أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي بن يقظان القسم الثاني















المزيد.....



الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي بن يقظان القسم الثاني


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4756 - 2015 / 3 / 23 - 12:02
المحور: الادب والفن
    


4

تركني أبسال أتابع السير وحدي في منتصف الطريق بين الظهران والخفجي بعد أن قال لي بلؤم مفاجئ: اسأل أي بدوي يدلك على سلامان، وابتلعته الشمس. كان لتغيير سلوك حَواريّ المفاجئ تفسير واحد ألا وهو الشمس، شمس ليست كغيرها من الشموس، شمس النفس. ما أن غادر جزيرتي حتى تبخر كل شيء علمته إياه مع أشعة شمسه، فهل سأقوى على الاحتفاظ بجزيرتي في لحمي، على مقاومة الجحيم الذي يحدق بي؟ مشيت أكثر من ساعة، والشمس الشرسة تسوطني بلهبها. في البداية، كنت أقاومها بقوة النظر في عينيها، ثم ما لبثت أن أحسست بالعياء. نظرت نظرة الشاكي إلى المشيئة الحمقاء، ولشد ما كانت خيبتي. كانت الصحراء، الصحراء الحقيقية، لم تبدأ بعد. حاولت تسلق الجناحين العملاقين للرمل، لكني فشلت. كانت السماء أعلى مما تصورت، وأكبر: لؤلؤة ضخمة من اللهب الأزرق معلقة على باب الصحراء.
طرقت باب الصحراء، فانفتحت أمامي أكثر من طريق. أي الطرق كان عليّ أن آخذ إلى سلامان؟ كانت سياط الشمس لا تتوقف لحظة واحدة عن لسع ظهري، ومن أفواه الرمل كنتُ بصعوبةٍ أنزع قدمي. عرقت عرق سَرِيّة، وجرعت آخر قطرة من ماء القِرْبَة. ابتلعتُهَا بظمأ العائد من الجحيم، وتذكرت على فمي قبلة عيون المها الوحشية. تأجج فجأة شوقي إليها، لكن أشعة الشمس المحرقة أطفأت هذا الشوق، ومنعتني من التفكير فيها أو في أي شيء آخر غيرها، حتى أن جزيرتي التي تركتها منذ أيام قريبة لم تعد سوى ذكرى بعيدة.
اجتاح جسدي ضعف شديد، وشعرت بتفكك كل علاقاتي بعالمي الذي صنعت، بتخلي الموجود الأول الواجب الوجود. كل هذا، بالطبع، كان مجرد شعور. لم أزل أقاوم سياطَ سكرِ الشمس وَفَكَّ ملحِ الصحراء. تمنيت لو تعض المرأة التي أحبها شفتيّ، ويُهْرَقُ دمي للتخفيف من ظمأي. هاجم الجفاف فمي، واجتاح جسدي ورأسي. ضعفت مقاومتي، وهربت مني إرادتي تاركةً إياي ترك السلحفاة، إلا أني لم أستطع الإمساك بها.
ومع ذلك، لم تخني الشجاعة.
مضيت بعقارب سوداء قاتلة دون أن أخاف. قفزت عن صخرات شاهقة دون أن أتردد. نثرت أسرار الكثبان دون أن أبالي. كنت ذاهبًا إلى سلامان أقرب الناس، ومع ذلك، أبعد الناس.
لم يكن السراب فقط التجلي المغري والخادع.
رأيت جملاً تائهًا، فجريت كي أمسك به، فإذا بالجمل تل.
رأيت بغلاً تائهًا، فجريت كي أمسك به، فإذا بالبغل حجر.
رأيت ثعلبًا تائهًا، فجريت كي أمسك به، فإذا بالثعلب بقايا نبتة. عرفت في النبتة بعض العصيريات، فمزقت أنسجتها، وشربت الماء فيها حتى ارتويت. استعدت قواي، لكن الشمس واصلت جلدي. كانت الشمس ألد أعدائي. رفعت رأسي للتحديق فيها، ومن حدقتها سقط عليّ عُقاب الحُلم قتيلاً. صرخت، وأنا أقذفه عني بعيدًا. عندما جاءني رجع صدى صرختي، عرفت أني ناديت عيون المها الوحشية.
رأيتها في ثياب العرس، في سيارة الأولدزموبيل، تأتي من قلب الصحراء إليّ... إلى جانبها قتيل، كان أنا. في الخلف، بناتنا الثلاث الشبيهات بتماثيل الشمع. أعنتها على دفنهن، وبناتنا الثلاث يبتسمن. ثم، ذهبت عيون المها الوحشية على نداء أمها.
رأيتني أقطع الصحراء معها في سيارتها الفولكسفاغن المكشوفة، وأنا أجلس في دَست الماء إلى جانبها. ثم فجأة، وجدتني أركض من ورائها، أناديها وأناديها، وهي لا ترد.
سببت لي أشعة الشمس المحرقة ألمًا في رأسي وفي معدتي، فأخذت أرشق الرمل في كل الاتجاهات، أضرب نفسي، أمزق ثيابي. لعنت الشمس، العالم، سلامان. اختل عقلي. غدوت مجنونًا. لم أعد أسيطر على ظلالي. هربت ظلالي. عدوت من ورائها طالبًا منها التوقف. شيء غير معقول. ما لا يدركه العقل. ما لا يدرك سره. من غير الممكن إدراكه. تعثرت بحجر، وسقطت فاقدًا الوعي.

سقطت في بئر نفط مهجورة: رأسي تحت، والعالم بالعكس. كنت أسقط. لم أكن أصرخ كما هو عهدي في كوابيسي. كنت أسقط، والريح تحملني: شعري كالحمام كان يطير. كنت أبتسم. سقوطي. سعادتي. شممت، في البداية، رائحة نفط خفيفة، ثم رائحة غبار اختلطت بالعفونة، فوجدت نفسي في سدوم، مدينة النيران والأسوار. حسبتني النساء ابن أخ أبي البشر، ودعونني حبيب سدوم. احتفلن بوصولي: كان الكأس بيد الواحدة يحوي ماضي كل البشر، والقبلة من فم الأخرى توجز تاريخ كل الأنبياء. لم أكن أعلم أن الزمان كان قد بدأ قبل زماني، وأن سدوم لم تكن كل الكون. لم تكن تلك المدينة سوى محطة من بين محطات في تلك الهاوية الداكنة لعالم منقلب يبدأ من فم بئر النفط المهجورة، وينتهي في اللحظة التي تكون فيها نهاية التاريخ. سيتوقف الزمان عند آخر عتبة للماضي، غير تارك أية فرصة للمستقبل، كطفل في بطن امرأة ميتة.
تذكرت أني كنت ذلك الطفل، أن أمي ماتت يوم مولدي. كنت المستقبل الماضي. لم أكن أعلم أن كل سقوط كان ينطوي على العودة إلى بداية العالم. كانت بداية بعيدة. سدوم كانت بداية بعيدة، ولم تكن البدايات تزود بالفرح. كانت تزود بالغضب. كان النكاح نوعًا من الغضب، وكل فعل دافعه الشهوة. في البكاء وفي الضحك، كانت هناك سعادة أحد الغاضبين من كل شيء، وفي الدرجة الأولى من وجوده. لهذا لم يكن غضب السماء على سدوم سوى محض خيال. وُلد الغضب مع هذه المدينة، وكنت سعادتها الوحيدة. كنت تلك السعادة حتى عندما كان سكانها العاصون الفاسقون الأحرار يحولونها بدافع الغضب إلى مدينة للنساء، وفي النهاية، إلى مدينة للخراب.
بعد ذلك، ذهبت في هاوية بئر النفط المهجورة إلى مكان آخر، هنالك حيث كنت المعرفة والإرادة. في ذلك العصر، كان القدامى يكتبون على ورق البَرديّ، وكانت حروفهم تشبه خدش مخالب العصافير. كان أبي نعشًا لأوزيريس، ولم تكن أمي يهودية أو مصرية، وإنما حزمة قمح لإيزيس. لم تكن حياة كل الأطفال ثمنًا لإنقاذ حياتي. ذلك ما كان يقوله الخيال في اللحظة التي يصبح فيها حقيقة. أما الحقيقة الحقيقية، فقد كانت أخرى بوجه آخر. كنا أحرارًا كلنا. لم أرفع هرمًا بقوة السوط، ولم أرق قطرة دم واحدة. كانت الشمس للجميع، ولأن الكل كان حرًا تحت الشمس، بنيت الأهرامات مع الكل، وبمحض إرادتي. كنت في كل نفس، ولم أكن النفس الحرة الوحيدة. كان كل أفراد أمتي مثلي أحرارًا. بدافع هذه الحرية، قررنا الذهاب إلى إخضاع حرية أخرى أكثر اتساعًا في السماء، هناك حيث كانت الحياة الأخرى، هناك حيث كانت السعادة الأخيرة. كان خيالنا الذي يغدو حقيقة مع مسلاتنا وأهراماتنا. كان الخيال نفسه الذي عاش عبر الأعمار غير بعيد عن نهر النيل على أكف الرمل. بفضل خيالنا الخالد وقعت عذراء حبلى من الجليل في غرام إله من أجل أن تأتي بفرعون، بمنقذ. في تلك اللحظة، عرفت لماذا لم أكن المنقذ لعصرنا، لأن أبي، القتيل في ظروف غامضة، لم يكن إلهًا.
خلال سقوطي، لم أتوقف في القدس، المدينة المدنسة، غرب جزيرة العرب. كانت أسوارها قد تهدمت كأسوار سدوم، حتى الريح هجرتها. لم يكن فيها موت ولا حياة، كالدمل على خد، كجناح الذبابة. وفي اللحظة التي كنت فيها أستعد للسفر إلى القدس الأخرى، الخيالية، لأشرب من مائها، وأطعم من عسلها ولبنها، أوقفني في قلب الجزيرة رجل طويل القامة، جميل الوجه، قوي البنية، وقال لي: "قل لي". رأيت العُقاب على صورته، وبين يديه خررت. أخذني من يدي، وطلب مني: "رافقني في الطريق إلى دمشق، وقل لي". رافقته، وقلت له. حدثته عن قصص الماضي والمستقبل. من الماضي أعجبته قصص داوود، ومن المستقبل قصص فتحه لبلاد فارس. قال: "سيكون ديني دين العدالة، وفي عام ألفين، ستكون أحد أبنائي، قبل أن يتم سقوطك". تركني في عصر متقدم عن عصره، وذهب.
وجدت نفسي في بلدٍ البحر فيه يملأه الأزرق والقروش، لم يكن سكانه يخشونها، ومن أجل لؤلؤة في محارة، كانوا يلقون بأنفسهم في الأمواج. كانوا يغطسون أقزامًا، ويطفون عمالقة، فأخافني مظهرهم، وأضاقتني رائحتهم. كأنها رائحة نفط. لم يكشفوا لي عن سرها، ولم أكن أعلم أن حربي القادمة سيكون سببها هذا السر، حربي القادمة والأخيرة التي سيكتمل فيها سقوطي والكل معي، إلا إذا ما تحولت إلى عملاق أكثر عملقة منهم. وضعت قدمًا في طهران وأخرى في بغداد، وأخذت أعدو باتجاه شعب العمالقة الصغار، وأنا أكنسهم بلحيتي، وأنا أعقدهم برباطي. جذبتهم إلى أعماق الهاوية في الوقت الذي كانت فيه سفني تمتلئ بنفطهم لمائة عام على الأقل قبل أن تجف آبارهم.
بعد قرن من سقوطي، وصلت إلى قعر بئر النفط المهجورة، فخرجت من باب مكسور لأجد نفسي في قلب الصحراء. كانت ناطحات سحاب مهجورة تنبثق من الرمل، وليست للحياة فيها أية إشارة، وكانت الريح تصفر على الأرصفة قبل أن تغادر إلى الشمال دونما عودة. فجأة، كالشبح بدا لي رجل قال إنه أنا، إنه محرر العرب في العقبة وفي دمشق، وقال لي أيضًا قرونًا فيما مضى إنه من انتصر في اليرموك. عرفت فيه خالد بن الوليد، ولم أعرف الآخر الذي كنته. قال لي: "في اللحظة التي سأتركك فيها ستتذكر كل شيء". لم تسعفني الذاكرة بشيء. صعدت على سطح ناطحة سحاب، ورأيت نيويورك تحت قدميّ. سمعت الكِنْجْ يغني، ثم بدأ كل شيء يهتز: تهدمت ناطحات السحاب، وما فعلتُ غير البكاء ومناداة عيون المها الوحشية. جاء البيتلز، وأخذوني من يدي. قالوا إنهم سيهدونني أغنيتهم القادمة لأنهم معجبون بي، وذهبنا كلنا نبحث عن آلة موسيقية في الأنقاض دون جدوى، فحملنا النوم على جناحيه إلى بلد الأحلام الاضطرارية.

عندما فتحت عينيّ، وجدت امرأتي، عيون المها الوحشية، تقف أمامي في ثوب مزركش لبدوية، وتنظر إليّ. هببت بوسطي العلوي منتصبًا، فأعادتني بيد خشنة إلى الاستلقاء. أخذت تلصق على جبهتي بعض الأعشاب، وهي تقول إن حرارتي انخفضت، فأكدتُ آلام بطني. كشفت عن بطني، وقالت الحجامة هي العلاج الوحيد.
أحرقت شفرة بالنار، ثم بدأت تبضع بطني بها، وأنا أصرخ. أشعلت شحم بعير في أكواب صغيرة، وعند انطفاء اللهب، صفتها على بطني المبضوع، وضغطت عليها بقوة إلى أن امتلأت بالدم، وأنا أصرخ من شدة الألم حتى غبت عن الوعي.
عندما فتحت عينيّ من جديد، وجدت امرأتي، عيون المها الوحشية، تجلس إلى جانبي. كان الليل قد غطى برمله الكون، فمددت لها يدي لتجيء قربي، لكنها دفعت عنها يدي بعيدًا، وصاحت بي: "أيها الكافر، الزم مكانك!" لم تكن عيون المها، المرأة المدجنة التي عرفتها. كانت بالفعل "وحشية"، لونا عينيها الأزرق الأخضر كانا يصرخان. تابعتْ: "أنتم الأمريكان، سنلقنكم درسًا لن تنسوه أبدًا!" رفعت الأعشاب عن جبهتي، ولمست خدي بتحنان. قالت: "أنت جميل أيها الكافر! اسمي عيون المها البدوية، وأنت، ما هو اسمك؟" كنت قد نسيت اسمي. ابتسمت عيون المها البدوية، وضوت بالبياض أسنانها. قالت: "سأسميك "حي". ألم أنقذ لك حياتك؟ هل تعرف "حي" ما تعنيه؟" قلت لا أعرف. قالت بالإنجليزية: "آلايف".
رفعت ثوبها عن فخذيها، وتمددت عليّ. رجوتها ألا تفعل، فأنا مريض، لكنها أصرت على ذلك مقابل ما قامت به من أجل شفائي. طلبت منها أن تنتظر، وأخرجت من جيب بنطالي كيسًا واقيًا. جامعتني، وهي تهمر، وتقفز، وتصفر، وكأنها قبيلة من الثعابين. متعتني حركاتها حركات القوة الطبيعية، وهبّت عليّ من جدائل شعرها الأسود رائحة النفط. تذكرت المهمة التي جئت من أجلها، فسألتها، وهي لم تنته بعد من فعل التوله والافتتان، إن كانت تعرف سلامان. قالت إنها تعرفه، وهي تذهب وتجيء. طلبت منها أن تأخذني إليه، فقالت، ولهثاتها تتخلل كلماتها، إن كان ذلك من أجل الحرب، فالحرب قد نشبت، والسماء كلها أضواء زرقاء وأقواس خضراء.
دفعتها بعيدًا عني، وأنا أعجل خروجي من الخيمة. كانت السماء بالفعل كلها أضواءً وأقواسًا، وكانت طائراتنا تمر من فوق رؤوسنا عاليةً جدًا، كما تمر أصابع عيون المها البدوية على جبهة زحل وعُطارِد، كما يمر شعرها على هضاب نجران، المخترِقة للنجوم الأكثر غورًا لليمن العاشق.





