أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - لِمنْ هذهِ الرائحة القادمة من لندن؟















المزيد.....

لِمنْ هذهِ الرائحة القادمة من لندن؟


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 4753 - 2015 / 3 / 19 - 11:29
المحور: الادب والفن
    


حدّدَ موعداً للقاء معها في اليومِ التالي .. الساعة الحادية عشر تماماً .. أمامَ مدخلِ محطة المترو "سلون سكوير" في الجنوبِ من لندن .. من محطة "ستون بريدج" في شمالِ لندن صعدَ إلى قطارِ المترو "خط باكيرلو" .. وبعد عدة محطات توجبَ عليهِ النزول في محطةِ "بادينغتون" وتغيير خط السفر والصعود إلى قطار "خط سيركيل".

في محطة "بادينغتون" الكبيرة .. محطة "دب بادينغتون" الشخصية الشهيرة في الأدبِ البريطاني للأطفال .. التي ظهرت في عام 1958 في قصة "دب يدعى بادينغتون" .. للكاتب "مايكل بوند" الذي عاش في بيته القريب من المحطة .. واستوحى فكرة الحكاية في موسمِ أعياد الميلاد عام 1956 .. حيث أراد إهداءَ زوجته شيئاً .. فوجدَ على أحدِ الأرفف في متجر لندني "دباً قماشياً" وحيداً .. اشتراه وأهداه لزوجتهِ وأطلقَ عليه اسم المحطة القديمة "بادينغتون" .. التي يعود بناءها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر ..

في محطة "بادينغتون" تَلْسعكَ عندَ المداخلِ والمخارجِ نسمات بردٍ قادمة من الأنفاق .. من الوصولات والانطلاقات السريعة لقطارات الأنفاق .. باليمنى تُحْكِمُ وضعَ الشال حول رقبتكَ .. وباليسرى تضغطُ قبّعتكَ على رأسكَ بلطفٍ .. تقفلُ أزرارَ سُتْرَتَكَ .. تنظرُ بِنَزَقٍ إلى الجرائدِ المنسية على مقاعد انتظار .. تنظرُ إلى مؤخرةِ إمرأةٍ عابرة و"تنبسط" أساريركَ .. خطوات قليلة ويصبحُ الدفءُ سيدَ المحطة ..

وأنتَ الغريبُ .. تحدق في كل شيء .. في اللوائح والتعليمات والإعلانات .. في اتجاهات خطوط السفر وتراتبية المحطات .. في وجوه الناس العابرة .. بلباسهم .. بحقائبهم .. بانشغالاتهم .. باستعجالاتهم .. وترى وجوهاً من كل الألوان .. من كل الأعمار .. ومن كل الأبقاع .. مدافعين عن تواجدهم وعمّا حصلوا عليه من حقوقٍ .. شِبْراً شِبْراً ..

وأنتَ الرجلُ الذي تجاوزَ الطفولةَ منذ زمن بعيد .. تأتيكَ تلكَ الرائحة .. التي طالما عذّبتكَ منذ الساعات الأولى لوصولكَ هذه المدينة .. بل هذه المحطة بالذات .. تأتيكَ رائحة المكان العميق من جديد .. رائحة الظّل والماضي .. قادمة من آبار غميقة .. من أنفاقٍ عتيقة .. من بقايا ذكريات عن الحروب .. رائحة آتية من الشحوم والزيوت .. من عطر الرطوبة في الحجر .. من الحديدِ حِينَ يحّنُ على الحديد .. من غبار الفرملة .. من الاهتراء البطيء للحديد والناس والحجر والدهان على الجدران .. رائحة السفر والسرعة والوصول والصعود والهبوط والوقوف والمشي .. ورائحة السؤال عن المحطة القادمة .. رائحة الانتظار والهلع .. رائحة الناس كل الناس .. رائحة النساء والرجال والمراهقات .. رائحة الموسيقى القادمة من كوريدورات العبور .. رائحة عازف البيانو الحزين .. رائحة راقصة حافية تجاورُ رائحة مغنية من أوربا الشرقية ..

