أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثامن















المزيد.....

أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثامن


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4746 - 2015 / 3 / 12 - 13:58
المحور: الادب والفن
    


- بُعَيْدَ الانفجار، عدت إلى تحت سيل الرذيلة والفضيلة، لأعالج الجرحى من الخارجين على القانون والقيّمين عليه، ولأمزج بمصائر البشر بعضًا من مصيري. كانت روحي تتعذب بيد رشا، بين يدي رشا، والروح مهما اشتد عذابها، يظل عذاب الجسد أشد وأقوى. لهذا غدوت طبيبًا، أخفف من عذابات البدن، ليس على حساب عذابات النفس، وإنما كنت أرى في ذلك نوعًا من التأجيل لعذاب أقل أمام عذابٍ أكثر. كنت قد درجت على هذا الخُلق منذ طفولتي، بفضل أمي التي حَبَتني حِباء الطبيعة أسمى المشاعر، وجعلتني بفضلها أفضّل التخفيف من مصائب الغير على التخفيف من مصابي. كانت تلك طريقتي وطريقي في إراحة الروح مما هي فيه، وإنهاك العقل، فالعقل إذا ما تَعِبَ بَرَقَ، وفي برقه غذاءٌ للروح، وتسكينٌ لها بالشرر. أنا لا أقول إشفاءها، أقول تسكينَ أوجاعِها، فالداء الروحي ليس له دواء.
لكن المفاجأة كانت مفاجأتين، الأولى: كلُّ هذين الهَرْجِ والمَرْجِ اللذين كانت القنطرة موضوعهما، فالاوركسترا العسكرية كانت تعزف لجمهورٍ حاشد، أعلمني الناس أن الناس جاؤوا لإتمام تشييدها، والثانية: قدوم عاهل البلاد أبي عبد الله العوفي بصحبة ضيفه العاهل الإسباني حفيد ألفونس، لإعطاء الضوء الأخضر للبدء بالأشغال. لم يكن هناك انفجار أو أي أثر لانفجار، بينما الأشرطة الملونة والأعلام المرفرفة في كل مكان، وكل الناحية أعدت لاستقبال الملكين بِدَهنها وطرشها وتنظيفها وإلباسها برداء لم تعهده من خداع العين. والحق أن وجود ملك إسبانبا حيرني وبلبلني، فماذا يخطط العسكريون؟ وهل جلالته هنا لزيارة، وهذا ما لا يبدو من كل هذا "العرس"، أم لإقامة، إقامة طويلة الأمد، وربما لإقامة دائمة؟
وأنا على وشك أن أعود أدراجي، لأعود إلى أوجاعي، وكل هموم المحبين أحملها على ظهري، إذا بصفارات رجال الحرس الملكي تئز أزيز الرصاص بحماقة أردنية خاصة بهذا البلد البدويّ، وإذا بالموكب الملكي يصل. أطللت برأسي بين الرؤوس، ورأيت بالفعل أن مليكي الإسباني في عمان، وهو ينزل من السيارة ذاتها التي تقل مليك البلاد. أخفيت نفسي في ظهور الحاضرين، ورحت أختلس النظر إلى العاهل الأردني، بجماله القمريّ، وهو يبتسم، ويسلّم، ويحيّي. كان يبدو في أتم صحة وعافية، بينما العاهل الإسباني يرزح تحت ثقل فاجعتيه، فاجعته بابنته، وفاجعته ببلده. لكن ما لفت انتباهي، حضور صغيرة بنات الملك الأردني، صاحبة السمو الملكي الأميرة "هلا"، بجمالها القمريّ كأبيها، وهي الأخرى تبتسم، وتسلّم، وتحيّي. كما أنني لاحظت من بين المرافقين أبا الحسن الفزاع، كالحشرة الفزعة. لاحظته، ولاحظني. لتفاديه، أردت الانسحاب على أطراف أصابع قدميّ، في كل هذا الصخب، لما فجأة، صرخ شاب صرخة مدوية: "هلا، يا حب قلبي! أنا هنا كي أموت من أجلك!" سقط أفرادٌ من الحرس الملكي ببنادقهم على الشاب العاشق، وراحوا به ضربًا، بينما سمو الأميرة تصرخ بهم أن يتوقفوا. أرادت الدفاع عن حبيبها، فشدها أبوها من يدها، وتمكن من منعها قليلاً قبل أن تفلت منه، وتأخذ حبيبها بين ذراعيها، تحت النظرات الذاهلة للعاهل الإسباني، وكل الحاضرين: علا، أنا هنا معك! همست هلا في أذن الشاب العاشق، وهي تذرف أحر الدموع، علا، أنا لن أكون لغيرك!" لكن حارسًا ملكيًا سدد أخمص بندقيته إلى رأس علا، وفلقه، ليميته على التو. قطع أبو عبد الله العوفي المراسم، ووجهُ القمرِ الذي له محاق، وعلى صرخات ابنته، التي حملها رجاله عنوةً، ووضعوها إلى جانبه وجانب الملك الإيبيري، غادر الموكب الملكي المكان بأقصى سرعة.