5

كنت غاضبًا من أبسال أشد غضب، فما هذا الذي اتفقنا عليه، وما كان عليه أن يقبل بشن الحرب قبل أن أقابل سلامان. كانت الشمس تقول وداعًا للنهار لما قادتني عيون المها البدوية عند سيد العرب، وكانت رائحة النفط المحترق تنتشر في الأجواء لما غار العطر من الثدي تحت حرير الهوى، فتغلق ابنة الصحراء أنفها: "هؤلاء هم رجالك، يا آلايف! قالت لي، انظر كيف يحرقون الصحراء!" "الصحراء لا شيء فيها، أجبتها، الصحراء رمل!" ضحكت مني، ونعتتني بالأعمى الذي لا يرى شيئًا: "في جزيرة العرب تحترق الآن كل الحضارات!"
لم أتوقع ذلك من امرأة حسبتها جاهلة، قالت لي إننا لا نعرف أية حرب هي حربنا، وهذه الحرب لن تكون آخر حرب! "ستكون الأخيرة!"، صحت. قالت معارك اليرموك وحطين وعين جالوت، هذه المعارك الشهيرة التي حررت الشعوب، غدًا معارك أخرى ستكون. لأول مرة، حلمت بالانتصار دون أن أخشى الموت أو الشعور بالعار. هذه البدوية التي أنقذتني من الموت بعثت في نفسي رغبة خالصة في الانتصار، الانتصار من أجل العبادة والحرية. "سأقاتل إلى جانب العرب، قلت لها، غدًا ستكون أعظم معركة فقط من أجل عينيك، غدًا ستكون معركة الخفجي التي ستضع حدًا لهذه الحرب ولكل الحروب". صاحت من عظيم الفرح، وهي تحلف بحياة آلايف. أشغل بالي وفي آنٍ واحدٍ أدهشني أن أرى سيفًا يومض في قبضتها.
استقبلنا رجال مسلحون على باب سلامان. أعلمتهم برغبتي في مقابلته، فأدخلوني وحدي عليه، ولم يكن وحده. حياني بحرارة، وأجلسني على وسائد حريرية مناديني آلايف، كما رغبت عليه، واعتذرت عن نشوب الحرب قبل قدومي.
عبّر سلامان بالأحرى عن رضائه: "بفضل هذه الحرب، وبعون الله، ستشع العدالة أبعد وأبعد، قال، أريد أن أبسط نفوذي على كل جزيرة العرب، وسأوحدها لأول مرة في تاريخها." كلفني بحمل رسالة للقيادة الأمريكية: "واصلوا الحرب!" أكربني منطقه، فلم يكن ذلك حلمي. "ستهدم الحرب قلاع العرب منذ فجر الإسلام، قلت له، ولن يسمح النفط بإعادة بناء ما نكون قد هدمناه."
لم يعكر كلامي سلامان من التعكير أقله، سيترك الأمريكان يأخذون البترول مقابل أن يحقق بالحرب معجزتين: معجزة العدل في صحراء الظلم ومعجزة الوحدة في صحراء القبائل. "شعبك لن يكون معك"، قلت له. "شعبي سيكون معي إن كنت أنت معي." وأضاف: "ستكون معي، وسيكتب التاريخ اسمك بحروف من ذهب، عندما يعرفك العالم أجمع تحت لقب آلايف العرب!"
هتف كل من كان حاضرًا باسمي، وأرادوا رفعي على أكتافهم، لكني رفضت. "لن أحارب إلى جانب من ليس لهم ذات الحلم الذي لي"، قلت لهم، وأنا أفكر في كبير خيبة عيون المها البدوية. تجاهلوا كلامي، فنهضت لأحتج، ولا أثر لاحتجاجاتي عليهم. تقدمت من منقل مليء بالجمر، وأطبقت كفي عليه. صرخت من الألم، وانتشرت في الأجواء رائحة لحمي المحترق. توقفوا مصعوقين لما فعلت، فتركتهم، وخرجت. لم تكن ابنة الصحراء هناك. غرقت في الليل باحثًا عن عينيها، من أجل أن أخفف عني الألم. كانت عيناها أجمل شيء في الوجود، الأكثر رحمة، والأكثر بلسمًا. عينا حورية وحشية أم بدوية لم يكن الأمر ذا أهمية، كانت عينا امرأتي، المرأة التي اختطفوها مني.
رَفَعَتْ يدي إلى شفتيها، وقبّلتها. أخذت تتلو بعض آيات القرآن، وبعد ذلك، قادتني تحت خيمتها. رشّت كفي بمسحوق قالت إنه لجلد حنش أسود، ثم ضمدتها برباط مزقته من ثوبها. سألت عن المجرم الذي أحرقني، فتنتقم لي منه، وهي تشهر سيفها. قلت أنا. أخذت تصهل: "أنت مجنون، أيها الأمريكي! أنت أمريكي من عندنا، أيها الآلايف!" سألتها عن رأيها فيما قاله سلامان: " سلامان مجنون بقدر ما أنت مجنون، القتال إلى جانبه خير ألف مرة من القتال إلى جانب أعدائه، ومعركة الخفجي معركتك." "معركة الخفجي معركتي." "إذن ماذا ستخسر في القتال إلى جانب سلامان؟ على أي حال، سيموت جنودك بالأسلحة الكيماوية. التحق بسلامان، فتحقق ما تشاء، وتترك من ورائك مأثرة تخلدك." "ما أكثر ما أهزأ من أن أترك من ورائي ما يخلدني، خسرت جزيرتي وامرأتي وعقيدتي، باختصار كل حياتي. لا شيء جدير بالاهتمام، بعد هذا، غير الانتصار لأجل العبادة والحرية اللتين جعلتِني أحلم بهما."
نظرتُ إلى عيون المها البدوية في عينيها، وقلت لها إنها تشبه امرأتي إلى حد بعيد، فابتسمت، سعيدة. نصحتني بالنوم، وأضافت أننا سنفكر معًا في معركتي غدًا.
كنتُ في فراشها، وهي، كانت تنام على الأرض، عند قدميّ. فكرت في رجالي، حيوانات المختبرات، وفي التجارب على مستوى كل جزيرة العرب، في الأطفال الذين سيموتون بالغازات، وعزمت على خوض معركة الخفجي إلى جانب سلامان. إضافة إلى هذا الحلم الذي كنت أريد تحقيقه، كنت أريد الحيلولة دون ما سَيُرتكب من جرائم في المعسكرين من أجل إرضاء الجنرالات. كان خوفي الأعظم طوال حياتي، كل حياتي، أن أصاب بالبرد خلال نزهتي الصباحية. كان الندى، حبيب الورد، ألد أعدائي. ولسوء حظي، أيًا كان المكان الذي كنت أوجد فيه، ما عدا جزيرتي، كانت الشمس نادرة، وكان الضباب المشبع بالرطوبة، الذي كان الحياة ذاتها، يمثل الموت بالنسبة لي. لهذا السبب، أردت خوض معركة الخفجي من أجل أن أقدم نصري للعبادة وللحرية، وأُمَتِّع الرمل الظامئ. كان يعني إسعاد الرمل وضع حدٍ لحلم الجنرالات الرهيب: أكثر مخترعات التدمير هولاً، وإنقاذ ما يمكنني إنقاذه، في غروب الحضارة.
على حين غِرة، علا صوت عيون المها البدوية:
- أنت تنام، يا آلايف؟
- أنا لا أنام. كنت أظنكِ تنامين، أنت.
- أنا لا أنام أيضًا. أفكر في معركتك القادمة. أنا بدوية حقًا، لكني أعرف التفكير.
سألتها إذا كانت قد زارت الخفجي.
- ذهبت إليها مع أبي وأمي عندما كنت صغيرة لبيع الماشية، فاختطف رئيس إحدى القبائل أمي. عندما أراد أبي استرجاعها، قتله رجاله بوحشية. منذ ذلك الوقت، لم أر أمي ثانية، ولا أدري إذا كانت حية أم ميتة.
كان لي ولهذه البدوية ماض مشترك! تركت السرير، ولحقت بها على الأرض.
- ألهذا السبب تريدينني أن أخوض هذه المعركة؟ لأنتقم لأبويك؟
- لا.
- إذن لماذا؟
- لحلم كبير، غال على أبي، لكنه مستحيل.
- ما هو؟
- سافر أبي كثيرًا، زار العديد من المدن، وعرف الكثير من الناس. كبر دون أن يفضي إلى المعرفة، ولكن عظيمًا كان في عينيه صاحبُ العلم. كان امرأ بسيطًا وما يقوله صحيحًا. كان يقول إن العالِمَ والبدويَّ قد صُنعا من طينة واحدة وإلا كيف كان يمكنهما معرفة أسرار الصحراء التي لم تكن غير أسرار الكون؟
- كل الأسرار أنتِ، يا ابنة الصحراء!
كانت سعيدة لكلماتي:
- أنا كبرت وعرفت الضراء دون أن يمكنني تحقيق ما أراده أبي، وما أتمناه عليك أن تحققه أنت، وأن تنتصر من أجل المعرفة.
- أنتِ سر الكون، سر الحياة! سأقاتل، وسأنتصر من أجلك! هل تريدين أن أقول لك شيئًا؟ في نيويورك، يكبر الناس مع المعرفة، ورغم ذلك، كثير منهم يعرف القليل من أسرار الحياة. أما أنتِ، أنتِ سر الوجود! سر الكون، الرمل، والحجر! المرأة فيك هي هذا السر، نعم أنتِ، يا من لها الشراسة أنعم من كل النساء المتحضرات اللاتي عرفتهن في الماضي.
- أنت تبالغ، يا آلايف! أنت عاشق! لتترك كل هذا إلى الغد، ولتفكر في معركتك القادمة، فلن تكون الأشياء سهلة.
- على العكس، ستكون أكثر سهولة مما هو متوقع، لأني عاشقٌ حقًا.
أسعدها كلامي، فعانقتني، وقبلتني، وأنا أفكر في أمها. لم تكن تعلم إذا ما كانت حية أم ميتة. نهضتُ. كان هناك صرصار في زاوية. قتلته بعنف أذهل عيون المها، وجمدها. بعد ذلك، خرجت أتمشى في الليل تحت سماء ملأى بالأضواء الزرقاء والأقواس الخضراء. كان الرمل يخفق كالقلب لحرارة النهار، وكانت تفجرات القنابل تأتي من بعيد. كان احتفالاً وثنيًا عليّ واجب الاشتراك فيه، بكل قوة حبي لها.







