أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل محمود - قراءة في ديوان (ريثما...) للشاعرة المغربية سعيدة عفيف















المزيد.....

قراءة في ديوان (ريثما...) للشاعرة المغربية سعيدة عفيف


نبيل محمود

الحوار المتمدن-العدد: 4756 - 2015 / 3 / 23 - 18:47
المحور: الادب والفن
    


(هذه القراءة في الأصل هي تقديمي لديوان (ريثما...) للشاعرة المغربية سعيدة عفيف، الصادر عام (2014) عن مطبعة سافيغراف ب (100) صفحة من القطع المتوسط ويحتوي على (22) قصيدة. وهذا التقديم تجاوز الحجم والشكل المتعارف عليه، فصار أكثر من تقديم وأقل من دراسة نقدية مفصلة!.)

يكاد شِعرها يضيءُ..!
============
هذا الديوان هو الأول للشاعرة سعيدة عفيف، والشعر في لغةٍ غارقةٍ بالشعر مغامرةٌ أكيدة، فتاريخ اللغة كلّه عيونٌ ترقب كلّ بيت شعرٍ يولد، فكيف بديوانٍ جديدٍ يُمتحن أمام ثقافةٍ موغلةٍ بالشعر وكأنّه البدء والختام؟..
هذا التقديم هو محاولة لرصد أهم الموضوعات التي يزخر به الفضاء الشعري المضيء للشاعرة،.. إن النسج للشعري والفكري يحقق ما يراه أدونيس جوهر الشعر الحديث ((إذ أنّه يحقّق في بنيته وفي رؤيته علاقة عضوية بين الشعرية والفكرية، ويفتح أمامنا بحدوسه واستبصاراته، أفقاً جماليّاً جديدا، وأفقاً فكريّاً جديداً. ينبثق هذا النص أساسياً من نظرةٍ لا تجزئ الإنسان إلى حسٍّ من جهةٍ، وفكر من جهة ثانية، أو إلى عاطفةٍ وعقل، وإنّما ترى إليه كلاّ لا يتجزّأ: طاقة وعي موّحد. ويقف هذا النص، بخصائصه، من حيث إنّه مكتوبٌ، على الطرف المناقض للنص الشفوي.)) (أدونيس، الشعرية العربية، دار الآداب- بيروت،ط2، 1989 ص61).

في زمن تتهاوى فيه كل أسس عوالمنا القديمة، وتتهافت كل الخطابات السياسية والايديولوجيات العاجزة.. تبادر الشاعرة بخطابها الجمالي لتقدّم تصوراً شعرياً يغادر كون القبيلة والجماعة والنشيد الشمولي الأحادي، لترصد نسيان الإنسان (تجاوزا للصيغة الهيدجرية حول نسيان الوجود)، وتضع الإنسان-الفرد وليس الإنسان-المفهوم، في مركز الاهتمام، الفرد بشؤونه وشجونه، بهزائمه وانتصاراته العامة والخاصة، بأحزان قلبه وأفراحها. تفتتح الديوان بهذه السطور من قصيدة الديوان الأولى (رهان)..
وذات هَوَس.. أمشي
خالية من كل زعامة.. أو كهانة

كذلك في قصيدة (يا أرض) وقصيدة (أحداث) تقارب هموم أرضنا وزمننا العربي العاصف المتوجّع بحرقةٍ نازفة. والسؤال طويلٌ وطاعنٌ بالألم، تسأل الأرض عمّا يحلّ بالإنسان والأوطان.. فهل العلة في الأرض أو في الإنسان أو هو الخلل في العلاقات الإنسانية والسياسية..الخ؟ وهل تبقى الأرض العربية أرض موتٍ وانتظار..؟! وفي قصيدة (حوار سفلي) تضعنا في قلب المأساة وعمق الهول..حيث الوجع الممتزج بالطين!
وعن أحوال تحُول
وأقوام تزول
وعن خرائط ينقص طينها ويزيد عذابها
وعن خرائط يزِيد طينها ويكبر وهمها
يا لسيرة الطين مأساة الكون...

