أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - نوال السعداوي - لم يعد يراها














المزيد.....

لم يعد يراها


نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)


الحوار المتمدن-العدد: 4772 - 2015 / 4 / 9 - 09:27
المحور: حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
    



حركت رأسى نحو جسده الممدود فوق الأسفلت، يدى تحاول الامتداد لتغطيه المسافة بينى وبينه تزداد اتساعا، شفتاى، تتحركان أحاول أن أناديه، اسمه يهرب، كل شئ يهرب بعيدا، لاتصل يداى إلى حقيبتى الملقاة على الأرض، تبتعد الحقيبة ومعها الأرض وجسده الممدود يبتعد، أفتح فمى لأتنفس، لأنادى على أمى، كنت طفلة بالأمس، كم سنة مرت؟ كنت فى ربيع العمر. أنام وأحلم وأصحو أغنى أحاول النهوض وتغطية جسده، العرى مخيف، منذ الطفولة أخاف العرى، العورة، يدى معلقة فى الفضاء، بشرتى خشنة مبقعة، بأعقاب سجائر محروقة، كانت بالأمس ناعمة، أتركها فى يده يلامسها بشفتيه، يربت عليها بحنان الأم، أمد يدى لأغطيه، لا أريد العيون تراه عاريا، كان مختلفا عن الناس، لاشئ فيه يخجلنى، عام كامل، اثنا عشر شهرا فى فراش واحد، لم أر له عورة.
تقاطيع وجهه غاصت فى عمق رأسه، عيناه مربوطتان بشاش أبيض، لا تعرفه إلا من عينيه، رجل غريب لم تره من قبل، الا الوحمة الصغيرة تحت حاجبه الأيسر، بشرته بلون البشكير الأبيض، يشبه وجه أبيها بعد موته، العرى أيضا متشابه، مرة واحدة فقط رأته فى لحظة خاطفة تشبه ومضة برق، كان راقدا فوق ظهره، شخيره خافت منتظم مثل الساعة، كانت فى السابعة من عمرها، لا تستطيع النظر إلى عورة أخيها الأصغر.
أرادت أن تزحف بجسدها على البلاط، أرض الأسفلت مبللة بسائل ليس الماء، لا تقوى على فتح عينيها، لا تستطيع رؤية الدم، هل انزلق وهو يجرى نحو الثورة؟ لم تكن قدمه تنزلق، وان انزلقت لا يسقط، وان سقط ينهض فى لمح البصر دون خدش، كم ليلة مرت منذ الليلة الأولى.
أحاول أن أكتب عنها وعنه، وجهى ناحية الكمبيوتر، ظهرى إلى الحائط، أصابعى تتحرك فوق الحروف ببطء، ضوء شاحب يتسلل من شقوق الشيش، الساعة السادسة صباحا، مدينة القاهرة تنفث الصهد فى الصبح، تتنفس دخانا ملوثا، تنز عرقا مسمما، له رائحة الحزن 11، هل أجهضوا الثورة منذ الليلة الأولى، اختفى الأصدقاء، انه صيف العام والصديقات، سكتة فى القلب مفاجئة داخل السجن، جلطة فى المخ مباغتة أثناء الطريق، طعنة فى الظهر بيد رفيق، تتوالى الأكاذيب، يزداد الإيمان بالله والقضاء والقدر تجاوز النظام حدود عمره الافتراضى، هل ورث جهاز المناعة ضد الفناء؟ الحامض الوراثى والجينات أم الموت حيوان يهرب من الجبناء؟ أصبحت الشجاعة مرضا والخنوع هو الشفاء، الجوعى على الأرصفة، وشباب عاطلون، عمال مطرودون، وثوار مخطوفو العيون، وفوق المقاعد المتحركة معاقون، وأمهات مطلقات وأطفال يرضعون، وبيوت تسقط، فوق سكانها وهم نائمون، يحلمون برؤية الرحمن من بين الجفون!
مرت السنة الكاملة بجرة قلم، فى الساعة السادسة صباحا، انفتحت البوابة الضخمة العتيقة، أزيز حديدها الصدئ يشبه الأنين، عمرها ألف عام وأكثر، منذ الجوارى والعبيد وسلاسل الحديد، خرجت الشابة تحمل صرة هدومها تحت إبطها، لا شئ فى ملامحها يلفت النظر، قامتها متوسطة، لونها متوسط بين البياض والسمرة، ترتدى نظارة طبية تمشى بخطوات حذرة، تتوقف عاجزة عن اجتياز الشارع، السيارات، تمرق كالبرق، أضواؤها تؤلم عينيها، تخشى أن تسقط تحت العجلات، كانت خطوتها سريعة، تجتاز الشارع تقفز فوق السيارات، تطير فى الهواء تسبق القطط والكلاب البوليسية.
تخلع النظارة وتمسح عنها العرق، منذ الطفولة ترتدى نظارة، ورثت النظر عن أبيها، أرادت أن يكون لها أب آخر، قوى البصر، حى الضمير، لا يخون أمها فى السر، أدارت رأسها إلى الخلف، المبنى الضخم نوافذه مسدودة بالقضبان، جدرانه سوداء تغرق فى الضباب، تعلوها الأسلاك الشائكة المكهربة، تجمد فوقها عصفور مات، شبابها هل راح؟
تفرك عينيها من تحت النظارة، لم يكن فى انتظارها أحد عند البوابة؟ أمها مريضة فى الفراش، تركت أهلها من أجل أبيها، تركها أبوها من أجل نفسه؟ تصحو على صوت السجانة، صحن الفول يطفو فوقه سوس صغير أسود، لبابة الرغيف ينام فيها دود.
دقيق أبيض، وكوب شاى له طعم التراب، صباح الخير يا بنتى، ترن الكلمة فى أذنها، بنتى؟ كتلة اللحم الممزقة على الأرض؟ فى أنفها تراب، لا تعرف الليل من النهار، وجه السجانة أو أمها؟
تنتظر طويلا عند إشارة الضوء تتأمل الناس، يسيرون فى إعياء وهم نائمون، أو يسرعون فى ذعر يهرولون، شابة تجرى نحو شىء يشبه سعادة، حلم تريد تحقيقه؟ شاب يحبها؟ ثورة فى انتظارها؟ كانت مثلها منذ عام واحد، يشتعل النور الأحمر، تتوقف السيارات، تجتاز الشارع بخطوة بطيئة، لا شىء يدفعها للسرعة، لا أحد ينتظرها الا أمها المريضة، أبوها مع عروسته الجديدة، لا تعرف عنوانه، يدق الجرس، تطل أمها من فوق الوسادة، تقفز من السرير، بنتى حبيبتى، تحوطها بذراعيها تذرف الدموع فى صدرها، تدور فى غرف البيت تبحث عنه، صورته فى ميدان التحرير بجوار السرير، عيناه تلمعان بضوء الشمس، اتجهت أمها إلى المطبخ، لازم جعانة يا حبيبتى.
فى السرير وهو نائم همست فى أذنه، وحشتنى يا حبيبى، وانتى كمان يا حبيبتى، مدت يدها وأمسكت يده، راقد على ظهره إلى جوارها، يحاول أن يفتح جفونه ليراها، جفونه مفتوحة عن آخرها، لم يعد يراها.



