أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - السيد نصر الدين السيد - الشيطان يعظ















المزيد.....

الشيطان يعظ


السيد نصر الدين السيد

الحوار المتمدن-العدد: 4745 - 2015 / 3 / 11 - 16:17
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


حكاية ذات مغزى
في أواسط ثمانينيات القرن العشرين وصل باحث شاب الى الولايات المتحدة ملبيا دعوة إحدى الجامعات الأمريكية الشهيرة لقضاء سنة كباحث زائر. وهكذا انضم بطل قصتنا الى مجموعة الباحثين الذين يعملون في معجل الجسيمات النووية التابع للجامعة Cyclotron. وقد تصادف ان يكون يوم وصوله مبنى المعجل هو يوم الجمعة، وهو اليوم الذي تعقد فيه مجموعة "التنظير" اجتماعها الأسبوعي. ومجموعة "التنظير" هذه هي مجموعة من الباحثين المسؤولين عن تفسير نتائج التجارب التي تقدمها لهم مجموعة "التجريب" والمتعلقة بالتفاعلات النووية. وبالطبع حضر الباحث الاجتماع كأحدث عضو ينضم اليها. وقد جرت العادة ان يخصص الاجتماع الأسبوعي لمناقشة ورقة علمية مناقشة متعمقة وارسال ملاحظات المجموعة الى مؤلف الورقة. وقد كانت الورقة، التي نوقشت في هذا اليوم، لواحد من العلماء الثقات في موضوع التفاعلات النووية. لذا لم يكن مستغربا ان تحوز الورقة تقدير الجميع، باستثناء واحد، وان يذكر كل منهم الأسباب الموضوعية التي دفعته للتقييم الإيجابي للورقة. وفي مقابل شبه الاجماع علي الجودة المرتفعة لهذا العمل كان هناك عضو من أعضاء مجموعة "التنظير" خارج عن هذا الاجماع، ولم تتوقف ملاحظاته السلبية على العمل وبدا وكأنه "لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب!". وعلى الرغم من تململ الكثيرين من ملاحظات هذا العضو المارق المتلاحقة الا انها في النهاية القت الأضواء على العديد من جوانب العمل التي اغفلها الآخرون مما جعلهم يعيدون النظر في بعض مما طرحوه. وهكذا تعرف صاحبنا، لأول مرة، على ما يطلق عليه "محامي الشيطان" وعلى الدور الهام الذي يلعبه في تقييم الافكار.

وفي نهاية الاجتماع قام منسق اللقاء بتلخيص ما خلصت اليه هذه المناقشات تمهيدا لإرسالها الى المؤلف، ثم سأل الحضور عمن يرغب في لعب دور "محامي الشيطان" في الاجتماع القادم. ويندفع صاحبنا ويعلن عن رغبته في لعب هذا الدور واستلم الورقة العلمية المقرر مناقشتها بعد أسبوع. وبعد قراءة اولية يكتشف صاحبنا قدر الورطة التي أوقع نفسه فيها. فلعب دور "محامي الشيطان" ليس بالمهمة اليسيرة، كما يبدو للنظرة السريعة، فهو دور يتطلب ممن يلعبه ان يكون قادرا على الـ "التقييم". والتقييم هو مهارة معرفية لا يتمتع بها الكثيرين.

هرم بلوم
لا يمكن تقدير حجم الورطة التي واجهها صاحبنا دون الرجوع الى "هرم بلوم" لأهداف التعلم. ويصف هذا النموذج، في صورته الأولى، ستة مستويات للمهارات المعرفية (او الادراكية). وأدنى هذه المستويات، او المستوى الأول، هو مستوى "المعرفة (او التذكر)" الذي يشكل قاعدة الهرم. ويشير هذا المستوى الى قدرة الفرد على تذكر مواضيع تم تعلمها سابقا. أما قمة الهرم (او المستوى السادس) فهي مهارة "التقييم" Evaluation، او قدرة الفرد على اصدار احكام كمية وكيفية على منتج ما او فكرة بعينها على ضوء معايير محددة. وما بين قمة الهرم وقاعدته تأتي بقية المستويات وهي بالترتيب: "الفهم" Comprehension و"التطبيق" Application و"التحليل" Analysis" و"التركيب" Synthesis. والمستوى الثاني، "الفهم" هو قدرة الفرد على تفسير أو إعادة صياغة ما تعلمه من معرفة بلغته الخاصة. وثالث المستويات، "التطبيق"، يعني القدرة على استخدام ما تعلمه الفرد في مواقف جديدة. اما المستوى الرابع، "التحليل"، فيعني قدرة الفرد على تفكيك الموضوع قيد الدراسة إلى مكوناته الأساسية. وأخيرا يتعلق المستوى الخامس، "التركيب"، بقدرة الفرد على تجميع تلك المكونات وإعادة تشكيلها في هيئة جديدة.

ولما كان العلم لا يعترف بالمقولات الخالدة التي لا تقبل التغيير فقد ادي اعتبار المعرفة كمورد وما أسفر عنه من ظهور للاقتصاديات المرتكزة على هذا المورد الى ضرورة إعادة النظر في مستويات "هرم بلوم". وتم تحديث "هرم بلوم" فتم الاستغناء عن مستوى "التركيب" ليحل بدلا منه مفهوم "الخلق Creating (او الابداع)" الذي يعني القدرة على انتاج المعرفة، والذي يحتل قمة الهرم (المستوى السادس). وبهذا تهبط مهارة التقييم من المستوى السادس لتحتل المستوى الخامس. ومن الجدير ذكره في هذا السياق ان بلوغ مستوى معين من مستويات يتطلب المرور بالمستويات السابقة. فبلوغك مستوى "التقييم"، على سبيل المثال، يتطلب منك تحقيق المستويات السابقة وهي: التذكر، الفهم، التطبيق والتحليل.

والآن وعلى ضوء ما سبق يمكنا تقدير حجم الورطة التي أوقع صاحبنا نفسه فيها. فصاحبنا هذا هو ابن ثقافة تعلى من شأن مهارة "التذكر"، فنراها تحتفي بمن "حفظ" النصوص المقدسة على سبيل المثال، وتنظر بعين الشك والريبة لمن يحاول "الفهم" او حتى لمن يسعى لـ "التحليل". اما عمليتي "التقييم" و"الخلق/الابداع" فهما من الكبائر التي تخرج مرتكبهما من الملة. وهكذا تنحصر مهارات أبناء هذه الثقافة في المهارات المعرفية/الادراكية الدنيا (التذكر، الفهم، التطبيق). وفي المقابل تعتبر الورقة العلمية موضوع التقييم مثالا لمنتجات ثقافة تحرص على تزويد ابناءها بالمهارات المعرفية/الادراكية العليا (التحليل، التقييم، الخلق). ولعلني لا أكون مبالغا ان لحظة لقاء الباحث مع الورقة تحمل العديد من أوجه الشبه بواقعة زيارة الجبرتي، المؤرخ المصري الذي عاصر الحملة الفرنسية على مصر، زيارته لمقر المجمع العلمي الذي أقامه الفرنسيون في بيت حسن كاشف جراكس ليكون مكانا لـ "صناعة الحكمة والطب الكيماوي"، ويذكرلنا ما وجده فيه من "تنانير مهندمة، وآلات تقاطيرعجيبة الوضع، وآلات تصاعيد الأرواح، وتقاطير المياه وخلاصات المفردات" ويحكى لنا عما شاهده من أمور تجرى فيه، يختم لنا حكايته معبرا عن انطباعه، بصدق شديد فيقول: "ولهم فها أمور وأحوال وتراكيب غريبة، ينتج عنها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا" .... !؟

محامي الشيطان
تخبرنا كتب المنطق عن أحد المغالطات المنطقية الشائعة، خاصة بين العاملون بالسياسة، وهي "مغالطة الاحتكام للعامة". وفحوى هذه المغالطة هو ان "تبني عموم الناس لفكرة ما يعني صحة هذه الفكرة". الا ان التاريخ يوفر لنا الكثير من الشواهد على عكس ما جاء في هذه العبارة. ففي وقت سابق كان اغلب البشر يؤمنون بان الأرض مسطحة او بان الشمس تدور حولها. والامر الخطير هنا ان تلك الاعتقادات الخاطئة قد تتحول الى مسلمات راسخة في عقل وضمير الامة مالم يوجد من يتحداها. وهنا يبرز دور "محامي الشيطان" في تحديه لكل ما هو راسخ وفي عدم تردده في مناقشة ما يطلق عليه لفظ "البديهيات". و"محامي الشيطان" هي آلية تستخدم اثناء عمليات صناعة القرارات الاستراتيجية او دراسة المشاكل المعقدة. وتهدف هذه الآلية الى تحسين جودة منتج هذه العمليات عبر الكشف عن أوجه القصور او الضعف خاصة في حالة وجود اجماع او شبه اجماع.

وهنا نقف لحظة وننظر حولنا لنتأمل ما يؤمن به مجتمعنا من "مسلمات" وما يعتبره من بديهيات فتكون النتيجة اننا في حاجة ماسة لكتائب من "محامو الشيطان".



#السيد_نصر_الدين_السيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هوجة الانتخابات
- فيها حاجة مش ولابد !
- على هامش حوارات المجموعة 42: الديموقراطية
- الديموقراطية من تحت لفوق
- هي فوضى ...؟ تبدل الأحوال (2/2)
- هي فوضى ...؟ الابجدية (1/2)
- تاتا تاتا خطي العتبة
- ويسألونك ... ؟ (2/2)
- ويسألونك عن ...؟ (1/2)
- البكسل التائه والصورة الغائبة: خارطة طريق (2/2)
- البكسل الحائر والصورة الغائبة: الرؤية (1/2)
- وكنتم خير أمة ... !
- في البدء كانت الكلمة !
- حكاية البيضة والفرخة
- المستقبل مضارعا
- الديموقراطية وقيمها الغائبة
- فنجرة البق وملاعيب الكلام
- سلالالالام سلاح
- لا يا شيخ ... ! (أو نقد المرجعيات)
- عقلك في راسك اعرف خلاصك


المزيد.....




- نيابة مصر تكشف تفاصيل -صادمة-عن قضية -طفل شبرا-: -نقل عملية ...
- شاهد: القبض على أهم شبكة تزوير عملات معدنية في إسبانيا
- دول -بريكس- تبحث الوضع في غزة وضرورة وقف إطلاق النار
- نيويورك تايمز: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخاص ...
- اليونان: لن نسلم -باتريوت- و-إس 300- لأوكرانيا
- رئيس أركان الجيش الجزائري: القوة العسكرية ستبقى الخيار الرئي ...
- الجيش الإسرائيلي: حدث صعب في الشمال.. وحزب الله يعلن إيقاع ق ...
- شاهد.. باريس تفقد أحد رموزها الأسطورية إثر حادث ليلي
- ماكرون يحذر.. أوروبا قد تموت ويجب ألا تكون تابعة لواشنطن
- وزن كل منها 340 طنا.. -روساتوم- ترسل 3 مولدات بخار لمحطة -أك ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - السيد نصر الدين السيد - الشيطان يعظ