قُلْ: ألا تشعر بها؟ .. نعم إنها هي كم ظَننتها أنتَ .. إنها رائحة الروائح .. أحسدكَ أنكَ استطعتَ تمييزها .. لمْ يبقى من العمرِ ما يكفي لتمييز عطر الروائح المدفونة .. بَلَى .. إنها رائحة المداجن! .. كلّا .. إنها رائحة الصيصان الصفراء .. أو تلكَ المصبوغة بالدهان الأحمر والأخضر والأزرق .. وتلك المبّقعة باللون البرتقالي والأخضر الفاتح ..

أو لعلها تقترب من رائحة مدجنة/مذبحة المسيحي "أبو حنّا بيطار" في بسنادا .. لا .. لا لا .. ليست هي .. فلمدجنته رائحة الأرقام والمعادلات .. رائحة دروس الرياضيات .. التي يعطيها ابنه "حنّا" .. وسلام له .. بعد أن يتناول كأس العرق الأول .. ترافقه سيكارة الحمراء الطويلة .. ملاعباً/ممشطاً بأصابع يده اليسرى شواربه الكثّة ..

نعم .. نعم .. إنها رائحة الصيصان .. وفقط تلكَ التي كان يشتريها في طفولته من مصروف الجيب .. أو بعد أن يكون قد باع كيلو أو كيلوين من أكياس الورق لدكان "أبو زاهي" أو "عزيز حسين" أو الشيخ "رويش" .. والتي صنعّها بيديه الصغيرتين .. مستعملاً أكياس الإسمنت المرمية في أماكن البناء .. يقصها .. ينفضها .. يسّويها فوق بعضها البعض .. يجففها إن كانتْ رطبة .. يطويها باحترافِ طفل أتقنَ المهنة .. ويلصقُ طيّاتها بالخرنوبِ أو بالنشاء الذي طبخه كمادةٍ لاصقة ..

بنقوده الخاصة يشتري الصيصان من سوق أوغاريت في مدينة اللاذقية .. السوق الذي يقدّم للشاري كل شيء .. من الإبرة والخيط مروراً بالسمك وصولاً للفلم الهندي في سينما أوغاريت .. يشتري بقدر ماخبّأه من نقود وبقدر سعر الصوص .. واحد .. اثنان .. ثلاثة وقد تصبح نادراً أربعة ..

ينتقيها نشيطة مبرقعّة بالأحمر أو بالأخضر.. يعبأها في كيسٍ من ورق .. يفتح به ثقوباً للتهوية .. ويأخذها إلى البيت .. هناك يخبأها في "الخيمة" على سطح البيت .. ويختلس كمشةً من البرغل المخْزّن في "العنبّر" ليعلفها .. ثم يصنع لهم قفصاً من علبة كارتون فارغة .. وبشفرة حلاقة قديمة .. اختلسها من أبيه من "الطاسة النحاسية لأدوات الحلاقة" .. يشقُ للقفص الكارتوني باباً ونافذة قابلين للفتح والإغلاق .. يفرش أرضه ببعض البرغل والعشب اليابس وورق التوت وثمار التوت .. ويفرحُ للرائحة .. رائحة الصيصان ممزوجة برائحة البرغل وورق التوت والفضلات ..

يربيهم لبضعة أيام .. يمرضون ثم يموتون .. هل ماتوا جوعاً أو عطشاً؟ أو ربما حنقاً؟ .. لعلهم .. وإلّا لما دَأَبوا على نقر جروح الأقدام الصغيرة "المنعقرة" غير المندملة لمربيهم ومالكهم الصغير .. والتي خلّفها عدوان السقوطات المتكررة في الشوارع الوعرة .. أو لعلها انْعَقَرَتْ بفعلِ الأحذيةِ الرخيصة .. واقتتالات الأطفال في المدارس وباحات اللعب ..

