أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - بورتريه لحفيد جدتى (ص. م)















المزيد.....

بورتريه لحفيد جدتى (ص. م)


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 4752 - 2015 / 3 / 18 - 23:34
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


جاء قريبى (ص. م) من القرية إلى القاهرة فى أوائل الخمسينات من القرن العشرين ، وكان عمره عشر سنوات ، جاء مع جدته التى هى خالة أبى ، ولذلك كنتُ أعتبرها (جدتى الثانية) وكنتُ أعشق رائحة جلبابها المُـعطــّر برائحة الزبدة والفطير المشلتت. وكنتُ أحبها (خاصة) من اسمها (خضره) وكان (ص. م) من مواليد نفس العام الذى وُلدتُ فيه (1942) وقد توفى فى شهر برمهات 6256/ مارس 2015، وبعد زواجه وزواجى سحبتنا (نداهة الحياة) وغاصتْ بنا فى مياه مشكلات تربية الأولاد.. إلخ. وفى جلسة العزاء سمعتُ من بناته ومن أولاده أنه فى يوم وفاته شعر بالألم فى صدره ، فنقلوه لأقرب مستشفى ، ولم تستغرق الرحلة بين الألم والوفاة أكثر من ساعتيْن ، وكان تعليق زوجته وأولاده أنه كان – دائمـًا – يتمنى (الموت السريع) بمعنى عدم التعرض (للمرض الطويل) الذى يُعذب المريض وأسرته.
عندما كنتُ أتقابل مع (ص. م) فى المناسبات العائلية (زواج أحد الأبناء أو وفاة أحد أفراد الأسرة) كان أقاربنا يقولون ل (ص. م) أنتَ إنسان طيب وعمرك ما تعرّضتْ لسيرة أحد فى غيابه، ولك أفضال على الكثيرين.. إلخ ولكن عيبك الوحيد أنك (وكان قد تعدى سن الستين) لا تــُصلى ولا تصوم ولم تذهب للحج رغم مقدرتك المالية) فكان يضحك ويقول : إنْ شاء الله.
وأنا فى واجب العزاء تذكرتُ ضحكة (ص. م) ونحن أطفال ، يضحك لو رأى قطة تــُطارد فأرًا ، أو فأرًا يُطارد صرصارًا ، أو صرصارًا يُطارد نملة، ثمّ يمسح فمه ويقول (سبحان الله) ولكن ضحكته الوحيدة التى ترن فى أذنى باستمرار، هى - عندما كنا فى مرحلة الصبا - وسمعنا إمام المسجد يقول فى دعاء خطبة الجمعة ((اللهم أمتنا موتة النملة)) لا هو ولا أنا فهمنا ماذا يقصد الشيخ بهذا الدعاء. ولكننى بعد سنوات من النــُضج الفكرى ، أدركتُ (حكمة) هذا الشيخ ابن مجتمع الخمسينات وثقافته القومية، حيث أنّ (النملة) تموت فى ثانية عندما يفعصها الإنسان بإصبعيْن، كما أنها لا ترقد على (فراش المرض) لعدة سنوات مثل كثيرين من البشر، وهنا كان الربط العفوى والتلقائى لدعاء الشيخ بأنْ نموت موتة النملة، وبين طلب صديق عمرى وقريبى (ص.م) بعدم التعرض للمرض والموت السريع.
عمل (ص. م) فى بداية حياته فى فرن عمى الحاج متولى ، يكنس الفرن ويحمل طاولات العجين من المعجن إلى طاقة الخبيز، ويُـلبى طلبات الفرانين والعجانين. وقبل أنْ يبلغ العشرين من عمره كان أحد أمهر الفرانين ، لدرجة أنْ أخذه صاحب مخبز- من عائلتنا – ليعمل فى مخبزه ، فترك فرن عمى بالعباسية وانتقل إلى مصر الجديدة. وبعد سنوات ترك (كار) الفرانين وتعلم السواقة، وبعد أنْ عمل على تاكسى بالأجرة عدة سنوات ، اشترى سيارة (بيجو) وكان يذهب بها إلى بور سعيد (بعد الانتفاح الاقتصادى) مرتيْن فى اليوم ، ذهابًا وعودة.
يعمل الفرانون أربع وعشرين ساعة ويستريحون مثلها ، وكان (ص. م) أثناء عمله فى فرن عمى ، يقضى يوم (الراحة) أى يوم إجازته على المقهى، وكنتُ ألاحظ عليه (كرمه) المُبالغ فيه حيث يُـنادى على أى فران (زميل) أو أى إنسان من الجيران ، ويُصر على أنْ يجلس معه ويطلب له الشاى والجوزة (قبل انتشار الشيشة) وعندما كنتُ أجلس معه على المقهى ، كان يرفض – بإصرار- أنْ أدفع الحساب ، وعندما أعطى الجرسون ثمن المشروبات ، كان يأمره برد نقودى ، وكان الجرسون يستجيب لأمره ، كأنما هو واقع تحت سحر ما. استمرّتْ ظاهرة (الكرم) المُبالغ فيه حتى بعد أنْ كان رب أسرة كبيرة من زوجة وبنات وأولاد. وهذا ما لمسته بنفسى عندما كان يدعونى للغداء فى منزله، أو عندما كان يقوم بواجب المجاملة لأفراد العائلة فى حالات الزواج والولادة إلخ.
لم يستجب (ص. م) لرغبتى فى أنْ أعلــّمه القراءة والكتابة، ولكن الشىء الذى أتوقف أمامه وأنا أتذكــّر سيرته ، أنه كان شديد التعلق بى ، وعندما اكتشفَ ذهابى إلى المسرح القومى لمشاهدة العروض المسرحية - فترة الستينات – طلب منى أنْ أصحبه معى إلى المسرح.