6

كلفنا أنا وسلامان عيون المها البدوية بالذهاب إلى أبسال لتطلب دعمه لنا من جبهة الغرب. نشرنا قواتنا من الشرق، وسرنا دون أدنى مقاومة حتى مدينة الخفجي. دخلنا المدينة التي أخليت من سكانها، وأقمنا في فندقها السياحي الوحيد مقرنا لقيادة العمليات. كنت أعرف أن القوات الأمريكية ستهاجم مع هبوط الليل، وكنت أثق بأبسال، أبسال الآخر، أبسال الذي لم تحرقه الشمس بعد. سيفك الحصار، فهو ذراعي الأيمن قبل كل شيء، وهو يعلم أن كل ما أعمله في صالحه، ومن أجل الحقيقة التي يؤمن بها. حقيقته. حقيقتي. حقيقتنا. كنا أنا وإياه مع السلام، هذا السلام الذي لن نستطيع فرضه إلا بقوة السلاح.
تفاجأت بهجوم على نطاق واسع، استعملوا فيه شتى أنواع الأسلحة، أسلحة الليزر كانت أفتكها، فأيقنت أن عيون المها البدوية لم تنجح في إيصال الرسالة. شغلت بالي عيون المها البدوية، كانت امرأتي بعد أن فقدت امرأتي، وكانت ماء الصحراء التي تحرق الشمس فيها كل حياة.
قاتلنا أنا وسلامان جنبًا إلى جنب، جعل الخوف بعض رجاله يهربون، وقاتل الآخرون بشجاعة فائقة. قاتل كل واحد منهم كمائة. كان الحلم يوجه فوهات المدافع. حلمهم. نجحنا في الاحتفاظ بالمدينة، فشد سلامان على يدي: "إذا حررنا الخفجي حررنا القدس!" هتف. على هذه الكلمات، رأيتني أدخل القدس كعمر بن الخطاب فاتحًا! شككت في أصلي، وأنا أتذكر أني لا أعرف أمي ولا أعرف أبي، فهل كان في عرقي دم عربي؟ كنت سعيدًا بقدر ما كان سلامان سعيدًا. اجتاحني حلمه. غدت القدس هدفي الثاني. خلتني على براقٍ قادمًا عندما شعرت بالفراغ فجأة. عُقابي كان ميتًا. اشتقت إليه، واشتقت إلى أمي وامرأتي وابنتي المتجسدات في عيون مهاي. كنت حزينًا. كنت حزينًا جدًا. كنت حزينًا وغاضبًا.
وبينا كنت أنتظر هجومًا جديدًا للأمريكيين، جاء سلامان يخبرني أن كل رؤساء عشائر الخفجي يجتمعون في قاعة الفندق ليقسموا لي يمين الولاء، فرفضت استقبالهم:
- طالما بقيت الخفجي تحت قيادتي، أنا لا أحتاج إلى يمين ولاء من أحد، عليهم أن يعتادوا على الوضع الجديد للمدينة دون أن يشعروا باضطرارهم إلى إبداء مثل علامات النفاق هذه.
- ولكنها العادات هنا!
- عليهم أن يبدلوا عاداتهم. أنا هنا من أجل انتصار المعرفة، أنا هنا من أجل صالح أطفالهم، يعني مستقبل البلد.
كنت أقول لنفسي: "إنها رغبة عيون المها...". في الواقع، كان ذلك الهدف الأول لانتصاري: المعرفة، والتي ستكون مستقبل الصحراء. كل ما كنا ننتظره من فتح العالم كان يُختصر بإرساء قواعد المعرفة وإقامة موضة جديدة للحياة، حيث يكون المرء حرًا في اختياره وفي تفكيره. لم يكن هذا يعارض في شيء حقيقتي.
- آلايف! صاح سلامان. ليس هذا ما اتفقنا عليه!
- ما الذي اتفقنا عليه؟
- اتفقنا على أن تساعدني على توحيد هذا البلد وإقامة العدالة فيه، ويمين الولاء لرؤساء العشائر هو المرحلة الأولى لتحقيق ذلك.
- هل تعرف أكثر ما يشغلني في هذه اللحظة؟ كيف نرد الهجوم الأمريكي الجديد الذي لن يتأخر عن الوقوع، وإقامة السلام الذي لن يكون ممكنًا دون تأمين الحد الأقصى الأمني.
قال سلامان حائرًا:
- سأقول لهم إنك تحضّر معركتك القادمة، وسأطلب منهم العودة بعد معرفتنا لنتائج القتال.
- لا. سيشكّون في قوتنا وفي عزمنا على الاحتفاظ بالخفجي. خذ يمين ولائهم عني.
- ولكن لن يكون لهذا أي قدر يذكر، فالكل يعلم أنك أنت العقل المدبر للعملية.
أراد الذهاب، فأوقفته:
- طيب. سأستقبلهم. ومع ذلك، اعلم أنني ضد هذه البروتوكولات التي لا فائدة منها.
- بروتوكولات هي في غاية الأهمية لهم، فهم من خلالك سيحسون بأنفسهم أقوياء كالآلهة، وسيخضعون لي فيما بعد دون أن يطرحوا على أنفسهم سؤالاً واحدًا. في الوقت الحاضر، أنا في حاجة ماسة إليك، وفي المستقبل القريب، ستكون أنت في حاجة إليّ. إذن، لن أتردد قيد أنملة، إذا ما كان الأمر ضروريًا لنا جميعًا، عن ذبحهم من أجل أن يتوحدوا تحت رايتك.
- ولكن ليست هذه عدالتي!
- في هذه الحال، سنقول إنها عدالة سلامان، وليغفر الله لنا!
انفجر ضاحكًا، وأنا معه. كان المنطق ذاته من وراء مأساة أبوي عيون المها البدوية. وبينما كان رؤساء العشائر يجثون على قدميّ، ويهمسون يمين الولاء، كنت أبحث بينهم عن خاطف أمها وقاتل أبيها. كنت أنْهَمُ في الوقوع عليه. وأنا أنظر إلى أحدهم، كنت أقول لنفسي ها هو ذا، فقط لأن له حاجبين كثين. لا، بل هذا، لِنَدَبَةٍ في شفتيه. لا، لا، لا الواحد ولا الآخر، بالأحرى هذا. لأنه أشقر مثلي، وعينيه زرقاوان. لم يكن الجمال الغربي مقدسًا، من الممكن أن يكون مجرمًا وبدويًا في الوقت نفسه.
انتزعتني صرخات رؤساء العشائر من أفكاري، كانوا على وشك القتال ما بينهم بالسيف والنار من أجل أن يحظوا بالقرب أكثر ما يكون مني، وكل واحد يكره الآخر كره النار للماء. نظرت إلى سلامان، وأنا أغلي من فورة الغضب:
- إذا كان هذا هو ثمن الإخلاص، فإني تاركهم لك جميعًا! وحّدهم كما يروق لك، مهمات أخرى بانتظاري!
من نافذة الفندق، رأيت الدبابات الأمريكية وهي تتقدم بحذر. كانوا قد قضوا على معظمنا، فاضمحلت كل أحلامي، كل آمالي. قررت القيام بهجوم مضاد مع من تبقى لنا من رجال وعتاد. بدون أحلام ولا آمال، نزلت إلى شارع المدينة العام، وأخذت أزحف في بحيرات الدم. بَرَقَ الدم في عروقي لَذة، فغمست أصابعي المجنونة فيه. جاء سلامان، وأخذ يمسحه بكوفيته، لكني خلصته إياها، ووضعتها ملطخة بالدم على رأسي. قال لي إن معاوني قد تم أسره، فامتطيت دبابة كانت لنا، وأنا أرفع رأسي عاليًا. قدت فيلقنا المدرع باتجاه الأمريكان لأحرر معاوني، وأجبرهم على التراجع. حررت معاوني، وأثار تراجع العدو اللامنتظم ضحكي. عندما كنت أحرك ذراعي مشيرًا إلى الأمام، إلى الأمام، إلى الأمام، كانت الصواريخ تتفجر من حولي. كانت رائحة الحرب، في تلك اللحظة، ألذ رائحة، ورائحة الدم المحترق، القمر المحترق، وكانت رائحة شعر عيون المها الأسود من كل الموت المشتعل أسوغ رائحة. أثارت في نفسي رائحة شعر امرأتي المحترق فجأة شعورًا بربريًا، فأمرت بتشديد القتال. كنت أتشهى رؤية الأشلاء والحطام، وارتقاء قمم المجد على مرأى احتراق النجوم في ساحات المجازر. رفعت رأسي إلى السماء. كانت نجوم أخرى ترقص في أبهى الحلل. كانت تتألق، تقفز، تثرثر، تعلق بسعادة على عيد الموت الذي كان يدور على الأرض. كانت تتنفس بفرح الأطفال الخارجين من المدرسة. كانت تحس بمتعة أصابع عيون المها البدوية حول عنقي المُسْتَرَقّ. كنت السماء والأرض، الحب والموت، الضحك والبكاء، اللذة والقيء... حتى اللحظة التي وقفتُ فيها على أن الأمريكان قد قلبوا الأدوار، وأننا نخسر بالتدريج المعركة. انتهى حبوري المُسَلْسِل. لم تصل رسالتنا بالفعل إلى عنوانها. سألت سلامان أين كانت امرأتي. لم يكن يعلم. سألت عنها معاوني. هو أيضًا لم يكن يعلم. قبل أن نسلم أنفسنا، عرفت أن معاوني، هذا الذي حررته، قد حال دون ذهابها إلى أبسال، وقد اغتصبها. أخرجت مسدسي، ورميت رأسه بسبع رصاصات هشمت جمجمته. عجنت دماغه. أردت أن آكل منه، لأسكّن روعي، فمنعني سلامان. انتهى جنودي من تسليم أنفسهم، وأعادوا لي امرأتي، فركضت لأجدها، ولأشدها على قلبي. جففت دمعها بشفتيّ، وألبستها سترتي. أخذتها من كتفيها، وذهبت بها إلى صفوف الأمريكان بوصفها جنرالتي.