كنت قد سمعت بقصة حب علا وهلا، لكني لم أولها اهتمامي، فإذا بها تتفجر أمام عينيّ. أينني أنا من علا، وأين حبي من حبه؟ أراد العاهل الأردني تزويج صاحبة السمو الملكي، صغيرة بناته، بشيخ من شيوخ الخليج الأثرياء، فالنفط والبنون زينة الحياة الدنيا. أين رشا من هلا، وأين حبها من حبها؟ رفضت الأميرة هلا عرض أبيها، فقرر عنها، وها هو يوقّع بالفاجع هذا القرار الملكي، كي أرث حب علا وهلا مثلما ورثت حب آميديه وإيزابيل، وكل حب مكتوب بالدم.
حملت دائي وعنائي، وذهبت أتلفن لرشا، كي أزيد من عنائي ودائي. كان فعلي الحر الوحيد في تلك اللحظة المأساوية التي تجاوزت كل حد، لتغدو الزمان والمكان والأحياء والأشياء. كنت أريدها أن تغفر لي، فوقعتُ على أمها. تجاهلتني في البداية، وبعد ذلك، حيتني بحرارة لما عرفت أني استسلمت للقدر الذي حشرتني رشا فيه. لم تعلم بعد بما وقع تحت السيل، فلم أقل شيئًا. كانت هذه الفاجعة الجديدة ملكًا لي، لا أريد من أحد أن يشاركني فيها. كانت قوتي على الاستسلام، والتنازل عن كل شيء، عن رشا، وعن آميديه وإيزابيل، وعن مدريد، وعن باقي البشر. لم أكن بشريًا وقتذاك، كنت حيوانًا بلا عواطف. كالكلب الضائع كنت. لَهَجَتْ بالدعاء إلى الله أن يوفقني ويسعدني: "رشا أيضًا تتمنى لك كل سعادة وتوفيق!" أوضحتُ لها أن تمنيات ابنتها لا تهمني إلا القليل. أخذت تضحك، وتقول عن خطيبها إنه يريدها منذ ستة أعوام. قلت وأنا منذ ستة أعوام قبل مولدها. عادت تضحك: "القسمة والنصيب". امتنعتُ عن الصراخ، وهي تضيف: "اعلم أن سنك لا علاقة له برفضها". لم أعد أريد التحدث.
- أعطيني إياها، لو سمحت.
- لم تزل نائمة.
- لم تزل نائمة! الساعة تجاوزت الحادية عشرة!
- سأوقظها.
طال انتظاري، وفي الأخير صوتها، وأنا لا أسمعه أو يكاد.
- ارفعي صوتك، قلت لها.
- هذا لأني لم أشرب بعد قهوتي، همستْ.
- لو كنتُ معك لصنعت قهوتك بنفسي، ولقدمتها لك في السرير.
شعرتُ بخجلها.
- أمك تقول، تابعتُ، خطيبك ينتظر منذ ست سنوات، وهي لا تعلم بانتظاري لك منذ ست سنوات قبل مولدك.
ضحكتْ بجذل.
- أحببتك كما لم يحبك أحد، أحببتك بجنون، بصوفية، وكمراهق في السادسة عشرة، كمجنون بالله، طوال حياتي لم أحب حبًا كهذا.
ضحكتْ بغرابة قبل أن تقول:
- القسمة والنصيب!
- هل أحببتني، يا رشا؟ هل هزتك، على الأقل، مشاعري؟ هل فكرتِ فيّ في الليل، عندما تندر النجوم ويتندر العشاق؟
صمتتْ.
- كنتِ طوال الوقت سَلبية، لم تساعديني.
- الكل يقول عني سَلبية، اعترفتْ.
- أنا خائف عليك، على حياتك مع زوجك القادم.
- ولكن أنت خائفٌ مِمَّ؟ قالت، وهي ترفع صوتها. لا تخف من أي شيء.
أخذتُ ألعن ريبتي، ارتيابي. عادت تضحك.
- كتبتُ لك رسالة قاسية، قلت وأنا أستمد شجاعتي من ضحكاتها، أريدك أن تقرأيها. أقترح أن نلتقي في دوار فِراس. ما رأيك؟
شعرتُ بارتباكها.
- هل أمك إلى جانبك؟ سألتها.
أكدتْ، وهي تتظاهر بالضحك كيلا تفهم أمها.
- تعالي، أريد أن أراك للمرة الأخيرة، نصف ساعة فقط، الوقت الذي أعطيك فيه الرسالة.
- من الصعب عليّ الخروج، لنترك هذا إلى حين رجوعي من العطلة.
- آه! كم أحبك، يا رشا. حبي لك بقدر حقدي على جون روبنسون.
رجتني ألا أهاجمه.
- كل ما حصل لي بسببه، قلتُ، بسببه تأخرت عن طلب يدك، إلا أنني خطبتك، بشكل غير رسمي، قبل الآخر، وروبنسون هو من منعني من المجيء عندك. كنت أريد أن أنهي الرواية أولاً كي تقرأيها.
لم تقل شيئًا.