شاهد (ص. م) أكثر من مسرحية معى ، حتى المسرحيات التى كان الحوار فيها باللغة العربية ، وكنتُ أشعر بالشفقة عليه وهو يغط فى النوم العميق ، ثمّ أشعر بالخجل عندما يرتقع شخيره ، وأخشى أنْ يصل (الشخير) إلى القريبين منه ، ولكن – وهذا هو الغريب فى أمرى – كان الشعور بالشفقة عليه ، والشعور بالخجل منه ، يزولان عندما أشعر به وقد انتفض – شبه مذعور- وانتبه إلى تصفيق الجمهور، وأراه وهو يُشارك فى التصفيق ، وقد أوحى لى تصرفه هذا – وكنتُ قد تخطيتُ العشرين بقليل بكتابة شىء أشبه بالمقال بعنوان (سيكلوجية التصفيق) وأذكر أنّ محور المقال كان عن (عدوى تقليد الجمهور) وهذا المحور أوحى لى بكتابة مقال آخر بعنوان (سيكلوجية الجمهور) وسلسلة أخرى من المقالات تبدأ بكلمة (سيكلوجية كذا) وبحثتُ فى أوراقى القديمة فلم أعثر على تلك المقالات.
كان قريبى (ص. م) ينام فى المسرحيات الناطقة باللغة العربية، مثل مسرحيات سوفوكليس ويوربيدس وأرستو فان وشكسبير، وبعض مسرحيات توفيق الحكيم مثل مسرحية (السلطان الحائر) ومسرحية (بجماليون) إلخ ، ولكن المُــفارقة- أنه كان شديد اليقظة فى المسرحيات الناطقة بلغة شعبنا ، اللغة التى أطلقتْ الثقافة السائدة عليها (عامية العربية) مثل مسرحيات سعد الدين وهبه ونعمان عاشور وميخائيل رومان ومحمود دياب ويوسف إدريس. وأذكر أنه بعد أنْ شاهدنا مسرحية (الفرافير) تأليف يوسف إدريس ، طلب منى أنْ نــُشاهدها مرة أخرى ، وتكرّر طلبه هذا بعد أنْ شاهد معى مسرحية (القصة المزدوجة للدكتور بالمى) تأليف المسرحى الإسبانى الكبير (بويرو باييخو) والتى عُرضتْ فى المسرح القومى تحت عنوان (دماء على ملابس السهرة) بطولة عزت العلايلى وتوفيق الدقن ، ومن النساء – على ما أتذكر- محسنة توفيق وممثلة لا أذكر اسمها اختفتْ رغم أنها موهبة كبيرة. اندهشتُ من طلب قريبى (ص. م) بل وإصراره على أنْ نــُشاهدها مرة ثانية ، خاصة والمسرحية تدور حول فترة حكم الدكتاتور فرانكو، وأساليب ضباط الأمن البشعة فى التعذيب ، وهى الأساليب التى انعكستْ على بطل المسرحية ، التى تبدأ بزيارته للطبيب النفسى د. بالمى ، ويستشيره فى أسباب حالة العجز الجنسى التى أصابته فى الشهور الأخيرة ، فلما طلب منه الطبيب الكلام عن حياته الخاصة ، لم يستنتج أى شىء ، فطلب منه الحديث عن عمله ، اندهش البطل ولكن الطبيب أصرّ، فلما تكلــّم فسّر سبب العجز الجنسى، حيث أنّ رئيسه (الضابط الكبير المسئول عن تعذيب المعتقلين) طلب منه ممارسة الجنس مع المعتقلين السياسيين . تأثر قريبى (الأمى) الذى لم يقرأ كتابًا فى حياته بهذه المسرحية تأثرًا بالغــًا ، وعندما سألته عن فحواها ، اكتشفتُ أنه فهم واستوعبَ تمامًا المغزى الكامن وراء هذا العمل المسرحى البديع ، وأنّ المسرحية فيها إدانة لكل أشكال القمع السياسى . وعندما قلتُ له : إنْ المعتقلين السياسيين معظمهم شيوعيين زى اللى عبد الناصر قبض عليهم وحطهم فى معتقلاته وبيتعذبوا وفيه كتير منهم ماتوا من التعذيب ، قال قريبى (الأمى) دا يبقا حرام.. وكل واحد حر يقول اللى هوّ عاوزه. وأعتقد أنّ تلك التجربة التى مررتُ بها مع قريبى (الأمى) أكــّـدتْ لى ثلاثة أشياء : 1- أنّ النص المسرحى كلــّما كان شديد الإحكام والبساطة ، وفى نفس الوقت يحمل رسالة إنسانية – بلغة الفن – كلــّما كان النجاح مضمونــًا ، والاقبال على القراءة أو المُـشاهدة كبيرًا 2- الإخراج الجيد (للأسف لا أذكر اسم المخرج) والأداء التمثيلى البديع ، والموسيقى والديكور إلخ كل تلك العوامل هى الجاذبة لجمهور المسرح. 3- اللغة التى ينطقها شعبنا (وهى لغة خاصة ليستْ لها أى علاقة باللغة العربية إلاّ باستخدام الكلمات العربية ، لأنّ العبرة فى تعريف أى لغة قومية ، هى البنية Structure (كما قال علماء علم اللغويات) وتلك اللغة التى أثبتتْ قدرتها فى كتابة الشعر وبعض الروايات والقصص القصيرة ، فإنها هى اللغة (الوحيدة) الصالحة لجمهور المسرح والجاذبة لهذا الجمهور.
قبل وفاة قريبى (ص. م) بشهور التقيتُ به فى واجب عزاء أحد أفراد العائلة. وفى فترة الاستراحة بين قارىء للقرآن وآخر، اقترب ابن عمتى الدكتور (ز) وهو من كبار المُــتعلمين فى العائلة وقال لقريبى (ص. م) مش ناوى تصوم وتصلى وتحج وإنتَ عديت سن السبعين؟ فقال له قريبى (الأمى) ((إنْ شاء الله.. بس بعد إنت ما تبطل تجيب فى سيرة الناس. دا حتا اللى ماتو ما بيسلموش من لسانك.. وإنت قاعد تفترى عليهم)) ولذلك كان قريبى (الأمى) أحد أهم أفراد العائلة الذى كنتُ أعتز بصداقته ، والذى بقدر ما أحببته ، بقدر ما تعلــّمتُ منه الكثير.
***