#نوال_السعداوي (هاشتاغ)       Nawal_El_Saadawi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من وراء ظهرها فى فراشها؟
- فتيات الصين والثورة الثقافية
- الإبداع والثورة والحدس باللا معقول
- ثقافة الخرافة فى تونس
- زينة وهدى ودموع التماسيح
- الثورات والتحرر من اللامعقول
- تاريخ الشعوب غير المكتوب
- جبل الثلج تحت الماء
- ثلوج النرويج ونساء العالم
- داعش ومخ الإيبولا
- الاشتراكيون فى لندن وغاندى
- مقطوعات الرؤوس والوجوه
- اللا محسوس أخطر الأنواع
- الخوف من حرية العقل والمرأة
- من يذكر زينب فواز وأروى صالح؟
- النساء المقاتلات فى جبال كردستان
- الثورة الثقافية. وزوجتك
- الثورة الثقافية فى مصر والصين
- هل تتعلم النساء المصريات الدرس؟
- إدانة الأم المقتولة وتبرئة القاتل


المزيد.....




- لن نترك أخواتنا في السجون لوحدهن.. لن نتوقف عن التضامن النسو ...
- دراسة: النساء أقلّ عرضة للوفاة في حال العلاج على يد الطبيبات ...
- الدوري الإنجليزي.. الشرطة تقتحم الملعب للقبض على لاعبين بتهم ...
- ” قدمي حالًا “.. خطوات التسجيل في منحة المرأة الماكثة في الب ...
- دراسة: الوحدة قد تسبب زيادة الوزن عند النساء!
- تدريب 2 “سياسات الحماية من أجل بيئة عمل آمنة للنساء في المجت ...
- الطفلة جانيت.. اغتصاب وقتل رضيعة سودانية يهز الشارع المصري
- -اغتصاب الرجال والنساء-.. ناشطون يكشفون ما يحدث بسجون إيران ...
- ?حركة طالبان تمنع التعليم للفتيات فوق الصف السادس
- -حرب شاملة- على النساء.. ماذا يحدث في إيران؟


المزيد.....

- بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية / حنان سالم
- قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق / بلسم مصطفى
- مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية / رابطة المرأة العراقية
- اضطهاد النساء مقاربة نقدية / رضا الظاهر
- تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل ... / رابطة المرأة العراقية
- وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن ... / أنس رحيمي
- الطريق الطويل نحو التحرّر: الأرشفة وصناعة التاريخ ومكانة الم ... / سلمى وجيران
- المخيال النسوي المعادي للاستعمار: نضالات الماضي ومآلات المست ... / ألينا ساجد
- اوضاع النساء والحراك النسوي العراقي من 2003-2019 / طيبة علي
- الانتفاضات العربية من رؤية جندرية[1] / إلهام مانع


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - نوال السعداوي - لم يعد يراها