أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الساهل - الأدب في حظر















المزيد.....



الأدب في حظر


محمد الساهل

الحوار المتمدن-العدد: 4742 - 2015 / 3 / 8 - 08:46
المحور: الادب والفن
    



1ـ الدَّهْشَةُ الأدبيَّة
ينوجد الأدب، بأجناسه الطيفية، ليُدهش القراء، فالدهشة الأدبية هي الغاية المثلى للإبداع الأدبي، ويندهش القارئ بإبداع نصي ما حين ينزاح هذا النص عن المعهود اللغوي والتقليد التصويري، وحين يخرق المألوف من التراكيب والكائن من العوالم. إن الانزياح عن الأنموذج النصي بما هو انكتاب لأنموذج جديد لَيُفرق القراء إلى شيعتين، فالشيعة الأولى تقدس النص ـ الأنموذج، كما تتحول إلى وصي على هذا الصنم الأدبي ولا تتوانى في تحصينه من الإبدالات الجديدة، أما الشيعة الثانية فتؤكد بأن الأنموذج الأدبي متحقق بالقوة فحسب، وتنفي أن يكون متحققا بالفعل لأن تَكَوُّنَه يخضع للسيرورة الإبداعية وللدينامية القرائية في التاريخ.
إن الأدب يتغيا الدهشة التي لا تنوجد إلا بالانزياح عن الكائن، ولا ينجح في ذلك إلا إذا كان العقل الإبداعي حرا والعقل القرائي متطورا. والمتأمل في الأدب لا بد أن يميز بين أدبين، أدب المؤسسة أو أدب الولاء وأدب المُمَانعة أو أدب المُعَارضة، فالنوع الأول ما هو إلا صياغة فنية وديباجة أدبية لإملاءات العقل السياسي - الغيبي الذي يوفر له عوامل النجاحين القرائي والتشهيري، أما النوع الثاني باعتباره صياغة فنية للإملاءات العقل الإبداعي وتدفقاته الشعورية وتموجاته التخييلية فإنه يضرب عليه الحصار القرائي ويتعرض للحَجْر الأدبي.
لنُحَوصِل، إذن، الظاهرة الأدبية في مبدأين: "كل أدب لا يُدْهِش لا يُعَوَّلُ عليه" و "كل أدب تزول دَهْشَتُه باللقاء القِرَائي لا يعول عليه".
2ـ الأدب من البناء للمعلوم إلى البناء للمجهول
يُبنى الإبداع الأدبي ليكون معلوما، فالعقل الإبداعي يتغيا، ومنتوجه الإبداعي ما يزال مُضْغة أدبية، أن ينوجد بالفعل في الساحة الفنية، كما يرنو، ومنتوجه الإبداعي قد اشتد عوده اكتمالا، أن ينكتب بالفعل في الذاكرة الجماعية. إن منتوجا إبداعيا لا ينوجد إلا إذا العقل القرائي تذوقه والعقل النقدي قاربه، هكذا ينتقل هذا المنتوج من وجوده بالقوة إلى وجوده بالفعل، كما يَعْبُر من بنائه للمجهول إلى بنائه للمعلوم، ويتداخل في هذا العبور ثلاثة أقطاب، المبدع بما استودعه في منتوجه من طاقات فنية تَسُرُّ المتذوقين، والقارئ بما يمتلكه من كفايات قرائية ومرجعيات أدبية لاستيعاب إبدالاته الفنية، والناقد يما يتسلح به من أدوات قرائية وكفايات منهجية تؤهله في الاشتغال النقدي على هذا المنتوج لإدراك أصالته الفنية.
وقد تتمتع نصوص إبداعية بالأصالة الفنية غير أن ذلك لا يشفع لهذه النصوص، في دوائر القرار الأدبي، بأن تنعم بالوجود بما هو انكتاب في الذاكرة الفردية والوجدان الجمعي، وتنشغل الدوائر اللاهو- سياسية بوأد هذه النصوص الأدبية، وتعتمد في ذلك على آليتين؛ التحريم بما هو حِرْمَان لهذه النصوص من حقِّها الطبيعي في القراءة، والتّكْنِيس بما هو حذف لهذه النصوص واستئصال لهذه الخطابات من الجسد الأدبي، وبما هو، كذلك، حرمان لهذه المنتوجات من حقها الطبيعي في الحياة. وتُخْضِع الدوائر اللاَّهُوـ سياسية الأعمال الأدبية الضَّالة للمُحَاكَمة لتَضَع المبدع أمام اختيارين أحلاهما مر؛ الاسْتِثَابة بما هي دعوة لتعديل النص الأدبي بما يتواءم ومعتقدات العقل الغيبي من جهة وبما يتلاءم وإيمانيات العقل السياسي من جهة أخرى ليتمتع هذا النص بحقه الطبيعي في الحياة نشرا وقراءة ودراسة، وإذا تشبَّت العقل الإبداعي بمنتوجه في طبعته الأولى دون تعديلات فإن هذا المنتوج الأدبي يصنف في دائرة الجريمة الأدبية، كما تُنزل هذه الدوائر بالعقل الإبداعي ومنتوجه أقصى العقوبات، فالمنتوج الأدبي يضرب عليه الحَجْرُ الأدبي ويُحَوْقَلُ في أرشيف الممنوعات، أما العقل الإبداعي فيعيش في رجفة من أن تلحقه رصاصة الغدر من أزلام العقلين الغيبي والسياسي. وللمحاكمة الأدبية دلالات متعددة، فهي توضح أن الدوائر اللاهوـ سياسية ترتجف خوفا من الإبداع الأدبي الذي يتهدد تمددها في الفضاءين الزماني والمكاني، كما تدل على أن هذه الدوائر تتغيا تنميط الإبداع الأدبي بما يدعم توجهاتها السلطوية لذلك تضرب على كل منتوج أدبي ضال حصارا مشددا وتُعَرِّض العقل الإبداعي للاغتيال الفكري.