من هذا الأطار الإجتماعي العام، نتوغل في أرض الشعر والسحر! والشعر عند شاعرتنا شعر الأعماق الذي يتوسّل بالمرئي ليبلغ اللامرئي.. وهذه مهمّة الشعر وروعته وسرّ كلّ إبداعٍ فني. إنّ الشعر الحديث، معظمه، متخمٌ بتهويمات لفظية وتراكيب لغوية مبتكرة على صعيد الجملة، ولكنّه هائمٌ وشبحي على صعيد القصيدة، لا نكاد نلمس فيه الوحدة الكلية العضوية، فيكاد يرتبك المعنى أو يضيع. فالبناء العضوي المتماسك للقصيدة يمنعها من التبدّد في المتاهات اللفظية، فيقود المعنى الألفاظَ حتى التوهّج الشعري. يقول عبد القاهر الجرجاني ((إذ الألفاظ خدم المعاني والمصرّفة في حكمها، وكانت المعاني هي المالكة سياستها، المستحقة طاعتها. فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشئ عن جهته، وأحاله عن طبيعته، وذلك مظنّة الاستكراه، وفيه فتح أبواب العيب، والتعرّض للشيْن.)) (أسرار البلاغة، تحقيق محمود محمد شاكر، المدني القاهرة-جدة، ص8). الألفاظ لا تبهرنا كألفاظ بل طريقة استخدامها والسياق الذي ترد فيه، فما الألفاظ إلاّ آلات عودٍ.. فهل يطربنا العود أو يطربنا العوّاد؟! والشاعر هو ساحر الألفاظ حين يتقن نظمها وفق سياقٍ شعريٍّ محكمٍ ومضيء..

