 4 / 9 - 14:53
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تأريخية المجتمع العراقي (ج2) دراسة في علم الأجتماع النفسي.
لذا في الوقت الذي يشهد المجتمع الإنساني العام ولادة أية حركات تقدمية أو تطورية أو الخضوع الطبيعي لمقتضيات الحداثة وموافاتها نرى أن المجتمع العراقي نزولا للفرد العراقي لا يتكيف بسهولة مع هذا الواقع التقدمي ويرفضه صراحة ويسايره باللا وعي يتعلل في كل مرة بحجج وأوهام ,وذلك ليكرر عودته في كل مرة لماضيه السحيق بالرغم أنه لا يمانع أن يجاري كل الشكليات التقدمية القشرية ,العراقي مثلا وهو في قمة تطوره الفكري الحضاري وأرتقاءه العلمي يتمسك بحرص الإنتساب للقبلية والتفاخر بالأجداد عادا ذلك من طبيعيات العلاقة الأجتماعية .
إنه يعود للتأريخ أبدا ولا يسمح لأحد أن يفصل بينه وبين الماضي بالرغم من أنتقاده الشخصي له, مثلا الدكتور علي الوردي وهو نجم من نجوم علم الأجتماع ومؤسسه عراقيا وعربيا وأكثر من أنتقد وهاجم العقلية العربية وأساليب تعاطيها مع الماضي والتراث وإسقاطاتها المتمثلة بالشخصية المزدوجة وقد عاب على الجميع تمسكهم الأخرق بالتاريخ ,إلى أن رحل من الحاضر ضل متمسكا بلقبه التاريخي ونسبه الذي يفتخر به ليعيد للأذهان قصة المستر ستيوارت وملا عبود .
في هذا المستوى من الوعي العلمي النخبوي نجد الفرد العراقي يجسد إنتماءه التأريخي بقوة وهذا ليس عيبا ولا منقصة ولكنه يؤشر لحالة قد ينفرد بها العقل العراقي الجمعي ,تكشف تبلور عمق ذاكرته البعيدة التي تنسى الحدث الطازج وتتفاعل مع العميق من الذاكرة المخزونه بتفاصيلها ,لأنه من الوعي اللا مباشر يرفض عملية السرقة التي يتعرض لها يوميا من أطراف خارجية لسلب جزء من هويته الخاصة ,فهو يتمسك بالتأريخ كحل مقاوم للأعتداء والسطو من قبل الأخرين لوجوده العميق الذي ينفرد به .
إحساسه الدائم بعدم الأمن فردا ووجود كونه معرض دوما للسرقة والنهب والأعتداء والأنتهاك القسري من قبل أطراف عديدة تحت عتاوين وتبريرات غير مقنعة تحت مسمى ديني ومرة أخرى تحت مسمى حضاري والغالب أن كل نزاعات الأخرين داخل وجوده تسلبه حق الصراخ والرفض بسبب عوامل الجغرافية والطبيعة والبيئة الجاذبة للمطامع الخارجية لأنه يتحسس بجد أن كلا الطرفين المتنازعين هنا يمثلان وجه من وجوه السرقة .
هذا الإحساس ولد لديه إنفعالات عسكية مدمرة على صعيد وعي الشخصية ووعي المجتمع لأنها أولا تمثل عامل تهديد دائم وثانيا تشكل عامل إحباط وتشكيك بجهده لو حاول الأنتفاض ,لذا فبالرغم من قسوة هذا الإحساس إلا أنه لا يمانع أن يفعل ذلك مع الخصم القريب والبعيد ليس كتصرف نابع من كونه فعل إرادي محض بل يمثل ردة فعل نوعية تختزن الرفض وتعبر عن المقاومة الذاتية للأخر.
نشأ الخوف والتوجس والشك والريبة من النزاع القديم بين الممالك الشرقية المجاورة لحده الوجودي متمثلة بنزاع الأقوام التي سكنت الهضبة الإيرانية حاليا والتي تمد عينها دوما للغرب دون إنقطاع لهذا اليوم مع جمع القوى الأخرى المتجه بقوتها للعراق من شماله وجنوبه وغربه لتخوض التنازع والتناقض هنا مستثمرة الإمكانية التأريخية والطبيعية للموقع الجغرافي وما يمثلة من ركيزة مهمة لصالح الطرف المتنازع الذي يرغب بالأستحواذ وطرد الأخر .