- أما عيون المها الوحشية، تابعتُ، المرأة التي يحبها روبنسون، فأنا أكرهها. أنتِ لا أستطيع أن أكرهك، ستبقين حبي الخالد.
قلت لها إنني أُقَبِّلُها بالإسبانية والإنجليزية والعربية، وهي ساكتة. تذكرتُ فجأة أن أسألها عن تاريخ رجوعها من عطلتها.
- آخر الشهر، قالت.
لم يزل على نهاية الشهر أسبوعان، فأخذت أسب وألعن.
- لم يكن كل هذا مقررًا هكذا في البداية، أجبتُ.
- بسبب الخطوبة، ختمتْ.
تلك لم تكن كلمات وداع بقدر ما كانت بداية جديدة. عند النظر إلى عمق الأشياء، نجد أنني لم أندم ولم أتب. كنت عازمًا أكثر من أي وقت مضى على استردادها.
كيف أستطيع القَبول، بالله عليك، بأن يأخذوا مني زوجتي القادمة ليزوجوها من غيري؟ كيف أعطي قَبولي بينما هم ينتزعون من بين ذراعيّ المرأة التي أحبُّ لِيُلقوا بها بين ذراعي شخص آخر؟ فكرت فجأة أن أختها التي عانت هي الأخرى من عذابات الجب، الوحيدة في هذه الدنيا القادرة على فهمي وإعانتي على حل مشكلتي.
ذهبت عند رشاد رشد، وطلبت منه الاتصال برشا لتعطيه رقم هاتف أختها. على الأقل، نستطيع أن نلتقي عندها، بعيدًا عن أمها. لم يستغرب موقفي، لكنه استفظع تجاهلي لِمَا وقع تحت السيل. كانت فاجعةُ تحت السيل قد صارت على كل لسان، وأنا لم يكن على لساني شيءٌ آخرُ غيرُ فاجعتي، فاجعتي الشخصية، القادمة، المؤجلة، والتي من الممكن ألا تقع. كنت أنانيًا أكثر من الأنانية، كنت الأنانية، وجوع النفس لنفسها. أدركت فجأة جسامة ما جرى، فخجلت من نفسي. تركتُ رشاد رشد لنفسه، وتركتُني أتيه في شوارع عمان.
وأنا أتعثر بين الحفر والنفايات، أحاطت بي سيارات القصر السوداء من كل جانب. نزل منها رجال يضعون على عيونهم نظارات سوداء ويرتدون بدلات سوداء، تبعهم الفزاع.
- جلالة الملك يريدك، قال.
- حفيد ألفونس؟ سألت.
- أبو عبد الله العوفي.
وبفضل الرعب الذي تفرضه النظارات السوداء والبدلات السوداء على العابرين من سيارات وبشر ودواب، بأسرع من البرق، وصلنا المقر الملكي. أدخلوني مباشرة حجرة النوم الملكية، وهنا وهناك العشرات من حول سرير أبي عبد الله العوفي. برز من بينهم مليكي الإسباني، وهو يبتسم لي ابتسامة لم أعهدها من قبل، كانت طيف ابتسامة، كالهباء. أخذني بين ذراعيه، وهو يهمهم:
- كم من الأيام مضت دون أن أراك، يا طبيبي الغالي أبا بكر!
- الأيام أقوى من الأيام، يا مولاي! همهمت بدوري.
دفعني بهدوء من أمامه، واقترب بي من العاهل الأردني، المستلقي في فراشه استلقاءَ بلدٍ بأكمله، وهو يحتضر: وجهه القمريّ لم يعد يضيء على الأردنيين ولا على أي شعب من شعوب العالم.
- كفاك الله شرًا، يا مولاي، همستُ، وأنا أشد على يده.
لم يجبني، نظر إليّ بعينيه المنطفئتين، وانتظر أن يوضح لي العاهل الإسباني، الذي قال:
- بعد الحادث المؤسف الذي وقع تحت السيل، انتكست حال جلالته، فسقط طريح الفراش. ولما كنتُ أعلم بوجودك في عمان، اقترحتُ أن يجيئوا بك، فأنت خير من يفهم فيما يدعى بالصدمات النفسية.
نظرتُ إلى الحاضرين، وأنا أستعيد عظمتي وهيبتي، وبإشارة آمرة من يدي، أمرتهم بالخروج، فانسحبوا كلهم كالسلاحف المعدنية، ما عدا الفزاع. عاينت أبا عبد الله العوفي، وأنا أجسه بكلتا يديّ، وتناولت من حقيبة طبية كانت موضوعة على صُوان السماعة، لأدرس حالته بشكل أعمق، وجلالته مستسلم استسلام المعترف بكل خطاياه بين يدي الله. بعدما انتهيت، كتبت من الأدوية ما كان على الفزاع إحضاره، وقلت لمليكي الإسباني:
- جلالته لا يحتاج إلى فصدٍ عاجل، كما هو معمول به، ولكن خوفًا من تدهور وضعه، سأقوم بذلك. هلا أعنتني، يا صاحب الجلالة؟
- مارستُ مهنة الملك، رمى حفيد ألفونس، والآن سأمارس مهنة الممرض.