الكائن المؤجّل..
=========
لكأنّنا نقرأ في قصيدة سعيدة عفيف أكثر من قصيدة! والغنائية والعذوبة التي نستشعرها عند قراءة قصائدها هي غنائية المعنى، المعنى المضاعف بصورها وتعابيرها الغنيّة والثريّة، حتى يصحّ في شعرها قول الجرجاني ((تُرسل المعاني على سجيّتها، وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فإنها إذا تُركت وما تريد لم تكتس إلا ما يليق بها، ولم تلبس من المعَارض إلا ما يَزينها.)) (أسرار البلاغة، تحقيق محمود محمد شاكر، المدني القاهرة- جدة، ص 14).
تتميّز كتابات الشاعرة بحضور السؤال الذي يفكّك الوجود شعرياً، ولا أغلو إنْ أسْميتها بـ (سيدة السؤال)، ما تكتبه وكأنّه سؤالٌ طويلٌ ينتظر جواباً، جواب التغيير، أليس الكون كلّه محاطاً بعلامة استفهام هائلة؟! وما وجودنا نحن إلاّ أجوبة متنوعة لأسئلةٍ كبرى. وخير من أنصت ويُنصت لأسئلة الوجود هو المفكر عموماً والفنان خصوصاً، أليس تاريخ الإنسان كلّه هذا التناوب بين السؤال والجواب، وكل ارتقاءٍ للوجود البشري من حال أدنى إلى حال أرقى هو إجابةٌ صحيحةٌ لسؤالٍ مصيريٍّ وكبير. ونجد لدى هيغل، هذا التحديد لجوهر الفن كسؤال! ((لكن الأثر الفني ليس لذاته ابتدائيا- كالطبيعة الخارجية- بهذا القدر، بل هو بالجوهر سؤال...)) ( هيغل، دروس في الاستطيقا – مجلد1، ت. وتقديم ناجي العونلي، منشورات الجمل 2014، ص 101). ومن هذه الأسئلة سؤال الشاعرة عن علاقة الرجل-المرأة، هذه القضية أوْلتها الشاعرة اهتماماً واضحاً.. (بنيلوبي العربية) المرأة التي تعرّضت لأعظم حيفٍ وأفدح عذاب، أين منه عذاب انتظار بنيلوبي؟ وكم عانت من انتظارات مريرة؟ انتظارها لعودة الرجال من حروبٍ طاحنةٍ وخاسرة!، انتظارها لعودة الرجال من العمل، الذي ما كان إلاّ حجةَ اسْتعبادٍ لها!، انتظارها لحريةٍ موعودةٍ بعد الانتهاء من بناء الأوطان!.. كثيرةٌ كانت انتظارات هذا (الكائن المؤجّل) والمنذور لحياة محورها الرجل، المرأة كانت ولا تزال تعاني من تلاعب المجتمع, المنتفخ والمنتشي بقيمه الذكورية, بمصيرها (حضور المرأة-الأنثى وغياب المرأة-الإنسان). هذه النظرة للمرأة لم يسلم منها حتى أكثر مدّعي الثقافة والتنوير ضجيجاً، فنرى حضوراً لصفاتها الأنثوية وتغييباً لجوهرها الإنساني. إنّ الكثير من النساء, مع الأسف, يتقمّصن هذه الرؤية الذكورية ويعكسنها في خطاباتهن وأعمالهن الأدبية، أو يشطحن بتبنّي بعض خطابات الحركات النسوية التي تغلو وكأنّها خطاب ذكوري معكوس, فتضيع المرأة هذه المرة كأنثى, ودون أن تفوز كإنسان. إنّ ما يُحسب لشاعرتنا هو التناول الناضج والواعي لهذه القضية، إنّ قصائد مثل (لقاء أخير) و(أمرأة من هناك) و(قبس من نار) ترتقي فيها الشاعرة إلى مستوى إبداعي رفيع، ونجدها تؤشّر الخلل بالعلاقة اللاإنسانية وليس في أطرافها. فتحلم بثورةٍ نبيلة، فهي لا تريد بالطرف الآخر شرّا ولا تدميراً, ولكنها تطالبه إمّا بعلاقة الأحرار أو فالموت عندها أهون من علاقة عبودية. (لقاء أخير) نهايةٌ لعلاقةٍ من طرازٍ قديم ومحاولةٌ لاستئناف الحياة بقواعدٍ جديدةٍ وشروطٍ جديدةٍ للعلاقة:
بل عناقا فاترا كنت تستحقه
يوم الوداع
واُسْلم الروح الأخير..

تحلم عبر إبداعها بإحلال علاقةٍ إنسانيةٍ تعيد للكائن البشري إنسانيته وكرامته وحريته، أرجلاً كان أم امرأة؟ تمتلك الشاعرة قدرةً متقنةً لنسج الشعري والفكري، دون الانزلاق إلى خطاب مباشر، هتاف أو شعار، فهي تمارس التفكير شعرياً وبراعتها الشعرية تظلّ متحكّمة بالشروط الإبداعية للشعر، ولا تضحّي بالشعري على صعيد الجملة أو الصورة أو بنية القصيدة ككل، فتشع قصيدتها وتتوهج شعراً. ترى وجود المرأة الاجتماعي نتيجةَ تحكّم خللٍ أشملٍ وأكبرٍ يُفْقر وجودنا الإنساني كلّه. خللٌ ضاربٌ في أعماق هذا الوجود المعطّل عن الحياة كما في قصيدة (سقوط), فما تسمّيه (الوجود المعلق) هو سيرة أحياءٍ أمواتٍ يسيرون في جنازةٍ أبدية، لتنتهي بالسؤال:
أيّة حال؟ وأي مآل؟.....