يحملُ قفصه ويمضي به في موسمِ "حواش" الزيتون ماشياً بين الحقول .. إلى أن يصلَ أرضهم الصغيرة .. وغالباً ما يجلس تحتَ شجرةِ الزيتون "الدارمليلية" الكبيرة والتي زُرِعَتْ على منصةٍ ترابية مرتفعة بعض الشيء .. ليشرف "الناطور" الجالس في ظلها على الشجرات من حولها .. ويحميها من احتمالات السرقة .. وقربها قامت "الضامة" .. تلك الغرفة الحنونة الصغيرة غريبة الأطوار .. تلك الغرفة المبنية بالحجارة المتماسكة بالطين والتبن والمسقوفة بألواح التوتياء وبعض دعامات خشبية ..

يجلس تحت "الدارمليلية" ويبحث مثل عصفور بريّ عن بعضِ حبات الزيتون التي استوت وتخمّرت .. ليأكلها ببقايا خبز .. وحوله انتشرت بقايا من طعام أمس .. قشور بصل يابس وحبات عنب أبيض .. وبعض من "المجدّرة" .. برغل مع عدس بزيت الزيتون .. تحت "الدارمليلية" يفترشُ الأرض .. يتلّذذ رطوبة تربتها .. يفتحُ بابَ القفصِ الكارتوني .. تتمختر الصيصان في خروجها كالأمراء .. تبحثُ في تربةِ الأرض عمّا يؤكل ..

يتبع الصوص إغراء الجرح المقّيح .. وكأن "العقر" في القدم هو الدجاجة الأم تَرُقّ .. "رُقْ رُقْ" فيتبعها الصوص .. يستغل انشغال مربيه عنه .. فينقرُ الجرح كما يَنقرُ الحَبَّ .. يَحفرُ الجرح بمِنْقَاره بسرعة .. ويَخرقه .. يتخرب الجرح وينزف قيحاً ودماً .. ويرتفع صوت المربّي الطفل بالعواء ..

ينهض من قعدته كمن لسعته الأفعى يرقص ويبكي من شدة الألم .. يلعن إله الصوص وإله اللون الأفر ويتابع رقصته .. يحتارُ الصوص من رقصة مربيه الحانقة .. يهرب من وقع الأقدام الحافية .. ليختبئ في ظلها حين ترتفع .. فتدوسه القدم الموجوعة دون انتباه .. تضغطه بكل ما حملت من ألم .. تحزن عيونه الصغيرة .. يتعب جسده .. يلفظ أنفاسه الأخيرة .. تخرج أمعاءه من مؤخرته ..

يتوقف العويل من الجرح المخرّب ليصيرَ حزناً على صوصٍ أصفر ملطخاً بالدم واللون الأحمر .. يبكي المربي لخسارته .. يحفر قبراً ويدفن صوصه .. يزّين القبرَ بحصوات صغيرة .. يغرسُ قربه قطفةً من نبات الريحان .. ويعود إلى جلسته تحت شجرة الزيتون .. وكل ما حوله يعبق برائحة الصيصان .. الرائحة الهجينة ذاتها التي اقشّعر لها بدنه للحظات في محطة مترو الأنفاق "بادينغتون" اللندنية.



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما الذي تفكرُ به إمرأة؟
- انطباعات لندنية
- نبع معلّا في بسنادا
- رُعاف وقلم رصاص
- إيحاءات فيسبوكية مُشَتَّتة
- يا حبق ومنتور -2-
- يا حبق ومنتور -1-
- اعتقالات الفصول الأربعة -2-
- جينات بسندلية -3-
- حوارية فيسبوكية عن الوطن السوري
- غابة الإسكافي اللقيط
- اعتقالات الفصول الأربعة -1-
- خواطر من التجربة الفيسبوكية
- الكوافير الألماني
- أَنا يُوسف الألماني يا أمي!
- جينات بسندلية -2-
- جينات بسندلية -1-
- نداء القطط الليلية
- خربشات بسندلية -C-
- كيف سقط كتاب الجغرافيا رمياً بالرصاص؟


المزيد.....




- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - لِمنْ هذهِ الرائحة القادمة من لندن؟