إن بحثا موضوعيا في المدونة التراثية العربية بعامة والمدونة الثقافية الضَّادِيَة بخاصة ليُجْلِي تلك النماذج الأدبية التي لم تتمتع بحقها الطبيعي في الحياة، فالدوائر اللاهو ـ سياسية وَأَدَت هذه النماذج الأدبية لأنها نماذج ضالة عن الطريقين السياسي والديني المستقيمين، غير أن العقل القرائي حفظ، للتاريخ، عناوين هذه النماذج الأدبية وأسرَّ مقطوعات منها لتكون شواهد إثباتية على انوجدها بالفعل في التاريخ الثقافي في الجغرافيا العربية. والمتأمل في أرشيف الممنوعات الأدبية لا بد أن يميز بين نوعين من الأعمال الإبداعية الضالة، فالنوع الأول هو الأدب الديني باعتباره اتجاها أدبيا يتفرع إلى نمذجتين، تتمثل النمذجة الأولى في الكوميديا الدينية وتنضوي تحتها الأعمال الأدبية التي تقارب بأسلوب هزلي القضايا الدينية كرسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وتتجلى النمذجة الثانية في المعارضة الدينية وتندرج تحتها الأعمال الإبداعية التي عارضت النص القرآني في بنائه ولغته وتيماته كالفصول والغايات في محاذاة السور والآيات لأبي العلاء المعري. وقد انشغل العقل الغيبي بوأد هذه الأعمال الإبداعية بما هو حرمان من حقها الطبيعي في الانوجاد بالفعل في الذاكرة الفردية والوجدان الجمعي، وبما هو، كذلك، محو لهذه الآثار الفنية من الخزانة الأدبية وتَغْييب لهذا الإنتاج الإبداعي من المنجز الثقافي. ويعلل العقل الغيبي ممارساته التَّكْنِيسِيَة بعلل يَمْتَحُها من النسق الديني، مما يجعل محاكمته للمنتوج الأدبية محاكمة إيديولوجية وذاتية تتأسس على معايير أخلاقية ودعائم غيبية، وليست محاكمة موضوعية وفنية ترتكز على معايير فنية ومرجعيات نقدية. أما النوع الثاني فهو الأدب السياسي باعتباره اتجاه أدبيا يقارب بأسلوب فني القضايا السياسية من خلال النقد التفكيكي لممارسات العقل السياسي ومعتقداته والاشتغال التهكمي على أقوال العقل السياسي وأفعاله ككليلة ودمنة لابن المقفع، ولا يخفى على العقل القرائي في الجغرافيا العربية أن هذا العمل الإبداعي ما هو إلا مِيْتَا ـ ترجمة للبنجاتنترا ( الأبواب الخمسة) الهندية غير أن العقل التَّرْجَمِي تَوَفَّق في تمليك هذا العمل الإبداعي لنفسه بما أضافه على هذا المتن الأدبي من محسنات لغوية وأحداث مُشَوِّقَة، وبما أضفاه، كذلك، على هذا المتن الحكائي من مُسْحَة إقليمية وهُوِّية عِرْقِية، ولا يَنْكَتِم، كذلك، على العقل القرائي أن هذا العمل الأدبي موجه إلى العقل السياسي بغاية تَخْلِيق ممارساته وتَحْكِيم أفعاله سواء في بيئته المرجعية أو في بيئته الجديدة، وإذا كان العقل السياسي ( الملك دبشليم ) في الجغرافيا الهندية قد تمثل بعمق الغاية النبيلة لهذا العمل الأدبي فما كان منه إلا إجلال العقل الإبداعي ( الفيلسوف بيدبا ) وتعظيمه، فإن العقل السياسي ( أبو جعفر المنصور ) في الجغرافيا العربية استشاط غضبا من هذا العمل الإبداعي فما كان منه إلا تصفية العقل التَّرْجَمَي ( ابن المقفع ) وإِقْبَارُه. والحصيلة أن العقلين الغيبي والسياسي يحتفلان بالأعمال الإبداعية التي تكرِّس الوعي الزائف للعالم من خلال توفير أسباب الانوجاد القرائي والانكتاب الأدبي للمثقف التقليدي في الوجدان الجمعي والتاريخ الأدبي، في حين أنهما يَتَجَنَّدَان للأعمال الإبداعية التي تروِّج للوعي الحقيقي للعالم من خلال حرمان المثقف العضوي من حقه الطبيعي في الكتابة وذلك بإسكاته، بل بحرمانه من حقه الطبيعي في الحياة وذلك بتصفيته، بالإضافة إلى إخضاع منجزه الإبداعي للحَجْر الأدبي وتَكْنِيْسِه من الوجود الأدبي ليكون نَسْياً مَنْسيا وعِبْرة لِأُولِي الإبداع.