- سيقول لي جلالتك أيهما يفضل.
- قل لي، ماذا عليّ أن أفعل؟
- أن تمسك بذراعي جلالته، فلا يتحرك.
- ولماذا لا تخدره؟
- التخدير والفصد شيئان يتنافيان، مفعول كل منهما لا يُثْبِتُ الآخر. ولكن، فليطمئن جلالتك، سأجرحه جرحًا خفيفًا، تقريبًا لن يشعر به.
وأنا أعد أدواتي، كشف العاهل الإسباني:
- قلت لجلالته ألا تصحبنا سمو الأميرة ابنته، إلا أنه أصر على ذلك.
- لماذا؟
- أرادها أن تنسى.
- حبيبها؟
- زوجها الخليجي.
- جلالته مارس مهنة الملك ولم يجرب ممارسة أية مهنة أخرى، لهذا.
- سأفضل مهنة الممرض، همهم ملك إسبانيا.
- لأنها الأسهل.
- لأنها الأصعب.
- فليتفضل جلالتك بإمساكه.
- هكذا؟
- هكذا.
بدا على أبي عبد الله العوفي الخوف.
- لا تخف، يا صاحب الجلالة، أنا لن أوجعك كثيرًا، وأنا لا أفعل هذا إلا لصالحك. وتوجهت بالكلام إلى مليكي الإسباني، هل أنت مستعد، يا مولاي؟
لم يجبني حفيد ألفونس، بدت عليه جدية الملوك وتصميمهم، لكني ما أن بدأت حتى انتهيت.
- آه! ما أسهله! تعجب.
- ما أسهله للملك وما أصعبه للممرض، قلتُ.
أحضر الفزاع الأدوية، فأشربت جلالته بعضها، وما لبث أن أغمض عينيه، وأغفى.
- في نهاية المطاف، قال العاهل الإسباني، وهو يذهب بي إلى جانب، الملوك والنجوم شيء واحد، كلاهما يضيء وكلاهما ينطفئ.
- هل تعرف لماذا، يا صاحب الجلالة؟ لأن كليهما لا قلبَ ككلِّ القلوبِ له، كلاهما لا يعرف ما الحب، فانظر ماذا فعل جلالته بابنته.
- وما فعلته أنا بابنتي.
- مولاي، أمرك يختلف.
- ألستُ ملكًا كباقي الملوك؟
- مولاي، لستَ ملكًا كباقي الملوك، أنت الملك!
- الملك شيء كثير وأنا هنا في الأردن بأمرٍ عسكريّ.
- لن يدوم الأمر طويلاً.
- سيدوم. هل تعرف لماذا؟ لأني اخترت مهنة الممرض على مهنة الملك.
وبينا نحن كذلك، حتى وصلتنا صرخات، وبين الضجيج نواحٌ وعويل، فسارعنا، أنا والملك الإسباني والفزاع، لنقف على السبب الذي كان مهولاً، فقد حاولت سمو الأميرة هلا الانتحار. قَطَبْتُ رسغها، وضمدته. تأملتها، وهي تغفو في سريرها. كانت على شبه كبير من رشا، ومن إيزابيل، ومن مدريد، ومن كل النساء اللواتي عرفتهن. نظرتُ إلى مليكي الإسباني، وهو يغسل يديه، ويزيل آثار الدم.
- لأول مرة، هاتان اليدان تذوقان طعم الدم، قال من الحمام.
- هل هو حلو، يا مولاي؟ سألتُ، وأنا أجيء من ورائه.
نظر إليّ عبر المرآة، وبعد لحظة تفكير، أبدى:
- آه! كم هو حلو، يا أبا بكر! كم هو لذيذ الطعم!
انتظرنا نهوض أبي عبد الله العوفي في الصالون، ونحن صامتيْن. لم ينظر أحدنا إلى الآخر، كان كل منا مشغولاً مع لا أفكاره. بعد عبارة جلالته عن الدم، صارت كل الأفكار لا أفكارًا، شيئًا من الهواجس القديمة، كانت رشا بالنسبة للطبيب لا فكرة، وكان الحكم بالنسبة للملك لا فكرة. لا لأجل أن نحتمل الأفكار، ولكن لأجل ألا نحتملها. جاء الفزاع بعجلة، وأخبرنا أن جلالة الملك الهاشمي فتح عينيه، وهو يطلبني.
كان يحاول الابتسام.
- جلالتك لا تُجهد نفسك، طلبتُ.
حاول أن يقول شيئًا.
- لا ترهق نفسك، كل شيء على ما يرام.
بإشارة من يده إلى الفزاع ذهب هذا إلى خزانة، وأخرج منها عددًا من المخطوطات المقيدة بالسلاسل.
- ما هذا؟ سألت الفزاع مُبَلْبَلاً.
نظر الفزاع إلى العاهل الأردني قبل أن يأخذ الإذن منه بحركة من رأسه.
- هذا...
وتردد:
- إنه الشعر المدنس.
- ما كان يبحث عنه البروفسور في الإيسكوريال؟ صحت وكلي استغراب واستعجاب.
- لم أكن أعلم بذلك، تدخل العاهل الإسباني.
أخرج الفزاع مفتاحًا من جيبه، وحرر المخطوطات من سلاسلها. وبأسرع من البرق، رحنا، أنا ومليكي نتصفحها:

أحب ثديك
فأنت عاهرتي
الأشرف من كل الملوك

***

لا تغضب من شذوذي
فلله ذَكَرٌ مثلي
وأنا والله عاشقان

***

دينك الإسلام
والإسلام ديني
فلا تسأليني
إذا ما كنتِ الإسلام

***

بعد زمن الاستغراب والاستعجاب، جاء زمن الاغتباط والابتهاج.
- البروفسور سيكون أسعد البشر في الوجود، هتفتُ.
- أرى ما لهذا الكنز من أثر على البشرية جمعاء، هتف الملك الإسباني.
- لا تستعجلا الأمور، نبر الفزاع بلهجة لئيمة، وهو يستعيد المخطوطات.
- لا نستعجل الأمور! تعجبتُ.
- لا نستعجل الأمور؟ تساءل ملك إسبانيا.
عاد الفزاع ينظر إلى أبي عبد الله العوفي، وبإشارة ثانية من يده إلى الفزاع ألقى هذا الكنز الإسباني في المدفأة، صب عليه بنزينًا، وأحرقه، ونحن، أنا ومليكي، نحاول منعه، دون أن نفلح، حتى أن تقبيلي لقدمي أبي عبد الله العوفي لم يؤثر فيه لا القليل ولا الكثير. أخذتُ أبكي كالأرمل، أبكيني، وأبكي كل أولئك الشعراء الملعونين، أبكي الشعرين، المدنس والمقدس، أبكي الشعر. سالت دمعة على خد العاهل الإسباني مسحها بأطراف أصابعه، وجاء بي إلى كنبة أجلسني عليها. عند ذلك، بإشارة ثالثة من يد العاهل الأردني إلى الفزاع أحضر وثيقة صفراء خدشتها مخالب الزمان، وأفضى قبل أن يمزقها:
- وهذه هي الوثيقة التي كان يبحث عنها آميديه، وثيقة الإعلان عن استقلال أرخذونة.


يتبع الفصل التاسع من القسم الثالث



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل السابع
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل السادس
- أبو بكر االآشي القسم الثالث الفصل الخامس
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الرابع
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثالث
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثاني
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الأول
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثاني عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الحادي عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل العاشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل التاسع
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثامن
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل السابع
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل السادس
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الخامس
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الرابع
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثالث
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثاني
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الأول
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الخامس عشر


المزيد.....




- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثامن