أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - صلاح عبد العاطي - الانقسامات والتسامح في المجتمع العربي















المزيد.....



الانقسامات والتسامح في المجتمع العربي


صلاح عبد العاطي

الحوار المتمدن-العدد: 4761 - 2015 / 3 / 28 - 20:18
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مدخل حول التسامح
اهتمت الأمم المتحدة منذ تأسيسها بالتسامح، فقد جاء في ديباجة ميثاقها الحث على التسامح وقد تطور مفهوم التسامح على مدي أربعة عقود عبر الإعلانات والاتفاقيات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة في ميدان حقوق الإنسان وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان،و العهدين الدوليين المتعلقين بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوق المدنية والسياسية و الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة واتفاقية حقوق الطفل و الإعلان الخاص بالقضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد. تم جاء إعلان المبادئ بشأن التسامح الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة اليونسكو والصادر في 16 نوفمبر 1995 الذي عرف التسامح، في البند الأول من مادته الأولي " إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد، انه الوئام في سياق الاختلاف وهو ليس واجبنا أخلاقيا فحسب وإنما هو واجب سياسي وقانوني".
والتسامح يعني اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ويؤكد الإعلان إن التسامح مسؤولية تشكل عماد حقوق الإنسان والتعددية والديمقراطية وحكم القانون وهو ينطوي على نبذ الدوغماتية والاستبدادية.
والتسامح يعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته وانه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم، والتسامح يعني الإقرار بأن البشر المختلفين بطبعهم في مظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم لهم الحق في العيش بسلام.
ويشير الإعلان إلى أهمية التسامح في العصر الحديث ، فهذا العصر يتميز بعولمة الاقتصاد وبالسرعة المتزايدة في الحركة والتنقل والاتصال، والتكامل والتكافل، وحركات الهجرة وانتقال السكان على نطاق واسع، والتوسع الحضري وتغيير الأنماط الاجتماعية. ولما كان التنوع ماثلا في كل بقعة من بقاع العالم، فان تصاعد حدة عدم التسامح والنزاع بات خطرا يهدد ضمنا كل منطقة.
كما يؤكد الإعلان إلى أن التسامح ضروري بين الأفراد وعلى صعيد الأسرة والمجتمع المحلي وان جهود تعزيز التسامح وتكوين المواقف القائمة على الانفتاح وإصغاء البعض للبعض والتضامن ينبغي أن تبذل في المدارس والجامعات، ويؤكد الإعلان على، أن التعليم هو انجح الوسائل لمنع اللاتسامح.
كما وأشار الإعلان إلى وجوب مقاومة تأثير العوامل المؤدية إلى الخوف من الآخرين واستعبادهم ومساعدة النشء على تنمية قدراتهم على استقلال الرأي والتفكير النقدي والتفكير الأخلاقي .
من خلال هذا ما سبق نستطيع القول بان "التسامح مبدأ وقيمة من قيم حقوق الإنسان ذو دلالات أخلاقية وسياسية ودينية وقانونية يقوم على قبول الأخر والتعددية واحترام المعتقد والرأي والعدل واحترام الاختلاف ويهدف إلى تحقيق السلم والأمن والتقدم الاقتصادي والاجتماعي للأفراد والشعوب.

المجتمع العربي بيئة معاندة وتحديات متزايدة

مر ويمر المجتمع العربي بأزمة بنيوية شاملة تلقي بظلالها على حياة المجتمع عموما وعلى المشهد الثقافي على وجهة الخصوص، الأمر الذي يستدعي وقفة نقدية تحليلية تطال كافة مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية على الصعيد القطري والقومي والعالمي، وخاصة في ظل استمرار هيمنة بنى المجتمع التقليدية التي تفرض نفسها وتتحكم في عمق الفكر والممارسة، من أجل إحداث إصلاح وترميم ديمقراطي وتنموي داخلي في المجتمع العربي، ومحاربة الفساد ومشاكل الفقر والبطالة، وإيجاد دولة القانون ونشر ثقافة التسامح وحقوق الإنسان، وتقليص مظاهر التخلف المتفشية، للوصول لوحدة عربية منشودة، في زمن التكتلات والعولمة، أو بالحد الأدنى دول عربية قطرية ديمقراطية، تلبي مصالح وتطلعات مواطنيها، كشرط مستقبلي لتعزيز التضامن العربي المشترك في مواجهة التحديات القطرية والقومية والخارجية المتزايدة في عصر التفرد الأمريكي وهيمنته على مقدرات المجتمع العربي. (سعيد، 2003)
بيد أن إشكاليات ومعوقات شتى تعترض سبيل هذه الرؤية وسبيل إنتاج وعي عربي قادر على تجاوز التحديات الداخلية والخارجية، كون ما حدث في المشهد العربي عموماً، وما يحدث في الحالة العربية الراهنة - كما يقول برهان غليون- هو انهيار شامل للنمط القديم وإفساد عميق لآليات النمط المدني العصري. (غليون، 1986)
من هذا المنطلق فإن بنيان المجتمع العربي يختلف عن الأنماط القديمة والحديثة، من حيث أن مكونات المجتمع العربي الآن لم تعد تنجز المهام نفسها ولا تقود إلى النتائج ذاتها، لأن الرأسمال الذي شكل علاقة تنظيم قوى الإنتاج البشرية والمادية وحركة التقدم التقني والعلمي والعملي في اقتصاديات الغرب قد تحول إلى بناء اقتصادي تابع، كما أن الدين والعصبيات ظلت إطاراً لبناء عقائد ومذاهب سياسية متعددة، فالبنيان القائم هو نمط مختلط هجين، نمط لمجتمعات فقدت رشدها وتوازنها الداخلي، وفقدت وتيرة تقدمها وأصبحت حركتها مرهونة بحركة غيرها، فالمجتمع العربي والفلسطيني على سبيل المثال ليس مجتمعاً حديثاً، وإن التقت فيه معظم مظاهر الحداثة، كما أنه ليس تقليدياً وإن تواجدت فيه كل مظاهر التقليد، لعل أبلغ وصف له ما عبر عنها تقرير التنمية البشرية الفلسطيني بحالة اللامعيارية. (سعيد، 2003).
أما حول أهم أزمات المجتمع العربي فهناك أزمات كثيرة تواجهه منها: أزمة الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، إلي جانب مشاكل الفقر والبطالة والاحتلال الأجنبي، وهناك نواقص متعددة أضافها الكّتاب العرب بأنفسهم في تقرير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية للسنتين 2002و 2003، والنواقص هي: الحرية والمعرفة، وتمكين النساء، والتي تخلق بدورها الظروف لتشجيع الأصولية، فكلما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، ستشهد زيادة في التطرف والعنف والجريمة، والهجرة الخارجية ومظاهر أخرى.
فصورة المجتمع العربي تظهر في تقارير التنمية كصورة مرعبة من التراجع على كافة المستويات نشير إلي بعض مؤشراتها كما ساقها التقرير:
يبلغ مجموع إجمالي الدخل المحلي لبلدان جامعة الدول العربية الـ (22) أقل من إسبانيا، إضافة إلى ارتفاع نسب الفقر والبطالة، فالتقرير يشير إلى الحاجة لخلق ما لا يقل عن 6 ملايين وظيفة جديدة لامتصاص الوافدين الجدد إلى سوق العمل العربي البالغين أكثر من 50 مليون من الشباب بحلول 2010، وسيدخلها 100 مليون بحلول 2020، وإذا ما تواصلت معدلات البطالة الحالية كما هي عليه مستقبلا سيبلغ مجموع العاطلين عن العمل في المنطقة 25 مليوناً بحلول 2010.( تقرير التنمية العربي، 2004).
يعيش ثلث سكان المجتمع العربي على أقل من دولارين في اليوم، كما وتبلغ نسبة الأمية 40 %، وتشكل النساء ثلثي هذا العدد؛ مما يؤكد إلي جانب شواهد أخرى صورة التراجع العربي وصور التميز والتهميش الممارس ضد النساء، ولعل نسبة ما تشغله النساء من مقاعد برلمانية 3.5 % فقط في البلدان العربية بالمقارنة، مع 4.8 % في جنوب أفريقيا والصحراء الكبرى؛ يؤكد بصورة واضحة تدني مكانة ومشاركة المرأة العربية.
أما حول عدد مستخدمي الإنترنت فيبلغ 6.1 % فقط من السكان، وهو رقم أقل مما هو عليه في أي منطقة أخرى في العالم.( تقرير التنمية العربي، 2004)
إما حول نسب من يرغبون بالهجرة فقد عّبر 51 % من الشباب العربي في أفريقيا الأكبر سناً عن رغبتهم في الهجرة إلى بلدان أخرى، والهدف المفضل لديهم هو البلدان الأوروبية، للهرب من انتهاكات حقوق الإنسان؛ للعيش في مجتمعات أخرى تحترمهم وحقوقهم. (تقرير التنمية البشرية العربي، 2002-2003)
فالمعطيات السابقة تشير إلى أن المجتمع العربي يقف عند مفترق طرق، حيث يؤذن استمرار المسار السابق بإضافة المزيد من المواطنين المفتقرين إلى مستويات لائقة من العمل والتعليم كل عام ، والمحرومين من حقوقهم السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إذا ما أضفنا إلى ما سبق من مؤشرات صورة المشهد الاجتماعي والثقافي الذي تسود فيه قيم الإيمان بالمطلق الغيبي والقدري، حيث تسود قيم الإتباع والتسليم والانقياد، وليس قيم التفكير والإبداع، قيم سيطرة العاطفة بدل الاحتكام للعقل، قيم الشكل والمظهر على حساب الجوهر، وقيم الأنانية الفردية على أنقاض الصالح العام، قيم الشعور بالذنب والخيبة، قيم الطاعة وليس قيم التمرد، قيم النزوع نحو الاتكالية واللامبالاة على حساب الاعتماد على الذات، والنزوع نحو التشديد على العضوية مقابل الاستقلال الذاتي، النزوع نحو الفردية والضبط الخارجي وليس الذاتي، وتأكيد سيطرة الرجل على المرأة، بالإضافة إلى انعقاد السيادة للأمية الثقافية والجهل بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان على نحو لا يمكن قبوله، مما يفاقم من حجم المأساة العربية، فكل السمات السابقة يؤكدها حليم بركات في كتابه " المجتمع العربي في القرن العشرين بحث في تغير الأحوال والعلاقات" وسمير أمين في كتابه " أزمة المجتمع العربي "، ويوافق عليه عدد كبير من المثقفين العرب مثل برهان غليون وهيثم مناع وحسن خضر وفيصل حوراني، محمد عابد الجابري، وعزمي بشارة وجميل هلال ومنير فاشة واياد البرغوثي وآخرون.
فسمير أمين يؤكد بأن الوطن العربي فاقد السيطرة على موارده، فاقتصاده يتبع الاقتصاد الرأسمالي المعولم حيث توصف هذه العلاقة بغياب التوازن والمساواة، حيث تتحكم الإمبريالية والشركات المتعددة الجنسية في احتكار القرارات الاقتصادية بما يخدم مصالحها. ويعتبر هشام شرابي بأن التبعية أدت إلى قيام مجتمع نيوبطركي مشوه، هجين، فيما يذهب بشارة والصوراني وخضر والحوراني إلي أن هذا المشهد لم يكن ممكناً تحققه بعيداً عن عوامل التفكك والهبوط التي بدأت في التراكم منذ اتفاقية "سايكس بيكو" وتجزئتها للوطن العربي عام 1916، ووعد بلفور عام 1917، والنكبة الأولى للشعب الفلسطيني عام 1948، ثم انهيار الوحدة العربية بين مصر وسوريا في أيلول 1961، وتطورت بعد هزيمة حزيران 1967، وتعمقت وامتدت بعد كامب ديفيد 1979 إلى اليوم، لدرجة أن ربع القرن الأخير وبداية القرن الحادي والعشرين، حمل معه صوراً من التراجع لم تعرف الجماهير العربية مثيلاً لها في كل تاريخها الحديث، فبدلاً مما كان يتمتع به العديد من بلدان الوطن العربي في الستينات من إمكانات للتحرر والنهوض الوطني والقومي، تحول هذا الوطن بدوله العديدة وسكانه إلى مجمع كبير يعج بالنزاعات الداخلية والعداء بين دوله، وبات مجتمع لا يحسب له حساب أو دور يذكر في المعادلات الدولية، و تحولت معظم أنظمته وحكوماته إلى أنظمة تابعة، فيما أصبح ما تبقى منها عاجزاً عن الحركة والفعل والمواجهة، في إطار عام من الخضوع والارتهان والتبعية على تنوع درجاتها وأشكالها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية والسيكولوجية.
فالمجتمع العربي تبدو الصورة فيه مغايرة عن حالة مجتمعات أخرى، وتجدر الإشارة أيضا إلي وجود بعض التمايزات والاختلافات في أوضاع بعض الدول العربية من حيث الفقر والثقافة والنظم السياسية تعود إلي البيئة الجغرافية - المشرق، المغرب، الخليج - اوالي التاريخ السياسي والاجتماعي لكل منطقة، كما يضم المجتمع العربي بجنباته أقليات عرقية ودينية قاربت على 25% من تركيبة السكان العرب ( عبد العاطي،2006- أ) وبالرغم من إقرارنا بالتجانس الثقافي الكبير الذي يتميز به المجتمع العربي " وحدة الدين اللغة والعادات والتقليد...". الأمر الذي يؤكد وجود هوية ثقافية عربية شكلت وتشكل قيم هذا المجتمع والسلوكيات المرتبطة بالأدوار المختلفة فيه، وتميزه عن غيره من المجتمعات.
يوصف المجتمع العربي اليوم بحق على أنه "مجتمع شديد التنوع في بنيته وانتماءاته الاجتماعية، أبوي: يعاني النزعة الاستبدادية على مختلف الصعد، مرحلي، انتقالي، تراثي: تتجاذبه الحداثة والسلفية، شخصاني: في علاقاته الاجتماعية يعيش حتى الوقت الحاضر مرحلة ما قبل المرحلة الصناعية والتكنولوجية، وبالتالي مرحلة ما قبل الحداثة". (بركات، 2000) ويؤكد ذلك عزمي بشارة حيث يقول: بأن الفكر الوطني والقومي العربي هو فكر ريفي أو تريف، فالمدينة تريفت ونشأت معها متناقضات متعددة،فالمجتمع العربي والفلسطيني خاصة لم يطور ثقافة بالمعني الحديث.(بشارة، 2000) كوننا نفتقد للمدنية والصناعة الإنتاجية، فليس من السهل وصف الأنظمة الإنتاجية في الدول العربية بأنها إقطاعية أو رأسمالية أو اشتراكية، لأنها في الواقع تجمع بين هذه الأنظمة في ظل صيغة مركبة، مع ملاحظة أن "العائلة" تشكل "عصب الإنتاج الاقتصادي" 25. ويعتبر حليم بركات أن المجتمع العربي "يقوم على بنية إنتاجية تجارية– زراعية متمركزة حول العائلة، يرافقها نظام ريعي في البلدان المنتجة للنفط" ، كما يتسم المجتمع العربي بإخفاقه في مجالات التصنيع على مستوى المعلوماتية والتقنية الإلكترونية، إضافة إلي غياب العقلانية والإرادة الحقيقية للإنماء والنهج والبحث العلمي. لذا فنحن نستورد ونستهلك كل شيء، حتى ردود أفعالنا تتأثر بواقع حالنا التي لا تسر صديق.
وتحكم دول المجتمع العربي خليط من المؤسسات السياسية التي تتراوح بين الجمهورية والملكية والإمارة ،والتي تفتقد معظمها إلى الأوضاع السياسية المستقرة بعد أن فقد المواطن العربي النزاهة والقوانين العادلة.(هاني، 2001). في ظل انعطاف الكثير من النخب الحاكمة نحو الهوية الأولى والقبلية أو الإثنية أو المذهبية؛ مما عزز أساليب الطمع والتدمير والاتجاه أكثر نحو الاعتماد على تغريب الإجراءات الأمنية وتضيق هامش الحرية.(حجازي، 2003) وأصبح الفكر الاستراتيجي العربي ينوء لفترات طويلة بمكونات القوة العسكرية ويتجاهل الديمقراطية، ما أدى إلى غياب القدرة على مواجهة أسباب التخلف واستبداد الأنظمة.(حجازي، 2003) الأمر الذي يظهر تناقضاً مع مجالات العولمة التي تنادي باحترام حقوق الإنسان والشرعة الدولية، وربما هذا التناقص تبرره توجهات القوى العظمى التي تهدف إلى إبقاء الأنظمة العربية على الاستبداد ذاته مقابل أن تبقى سوقاً استهلاكية لشركات متعددة الجنسيات.(حسن، 2003).
إلا إنه بالإجمال يمكن القول إن البنية المجتمعية والثقافية العربية القائمة والتي وصفناها آنفا يسودها انعدام السيطرة على المصير والتحكم بالذات، مما يعني صعوبة إنتاج عناصر تنمي مقومات المجتمع وموارده، مما يولد الحاجة إلى نشوء وعي جديد قادر على تجاوز هذه الفرضية وصهرها في إطار فكري ومادي، وهو ما لا يمكن الوصول إليه إلا عبر تجارب تاريخية مشتركة قاسية من خلال الصراع لإعادة التوازن الذاتي والداخلي.
والمتأمل في تجارب المجتمع العربي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية يشعر بعمق الأزمة وصعوبة إيجاد مخرج لها، مما يتطلب وضع تساؤلات حول سلامة الاستراتيجيات السياسة، وتفعيل الأدوات الاجتماعية والسياسية والتربوية والثقافية والمدنية والاقتصادية التي تستطيع أن تقدم إطاراً ثقافيا يعيد بناء الذات العربية وعلاقاتها الناظمة التي تعبر عن آمال ومصالح مشتركة بعيداً عن مفاهيم الانغلاق والإلغاء والتهميش والإقصاء، وتغليب مفاهيم التعاون والمشاركة الإيجابية والطرق الحضارية والحوار كأسلوب لإدارة الصراع سلمياً بدلاً من التناحر، وتنسجم فيها ومن خلالها العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتصان فيها حقوق المواطنين العرب وأمالهم وتطلعاتهم.
ولكن الأمر ليس بالسهولة التي يمكن أن يفترضها البعض فالصراع الثقافي الدائر في المجتمع العربي بين التقليد والحداثة وبين العلمانية والأصولية... الخ أفضي ويفضي إلى مزيد من الإشكاليات الثقافية والفكرية التي تكرست وتتكرس في المجتمع العربي. (بن عثمان، 1999 ).

لذا نرى من المناسب إلقاء مزيد من الضوء على أهم الإشكاليات الثقافية التي وجهت المجتمع العربي ولا تزال تفرض ذاتها في عالم اليوم ، الذي تدخله عموما المجتمعات الثالثية، وهي محملة بأزمات لا حصر لها على كافة المستويات أثرت وتؤثر في سبل تنمية المجتمع ومنعته، وفي ردود فعلة إزاء التحديات الداخلية والخارجية.