3- العَقل الإبداعي من المِنْحَة إلى المِحْنَة
يَنْمَاز الأدب بِأشكاله المختلفة عن العلوم بتمظهراتها المتنوعة بخصائص بنيوية، وتتمثل الخصيصة الأولى في الحرية باعتبارها محرك التاريخ الأدبي، وتقضي بأن العقل الإبداعي لا ينبغي أن ينضبط في الإنشاء الأدبي للنسق القيمي للوجدان الجمعي و للمعايير الذوقية والتوصيات النقدية للذوقين النقدي والقرائي، كما تشجع هذه الخصيصة العقل الإبداعي على اقتحام المناطق الطَّوْطَمِيَّة المجهولة وعلى بناء جماليات جديدة، وتتجلى الخصيصة الثانية في الخيال باعتباره أداة العقل الإبداعي في تشكيل العوالم وابتداع رؤيا حول الإنسان والوجود، وتفرض هذه الخصيصة أن العقل الإبداعي يجوز له ما لا يجوز لغيره، كما لا يُبتغى من إنتاجه الأدبي الصدق لأن أصدق إبداع أدبي، كما يؤكد شكسبير، هو أكثره اختلاقا، ولا يحكم على منتوجه الأدبي بالكذب لأن الفن بعامة والأدب بخاصة هو، كما يرى بيكاسو، كذبة نفهم بواسطته الحقيقة، وتتحدد الخصيصة الثالثة في الإمتاع باعتباره غاية العمل الأدبي، ولا تنكتب هذه الغاية في الإنتاج الإبداعي إلا حين يتسم موضوعه بالجدة ويتمتع شكله بالفرادة. وتتمثل الخصيصة الأخيرة في الدهشة الأدبية باعتبارها علامة على أصالة العمل الإبداعي وتميزه، ولا تنوجد هذه الخصيصة إلا حين ينزاح العقل الإبداعي عن المعايير النقدية والأعراف المجتمعية وحين ينسخ التقاليد الفنية والمذاهب الإبداعية ليقدم منتوجا أدبيا يؤسس لتقاليد إبداعية جديدة ويؤرخ لجماليات جديدة في الكتابة الأدبية.
إن هذه الخصائص تفرض على العقل النقدي أن يكون، بدوره، مبدعا في اشتغاله النقدي على المدونة الأدبية، ويبرهن هذا العقل على إِبْدَاعِيَّتِه في مستويين متداخلين، فالمستوى الأول يقضي بأن تبنى مُعَايرة العمل الأدبي وتقييمه على مقاربة نصية لهذا العمل من خلال استبصار أنساقه الفكرية واستكناه جمالياته الفنية، أما المستوى الثاني فيقضي بأن يتحرر العقل النقدي من سلطة الإطار المرجعي ومن صرامة الجهاز المفاهيمي من خلال تطويعه لهذه الأدوات النقدية بما يتلاءم وموضوع اشتغاله النقدي. وإذا توفرت هذه الخصائص في المقاربة النقدية للمنجز الأدبي فإن العقل النقدي يتوفق في تنمية الأدب وتطويره باتجاه آفاق يانعة، أما إذا كانت الممارسة النقدية تستنجد بقوالب نقدية صنمية وبجهاز مفاهيمي مسكوك وبأدوات نقدية صدئة في تقبل العمل الأدبي ومُعَايرته فإن العقل النقدي يُجَمِّد الأدب ويضعفه، كما يعرضه للإنمحاء والانهدام.