لا ترى الشاعرة العالم بلونٍ واحد، ورغم كلّ المآسي فهناك ألوان فرحٍ وبهجة، وهناك لحظات إشراقٍ تخفّف عن الروح أعباءها وآلامها، لتستمر الحياة يتناوبها الليل والنهار. في قصيدة (في عيد الحب) رغم أصوات الظلام التي (تفتي بسحل وردة من لونها الأحمر) تنتزع القصيدة نفسها من منطقة الظلمة وتمضي إلى مناطق البهجة والنور:
بكل الحب الذي كان
قبل كل الملل وكل النِّحل
وبكل الحب الموجود
وبكل ما سيأتي
أغمزُ لك وحيا
أن عند المنعطف القريب
نُبقي من العمر نزرا
ومن أعشابنا زهرا
ومن فاكهتنا شعرا
وأهديك في يوم الحب
قوة وأوارا

قصائد (أبجدية) و(بقاياك) و(شطحات) و(مقامات) و(أنوثة) و(معنى أخضر) و(موجاته) و(كوبرا) و(حكاية عمر) و(يا لصوتك)، أي ما يشكّل نصف الديوان، نماذج مضيئة لقصائد تقارب الحب بكل أحواله وأطواره، من تلاقٍ وافتراق، من حضورٍ وغياب، من اشتعالٍ وانطفاء، هذا المبرّح الأبدي للقلب البشري، ومسكّن اِلتياعات الروح ومبدّد وحشتها.. بأسلوب يتهادى بين حسيّةٍ مرهفةٍ حيناً وصوفيةٍ قلقةٍ أحياناً أخرى. كلّ قصيدة تستدعي الكثير من القول يستغرق صفحات وصفحات، ولكنّ مقام التقديم لا يسمح بالاسترسال والإسهاب في موضوع أروع ما فيه أن لا يتوقف فيه المقال! والشاعرة في هذه القصائد تتألق بابتداع الطريف من الصور بعيداً عن الابتذال والإتباع، والأفضل أن نذهب إليها ونستمتع بما فيها من صور وتعابير مباشرة بلا توّسط يفسد جمالياتها. وهي لا تفيض بموضوع الحب فقط، وتصنيفها في هذا الإطار لا يعني أنّها بعيدة عن الملابسات الاجتماعية والفكرية، ففي الشعر الحقيقي يكون مستوى التناول متعدّد المستويات تحتّمه الرؤيا الكلية للشاعرة، والتي يصعب فيها فصل الجزء عن الكل، وإن اضطررنا لذلك فهو لضرورة البحث والتقصّي.

الخلاص الجمالي
==========
إن الشاعرة تؤسّس خطابا جماليا، تتصدّي من خلاله لأزمنة القهر التي تضيّع وتستلب الإنسان، وخصوصاً المرأة في مجتمعاتنا، رؤية جمالية أسميها بالخلاص الجمالي. وكأنها تتلمس منهجاً في الكتابة يفصح عن رؤيةٍ عميقةٍ إلى الفن ووظيفته الوجدانية والخلاصية للإنسان. إنّ انتهاكاً خطيراً يُرتكب بحق الشعر، والفن عموماً، إذا اتّجه العقل إلى البحث عن قيمةٍ نفعيةٍ يمكن قياسها كمياً، كما في العلوم الاجتماعية، فما يضيفه أو يغيّره الفن في الوجدان الفردي للإنسان هو خارج الحسابات الكمية. فالشعر يبعث الدفء والطمأنينة في الوجدان الفردي للإنسان المنهك في ليل الوجود الموحش, ويرفعه إلى شرفات يطلّ منها على الأزلي في عالم حافل بالعابر والمتغيّر. إنّ الوجع في هذا الوجود مبطّن بالمسرّة, والألم مجبولٌ مع اللذة, والفرح يرافق الحزن, فلا شئ نقيّ وخالص, والليل يلد النهار ليشرق يوم جديد من صراع الأضداد وتبدّل الأحوال واحتدام المشاعر..
((ولكنّ ما يدوم إنّما يؤسّسه الشعراء..)) (هلدرلن)