إشكالية الحداثة والتقليد

لم يحسم المجتمع العربي بعد إشكالياته الثقافية التي تطرح تحت مسميات متعددة، التراث والمعاصرة، العلمانية والدين، التقليد والحداثة والتي تفتح بدورها أزمة الثقافة العربية المعاصرة في الماضي والراهن، وتطرح المشكلة في الغالب باعتبارها مشكلة اختيار بين نموذج غربي في السياسة والاقتصاد والثقافة وبين التقليد بوصفه يقدم نموذجا بديلا يغطي جميع نواحي الحياة .
ثمة تساؤلات جوهرية تعترض سبيلنا في هذا السياق من قبيل: هل يتعلق الأمر بخيار عربي في الوقت الراهن ؟ وهل يملك العرب حرية الاختيار، ناهيك عن الوضعية التي تؤهل لامتلاك حق الاختيار؟
أغلب الظن أن العرب في وضعية لا يملكون فيها حق الاختيار، فقد فرض نموذج الحداثة نفسه عليهم كنموذج عالمي منذ بداية التوسع الاستعماري، مثل التنظيم العلماني الشكلي للدولة وأجهزتها وغيره الكثير، وهكذا وجد العرب والفلسطينيون أنفسهم في عملية تحديث يعتريها التصادم والتناحر مع الموروث الذي يزداد تقوقع المجتمع داخله كلما ازدادت التهديدات الخارجية الآخذة في التفاقم على نحو خطير، وهذا ما يفسر الإشكالية الثقافية التي تبدو في الخلط بين التراث والمعاصرة أو الحداثة أو ازدواجية الموقف منهما، فلا التراث تم توضيحه ولا المعاصرة والحداثة تم ترجمتها في الخطاب والممارسات الاجتماعية والسياسية، أيضا ما يفسر هشاشة البنيان الطبقي والاجتماعي التي تتدخل فيه محددات العشائرية والطائفية والمللية والجهوية والمحلية والقبلية والعائلية والفئوية والتجمعات الإرثية،" وهذا يؤكد غياب المجتمع المدني، ويؤكد أيضاً مفهوم الميت يحكم الحي، أي الصحراء والتخلف يحكم المدينة والعقل .. خاصة في ضوء تراجع حركة التنوير، فالمدينة في غزة أو رام الله فقدت ميزات وفضائل القرية التقليدية، ولم تكتسب صفات المدينة العصرية، حيث تسود حرية المواطن والتعددية بالتالي مجتمعنا يكاد يكون مجمعا سكانيا أكثر منه مجتمع بالمعنى الحديث".(الصوراني، 2000)
ما سبق أدى إلى انعكاس حالة من الشلل والرتابة ألقت بظلالها على مختلف مستويات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأصبح المجتمع لا يعدو كتلة فسيفسائية متناثرة من الأنماط غير المتسقة بل وشبه المتناحرة، بين ما هو حداثي وما هو تقليدي، يتنافسان ويتصارعان في شتى نواحي الحياة اليومية، وللأسف يتم بناء خطط التنمية التعليمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية مع بقاء هذه الازدواجية وتلك التناقضات، وتظهر في المجتمع مواقف راديكالية على صعيد الخطاب والممارسة، حيث بعضها يدعو لرفض الحداثة واصفاً إياها بالجاهلية، والبعض الأخر يدعو للتخلي عن كل المظاهر الموروثة من الماضي وينعتها بالتخلف لكن دون أن يقدم بديلاً حقيقياً. وهناك فئات مع التحديث وليس الحداثة، بمعنى قبول التحديث التكنولوجي والتقني المستورد دون قبول مبدأ توطين الحداثة كمنهاج، وثمة فئات أخرى تتماهى مع تداعيات التأثير الغربي وتروج له فقط؛ لأنه يخدم مصالحها.( عبد العاطي،2004).
فالصراع في الوطن العربي لم يكن في القرن الماضي والقرن الراهن صراعا بين قوى التجديد وقوى التقليد وحدها، بل أخذ الصراع مناحي أخرى تآلفت فيها كل التناقضات واختزلت لصالح محور واحد هو الصراع ضد الغرب وبسببه وضد عدوانه وتوسعه وهيمنته، وكذلك لأجل الحريات ومظاهر التقدم فيه، فإذا كان الواقع الاجتماعي الطبقي لا يؤسس ولا يفسر إشكالية التقليد والحداثة كما تطرح في الفكر الغربي فلم يؤسسها إذن؟ على ما يبدو فالإشكالية المطروحة إشكالية فكرية ثقافية أيضاً تجد أسسها ومبررات وجودها في الواقع الثقافي والفكري في المجتمع، فإشكالية التقليد والحداثة كامنة في كون مجتمعاتنا العربية تمتلك تراثا ثقافيا حيا في نفوس وعقول وعواطف الناس بصورة قد لا نجد لها مثيلا في العالم، وما يزيد من ثقل هذا الحضور تعرض الوطن العربي وفلسطين بخاصة للغزو والعدوان الاستعماري الصهيوني الأمريكي، ما أدى إلى إثارة جملة من ردود فعل تمثلت في الدعوة إلى الأخذ بالتراث كسلاح أيدلوجي لمقاومة ومواجهة هذه التحديات.
ليصبح الماضي مجرد تكرار وإعادة إنتاج بشكل رديء للتاريخ الثقافي نفسه الذي كتبه الأجداد تحت ضغط صراعات العصور التي عاشوا فيها وحدود الإمكانيات التي كانت متوافرة، ونحن للأسف مازلنا سجناء الرؤية والمفاهيم والمناهج التي وجهتهم مما يجرنا دون أن نشعر إلى الانخراط في صراعات الماضي ومشكلاته، ويؤدي إلى جعل حاضرنا مشغولا بماضينا، بالتالي النظر للمستقبل بتوجيه من الماضي والحاضر ومشكلاتهما معا".( الجابري، 1985)
تلك السمات لتاريخنا الثقافي يظهره كتاريخ مقطع الأوصال يميزه الخلاف في الرأي وليس بناء الرأي، أو كما يقول الجابري هو أيضا تاريخ علوم وفنون ومعرفة منفصلة عن بعضها، تاريخ تسوده علاقة انقطاع واضطراب عن التاريخ العالمي، وليس اللوم بالطبع على طريقة القدماء بل على انقيادنا الأعمى وغير المدروس لما كان نتاجا لظروف تاريخية خاصة، وتم بالتالي استبعاد كل القراءات النقدية للتراث، فانعدم النقد الذاتي وأصبح الجديد لا يعدو نسخاً وتكراراً للقديم بكل أخطائه وعلاته، فازداد ثقل حضور الماضي في الوعي العربي والإسلامي، وانعكس كتحصيل حاصل على الذهنية العربية، خصوصا بازدياد التهديد الذي يمثله الاحتلال.
في هذا الإطار تشعر النخب المثقفة في المجتمع العربي والفلسطيني بحقيقة الأزمة كما تعي تماماً أبعادها الراهنة والمستقبلية، فهناك هوة عميقة تفصل بين التراث الثقافي العربي القومي وبين الفكر العالمي الحداثي، ولما كانت المجتمعات العربية كلها حكاما ومحكومين تمر بمرحلة من التخلف واليأس والحرمان والإحباط تبعث على الرثاء، لذا فإن وجود ثقافة عقلانية متنورة قد يكون بصيص الضوء في العتمة القائمة، مع أن الوضع الراهن يؤكد بأن الشعوب العربية ستظل هامشية تسير في ذيل الأمم في مختلف النواحي ما لم تمتلك نخبها الثقافية جرأة الدفاع عن مبادئ التنمية والتنوير والديمقراطية، ضد التجهيل وثقافة العنف والتعصب الأصولي والتقوقع التي تجتاح بشراسة العالمين العربي والإسلامي.

فلا تقدم ولا مكانة فاعلة لأنظمة القهر والفساد ولا بديل عن سيادة الديمقراطية، وروح الحوار والتسامح والاحترام الصارم للمواطن وحقوقه وكرامته، على أن يتم غرس ذلك منذ الطفولة وفي برامج التعليم والتربية على مختلف المستويات، وهذه – على الأرجح - هي المعايير التي تحدد معاني ومصطلحات المستقبل مقابل التقليد الموروث"(ايكلمان، 1993) فحجم المعرفة الإنسانية خلال العقد الأخير وحده يفوق بمرات المعرفة التي كانت سائدة في القرون السابقة، وهذا التطور المعرفي بحاجة إلى دمج في منظومة القيم والأفكار والمعتقدات السائدة، وعملية تكييف - و تعايش ما بين الدين وبينها، وخصوصا أن هذه المعرفة ليست وليدة أفكار عربية أصيلة، بل جاءت من الغرب بقيمه ومعتقداته"(ابراش، 2004)، ولكن على ما يبدو فالبديل المطروح هو أيديولوجيا إسلاموية سلطوية، لا تملك أي تصور جدي ومنطقي للانفصال عن العولمة الرأسمالية السائدة، بل إن العولمة ترحب بهذا البديل طالما يتساوق مع أهدافها ويقبل بنظريتها الاقتصادية ويفتح الأسواق العربية أمام سلعها المختلفة، ويوفر لها الأساس المنطقي للهجوم على المجتمع العربي( أمين، 2006) فالذين يختبئون وراء التراث للتشكيك في قيم التقدم والتسامح والديمقراطية، لا يستطيعون تقديم بديل مقنع تاريخياً، أو متسق منطقياً، أو تم اختباره تجريبياً، والمثقفون منهم، حسب تعبير سعد الدين إبراهيم، فهم من حيث يقصدون أو لا يقصدون، يزيّفون وعي "الجماهير"، ويقلّصون المبررات المعنوية لاستمرار الاستبداد الشرقي، سواء تحت ستار"الإسلام" أو "العروبة"، أو من خلال فقه مغلوط، هو فقه للنكاية حيناً، وفقه للذرائع أحياناً.( عبد العاطي، 2005)
وقد نتفق على أن هذا المشهد الثقافي المأزوم يعود إلى عوامل موضوعية ترتبط بعملية التطور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي المشوهة لمجتمعاتنا العربية، التي رسخت عبر الأنظمة أو المؤسسة الحاكمة والسلطة الأبوية مفاهيم وأدوات السيطرة والاستبداد والخضوع في سياق إعادة إنتاج التخلف والتبعية التي دفعت بدورها إلى مزيد من التهميش والفقر والحرمان للمواطنين العرب، ومزيد من التفتت والنزعات المدمرة ذات الطابع العصبوي العشائري والحمائلي والفئوي والطائفي وغير ذلك من العصبيات الموروثة والمستحدثة بمختلف أشكالها وأجهزتها.
وبالمحصلة المجتمعات العربية باتت مجتمعات تنتشر بها الأمية وتغيب فيها قيم التسامح والديمقراطية وتنتهك فيها حقوق الإنسان، وعملية التنمية لا يشترك أو يستفيد منها المواطنين، فتهميش الفقراء والشباب والنساء مستمر في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما وينتشر الفساد في السلطة الحاكمة والمجتمع بشكل عام، هذه العوامل الموضوعية لم تكن معزولة عن أدواتها الذاتية المتمثلة في تبرير مثقفي الأنظمة الحاكمة أو المراكز الرأسمالية الدولية للوضع القائم وإضفاء شكلا باهتا من الشرعية السياسية أو الأيديولوجية عليه، في سياق ثقافة السيطرة والخضوع والتطبيع، لدرجة برزت فيه ثقافة السلطة بديلا لسلطة الثقافة، انسجاما مع مفهوم دولة السلطة الذي ترسخ في المجتمع العربي، بديلا لمفهوم سلطة الدولة. (زايد،2003 ).
وبالرغم من هذا المشهد المأزوم، فإننا لا يمكن أن نتجاهل بعض المبادرات العربية فكرية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية التي قادتها بعض الأحزاب أو المؤسسات العربية للمساهمة في تجاوز الأزمات العربية، كما لا نستطيع إغفال رؤية المواطنين العرب، ووعيهم لجوانب هذا المشهد وضغوطاته وتأثيراته السلبية والإيجابية عليهم، فجل المواطنين العرب أولا وأخيرا، هم الذين دفعوا الثمن الفادح لكل نتائج هذا المسار الراهن للنظام العربي برمته، سواء على صعيد المجابهة والصمود أو على صعيد التفكك والإحباط الاجتماعي والسياسي الداخلي، هذه الثنائية المتناقضة الناجمة عن الظروف التي عايشتها المنطقة منذ بداية القرن العشرين إلى يومنا هذا، في صراعها ومجابهتها للاحتلال الصهيوني والقوى الاستعمارية المهيمنة من جهة وفي خضوعها لنظم القهر والاستبداد والتخلف الداخلي من جهة أخرى.
خلاصة القول: في الوقت الذي يتطلع فيه الوطن العربي إلى ثقافة حديثة منفتحة متفاعلة مع الثقافة العصرية ظلت الثقافة التقليدية الموروثة على حالها تقريبا دون تجديد، وسارت الثقافتان في خطين متوازيين مخلّفين وراءهما نمطين مختلفين، بل أحيانا متناقضين، وهو ما أفرز ظاهرتين مازلنا نعاني منهما في الحياة الثقافية والسياسية العربية:
الأولى: هي الاستغراق في قضايا الماضي، فكثير من القضايا الحيوية والمهمة للتطور الديمقراطي والتحديث مازالت هي ذاتها المطروحة علينا اليوم، مثل أسلوب ومضمون تطوير التعليم، أو تطوير الخطاب الديني، ووضع المرأة، ومضمون الحريات المدنية الفردية والعامة، والتعددية وعلاقة الدين بالسياسة و غيرها.
الثانية: هي الازدواجية الثقافية أو الإشكالية التي تعالج دائما تحت عنوان "الأصالة والمعاصرة، أو التقليد والحداثة أو العلمانية والأصولية"، ما ساهم بدورة بتكريس نوع من الجمود أو في أغلب الأحيان إعادة إنتاج القديم.. ما يفرض بدورة الحاجة إلى التجديد الثقافي وإعادة القراءة الواعية للتراث لإبراز الجوانب المضيئة فيه، ومعالجته بفكر نقدي مفتوح يتواءم مع متطلبات العصر، واحتياجات التطور الديمقراطي في مجتمعاتنا العربية بشقيه السياسي والثقافي معا.
ولعل هذا ما يدعوني إلى القول بأن حالة المجتمع العربي تتطلب ثورة منهجية شاملة قبل العولمة؛ فما بالنا اليوم ونحن في حقبتها؟! علها تمكن العرب من القيام بمجموعة من الأدوار دفعة واحدة في إطار عملية تنمية شاملة بعيدة عن التخدير الأيدولوجي والافتراء على حقائق التاريخ، لأن تحويل العلاقة من علاقة قوامها التنمية والتحرر إلى علاقة تتخذ حدية الصراع بين داخل مطلق وخارج مطلق، وبالتالي تنامي الحديث عن الغزو الفكري بدلاً من الاعتراف ومواجهة عوامل التخلف والضعف الذاتي، وتنحية الشروط الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وبالتالي اعتماد البني الثقافية والاجتماعية الموروثة التي تحولت إلى عوامل للمناعة الوطنية أمام هاجس الغزو الفكري.
كل ما سبق جعل من قضايا التحرر والمدنية تنفصم عن البني الاجتماعية والثقافية التقليدية وبقيت تلك البني على حالها دون أن يطرأ عليها أي تغير جوهري، وتحول الخطاب النهضوي الحداثي إلى خطاب تقليدي ماضوي، مما مكن الاحتلال والإمبريالية من التحكم بأجزاء من عالمنا المطلق بناءً على خصوصية مزعومة، وعليه فإن العرب مطالبون بفحص أدواتهم في المعركة من أجل التقدم والدمقرطة والحكم الصالح والرشيد والتنمية والانعتاق، بما يمكنهم من مواجهة تحديات العصر وتعقيداته التي تفرضها العولمة الثقافية.

العولمة وتداعياتها على المجتمع العربي

منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في العقد الأخير من القرن العشرين، اجتاحت العالم الفكري والسياسي الغربي موجة واسعة من التصورات والأفكار تعتقد في نهاية الأيدولوجيا ونهاية كل ما شهده العالم "القديم" من ظواهر فكرية وسياسية واجتماعية وولادة عالم "جديد" يزخر بظواهر أخرى مختلفة ليس لأي منها خصائص واضحة ولا حتى اسم متمايز، فكلها مجرد ما بعد" الظواهر "القديمة"، وهكذا بتنا غارقين في خضم واسع من تلك المصطلحات الغامضة المضمون المبهمة الملامح مثل "ما بعد الحداثة"، و"ما بعد الشيوعية"، و"ما بعد الدولة"، و"ما بعد السيادة الوطنية"، و"ما بعد القطبية الثنائية"، وغيرها وصولاً إلى مصطلح "ما بعد الحداثة" الذي بدأ الترويج له في بعض الأدبيات الغربية خلال الأعوام الأخيرة من القرن الفائت وحتى الآن.
والتي يصفها إدوارد سعيد بالفكر الهزيل في زمن نهاية الحداثة، ويشير إلى وجود عدد من المفكرين والفنانين والشعراء في العالم العربي الإسلامي مثل أدونيس وإلياس خوري ومحمد أركون وآخرين معنيين بالحداثة ذاتها, وما زالوا بعيدين على أن يكونوا منهكين فما زالوا يشكلون تحديا رئيسيا في ثقافة يسيطر عليها التراث، ولكنها تتقاطع ثقافيا في فضاء عولمي ساحر ينفحها بالحياة حيث السؤال المقلق: كيف ينبغي لنا أن نقوم بالتحديث في أوضاع الغليان الزلزالي الذي يعانيه العالم اليوم؟( سعيد، 1998)
فالصراع الدائر في عالم اليوم عالم اللامعيارية يطرح مشاكل الماضي والحاضر والمستقبل خاصة في المجتمع العربي المدين للتاريخ بمشكلات لم يحسمها بعد، فعالم ما بعد البعديات " ما بعد الحداثة وما بعد العولمة لم يطرح إلا من نخبة عربية قليلة وبالإجمال فقد " سيطر على تاريخنا الفكري مفهوم تواكلي يشرح الإيمان بالغيب، وفي هذا الصدد يتساءل الباحث الإسلامي محمد أبو القاسم حمد بصدد الإنسان العربي في هذا العصر فيقول:"ماذا سيحمل العربي – وهو في قمة تخلفه الآن – للعالم الذي تجاوزه حضارياً؟ وكيف سيتحول العربي من دائرة الانفعال السلبي بالعالمية الأوربية المعاصرة، إلى دائرة الفعل الإيجابي باتجاه عالمية بديلة؟ وكيف يتم ذلك؟ ونحن نعرف بأن معظم بلدان العالم الثالث لجأت إلي التحديث وليس للحداثة، فلم يتحقق من هذا التحديث شيء اللهم إلا بعض التغييرات القشرية السطحية النخبوية الهشة التي تفضي إلى تشويه هذه البلدان وإهدار هويتها، وإعاقة تطورها التنموي المتلائم مع طبيعتها البنيوية الخاصة.(حمد، ب ت)
وهذا ما سبق أن أشرنا إليه عند دراسة إشكالية الحداثة والتقليد، والذي خلصنا فيه إلي رسوب العرب في امتحان الحداثة، فما بالنا في امتحان ما بعد الحداثة الذي تطالعنا فيه العولمة، تلك المفردة التي أصبحت تطرح رؤاها الخاصة، بصورة تكاد تنسف وتبطل كل ما سبقها من مفاهيم للجغرافيا والحدود والواقع الجديد بكل عوالمه الخائلية ومجتمعاته التي تتمثل من أفراد لا يجمعهم سوى إمكانيات ثورة الاتصال.
تلك العولمة التي ينظر إليها كمجموعة من المخاوف والأهوال التي تهدد النسيج السياسي والاقتصادي والاجتماعي لشعوب العالم وثقافاتها، وتحديدا شعوب العالم الثالث ما ينجم عن ذلك من احتكارات كونية للاقتصاد العالمي والموارد الطبيعية والنفطية وتعاظم النفقات على التسلح في مقابل تراجع النفقات في محاربة الفقر والجوع والمرض والجهل، ما يؤدي بدوره إلى حرمان الدول المتخلفة من أشد ما تحتاج له للنهضة والتقدم، علاوة على اتساع الهوة بين الشعوب القادرة والضعيفة واختلال النظام الاقتصادي العالمي وانخفاض معدلات النمو وتفشي الفقر والبطالة وارتفاع المديونية وتفاقم تبعية الدول الفقيرة إلى الدول الصناعية، ناهيك عن معدلات التكاثر السكاني المتزايدة بصورة محمومة، وتناقص الموارد الطبيعية، وتلوث البيئة الطبيعية، وانتشار نزاعات الاستهلاك، وتغليب السطحية، والتقليد على الاقتباس المتبصر، وانتشار قيم الفساد والأنانية، وبروز أمية القيم وتزايد الانحراف، والعنف كل هذا يهدد ما وصلت إليه البشرية من قيم الحداثة، وإنجازات التقدم العلمي، ويؤدي إلى زيادة التقليد والأصولية في العالم.( درويش، 2000) والمجتمع العربي جزء من العالم يتأثر بشكل كبير بهذه الأحداث التي تترك آثار وبصمات خطيرة على تكوين المجتمع.
والسؤال المطروح الآن: كيف يمكن الصمود في وجه التحديات الجديدة المفروضة ؟ هذا لو نحينا جانباً قدرة الدولة العبرية، بل ودورها المؤثر والمتفوق في أدوات العولمة التي تتيح لها استقطاب أوسع للعقول والكفاءات، مسلحة بلوحة متعددة الألوان من الثقافة والتكنولوجيا وحتى علوم اللغات، ومن الفنون والمسرح إلى الموسيقى فهي صاحبة خبرة واسعة في إنشاء الأسلحة الثقافية خلال مراحل صراعها مع العرب وكثرة العلماء والمفكرين والفلاسفة اليهود في الجامعات العالمية، وعلماء الآثار، منهم على سبيل المثال، إميل دوركايم مؤسس علم الاجتماع الحديث، وتشومسكي صاحب أكبر مدرسة في علم اللسانيات، وجاك دريدا رائد الفكر الفلسفي ما بعد البنيوي، إضافة إلى علاقات ثقافية واسعة مع العالم، فإسرائيل تأتي في مرتبة متقدمة عالمياً بعد الدانمارك في معدل نشر الكتب، إضافة إلى وجود حركة ترجمة قوية من اللغات الحية والمنتشرة إلى العبرية، وشبكة متاحفها مرتبطة مع 120 ألف شبكة متاحف في العالم، وهناك اعتناء بالموسيقى الكلاسيكية والشعبية إضافة لمحافظتها على موروثها الديني والأعياد اليهودية.‏ (علي، 1993)
ينبغي هنا الاعتراف بهول التحدي وخطورة ما هو قادم إذا لم يتم التدارك الفوري والعاجل للإشكالية قيد البحث والدراسة، أي مدى الحاجة المتزايدة إلى تناول قضايا تحرير الإنسان وتنميته وتوفير كل ضمانات احترام حقوق مواطنته، ودمجه في الحداثة التي تعني قبل كل شي حرية العلم والفكر العقلاني ومرونة الذهن والقبول بالاختلاف والتعددية الفكرية وحرية المعتقد الديمقراطي والمواطنة.(عبد العاطي، 2003)
ففي ظل التسارع المعرفي والتغير في العالم يصبح المطلوب من المجتمعات والبشر اكتساب قدرات التحرك والتكيف لضمان البقاء والتقدم، ومغادرة نطاق التقليد، والطموح نحو الإبداع في الحكم الصالح والتنمية والتحرر الذاتي وإحقاق الديمقراطية والتحرر من العصبيات العشائرية والإرثية، والسؤل الهام هنا هل يمكن ذلك في ظل ثقافة عربية تعاني من ثنائية وانقسام، ثنائية التقليد والحداثة والتي لا تحتاج من الإنسان لجهد كبير لكي يرى الفجوة التي تفصل بين الثقافتين؟ ( الجابري، 1994) فالانغلاق والانكفاء على الذات والاغتراب جعل العرب يواجهون التحديات بعقول سلبية هروبية كبلت العقل والعمل المشترك في المجتمع العربي في مجالات التنمية المختلفة وأضعفت من الإرادة السياسية وخاصة في ضوء غياب أو ضعف المجتمع المدني – الديمقراطي العربي، وغياب دور المثقفين وتشريعاتهم للمستقبل بالإضافة إلى دور العوامل الخارجية المتمثلة في الاستعمار والصهيونية والإمبريالية العالمية والأمركة، التي تهدف إلى إبقاء حالة التخلف والتبعية في المجتمع العربي والفلسطيني, فالحروب المرتقبة والناشئة الآن وجرائم العدوان والحرب والاحتلال الأجنبي آخذة في التصاعد، والتدمير الحضاري لمنجزات البشرية في مجالات التنمية وحقوق الإنسان آخذ في التسارع المحموم، ويمكن القول أن العالم يمر بأزمات وهموم غير عادية". (أبو نمرة وقوارسي، 1988) إثر سقوط المعسكر الشرقي الذي بدوره فسح المجال أمام العولمة الليبرالية بمختلف أبعادها الاقتصادية والثقافية والسياسية، ما أدى بدوره لعولمة الاحتجاج إزاءها كرد فعل على فشل المشروع الوطني القومي من جهة، ومن جهة أخرى رد على الانفراد السياسي العالمي من قبل أمريكا والنظام الرأسمالي العالمي المعاصر، الذي استغل العلم ومنجزاته التكنولوجية في كثير من الأحيان استغلالا بشعا في قهر شعوب العالم واعتصار ثرواتهم ووقف تقدمهم، بل في قهر واستغلال مواطنيه أنفسهم، إلا أنه ينبغي التمييز بين حداثة الحضارة الغربية الراهنة التي هي حضارة إنسانية عامة لعصرنا، وبين نظامها الرأسمالي الإمبريالي الذي يسيطر على العلم والمعرفة ويفرغهما من مضمونهما الإبداعي والإنساني في توظيفهما لخدمة أهدافه ومصالحه الاستغلالية والتوسعية. ولهذا فمن التجني بل من الغفلة هذا الخلط بين الحداثة وهذا النظام. (شكر، 2003)، فمعركة عصرنا للتحرر من سيطرة الرأسمالية الإمبريالية على مقدرات شعوب العالم، هي في ذاتها معركة من أجل تحرير العلم والحداثة من هذه السيطرة.