هذه التقلبات والتنازعات التي لا تنتهي ولا تتوقف قاومها العقل العراقي بقوة من خلال إنحيازه التام لقوته التأريخية ليحافظ على وجوده ويحمي شخصيته المهددة دوما من طرفي أو أطراف النزاع ,من هنا يتضح لنا إننا لم نشهد صورة من صور ذوبان للمجتمع العراقي ببقية المجتمعات المتنازعه أو على الأقل إنحياز قوي لقيمها الأجتماعية والحضارية وحتى الشخصية بالرغم من شدة أوار نار الحروب والنزاعات الدموية التي جرت وتمسرحت في أرضه وواقعه الوجودي .
إن العوامل النفسية التي تعصف بها مفاعيل حالات الترقب والحذر والخوف من المستقبل الذي لم يتهيأ له المجتمع بما يكفي من أستعدادات للحماية تصيب ذاكرة المجتمع بالقلق الإنفعالي وتهيء لردة فعل عكسية دوما تتمظهر بنوع من الحس المحافظ والمتجه نحو الدفاع اللا واعي وكأنه مجبر على خوض تنازع بدون أسلحه أو مقومات حقيقية للدفاع .
ومن صور هذا التحفظ مثلا إن تكرار المأساة ذاتها في كل مرة يبلغ المجتمع العراقي الأوج من قوته ليجد نفسه في ظرف زماني قصير وقد تحطمت هذه القدرة لديه نتيجة تنفيذ فكرة الأستحواذ والتعدي عند الأخر الغازي أو العابر بغزوه الوجود العراقي ,تدفعه دوما أن يعيد نفسه للحظة التي كانت قبل الإنهيار ويعيش أجوائها كأنها واقع في محاولة منه للتعويض والتحريض على المقاومة.
هذه العلامات الإنفعالية وردات الفعل لا تظهر عادة في كل الأزمان وإن أخذت شكل طراز ونمط متكرر لكننا نتلمسها ونستشعرها دوما في واقع ما بعد الإنهيار المجتمعي وتخف تدريجيا عند تنامي القوة أو الإيحاء الطبيعي للتطور الأجتماعي يصب في خانة أستعادة زمام المبادرة ,لنؤكد أن التمسك بالماضي وخاصه الوجه الأجمل منه ليس إلا سلوكيا إنعكاسيا نفسيا جماعيا لنوع من أنواع المقاومة الداخلية الطبيعية للمجتمع.
من هنا لا يمكننا أعتبار التأريخية كإحساس قلق في حضورها الدائم بكل المنتج الواعي المعرفي والواعي السلوكي واللا واعي أيضا مرضا أجتماعيا يجب معالجته ,بل علينا حتى نتجاوز إشكالية "التأريخية" هذه من أن نعيد وعي العقل العراقي المقاوم في حالتي السلبية والإيجابية إلى تصحيح وتصويب الأتجاه من خلال رسم رؤية كونية له تعيد له بعض الأعتبار اليقيني ومن ثم تدريبه على الخروج من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم الإيجابي والتماشي مع قواعد الزمن ومسيرة الكينونة المتجددة ,حتى لا ينزوي مرة أخرى تحت ظلال الشك والتحسب والتوجس من الواقع ومن المستقبل .
هذا المنهج وهذه النظرية تعيد الأستقرار الحسي لروح وعقل وشخصية المجتمع العراقي وتصحح له ردة الفعل وتحويل كل هذا التوجس إلى توثب للخطوة القادمة ,إن عملية التصحيح والتقويم السلوكي الأجتماعي لا تتم عبر النقد والتجريح وجلد الذات فقط بل من خلال تحديد البديل وتجسيده نظرية وممارسة تتدرج في مستواها حسب نسبة التوائم الكلي معها وأخيرا سوف تتسارع كلما اطمأن المجتمع لضرورة وسلامة الخطوة كعلاج ناجح وحقيقي لهذه الإشكالية المزمنة .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