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أدونيس من شاعر إلى داعية إسلامى
- الاستشراق والاستشراق معكوسًا
- الدكتور مُصدّق وعبد الناصر والمخابرات الأمريكية
- الصهيونية وسرقة التراث المصرى
- هوس الأصوليين الإسلاميين بحكم العالم
- ذهنية التحريم
- هل يمكن التخلص من كابوس يوليو1952
- الإبداع والتراث العبرى / العربى
- مدرسة سيد قطب والإسلاميون الإرهابيون
- العداء الرعوى ومجتمع الزراع
- ثقافات الشعوب القديمة والديانة العبرية
- إعدام فرعون سينمايًا
- نماذج من عجائب التراث العبرى
- الإخوان والاستعمار: تاريخ الخزى والعار
- أول سيدة تُمنح وسامًا عسكرًا
- الإرهاب الدينى والمغالطات السائدة
- أوهام الوحدة العربية ووقائع التاريخ
- حرق الكتب وحرق البشر
- مثقفو الأربعينات والجامعة العربية
- غياب التعريف العلمى لمعنى الدولة


المزيد.....




- فرنسا: بسبب التهديد الإرهابي والتوترات الدولية...الحكومة تنش ...
- المحكمة العليا الإسرائيلية تعلق الدعم لطلاب المدارس الدينية ...
- رئيسي: تقاعس قادة بعض الدول الإسلامية تجاه فلسطين مؤسف
- ماذا نعرف عن قوات الفجر الإسلامية في لبنان؟
- استمتع بأغاني رمضان.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على ا ...
- -إصبع التوحيد رمز لوحدانية الله وتفرده-.. روديغر مدافع ريال ...
- لولو فاطرة في  رمضان.. نزل تردد قناة وناسة Wanasah TV واتفرج ...
- مصر.. الإفتاء تعلن موعد تحري هلال عيد الفطر
- أغلق باب بعد تحويل القبلة.. هكذا تطورت أبواب المسجد النبوي م ...
- -كان سهران عندي-.. نجوى كرم تثير الجدل بـ-رؤيتها- المسيح 13 ...


المزيد.....

- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود
- فصول من فصلات التاريخ : الدول العلمانية والدين والإرهاب. / يوسف هشام محمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - بورتريه لحفيد جدتى (ص. م)