3-1 المنحة الإبداعية
إن قراءة عالمة للتاريخ الثقافي في البيئة العربية ليؤكد أن العقل الإبداعي كان حرا والعقل القراِئي كان متطورا، في حين كان العقل السياسي منهمكا في مجاله والعقل الغيبي منغمسا في ميدانه، وَتَنْسَحِب هذه الأوصاف على المجتمع العربي في الحقبتين العباسية والأندلسية، فقد شهد هذا المجال المكاني أعمالا إبداعية تؤكد أن العقل الإبداعي لم يخضع في إنتاجه الأدبي لقيود عقدية ولهواجس سياسية ولموانع قَيْمِيَّة وإنما ينضبط في الكتابة الأدبية لتدفقاته الشعورية ولتموجاته التخييلية ولشَطَحَاتِه التأملية، وَدُونَنَا قصائد أبي نواس فهي نموذج أدبي يؤسس لثقافة مجتمعية جديدة ولنسق قَيْمِيِّ مستحدث كما في قوله (1):
قل لذي الطَّرف الخَلُوب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ولذي الوجه الغَضُوب
ولمن يثني إليه ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ حسن أعناقَ القلوب
يا قضيب البان يهتز ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ على ضِعْس كثيب
قد رضينا بسلام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ أو كلام من قريب
فبروح القدس عيسى ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ وبتعظيم الصليب
قف إذا جئت إلينا - - - - - - - ثم سلم يا حبيبي
انزاح أبو نواس في هذا النموذج الشعري عن العرف الاجتماعي والتقليد الأدبي للبيئة العربية، فالغزل ارتبط، منذ بواكيره الأولى في الحقبة الجاهلية حتى اشتداد عوده في الحقبة الأموية، بالأنثى. إن القاعدة الغزلية تقضي بأن يكون المتغَزِّل ذكرا ( جميل بن معمر ) والمتغَزَّل به أنثى ( بثينة) بانتهاج خطين، أحدهما مادي من خلاله يَتَرَجَّل المتغزِّل في جغرافيا الجسد الأنثوي مستكنهاً أسرار جماله وعلامات حسنه وأَمَارَات جاذبيَّته، والآخر معنوي من خلاله يتمدد المتغزِّل في أقاليم الروح الأنثوية متشرِّباً صفاءها وطهرها ومعبِّراً عن هُيَامه وعِشْقه، غير أن أبا نواس خرق هذه القاعدة الغزلية التي تجدَّرت في النسق الفكري والشعوري للقارئ العربي ليؤسس لقاعدة جديدة تقضي بأن يكون المتغزِّل ذكرا والمتغزَّل به من الجنس عينه. وقد انزاح أبو نواس في هذا النموذج الشعري، كذلك، عن المعهود الديني في الثقافة الإسلامية وإحدى أبجدياته الجديدة التي تنفي طقس الصلب بما هو استرخاص للذات من أجل الآخر، لكن أبا نواس استعاد مشهد الخلاص الإنساني كما هو مسطور في المعهود الديني في الثقافة المسيحية. والمُلْفِت للنظر النقدي أن العقل القرائي في هذا المجال المكاني كان يَانِعاً من حيث المؤهلات النقدية والكفايات القرائية، فقد تَقَبَّل الشعر النَّوَاسِي بحساسية جديدة من خلال تذوق جماليته الفنية واستكناه متغيراته الجمالية واستبصار إبدالاته القَيْمِيَّة مرتكزا في ذلك على معايير فنية وأدوات نقدية، ولم يقحم العقل القرائي في اشتغاله النقدي على المتن النواسي معايير أخلاقية ومستندات عقدية لأنه كان يؤمن بأن الإبداع الشعري لا يُتَوَخَّى فيه الصدق ولا تُرْجَى منه الحقيقة ولا يُبْتَغى منه الإيمان، وإنما يُدَوْزَن بما يحويه من طاقات تعبيرية وبما يتضمنه من جماليات جديدة وبما يسِرُّه من رؤيا عميقة للإنسان وللوجود. والمُثِيرُ للتأمل النقدي، كذلك، أن العقلين الغيبي والسياسي لم يتطفَّلا على الإبداع الأدبي من خلال استصدار مراسيم تُحَرِّض على وأد أبي نواس وأدبه بما هو حرمان لمنجزه الشعري من حقه الطبيعي في الانكتاب، وبما هو، أيضا، حرمان للذات النَّوَاسِيَة من حقها الطبيعي في الانوجاد، بل إنهما تَوَارَيا عن الميدان الأدبي مما أعطى للعقل الإبداعي مساحات كبيرة للنجاح القرائي والتفوق الأدبي، كما تحرر العقل النقدي من القيود اللاهو ـ سياسية في الاشتغال النقدي على المنجز النواسي ليعد هذا العقل الإبداعي إِمَاماً للمجددين ورمزا للثورة الشعرية.
إن ما يميز أضلاع المثلث الإبداعي في الحقبة العباسية من تحرر المبدع وتوهجه، ونضج القارئ وأَهْلِيَتِه، ودينامية النص وأصالته، ليميز، كذلك، هذه الأضلاع في الحقبة الأندلسية، ودُونَنَا هذا النموذج الشعري لابن هانئ الأندلسي فَخَلِيق به أن يؤكد هذه المستندات (2):
ما شئت ، لا ما شاءت الأقدار *** *** فاحكم ، فأنت الواحد القهار
فكأنما أنت النبي محمد *** *** وكأنما أنصارك الأنصار
فقد شهدت له المعجزات كما *** *** شهدت لله بالتوحيد والأزل
ولك الجواري المنشآت مواخرًا *** ** تجري بأمرك والرياح رخاء
هو علة الدنيا ومن خلقت له *** *** ولعله ما كانت الأشياء
لا تسألن عن الزمان فإنه *** *** في راحتيك يدور حيث تشاء

لا ينكتم على العقل القرائي أن العقل الإبداعي في هذا النموذج الشعري يُأَلِّهُ العقل السياسي ويُرَسِّلُهُ، فما كان من هذا العقل إلا إكرام العقل الإبداعي وتعظيمه. والحق أن هذا المنتوج الشعري يستحق هذا التتويج لما أحدثه في الميثاق المَدْحِي من إِبْدالات جديدة، ففي المعهود المَدْحِي يجتهد العقل الإبداعي في مَثْلَنَةِ الممدوح ووَحْدَنَتِهِ بانتقاء الصفات الجميلة والنعوت الفريدة والأفعال العجيبة ليَتَزَيَّا بها الممدوح وتَزْدَانُ به، غير أن المدونة المَدْحِيَة في أبهى انكتابها لم تبلغ ما بلغه هذا النموذج الشعري من حيث جرأته وتحرره ومن حيث فرادته وأصالته. وإذا كان العقل القرائي قد أدرك، وبعمق، جِدَّة هذه التجربة الشعرية وتفردها حين قاربها من الداخل النصي بأدوات نقدية فإن العقل السياسي – الغيبي قد كَرَّمَهُ لأن هذا النموذج الشعري يُشَرْعِنُ انوجاده في القيادة السياسية.