7

أراد الطبيب العسكري أن يضمد كفي المحترقة، فرفضت، وقلت هي التي عالجتها بمسحوق جلد حنش أسود، وأنا أشير إلى عيون المها البدوية، فأذهلته.
كان الجنود والضباط يرمون البدوية التي أجذبها بقوة من كتفيها بنظرات الازدراء والاستنكار. ركبنا سيارة عسكرية أوصلتنا إلى مركز القيادة في الظهران. دخلنا قاعة كبيرة، وعيون المها تسير إلى جانبي، ونحن نلوث الرخام بأقدامنا، والشرر من عينيّ يتطاير غضبًا في كل الاتجاهات. عند باب القاعة التي تجتمع فيها القيادة، أراد الحارس منعها من الدخول، فدفعت الباب بقدمي، ودفعتها إلى الداخل على احتجاج الحضور. جاء أبسال في لباس جنرال، ورجاني همسًا أن أخرجها في الحال، وهو يشدد على عبارة "روبنسون رجاء!" عند ذلك، عرفت أن أبسال الآخر كان خيمرًا، وأن في هذا العالم لم يكن يمكن أن توجد حقيقة أخرى غير حقيقة الحرب والحقد. صحت بهم، وأنا أصوب إصبعي نحو عيون المها: "بفضل هذا "الشيء" الذي تمجونه انتصرتم عليّ، أيها السادة!" أجلستها على رأس الطاولة، وصببت لها بيد ترتعش كأس ماء شربته، ولي أخرى شربتها، وكل جسدي أخذ يرتعش. طلبت من عيون المها البدوية أن تفتتح الجلسة، فابتسمت ابتسامة أضاءتها كلها، وصاحت: "يعيش آلايف جزيرة العرب!" كانت طريقتها في افتتاح الجلسة. انحنيت على أذنها، وعدت أطلب منها أن تنتظرني في الخارج واعدًا ألا أتأخر عليها. خرجت عيون المها البدوية تحت النظرات الحاقدة للجميع، و، في اللحظة التي انغلق فيها الباب من ورائها، تفجرت صيحات الاحتجاج من كل جانب. "بعد أن افتتحت عيون المها البدوية الجلسة، بدأت الكلام، يجدر بي أن أقول لكم إنكم قد ارتكبتم خطأ فاحشًا في أخذكم مدينة الخفجي. تحت قيادتي كانت الخفجي أمريكية، والآن هي غير ذلك، تحت قيادتي كان يمكن أن تكون نقطة الانطلاق لتوحيد كل جزيرة العرب، والآن هي غير ذلك. لكني لم آت هنا كي أقدم شرحًا لمسألة مرفوضة سلفًا من طرفكم، يا أدوات اقتصاد السوق! أنا هنا كي أقدم استقالتي."
علت جلبتهم من جديد، فأسكتهم أبسال. قال إن القيادة ترفض استقالتي ما بقيت الحرب دائرة، وقال إن الخفجي ليست مهمة، وهم ما ربحوا معركتها إلا لأجل أن ألتحق بصفوفهم، أضف إلى ذلك أن القيادة عينتني على رأس الجيش الذي سيدخل بغداد قبل الفرنسيين، وهذه عملية لها من الأهمية الشيء الكثير.
رفضت التعيين، ورفضت دخول بغداد على رأس القوات الأمريكية. صحت: "لقد فعلتم كل ما في وسعكم على تمزيق هذا البلد، ولكن اعلموا حتى ولو دخلتم بغداد، ستولد هذه الأمة من رمادها!" وتركتهم متجاهلاً احتجاجاتهم المحتدة.
أول ما رأتني عيون المها البدوية، اندفعت نحوي، وهي تبتسم. كانت تحزنني ابتسامتها. لم أكن أدري لماذا. كانت تبدو على الرغم من تعبها مشرقة كشمس صغيرة على كتف الربع الخالي. أخذتها من ذراعها، تحت كل هذه النظرات التي تشعر بوجودها كاعتداء، ولأضرم شعورهم العدائي أكثر، لففت خاصرتها بذراعي، وجذبتها إليّ. قادني أحد المارينز إلى شقة من شقق الضباط، فذهبت عيون المها البدوية أول ما ذهبت إلى قاعة الحمام. سألتني: "ماذا نفعل في قاعة الحمام؟" "نفعل هذا"، أجبت، وأنا أفتح الحنفيات، وأملأ الحوض بالماء. أخذت ترشقني بالماء، فحملتها، وأنا أقهقه من عظيم غبطتي، ورميتها في الماء بكامل ثيابها.
تركت بدويتي تستحم على هواها، ومن النافذة رأيت طائراتنا التي لا تتوقف عن الإغارة. لم أكن بعيدًا عنها، وكان الرجال يعدون إطلاق الصواريخ العملاقة الموجهة بالليزر. تساءلت إذا ما كان من الخطأ استقالتي. ستطلق استقالتي سراح أصابع الإخطبوط لسحق بغداد. كانوا يهدمونها قنطرة قنطرة وحجرًا حجرًا، وسيقضون عليها كطفلة مكززة من الرعب.
سمعت غناء عيون المها البدوية، وكأنها لا تسمع محركات الطائرات، وكأنها لا تريد سماعها. من هذه الناحية من خط القتال، لم تكن الحرب حربها. شدني جمال صوتها. ذكرني صوتها بمغنية في علبة ليل من علب شارع أبي نواس. كم من الوقت مضى منذ ذلك اليوم! كانت بغداد مدينة للسلام، وأنا، كنت سائحًا يحلم بألف ليلة ونهد.
سمعتها تردد "آلايف، آلايف، آلايف" مرات عديدة، وبإيقاعات مختلفة، ثم همست "آلايف، حبيبي!" تقدمت من الباب المنفرج، ورأيتها، وهي تخرج من الماء، فأذهلني جمالها. اكتشفت جسد زوجتي العاري. جمدني انسكاب ساقيها. سمرني انحدار خاصرتيها. دمرني كبرياء نهديها.
غادرت عيون المها البدوية الحمام، وهي ترتدي قميصًا عسكريًا، وتتلوى من كثرة الضحك على نفسها. قالت إنها وضعته بانتظار أن ينشف ثوبها. قلت: "إنه دوري"، وأنا أتجه إلى قاعة الحمام. قبل أن أغلق الباب، ناديتها. التفتتْ، فنظرتُ إليها دون أن أضيف شيئًا. قلت لنفسي: بعد الحرب، سأتزوج بك!
في اللحظة ذاتها، دوى انفجار قوي على مقربة من البناية التي كنا فيها. جرت عيون المها نحوي، بيضاء من الرعب، وارتمت بين ذراعيّ. طمأنتها: "لا تخافي!" مشيت بها إلى النافذة، فرأينا صاروخ سكود وآخر باتريوت متعانقين في ملحق للقيادة العامة، والدنيا قامت وقعدت، وسيارات الإسعاف زمرت وحذرت. أبعدت عيون المها عن النافذة لئلا ترى الأجساد الممزقة، فانفجرت تبكي. أخذت تجدف: "الصحراء كبيرة، لماذا لا نسكن فيها كلنا دون أن نتذابح؟" مسحتُ دمعها، وهمست لها: "أريد أن أجعل منك امرأتي". حيرتها رغبتي. رفرف رمشاها من الفرح، ولسانها لا يتوقف عن ترداد: "أنت مجنون، يا آلايف! ستتزوج من بدوية تأخذها إلى نيويورك! أنت مجنون بالفعل، يا آلايف! أنت مجنون، وأنا، أيضًا، مجنونة، مثلك!"
- لن نذهب إلى نيويورك.
- إلى أين سنذهب إذن؟
- إلى جزيرة مهجورة لن تكون إلا لنا، بحيواناتها وأشجارها وأنهارها.
سألت إذا ما كانت حيواناتها خطيرة.
- كل حيواناتها أليفة: الذئب ألطف من كلب، والأسد أجبن من أرنب، والثعلب صديق الدجاج.
- لن أذهب.
- لماذا؟ كل الحيوانات مسالمة، أؤكد لك، وستكون كلها تحت إمرتك.
- البلد الذي فيه الأسد جبان ليس بلدًا! لماذا تريد أن تتبدل الأشياء في طبيعتها، يا آلايف؟ لماذا تتجاهل أن الوحشية طريقة في الوجود؟ أنا شخصيًا لن أغادر الصحراء. كل شيء هنا بقي على حاله الطبيعية: الذئب ذئب والعقرب عقرب والقمر بربريّ. ستبقى معي في الصحراء، سنعيش على إيقاعنا ككل هذه الحيوانات، وسنكون أسعد الناس.
- لنكون الأسعد، علينا الابتعاد أكثر ما يكون عن الناس. انظري كيف يشنون الحروب من أجل البنزين، يتمزقون، يقتتلون. هل كانوا بحاجة إليه قبل مائة عام؟
- إنها المعرفة، يا آلايف، معرفتكم! معرفة لا تعرف سيدًا ولا إلهًا!
- هذه المعرفة لا أريدها. تبعدني هذه المعرفة عني. تجعلني إلى الأبد مستعبدًا. أريد أن أكون حرًا وليس مستعبدًا أو متوحشًا.
- وإذا كان التوحش وجهًا من وجوه شخصيتك، لم لا؟
- على حساب الآخرين؟
- هنا يكمن السؤال منذ آدم. لن تبدل شيئًا، لن يمكنك تبديل أي شيء في أخلاق البشر. أبدل الله طبائع الحيوان في جزيرتك وسمح لك بالعيش معها دون أن تعرف إذا كان يريد أن يجربك. أرادك أن تأتي هنا لتحفظ في صدرك أن صفة الشراسة للوحشيّ جزء من طبيعته، وأن لا قيمة له دون هذه الصفة. أراد أيضًا أن تسلم بأن في الوحشية ناحية جميلة. أراد في الأخير أن تفضي إلى الجميل في الإنسان، أيًا كان الشر الذي يفعله.
- عرفت في جزيرتي الجمال بعد أن عرّفني الله بجماله. كان معي طوال الوقت في عملي وتعبدي، وكان يرضيني كليًا.
- الله معنا في كل مكان. وجوده يبلغ الأوج هنا في الصحراء. وُلدت الأديان كلها هنا، ففي الرمل كُتبت أقدار البشر، وليس في السماء. الصحراء بيت الأمم. إنها بقدر نعومة المرأة وبقدر رعونة العاصفة. عرفتَ في جزيرتك الجمال، وعرّفك الله بجماله، لتأتي هنا، وتدرك جمال البشر على الرغم من الحروب، لتجعلهم يفضون إلى جماله. لا تعد إلى جزيرتك، وإلا عدت القهقرى. سترتكب معصية يكون ثمنها أقسى العقابات الربانية. كما أمكنه قلب الطبيعة لأجلك، سيمكنه قلبها ضدك. مهمتك هنا من أجل الجميع. سيكون الله معك، وأنا أيضًا، إن شاء الله. وستنتصر.





