أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - مؤمن سمير - - غرفةٌ وصحاري وأشباحٌ ومدينة - كتابة بقلم / مؤمن سمير















المزيد.....

- غرفةٌ وصحاري وأشباحٌ ومدينة - كتابة بقلم / مؤمن سمير


مؤمن سمير
شاعر وكاتب مصري

(Moemen Samir)


الحوار المتمدن-العدد: 4749 - 2015 / 3 / 15 - 20:44
المحور: سيرة ذاتية
    


وهكذا لما توزع لحم الفتى بين الأماكن استوت الأجزاء رجلاً كاملاً يذوقُ العالم في غرفة بعيدة تضيقُ كل صبحٍ " كانت هذه الجملة الطويلة الثقيلة ببلاغتها وشعريتها هي نهاية شهادة لم أكتبها . سيرة ذاتية تامة ودقيقة لم أَخُطُّها . لكنها تلف وتدور وتكبر مع الأيام كلما يكبر هذا المولود في السعودية لأب من القاهرة وأم من بورسعيد، ويقيم في آخِر مراكز بني سويف بجوار المنيا !. كانت الغربة في بيتنا هي الأساس والسَنَد ، والحنين هو المرض الدائم والشرود المقيم الذي لا يسأل أحدنا عن سببه لأننا نعرف وندرك . طفولتي في المدينة الصحراوية الصغيرة كانت السبب والجرثومة في اختيار الورقة والقلم كي يُصاغ ويُنحت في الرمال أمرٌ اسمه التواصل مع العالم، مع الناس، مع الحياة ، مع أي آخَر لكن بشرط أساسي ولا بديل عنه هو ألا تكون اللعبة صريحة وواضحة وفجة، وإنما عن طريق حائلٍ وحجاب ، يحمل الأمان ويقلل من سرعة ضربات القلب.
سر الكتابة هو هذا: تواصلٌ وهروب في الآن ذاته .. طفولة وحيدة مع صديق وحيد مات أمامي بعد أن قرصه عقرب أسود مسكين كاد السم المُتَكِّوم في ذَنَبِهِ أن يُطبق على أنفاسه، فساب نفسه للريح التي ألقته في حوش المدرسة على عنق فتى كان منثنياً ليضع الولد ذا النظارات الحقائب على ظَهْرِه، ثم يضحكان لما يقع الهرم لكن الضحك لم يصل يومها، بل أرسل مكانه الخوف ورائحة الصراخ وتحديقة الموت التي أقامت للأبد . صوت الريح يأخذ أفكارك الصغيرة الطفلة بعيدا،ً ويلقي بها لتسقط وتصير حروفاً وكلماتٍ يسمعها الجن والسعالي ولا يسقيها أحد في الأعياد فتموت. الصحراء تربّي الروح وتضعها في علبة صدئةٍ وتهيئك مبكراً للعيش في معيتك وحدك. تحدد لك بواقعيتها المفرطة في الخيال مداخل ومخارج التعامل مع خشونة الحياة وفظاظتها .. القبول والتمرد ثم الإذعان والصمت. لا يصلح الرمل لبناء بيوت أليفة – كما بالقرب من الشواطئ – لكن الرمل الناعم نعومة الأفعى يصلح بامتياز لأن يكون قبوراً .
وبلا تدرجٍ ولا تمهيد جئنا للمكان الآخر، للنقيض والطرف البعيد من الدنيا . من حياة تبني أساطيرها من لحم الصمت ، الميت الحي ، إلى الصخب المستمر والفوضى والحميمية التي تصل إلى حد الانتهاك . إلى الروح ذاتها . عدنا إلى البلدة الصغيرة التي يعمل فيها الأبوان في بني سويف بعد أعوام طويلةٍ في الغربة بلا إجازات جئت أنا وسطها. وكانت النتيجة العادية أن يرتبك الولد ويدخل في ذاته بعنف الخائفين، وتتربى له ريبةٌ مُفترَضَة يتصادق معها وحرصٌ موازٍ لحرص وريبة الأب والأم وخوفهما عليه في ما سبق ، وكيف لا وهو الولد الوحيد المولود لمهمة مقدسة هي أن يدفنهما ويتلقى عزاءهما بعد أن يموتا " وهل ينجب الإنسان إلا لهذا " كما كانا يرددان دوماً . كان الأمر مبرراً أكثر بالنسبة للأم التي عاينت الموت كثيراً ،يزور أهلها تحت الغارات ويحطم بيتهم الأول ثم الثاني، ويصاحبها وهي تنتقل من مكان لآخر مع " التهجير " .. لكن الفتى لا يستطيع أن يقاوم ابتهاجه كلما أَطلَّ من خلف ستارة نافذته على أغاني الباعة الجائلين العبقرية المليئة بالحزن الشفيف، أو البهجة اللعوب.. وعلى بياض الأفخاذ والكعوب ثم الغمزات والإشارات على حافة المصرف أثناء طقس غسل " المواعين " والملابس ، بين فتى طويل أسمر غالباً وعريض الصدر، وبين تلك التي ترن ضحكتها فتنخلع القلوب ويتغير شكلها وتتبدل خريطة جسدها كل ساعة .. على قاموس الشتائم الحريفة لأناس لا يتركون فرضاً في المسجد، لكنهم يسهرون على المصطبة ويشربون الحشيش ويطلقون النكات و" القافية " . دراجة " نصر" عالية جداً تصل الأقدام بالكاد لـ " بَدَّالِها " وولد ممصوص من قرية بعيدة جاء خصيصاً ليحوز متعة الانطلاق في شوارع أوسع، وغناء بصوتٍ أعلى. بائعٌ ضرير يحمل فوق رأسه " مَشَنَّة " الخضروات وينادي على كل نوع بنغمة معينة، ثم يصدح بموال عجيب يعاتب فيه القَدَر ليس على ضياع نور عينيه، بل في ضياع نور المحبوبة وبهاها. ثم المسحراتي الذي يتفنن الأشقياء في وضع الأحجار الصغيرة مع الكعك الذي هو أجرته عن شهر كامل من التسحير، يلف على المدينة كلها ويجمع كميات هائلة من الكعك تكفيه لعام كامل، وينغم لك هذا الشهر الملتبس لتحبه ، فقط من تجليه وانجذابه به فوق كونه سكة رزقه. ويكتب الولد ويرسم وينحت في دنياه الصغيرة التي تسكن فيها معه العفاريت والغيلان التي ما إن يفكر في شخصية منها إلا وتزوره في الليلة نفسها ولا تغادر بعدها أبداً .
ثم يتسع المكان مضطراً تحت ضغط المراهقة والذقن النابتة غير المكتملة إلى أسوار عالية تخفي مكاناً مبنياً بأقل قدر من الفنية هو جامعة بني سويف التي تنجح في فتح القوس إلى أقصى مدى ، إلى الشيوعية والجنس والغناء والأغاني الجديدة وقصيدة النثر، وكذلك إلى اكتشاف المحافظة الموزعة بين قيم الريف والحضر، كورنيش طويل محتل من نوادي الشرطة والجيش والقضاة والمحامين ، ميدان " مولد النبي " ذي النكهة الشعبية الصرف. مسجد " الست حورية " ومريديها وموالدها الشبيهة في كل مكان هي من أكثر المحافظات التي تنعم بـ " قديسات " في مراكزها وقراها ، ولأن تحولات البطل المسكين كانت مفاجئة دائماً فقد كانت تصرفاته وانفعالاته " غشيمة " فعلاً . لما تجمَّع مع رفاقه ليهدموا العالم من أجل إعادة بنائه لم يصبر وخرق نطاق السرية والتروي التي تتيح " الأمان الشخصي" له ولغيره وللفكرة ذاتها . استعجلَ وحاول " برومانسيته الثورية وطفولته اليسارية " أن يُجَنِّد أقرباءه في القرية .. كلهم ودفعة واحدة ! وكادت تحدث كارثة مدويِّة خفف منها اعتباره مجنوناً وعَدَّى الله الأمور رحمة بالجميع . وعندما أحب بنتاً ذهب إلى منزلها ببساطةٍ وجمالٍ وبابتسامةٍ صادقةٍ وأفاق للمرة الأولى على " جلسات عرب " ولقاءات ومشاوير لمداراة الفضيحة ، ونظرات مرتابة تحيط به ستستمر لجيلين على الأقل . وعندما صعب عليه بائع الصحف ذا الظهر المحني كان يذهب إليه ويستلم معه من قطار الثانية مساء، ويحمل على ظهره لفات الصحف ويكسر بهذا هيبة العائلة ويصرون على مقاطعته، وما إلى ذلك من كوارث سَرَّعت باكتمال الدورة ، حيث اختفى الأصدقاء الذين كانوا وقود الحياة ورفاق التنفس، بالسفر أو بالموت المفاجئ فانكشفت روحه وعادت لحقيقتها المرتعبة التي لا ترى أماناً إلا قرب ذاتها، وصارت كل الذكريات بعيدة بعيدة، وصار الشك في الوجود هو الوجود ذاته.
هكذا فُتحت الغرفة مرة أخرى وقبع فيها صاحبنا ثماني سنوات كاملة بعد التخرج ، يكتب ويسمع موسيقى ويحاور الظلام. لكن الغرفة كانت قد اتسعت بتجاربه وخياله الذي صار أكثر انطلاقاً ، وأدمنت هي الأخرى لعبة الضيق والاتساع والسفر في المكان والعودة من الذكرى والعبث الأصيل. كانت فيها حياته الكاملة الماضية والآنية . ثمان سنوات تخللتهم ثلاثة أحداث أقصد أماكن ومسافات ، أولها حين مات الأب وهو ينظر في عيني نظرة الحب أو التحدي أو العتاب أو.. ماذا ؟ وحيث دخلتُ المقابر للمرة الأولى، مقابرنا التي هي الكيان الوحيد الذي امتلكناه في هذه الدنيا ،وكان الأمر يستحق فعلاً أن آتي كثيراً بعد ذلك وحدي، مكانٌ اهتم الأب أن يحمل كل سمات " الحياة " : الهواء " بحري " ومصدر للمياه موجود دائماً والزهور تظلل المشهد ، وهكذا اعتدتُ أن أشيل كوابيسي وأشباحي داخل كيسي الضخم الأسود، وأنقلها من موت الغرفة الضيق إلى موت المقابر البراح ، ويظل مشهد الأب الطويل العريض وهو يخرج مستسلماً من " الحَسَنيَّة " إلى السرداب الطويل والشباب الملتحين الباحثين عن الأجر والثواب يتسابقون إلى النزول ، يظل مشهداً بليغاً ويكسر العظام . هل كنتَ تقوى على النزول لتكون معه تحت التراب في مواجهتكما المؤجلة والأخيرة ؟ . بالطبع لا . هل كنت تتمنى ؟ لا بالتأكيد . إذن لماذا ترتعش الآن يا أخي ؟.
وجاء الحدث / المكان الثاني استمراراً للصحراء التي تناديكَ منذ زمنٍ بإصرار المحب، وحرصه اللصيق وكذلك حلقةً من حلقات " الغشومية " والبراءة العجيبة " التي تخرب البيوت " . تقابل شخصاً يعرض عليك السفر للكويت فتركب الطائرة وتهبط ، ويستولي على نقودك ويتركك في الشارع .. هكذا ببساطة، وبكل سلاسة ! ووسط المشهد المتجمد كانت عيناي التائهتان المنذهلتان تلتقطان المكان . شوارع منظمة وبيوت كبيرة وفاخرة وصمت عجيب وشمسٌ أسطورية وقاتلة، وجبال تحيط بكل هذا كذراعين سمينَيْنِ، أو كدائرة لا تتوقف عن الدوران والدوار ، وتذكرت ساعتها أنني قابلت الشاعر نادي حافظ في الفيوم العام الماضي لعدة دقائق وأخبرني أنه يعمل في إحدى الصحف في الكويت، فأوقفت تاكسي وأعطيته الدينار الوحيد الذي كان معي ، وفعلاً قابلته وقال أقم معي إلى أن تنتهي الـ ثلاثة وأربعين يوماً مدة " بطاقة الزيارة " ولنبحث عن عمل .. والطريف أنه