3ـ2 المحنة الإبداعية
3-2-1 الرومانسية من فرحة جمالية إلى قُرحة نقدية
إن الإبداع الأدبي بأجناسه الطَّيْفِيَة لا يحقق الدَّهْشَة الأدبية باعتبارها سمة مَائِزَة للإبداع الأدبي الأصيل إلا حين يقتحم مناطق الحَظْر الفكري والسياسي وحين يجرب أشكال جديدة في الكتابة الأدبية، ولا يعوق العقل الإبداعي في هذه المغامرة الأدبية إلا أشباه القراء، فالتاريخ الأدبي في الجغرافيا العربية يَشْهَد على نماذج للعقل القرائي المُتَحَجِّر في ذوقه الفني والأُصُولِي في مُيولِه الأدبي والصَّنَمِيِّ في نزوعه الإبداعي، ويتصدى هذا العقل للمحاولات الإبداعية التي تنزاح عن الصَّنَم الأدبي بالرفض القوي والمعارضة الشديدة، ويُحَرِّض هذا العقل على الإبداع الجديد متسلحا بالنسق القيمي لأنذال العالم وأخِسَّاء الناس، ويُعَرِّض، بذلك، العقل الإبداعي للاغتيال الفني، والعمل الإبداعي للحصار الأدبي، والمنتوج النصي للهَجْرِ القرائي.
جَرَّب العقل الإبداعي في الحقبة الحديثة أشكالا جديدة في الكتابة الشعرية، فالتيار الرومانسي ابتدع وسائل فنية جديدة تَتَناسب و المضامين الذاتية، فقد استثمر العقل الشِّعري معجما لغويا جديدا يمتح من اللغة الحية، ودُونَنا هذا النموذج الشعري فخليق به أن يُجْلِي هذه الخاصية الشعرية (3):

البرتقال الحلو والفحم والأطباق والريحانة الفاتنة
والبيض والأثواب والتبغ والأخشاب والزينة والزائنة
واشرباب العصير في حينها مثلوجة إن شئت أو ساخنة
إن العقل الشِّعري في هذا النموذج الشعري قد انزاح عن التقاليد اللغوية للقصيدة التقليدية، فالتوصيات النقدية تُلزم هذا العقل أن يَغْرف معجمه اللغوي من مُشْرَبَّيات تراثية، ولا يُحَوقَل الإبداع النصي في الديوان الشعري بما هو وجدان الذات العربية وميراثها اللامادي إلا إذا كانت لغته جزلة وألفاظه متينة وتراكيبه فصيحة. وقد انتهج العقل الرومانسي في إنتاجه الشعري سبيلين، يتمثل أولهما في المَحْوِ من خلال تقويض الأقانيم الشعرية التي تُصَيِّر العقل الإبداعي بمتواليات من المعايير النقدية، فقد كان العقل الإبداعي مُصَيَّرا في إنتاجه الأدبي على تطويع نسقه الفكري والشعوري وإملاءات الذوق النقدي وتوصياته الجبرية التي تفرض عليه أن يفرغ دفقاته الفكرية والشعورية في أوعية تقليدية، ليصبح العقل الإبداعي مخيرا في إنتاجه الأدبي يبتدع مادته الفكرية والشعورية من جهة ويبتدع أوعية فنية جديدة تحتضن مادته الشعرية الجديدة من جهة أخرى، ويتمثل ثانيهما في البناء من خلال التأسيس لتقاليد شعرية جديدة سواء على صعيد الممارسة الشعرية أو على صعيد الذوق الفني. ويُأَجْرِأُ هذا النموذج الشعري آلية المحو في انزياحه عن المعجم اللغوي العَنْتَرِي، ويُأَجْرِأُ آلية البناء في إقحامه المعجم اللغوي اليومي في الخطاب الشعري، وقد صير نَثْرَنَةُ الخطاب الشعري بألفاظ من اللغة الحية إحدى جماليات القصيدة الحديثة بعد أن كانت في الحقبة القديمة من عيوب الشعر وهفواته، لكن العقل القرائي الذي يُسِرُّ تقديسا للنموذج الشعري القديم يتجند لوأد هذه النماذج الشعرية المجددة، ويتكئ في ذلك على آليتين، وتتجلى الأولى في التجريح بلغة انفعالية وبأساليب مبتذلة، وقد قارب هذا العقل المتن الشعري الجديد في مصنفات نقدية تَعْنِيفِيَّة، وتنزع هذه المحاولات النقدية إلى تبخيس هذا المنتوج الشعري وتحقيره دون أن تبرهن على هذه الأحكام الانطباعية التي ترمي العقل الرومانسي بالانحطاط الأدبي والإسفاف الإبداعي، ومنتوجه الشعري بالابتذال المعنوي والضعف اللغوي والخور التصويري، ولا تختلف هذه الحملة النقدية على الشعر الرومانسي من حيث أحكامها الانطباعية ومن حيث مجانبتها للإنصاف النقدي عن تلك الحملة التي شنها النقد التقليدي على شعر أبي تمام الذي عانى، بدوره، من أشباه القراء. ودوننا هذا النص فهو يوضح الاشتغال النقدي على المدونة الرومانسية بما هو وثيقة من الاتهامات غير المعللة، " لا تنس أن كاتب مقدمة (الألحان الضائعة) هو من تلك الزمرة المتمردة على قواعد اللغة العربية، وآدابها، وتاريخها، وأخيرا إن كاتب المقدمة من زمرة جهلاء العربية، التي بها يكتبون، ويتحدثون، ويذيعون رسالتهم في الناس"(4). إن تقويما نقديا عَالِمَا للمنجز الشعري لأحمد زكي أبي شادي ليؤكد أن هذا العقل الإبداعي مُتَضَلِّع في اللغة العربية كما يؤكد أن اغترافه من اللغة اليومية في الإنشاء الشعري هو اختيار شعري يؤسس من خلاله لنموذج شعري جديد ينسخ النماذج القديمة في التراث الشعري ويفتح الشعر العربي على آفاق جمالية يانعة. ويمتح أشباه القراء الآلية الثانية لوأد المحاولات الشعرية المجددة من نظرية المؤامرة من خلال اعتبار العقل الرومانسي عَمِيلا ينفد مخططات إمبريالية تتغيا القضاء على اللغة العربية بما هو تهديد للأدب العربي بالانهدام والانمحاء وتهديد للدين الإسلامي بالانكماش والأُفُول.