في عالم خطير ومهدّد, لا يجد الانسان ملاذاً يأوي إليه ويطمئن له, ويعزّيه عن كل الخيبات والإنكسارات, غير الفن والأدب عموماً والشعر خصوصاً.. يعرض د.عثمان أمين لرؤية هيدجر عن الشعر ))إنما الشعر((ركيزة)) التاريخ, يهدي الناس بنوابغ كلماته ويلهمهم بكرائم رؤاه: تلك ماهية الشعر في نظر هيدجر. أما رسالة الشاعر فما أجملها من رسالة وما أحوج الناس إليها في كل عصر! رسالته أن يقف إلى جانب الفيلسوف, فيذكر الإنسان, وقد أنهك روحه في سعيه الدائب لتحصيل المعاش, حتى أصبح خادماً للزمان الذي يجري بغير توقف ولا رحمة, بأن هنالك أشياء عظيمة حقا, ويوقظ فيه شعوراً بالاطمئنان والتفاتاً إلى الباقي الذي لا يتحول ولا يزول.)) (مارتن هيدجر, في الفلسفة والشعر, ت. وتقديم د.عثمان أمين, الدار القومية للطباعة والنشر, القاهرة 1963, ص25). إنّ النزوع الجمالي عند الإنسان هو الذي يرتقي به نوعياً وروحياً فوق الوجود الطبيعي للكائنات الأخرى والموجودات، مما يجعل من المشروع التحدّث عن حاجات جمالية أساسية عند الإنسان. ((الحاجة الجمالية هي من أرسخ الحاجات التي تميّز الكائن البشري، ومن أكثرها ثباتاً وقوة.)) (إتيان سوريو، الجمالية عبر العصور، ت. د.ميشال عاصي، منشورات عويدات، بيروت-باريس ط2 1982، ص 315).

قصيدة (ريثما) التي صار عنوانها عنواناً للديوان وباختيارٍ موفقٍ وذي مغزى، تستعير الشاعرة هنا فضاء المرسم بألوانه وسحره ووظيفته مكاناً للخلق، هنا الضد المشرق والزاهي، لتلك العلاقة القاتمة التي حكمت علاقة الرجل بالمرأة، وبعمق إدراكٍ وتمكّنٍ فائقٍ في رسم الصور ونسج القصيدة، تبدع الشاعرة في بناء معمار فني برشاقة الفنان المرهف والمنهمك في عملية خلق جميل..
لكم يثملني هذا الدمار الأنيق
لسراب اليقين الباهت
فتشرق وجها مكتمل الأبعاد

تذكرّنا بتلك العصور السحيقة للمرأة-الخالقة، ولكنّها ترتقي هنا إلى مشارف عصر جديد وأرقى يعيد للمرأة حقها المستلب، فهنا المرأة عنصر إيجابي وخلاّق، هنا انتصرت الثورة النبيلة لم تُرِقْ دماً أو تُسبّب جرحاً، ولكنها خلقت كوناً مشتركاً وحالماً وجميلاً لهما، هذه القصيدة الملوّنة والإيجابية، نشيد حريةٍ وحبٍّ وخلقٍ، وكأنّها قصيدة خلق حديثة! هنا مرسم بحجم الكون واللوحة حلم حياة جميلة!

في قصيدة (شظايا الروح) ننتقل من عالم الألوان إلى عالم الأنغام. عندما تتشظّى الروح في زمن الانطفاء والانكسار.. يهرع المغني القديم فينا ليتذكّر (تذكر أورفيوس اللحظة) الغناء الخالد للإنسان فالجميل عندها ليس فقط هو ما يسعد، الجميل هو ما (يرمم على مهل/ شظايا الروح..)، فترميم الوجدان (الروح) هو بناء روحي للإنسان يختلف نوعياً عن عمليات البناء المادية والواقعية، هو أشبه بالسحر! لا يمكن أن نتصور الجمال يرتكب جناية أو يسبّب كارثة، فصروح الإنسان الحديث لن تسعدنا ما دامت تخلو من الحس الجمالي والمثال الجمالي !
بقصيدة (سيدتي) يختتم الديوان قصائده ولا ينتهي، فهو ينفتح على أفق الجمال والجميل، ففي هذه القصيدة طرفان متقابلان ومتضادان، فهذا الكون الحافل بالتناقض والصراع بين الفرح والحزن، في طرفٍ منه يتبدّى العنف والوحشية والقبح.. وفتْك الإنسان بغصن الزيتون رمز السلام، ورفيف الحمام الذي يستدعي إلى الذهن، حالاً، حمامة بيكاسو البيضاء.. وهي تقطر دماً!..
وبإبادتنا
لغصن الزيتون ورفيف الحمام
لفُلّكَ وزهرك الأعطر
وبأننا، في النفس الأخير
خبا منا البريق
وأضعنا الطريق

