أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل الشيخة - بحيرة قطينة-قصة قصيرة















المزيد.....

بحيرة قطينة-قصة قصيرة


خليل الشيخة
كاتب وقاص وناقد

(Kalil Chikha)


الحوار المتمدن-العدد: 4747 - 2015 / 3 / 13 - 20:56
المحور: الادب والفن
    


انتصب من خاصرة بحيرة قطينة مصنع السماد الآزوتي، ومن بطنه انبثقت مدخنة شاهقة الارتفاع، تناطح السحاب،تلهث أبداً وتنفث دخاناً رمادياً ساخناً ومن الفوهة الواسعة يخرج، أيضاً، بين الحين و الآخر روائح كريهة شبيهة برائحة البيض الفاسد، تسافر هذه الرائحة مع النسائم عبر الأكواخ الموزعة حول البحيرة فيسد القرويون أنوفهم عندما يتنفسون الغازات الكريهة.
قررت الحكومة توسيع المصنع، فاستدعت شركات أجنبية للقيام بهذا المشروع، وأوكلت الأعمال التي لا تحتاج لخبرة تقنية عالية لشركات محلية، مثل الحفريات والبناء. تسلم الحفريات وتعبيد الطرقات الداخلية رجل أعمال معروف في البلدة (نعيم أبو ماطر) والذي تعاقدت معه البلدية في تعبيد طرقات المدينة سابقاً، وما أن يفرغ من تعبيد الطريق حتى يتفسخ الإسفلت ويصبح لزجاً في أيام الصيف الحارة ويعلق في عجلات سيارات المدينة.
كان محصول قرويي بحيرة قطينة شحيحاً في تلك السنة. فاندفعوا أسراباً طالبين العمل في ورشة الحفريات راضين بالأجر الضئيل. وتقسمت مناطق الحفريات إلى ورش صغيرة تضم الورشة عشرة من العمال، وكل ورشة لها مراقب.
يبدأ العمل في الساعة السادسة صباحاً، يحملون الفؤوس ويحملون معها أيضاً بؤسهم وشقاءهم وثيابهم المليئة بالرقع ويتوزعون في الورشة، يشار لكل فئة منهم في المنطقة المطلوبة، فينهال الفأس على الأرض مخرجاً أحشاءها يتلوه الرفش منظفاً الحفرة. قد يمر الأفندي (أبو ماطر) بسيارته الأمريكية الأنيقة ويتوقف، إلا أنه لا يبرح مقعده كي لا تلسعه الشمس بوهجها الحارق، فيمكث داخلها لينعم بمكيفها البارد، وما أن تقف السيارة حتى يهرع أبو يوسف المراقب يقدم احتراماته للأفندي منحنياً قليلاً، ثم يتكلم بلهجة رجل عرف مقامات الأفندية: صباح الخير يا أفندي، فيرد عليه وهو ينظر إلى مجموعات العمال وقد خلا وجهه من التعبير، ثم يردف مباشرة: يجب أن تنتهي هذه المنطقة غداً. بعدها تغلق النافذة ويغادر بسيارته المتهادية على الطريق الترابية المتعرجة.
عندما يحين موعد الغداء يفترش عمال الحفريات الأرض ويفتحون زواداتهم المؤلفة من الخبز والبندورة وأحياناً البيض المسلوق. وما أن ينتهي عمل اليوم حتى تكون أرض المصنع قد امتصت معظم قوتهم، وعندما يغادرون إلى بيوتهم، تراهم يدفعون ما تبقى من هذه القوة للأرض التي وضعوا حسابات السنة عليها. وبذلك يصبح كل منهم فلاحاً يطعم المدينة من ثمار أرضه وعاملاً يشارك في بناء المصانع.