يتغيا أشباه القراء من تجريح العقل الإبداعي وتعنيفه بلغة مبتذلة وبأسلوب انفعالي زرع الخوف في هذا العقل ليراجع مسلماته الأدبية ولينحو بإنتاجه الإبداعي الخط الرسمي الذي خطته الدوائر اللاهو – سياسية، ويتغيا أشباه القراء من اتهام العقل الإبداعي بالعمالة لجهات خارجية إدانة هذا العقل وتلويثه لتُعرض إبداعه الأدبي للهَجْرِ القرائي وللحصار الأدبي. والحصيلة أن عقولا إبداعية استسلمت لإملاءات العقلين السياسي والغيبي، غير أن عقولا أخرى لم تكن هذه الضغوطات إلا لتزيدها إصرارا على اقتحام مناطق الحظر الفكري والسياسي وتجريب أشكال جديدة في الكتابة الأدبية.
3ـ2ـ2 سلمان رشدي من المد إلى الجزر

إن تاريخ انوجاد المنتوج الروائي لسلمان رشدي في البيئة الإسلامية هو تاريخ الاعتراف والترحيب آنة وتاريخ الجحود والترهيب آنة أخرى، كما أن تاريخ تلقيه قد خضع لحركتين، تتمثل الأولى في حركة مد للعقل القرائي باتجاه عوالمه الروائية، وتتجلى الثانية في حركة جزر للعقل القرائي عن إبداعه الأدبي.
3ـ2ـ2ـ1 حركة المد
حظي الإبداع الروائي الرُّشْدِي في الجغرافيا الإسلامية بالإقبال القرائي والعناية النقدية، ولعل ذلك ما تحقق لعملين روائيين من منجزه الإبداعي، ويتعلق الأمر بروايته "أطفال منتصف الليل" وروايته "العار"، فقد استطاع رشدي بهذين العملين أن يَنْكتب في الوجدان العربي والإسلامي لأنهما حظيا بالترحيب من حيث الإقبال القرائي وبالاعتراف من حيث الاشتغال النقدي.
إن قراءة عالمة لهذين العملين لتؤكد أنهما ينتقدان الممارسات الغربية في العالم الثالث، وتَتَمَشْهد هذه الممارسات في مستويين، يتجلى أحدهما في انشغال العقل الغربي على تمديد التخلف والاستبداد في الزمان والمكان، ويتجلى الآخر في استنبات هذا العقل لمشاعر الكراهية للتقدم والحضارة في الذاتين الفردية والجماعية، كما يُدينان تناقضات العقل السياسي وفجواته في العالم الثالث، فالبنية السطحية لهذا العقل توحي بممانعة الامبريالية ومقاومة مخططاتها الكولونيالية، أما بنيته العميقة فتؤكد أن هذا العقل ليس إلا أداة تنفذ هذه المخططات التي تكرس تعالي العقل الشمالي وتضخمه، وتبخس، في المقابل، العقل الجنوبي وتحقره. والحق أن هذه الخصائص المضمونية كانت حافزا مُشَجِّعا للعقل القرائي في المجالات الجنوبية على تلقي الإبداع الرشدي قراءة ودراسة لأن هذا العقل الإبداعي، في رأي العقل الجنوبي، لمثقف عضوي يفضح البنى الاستعمارية ونزوعاته الكولونيالية، ويسرب، في الآن ذاته، صكوك الصفقات غير المعلنة بين قوى خارجية وأخرى داخلية، كما أنه يذيع الوعي الحقيقي في صفوف الجماعات الجنوبية التي تجتهد للتحرر من الجهل والأمية والانعتاق من التخلف والاستبداد. والخلاصة أن العقل القرائي أثنى على الإبداع الرشدي لأن مضامينه تجيش الجماهير الجنوبية وتدعمها في رحلتها الشاقة نحو الديموقراطية والتقدم، ولهذا نصبت رشدي رمزا للممانعة الأدبية والمقاومة القلمية.
3ـ2ـ2ـ2 حركة الجزر
واجه رشدي لَمَّا أصدر عمله الروائي "آيات شيطانية" محنة وجودية لا تقل حدة عن مأساة الحلاج وتراجيديا ابن رشد، فهذا العمل الروائي الذي يُدين العقل السياسي وخططه الاستبدادية وينتقد العقل الغيبي ومفاهيمه اللأُخروية ويسخر من العقل المجتمعي وروحه الانهزامية حَوَّل رشدي، في رأي العالمين العربي والإسلامي، من مثقف عضوي إلى مثقف مدجن، كما حَوَّله من رمز للممانعة الأدبية والمقاومة القلمية إلى رمز للتَّطْبِيع الأدبي والعَمَالَة القلمية.
إن التراجيديا الرشدية تتوزَّع إلى ثلاثة مشاهد يطبعها الأسى والشفقة، ليس أسى على العقل الإبداعي الذي تجشم ألوان المعاناة وأشكال العذاب النفسي لأنه اختيار إبداعي لم يكن وليدا للبداهة والارتجال بل هو وليد للتعمق في التأمل والإجالة في الفكر، وإنما شفقة على القراءات السطحية لهذا العمل الأدبي وأسى على المنطق الديماغوجي الذي يعتمد على سذاجة القراء وسيكولوجيا الجماهير لاغتيال العقل الإبداعي ووأد إنتاجه الأدبي.
مشهد الوأد
أراد العقل الغيبي، بتحفيز من أجهزة العقل السياسي وذيوله، وأد رشدي بما هو حرمان من حقه الطبيعي في الحياة، وبما هو، كذلك، حرمان من حقه الطبيعي في الإبداع الأدبي، فهذا العمل الروائي يعد، في رأي هذين العقلين، جريمة لما يحويه من تزييف لحقائق تاريخه ولما يتضمنه من استهتار بمشاعره، والحق أن هذه التهم قد تصدق على عمل علمي صرف أما والحال يتعلق بعمل فني خالص فإن هذه التهم تسقط عنه لتؤكد براءته لأن الأدب بعامة والرواية بخاصة لا يُبتغى منه الصدق ولا يُرجى منه استنساخ أحداث التاريخ ولا ينكتب ليستعيد المعهود من القيم والمسكوك من الأعراف وإنما يُبتغى منه الابتكار والخلق، كما ينكتب ليُدهش قارئه بعوالمه الروائية وليُمَتِّعه بجمالياته الفنية.
إن وأد رشدي متحقق بالقوة بِانْكِتَاب صَكِّ يُحرض على اغتياله، لكنه لم يتحقق بالفعل رُغم أن العقل المُفْتِي كفَّر العقل الرشدي في زمن التفكير بما هو استعادة للذهنية الغزالية التي تشتغل بإوالية التكفير باعتباره واجبا عقائديا كما في هذا الأثر " فوجب تكفيرهم وتكفير شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وأمثالهما ". ولما كان العقل الغيبي في الحقبة الحديثة سليلا للذهنية الغزالية فلا مجال للتعجب والاستغراب بله للتظلم، ودوننا المثال المأثور يقول "من شابه أباه فما ظلم". إن هذا الاغتيال الفكري الذي انوجد بالقوة يستدعي اغتيالات فكرية انوجدت بالفعل في البيئة العربية من اغتيال فن الكاريكاتور الملتزم ورمزه التاريخي ناجي العالي إلى اغتيال فن النقد البناء وعَلَمِه التاريخي فرج فودة، ويؤكد هذا الاغتيال الفكري قاعدة دنيس ديدرو "لم يسبق لفيلسوف أن قتل رجل دين، ولكن رجل الدين قتل كثيرا من الفلاسفة" التي تصبح بتعديل بسيط لا يغير جوهرها كالآتي: "لم يسبق للعقل الإبداعي أن اغتال العقل الغيبي، ولكن العقل الغيبي اغتال عقولا إبداعية كثيرة".