فالحداثة لا تعني طمس الهويات والخصوصيات الوطنية والقومية والثقافية، بل لعل هذا هو ما تسعى لتحقيقه الإمبريالية والرأسمالية العالمية في عصرنا الراهن، وبخاصة الإمبريالية الأمريكية والشركات المتعددة الجنسية لتنميط العالم سياسيا واقتصاديا وثقافيا وفقا لمصالحها".( العالم، 1993)، فهناك ما هو كوني عام وعالمي شامل، ولكن هناك داخل هذا الشمول والعمومية الكونية والعالمية ما يمثل خصوصيات وتمايزات قومية وثقافية، يسهم العلم في اكتشافها وإدراك قوانينها الخاصة وتنميتها بحيث لا يطغي الشمول الكوني العالمي على هذه الخصوصيات ولا تتغافل هذه الخصوصيات عن هذا الشمول الكوني والعالمي، وإنما يدور بينهما حوار وتفاعل واستفادة متبادلة.( درويش، 2000).
ومما سبق الإشارة إليه يشير إلى أن المعركة الفكرية، لن تكون أقل ضراوة وتعقيداً من المعارك العسكرية أو السياسية، فالاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة دون بقية البشر سيؤدي مباشرة إلى الاستبداد، والتعصب الأعمى، وإلغاء كل فكر آخر، وتكون نتيجته الصدام المروع وسفك الدماء،(Fukuyama,2002) وهذا مما حدث في أمريكا وبريطانيا وأسبانيا، وحدث ويحدث في السودان والجزائر والسعودية، واليمن والعراق، وأفغانستان، وفلسطين، وما هو مرشح للحدوث في دول أخرى، فبدون احترام حقوق المجتمعات في حماية مقدراتها وفي التنمية المستقلة، ستكون التنمية سياسية وفكرية أو اقتصادية عبارة عن كذبة كبيرة مكشوفة، ولكنها مغطاة بشعارات يرددها بعض دعاه العولمة الليبرالية، أو لا تكون إلا تنمية محدودة خاضعة لقوى خارجية مهدرة لمصالح الجماهير العريضة لا تعيش إلا لأجل محدود وفي إطار من القهر والاستغلال والفساد والتخلف رغم ما قد ينتشر في بلادها من أكل "ماكدونالد" وشرب الكوكاكولا وارتداء "الجينز وال تي شيرت"، والإعجاب بموسيقى الروك ومشتقاته حتى الارتباط بشبكة إنترنت واقتناء الهاتف المحمول وتركيب "الدش" في البيت ومحل العمل.(العالم، 1993) .
فالتنمية المستقلة ليست مظاهر خارجية كما أنها ليست اقتناء وتكديس الأسلحة التي لا تستخدم في الغالب إلا في الانقلابات، أو قمع المواطنين حماية لحكم مستبد أو في حرب أهلية أو غزو دولة مجاورة لا تهددها بأي تهديد جاد، ومن نظرنا من المبكر القول إن هناك أفاقا لحل هذه المعضلات الثقافية والتنموية العربية.(عمر،2000).
وفي هذا الصدد يؤكد "فؤاد زكريا" على ضرورة تفعيل دور العقل في زمن العولمة، بحيث نأخذ المفيد الذي يعزز من بناء مجتمعنا ونرفض المسيء الذي يدمِّر قيمنا، لأنَّ التحدي الذي نواجهه ليس اختيارا بين الرجوع إلى الأصل أو مسايرة العصر، وإنما إلى إثبات استقلالنا عن الآخرين، وابتداع حلول من صنعنا نحن وعندها نكفل المكان الذي يليق بنا, ويضيف بأن الصد والانعزال قد يجديان في الحروب، أما في الساحة الثقافية فلا يفيدان، وهما أقصر الطرق إلى الهزيمة والتسليم، ولذلك فالدول التي تحاول صد الأخطار الثقافية الخارجية عن طريق سن قوانين المنع والحظر والرقابة هي أكثر تعرضاً لهذه الأخطار، أما المجتمعات التي تصنع ثقافتها الخاصة المستنيرة كي تواجه بها الثقافات الوافدة، فهي وحدها التي تستطيع أن تصمد وتنتصر، وبهذا ينتهي القلق الثقافي الذي تعانيه.(زكريا، 1985)
وهنا نود التشديد على ضرورة عدم الخوف من المفهوم الحالي للعولمة بشكل يجعلنا نعيش في عالم منفرد، خصوصاً أنَّ العولمة على ارتباط وثيق بالعالمية، فالمجتمعات البشرية تعيش أصلاً في عالم واحد، وتشارك في نمط علمي ثقافي اقتصادي، وتتلقى التأثيرات المادية نفسها، سواء تعلق ذلك بالإعلام أو الثقافة أو البيئة، والأخذ بالتقنيات الحديثة أمرٌ ضروري للمشاركة في الثقافة العالمية، والدفاع عن البقاء، ولكن الاستفادة من هذه التقنيات غير ممكنة من دون أن تقف وراءها إستراتيجية ذاتية مستقلة، تسعى إلى النهوض بالأمة بما تقدِّم من إنتاج فكري وعلمي، فكما رتبت العولمة مظاهر سليبة ساهمت أيضا في إيجاد حركة عالمية صغت وتسعي لصياغة مواثيق أخلاقية عالمية، تعتمد على التراث الأخلاقي للإنسانية، والثقافة المعاصرة، أساسها قيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. Featherstone& Lash& Robertson,1995)) كما وسعت من فرص التفاعلات بين البشر في مختلف بقاع الأرض، فالثقافة عموما شيمتها الأساسية التنوع، مع وجود حد أدنى من الاتفاق حول القيم الإنسانية الأساسية. وإن كنا نقر بأن الحركة العالمية لبناء الاتفاق حول عدد من القيم الإنسانية، وخاصة احترام حقوق الإنسان هي حركة سابقة على العولمة المعاصرة.
فقد اهتمت منظمة الأمم المتحدة منذ نشأتها، وعدد من الهيئات التابعة لها، بوضع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان منذ حوالي نصف قرن، ونجحت هذه الجهود بالفعل في إصدار عدد من المواثيق الدولية مثل: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1966، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والثقافية 1966، كما امتد التشريع الدولي لحقوق فئات معينة من البشر، فصدرت الاتفاقية الدولية لحماية اللاجئين 1951، والاتفاقية الدولية لقمع جريمة التمييز العنصري والمعاقبة عليها 1973، واتفاقية حقوق الطفل 1989، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 1981، وغيرها من الاتفاقيات والاعلانات العالمية التي تسعى للاتفاق على احترام حقوق وحريات البشر اعتمادا على القاسم المشترك بين الثقافات المختلفة.
ولكن الجديد في عصرنا اليوم، هو ذلك الوعي الجديد الذي ينتشر تدريجياً بين البشر- على اختلاف أشكالهم وألوانهم، وانتماءاتهم السياسية، ومستوياتهم الاجتماعية والثقافية- بتلك الموضوعات التي كانت من قبل حكرا على الحكومات والهيئات الدولية، وبعض المنظمات المحدودة، والقليل من المثقفين، فوسائل الاتصال والإعلام الحديث، والإنترنت، نجحت في توسيع دائرة الاهتمام بالقضايا الإنسانية، وسهلت للمواطن العادي في العالم كله متابعة المعلومات والتطورات حول تلك القضايا، وتجاوزت ذلك في بعض الأحيان إلى المساهمة في تشكيل قناعات وأنماط سلوكية معينة ذات طابع عالمي، فقضايا التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان والشفافية والتسامح ومكافحة الفساد وحقوق المرأة وحماية البيئة، وغيرها من القضايا العالمية أصبحت موضع اهتمام المواطنين في جميع أنحاء الأرض، (علي، 2000) .

وإلي جانب ذلك ساهمت العولمة بتكوين حركات سياسية واجتماعية تعمل على مستوى عالمي - الحركات المناهضة للعولمة - تجمع الناس الذين يفكرون بشكل عالمي، ويؤمنون بوحدة الجنس الإنساني وترابط مصيره، وينشدون الضغط على صانعي السياسة لإنتاج سياسات مواكبة للسلام والتحرر الاجتماعي، والتنمية الاقتصادية والثقافية المتوازية لكل الشعوب مع احترام التعددية الثقافية والحضارية في الوقت نفسه, فالوعي بالقضايا الإنسانية يترجم نفسه في صورة حركة عالمية لصياغة برنامج عمل لمواجهة بعض القضايا العالمية موازية لحركة الحكومات والدول, وتشترك في هذه الحركة أطراف اكتسبت أهمية متزايدة هي أساسا المنظمات غير الحكومية، بل إن أعدادا كبيرة من البشر أصبح متاحا لها اليوم التأثير على الرأي العام، ويطلق البعض على هذه الظاهرة التي بزغت في عصر العولمة، ظاهرة المجتمع المدني العالمي، الذي يسعى لبلورة عولمة بديلة عن العولمة اللبرالية المتوحشة التي تستعدي الثقافات والحضارات، عولمة تعمل على بناء نظام عالمي إنساني الطابع والاتجاه يشرك الجميع في تشكيلها، عولمة تقوم على التعددية والتسامح والحوار والتعاون المشترك، وتنتفي منها لغة التهديد والهيمنة على الشعوب الضعيفة، & Boeckh,2003) Barrios)، فهل بالإمكان أن تنجح شراكة متوازية بين المدنية الحديثة والقيم الروحية ؟ نقول من الممكن ذلك، كون أي رأي يذهب إلى غير ذلك سيحتوي على تشكيك غير مبرر بالقيم الروحية والمدنية فلا يوجد عالم دين أو عالم اجتماع أو مثقف يمكن أن يقول إن القيم الروحية أو المدنية غير قابلة للتطور.
وبالرغم مما سقناه من إيجابيات، إلا إن الصورة المقابلة لها حملت في طياتها مخاطر التنميط الثقافي والتسليع الاستهلاكي فالمنتج الإعلامي العولمى يروج للقدرات غير المتناهية للكيان الأمريكي وهو ما يثير الشعور بالدونية لدى الكيانات الصغرى التي لم يصلب عودها، فكل أفريقيا بما فيها الدول العربية في شمال أفريقيا تملك 1.4 % من المحطات التلفزيونية، وتنتج 1.8 % من الكتب الصادرة في العالم.( تقرير التنمية العربي، 2003) ما يعني عدم استقرار هوية المجتمع العربي في ضوء ضعف قدراته الثقافية وأزماته المعهودة، فالوقت مبكر أمام استقرار هوية المجتمع العربي خاصة في ضوء معرفتنا بغياب استراتيجيات ثقافية مدروسة ذات رؤى محددة، فحالة التأرجح ستبقى هي الحاكمة لسلوك المجتمع والشباب بالذات فيه، كما تساهم في تنامي الازدواجية الثقافية في المجتمع العربي، تلك الازدواجية تتقدم أو تتراجع بناء على قوة الكيان المجتمعي والمعرفي ودرجة التنمية الاقتصادية والإنسانية ومدي توفر الأدوات الاتصالية والمعرفية، والتي يمكن أن تستغل في إضافة مشكلات ثقافية جديدة للمجتمع العربي إن لم يحسن التعاطي معها، فأجهزة الاستقبال والتقاط البث الإذاعي والتلفزيوني الفضائي استطاعت الدخول إلى مجمل المنازل والبيوت، بسبب انتشارها وكثافة تسويقها العالمي ورخصها كذلك، ما جعل المادة الإعلامية المنوعة وخاصة الغربية منها تصل إلى المتلقي في العالمين العربي والإسلامي دون حواجز تذكر، بل بسهولة ويسر.( الجمال،1991) فلم يعد بإمكان المؤسسات الحكومية أو الأهلية أن تقوم بمنع وصول المعلومات أو المشاهد أو الأفلام فمقص الرقيب أصبح بالإمكان الإفلات منه.

وبالرغم من إيجابية ذلك إلا أن هذا الأمر يحمل معه اختراقا يرتبط بالعولمة الثقافية ويروج لقيم ثقافية وسلوكيات وأنماط عيش مختلفة، وأذواق في الملبس والمأكل وصولا إلى صياغة تفاصيل الحياة اليومية وكل ما يتعلق بها من شؤون تخص الفرد أو الأسرة أو المجتمع. (فرج، 2003)، وهنا تكمن الخطورة فعلا؛ لأن وسائل الإعلام وخصوصا الإنتاج الأمريكي يسعى بجد وقوة لنشر وترويج قيم المنافسة وتمجيد القوة، والتأكيد على الفردانية، و نشر ثقافة الاستهلاك، والدعوة إلى تحرير الرغبة الإنسانية من كل القيود، وبالتالي تقدم للإنسان أهدافا جديدة، تتمحور حول السعي الحثيث لتحقيق الرغبات الشخصية حتى ولو بالقوة دون اعتبار لقيم الحق أو العدل.
وبما أن هذه المادة الإعلامية بدأت تطرق باب الإنسان وتشاركه خلواته دون رقابة أو تمحيص، فإن آثارها المدمرة قد بدأت تظهر وتنتشر داخل الأوساط الاجتماعية والسياسية والثقافية العربية فعلا، فظواهر التفسخ الأخلاقي والتفكك الأسري، الفئوية والانقسام والصراع على الثروة والسلطة وقيم التعصب والتشدد الديني، ومظاهر تهتك النسيج الاجتماعي والعنف الداخلي وصراع الهوية، دليل على أن هذا الاختراق بدأ يؤتي أكله. (مجاهد، 2001).
فما حدث في فلسطين من صراع الأخوة "فتح وحماس" على سلطة تحت الاحتلال، وفي مجتمع شبة متجانس وما نتج عنه من مضاعفات قتل وحرق وتفسخ اجتماعي خير شاهد على ما ذكرنا، والأخطر استخدام الجانب الإعلامي والثقافي في الصراع " تكفير، تخوين، دمويين... ما فتح الصراع الفكري على مصراعيه حول علاقة الديني بالسياسي أو بتعبير أخر إشكالية العلمانية والأصولية، أو إشكالية الهوية " وطنية، عربية، إسلامية " توّج هذا الصراع بحسم عسكري قادته حماس في غزة أدى إلي انقسام فلسطيني بين جناحي الوطن وبين المواطنين وتراجع ديمقراطي، سبقته تعبئة لعناصرها بتكفير العلمانيين أو تخوين بعض أقطاب الحركة الوطنية الأمر الذي ترجم نفسه في أعمال قتل وعنف غير مسبوق في المجتمع الفلسطيني، ونود الإشارة إلى أن الأدوات الإعلامية الأمريكية الإسرائيلية بالذات، والعربية كقناة الجزيرة والمحلية كتلفزيون فلسطين وفضائية الأقصى شاركت في هذه المعركة بل وأجَّجتها، ما يؤكد خطورة الأدوات الإعلامية و الثقافية ودورها إن لم يحسن استخدمها.
وقد أدت الأوضاع التي اشرنا إليها سابقا إلى وجود "الدولة العربية المسامية"، وهي نموذج الدولة الأكثر اختراقا من الخارج، وثقوبها بالغة العمق والاتساع سواء كانت في النواحي السياسية للدولة بمعنى التدخل في سياساتها الخارجية من جانب القوى العظمى، أو في النواحي الخدماتية كتحكمها في التقنية. (مطر، 2004). وتعزيز الاختراق للدول العربية، التي في معظمها تماهت مع مظاهر العولمة كدول الخليج العربي في النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.في حين لا تزال هناك دول تحاول الحفاظ على محليتها وخصوصيتها قبل أن تلفظ النزع الأخير من هويتها وتتحد مع النظام العالمي ، حيث يصعب على أية دولة حاليا أن تمنع التدفق الإعلامي والمعلوماتى القادم إليها من خارج حدودها من خلال شبكة الإنترنت، والأقمار الصناعية، والقنوات الفضائية وغيرها، ومن المؤكد أن لهذا الأمر تداعياته على سيادة الدولة الوطنية بمعناها التقليدي، وكذلك على السياسات الوطنية للدول، حيث بدأت تنعكس على ديناميات العملية السياسية والسلوك السياسي في كثير من دول العالم وبخاصة في الغرب، Bignell)، 2004) .
إذ أصبحت بعض وسائل هذه الثورة تُستخدم على نطاق واسع في عمليات الدعاية الانتخابية، والاتصال بالمواطنين، وإجراء استطلاعات الرأي، الأمر الذي أثر ويؤثر على أدوار المؤسسات السياسية الوسيطة مثل الأحزاب وجماعات المصالح والتنظيمات النقابية وغيرها، وتركت انعكاسات اقتصادية واجتماعية وثقافية، وأكبر دليل على ذلك هو وصف بعض النقاد الغربيين لها على أنها عولمة "من الأعلى إلى الأسفل"، (خضر،1994) ولذلك فإنه من المحتم أن تكون مضاعفاتها سلبية وهدامة، ليس أخرها حرب الكل ضد الكل، أو استفراد دولة عظمى وحيدة بالعالم، أو كارثة بيئية عالمية، أو عدد من هذه الأمور معاً.