نُشرت لي قصائد في عدة صحف، وأجروا معي أكثر من حوار وكُتب عن ديواني الأخير وقتها، وكذلك أقيمت لي أمسية شعرية بينما أنا أَلَفُّ في النار الحارقة، وأدور على المصالح الحكومية في الأيام الأولى ثم على مكاتب المحامين بعدها، وبعد ذلك على الجمعيات الاستهلاكية ومحلات المحمول والجزارة للبحث عن عمل .. أي عمل يسمح بعدم العودة السريعة و" الفضيحة والشماتة ".. وهكذا ردَدَتُ للكويت نقودها ، حيث كنت قد فزت قبلها مباشرة بالجائزة الثانية في مسابقة سعاد الصباح – الجائزة العربية الوحيدة التي اشتركت أو فزت فيها - وبالإضافة للألف دولار قيمة الجائزة أنفقت كذلك ميراثي من أبي ، وصَمَت الذين كان من رأيهم ألا يسلموني النقود في يدي كي لا أشتري كتباً ، وها أنا اشتريت خيبةً وقسوةً وصحاري ودموعاً من أصدقائي وأنا أغادر ، وعدت لمكاني الأصيل ، لغرفتي حيث أرقص وأغني وأبكي وأصرخ وأكتب شعراً ، عدت وأنا لا أملك إزاء هذا العالم إلا الهواجس السوداء والارتياب الراديكالي، والإحساس بأن الأقدار بالفعل تعبث بنا وفينا نحن النمل الصغير الحقير.
أما المسافة / المكان الثالث فهو محافظة الفيوم مرة أخرى حيث وثقتُ – كالعادة – سريعاً في بهاء شخصٍ وجدته يحمل سراً ما ، فضمني هو الآخر لطريقته ، الطريقة " القادرية " وشيخها الشيخ " محمود الفزاري " رحمه الله .. ودرتُ معهم كثيراً في الموالد وفي أضرحة الأولياء والصالحين راكناً عقلي على رفٍّ بعيد، ورامياً بنفسي في التجربةِ بكل عنفوانها. كنت ألبس جلباباً وأتمايل يميناً ويساراً وأردد " الوِرْدَ "بكل عنفٍ مستعجلاً " الجَذْبَةِ " التي لم تأت مع إن بشائرها وبيارقها كانت قد هلَّت : كنتُ أحلم طول الوقت وأرى ما أحلم به في التوِّ واللحظة - كنا ننام في أي مكان وحيثما اتفق وآكل معهم " النفحات " فأشبع ، وتدخلت الأم وهددت بتركي إن لم أعقل وأكف عن الفضائح و " الجُرَس " فأغلقت باب غرفتي عَليَّ وكأنه لم يحدث شيء ونمتُ ولم أحلم بشئ ...
ثم جاء التعيين الحكومي بعد أن تجاوزتُ الثلاثين وبعد عدة أدوار عجيبة وسريعة – إثباتاً للجدية - قمت بها مترنحاً في عدة صحف صغيرة ، وهَلَّ المكان الجديد ، أرشيف المحكمة الجزئية العتيقة الآيلة للسقوط ، والذي يسمونه للآن باسمه التركي " الدفتر خانة " وهو مكانٌ شبحيٌّ بامتياز، لا تصادق فيه إلا الأرواح الهائمة ونقاط الدم التي تلتصق بأصابعك ويملأ عبقها الخاص أنفك ووعيك، والأنكى أنه كان مخزناً قديماً " للأحراز ": ملابس المغدورين وأسلحة القتلة وروائح الهاربين عندما نَشَّفَ الخوف دماءهم ،ومتاهات الكيوف المتعددة وكذا أصوات الدموع والحسرة ، ولضيق المساحة وتكاثر البشر وضعوا القضايا القديمة بأرواحها المعتقة ووضعوني . كان هذا المكان هو التَجَلِّي الأعلى لغرفتي، ولكن في أقصى حالاتها الشيطانية المهووسة التي ترتب لي أن أسمع وأشم وأخاف وأكتب في النهاية. نيرانٌ تندلع فجأة ومياهٌ تغرق الدنيا ويظهر في الآخر أني والغرفة تفاهمنا فصرنا نلعب ونلعب. واستمر الأمر إلى أن جاءت الزيارة المشئومة لجارتنا والتي ألقت فيها بالسؤال الناعم الذي يُظهر اهتماماً ويبطن لهيباً " هل صحيح تعين سي الأفندي في الحكومة ؟ " وعندما حمدت أمي الله وأثنت عليه بما يعني الإيجاب أكمَلَت " يبقى عروسته عندي" بنت أخي المُدَرِّسة. هؤلاء الذين ما زالوا يسكنون قريتنا البعيدة التي تحضن الجبل الكبير. وظنت أمي أن إجابتي محسومة إذ كيف يتزوج بهذه الطريقة من يُصدِّع رؤوسنا بألفاظ المدنية والتحضر والثورة على العادات القديم،ة وكل هذا الكلام الماسخ . ولكني خالفت كالعادة توقعاتها وكل مقاييسي واستدعيت المرات القليلة لي على مقاهي المثقفين وحواديت فشل زواج المثقفين، ونجاح زواج ساكن البرج العاجي من " الست بهانة " ( أم أن الأمر كان خوفاً وعدم ثقة بالنفس ورعباً من التعامل مع واحدة تعاملك بندِّية بعدما يئست من تلبُّس حال الجرأة والتهور وترك نفسي للدنيا ؟! ) فلآخذ إذن مَنْ تفرح بي وترفع رأسها لتراني وأكون بالنسبة لها " الأَمَلة " ( أم أن الصحراء التي تقبع منتظرةً خلف هذا الجبل الكبير أصبحت مرضاً لا فكاك منه؟) المهم أن الزواج تم ، والزواج فشل رغم أن العلاقة مع القرية الحجرية البعيدة العجيبة وقراءة وشرب البشر المكتفين بحواديتهم وبطبيعتهم الصلدة، ولغتهم التي تشبههم وبالقساوة التي صاحبوها ، داما في الذاكرة .
وبعد كل هذا استعادت الروح كل ما كان فصار اكتئابٌ حاد جعل الغرفة تضيق إلى أقصى حالاتها، وانهار الجسد فجأة ، وسقطتُ بحالة نادرة يفشل معها العلاج المتاح والمعروف قوامها شلل داخلي في الجهاز الهضمي، يؤدي إلى عَطَب باقي الأجهزة بالتدريج حتى تصل الوفاة حتماً ، وأصبحت أوقاتي الجديدة هي المقارنة بين هذا المستشفى وذاك ،وبين حميمية حكي الممرضات هنا مقارنة بهناك. الحوائط ، البلاطات .. ريح المستشفى ثقيل أم خفيف . الملابس والبقع عليها. الدراما المكتنزة الظاهرة والمخفية ، وهكذا اصطبغ مكاني الجديد برائحة المطهرات وبريق الأمل الفج عند المرضى، ودبيب النهايات المختبئ أسفل الحدقات والثورة المكتومة في عتاب القَدَر ، وأحاط المشايخ والسحرة والمعالجون الروحانيون والقساوسة والأطباء النفسيون بسريري . لم يترك أقاربي نمطاً بشرياً إلا وألصقوه بهوائي . كنتُ أسمع وأتأمل وأتنهد . أختزنهم عَلِّي أثرثر حولهم في الحياة الأخرى . أوحشتني غرفتي وتمنيت أن أدفن فيها لكني لم أصرح ، وبعدما صار حجمي أصغر من طفل في مهد صغير، وبعدما سمعت الطبيب يقول الجملة الخالدة في أفلامنا العربية " لن يعيش أكثر من ثلاثة أيام .. خذوه ليموت وسط أهله " وبعدما تطوع قريبي العملي الذي نعتمد عليه في كل الأمور التافهة ، التي هي الحياة ذاتها ، بفتح المقبرة ورشها وتهيئتها للساكن الجديد ، بعد كل هذا استجابت بعض الأوردة للسائل السحري وتحركت الأمور ببطء واستغرقتُ ثلاثة سنوات حتى عدت للدنيا التي لم تلحظ غيابي لكني لاحظتها من دروبها المعلنة والمخفية .. وحملتها لمكاني الدائم فتفاجأتُ بها وقد سبقتني مُهروِلَةً إلى هناك ..

معجم النص:
المدينة : مرآتك الضخمة وضحكة السخرية المتسعة .
الصحراء : ملح ريقك وجلدك المتشقق وبراحك الضيق وزحامك .
النخلة : ذراع السماء التي سقطت أمام بيتكم ولما قطعوها سمعت للمرة الأولى كلام الكائنات العلوية واستمر الأمر بعد ذلك حتى ضعتَ وضاعت هيبتك .
الترعة : وَحْشٌ ..
البحر : وَحْشٌ ..
الشياطين : جيرانك الأقرب وبلاغة خيالك الأصفى .
التهجير : ما لم تذكره عن جغرافيا وأنغام بيت أمك في بورسعيد وذكرياتها التي ضربتها القنابل لكنها ظلَّت تسقيها حتى عادت صبيةً .
عيونك : صائدة الأماكن وصائغتها والبوابة التي يفضلها الأشباح عن غيرها .
الأماكن : جِلْدكَ وشهيقكَ وزفيرك وزفراتك الساخنة.



#مؤمن_سمير (هاشتاغ)       Moemen_Samir#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- - اللعب مع الشيطان -
- مثل غابة وصياد وحيد ( إلي : مؤمن سمير ) شعر / أسامة بدر. مصر
- - الذي اصطادتهُ البساطةُ فأبصر و التحفَ بالأنثى فشاف -
- - ملامحُ مقطوفةٌ - شعر / مؤمن سمير
- - الصيادُ المعتزل - شعر/ مؤمن سمير
- - في فك خيوط اللعبة وفي الخوف كذلك - شهادة بقلم / مؤمن سمير
- تجليات الوحيد في- إضاءة خافتة وموسيقى - لمؤمن سمير بقلم : د ...
- - فأسٌ وحُفراتٍ في اللحم - شهادة
- ياسرالمحمدي يكتب :- عالِقٌ في الغَمْرِكالغابةِ كالأسلاف - لم ...
- - أكتب العالمَ لأكتبني - شهادة بقلم / مؤمن سمير
- - حفرةٌ .. للبكورِ الأخير - شعر/ مؤمن سمير
- - حَفْريَّةُ أسماء - .. كتابة .. بقلم / مؤمن سمير
- - صَباحٌ مُبهَمٌ .. لطائرٍ جَليديٍّ - شعر/ مؤمن سمير
- أحمد الشهاوي يكتب : - مؤمن سمير يدخل ممر عميان الحروب -
- أحمد الشهاوي يكتب : - مؤمن سمير يُطِلُّ على حواسه ببصيرة الم ...
- - يَشُدُّ الحياةَ للداخلِ - شعر / مؤمن سمير - مصر
- - أمسكتُ بي .. أمسكتُ بنا - شعر / مؤمن سمير
- مؤمن سمير: الشاعر يتعامل مع العالم بتحفز القناص
- ممدوح رزق يكتب عن ديوان - رفة شبح في الظهيرة - لمؤمن سمير
- ديوان - عَالِقٌ في الغَمْرِ .. كالغَابةِِ كالأسلاف - شعر / م ...


المزيد.....




- شاهد.. رجل يشعل النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترامب في نيوي ...
- العراق يُعلق على الهجوم الإسرائيلي على أصفهان في إيران: لا ي ...
- مظاهرة شبابية من أجل المناخ في روما تدعو لوقف إطلاق النار في ...
- استهداف أصفهان - ما دلالة المكان وما الرسائل الموجهة لإيران؟ ...
- سياسي فرنسي: سرقة الأصول الروسية ستكلف الاتحاد الأوروبي غالي ...
- بعد تعليقاته على الهجوم على إيران.. انتقادات واسعة لبن غفير ...
- ليبرمان: نتنياهو مهتم بدولة فلسطينية وبرنامج نووي سعودي للته ...
- لماذا تجنبت إسرائيل تبني الهجوم على مواقع عسكرية إيرانية؟
- خبير بريطاني: الجيش الروسي يقترب من تطويق لواء نخبة أوكراني ...
- لافروف: تسليح النازيين بكييف يهدد أمننا


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - مؤمن سمير - - غرفةٌ وصحاري وأشباحٌ ومدينة - كتابة بقلم / مؤمن سمير