وفي الطرف المقابل تشعّ هذه السيدة بابتسامتها المحيّرة (ها يتوقف الوجود حائراً/ ويمتثل بين يديك،)، موشّحة بألوان الطيف، تشخص كمثال متعالٍ للجمال..
ويا سيدتي،
لعلك في عليائك تضحكين
من فوضانا.. ..
ومن الزمن الهارب منّا
فجودي بابتسامة غراء
تبعث الدفء جهارا
بأحشاء الكون الموحش البارد

تلك نظرة من علٍ تراقب المفارقة الكبرى للوجود, الذي لا يكون شئ فيه إلاّ هو وآخره متعانقان! فالسيدة تضحك في عليائها ضحك إشفاق ورثاء.. ليس (على) فوضانا، بل (من) فوضانا.. أملٌ يتشبث بابتسامة غامضة تبعث الدفء في كوننا الموحش.. فمَن هي هذه السيدة التي تمثّل قطب الجمال المتعالي مقابل العنف والوحشة والفوضى في هذا الكون؟!

كل فن مفرط في جماليته هو فن مفرط في إنسانيته بالضرورة! هذا ما قرأته في ديوان الشاعرة المبدعة سعيدة عفيف، هذا التقابل بين وجود عنيف ومتوحش وفوضوي، ومثال متعالٍ للجمال هو الأمل بالخلاص.. هنا شاعرة بقلم رشيق، تقتصد بالألفاظ وتسرف بالمعاني.. وإن كان الخلاص الجمالي أمراً لا تنفرد بتناوله شاعرتنا، فإنها حتماً تتفرّد وتتميّز بطريقة كتابتها الشعرية، ما يجعل ديوانها هذا عملاً شعرياً لافتاً، ابتدأ بـ (رهان) كبير، استوفى شروط نجاحه الشعري عبر قصائده، وانتهى إلى جمال مشرق ومبتسم في (سيدتي).
ولا أجد أخيراً ما أختم به هذا التقديم، خيراً مما ختم به هانز جورج غادامير كتابه الحقيقة والمنهج ((غير أني سأتوقف هنا. فالحوار الجاري لايجوز أن تكون له خاتمة. وسيكون تأويلياً بائساً ذاك الذي آمن بإمكان أن تكون، أو وجب أن تكون، له الكلمة الأخيرة)) (ت. د.حسن ناظم-علي حاكم صالح، دار أويا-طرابلس2007 ، ص735). فالكلمة الأخيرة تبقى كلمة القارئ المتذوّق، والناقد المتفحّص والمتخصّص.



#نبيل_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زيارة سرية
- قمر إنهيدوانا
- أنتي فالنتين!
- هجوم إبليس بباريس
- وجه مكسيم
- شتاء آخر
- من يحلّق ليلاً؟
- تحت ظلّ الزيتون
- اضاءت وفاح الفالس
- صرخة
- أسئلة الدم
- ليلة سقوط الدمعة
- الأبدية لحظة حضور
- هجرة
- النص الطباعي والملتيميديا.. الوسيط المهيمن
- غربة المقيم
- (ريثما...) ينقذنا الجمال !
- طاحونة الزمان
- عيد المرأة والرياء الذكوري!
- قطوف


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل محمود - قراءة في ديوان (ريثما...) للشاعرة المغربية سعيدة عفيف