ففي هذا الزمن الذي يعيش فيه العالم، زمن الحداثة والعولمة وثورة العلم والمعلومات والاتصال، يشهد مجتمعنا العربي عودة إلى الماضي عبر تجديد عوامل التخلف فيه، لم يعرف مثيلاً لها في تاريخه الحديث منذ مائة عام أو يزيد، فهو إلى جانب ترعرع الأنماط القديمة القبلية والحمائلية والطائفية، والتعصب الديني الشكلي أو المظهري البعيد عن الاستنارة.
ومن أهم الأسباب الأخرى ضعف النظام الإقليمي العربي وعدم استقراره، بعدما تعزز مفهوم القطرية على اثر حرب الخليج الثانية التي زادت الشق بين الدول العربية، إضافة إلى ضعف جامعة الدول العربية وتغول المشروع الصهيوني وقبول العرب بتوقيع اتفاقيات السلام الثنائية. والعجز العربي عن صد الهجوم الفضائي الزاحف من القنوات الفضائية الغربية المسيطرة على عقول الشباب بأفلام الجنس والمخدرات والجريمة والتطرف، وتغذية عقولهم بقيم الاستهلاك والمتعة. فمع كل أمر إيجابي نكتسبه من ذلك، نبتلع عشرات الأمور السلبية الضارة، فمقابل كل فيلم وثائقي محترم هناك مئات الأفلام الهوليودية التي تُعَوِّد نفوسنا على العنف ولغة القوة، وتَغرُس فينا الميل للاستهانة بقدسية الروح والجسد، ومقابل كل غرفة دردشة إلكترونية للحوار العقلاني المثقَف، هناك مئات الغرف التي يشمئز منها كل ذوق سليم.( زلوم،2000)

ففي عالم اليوم تحتكر أميركا، نسبة عالية من صناعة الأخبار، وبث المعلومات عبر الفضائيات وشبكة الإنترنت، ووكالات الأنباء، وهي ( تصدر عبر شركاتها ما يقارب ثلاثة أرباع البرامج التي تبثها عبر العالم، في حين لا تتعدى نسبة ما تستورده 2% )، وتشير الدراسات ( إلى أن 97 % من الأجهزة المرئية موجودة في الغرب الذي يمتلك أيضاً 87% من الأجهزة المسموعة، وأن 90% من مصادر الأخبار في دول العالم الثالث مستوردة من الدول الغربية )، والمفارقة أن أوروبا نفسها - ناهيك عن العالم الثالث - تعاني من هذا الغزو الإعلامي والثقافي الكاسح، فعلى سبيل المثال ( يتجلى العجز الأوروبي في كون هذه المجموعة قد صدّرت إلى أميركا عام 1992 ما يقدر بـ 250 مليون دولار من الإنتاج السمعي المرئي فيما استوردت من الولايات المتحدة ما يقدر بـ 3750 مليون دولار )، ونلمس هيمنة كاملة للغة الإنجليزية التي باتت اليوم لغة الاحتكار المعرفي والإعلامي والمعلوماتي، لتكون بذلك أداة للثقافة الأنجلوسكسونية، في فرض نموذجها الحضاري( فـ 88% من معطيات { الإنترنت } تبث باللغة الإنجليزية مقابل 9% بالألمانية و 2% بالفرنسية، و1% يوزع على بقية اللغات الغربية ) و(السيطرة الأميركية على العالم تستند إلى هيمنتها على الاتصالات، فثمانون بالمائة من عدد الكلمات والمشاهد والصور التي تدور حول العالم تأتي من الولايات المتحدة الأميركية ). (الحديثي، 2002)

وأمام هذه الأرقام يظهر فقر المجتمع العربي الثقافي والإعلامي بما يعكسه هذا الفقر على مجتمع بات متلقيا إعلاميا، بينما تبدو المجتمعات الغربية في وضعية المرسل، الذي من الطبيعي أنه هو من يتحكم في مضمون الرسالة ثقافيا وبالتالي يصدر ثقافته؛ ولذلك فإن المجتمع العربي يمر الآن في وضعٍ هو أشبَه ما يكون بمجتمع منفصم من حيث القيم والمعايير الأخلاقية وأنماط السلوك. ( الضبع، 2002 )، فالحرية المتزايدة في الاستهلاك تتزامن مع القمع المتزايد للحريات المدنية وحقوق الإنسان، والبذْخ المبالغ فيه في الكماليات يتزامن مع التنازُل عن الأساسيات، والمساواة المتزايدة بين الرجل والمرأة تتزامن مع ازدياد اعتداءات الرجل على المرأة، وازدياد أنواع الشذوذ في المجتمع يتزامن مع التشدد المتزايد في عقاب الشذوذ في المجتمع، والاختلاط الحر بين الجنسين يتزامن مع التشدد في الفصل بين الجنسين، والانفلات المتزايد يتزامن مع التزمُّت المتزايد، والتَعَري يتزامن مع التحجُّب، والكفر بالقيم يتزامن مع التقيد الأعمى بالأعراف، والانفتاح على الغير يتزامن مع الانغلاق على الذات، والتسلق إلى أينع أغصان الحداثة الغربية يتزامن مع البحث عن أقدم جذور الأصولية الشرقية، والعبودية للغرب وكل ما يمثله تتزامن مع كراهية الغرب وكل ما يأتي منه. ( كناعنة، 2006).

قضايا ذات بعد ثقافي ساهمت العولمة بإثارتها

حققت الثورة المعلوماتية والاتصالية وأدواتها المختلفة والتي أتاحتها ما يشبه إلغاء للمكان وللزمان، فبهذه الأدوات والوسائل والقدرات سعت الدول الرأسمالية الكبرى وخاصة أمريكا لتنميط العالم سياسيا واقتصاديا وثقافيا وبخاصة البلاد النامية، مستخدمة لتحقيق ذلك أبشع أشكال التدخل والعدوان والقمع وتفجير الصراعات المحلية وإهدار الشرعية الدولية، وشل عمل المنظمات الدولية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلى رأس ذلك الأمم المتحدة، بل توظيفها لخدمة مصالحها الاحتكارية التوسعية وإدارة أزماتها الثقافية، ومثال فلسطين خير شاهد على استخدام أمريكا المتكرر لحق النقض الفيتو ضد أي تحرك لوقف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، ومثال ذهابها للحرب على العراق بدون غطاء دولي ما يؤكد عدم احترام حقوق الإنسان واستخدم سياسة الكيل بمكيالين بشكل يكفل مصالح القوي المهيمنة.

وفي المجال الاقتصادي تسعي الدول الكبرى عن طريق شركاتها العابرة للقارات، ومؤسساتها الاقتصادية، وبخاصة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية إلى إدماج واستتباع اقتصاديات البلاد النامية في بنيتها الرأسمالية، وتفكيك مؤسساتها وقطاعاتها الاقتصادية العامة ومحاولة تصفية الدور الإنتاجي والخدمي لدولها، (عمر، 2000) الاكتفاء بدورها الأمني لحماية مصالحها وتفكيك الروابط القومية والإقليمية وخلخلة الهويات الثقافية وإشاعة الاتجاهات اللاعقلانية والاستهلاكية والفردية والنفعية وروح التجارة بكل شيء وتسليع القيم الثقافية وعرقلة المشروعات التنموية التصنيعية الإنتاجية خاصة وعولمة الأصوليات، وإعادة أحياء النزعات والصراعات الأقلوية والإثنية والعرقية وصراع الحضارات هذا ما بشرت به العولمة الليبرالية وحملته في ثناياها، وهذا ما روجت له مركز فكرها وأبرز مفكريها، والأخطر هو تحول هذه الأفكار من مستوى التنظير إلى مستوى التطبيق والممارسة السياسية والعسكرية والاقتصادية في علاقة جدلية بين الفكر والسياسة.(قرني، وآخرون2003)، وسوف نسلط الضوء هنا على أهم القضايا الثقافية التي يدور الجدل حولها، وعلى رأسها صدام وحوار الحضارات.

1. صدام الحضارات

ما كاد العالم يتنفس الصعداء من زوال شبح الحرب الكونية المدمرة التي كانت تخيم على أجواء العلاقات المتوترة بين المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي, والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية, وذلك إثر انهيار المعسكر الشرقي وتفكك المنظومة الشيوعية, وانتهاء الحرب الباردة في أواخر الثمانينات من القرن العشرين, حتى ظهر في الغرب العديد من الطروحات والخطابات السياسية والفكرية التي ترسخ مفهوم الصراع والصدام بين الحضارات في القرن الحادي والعشرين، وتضع الإسلام العدو البديل للشيوعية، ويقف على رأس هذه الخطابات خطاب مجموعة الاستشراق الجديد التي تروج للصدام والعداء بين أمريكا والغرب من جهة، والحضارات الأخرى وعلى رأسها الحضارة الإسلامية والكنفوشية, ويمثل هذا الاتجاه برنارد لويس, وصموئيل هنتنجتون, ودانييل بايبس وغيرهم. ( عبد العاطي،2007)
وعلى الرغم من إن فكرة التصادم قديمة قدم الوجود الإنساني، وهي تتأثر بشكل أو بآخر بثقافة العصر وبطبيعة العلاقات الدولية في المجتمع الإنساني فضلاً عن تغيرات الفكر العلمي والفلسفي، أما فكرة التصادم في الأدبيات الغربية، الفكرية والسياسية والفلسفية والتي تطرح العلاقة بين الشرق والغرب كونها علاقة تصادمية، أو ستكون كذلك فإنها طرحت قبل هنتنجتون، كتحصيل حاصل لنظريات أو تصورات تفسيرية تستشرف العلاقة بين الشرق والغرب عامة والإسلام والغرب خاصة، وقد وجدنا أن روجيه غارودي الفيلسوف الفرنسي طرح فكرة التصادم، ولو بشكل سريع، يقول غارودي إن الأصوليات كل الأصوليات أكانت تقنوقراطية أم ستالينينية، مسيحية يهودية أم إسلامية، تشكل اليوم الخطر الأكبر على المستقبل، فانتصاراتها في عصر لم يعد لنا فيه الخيار إلا بين الدمار المتبادل والأكيد وبين الحوار، يمكننا أن تحبس كل المجتمعات البشرية في مذاهب متعصبة منغلقة على نفسها، وبالتالي متجهة نحو المصادمة، (جارودي، 1999) كما أن هناك العديد من الباحثين والمفكرين الغربيين قد استشرفوا رؤية التصادم القادم بين الغرب والإسلام، وقد اعتمد هنتنجتون طروحاتهم لتعزيز تفسيره للصراع الحضاري القادم محددا رؤيته حول الصراع القادم إلى أن عالم ما بعد الحرب الباردة متعدد الأقطاب، يفتقر إلى تقسيم واحد ومحدد، كالذي كان أثناء الحرب الباردة، هذه الأقطاب هي (الحضارات) التي يتكون منها العالم، وهي: الصينية، اليابانية، الهندية، الإسلامية، الغربية، الأفريقية وأمريكا اللاتينية، وما يحكم العلاقات بين هذه الحضارات هو (الصدام)، هذا الصدام ينطلق ويعود بالاستناد إلى الثقافة أو إلى الهوية، ذلك إن الثقافة أو الهويات الثقافية، والتي هي على المستوى العام، هويات حضارية، هي التي تشكل أنماط التماسك والتفسخ والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة، على أن العوامل الثقافية المشتركة والاختلافات هي التي تشكل المصالح والخصومات وتقاربات الدول، ونلاحظ إن أهم دول العالم جاءت من حضارات مختلفة، والصراعات الأكثر ترجيحاً أن تمتد إلى حروب أوسع، هي الصراعات القائمة بين جماعات ودول من حضارات مختلفة، وأشكال التطور السياسي والاقتصادي السائدة تختلف من حضارة إلى أخرى، والقضايا السياسية على أجندة العالم تتضمن (الاختلافات بين الحضارات)، والقوة تنتقل من الغرب الذي كانت له السيطرة طويلاً إلى الحضارات غير الغربية، والسياسة الكونية أصبحت متعددة الأقطاب ومتعددة الحضارات على حد رأيه. ( هنتنجتون، 1998) بعكس فرانسيس فوكوياما الذي يرى أن الصراع بين الحضارات المتباينة ينتهي بمجرد ذوبان هويات الحضارات في هوية الحضارة الغربية، على اعتبار أنها الحضارة الأكمل حسب زعمه.( فوكوياما، 1993)، إلاّ أن هنتنجتون يرفض هذه الفكرة ويرى أن الصراع لا ينتهي أبداً، بل على العكس من ذلك تماماً فهو مرشح لمزيد من الصدام والصراع، والمجال الذي يفترض فيه هنتنجتون (التغيير والصدام) هو مجال (الحضارات) فالتغيير يجري في وضعية الحضارات، والصدام سيكون فيما بينها، وهنا إقصاء لرؤية الانسجام والتوائم الحضاري، وإنزال التصادم والتنافر إلى حيزات الواقع الفعلي، ففي رأيه أن العالم الإسلامي سوف يؤكد وجوده ويتغلب على الصعوبات التي تواجهه, وعندها سوف يسعى إلى التأثير على الحضارة الغربية, وربما ينتشر الإسلام في أوروبا والولايات المتحدة، لذا يدعو الغرب إلى أخذ الحيطة والحذر, وإلى الاستعداد لمجابهة المسلمين؛ لأجل الدفاع عن النموذج الحضاري الأمريكي وعن المصالح التي يقوم عليها.(الجريبيع، 2000)( خلف الله ، 2002) ويدعو إلى شن الحرب عليهم، بل وتدميرهم وبكل الطرق والسبل قبل أن يصلوا إلى الهيمنة الحضارية على الغرب.(هنتنجتون، 1998) وبذلك فإنه يدعو الغرب إلى السعي إلى الحيلولة دون انتشار الأسلحة وخاصة الأسلحة غير التقليدية التي تهدد هيمنة الغرب على الشعوب. (باترسون، 2004) ويؤيد الباحث ما ذهب إليه عدد من الكتاب العرب في أن كتابات هنتنجتون لا ترقى إلى الكتابة الفكرية, ولا تملك مقومات الفكر الإبداعي, بقدر ما هي كتابات تعبوية, يسعى من خلالها إلى أغراض سياسية, منها محاصرة العالم الإسلامي وضربه؛ كونه يمثل تهديداً ماثلاً لحضارة الغرب وسيادته. (إمام، 2000) فأفكار هنتنجتون كانت تنظيراً لاتجاه أمني جديد في العالم الغربي أكثر من كونها بحثاً في العلاقات بين الحضارات". (الفاوي، 2000) بل إنها تمثل أحد الأسس النظرية التي أسست فكرة الصراع الثقافي بين الحضارات، فالكتاب في كليته يمثل إستراتجية تهدف إلى تزيف الوعي العالمي وإشغاله بنظرية صراع الحضارات للتغطية على الهيمنة الاقتصادية الغربية على موارد شعوب الأرض، ويبدو أن صموئيل هنتنجتون قد استند في معلوماته إلى مصادر استشراقية لا يصح الاعتماد عليها اليوم حيث يمثل الاستشراق الخلفية الفكرية لفكرة الصراع الحضاري التي انتشرت في الغرب. ( بو طالب، 2003)، فقد تجاهل هنتنجتون في كتابه صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي وجود العالم العربي، فهو يعتبر أن الحضارة الإسلامية تتكون من "حضارات تحتية، هي الإيرانية والتركية والعربية والملاوية، ويتناسى الاختلافات بين هذه المكوِّنات، ومضامين هذه الاختلافات، وينسى أن هناك أكثر من حركة إسلامية! فكل المعطيات الجغرافية والسياسية والثقافية اليوم تشير إلى أنه لم يعد بالإمكان التحدث عن حضارة إسلامية تشكل جملة سياسية واقتصادية وعسكرية واحدة من شأنها أن تشكل تهديداً لأيٍّ كان! ويمكن بسهولة أن نكتشف عندما نقرأ خارطة التحالفات الكاريكاتورية التي يرسمها هنتنغتون أنه انطلق من تساؤله عما يمكن أن يشكل تهديداً للغرب، ومن ثم بنى نظريته وفقاً لإجابة شبه جاهزة وضعها مسبقاً.( Fukuyama,2002)
ويبقى النقد الأساسي الذي يمكن توجيهه لمقاربة هنتنغتون هو أن الدين ليس العامل الوحيد الذي تتشكل حوله الحضارات، ولا هو بالعامل النهائي والمحدِّد لحدوث الصراعات، كما أنه يفترض أن هذه القراءة التي تستند إلى الأنموذج الحضاري – وهو المفهوم الذي استعاره من توماس كون- تسمح له بالتنبؤ بما سيحدث في المستقبل. ولكنها قراءة ضعيفة وتبسيطية إلى حدٍّ كبير، تفترض ضمناً حتمية الصراع وجمود البنى الحضارية والثقافية والاقتصادية التي يتم تناولها.
يقول هنتنجتون" إن للاختلاف الثقافي طابعا "جوهريا" لأنه: " يحدد العلاقات بين البشر والإله, وبينهم وبين الطبيعة والسلطة، وكل ما يؤدي إليه مثل هذا "الاكتشاف" هو إغلاق الأبواب المفتوحة للحوار, يبدو واضحا أن التبويب الذي يقدمه "هنتنجتون" يلائم الاعتبارات السياسية في عالم اليوم، وهذا هو السبب, بلا شك, الذي جعله "يفصل" اليابانيين عن أتباع كونفوشيوس الآخرين, والمسيحيين الأرثوذكس عن الغربيين (لأن الاستراتيجية الأمريكية التي يعمل "هنتنجتون" في خدمتها ترى قضية اندماج روسيا في أوروبا كابوسا حقيقيا), ويتجاهل وجود الأفارقة, سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو وثنين, مع أن لديهم خصوصياتهم (هذا السهو يعكس اللامبالاة العلمية والتحيز العنصري السافر الذي أعماه عن وجودهم), ويتجاهل حتى سكان أمريكا اللاتينية (وبما أنهم مسيحيون, فهل هم غربيون كالغرب ؟ إذن, لماذا هم متخلفون؟
يتبدَّى لنا أيضا وبسهولة أن هنتنغتون يمحو الشخصية العربية في إطار الشخصية الإسلامية؛ وهو أصلاً لا يتناول العالم العربي، رغم أن هذا العالم يشكل وحدة ثقافية وجيوسياسية متعارفاً عليها ومعترفاً بها، مثلما يخلط بين الإسلام وبين التيارات الإسلامية الأصولية. إذاً يمكن القول، في نهاية الأمر، أن هنتنغتون يرى في الإسلام والعرب والتيارات المتطرفة تعبيراً عن هوية واحدة وتطلُّع واحد! ومن الصعب بمكان أن يستعرض المرء قائمة التصنيفات السطحية في هذا العمل، والذي ينبغي التعامل معه كخطاب مركزي أمريكي من الدرجة الثالثة، فهنتنجتون" يبذل جهدا جهيدا للوصول إلى الاكتشاف العجيب بأن ستا من المجموعات السبع في تصنيفه تجهل القيم الغربية, والتي يدرج "هنتنجتون" في إطارها خليطا من القيم المتباينة, وهذا الاختلاف لا يعود إلى خصوصيات ثقافية محددة "قدرة الثقافات غير الغربية على الصمود" بقدر ما يعود إلى أشكال التوسع الرأسمالي الذي أنتج أسس جديدة بين مراكز المنظومة الرأسمالية وأطرافها، ونهايةً يرى الباحث أنه لا يمكن القول بـ"صدام الحضارات".
وإذا كان التبسيط يقود العديدين إلى تبني هذه النظرية فلا بدَّ لنا أن نكرر أن الحضارات لا تقوم على البعد الديني وحده، وأنه لا توجد أصلاً حضارة نقية خالصة، فالحضارات تستوطن وتهاجر، الحضارات تتلاقى وتتعانق وتتحاور، الحضارات تتزاوج وتنجب وتنمو وتشيخ، وإذا كان هناك من حضارة خالصة فهي حضارة الإنسان، ومن ثم فإن واقع العرب اليوم يحتم عليهم أن يعملوا على تأكيد عوامل التقارب بين الشعوب العربية لدرجة أن تتوحد معها المصالح الاقتصادية والأهداف السياسية, من أجل بناء تكتل حضاري إنساني راقٍ قائم على أسس من القيم الإنسانية السامية والغايات النبيلة والحوار الحضاري في إطار الدفاع عن مشروع إنساني عالمي يحتكم لمعايير الحق والعدل والسلم والأمن بكل صورة، مشروع لعالم التنمية وحقوق الإنسان، لا عالم شريعة الغاب وقانون الطبيعة البدائي.

2.الحوار الحضاري
يعيش العالم اليوم عولمة جعلته أشبه ما يكون بقرية كونية صغيرة لا تفصلها حواجز ولا حدود, بفعل التقدم الهائل في القنوات الفضائية وشبكات الإنترنت ما يجعله أحوج ما يكون إلى أواصر التعاون والاحترام المتبادل، حيث أصبح الحوار اليوم بين الثقافات والحضارات وبين الشعوب والحكومات ضرورة حياتية ومطلباً إنسانياً عاماً لكل الشعوب لتحقيق الأمن والسلام والخير بين جميع أفراد المجتمعات الإنسانية على اختلاف عقائدهم.
فالترحيب بالحوار بين الحضارات يفتح لها باب التأكيد على تعميم القيم المشتركة، مع تحديد نقاط واضحة للحوار تنبذ سياسة الاستعلاء الحضاري أو العنصري، ومن هنا يصبح النقاش والحوار بين الحضارات وسيلة من وسائل التبادل الحضاري والثقافي القائم على المشاركة وليس الفرض والإجبار، وإن كان العرب قد رحبوا بالحوار إلا إن العقبة الكئود التي وقفت أمام الحوار هي: عقدة الاستعلاء والغرور التي تحكم الغرب وإرادة الهيمنة والاستغلال والتي إن لم يتحرر منها الغرب ويحترم خصوصية كل ثقافة لن ينجح هذا الحوار. (العسال، 1996)
فالصورة تشير إلى مشاهد صعوبة الحوار وخاصة في ظل صعود تيارات اليمين المتطرف المهووس بالصدام والصراع وكراهية العرب في الغرب، في المقابل فشل العالم العربي في تطوير حل يساعد مجتمعاته على الخروج من أزمتها؟ فهل سيأتي الحل السحري من الخارج؟ هل يمكن أن تكون أحداث من نوع 11 أيلول هي الحل الممكن؟ هل يمكن لأحداث من هذا النوع أن تكون هي مساهمة العالمين العربي والإسلامي في مسيرة التطور الإنساني؟ وهل يُخرِج هذا النوع من الأحداث "الأمةَ" من ضعفها وتخلُّفها؟ قطعاً لا...فالرد على"الإرهاب" لا يكون بتقسيم العالم إلى "محور خير" و"محور شر"، كما أن الردَّ على التطرف لا يكون بمزيد من التطرف، وعلى أن مكافحة العنف لا تتم بمزيد من العنف، فحوار الأديان مثلا يمكن أن يؤدي إلى التعاون البناء للتصدي بنجاح للظواهر السلبية في عصرنا مثل: الإدمان والإيدز والتعصب والتطرف والإرهاب في الفكر أو في السلوك. ( زقزوق، 2002) هنا لابد للقوى العظمى من أن تخرج من حالة النرجسية وتضخم الأنا، وأن تبحث بعمق في أسباب الخوف والقلق، وهذا يفترض في جملة ما يفترض، أخذ هواجس العالمين العربي والإسلامي بالحسبان، وعدم الخلط بين الإسلام كدين، من ناحية، وبين الحضارة الإسلامية، من ناحية أخرى، وبين التيارات الأصولية أو المتطرفة، من ناحية ثالثة.
وإذا كان تحقيق الأمن وحفظه يتطلب استراتجيه دولية فلا غضاضة في ذلك؛ ولكن فلنبدأ بالحدِّ من التسلح ومن صناعة الأسلحة وتجارتها. فالأمن ليس منع "الإرهابيين" من القيام بعملياتهم فحسب؛ والأمن ليس السلام، الأمن الحقيقي يتطلب تحقيق الأمن الاقتصادي والاجتماعي والغذائي والصحي والثقافي؛ الأمن هو أن يحصل كل فرد وكل مجتمع على حقوقه وحاجته من الغذاء والصحة والتعليم – التعليم الذي يضمن حرية التفكير والشعور والتخيل؛ التعليم الذي يعلِّم الفرد أن ينتج وأن يتكامل، لا أن يلهث وراء الاستهلاك وأن يتصارع من أجل الكسب– وكلُّ ذلك دون ضغوط ودون استغلال، مع إتاحة الفرصة للجميع لكي يعبِّروا عن شخصيتهم وهويتهم، ومع إفساح المجال أمام الجميع للمشاركة في عملية التطور.( عبد العاطي، 2007).