8

اختطفوا عيون المها البدوية. قال لي أبسال إنهم جنود سلامان. أعاد تنظيم جيشه، ورابض على الحدود الكويتية. لم أصدقه إلا بعد أن رأيت صورًا لاختطافها التقطتها الأقمار الصناعية. بعد هذا الحدث، قال لي أبسال، لم يعد هناك معنى لاستقالتي، فانفجرت باكيًا.
إذا رفضتُ مرة جديدة أن آخذ رأس الجيش الذي كان يستعد لدخول بغداد، وافقتُ، بالمقابل، على قيادة القوات التي ستغزو الكويت، فأقتل سلامان، وأحرر امرأتي من براثنه. "سلامان استقوى كثيرًا، قال أبسال لي، وسيكون لك من الصعوبة بمكان دخول الكويت." "الكويت ليست بغداد، سأهدمها حجرًا حجرًا!" ابتسم أبسال، وهمس في أذني: "ستكون لك عشرة بالمائة." لم أفهم ما يعني. "إذا هدمت الكويت ستستلم عشرة بالمائة من الشركات الأمريكية التي ستعيد بناءها." قمت، وطردته: "أنت لا تفكر في زوجتي المختطفة، أيها النذل!"
ونحن نزحف بدباباتنا التي ترى كل شيء في الليل كما في النهار، لمحت جوادًا أبيض ينبثق من قلب الظلام، ويقمص قمصًا، ثم وصلني صهيله الذي فيه بحة. ساعتئذ، أمرت بقصف مواقع سلامان، وأنا أحذر رجالي من إصابة الجواد. سألني معاوني الجديد عن أي جواد أتحدث، فليس من أحد على مرمى مدافعنا سوى سلامان. عدت أفحص الأفق، فلم يكن الجواد الأبيض هناك.
بدأنا في قصف كل شبر من الأرض التي كنا سنعبرها خوفًا من الألغام، وأحلنا طريق الكويت إلى جهنم. بصقت طائراتنا المروحية صواريخها الموجهة تلقائيًا مدمرةً أثناء عبورها كل شيء: الموانع والأخاديد والتحصينات. لم يطل بنا الأمر حتى وجدنا أنفسنا أمام جنود سلامان. من بينهم كان الذين هربوا، حسب اتفاق بين القيادة وضباطهم، في اللحظة التي وصلنا فيها. سمعنا سلامان يصرخ، ويرمي بالرصاص من أمسك بهم. لكن الأمور، رغم ذلك، لم تكن سهلة. كنت مصممًا على إلحاق الهزيمة به. لم أكن أقاتل من أجل أمريكا، كنت أقاتل من أجل عيون المها.
تذكرت ذلك الجندي الذي التقيته خلال إحدى حروبي الماضية، والذي كان يقاتل كأحسن ما يقاتل الرجال، ولم يضعف أبدًا. بقي صامدًا حتى آخر الحرب التي كسبها رغم الكمثرى وجهنم وموت معظم الجنود. فكرت أنه كان يقاتل من أجل أمريكا، أو، على الأقل لأنه كان يؤمن بالقضية التي يخاطر بحياته من أجلها بشجاعة لا توصف. في أحد الأيام، أراد جندي آخر أن يقطف وردة زرقاء، زنبقة، ليشكل بها خوذته، فاعترض طريقه، وهو يرمي إلى قتله. لما طلبت إليه تفسير رد فعله المفرط، قال لي إن زوجته ماتت في آخر فصل الورود قبل ذهابه إلى القتال، وإنه زرع حول قبرها زنابق مشابهة لهذه، وهو كان يقاتل بكل قواه للدفاع عنها. كانت الزنابق لامرأته، وكان من واجبه أن يحميها. لأول مرة منذ أيام من القتال طويلة، لاحظت الزنابق الزرقاء هنا وهناك، في حقل القتال.
حَمِيَ وطيس المعركة، فجاء أبسال يعتذر لي. دون توقع مني، أراد أن يسمع رأيي في لباسه العسكري الجديد.
- هل الوقت لهذا؟
- علينا أن نبدو في أبهى حللنا عندما نقتحم مواقع سلامان.
سألته ساخرًا إن كانت له نسبة مئوية من دار الخياطة.
- روبنسون، أنت لن تتبدل! يجب أن تربح الحرب أولاً، سنصفي حساباتنا فيما بعد.
أشار بإصبعه إلى حافلة ملأى بالبزات العسكرية الجديدة:
- كل هذا من أجل الرجال. عليهم أن يكونوا كاملين في أعين العالم. ستصورهم الكاميرات، وعليهم أن يثيروا الحسد في قلوب كل الأمم. يجب أن تنتصر على سلامان، وعندما سيبدو رجالك كأجمل الرجال ورجاله الأكثر دمامة، سيعرف العالم أجمع أن هزيمته ماحقة لا رجعة فيها.
تحدث أبسال عن وجوه رجال سلامان، البترول الأسود، الأسود الأشنع، أكثر منها حلاوة. تحدث أيضًا عن الأوكار القذرة للثعابين، الأقذر من أي شيء، والأنظف من خنادقهم. خلال ذلك، كنت أفكر في كل الأسلحة الكيماوية التي تهددنا. كان أبسال معتوهًا، واحدًا من الجنرالات الظامئين للدم. دفعني كلامه إلى الإجهاز على العدو، فأضع حدًا لكل هذا الموت، وأستعيد زوجتي.
جرفتُ إذن سلامان في طوفان من الصواعق والقنابل، فقاوم بشراسة. أرسل رسله الذين قالوا لي إن أبسال كذب عليّ، سلامان لم يختطف امرأتي، وما كل هذا إلا للإيقاع بينه وبيني. ليربحوا الحرب، كانوا بحاجة إلى استراتيجي استثناني وجدوه فيّ. كل هذا لم يكن سوى كذبة! قتلتُ الرسل. في تلك اللحظة، جعلتني ذكرى ابتسامة عيون المها البدوية مجنونًا، استبد بي جنون مدمر. في الوقت الماضي، كانت هذه الابتسامة نفسها تملأ قلبي بالحزن. في الوقت الحاضر، تولد هذه الابتسامة فيّ الرغبة في تحويل العالم أجمع إلى عدم. كنت أريد ارتكاب مذبحة من أجل شعرة واحدة لحبيبتي مقتلعة. كنت أرغب في قتل جميع البشر، البشر الذين معي والبشر الذين مع سلامان، من أجل خصلة ملوثة بوحل الحرب. كنت أود أن أكون الحي الوحيد معها في هذا الكون، ولا بأس أن تندق أركانه. لم أعد أريد الرحيل معها إلى جزيرتي. أردت أن أصنع من العالم جزيرة لكلينا.
سبرت الأفق من جديد، فرأيت الجواد الأبيض، وهو ينبثق من النار. سألت معاوني إذا كان يراه، فنفى. أكدت أنه هناك، وأنا أحدد موضعه، فألح معاوني: "من الهيكل الحربي الذي نحن فيه، نستطيع أن نرى كل شيء حتى الصراصير الخارجة من بيضها." "هل أحببت يومًا؟" فاجأه سؤالي. ابتسم. أحب أكثر من مرة. اتهمته بالكذب: "لو أحببت لرأيت الجواد الأبيض المنبثق من جحيم المعارك. إنه جواد عاشق لا يراه إلا شخص عاشق."
عند ذلك، اعترف معاوني أنه لم يحب أبدًا. ثم غدا حزينًا كما لو كان، غداة الحرب، غير قادر على القتال. اعتذرت، وطلبت منه أن يحاذر من إصابة الجواد الأبيض الذي هناك. كلمته عن زوجتي: "بدوية، لون عينيها أزرق-أخضر، أزرق-أخضر غامق! من أجل عينيها أحرق العالم!" فجأة، صاح معاوني. سمع صهيلاً شاكيًا، فابتسمت: "لقد وقعت في حب زوجتي! زوجتي لن تحب أحدًا غيري!" سمعت بدوري الصهيل. كان يشبه أنين أحدهم يحاولون خنقه. غير بعيد عن الجواد الأبيض الجنونيّ، رأيت حِجْرًا أصابتها قذيفة، وهي تضرب بجسدها الأرض في الدم، فاقتحمتُ آخر مواقع سلامان.