غالباً، ما يجتمع الفلاحون في المساء في ساحة القرية يتسامرون ويتناقشون في أمور الأرض والأجور القليلة التي يتقاضونها في الورشة، فالمحصول يشتريه تجار المدينة بسعر بخس ويبيعونه بأسعار مضاعفة. فالتاجر يبلع نصف الربح وأبو ماطر يبلع أتعابهم في الورشة. لكن بعد مباحثات طويلة خرج الأمر بالإجماع بأن يضربوا عن العمل حتى تزداد الأجور. فمعظم من يعمل في المشروع يتقاضى أضعاف عمال الحفريات، فساعة لعامل الحدادة تساوي يوماً بكامله لعامل الحفريات. يشكون كثيراً إلا أن الجواب كان نفسه: ليس بمقدور الشركة رفع الأجور. . من لا يعجبه الأجر فالطريق مفتوح. وهنا توقف الحوار، فكان عليهم أن يلجئوا إلى أسلوب آخر.
في اليوم الثاني بدأت الشرارة بعد الغداء مباشرة ، إذا علق رجل ضخم الجثة يدعى جابر على كلام المراقب المعروف أبو يوسف حيث كان يتحدث عن إنهاء المنطقة في الغد، فاستغل جابر الفرصة وقال، بصوت عالٍ ليتغلب على ضجة المحركات والحفارات للمراقب بجفاء:
- لا أظن أن أي من الشباب سيأتي غداً يا معلم! تبرم المراقب ثم قطب حاجبيه ورد بنبرة لا تخلو من غضب:
- لقد سئمت من طلباتكم، وخاصة أنت...لم ينتظر جابر المراقب أبو يوسف لينهي جملته بل قاطعه: نحن لا نراك إلا عندما تحاول إسداء الأوامر والتهديد والخصميات.
- لاأظن أن أحداً يرغمك على البقاء هنا، بإمكانك ترك العمل إذا شئت. في تلك اللحظة تقدم شاب وقد لف على رأسه حطة على شكل عمامة وأشار بإصبعه إلى المعلم نحن الذين سئمنا منك ومن معلمك أبو ماطر ، سنتوقف عن العمل الآن . . يالله ياشباب .
ساعتها ، استطالة القامات وارتفعت المعاول عالياً، كانت أعلاها معول جابر ، وقد مالت بزاوية إلى الخلف وكأنه يريد أن ينهال فيها على رأس أبو يوسف المراقب، فتراجع إلى الخلف بنظرة خائفة ومذعورة وشرع يتسلح بعبوس وجهه حتى أحاط به الرجال كلياً. قال أحدهم صارخا بهزء:
- اضربوه فهذا ذيل أبو ماطر. ورد أخر :
- لا ... نحن شغلنا مع الثعبان أبو ماطر .
ولما أدرك أبو يوسف أن المسألة قد انفلتت من يده وأصبح تحت جيش الحفريات ، مد يده متوسلاً :
- أنا عبد مأمور ياشباب .
فاقترب احدهم ورفسه على مؤخرته. فقهقه البعض واتجهوا إلى الورشات الأخرى لإيقافهم عن العمل وإعلان الإضراب رسمياً . وهنا هبت نسمة لطيفة رطبة من البحيرة انتعش لها الرجال فانتصبت القامات أكثر على أثرها ، ثم تبعتها نسمة أخرى وكأن البحيرة تتضامن مع عمال الحفريات بالموجات التي تطلق منها نسائم تشرح الصدر.
في الطريق إلى الورشات الأخرى ، كان المضربون يكيلون كلمات نابية للمعلمين والأفندي (أبو ماطر) ، وإضافة لذلك ، استطاعوا أن يرغموا معظم عمال المشروع على الإضراب معهم . وانتهى بهم المطاف إلى مكتب الأفندي (أبو ماطر) والذي لم يكن هناك، وقتها خرج بعض الموظفين محاولين تهدئة الجو بغير طائل. في تلك اللحظة تقدم رجل من بين العمال وكان يرتدي شروالاً مشقوقاً من طرفه الأيمن وقال بغضب :
