أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميرة المانع - الغناء















المزيد.....

الغناء


سميرة المانع

الحوار المتمدن-العدد: 4767 - 2015 / 4 / 3 - 22:08
المحور: الادب والفن
    


سميرة المانع
الغناء
بدت المديرة الواقفة على ساقيها وكأنها تضع على الارض قدما واحدة، سبابتها اليمنى تتهم وتعظ وتوبخ طالبات القسم الثالث ( ب) ، وكلما اشتد سعيرها، نقرت المنضدة التي امامها بتلك السبابة اللحمية المستقيمة ذات الاظفر الاحمر الطلاء كمنقار الجوارح:
- انتن تعرفن، والجميع يعرف، أني لا اريد ضوضاء في هذه المدرسة، اخبرتكنّ ألفَ مرة ( ثلاث مرات) أنْ لا مكان لكنّ هنا إذا استمرت الحالة على ما هي عليه الآن، سارسلكن جميعا إلى بيوتكن، ولن أُعيد لهذه المدرسة أيا كانت منكن ما لم تجلب ورقة اعتذار من وليّ امرها. لقد فاض الكيل. صبرت عليكن بما فيه الكفاية، اخلاقكن اخلاق ابناء الشوارع.
التفتت إلى معلمة الرسم في القسم الثالث ( ب) وكانت تقف في الزاوية قرب سلة المهملات طاوية ذراعيها تحت ابطيها رهينة الاشارة :
- نعم، ست "حسيبة" استمري في الحصة واذا ما حصلت شكوى مهما كانت صغيرة، أنا في مكتبي.
خرجتْ المديرة بتوتر وهمة، اعادت إلى الاذهان أنها الكل في الكل، صفقت الباب وراءها كما تفعل ربات البيوت حينما يخرجنْ من دورهن غير راضيات عن الزوج.
ثقل السكون الذي كان مخيما منذ ان وطئتْ غرفتهن قبل ربع ساعة ، وطئتها وكأن الطباشير والسبورة ودفاتر الرسم والمنظر الطبيعي الذي كن يرسمنه آنذاك بدت غير ما هي عليه، لقد اضمحلت الاشياء المادية الملموسة وحلّ مكانها نوع من الحكم العرفي.
تحركت ست " حسيبة " من مكانها في الزاوية. ثوبها المرقش بالورود المطبوعة ينتفخ ويتورم متقدما نحوهن، نظرت إلى الطالبات وهن يرفعن ابصارههن اليها بعد ان ذهبت المديرة، وكن قد خفضنها ونكسن الرؤس في دور البريئات الطاهرات بغريزة انسانية، قالت دون ان تفتح فمها : " هذا جزاء من يعصي امري" وقالت وهي تفتح فمها :
- اكملنْ الرسم يا بنات ..
عادت الطالبات لمسك الاقلام والرجوع للمنظر الطبيعي. تحشدت هسهسة صوت الدفاتر وهي تُفتح
، اقلام الالوان وهي تتكاثر وتلتم في المخابيء الخشبية. شمر الورق الصقيل عن معدنه وبياضه، تهيأت الاخيلة المنظورة للطبيعة المصورة، عبرتْ نحلة حائرة، الحقلَ في المنظر الطبيعي لدى " نائلة" واستحمت النخيلات بجذوعهن القهوائية عند شواطيء الانهار. اراد البعض رعاة واغناما في مناظرهن، سماوات، نبضة ربيع، غيوما، طيورا مهاجرة، طيورا بيضا هابطة ، وكانت الجداول اثناء ذلك تترقرق بلا حساب، اكواخ ريفية، مسحة حشيش، منظر غروب، شمس الاصيل.... أم كلثوم. غناء، دندنة خافته ، تكاد لا تسمع، لا عنوان للنغم الدافيء، اللحن اللذيذ المنساب الحزين. جاء عفوا مع السماء والنهر والطيور والشمس الكهرمانة ، كانت الحصة بعيدة عن المناهج والمفتشين والمديرة التي تتقلب عجيزتها في الطارمة تبحث عن آثمة. كان الزمان بعيدا حتى عن حارس المدرسة الذي يغفو في مقعده قرب الباب وتحت الشمس البغدادية ، يغفو بكسل وكأن المعارك الطاحنة التي خاضها اثناء الليل قد اتعبته وهدت حيله. لا ألم أو حنين، لا اشتياق أو تطلعات، لقد هبطت نفسيته إلى درجة النوم ، وكانت ست " حسيبة" تقول " المنظر الطبيعي" وقد امرتهن برسمه منذ بداية الحصة، لولا انها لم تقصد المنظر الطبيعي اطلاقا، وكان همها اشغالهن بشيء واسكاتهن لاقناع وزارة التربية والتعليم أنها تؤدي واجبها كمدرسة للرسم في " مدرسة العناية" على اكمل وجه، فوجدت "المنظر الطبيعي " خير كبش فداء.
ومضت عيون الصبايا وانفرجت اساريرهن الاسيرة، خلعت الطبيعة الوردية والذهبية مشاعر لا أول لها ولا آخر، بعد فراق طويل، دجلة والفرات يتعانقان، مطر في فصل الشتاء، قوارب شراعية، اوراق خريف ، شلالات جبال كردستان شمال العراق. لم تجسر طالبة واحدة من الثلاثين بالصف على رسم القيظ، وصيف العراق القاسي في ساحاته، لم ترسم واحدة انسانا بملابس اوربية أو سيدة تطلي اظافرها باصباغ كاذبة أو تلبس شعرا مستعارا. كان الصدق شعارهن، الصدق والبراءة ، الشفقة، النقاء والطهر ثم العذاب... ثم أم كلثوم...
- اسمع همهمة !
تجمعت ست " حسيبة " لتنقض على فريستها، اقتربت كالحافية من مصدر الصوت، انه في آخر القسم، بل في اوله، في الجانب الايسر، او اليمين. كن بالفعل يغنين، هنا ، بل هناك، لقد سمعته باذنيها الاثنتين، ولم تصدق، ثم صدقته، انهن بالفعل يغنين، يخرقن قوانين الصف، قوانين النظام والهدوء والسكون، يحب أن تمسك زمام الموقف، انها القوانين، المسألة واضحة. إلا ان الفتيات الموغلات بالصدق مارسن الغناء دون أي اضطراب، كن كباقة ورد الجوري بملابسهن الخشنة الصوفية وبساطة وجوههن الناعمة الخالية من التجارب المفتعلة :
- اكففن وإلاّ اخبر المديرة.
زعقت ست "حسيبة " بصوت عديم الاحساس ثم زعقت بصوت كريه ثم زعقت بصوت رهيب....
- اكففن والا أخبر المديرة.
خمش كعب حذائها العالي ارضية الغرفة، مصممة أن تعيد النظام وبأي ثمن ، ليتها تذبح أو تقتل، دع اولياء الامور يفعلون هذا، ولتدع المديرة ايضا، إنها مسألة معقدة بعض الشيء ، تحتاج إلى اكثر من ست "حسيبة" المتهمة بضعف الشخصية، ولكنها ليست ست " حسيبة" إنهن الطالبات، لقد خاب كل شيء، استعملت المديرة الوعيد ثم التهديد، لبسن الصداري الموحدة، وفرضت عليهن الاقامة الجبرية داخل الصف اثناء الفرص، حبستهن المديرة، حرفيا، في احد الايام .... لم يسبق ان حصل غناء بالمدارس، هذه اشياء مخلة بالامن، كما تعتقد، دليل السفاهة، لها عواقب وخيمة.
كانت تسير في الممر المؤدي إلى مكتب المديرة محملة بعبء اوزارهن، تفتح فمها لتتنفس بدلا من منخريها :
- لقد عدن للغناء، خلصيني منهن لم اعدْ أُطيق.
سمعت المديرة هذا فجمعت خديها كماشة ثم نفختهما بالونين محشوين باللحم. خرجت من خلف منضدتها وكأنها تسير على عشرة ارجل، كادت تزهق نفسا وهي تزبد امام الفتيات :
- لن اقبل اية فتاة منكن بعد اليوم ما لم يتعهد اولياء اموركن بحسن السلوك، هيا، لا اريد ولا واحدة.
كان البياض في وجوه التلميذات يزداد حلكة، شعورهن المسبلة تتبعثر على الجبين كفتيات ضللن الطريق. خذلتهن ست " حسيبة " المدرسة التي كان بامكانها ان تصفح عنهن منذ البداية وتبتسم لاغنية ام كلثوم العاطفية تقول مربتة على كتف التي تغنيها :
- الا تعتقدين أن الوقت مبكر على العذاب!
كل هذا لم يحصل ولم يكن يكلف ست " حسيبة" سوى بضع ابتسامة لولا انها خذلتهن جميعا واقفة بثوبها المبرقش تؤازر المديرة بكلمة :
- الآن.....
وتعني إن عليكن حزم اوراقكن وكتبكن والخروج من المدرسة الآن، في هذه اللحظة. تفوهت بهذه الكلمة بشجاعة تفوق ما اعتادت عليه، وملأت صدرها بالفرح والانتقام.
كان " المنظر الطبيعي" لا اثر له في القسم، طيوره اللطيفة جوارح مفترسة ، اغنامه الوديعة ذئاب. اخفت الطبيعة آلام وجهها في صدرها وانتحبتْ، تساقطتْ دموع على خدود الطالبات، دموع صامتة لا حيلة لها، دموع حارة صادرة عن قلوب يقظة قبل آوانها، اصابتها الدهشة المبكرة. جمعن كتبهن ودفاترهن واقلام الرسم، خرجن من الصف بانتظام، زوجين زوجين، على الطريقة المسموح بها في السير اثناء دخول الحصص أو الخروج منها في المدرسة، اثنتين اثنتين، موكب حزين لتشييع امرٍ
عظيم. خرجن فانتبه حارس المدرسة، كان جالسا على كرسي في العتبة ، قنط حينما رأى المديرة تشير على ان الامر خارج عن اختصاصاته، شيء يتعلق بالسلطات العليا. راقب الجمع الجميل المهمل، دموعه لا تفسر كل شيء.
++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++



#سميرة_المانع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مكنزي
- العنز والرجال
- هل تدلني على بيتي ؟
- الميثاق مرة اخرى
- ميثاق 91
- الحرية، الحرية ، من فضلكم
- قصة ( ما علمتم وذقتم )
- من دفع للمزمرين ؟
- المرأة بضاعة وزخرفة
- هل تدلني على بيتي؟
- ما قلت وداعا أبدا
- نساء
- خروج أديب من قرونه الوسطى
- ما يقال عن المرأة في الادب العربي
- الاعتداء
- العيش في سلام
- التواطؤ الثالث بالسياسة
- التواطؤ الثاني بالجنس
- التواطؤ الاول بالفنون
- البحث عن الموجود


المزيد.....




- “اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش ...
- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...
- عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميرة المانع - الغناء