9

أحضروا لي سلامان. ألبسه المارينز الثياب الواقية من الغازات السامة. سقط على قدميّ، وأخذ يقبّل يديّ. كان وجهه وجهًا لطفل يختفي خلف القناع الذي يعطيه هيئة مرعبة. أمرتهم بنزعه، فاحتجوا متذرعين بأنه حاكم العرب، وكل احتياطات الأمن هذه ضرورية. "أنا آلايف العرب، صحت بهم، وكلمتي هي التي ستمشي!" نفذوا أمري، وخلعوا قناعه. كان التهديد الكيميائي تهديدًا للجميع عربًا وغير عرب، حاكمًا للعرب وحاكمًا للأمريكيين. وحتى تلك اللحظة، لم يكن هناك أي تهديد.
سألت سلامان في أي مكان يعتقل زوجتي رهينة، فأعاد أنه لم يختطفها. هددته بنسف دماغه، وأنا أدفعه إلى الخلف، وأدفع سلاحي تحت ذقنه. قَبّل يديّ من جديد، ورجاني ألا أفعل لأنه بريء. الله يعلم أنه بريء، وأنا، روبنسون، هل نسيت من أنا؟ أنا الأثير، كيف لا أعلم أنه بريء؟ "أنا آلايف العرب، إله الحرب ربما، وليس إلههم، صحت. أنا لا أعلم شيئًا!" "أبسال هو الذي دبر كل شيء، أكد. وإذا لم تسارع بالذهاب إليها، صار عليك من الصعب إنقاذها." لم يكن يكذب. حتى الماضي القريب، كان حليفي، وأبدًا لم يخني.
طلبت من مارينزيّ أن يحرسوه ريثما أتأكد من صحة كلامه، وأوصيتهم به خيرًا. تركت معاوني يقصف الكويت، ويهدمها شارعًا شارعًا، ليمحقها قبل أن ندخلها، وطرت في أسرع طائرة مروحية إلى أبسال. اعترف بكل شيء، بأنه هم من دبر أمر اختطاف عيون المها البدوية، لأني كنت أَضيع، وأنا معها. كان على أمريكا فقط الإفادة من ذكائي وكفاءتي. حسب ما قال، أنا استراتيجي منقطع النظير، ومخرج هذه الحرب يتوقف عليّ. شتم البادية وبدوها: "بيوت مائنا أنظف من شرفهم! وتلك البدوية هي خزيك، يا روبنسون!"
انقضضت عليه بسلاحي، ففصل بيننا جنوده. لم يترجَ، لم يرجُني ألا أفعل، بل على العكس. حثني على قتله، ليخلص من الزمن القذر الذي عاشه معي، في الجيش، وفي الجزيرة. سكّنْتُ روعي، وسألت أين توجد زوجتي. أردت أن آخذها، وأذهب بها بعيدًا إلى آخر الدنيا. طلب مني أبسال أن أصحو، وأن أتبع قدري. "إنها الحرب الأخيرة، قال، وقدرك اليوم هو أرض المعركة! عليك أن تثبت جدارتك في القتال. عليك أن تكون أنموذجًا للأجيال القادمة. أنت البطل الذي سيخلده التاريخ. عصرنا خاتمة العصور التي طبعها الأبطال. بعد هذا العصر لا أبطال هناك. أبطال اليوم وغدًا هم نحن، آخر الأبطال، سيدخل عالم الغد في عهد الصغار الخرعين!" أمسكته من خناقه: "إني أترك لك كل شيء، البطولة والشجاعة وشرف القتال، قلت، فقط أين امرأتي؟ سأهرب من هذا الكابوس، سأذهب معها إلى آخر الدنيا."
نجح في انتزاع نفسه من قبضتي، وأمر رجاله بتجريدي من سلاحي. بغطرسة، قال لي إنه صفاها حال اختطافها، فلم أصدقه. اتهمته بالكذب، وأنا أحاول الإفلات من قبضة جنوده. أخذ الجواد الأبيض الذي فيّ يصهل، ويبكي، وينادي امرأتي. فجأة، لمحت العينين الفارغتين لعيون المها قربي، بينما تبتسم شفتاها ابتسامة جامدة هزتني أكثر من كل الحروب. نَطّتْ على وجنتيها، وجاءت بذراعيها الممدودتين لتعانقني دون أن يتلامس جسدانا. سمعتها تهمس في أذنيّ بقدميها، وكانت تضحك من صدرها. صمدتُ أمام ضحكها، واستسلمتُ لابتسامتها. كنت أريد أن تقتلني بشفتيها، أن تصوبهما نحوي، وتطلق رصاصتها الأخيرة. كنت أريد أن تمزقني برقتها، كنت أريد أن تدمرني بحنانها. كنت أريد أن تخدعني بصدقها، كنت أريد أن تخلص لي بكذبها. كنت أريد أن تحولني بأشواقها إلى منقار عصفور ناعم، منقار منكسر، ولا بأس أن أموت غدًا بين ذراعيها. كنت أريد الموت من أجلها، لأنها بكل بساطة تريد الحياة، لكنها ماتت من أجلي، وتركتني وحيدًا مدى الحياة.
تمنيت على أبسال قتلي، لكنه رفض:
- لم تنته الحرب بعد، ونحن بحاجة إليك. حتى ولو لم نكن بحاجة إليك، أنا لا أستطيع قتل أمريكي من خِصلتك.
- اترك إذن رجال سلامان يقتلونني.
أجاب بلسانِ كمثرى:
- ألا تفهم؟ نحن بحاجة إليك ما احتاجت إليك الحرب.
- بعد كل ما فعلت، تعرف جيدًا أنني لن أقاتل إلى جانبك.
- سأجبرك على ذلك.
- لا أحد يستطيع إجباري على فعل ما لا أريد. تعرف كم أنا عنيد.
- أفهم عنادك عندما كان الكل معك. الآن، لا أحد غيري معك. أنت مضطرٌ إلى قبول كل شيء، فلا خيار لك: بين الحياة والحياة لن تختار الموت.
- دفعتَنِي إلى كره الحياة بعد مقتل امرأتي، أريد الموت من أجلها، أريد اللحاق بها.
- تلك البدوية لم تكن امرأتك! أتكون قد تزوجت من الجهل، يا روبنسون، وأنت لا تعلم؟
- تلك المرأة التي تدعوها بدوية كانت أكثر منك علمًا! لقد فهمت أن المعرفة سلوك قبل أن تكون مدفعًا فائق الحداثة لا يخطئ أبدًا هدفه.
عدت أرجوه أن يجهز عليّ، أن يضع حدًا لعذابي، فأتى بسلامان. كان من واجبه أن يقتله هو، فمنعته:
- إذا قتلت سلامان أضعت نفوذك على كل جزيرة العرب، سيتحد العرب حول خلفه، وسلامان سيفرقهم، سيهدم مدنهم، سيرمل نساءهم، وسيغتصب أموالهم. إنه الدموي لهم، سلامان الرهيب! وطالما بقي على قيد الحياة بقي العرب متفرقين وتحت قيادتك.
أقنعته. كنت أبحث فقط عن إنقاذ حليفي القديم. أعاده أبسال حاكمًا على بلده.
- شئت أم أبيت، يا روبنسون، ستدخل بغداد على رأس جيشنا. بعد ذلك، خذ الطريق التي تعجبك. لن أقتلك، ولن أتركك تقتل نفسك قبل أن تنتهي الحرب.