- سنخرب المشروع فوق رؤوسكم . . همهم الرجال وارتجفت الفؤوس، التي ما زال التراب الأحمر اللزج عالقاً بها، متوعدة وعبرت عما يجول في الخاطر. في ذلك الحين، تعجرفت البحيرة وأرسلت تياراً هوائياً قوياً محملاً بالأتربة، فلطمت وجوه المتجمعين وغدا الفضاء كله رياح عاتية وغبار ثائرة، فاستحالت الرؤية. وبشكل تلقائي، زموا عيونهم تحاشياً للأتربة المسافرة، ومالت قاماتهم باتجاه تيار الريح وتلونت وجوههم بالبياض جراء الغبار المتراكم ولم يعد باستطاعة كلا الطرفين التفاهم في جو استفردت فيه ريح غاضبة آتية من البحيرة. دخل ممثل عن الإضراب إلى مكتب الموظفين شارحاً مطالب رفاقه بينما توزع الآخرون يحتمون من العجاج، وراح البعض يطارد حطته التي اقتلعتها العاصفة عن رأسه وطارت بها بعيداً.
في اليوم الثاني، تجمع عمال الحفريات حول مكاتب الموظفين بينما رجع باقي عمال الورشات الأخرى إلى عملهم.
ولم يستغرق وقوف العمال ساعة حتى أتى المعلم ( أبو ماطر) مصافحا بعض العمال في المقدمة وعلى وجهه ابتسامة متصنعة.
استغرب العمال أمر أبو ماطر فهو لم يصافح أو يبتسم منذ بداية المشروع. تأمل الكثير خيراً، فربما في الابتسامة بشرى للمضربين. توقف أمامهم حانياً قامته قليلاً للتأكيد على تواضعه الذي أتى فجأة كالطفرة. وقال بلهجة رجل يتحدث إلى أصدقائه:
_ يا شباب، لستم بحاجة إلى إضراب للمطالبة بزيادة أجركم ، هذا حقكم . . لماذا لم يأت أحد من قبل ويطلب مني حقه بدون هذه الفضيحة وتوقف الورشة وتأخير التسليم.. قاطعه أحدهم :
- طالبنا بالزيادة طويلاً، لكن لم نلحظ تجاوباً..ساعتها رفع أبو ماطر سبابته وقال بحنق: سأطرد الموظفين الذين أهملوا عملهم واخفوا علي مطالبكم...إني أعدكم بزيادة قريباً، لكن الآن لانستطيع.. أقسم لكم أني أدفع أجوركم من جيبي وما زلنا نطالب المسئولين بصرف مبلغ للعمل الذي أنجزنا حتى الآن، لكن لم يأت أي جواب..وأقسم لكم أني في القريب العاجل سأرفع الأجر..
وما إن انتهى حتى انخفضت قامات كثيراً من العمال لرضاهم عن كلام المعلم واتجهوا إلى الورشة للبدء في الحفريات، بينما دخل أبو ماطر مكتبه وعلى وجهه علائم انتصار ثم قال للمراقب أبو يوسف: هذه هي الطريقة التي تعيد هؤلاء الرعاع إلى العمل، دعهم يعيشون على الأمل. لم ينخدع الفلاح جابر صاحب الجثة الضخمة بوعود أبو ماطر وألاعيبه وأدرك أن الأجور لن تزداد لأنه عرف المعلم منذ سنين فقرر العودة مع نفر صغير إلى أرضه وتكريس يومه بكامله هناك ، فإن شحت الأرض سنة ، لكن تبقى الكرامة فيها .



#خليل_الشيخة (هاشتاغ)       Kalil_Chikha#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جمعيات غير تعاونية - قصة قصيرة
- رغيف خبز - قصة قصيرة
- الجذور الأولية للرق والاخلاق
- ما وراء العنف اللفظي
- بروز داعش
- الجذر اللفظي للأكل دون ملح
- القناص الامريكي والانتفاخ
- تورتيلا فلات والصعلكة السياسية العربية
- لؤلؤة فقراء الربيع العربي
- حِكْمَة شَهْرَزَادْ
- الغندورة
- قراءة في كتاب الكافرة
- رموز الحكاية الشعبية
- ظروف تعيسة
- عقدة السلطة عند كافكا
- الروائي ابراهيم الكوني واسقاطات الحكمة في روايته الاخيرة
- تجذير الحوار في موقع الحوار المتمدن
- مابعد سليلو
- ذئاب بلا أنياب
- القاص خليل الشيخة للكاتب عيسى اسماعيل


المزيد.....




- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل الشيخة - بحيرة قطينة-قصة قصيرة