وإزاء قضية حوار الحضارات وصدام الحضارات فإن العرب مطالبين بالعمل على بيان المقصود من الحوار بين الحضارات، وبيان موقفهم من حوار الثقافات، وبيان أهمية إيجاد نوع من الحوار الحضاري المتكافئ بين الشعوب، وبيان الشروط والضوابط لقيام أي حوار بين الثقافات، والتأكيد على أن الحوار والتسامح هو لغة التفاهم بين الشعوب وليس الصراع، مع التأكيد على أن الحوار المطلوب بين الثقافات هو ذلك الحوار القائم على الندية، وليس حوار بين الغالب والمغلوب أو بين القوي والضعيف.

تداعيات غياب التسامح في المجتمع العربي
وهنا نبرز لإغراض الورقة مفاهيم ومخاطر غياب التسامح في المجتمع على كافة الصعد:
اجتماعياً: فإن غياب التسامح يعني فرض نمط حياة معينة على المجتمع وعدم القبول بالحوار وبالأخر وفرض سلوكيات وممارسات سلبية ماضوية وثقافياً: فإن غياب التسامح يعني التمسك بالقيم والمفاهيم القديمة والتقليدية ومحاربة أي رغبة في التجديد، أو أي شكل أو نمط للتغير، كون غياب التسامح يعني انتشار ظاهرة التعصب والعنف وسيادة عقلية التحريم والتجريم، سواء على الصعيد الفكري أو السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو ما يتعلق بنمط الحياة، الامر الذي يكرس حجب وتحريم حق التفكير والاعتقاد والتعبير، بفرض قيود وضوابط تمنع ممارسة هذا الحق، بل تنزل أحكاماً وعقوبات بالذين يتجرؤون على التفكير خارج ما هو سائد، وسياسياً: فإن غياب التسامح يعني احتكار الحكم وتبرير مصادرة الرأي الآخر باسم القومية أو الصراع مع العدو أو الطبقية والدفاع عن مصالح الكادحين أو الدين، لإسكات أي صوت ولتسويغ فكرة الاستئثار بالسلطة، ودينياً: فإن عدم التسامح يعني منع الاجتهاد وتحريم بل تكفير أي رأي حر بحجة المروق في ظل تبريرات ديماغوجية وضبابية، تمنع الحق في إعطاء تفسيرات مختلفة، خصوصاً ضد ما هو سائد في محاولة لإلغاء المذاهب والاجتهادات الفقهية الأخرى، بل فرض الهيمنة عليها بالقوة، واقتصاديا: يعني عدم احترام حقوق المواطن الاقتصادية و أنشار الفقر والبطالة وغياب الحماية الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة والذي بدوره يخلق بيئة يغيب عنها النمو الاقتصادي مما يقوض أركان المجتمع ويسمح بتنامي مظاهر العنف والإمراض الاجتماعية المختلفة.
وسوف نعرض هنا تداعيات غياب التسامح في المجتمع العربي وتأثير ذلك على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي التربوي:

- فعلى الصعيد السياسي: ضعفت قوة وسطوة الدولة القطرية التي أصبحت مضطرة لتقديم وعود أو تنازلات عن سلطاتها لمواطنيها، أو للمجتمع الدولي، أو للشركات والمستثمرين الأجانب الذين يعملون داخل حدودها، بعد أن كانت الدولة تحتكر منذ نشأتها تنظيم شؤون المواطنين في كافة المجالات تحت مسمى سيادة الدولة على أرضها ومواطنيها.
وبات التبعية تتكرس بكل صورها للمشروع الصهيو أمريكي، فالمطلوب تاريخيا وكما هو معلوم إدماج الكيان الصهيوني فـي المنطقة العربية ككيـان "طبيعي" يشكل مركزا إمبرياليا يهيمن على محيطه الضعيف والمفتت، بحيث تكون الهيمنة أساسا هي هيمنة اقتصادية وعسكرية ثم هيمنة ثقافية وسياسية. ولتمرير "إسرائيل" ومشروعها لا بد بداية من تمرير مشروع الدولة القطريـة والدولـة المادون قطـرية ( دولة الطوائف والإثنيات والعشائر...) فالقبول بتقسيم المنطقة والقبول ببرامج تعلن أن المشروع القطري هو نهاية التاريخ، يعني اندحار المشروع التحرري العربي ونهايته وتفتته، ويعني قبولا نهائيا وتاما بكانتونات سايكس- بيكو ومـا هـو أقـل منـها (كانتونات الطوائف والإثنيات– انظر العراق وسوريا وليبا)، وهو يعني أن نتعامل مع بعضنا البعض لا بصفتنا امتدادا وعمقا احدنا للآخر، بل بصفتنا دول جوار "صديقة" ومنفصلة ولكل منها مصالحها "المنفصلة" التي يجب أن تسعى ورائها دون اعتبار لأي مشروع أكبر، ما يعني الاعتراف ماديا بالكيان الصهيوني والارتباط عضويا مع مشروعه لعدم وجود أي مشاريع بديلة أخرى: فأما المشروع التحرري العربي باستحقاقاته، وأما المشروع الإمبريالي الصهيوني باستحقاقاته أيضا!
كما تستمر عملية تراجع الديمقراطية وحقوق الإنسان ، حيث تتزايد عمليات التسلح والعنف الداخلي في الوطن العربي في ظل تزايد لتبعية الأمنية للخارج والناجمة من حالة التمزق والتشرذم العربيين وتزايد دور القوى الإقليمية غير العربية في النظام العربي، كتركيا وإيران في حين يزداد ضعف النظام العربي، في ظل هشاشة الدول تجاه الخارج فلم تعد الدول العربية متماسكة أمام القوى العظمى وباتت البيئة السياسية بالمعني الخارجي والداخلي تشجيع عوامل التفتت والانقسام داخل المجتمعات العربية، وتشجع إلى إثارة التناقضات العرقية والدينية والمذهبية بين الأقوام والمجتمعات.

وعلى الصعيد الاقتصادي: يتراجع دور الدولة حيث تتبنى مختلف الدول النامية الآن برامج للخصخصة، وبتراجع دور الدولة في التدخل المباشر في الإنتاج، حيث تترك الاقتصاد لقرارات أصحاب المال والأعمال، كما تراجع دور الدولة في حماية منتجيها وصناعاتها المحلية من المنافسة الخارجية في إطار قواعد تحرير التجارة المعروفة بالجات، ويزيد من أهمية هذه الظاهرة في المجال الاقتصادي أن سياسات الخصخصة قد أدت إلى تحويل الدولة إلى جهاز لا يملك، مما يقلل من قدرة الدولة على السيطرة والرقابة وتقديم الخدمات للمواطنين. حيث زادت نسبب البطالة بين الشباب في ظل الاعتماد على التكنولوجيا والاستغناء عن الأيدي العاملة واستبدال تنمية القطاع العام بالخصخصة واستيراد مقومات البذخ الاستهلاكي. وازدات تبعية رؤوس الأموال والأسواق العربية للشركات المالية الكبرى التي أفرزتها العولمة إضافة إلى تبعية غذائية لزيادة الاعتماد على الخارج. الأمر الذي حول الإنسان العربي لمستهلك، وحول السوق العربي إلى سوق أجنبي تفرض فيه الدول والشركات المهيمنة بضاعتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. فانتشرت مظاهر الفقر والبطالة وارتفاع مديونية الدول العربية في ظل تزايد التبعية الاقتصادية لدول المركز الإمبريالي، وتراجع مؤشرات الإنتاج الاقتصادي.

وفي مجال الثقافة والاتصال: يزداد دور الدولة تدهورا، فمراقبة الدولة لمحتوى الثقافة الواردة أصبحت مستحيلة عمليا، ولم يعد للدولة سوى خيار واحد هو تسهيل الاتصال بغض النظر عن محتواه الفكري والثقافي، والمعضلة التي تواجه الدول في مواجهة كل هذه التحديات الجديدة لسلطانها، أن الأسلحة التقليدية التي يمكن أن تلجأ إليها، مثل: فرض قيود على حرية الاتصال، وبالأحرى على حرية مواطنيها في امتلاك الأطباق الهوائية، أو استخدام الإنترنت يجعل هذه الدول تبدو كمجتمعات بدائية عزلت نفسها عن ظاهرة عالمية جديدة هي الشبكية Networking، وهى في نفس الوقت تضيع على نفسها فرصا يتيحها هذا الترابط العالمي الجديد. (الحمد،2001) .

وفي المجال الاجتماعي والثقافي تعزز استلاب الهوية المحلية والإقليمية الأمر الذي شكل خطراً على الدين واللغة والتراث والسيادة ، وما ترافق معه من ظهور جماعات أصولية تزداد تعلقاً بالمفاهيم الأصولية والدينية الخاطئة حول نفي الأخر وقهر المرأة كرد فعل على العولمة وظهور الصراعات الإثنية والطائفية. وزيادة نسبة هجرة الشباب والعقول إلى دول عربية مجاورة بحثاً عن العمل والحرية. كما تزايدات الهوة بين طبقتي الفقراء والأغنياء ما يعني زيادة الحرمان والتخلف والجهل. وتراجع القيم الأخلاقية وانتشرت السياحة الجنسية والعنف الجنسي.
تراجعت حقوق ومكانة المرأة بعد انخفاض الأجور وتقسيم عملها داخل المنزل وخارجه واستغلالها كأداة عمل رخيصة وتسليعها الجسدي.(حتاتة، 1999) كما انتهت "السيادة الثقافية" (بلقزيز، 1998) والأخلاقية للدولة في مناهج التعليم وفي محيط الأسرة في ظل هيمنة الفضائيات والإنترنت. حيث دمرت قوى المناعة التي تجعل من دول العالم الثالث قوة منافسة على مستوى المستقبل في المجال الحضاري الامر الذي يتند في المستقبل بتفكك العالم الثالث وبالذات الدول العربية وتحولها إلى بؤر للمجاعات والحركات الإرهابية.

وهكذا فإن واقع الحياة في عالم اليوم هو مشهد مركب من متغيرات عديدة في مجالات مختلفة حولت التطورات التاريخية التدريجية إلى مرحلة جديدة من التغيير لم تشهدها البشرية من قبل،تحمل في طياتها تحدياً قوياً لهوية الإنسان العربي حيث أصبح العالم يخضع لتأثيرات معلوماتية وإعلامية واحدة تحمل قيم مادية وثقافية ذات توجه استهلاكي مفرط.. دون وعي أو تمييز لنوعية المادة المستهلكة وتأثيرها على تربية وثقافة الأفراد المستهدفة تحت تأثير إغراء لا يقاوم من التدفق الصوري والإعلامي المتضمن انبهاراً يستفز ويستثير حواس ومدارك الأفراد؛ بما يلغي عقولهم ويجعل الصورة التي تحطم الحاجز اللغوي هي مفتاح الثقافة (حواة، 2002) فالمصدران الرئيسان التقليديان اللذان كانت الثقافة الوطنية تنهل أسباب سيادتها و تجددها منهما أي (الأسرة و المدرسة)، قد دب العياء في أدائهما، ونال من وظائفهما التربوية والتكوينية، ومن قدرتهما على الاستمرار في ممارسة أدوارهما التقليدية الفعالة في إنتاج وإعادة إنتاج منظومات القيم الاجتماعية( بلقزيز، 1998) وهذا الخلل الوظيفي للأسرة وللمدرسة الوطنية، إنما كان ثمرة مرة لحقيقتين تقوم على وجودهما هما: إخفاق النظام التعليمي، وتفكيك بنية الآسرة، في امتداد الانهيار الكامل والشامل لنظام القيم.. فالقيم المجتمعية السائدة في المجتمع العربي هي قيم تعزز من ابوية المجتمع وتساهم في إيجاد نسخ متشابهة من الأجيال العربية .
فعلي صعيد الأسرة: يظهر جلياً أن الصورة الغالبة للعلاقات الأسرية بين الأبناء والأبوين في المجتمع العربي هي علاقة فوقية قائمة على النظام الأبوي الذي يتميز بسيطرة الأب المطلقة وخضوع الأم بشكل ظاهر مع تأثيرها بشكل خفي، ما يجعل علاقات النظام الأسري محكومة في الغالب بغياب الحوار والتربية الديمقراطية والذي يولد علاقات متنوعة حسب الموقف نتيجة للاختلاط في أساليب التربية والذي يعنى الاختلال في العلاقة بين الفرد والمجتمع الذي بدوره يفرز الكثير من الآثار السلبية أهمها: صعوبة التكيف وتحقيق التوافق في ظل حالة من غياب التثقيف حول الدور الاجتماعي المأمول من الأبناء بجوانبه المتشابكة وما يؤكد ذلك هو واقع الأسر التي لا تمتلك وعي كافي بحقوق الأطفال أو فلسفة تربوية واضحة تخدم هذا التوجه. في الغالب تؤدي هذه التربية إلى القبول بالواقع كما هو أو التعايش معه نظراً لتعود الإنسان منذ صغره علي القمع والتمييز وهذا يشكل بحد ذاته معيق من معيقات نشر قيم التسامح وحقوق الإنسان.

إما على صعيد المؤسسات التعليمية: فقراءة نقدية واعية في واقع هذه المؤسسات التعليمية بمناهجها وطرق تدريسها والمعلمين فيها ومدي احترام الحريات الأكاديمية فيها..الخ – يتأكد العكس من ذلك فهي تعتمد بالأساس آليات الحفظ والتلقين ومن ثم الاسترجاع الكربوني، الشيء الذي يقتل كل إمكانية للتفاعل الخلاق بين عقل المتعلم والمعلومة التي يتلقاها، والغالب أن عملية التعليم في المجتمع العربي تفتقر في محتواها ومنهاجها التعليمي وطرق تدريسها لما يؤهل الطالب للمساهمة كعضو فعال في تنمية المجتمع المحلي، وتكفي الإشارة إلى غياب الحريات الأكاديمية في معظم الجامعات العربية وانتشار ظواهر العنف الاجتماعي في البيئة التعليمية " .. وللنهوض بالتعليم التقدم به نحو الأفضل لا بد من البدء بإصلاح جذري تراكمي بما يؤدي إلى نتائج ايجابية على كافة الصعد الثقافية والإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا يتطلب تغيير في المفاهيم والأهداف بحيث لا تقتصر على الحفظ الغيبي بل لا بد من النظر للمتعلم كإنسان ذو إرادة، والمعلم او المحاضر هو أحد الوسائط للتعلم المفضي إلى توظيف المعرفة وتطبيقها، وإلى الإبداع والخيال والمبادرة والمنطقية والنزاهة وغيرها " ، كما وتتراجع حرية الرأي والبحث العلمي وتغيب العلاقة الفاعلة بين الثقافة و التعليم الأمر الذي يعني غياب الدور التنويري والتنموي لمؤسسات التعليم والتعليم العالي.
ما دام التعليم حق، فإنه يصير وسيلة لجعل الإنسان يكتسب الكثير من المهارات التي تؤهله للعب الأدوار الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، إن قضية التربية والتعليم قضية إنسانية تحطي باهتمام وحرص الشعوب على التمتع بإنسانيتها, لأن الكيان البشري عندما يفقد حقه في التربية والتعليم، تنعدم فيه الإنسانية، لأن مدخل الإنسانية المعرفة، و السبيل إلى المعرفة لا يتم إلا بامتلاك الأدوات التي تمكن الإنسان من امتلاك المعرفة اللازمة لإنسانية الإنسان.
إما أن تحولت علاقات التعليم إلى تعليم تلقيني يكرس التقليد والتكيف والعنف ، ويخدم مصالح الطبقة الحاكمة في تخريج أجيال تابعة تملك شهادات كرتونية دون معرفة تواكب التطور وتحترم الإنسان وتنمي فيه قيم العقلانية واحترام الآخرين الأمر الذي يكرس قيم التبعية والتقليد والإقصاء والعنف ويحول التعليم إلى وسيلة لتكريس التخلف على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية التي تتم صياغتها وفق ما تقتضيه مصالح النخب المسيطرة على أجهزة الدولة، إذا كانت التربية على حقوق الإنسان في الأنظمة التعليمية القائمة تكاد تكون مستحيلة، وحتي لو ادعى نظام معين الاهتمام بها فلأجل خطاب موجه إلى الخارج في الغالب فكما لا ديمقراطية دون ديمقراطيين .. لا ديمقراطيين دون تربية ، الأمر الذي يطرح ضرورة العمل على جعل التعليم متحررا، و شعبيا و ديمقراطيا.
ولعل الفشل التربوي الكبير في العالم العربي ودول العالم الثالث رغم انتشار التعليم مدعاة لإعادة النظر لضمان تربية وتعلم ديمقراطي قائم على المشاركة وطرق التعلم النشط والفاعل ، تعلم يستند إلى فلسفة تربوية تعلميه وطنية واضحة تعزز قيم الانتماء والولاء للوطن وقيم حقوق الإنسان والمساواة والعدالة والحرية حتى يكون التعليم منتجا، و متلائما مع احتياجات المجتمع في إطار ربط التعليم بالتنمية والثقافة.

محصلة القول تعاني دول المجتمع العربي من مخاطر الحروب والنزاعات الداخلية التي هددت تماسك بنيانها الداخلي وعرضتها إلي أثار مدمرة علي كافة الصعد وبرغم من ذلك يبدوا أن المجتمعات العربية لم تتعلم بعد من نتائج ما احدثتة النزاعات والحروب الداخلية ، فانتشار العنف والانقسام ما هي إلا صورة للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد، وما يترتب عنها من عنف وعنف مضادّ ظواهر نعايشها يوميا ولا تحتاج لشرح مطول، يبقى علينا أن لا ننسى دوما أننا ليس إلاّ جزءا من كلّ حضاري ثقافي و سياسي واجتماعي.
وللتدليل على هذه عمق إشكالية التسامح في العالم العربي فقد اخترنا نموذجين من النماذج التي تفضي إلى التسامح أو إلى اللاتسامح، الأول حقوق الإنسان، والثاني حقوق الأقليات.

1. حقوق الإنسان في العالم العربي
أصبحت قضية حقوق الإنسان من أهم القضايا فما من دولة إلا وتدعي أنـهـا تحـترم حقوق الإنـسان في سياساتها الخارجية وعلاقاتها الدولية وفي تعاملها مع مواطنيها، فلم تعد حقوق الإنسان اختياراً داخلياً وحسب، وإنما هي التزام دولي وضرورة لا غنى عنها للتكيف مع متطلبات التغير والمستجدات الدولية، وإذا كانت بلدان العالم العربي تواجه تحديات من قبيل استمرار التعذيب والاعتقال التعسفي والاختفاء وعدم الإقرار بحرية الفكر والعقيدة والتنظيم وممارسة العزل السياسي والتمييز ضد المرأة وهدر حقوق الأقليات والتدخل في الحياة الشخصية للمواطنين، وهي سمة عامة تكاد تكون مشتركة لأنظمةً العالم الثالث، فإن غالبيتها ما يزال يعاني من الفقر والبطالة وانتشار الفساد، فضلاً عن نمو بعض مظاهر التطرف والتعصب والعنف وغيرها ( شعبان ، 2001).
وتؤكد المعطيات علي الأرض و تقارير المؤسسات العربية العاملة في قطاع حقوق الإنسان، إلي استمرار الانتهاك لحقوق الإنسان العربي، من قبل السلطات الحاكمة بالدولة، ما يدلل بان حالة حقوق الإنسان في المجتمع العربي ومستوي تتمتع الفرد بحقوقه السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في ادني المستويات.
فقد جاءت الدول العربية متأخرة كثيرا إلى ميدان حقوق الإنسان بعد عهود طويلة من الاستبداد ورغم ان جميع الدول العربية قد وقعت على المواثيق والعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان إلا أنها لم تهتم بتطبيقها وممارستها إلا خلال السنوات الأخيرة حيث أصبح موضوع حقوق الإنسان يشغل بال الجميع باعتبار ان الدول التي لا تحترم حقوق وحريات الإنسان تهدد بالعزل والعقوبات وأحيانا الحرب" (علي، حنا،1999) ، فجميع الأقطار العربية، دون استثناء تعاني أوضاعاً تتسم بغياب الديمقراطية والافتقار إلى مقومات المجتمع المدني واحترام حقوق الإنسان عموما.
قد أوردت تقارير منظمات حقوق الإنسان العربية والدولية صورة قائمة لحالة حقوق الإنسان في دول الوطن العربي:
في فلسطين استمرت جرائم العدوان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية في ظل تنكر سافر من الاحتلال لحقوق الشعب الفلسطيني كما اثر الانقسام السياسي الذي جاء على اثر الاقتتال بين فتح وحماس على السلطة و واستيلاء حماس على السلطة في غزة، على الوضع الإنساني وحالة حقوق الإنسان حيث تم تسييس التمتع بالحقوق والحريات في قطاع غزة والضفة الغربية تبعا للانتماء السياسي واستمرت انتهاكات حقوق الإنسان من طرفي الصراع ، شملت عمليات اعتقال تعسفي واستمرار التعذيب والقتل خارج نطاق القانون والتعدي على الحقوق والحريات الشخصية والعامة .
في اليمن هناك أوضاع تنذر بتقويض ما تبقى من كيان الدولة المركزية، في ظل سياسات تعطي الأولوية لتكريس احتكار السلطة والثروة واستشراء الفساد، وفي ظل نظام أدمن الحلول العسكرية والأمنية في إقصاء الخصوم؛ ومن ثم بات اليمن مسرحا لحرب مستعرة في "صعدة" في الشمال، وقمع دامي في الجنوب، وللحراك الاجتماعي والسياسي في عموم البلاد، يستهدف الصحافة المستقلة، ومدافعي حقوق الإنسان الذين يكشفون عورات النظام وانتهاكاته الجسيمة في الشمال والجنوب.
في السودان حدث ولا حرج عن الاستخفاف باستحقاقات العدالة وتكريس الإفلات من العقاب عن جرائم الحرب في دارفور، ومعاقبة الرافضين لنهج الإفلات من العقاب، بالسجن والتعذيب وإغلاق المنظمات الحقوقية، علاوة على مواصلته لأعمال العقاب الجماعي بحق سكان دارفور. وفي الوقت ذاته فإن سياسات نظام البشير المناورة والمساومة على استحقاقات اتفاق السلام بين الشمال والجنوب، باتت ترجح احتمالات الانفصال، والتي قد تجر البلاد مرة أخرى إلى حرب أهلية دامية.
وفي لبنان، تحوم شبح الحرب الأهلية في ظل حالة ازدواج السلطة في ظل القدرات العسكرية التي يتمتع بها تحالف المعارضة بقيادة "حزب الله"، وهو ما أفضى إلى حالة من الشلل للمؤسسات الدستورية، استمرت لأشهر طويلة، عجزت خلالها الأغلبية الفائزة في الانتخابات النيابية عن تشكيل الحكومة. وحتى بعد تشكيلها، فإن توازنات القوى "العسكرية" بين الحكومة والمعارضة، لن تسمح باتخاذ إجراءات جادة تضمن خضوع جميع الأطراف للقانون، وتؤمن كشف الحقيقة والمساءلة عن سلسلة من الجرائم والانتهاكات التي عايشها اللبنانيين عبر سنوات غير قليلة.
وفي العراق تستمر اخطر إشكال انتهاكات حقوق الإنسان، التي أفضت إلى سقوط الآلاف من القتلى المدنيين، سواء على أيدي قوات الاحتلال الأمريكية، أو السلطات العراقية، أو نتيجة لمواصلة الجماعات الإرهابية لجرائمها، واستمرار الاقتتال وأعمال العنف ذات الطابع العرقي أو المذهبي الذي لايزال على أوجه حيث يشكل العراق الساحة الأكبر للعنف الدموي ولإزهاق أرواح الآلاف من المدنيين.
وفي مصر تستمر حالة الطوارئ السارية قرابة ثلاثة عقود. الأمر الذي فأقم من انتهاكات حقوق الإنسان وادي الى استشراء العنف الطائفي، كماً ونوعاً، بشكل غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث.كما استمر التعدي على أصحاب المدونات الذين انتقدوا انتهاكات حقوق الإنسان.
في الأردن تراجعت الحقوق والحريات العامة من خلال مشاريع وقرارات قيدت من حرية عمل الجمعيات الغير الحكومية وحرية الصحافة وحرية عمل الأحزاب السياسية
في ليبيا تسارعت وتيرة سجن الأشخاص جراء انتقادهم للنظام السياسي للبلاد ، وكما لا تزال تفرض قيوداً شبه شاملة على حرية التعبير وتكوين الجمعيات والتجمع السلمي.
في تونس استمر بلورة النظام البوليسي الذي استمر في انتهاك حرية عمل النشطاء السياسيين والصحفيين ومدافعي حقوق الإنسان والنقابيين، والمنخرطين في الحراك الاجتماعي. كما استمر عدد السجناء السياسيين في التزايد، مع اعتقال السلطات لأعداد من الشباب في مداهمات شملت جميع أرجاء البلاد. وصعبت السلطات من حياة السجناء السياسيين المفرج عنهم، بمراقبتها لهم عن قرب، وحرمانهم من جوازات السفر والوظائف، كما هددت بعضهم باعتقالهم مجدداً إذا تكلموا عن السياسات الحكومية وحقوق الإنسان.
في الجزائر ظل قانون الطوارئ وميثاق "السلم والمصالحة الوطنية" وتطبيقات مكافحة الإرهاب، مدخلا معتمدا للتغطية على الانتهاكات الشرطية الجسيمة، والإخلال بمعايير العدالة وبضمانات حرية التعبير.
في المغرب هناك تراجع ملحوظ عن المكتسبات الحقوقية التي حظى بها المغاربة عبر عقد من الزمان، وخاصة في ظل التقاعس في تبني جملة من الإصلاحات المؤسسية في قطاعات الأمن والقضاء لمكافحة الإفلات من العقاب. وقد أضيرت المكانة النسبية الأفضل للمغرب بفعل الغلو في عدم التسامح مع حريات التعبير، وبخاصة إذا ما تناولت بعض مظاهر الفساد المؤسسي او من ينتقدون الأسرة الملكية ،علاوة على تزايد وتائر القمع التي تستهدف الاحتجاجات المناهضة لوضع الصحراء الغربية تحت الإدارة المغربية.
في سوريا استمر الإجهاز على جميع صور المعارضة والحراك السياسي، والمظاهر المحدودة للتعبير المستقل، وفي قمع حراك الأقلية الكردية في مواجهة سياسات التمييز المنهجي ضدها، وتوجيه ضربات متلاحقة لمدافعي حقوق الإنسان. الى جانب الاحتفاظ داخل السجون بالعشرات من سجناء الرأي والمطالبين بالديمقراطية.
في البحرين اقترن التمييز المنهجي المتواصل ضد الأغلبية الشيعية بتوترات متزايدة داخل المملكة، ومزيد من الممارسات القمعية لحرية التعبير والتجمع السلمي، وبات المدافعون عن حقوق الإنسان أهدافا متزايدة للاعتقال والمحاكمات وحملات التشهير الإعلامي. وتستمر الحكومة في تعريض حرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات للانتهاكات، وفي فرض قيود تعسفية.
في السعودية، لم تنعكس خطابات التسامح الديني على داخل البلاد، حيث يواصل جهاز الشرطة الدينية ممارساته في تقييد الحريات الشخصية، وتتواصل الضغوط على الحريات الدينية، وحيث يستمر التمييز المنهجي على أسس مذهبية ضد الشيعة. كما ظلت سياسات مكافحة الإرهاب تكرس الاعتقال التعسفي طويل الأمد، والتعذيب حتى بحق نشطاء سياسيين يطالبون بتبني بعض الإصلاحات، مثلما تكرس إهدار معايير العدالة، عبر محاكمات شبه سرية استهدفت المئات خلال العام الحالي.
كما تظهر تقارير المؤسسات الحقوقية افتقار النظم القضائية العربية بصفة عامة لمعايير الاستقلال حيث تغييب ضمانات المحاكمة العدالة، وتنوع أشكال القضاء الاستثنائي، الأمر الذي يعرض حقوق المواطنين والنشطاء في المجتمع المدني إلى الانتهاك المستمر كما أن جرائم التعذيب والتجاوزات الشرطية الجسيمة لا تخضع في الغالب للمحاسبة والعقاب.
وكذلك الحال بالنسبة للحقوق الاقتصادية فالفقر والبطالة تعيق تمتع المواطنين العرب بحقوقهم في العيش بمستوي معيشي لائق الى جانب حقوق العمل والسكن والتغذية والصحة والضمان الاجتماعي والتعلم وغيرها. ويشمل هذا الوضع حقوق المرأة التي تعاني من التهميش والتميز وكذلك حقوق الطفل وذوي الاحتياجات الخاصة واللاجئين والمهجرين، والأقليات القومية أو الدينية.
أما الحديث عن الحريات العامة مثل الحق في التعبير والتنظيم السياسي أو النقابي والتظاهر والإضراب والاحتجاج والمشاركة والانتخاب والترشيح فان المعاناة فيها كبيرة والنتائج قاسية، بل والتضحيات جسيمة في اغلب المناطق المشتعلة في العالم العربي، وحتى البلدان الأخرى. وما توضحه تقارير المنظمات المختصة في هذا الشأن خير شاهد على الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان نهيكم عن انتشار الفساد المالي والإداري ونهب الثروات وحرمان الشعب منها واتساع مظاهر التسلط والاستبداد والقمع
حيث توجد عشرات التشريعات والعوائق والممارسات التي تستهدف التحكم في مختلف أشكال التعبير والممارسة لدى المثقفين والقوى السياسية والاجتماعية المناهضة لمصادرة الحريات والاستبداد، الذي يعد مصدر رئيسي لإنتاج حالة عدم التسامح. لكن العالم العربي كما أن التمتع بالحقوق الثقافية المكفولة في المواثيق الدولية لا يزال غير مضمون بالنسبة للكثير من المجموعات والطوائف والأقليات في المجتمع العربي ومع إقرارنا بوجود تفاوت بنين الدول العربية إلا أن هذه الانتهاكات على اختلافها تعد خير شاهد على تراجع مؤشرات التسامح بكافة المعاني في المجتمع العربي.
ومن الجدير التأكيد على أن احترام حقوق الإنسان طفلاً أو مرأة أو معاق أو شاب وحرياته الأساسية يعد المعيار الأساسي لقياس إنسانية وتطور أي مجتمع، مع الانتباه إلي أن حقوق الإنسان تعد كمثل عليا لم تطبق بالكامل في إي مجتمع، ولكن هناك دول ومجتمعات أكثر اقترابا منها فتقدمت وتطورت ، وهناك مجتمعات أكثر ابتعادا عنها فتراجعت وتخلفت وسادت فيها الصراعات الطائفية العرقية والعنف.
فأنة بقدر ما تكون الثقافة السّائدة والممارسة السياسية مرتكزة على تقديس المجموعة عبر أيّ شكل من أشكالها (الأمّة -الدين- السياسة-الوطن) بقدر ما يكون الحكم فردانيا استبداديا، وبقدر ما تكون الثقافة السّائدة والممارسة السياسية مرتكزة على قيمة الإنسان بقدر ما يكون الحكم ديمقراطيا حرا جماعيا.



2. حقوق الأقليات

تتمتع الأقليات بحقوق عامة هي جميع حقوق الإنسان التي نصت عليها المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان من حيث الحق في الحياة، والجنسية، وحرية التعبير ، والحق في تكوين الجمعيات والأحزاب، والحق في العمل والتعليم، والضمان الاجتماعي، وحظر التعذيب، وحق المشاركة في ادارة الحكم...الخ من الحقوق الواردة في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان باعتبار الحقوق التي أوردناها وغيرها من حقوق فردية يتمتع بها جميع البشر، وتتسق أيضاً مع الضمانات الواردة في الإعلان بشأن حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو أثنية وإلى أقليات دينية ولغوية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1992م . و تبقي الإشارة إلى أن معظم مواثيق الأمم المتحدة قد نصت علي حقوق خاصة للأقليات مثل: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة ، واتفاقية منع جريمة إبادة الأجناس، والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والإعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد، واتفاقية حقوق الطفل، وإعلان التسامح وكذلك الصكوك الدولية الأخرى ذات الصلة التي اعتمدت على الصعيد العالمي أو الإقليمي أو تلك المعقودة بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
وكنوع من الإنصاف والحماية للأقليات أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة "إعلان بشأن حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات" عام 1992، ملخصه أن المنتمين لأقليات دينية أو أثنية هم مواطنون كاملي الحقوق أسوة بمثلاهم من المواطنين ، ولتحقيق هذه الحقوق بشكل فعلي فقد طالبت الحكومات مراعاة ذلك في تشريعاتها الوطنية وعبر إجراءات إدارية حكومية لضمان وجود الأقليات وهويتها الثقافية والدينية واللغوية ، وضمان مشاركة الأشخاص المنتمين إلى أقليات في الحياة الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والعامة مشاركة فعالة ، كذلك أكد الإعلان المذكور على ممارسة جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية الخاصة بهم ممارسة تامة وفعالة دون أي تمييز وفي مساواة تامة أمام القانون .
وكما ونصت مجموعة من أحكام الدساتير العربية من حيث المبدأ بمساواة المواطنين في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن الدين والعرق والأصل وإن كانت قد تباينت في تفاصيل أحكامها بهذا الشأن" .
كما وردت بعض النصوص الخاصة بحماية حقوق الأقليات في الميثاق العربي لحقوق الإنسان والتي تنص بأنه لا يجوز حرمان الأقليات من حقها في التمتع بثقافتها أو أتباع تعاليم ديانتها "المادة 37 من النص الأصلي وجزء من المادة 30 من النص المعدل"
نخلص مما سبق إلى أن الأقليات يتمتعون بجميع حقوق الإنسان التي نصت عليها الاتفاقيات والمعاهدات الخاصة بحقوق الإنسان كما ويتمتعون بحماية القوانين والتشريعات المحلية في بلدانهم، إلا أنهم يتمتعون بحقوق خاصة تهدف الى الحفاظ على وجودهم وهويتهم بما يضمن لهم ممارسة فعلية لحقوقهم، وبالرغم من الحماية الدولية والإقليمية والمحلية لحقوق الأقليات ، يشكل احترام حقوق الإنسان والحريات العامة وعلى رأسها المساواة التامة في الكرامة والمواطنة وفي التمتع بكافة الحقوق المدخل السليم للتعامل مع مشاكل الجماعات القومية والدينية والثقافية واللغوية في العالم العربي.

إلا أن حقوق الأقليات الأساسية في العالم العربي تتعرض لانتهاكات جسيمه و متواصلة في الكثير من البلدان العربية، وهذه الإشكالية مطروحة اليوم بقوة على الساحة السياسية وهي من أكثر القضايا إثارة للجدل والسجال بين المثقفين والسياسيين . (الجابري: 1991م).
فلا تزال معظم الأقطار العربية تحرم مواطنيها من الأقليات من ابسط حقوقها ، بل وتتهمها بضعف ولائها للدولة، او برغبتها في الانفصال مع اعترافنا بوجود مثل هذه الميول لدى القلة القليلة من الأقليات – غير ان تلك الحكومات تنسى – أو تتناسى - أن الأقليات هي جزء من النسيج الاجتماعي في بلادها ، ولها ما للأكثرية من الحقوق والالتزامات ، ضمن الوحدة الوطنية ، ولذلك يجب قيام تلك الحكومات بشرعنة حق الاختلاف مع الآخر، لاسيما وان استبداد دولها وحرمانها لأقلياتها من حقوقها أو محاولتها القضاء عليها، هي التي تدفع تلك الأقليات العرقية والدينية والمذهبية إلى التمرد على الأغلبية والتظلم من استبدادها او طلب المعونات الخارجية" . أن الاضطهاد والاستبداد الممارس على الإنسان العربي يشير إلى عدم تمتع المواطنين العرب بحقوقهم ولا شك بان أوضاع الأقليات في صورة كهذه يدلل على مدى التمييز والاستبعاد الذي يمارس ضدها ولعل نظرتها تظل قاصرة أن كان طموحها بان تحظى بما تحظى به الأغلبية المسحوقة أيضا ومن المفترض ان يتلاحم هدف الأغلبية مع هدف الأقلية في السعي إلى انبثاق إرادة مجتمعية قادرة على فرض واقع ديمقراطي حقيقي ينعم به جميع المواطنين بالحرية والعدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان" .

يمكن القول بان الأقليات القومية أو الدينية أو المذهبية ، موجودة في جميع بلدان الكرة الأرضية منذ أن عرفت البشرية رسم خرائط أقطار المعمورة ، وحتى يوم الناس هذا ، حيث استأثرت الأكثرية بالسلطة والجاه – بعد تشكيلها للحكومات القومية - مع رفضها للآخر المتمثل بتلك الأقليات التي القي بها القدر في أحضانها ليسوموها سوء العذاب ويحرمونها من ابسط حقوقها الإنسانية، ممارسة لغاتها أو التمتع بإبداعات ثقافاتها وملامح فولكلورها ، لاسيما في بلدان العالم العربي، و قد استطاعت الأقطار الأوروبية حل مشكلة الأقليات منذ منتصف القرن العشرين بالاعتراف بحقوق تلك الأقليات، السياسية والثقافية ، في أطار الديمقراطية والتعددية، شرط ان لا يؤدي ذلك إلى ألحاق أجزاء من تلك الدول الأوروبية بدول الجوار بحجة حق تقرير المصير او التمتع بفضائل الفيدرالية الديمقراطية ، لاسيما وان الاتحاد الأوروبي – بتشكيلته الحالية – قد حلّ هذه المعضلة بجمع شتات كل الأقليات ضمن دولة الاتحاد .
"ان الديمقراطية وحقوق الإنسان ، وجهان لعملة واحدة ، لأنهما يجسدان مصطلح " السلام الاجتماعي " حيث تكمل أحداهما الأخرى . ومن هنا فان الثلاثي : الديمقراطية والفيدرالية والسلام الاجتماعي، هي الأسس التي تستقر عليها الوحدة الوطنية لدولة القانون ، التي تعتمد علي الحوار والتسامح و المساواة، وتكرس الانسجام الاجتماعي .
والحل الديمقراطي المأمول لمشكلة الأقليات في الدولة والمجتمع العربي عموما." والأقليات و بحكم الظروف التاريخية و السياسية تعيش حالة قلق و خوف على مصيرها و مستقبلها , لذلك فهي في حالة رهاب دائم تزداد طردا مع القمع و البطش في ظل أنظمة استبدادية تضرب بعرض الحائط مبادئ و قيم حقوق الإنسان والأشد خطرا عندما يحاول نظام الاستبداد توظيف الأقلية بمفهومها ألاثني و الطائفي و القومي بمواجهة الأغلبية .
الي جانب ذلك و بسبب النظرة التمييزية الضيقة من مجتمع الأكثرية، التي يغلب عليها نظرة تقوم على أساس مواطن من الدرجة الثانية أو الثالثة، وهذه النظرة تكاد تكون سمة عامة في مختلف المجتمعات البشرية ، لكنها تزداد بشكل واضح للعيان في المجتمعات والبلدان التي تعاني من غياب للديمقراطية، أو التي تطغى عليها النظرة المتعصبة للقومية الأساسية في البلد المعني على حساب الأقليات القومية أو الدينية أو العرقية .
فالنظام الاستبدادي و هو في عملية استفراده بالجميع , يضع الجزء مقابل الكل , مقسما الكل إلى أجزاء و الأجزاء إلى جزيئات صغيرة لكي يسهل عليه في النهاية تفتيتها، وهذا نتيجة منطقية للاستلاب والاغتراب اللذان يعيشهما الإنسان العربي.
فنظم الاستبداد تعمل على تفكيك الولاء للوطن من خلال وضع القانون على الرف واستبداله بقانون الغاب حيث تعمل السلطة على تقسيم ولاءات الناس عنوة إلى ولاءات ماقبل وطنية إلى ولاء للعشيرة أو الطائفة أو المذهب حتى يفقد الوطن مضمونه والمجتمع تلاحمه" . ويمكن الإشارة إلى مجموعة من الأمثلة لمعاناة الأقليات العربية منها:

1- صراع الأقليات مع الدولة " النموذج السوري"،حيث يتميز المجتمع السوري بوجود عدد من القوميات تشكل هذا المجتمع منها ( العربية ، الكردية ، السريانية (كلدو- آشور ) إضافة لأقليات أرمنية و تركمانية، حيث تتعرض الأقليات لإشكال مختلفة و معقدة من الاضطهاد مورست عليهم ، و ربما تشكل حالة الأكراد المجردين من الجنسية و المكتومين ، من أكثر الحالات انتهاكا سافرا لحقوق الإنسان و للدستور السوري و للمواثيق و العهود و الاتفاقيات الخاصة بحقوق الإنسان التي صادقت عليها سورية ،" حيث جرد آلاف من المواطنين الأكراد من جنسيتهم بموجب الإحصاء الاستثنائي عام 1962 في محافظة الحسكة، ومع مرور 45 سنة تضاعف العدد، وكرس مشاكل اجتماعية و اقتصادية و قانونية و سياسية، على الرغم من التزامات الحكومة السورية في ظل المادة 27 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ، باحترام الحقوق الثقافية و القومية للأقليات، فإن انتهاك الحقوق الثقافية للأكراد في سورية هو أمر اعتيادي ومستمر منذ سنوات. في هذا السياق تندرج سياسة الدولة في عدم احترام حقوق الأقليات بكل أبعادها حيث يعاني المواطنين الأكراد، ليس أخرها ما تعرض له المواطنين الأكراد من اعتقالات و تعذيب إثر أحداث القامشلي."

2- صراع الأقليات مع بعضها "النموذج اللبناني "، فمنذ نشوء لبنان وحتى الآن لم تتوقف السجلات الضمنية والعلنية بين مجمل الفرقاء المختلفين على هوية لبنان، لدرجة وقوع الحرب الأهلية ، ووجود الصراع الدائم بين مختلف الأقليات ، لدرجة أصبحت فيها حقوق الإنسان والحرية والسيادة في هذا السجال الطائفي إلى كلام حق يراد به باطل. لأن الحرية لا تستقيم في ظل صراع الطوائف والهويات وتصبح ترجمتها الوحيدة هي حق الطائفة في إملاء شروطها على الطوائف الأخرى، حيث لكل طائفة مفهومها الخاص لحريتها، ولكل طائفة قراءتها الخاصة للديمقراطية وهذا هو الحاصل في لبنان الأمس واليوم ، ويؤكد المفكرين بان الطائفية هي أشرس أعداء الحرية والديمقراطية، ولا قيام لمجتمع حر إلا في ظل نظام مدني ديمقراطي " .
و المجتمع العربي عموما غني بأمثلة كثيرة لانتهاك حقوق الأقليات، فمشاكل السودان والجزائر والعراق خير شاهد أيضا علي تنامي مشكلة الأقليات وبالتالي تنامي الضغوط والتدخلات الأجنبية بحجة وقف انتهاكات حقوق الإنسان وحقوق هذه الأقليات.
في خضم هذا التنوع الغزير في عدد الأقليات والتكوينات القومية والدينية والمذهبية وثقافاتها في البلدان العربية الإسلامية، والتدخل والتعدد في انتماءاتها، يطرح تساؤلات عديدة حول ما إذا كان ممكناً استمرار هذه الأوضاع على ما هي عليه دون انفجار يؤدي إلى التفكك والانقسام، وربما الحروب الأهلية، مع بقاء القمع والقهر والإلغاء من جانب الدول العربية، أم أن ثمة معالجات ممكنة ومتوازنة وواقعية، يمكن الأخذ بها؟!

فحل قضية الأقليات في بعدها الوطني،لا يمكن أن يتم إلا في إطار دولة ديمقراطية التي يتم فيها، منح جميع الأقليات القومية حقوقها ،الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، و تكريس احترام حقوق الاقليات باعتبارهم مواطنين متساوين في الحقوق كافة دون أي استثناء لحق سياسي أو ثقافي أو غيرهما من بقية الحقوق الأخرى" ، كما "أن ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتوابعها، هي" المرجعية الحقوقية " التي يمكن أن يصدر عنها دستور وطني يحترم حقوق الأقليات، وما عدا ذلك لن يكون إلا مجرد إعادة إنتاج قيم التخلف المؤسسة على قيم طائفية وعنصرية " ، بالإضافة إلى دور المجتمع المدني ومؤسساته والتي تعد مدخلا أخرا للحل حيث تصب جهود المجتمع المدني باتجاه تكريس مفاهيم المواطنة والمساواة، بغض النظر عن الخلفية الإثنية أو الدينية أو المذهبية، ولكن هذا الربط بين المجتمع المدني والدولة والهوية الاندماجية ليس صائبا دوما، إذ قد يؤدي إلى نتائج عكسية ، فالمجتمع المدني ليس لاعبا مستقلا عن اللاعبين الرئيسيين فيه وانتماءاتهم وثقافتهم ومصالحهم المختلفة، ولكن عزمي بشارة يري :" أن تعريفا للمجتمع المدني يتلخص في المقابلة بذاتها مع الدولة، لا يعني إلا تدهور المجتمع إلى مرتبة الانتماءات العضوية للإفراد، أو إلى مرتبة القومية الإثنية مقابل الدولة متعددة القوميات " .
ونظرا لتنوع الأقليات في الوطن العربي وخصوصية كل منها يبدو أن الإقرار بالتعددية الثقافية والسياسية والاعتراف بها للجميع في إطار وحدة الكيانات السياسية القائمة هو على الأرجح، السبيل الأكثر ملائمة لحلول عقلانية وواقعية، وغير مكلفة كبديل عن الصيغ الانفصالية أو العنفية من كل الأطراف المعنية، وبما يضمن حقوق الإنسان وحقوق الجماعات التي يتكون منها المجتمع، وبما يضمن كذلك نمو وتفاعل وازدهار ثقافاتها المتنوعة، هذا من جهة، وبما يضمن بقاء الكيانات السياسية القائمة أو تطويرها بالأشكال المناسبة بالتوافق وبالإرادة الطوعية الحرة للجميع من جهة ثانية .
فالتوجه المشترك لكل الجماعات والدولة المركزية لخلق وتعزيز تلك الثقافة الوطنية المشتركة، وترسيخ مبادئ الحوار الديمقراطي واحترام الرأي الآخر، فضلاً عن احترام كل جماعة للجماعات الأخرى ولثقافاتها، واللجوء إلى الحلول الوسط الممكنة لمواجهة القضايا التي يختلف عليها بين الجماعات نفسها من جهة، وبينها وبين السلطة المركزية الملتزمة بضمانات دستورية وقانونية، بالديمقراطية والتسامح من جهة ثانية.
إن اختيار هذا التوجه بدلاً من استخدام العنف، وكذلك التزام كل جماعة بواجباتها تجاه نفسها وتجاه الجماعات الأخرى، وكذلك بابتعاد الجماعات الأصغر أو الأقليات القومية عن أي نهج أو ممارسة انعزالية، وابتعاد الجماعات الأكبر، أو القومية الأكبر، في المقابل، عن أي نهج أو ممارسة عنصرية أو استعلائية متغطرسة… . كل ذلك، سيوفر أكثر الشروط ملائمة للتعايش بين الجماعات المختلفة وثقافاتها، بل ويجعل حتى من "استقلال" أية جماعة من الجماعات في ظروف سياسية وتاريخية معينة، استقلالاً ودياً لا تنجم عنه عداوات تؤدي إلى صراعات وصدامات وحروب ثأرية تدور في حلقة مغلقة لا تنتهي.

ردود الفعل العربية ... وسؤال مالعمل؟

من المعروف أن دول العالم الثالث تتلقى التأثير وتستجيب للأفعال إزاء التغيرات التي تحدث في العالم، دون أن تخلق هي أفعالا أو نظريات تغير مفاهيم العالم ، اللهم إلا أنها كانت مصدرة لظاهرة "التشدد والتعصب"، والذي جاء في البداية كرد فعل سرعان ما تحول إلى ثورة أصولية رفضوية للتغريب تهدد أوروبا وأمريكا والوطن العربي، كونها استخدمت وتستخدم العنف والإرهاب لتحقيق أهدافها.
فالواقع العربي الراهن يضع العرب أمام مشكلة حقيقيَّة، وتكمن هذه المشكلة في تشتت المفكرين العرب الذين قضوا أعمارهم الطويلة في النضال من أجل تغيير واقع المجتمعات والعقليات، فهم الآن يقفون بفكرهم الأحادي وعقولهم إزاء المتغيِرات والإنجازات والتحولات.(السيد، 2000 ) إما المناضلون الذين سعوا إلى تفكيك الدول بوصفها مؤسسات بيروقراطية تحتكر الشأن العام والحق العام، وتقوم بتطبيع الأفراد وتطويع الجماعات، بل تدمير الكائنات، على ما كانوا يقولون، يتباكون اليوم على الدولة ويطالبون بحمايتها من قوى العولمة المنتهكة لحقوق الدول وسيادتها، والأمميون الذين رموا القوميات بتهم التعصب والعنصرية الفاشية، وحملوها وزر الحروب العالمية الطاحنة، يخشون الآن عليها من الضعف والتفتت بسبب عمليات العولمة التي تكسر النرجسية الثقافية بقدر ما تفتح آفاقاً جديدة للتواصل بين البشر، والوحدويون الذين أنتجوا التمزق والفرقة، بأطيافهم الوحدوية، يلعنون السوق التي تخلق أمام العمل الوحدوي فرصاً تقضي عليها العقائد والأيدلوجيات، واليساريون الذين كانوا من قبل ضد العالمية بوصفها شكلاً من أشكال الهيمنة تمارسها الدول الصناعية المتقدمة على بقية الدول والأمم، يطالبون اليوم بتدمير العولمة لمصلحة العالمية.
ولعل هذه النتائج قد ساهمت الأوضاع الخارجية والداخلية في بلورتها في المجتمع العربي كنتيجة حتمية للانقلابات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي أحدثتها، ولكنها انقلابات نوعيَّة غير متوقَّعة في المنظومات الفكرية والأيدلوجية الفردية والجمعية، كتعبير عن ردود أفعال لاشعورية تنتجها آليات النفس الدفاعية الرامية إلى التخلص من أزمة الإخفاق وما تخلفه في النفس من عقد نقص وقصور، ولذلك انعكست هذه النتائج على الواقع الراهن، فالموقع العربي مقارنة مع الدول المتقدمة، موقع مأساوي، ولكنه، على ضوء ما سبق وأسلفنا، موقع طبـيعي.
فاللوم ليس على الغرب في اختراقاته وانتـهاكاته للحقوق والخصوصيات العربية فقط، ولكن اللوم يجب أن ينصب على العرب الذين أتاحوا للغرب كل الثغرات للاختراق وتوسيع الأزمات العربية، "فأزمـة غياب التسامح وأزمة الهوية العربية المجتمعية والثقافية، لا تكمن في محاولات اختراقها من الخارج، بقدر ما تكمن بالذات لدى النخب وأصحاب المشاريع الأيديولوجية العاجزين عن إيجاد حلول جدية واقعية لمشاكل مجتمعاتهم "(حرب،1999)
إن كل أصحاب هوية ثقافية لن يكونوا سعداء بأية هيمنة فكرية عليهم، والثقافة العربية ذات جذور وأصول تفاعلت مع الحضارات في الماضي وأنتجت حضارة راقية خدمت بها الإنسانية في فترة من الفترات رغم عجز العرب وتراجعهم الآن.‏
ويبدو أنه كلما تقدمت عوامل التنمية الاقتصادية في المجتمع وارتفعت مستويات الأداء الاقتصادي الإنتاجي أدى ذلك إلى تمتين وترسيخ الهوية، وتعامل أصحابها مع الآخرين من واقع الشراكة أو الندية بخلاف الأمم التي تنشغل في طلب العون الاقتصادي، وبالتالي فتراجعها يكون جزءاً من الضريبة التي لا بد أن تقدمها للطرف الأقوى ضمن رؤية تبعية تزداد بازدياد الحاجة، الأمر الذي لا ينشئ ثقافة مواجهة، ولا ثقافة قادرة على الصمود أمام عناصر ثقافية غريبة تتسلل إلى ثوابت الهوية في بيئة تقليدية غير ديمقراطية وعاجزة، فالواقع يقول إنه كلما حملت الهوية الثقافية عناصر الفكر والعقل والنقد في بيئة ديمقراطية، تكون قادرة أكثر على المواجهة، لذا ليس من المفيد الركون لسلطات غير ديمقراطية تؤدي إلى الانغلاق.( بك، 1999).
بل إن فرص تعزيز الندية هي أعلى في ظل الأجواء الديمقراطية المصحوبة بالتقدم الاقتصادي، والمنهج العلمي والنقدي وهذا ما هو غير متوفر الآن عربيا؛ لذا يمكن القول إن الوسائل الثقافية التي يجري تسويقها بغزارة هي في النهاية تعزز وتنشر كنمط استهلاكي غربي لثقافة مدعومة بقوة علمية وعسكرية وبآليات إنتاج اقتصادي ذات مستويات مرتفعة، والعرب ربما هم أكثر من تستهدفهم تلك التأثيرات لأنهم بالنسبة للآخر القوي سوق استهلاك.
أما حول سبل الخروج من الأزمة، وسؤال ما العمل؟ بنظرنا يقع على نخب المجتمع المختلفة الإجابة عليه وخاصة النخب الثقافية العربية والمثقفين الذين هم في ظروف لا يحسدون عليها، كونهم يعانون من أزمة المجتمع العربي الذي لا يزال يطرح الأسئلة القديمة في الوقت الذي تطرح فيه أسئلة جديدة.
لذا يعد ترسيخ مبدأ التسامح والتنوع وإنعاش فكرة الحوار بين الثقافات والتأكيد على ضرورة تفعيل التعاون الدولي الثقافي في إطاره الشامل، كفيل بأن يحد من الآثار السلبية لغياب التسامح وقبول الأخر فهدفنا ينبغي أن يكون الخروج من الهامشية نحو الفعل والمشاركة مع بقية الإنسانية من أجل تقويض أسس السيطرة الأحادية وتعزيز إطار التعددية الثقافية الكونية في إطار الاحترام والتعاون والتفاعل الثري، والدفاع عن هويتنا لا يتحقق من خلال الحفاظ عليها كما هي، بل من خلال إعادة بنائها في إطار الثورة العلمية التقنية، أي بناء العالمية منها في أفق التعددية الثقافية (غليون, 1999). فحاجتنا إلى تجديد ثقافتنا وإغناء هويتنا والدفاع عن خصوصيتنا لا تقل عن حاجتنا إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لا بد منها لممارسة التحديث ودخول عصر العلم والتقانة، إننا بحاجة إلى الانخراط في عصر العلم والتقانة كفاعلين مساهمين، والحفاظ على الهوية والدفاع عن الخصوصية مشروط - أكثر من أي وقت مضى- بمدى عمق عملية التحديث الجارية "عملية الانخراط الواعي النامي والمتجذر في عصر العلم والتقانة " (الجابري، 1998).
من هنا تصنف المواقف إلي عدة اتجاهات:
1. مواقف حداثية تدعو إلي تبني النموذج الغربي كنموذج يفرض نفسه حضاريا.
2. مواقف سلفية تقليدية أصولية تدعو إلى استعادة النموذج العربي الإسلامي كما كان قبل.
3. مواقف توفيقية تدعو إلي الأخذ بأحسن ما في النموذجين.
4. موقف حداثي أصيل منفتح على التراث الإنساني ككل، ويرى الخروج من المأزق عبر انطلاق عقلاني علمي من مكونات الأزمة القائمة دون تبني بالضرورة نماذج جاهزة تطورت في سياق اجتماعي وتاريخي واقتصادي لمجتمعات أخرى.
وكل موقف تتبناه طبقة أو فئة أو اتجاه في المجتمع تبعا للأيدولوجيا التي بمقدورها أن تبرر نواياه وأطروحاته، فلدينا الليبرالية والقومية والاشتراكية وحركات الإسلام السياسي.
إزاء ردود الفعل العربية المتفاوتة والمتعددة يرى الباحث أن حال العرب اليوم لا يحتمل صمتا، كون العرب أمام واقع تتحرك معطياته بوتائر متسارعة، ولا يمكن التعامل مع الوقائع إلا بوقائع مماثلة من الطينة أو المادة ذاتها؛ ولذلك يجب أن تسعى مختلف الأطر والإمكانات والاتجاهات العربية من أجل موازاة المرحلة التاريخيَة الراهنة؛ والتعامل معها تعاملاً نديـّاً يمكننا من الحـفاظ على ذاتنا، لا الانغلاق عليها كما سيفهم الكثيرون انطلاقاً من رؤاهم الخاصة، والحفاظ على الذات يتطلب معرفتها وفهمها ومن ثم احترام إرثها ودورها ومستقبلها.
بالرغم من الفرق الشاسع الذي يفصلنا عن الدول المتقدمة، والذي يحتاج من العرب جهودا مضنية لملاحقة التطور المتسارع، وعلى الرغم من اليأس والإحباط الذي تسرب إلى كثير من النفوس، فإن الفرصة مازالت متاحة، وإذا كان البعض يرى أن الفائزين سيكونون هم على وجه التحديد البلاد أو القوى الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية التي ستعرف كيف تنمي ثقافة احترام الإنسان وتبني العلاقات بين القطاعات المختلفة على اسس التسامح والمواطنة الديمقراطية وتجني العائد من وراء ذلك، فإننا نرى أن أمام العرب الكثير من الفرص والإمكانات المتاحة من أجل النهوض واحد اهم اسس النهوض هو تعزيز التسامح في المجتمعات العربية…ولكن الأمر ليس أمرا يسـيرا، فنحن ندرك حجم الصعوبات والتحديات والتهديدات، فالحلول المقترحة متداخلة وكثيرة أيضا، لكن المهم العمل فيها، وللتسهيل نقسمها تبعاً للميادين ما بين اقتصادية وثقافية وسياسية واجتماعية …

ما الحل عربياً؟

ناضل معظم مثقفو العالم الثالث في مواجهة التحديات على وجهة الخصوص الثقافية منها سواء عبر الدراسات أو الأبحاث أو التجمعات السلمية والمسيرات والتي عملت على نشر عدد من اقتراحات تمثل مخرجاً للأزمة، وبالرغم من أن معالجة مظاهر الازمة في العالم العربي والحديث عن تداعياتها السلبية، لم يستنفد بعد أغراضه، لأن التغييرات في العالم متسارعة ولم تصل بعد إلى مداها الذي تطمح إليه، لكن لا أحد يعرف حجم المخاطر التي تنتظر ثقافات شعوب وأمم العالم الثالث، إذا هي لم تبادر بسرعة وفاعلية لإيجاد وسائل الممانعة والتصدي والمقاومة؟‍‍! لذا كان هناك صعوبة كبيرة لدى المثقفين في المجتمع العربي عند محاولتهم الإجابة على سؤال ما العمل إزاء هذه السلبيات والأخطار على الصعيد الثقافي؟ والت يقف على رأسها تجديد الثقافة العربية ومقاومة الاختراق، كون الأمر يحتاج إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لا بد منها للمواجهة، وفي مقدمتها العلم والحداثة والعقلانية زحقوق الإنسان والديمقراطية المفقودة في السياق العربي.

تتمحور الحلول والمواقف العربية حول التالي:

موقف الرفض المطلق وسلاحه الانغلاق الكلي.. وموقف القبول وشعاره الانفتاح على العصر، وهذان الموقفان يمكن تصنيفهما حسب تعبير الجابري ضمن المواقف اللاتاريخية.
فالأول سلبي غير فاعل لعدم وجود نسبة معقولة من التكافؤ بين إمكانات العولمة والثقافة المنغلق عليها، وبالتالي فالانغلاق في هذه الحالة ينقلب إلى موت بطيء.
الثاني يعتبر دعوة للاغتراب وفسح المجال أمام ثقافة الاختراق، وهذا الموقف الثقافي ينطلق من الفراغ أي من اللاهوية، أما الموقف الذي يقترحه الجابري إزاء الثنائية والاختراق، فينطلق من العمل داخل الثقافة العربية من أجل تجديدها "بإعادة بنائها وممارسة الحداثة في معطياتها و تاريخها، والتماس وجوه من الفهم والتأويل لمسارها بما يسمح بربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل".
وهناك موقف ثالث توفيقي دعا إليه السيد ياسين في ندوة بيروت عام 1998 وهو ما يسمى بالنموذج التوفيقي العالمي الجديد (يسين، 1998)ويتسم بالآتي:
- التسامح الثقافي المبني على مبدأ النسبة الثقافية في مواجهة العنصرية والمركزية الغربية.
- النسبية الفكرية بعد أن تنتصر على الإطلاقية الأيدلوجية.
- إطلاق الطاقات الخلاقة للإنسان في سياقات ديمقراطية على كافة المستويات والتي تنتصر على أساس محاولة صب الإنسان في قوالب جامدة باتباع العلم والثقافة والتكنولوجيا.
- العودة إلى إحياء المجتمعات المحلية وتقليص مركزية الدول، وإحياء المجتمع المدني في مواجهة الدولة التي عززت المجال العام, ولم تترك إلا مساحة ضئيلة للمجال الخاص.
- التوازن بين القيم المادية والقيم الروحية والإنسانية.
وهناك موقف رابع دعا إليه بعض المفكرين العرب وعلى رأسهم بلقزيز، يركز على فكرة الممانعة الثقافية، عبر المقاومة الإيجابية ، فنظريات علم الاجتماع الثقافي تؤكد على أن "فعل العدوان الثقافي غالبا ما يستنهض نقيضه" وهذا نوع من أنواع الممانعة الثقافية.
وإذا ما انتقلنا من الفكر إلى الواقع، فقد لاحظ الباحث، بل وشارك في بعض الفعاليات التي نظمتها وتنظمها بعض التنظيمات والتشكيلات والهيئات السياسية والاجتماعية والحزبية والعلمية والأدبية والفنية ذات التوجهات الديمقراطية الوطنية والقومية والاشتراكية والشيوعية والدينية المستنيرة في مختلف أنحاء العالم، التي تواصل تصديها لانتهاكات حقوق الإنسان وأزمة الديمقراطية في سعي مستمر لإبداع حلول وبدائل سياسية وتنموية وديمقراطية تدعم بها وحدة الحضارة الإنسانية، مع مراعاة واحترام هوياتها الثقافية وخصوصياتها القومية, وعاملة على تعزيز سيادة المشروعية الدولية وتحرير المنظمات الدولية من سيطرة دول الهيمنة الرأسمالية وللأسف فالعرب حركتهم ومشاركتهم لا تزال دون المستوى المطلوب في هذا الاتجاه.

حلول مقترحة:

1-الحل الأمني والاقتصادي
وهناك من دعا- كالكاتب محمد الأطرش – إلى إقامة منظومة أمنية إقليمية عربية تهدف إلى توفير حماية الوطن العربي، بدلاً من استيراد بعض الأقطار العربية لأمنها من أمريكا لقاء شروط سياسية ومعنوية، ومن أبرز الأمثلة لهذه الشروط حين طالبت أمريكا دولة الإمارات إغلاق مركز زايد الثقافي بسبب توجهاته القومية، وانصاعت إليها الحكومة الحريصة على بقاء القواعد الأمريكية على أرضها.
وأما أكثر الحلول ترديداً في الندوات الحل القاضي بإنشاء سوق عربية مشتركة، تستند إلى الهوية العربية والانتماء القومي وضرورات الأمن العربي والمصلحة الاقتصادية المشتركة.(الأطرش، 1998)
وكذلك هناك من ينادي بتوسيع حجم التنمية في البلدان العربية والتنمية العادلة الاقتصادية عبر محاربة البطالة ومقاومة التبعية الاقتصادية الغذائية والأمنية والمديونية الكبيرة، وترك المزيد من حرية الأسواق الداخلية ونشر وتعميق ثقافة السوق وتشجيع الاستثمارات العربية المباشرة في الأقطار العربية، وإعطاء القطاع الخاص دوراً مناسباً في عملية التنمية.(الأطرش، 1998)، إلي جانب كسر نظام الإلحاق أو التبعية الراهن صوب الاستقلال الفعلي السياسي والاقتصادي، والتنمية المستقلة الهادفة إلى خلق علاقات إنتاج جديدة تقوم على مبدأ الاعتماد على الذات، تنمية تهدف إلى رفع معدل إنتاجية العمل، إذ إن هذا الشرط – كما يقول إسماعيل صبري عبد الله – هو " نقطة البداية"، فالمقياس الأشمل والأكمل لأداء الاقتصاد القومي هو معدل ارتفاع إنتاجية العمل من سنة إلى أخرى، على أن هذه الإنتاجية ترتبط بمفهوم الدافعية كمبدأ رئيس في عملية التنمية، إذ إن المواطنين الأحرار الذين يعرفون أن بالإمكان تغيير الحاكم أو الرئيس من خلال الديمقراطية والحياة الحزبية، يعرفون بأن ثمار جهودهم تعود عليهم وعلى أولادهم، وأن أحداً لن يستطيع سلبهم حقوقهم.

فقد فشلت نظريات التنمية التقليدية في العالم النامي سواء منها تلك التي اعتمدت مدخل التحديث والنمو الاقتصادي على غرار التجربة الغربية أو تلك التي اعتمدت مدخل العدالة الاجتماعية أو ما اصطلح على تسميته بالديمقراطية الاجتماعية"(برهوم، 1998)، اليوم يسود اعتقاد بين خبراء التنمية أنه لا تنمية بدون ديمقراطية كما جاء في وثائق الأمم المتحدة التي تحدد خمسة مداخل للتنمية تشكل رزمة واحدة لتحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والإنصاف ومكافحة الفقر والبنية التحية، فالديمقراطية ضرورة لا غني عنها لإنجاح وتحقيق أهداف التنمية، ذلك أن التنمية الحقيقة تتطلب الحشد الطوعي لقدرات الناس، ومن غير الممكن تحقيق ذلك إلا في مناخ ديمقراطي يحارب ظواهر الفساد والاحتكارات والثراء السريع وغير المشروع ويعطي الكفاءات المبدعة حقوقها كاملة، إلى ذلك فإن المناخ الديمقراطي يمكن من إدارة الموارد القليلة المتاحة بطريقة رشيدة ونافعة، فالتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان مفاعيل ينبغي لها السير معاً بصورة متناغمة، وهذا هو نهج ( التنمية البشرية الانعتاقية التي تسعى إلى الدمج المحكم والمتوازن بين متطلبات التحرر والتنمية البشرية وتنظر إليهما كوحدة متكاملة تعتمد عناصرها على بعضها البعض، كما أن التنمية والتحرر هي عمليات مستمرة ذات طابع ديناميكي يتطلب التفكير الخلاق والحركة المستمرة والمترافقة وحفظ التوازن والاتجاه، ويتلخص نهجها للدمج المحكم بين متطلبات المقاومة والتنمية وتفعيل لطاقات الإنسانية من خلال المشاركة المجتمعية والتربية والتعليم ومضاعفة الجهود والسعي للمحافظة على حقوق الأجيال المقبلة في تفعيل دور المرأة وتكريس سيادة القانون ) (بيرزيت، 2002)

2-الحل السياسي
ويكمن الحل السياسي في التركيز على الديمقراطية كجوهر يعتني باحترام حقوق الإنسان ويحفظ التوازن بين الفرد والمجتمع، ونشر ديمقراطية متحققة ضمن النموذج العربي والرجوع إلى شفافية العقل الاجتماعي والربط الصحيح بين قوة الدولة وقوة المجتمع للديمقراطية والحرية والمساواة، والسهر على توفير الديمقراطية وحقوق الإنسان المدنية والسياسية، فالمواطنون الأحرار هم الذين يصنعون دولة قوية باقتصادها وعلمها وثقافتها ومساهمتها في التفاعلات الدولية لمختلف المجالات.(حجازي،2003) وهذا يتطلب العمل على إعادة بناء النظم السياسية العربية على أسس سيادة القانون والتعدية والشراكة الوطنية وضمان استقلال القضاء ووقف انتهاكات حقوق الإنسان ومحاسبة مقترفيها بما يضمن دولة المواطنة ويحمي حقوق كافة الفئات الاجتماعية ويرسخ من الحريات الشخصية والعامة ويصونها، في ظل دولة علمانية، تفصل الدين عن الدولة. فأي دولة، وأي مجتمع يقومان على أساس الاحتكام إلى مرجعية فكرية واحدة لا يكفلان التسامح أو التعددية. فالعلمانية هي التي أنشأت مجتمع التسامح وحرية الرأي والتعبير، وضمنت صيانة الحقوق والحريات من الخضوع للاستبداد.

إلي جانب التأكيد على استعادة الهيبة العربية من خلال إيجاد تكتل عربي موحد عبر المصالحة العربية والوقوف إلى جانب قضايا العراق وفلسطين على أساس قومي واحد.

وهناك من يرى أن الأصل في إيجاد فلسفة لخلق الحلول قبل البدء في تنفيذها على أرض الواقع، مثل الفيلسوف جارودي: "الحل يكمن في التحرر من قيود غذتها فلسفات الوجود التي أسسها الغرب منذ خمسة وعشرين قرناً، وللخروج من هذه الإشكالية المزيفة يتوجب علينا أولاً تغيير الفرد لتغيير العالم, أو تغيير القواعد بحيث يظهر إنسان جديد يكون قادراً على تفسير ما حوله"، (جارودي، 1999) ثم يختصر الحل في ثلاثة بنود:
1. إعادة صياغة التعليم.
2. الاهتمام بالفنون ( التاريخ المقدس للإنسانية).
3. ابتداع سياسة إنسانية قائمة على احترام الإنسان وحقوقه.

وهناك من يرى الحل عبر إعادة تفعيل مشروع النهضة القومية الوحدوية العربية بأفقها الديمقراطي، كفكرة مركزية توحيدية في الواقع الشعبي العربي، ونقلها من حالة السكون أو الجمود الراهنة إلى حالة الحركة والحياة والتجدد، انطلاقاً من أن الدولة القطرية العربية مهما امتلكت من مقومات، فإنها ستظل عاجزة عن تلبية احتياجات مجتمعاتها، وأن أية عملية تطوير سياسي أو تنموي داخل القطر الواحد ستدفع بالضرورة نحو استكشاف عمق الحاجة إلى التوجه نحو تواصل ذلك التطور عبر الإطار القومي الديمقراطي الموحد كمخرج وحيد من كل أزماتنا التي نعيشها اليوم وفي المستقبل.( الصوراني وأمين،2006)

وفي هذا السياق نود الإشارة بأن كسر نظام الإلحاق أو التبعية الراهن هو حديث بات بحكم الضرورة الملحة لمستقبل المجتمع العربي، ولكن هذه الضرورة ستكون ضرباً من الوهم إذا لم يمتلك العرب الخطط والسياسيات اللازمة ووضوح الرؤيا للمخاطر التي تفرضها العولمة، والهيمنة الأمريكية وحليفها الإسرائيلي ومعرفة طرق المواجهة طويلة النفس لبناء تكتل عربي نهضوي قادر على تحقيق مصالح وتطلعات المواطنين العرب.
من هنا فإن الدعوة إلى مقاومة الاستسلام، تمثل أحد أبرز عناوين الصراع العربي الراهن من أجل التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والوحدة ونشر التسامح ، مدركين أن أحد أهم شروط هذا التحدي العربي لهذه الظاهرة هو امتلاك تقنيات العصر ومعلوماته وفق مفاهيم العقل والعلم والحداثة والديمقراطية.

فالدعوة للالتزام بهذه الرؤية وآلياتها، تستهدف في أحد أهم جوانبها، وقف حالة الإحباط واليأس التي تستشري الآن في الطبقات الاجتماعية الفقيرة، ومن ثم إعادة تفعيل المشروع النهضوي التنويري الديمقراطي في الإطار القومي الوحدوي كفكرة توحيدية في الواقع الشعبي العربي، ونقله من حالة السكون أو الجمود الراهنة إلى حالة الحركة والحياة والتجدد، بما يمكن من تغيير وتجاوز الواقع الراهن صوب المستقبل الواعد للشعوب العربية.

3- الحل الثقافي
يبدأ من إقامة مجتمع عربي قائم على التنمية البشرية وتنمية التعاون والتكامل العربي وتحرير العلم والثقافة العربية وإشاعة الحريات الشخصية والعامة والأكاديمية، والسعي لتعليم مستقبلي أفضل (عمار، 2000)، ووقف نزيف العقول العربية بهجرتها إلى الخارج وإنشاء هيئات محلية وعربية للإبداع والبحث العلمي. (الوالي، 2003)
وهناك من يرى الحل في امتلاك الرؤية الفكرية والسياسية والاقتصادية العلمية الجدلية وبناء أطرها التنظيمية العربية المطلوبة من ناحية وامتلاك التقنيات المعاصرة ودخول عصر المعلومات وتداولها وإنتاجها انطلاقا من مفاهيم العقل والعلم والحداثة، ومن ناحية ثانية العمل على خلق أرضية إعلامية حرة وصادقة تواجه الآلة الإعلامية الغربية.

ومن الحلول المهمة، إضافة إلى إحياء الهوية، يقول الجابري: "هناك حاجة ماسة إلى تحديث الثقافة وإحياء الهوية والدفاع عن الخصوصية ومقاومة الغزو الكاسح الذي يمارسه الغرب على مستوى عالمي إعلامياً وبالتالي ايدولوجياً وثقافياً والتحديث والانخراط في عصر العلم والثقافة كفاعلين مساهمين ومقاومة الاختراق وتنمية الهوية القومية والخصوصية الثقافية من الانحلال والتلاشي وأن تكون هناك شراكة ثقافية واعية مع أوروبا".(الجابري، 1998).
وهناك من يرى بضرورة نشر قيم التسامح وحقوق الإنسان والديمقراطية والمواطنة والمجتمع المدني كبديل للعشائرية والأصولية والمذهبية والطائفية والإثنية،التي عززت من تراخي دور الدولة الوطنية وتفكيكها وتجزئتها وتراجع السيادة السياسية فيها.
تمهيدا لتحديد ملامح المستقبل العربي بعيدا عن الإلحاق والتبعية، والتزاما بالأفكار والأسس المنهجية الوحدوية التي تعزز قواعد تطبيقات مبدأ الاعتماد العربي على الذات واحترام حقوق الإنسان… عندئذ فقط يمكن إيجاد الآليات السياسية من قلب الجماهير الشعبية الفقيرة، لجعلها قادرة على الإسهام في بناء مجتمعاتها.
وهناك اتجاهات للحل ركزت على دور المثقفين العرب في التأكيد على أهمية التنوع الثقافي وعلى أهمية الحفاظ على الخصوصية الثقافية للشعوب، وإبراز تداعيات التعصب والعنف والتظرف على الصعد الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية والاجتماعية والدينية، وتبصير المواطنين بمخاطر غياب قيم التسامح على المجتمع العربي وتأثيراتها على القيم والعادات وأنماط السلوك للأسرة العربية(الطاهر، 1999)

الخلاصة
ويخلص الباحث إلى القول إلى أن التحديات التي تعاني منها الثقافة العربية كبيرة وخطيرة وتحتاج إلى مبادرات عاجلة وفاعلة، فالثقافة العربية بحاجة إلى إعادة بناء وتجديد وتفعيل من الداخل لتهيئتها للمقاومة والتصدي لكل مظاهر التخلف والتطرف والعنف، وهذا يستدعي ضرورة الاهتمام بقطاع التربية والتعليم، شكلا ومضمونا، وتعزيز علاقة التعليم بالثقافة، والبحث عن الوسائل الفاعلة لإخراجها من أزماتها المعروفة التي تحكمت فيه خلال العقود الماضية، والتأكيد على أهمية الاستفادة من وسائل العولمة وتوظيفها في نشر الثقافة العربية القائمة على مرتكزات الديمقراطية والعقلانية والتسامح والانفتاح الثقافي على الآخر، مستفيدين من تقدم العلوم الإنسانية ومشاركين في صياغتها وتطويرها، وتحديد إستراتيجية مواجهة لقيم التعصب والتطرف والاستبداد والتسلط ثقافياً وسياسياً واقتصادياَ واجتماعياً، وإبراز الآثار الخطيرة التي تكمن وراءها، بشكل يكفل الحفاظ على الهوية العربية المتميزة، الأمر الذي لا يعني بحال من الأحوال رفض الآخر أو العداءً للآخرين، بل الرغبة الطبيعية في أن يتمتع جميع المواطنين العرب بالعزة والكرامة والحرية والأمن والسلام في أوطانهم، وان يتحرروا من أنظمة القهر والظلم والاحتلال وينعموا بخيراتهم ومواردهم مثل شعوب أية أمة أخرى، في إطار من التواصل والتعارف والتعاون القائم على العدل والمساواة والاحترام مع شعوب العالم، من أجل تقدم الإنسانية ورقيها وتنميتها، وتعايش شعوبها، وهذا يستدعي ضرورة التعاون بين الدول العربية في كافة المجالات وخاصة في المجال الثقافي لإنتاج وتسويق ثقافة وطنية تسامحيه عربية إنسانية ديمقراطية عصرية، تأخذ مكانها، في تحقيق دولة المواطنة الديمقراطية التي تتطلب إتاحة المشاركة السياسية في إدارة شؤون الدولة، وإلغاء احتكار العمل السياسي والمهني، وتأكيد حق الأقلية في المعارضة الذي هو حق أصيل، كما هو حق الأغلبية في الحكم، الذي يتأتى عبر صندوق الاقتراع والانتخابات الحرة الدستورية، إلى جانب احترام حقوق الإنسان وإشاعة قيم التسامح والحريات الديمقراطية وتامين مستلزمات نمو المجتمع المدني.
فلا تنمية ولا ديمقراطية ولا تقدم دون تحرير الإنسان من الفقر والجهل والتعصب والتطرف والاستبداد الذي ينتهك كرامة حقوق وحريات الإنسان ويعطل مشاركة المواطنين في عمليات صنع القرار، فالإنسان وطاقاته الكامنة هو الملاذ الأخير لتنمية حقيقية تحمي المجتمع من عواصف الإلحاق والتبعية التي كرسها الاحتلال ومؤثرات العولمة النيولبيرالية.
انطلاقا مما سبق فان الإيمان بأهمية نشر قيم التسامح ، يجب إن يحث الفاعلين على الاستمرار ومن خلال الوسائل والمواقع المختلفة التي تتاح للمساهمة في تحقيق هذا الهدف.

المراجع:
عبد الحسين شعبان وآخرين ، ثقافة حقوق الإنسان، المنظمة العربية لحقوق الإنسان، و رابطة كاو للثقافة الكردية بيروت ، "2001.

حيدر علي وميلاد حنا، ازمة الاقليات في العالم، دار الفكر، دمشق، ص 86 – 89 .
حقوق الإنسان، حقوق الأقليات، صحف وقائع حقوق الإنسان، مركز حقوق الإنسان، الأمم المتحدة، جنيف.
قائد محمد طربوش ردمان، حقوق الإنسان في العالم العربي دارسة مقارنة حول حقوق الإنسان في الدساتير العربية ص 53، دار المعارف للدراسات والنشر 1991.
جورج جبور، الميثاق العربي لحقوق الإنسان، عرض وتحليل ونقد، دار العلم للملايين ، بيروت، لبنان، يناير 1998، ص 46.
محمد عابد الجابري: تكوين العقـل العربي، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية) ط. 5، 1991م.
د. سعد الدين ابراهيم، واخرون، المجتمع والدولة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العرية، بيروت، 1996، ص 327 – 329 .
برهان غليون واخرون، حقوق الانسان العربي، مركز دراسات الوحدة العربي، بيروت، ص 75 .
علي الدين هلال واخرين لديمقراطية وحقوق الانسان في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية 1983،ص108-121.
الحوار المتمدن ،إبراهيم الدقوقي http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp
علي هلال واخرين مرجع سبق ذكرة ص282- 298.
- أحمد مولود الطيار مقال بعنوان الأقلية في مواجهة الأغلبية - اللعبة المفضلة لأنظمة الاستبداد،الحوار المتمدن.العدد: 1108 13/2/20052
المنظمة السورية لحقوق الإنسان التمييز ضد الأقليات القومية : حاله حقوق الإنسان في سورية التقرير السنوي لعام 2004 ص116.
http://www.ssnp.net/main/modules.php?name=News&file=article&sid=642
أقرت هذه الوثيقة من قبل المؤتمر الأول لـ" المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية " بإجماع حاضريه ، كوثيقة من وثائقه الأساسية 27 ـ 29 مارس 2004 انظر http://www.hrinfo.net/rights/minorities/
عزمي بشارة: مصدر سابق، ص144.
عبد الحسين شعبان وآخرين ، ثقافة حقوق الإنسان، المنظمة العربية لحقوق الإنسان، و رابطة كاو للثقافة الكردية بيروت ، "2001.عبد الحليم الرهيمي، تنوع الثقافة والتعددية والوحدة– ص30-45
عبد الحسين شعبان وآخرين ، ثقافة حقوق الإنسان، المنظمة العربية لحقوق الإنسان، و رابطة كاو للثقافة الكردية بيروت ، "2001.عبد الحليم الرهيمي، تنوع الثقافة والتعددية والوحدة– ص.45
. تقرير التنمية البشرية جامعة بيرزيت – برنامج دراسات التنمية –فلسطين 2002



#صلاح_عبد_العاطي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خيارات ملاحقة ومحاسبة الاحتلال بعد حصول فلسطين على عضوية الد ...
- الوضع القانوني لقطاع غزة والمسئوليات في ظل الأوضاع الراهنة
- جرائم الاحتلال الإسرائيلي والامبريالية الأمريكية
- مقترح لمسودة قانون - لجنة المصالحة الوطنية وعملها -
- العولمة الثقافية وتداعياتها على الشباب في فلسطين
- الحريات الاكاديمية في فلسطين
- واقع الحق في التنقل والسفر بالأراضي الفلسطينية
- دور التربية في تعزيز السلم الاهلي
- مناهضة التعذيب في المعايير الدولية و الوطنية و الواقع الفلسط ...
- ازمة الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني
- مسئوليات الاحتلال الإسرائيلي الجنائية والمدنية عن جرائم حربه ...
- ورقة عمل حول خطة السلطة الوطنية لاعوام 2008-2010
- الحريات العامة بين التعصب والتسامح
- قراءة نقدية في كتاب -صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالم ...
- المخادعون والمخدوعون
- المشاركة السياسية في المجتمع العربي
- إلف.. باء الحريات.. في مجتمع تتراجع فيه الحرية
- المرأة الفلسطينيةبين الواقع والطموح
- الواقع الاجتماعي والثقافي للشباب الفلسطيني
- الاستيطان الصهيوني في فلسطين حتى عام 1948


المزيد.....




- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟
- كوريا الشمالية تختبر -رأسا حربيا كبيرا جدا-
- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - صلاح عبد العاطي - الانقسامات والتسامح في المجتمع العربي