10

في الصحراء، همت على وجهي. أردت الموت للحاق بامرأتي في بلدِ أهوالِ الخلاص. رفض أبسال قتلي، ولم أستطع قتل نفسي. أحسستني في غاية الجبن. لا عجب في هذا، وهذه صفة من أقوى صفاتي، قبل حربي الأولى. مع ذلك، لم تشأ الصحراء الجحيمية أن تطمر جسدي الجهنميّ.
مشيت طويلاً، مشيت كثيرًا، باحثًا عن الابتعاد إلى الأبد عن ضوضاء الحرب. رغبت في الوصول إلى نقطة عذراء لم تفتضها المدافع. في ذلك المكان الأبيض من كشح امرأة، سينقض الموت عليّ كنمر وحشيّ بالفطرة. كانت الوحشية بالنسبة لي أصل الرفاهية. تمنيت أن أكون فريستها، أن أقدم نفسي تضحيةً لرفعتها.
لم أَخَفْ من وجودي وحيدًا تحت رحمة الشمس، بعيدًا عن الحضارة. لم تكن الكثبان تنفصل عن بعضها، كانت كالمرايا تفضي إلى بعضها. آه! كم كانت مرايا الصحراء خلابة! كانت الشمس بعنجهيتها الأجمل بين كل الكواكب التي تتلألأ في الطرف الآخر من العالم. كان صلفها وكبرياؤها يأسران فؤادي. لم أحلم يومًا بجرم أجمل من جرم الشمس التي ستقتلني. فقدت قوتي بالتدريج... بسعادة لا توصف. كنت أموت موتًا طبيعيًا، بقوة الطبيعة-الأم الوحيدة، بإرادة الشمس الوحيدة، في ذلك المكان البربريّ المنعزل عن العالم.
وبينما كنت على وشك الموت الذي أحلم به، سعيدًا كعُقابٍ تذيبُ الشمسُ جناحيه ذهبًا وشعاعًا أبديًا، إذا براعٍ بدويٍّ يعصر على فمي ضرع ماعز، ويعيدني إلى حديد الحياة من جديد. كان ذاهبًا إلى الحرب، فوجدني في طريقه. سألني إذا ما كنت ضابطًا عربيًا أو أمريكيًا، ورجاني أن آخذه إلى الجبهة التي أنتمي إليها: كان يريد القتال، فقط. "أنا لا أنتمي إلى أية جبهة... أنا ضد الحرب!" نعتني عندئذ بالجبان دون أن يعرف أنني أعتبر ذلك مدحًا. "أفضّل القتال إلى جانب الأمريكان، الوطنية اليوم أن تكسب الحرب بغض النظر عن هوية المقاتلين، والأمريكان وحدهم المؤهلون لفعل هذا." رجاني أن أساعده، فقررت أن أتكلم عنه مع أبسال. رجوته بدوري أن يساعدني، أن يقتلني بالطريقة التي تعجبه، فقط أن يقتلني.
خلع ثيابه، وانقض عليّ، فظًا كشمس وحشية. أمسكني من ظهري، حط يده على فمي، واستعد يريد خنقي. كان القليل ما يلزم، ليبعث بي إلى العالم الآخر، المرغوب فيه أكثر ما أرغب. لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة، فخيب أملي بالموت على الفطرة، بوحشية أصلية، وحشية قصوى. جَعَلَتْهُ بربريته يفكر: "عليك أن تساعدني أولاً على تحقيق ما أتمنى، قال لي، أساعدك بعد ذلك على تحقيق ما تريد. بانتظار ذلك، خذ هذا!" وضربني بقدمه بين فخذيّ. "أحب الخصيان من الرجال، وإن شئت، الرجال-النساء!" وفي اللحظة ذاتها، قصفت الطائرات الأمريكية قطيعه. قتلت معظم أغنامه، والراعي البدوي يقهقه مفتونًا. أخيرًا جاءت حربه إليه. غاص في بحر الدم حتى عنقه، ولم يزل يقهقه مفتونًا. تناول مسدسي، وأخذ يطلق النار على الأغنام التي لم تصبها القنابل، فخلصته إياه، وقتلته دون رحمة.
كانت نظرة الحيوانات المنكل بها لم تزل ناعمة. أرعبتني هذه النعومة المشوهة في نظرة الحيوانات الذبيحة المزيجة بغضب الله أكثر من كل نظرات الرجال الذين كنت قد قتلتهم دون شفقة. كانت الحرب لعنتي. كانت تطاردني حيث أذهب. حتى هنا، في هذه الأرض العذراء التي لم تلوَّث أبدًا. لم يكن أمامي إلا الهرب منها، ولكن كيف؟ لم تكن هناك طرق في الصحراء ولا مخارج. كانت البحار من أديم الرمل والموانئ من بريق الضوء والسراب. ضغطتُ على المسدس بيدي، وإلى الأمام! كنت أريد من الشمس أن تذيبني بين ذراعيها، ومن سفن الرمل أن تقودني إلى ميناء الموت، هناك حيث رست أساطيل الملعونين.
ترنحت من التعب والظمأ، وفي وسط الرمل، بانت لي مدينة حسبتها سرابًا. ومع ذلك، كانت ناطحات سحابها حقيقية، وكانت أعمدة الرمل تغطيها. لم يكن هناك غير الكلاب الجائعة. كنت فريستها، فأطلقت الرصاص عليها. نبحت، وابتعدت.
سمعت، وأنا أدخل أحد الأزقة، لهاث كلب وكلبة يتضاجعان بضراوة، وما لبثا أن انفصلا. دفعهما الجوع إلى أن يعض أحدهما ذيل الآخر. فجأة، مزق أحدهما بطن الآخر، وأخذ كل منهما يمضغ لحم أخيه، ويلعق دمه، حتى سقطا على الأرض، ميتين.
أخافني المشهد خوفًا شديدًا. لم يكن الموت أمرًا سهلاً. لتموت يجب أن تكون لديك إرادة الحياة، وأنا، لم أعد قادرًا على ذلك. لم أكن أستطيع طلب العون من أحد. كان اليقظان غافيًا. في هذا العالم الظامئ للدم، ترك الكلاب والبشر وحدهم أمام قدرهم. كان البشر يستحقون الحرب والموت والدمار، ولكن الكلاب؟... تقدمت من دمها الذي لم يزل ساخنًا، ولعقته، ثم دفنت الكلبين كما لو كانا بشرين، بتقديرٍ واعتبار. بعد ذلك، عدت أدراجي عازمًا أشد العزم على ترك الصحراء بشكل نهائي. إذا ما رفض أبسال، لجأت إلى القيادة. خلفي، ألقت كوكبة من الطائرات قنابلها على المدينة المهجورة، فانهارت ناطحات السحاب، وشع كل شيء في محيطٍ من رملٍ لا يتوقف عن الامتداد إلى اللامنتهى...


يتبع القسم الثالث



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي ب ...
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثالث عشر والأخير
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثاني عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الحادي عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل العاشر
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل التاسع
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثامن
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل السابع
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل السادس
- أبو بكر االآشي القسم الثالث الفصل الخامس
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الرابع
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثالث
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثاني
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الأول
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثاني عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الحادي عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل العاشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل التاسع
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثامن
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل السابع


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي بن يقظان القسم الثاني