مشهد الرَّجم
تَعَرَّض سلمان رشدي لرَجْم نقدي بقاموس لغوي مبتذل يدل على أن العقل النقدي لم يتخط، على الرغم مما شهده الحقل النقدي من إبدالات مفاهيمية ومُتغيرات أداتية ، طفولته الأولى بما هي طور الأحكام غير المعللة والمُعَايَرة الانطباعية، ودوننا هذا الأثر النصي الذي عاير الأدب الرشدي فخليق به أن يشخص أزمة العقل النقدي وتصدعه " إن الكتاب حقير، صادر عن نفس مريضة، رضيت لنفسها أن تغترب بأن تبيع روحها وتراثها" ( 5). ولا داعي للاستغراب من هذه المُعَايرة التي تدل على خور معرفي واهتراء منهجي لأن العقل النقدي اللاحق يَتَعالق بالعقل النقدي السابق في بنيته المفاهيمية وأدواته التقييمية، فالسَّند النقدي للعقل النقدي اللاحق في هذه القراءة الارتجالية لرواية رشدي ليس سوى ابن النديم الذي يتزاحم في فِهْرِسته ما هو بيبلوغرافي بما هو نقدي، فهذه المعايرة الحديثة من حيث مجالها الزماني والقديمة من حيث مرجعها المعرفي ما هي إلا استنساخ حرفي للمعايرة النَّدِيمية لأدب الليالي " كتاب [ ألف ليلة وليلة] كتاب غث بارد الحديث "، ولن ينكتم على القارئ الفِتِيشِي ائتلافا واضحا بين المعايرتين سواء على مستوى التعبير اللغوي العَامِّي أو على مستوى الحكم الانطباعي السُّوقي. والحق أن الليالي والآيات باعتبارهما نصين عانى من الاغتراب والضياع داخل البيئة العربية لم يكن ذلك إلا ليُكسبهما الحظوة القرائية والتقدير النقدي داخل البيئة الغربية مما يؤكد أن النص الإبداعي لا تُستكنه قيمته الفنية إلا باغترابه، فالليالي اغتربت في المجال العربي قراءة ونقدا واستثمارا ولم يُنتبه إلى ما تختزنه من طاقات جمالية إلا عن طريق الآخر التي احتضنها بالترجمة والدراسة والاستثمار لتعود إلى المجال العربي عروسا جميلة ومثيرة، ولعل الآيات تستنسخ هذا المسار الذي يبتدئ بالغربة فالعبور إلى مجال آخر بحثا عن عقل قرائي متقدم، وتنتهي بالنجاح قراءة ومقاربة واستثمارا فالعودة إلى الموطن الأصلي للإنصاف النقدي والمصالحة القرائية.
مشهد الحرق
لا ينتسب رشدي لابن رشد على مستوى البنية الاسمية فحسب، بل إنه ينتسب إليه، كذلك، على مستوى المحنة الوجودية، فالتكفير والاضطهاد والحرق مآسي تجشمها الرُّشْدِيَان رغم فوارق المجالين الزماني والمكاني ومتغيرات دائرة الاشتغال الإبداعي. إن التكفير باعتباره مُعايرة، بمفاهيم غيبية وأدوات فقهية، للإنتاج الإبداعي بشقيه الفلسفي والأدبي لَمُحَفِّز قوي للعقل السياسي لِيُكَنِّس الساحة الإبداعية من الإنتاجات الإبداعية الضَّالَة باعتماد الحرق آلة تجعل هذه الإنتاجات أثرا بعد عين وعبرة لأولي الإبداع. فقد أحرق العقل السياسي، بتسويغ غيبي ومصادقة من أعلامه، المدونة الفلسفية الرُّشدية، وتغيا من ذلك إخراس الصوت الرشدي ومحاصرته من جهة وتشتيت شيعته من القراء من جهة أخرى. إن إحراق الآيات الرشدية في مجالات عربية متباعدة ليس إلا استعادة لممارسات قديمة في الثقافة العربية وبعثا جديدا لتقاليد سياسية متجذرة في الوجدان السياسي. والثابت أن الكتاب كما العنقاء لا يحرق إلا لينبعث من جديد، فمن رماد الإبداع الفلسفي الرشدي انبجس الإبداع الروائي الرشدي وعيون إبداعية أخرى.
4- الأدبوفوبيا
إن تاريخ الإبداع بألوانه الطَّيفية لَتَارِيخ الصراع بين العقل لإبداعي والعقل السياسي – الغيبي، وقد اتخذ هذا الصراع مظهرين، يتجلى أحدهما في الصراع المادي الذي ينقلب إلى أشكال مأسوية كاغتيال العقل الإبداعي وحظر منتوجه الإبداعي، ويتمثل الآخر في الصراع النفسي الذي يتزيا بألوان البغض والحقد وأشكال الإقصاء والرفض، ولا ريب أن هذه المشاعر السلبية التي تُضمرها الدوائر اللاهو – سياسية للعقل الإبداعي ومدونته الأدبية لَعَامِل في تَكَوُّن ظاهرة الأَدَبُوفُوبْيَا.
الأدبوفوبيا خوف مرضي من الأدب والأدباء، ويُترجم هذا الخوف في سلوكيات عنيفة بحق الجماعات الأدبية التي لا تنضبط لإملاءات الدوائر اللاهو – سياسية ولأعرافها المجتمعية ولأنساقها القيمية ولمعتقداتها الغيبية، ويتمظهر الخوف والتخويف من هذه الجماعات في صور نمطية وممارسات اضطهادية وأفعال تمييزية، لعل أفظعها ما يلي:
- إذاعة صورة نمطية سلبية عن العقل الإبداعي تُحَوقِلُه في دائرة الزنادقة والملحدين، والانشغال على هذه الصورة لتنكتب في الوجدان الجمعي مما يغذي الحقد والعداء بحق هذا العقل والرفض والنفور بحق إنتاجه الأدبي.
- الاعتداء على العقل الإبداعي قولا بالتعنيف اللفظي وفعلا بالتعنيف الجسدي.
- الاقصاء من الجوائز الأدبية والابعاد من المراكز العلمية.
ولا يتأثر بهذه السلوكيات المَرَضِية إلا الإبداع الأدبي وقارئه، فالعقل الإبداعي تُوصد في وجهه النوافذ للانفتاح على عوالم جديدة واستشراف جماليات يانعة مما يضطره إلى استنساخ الكائن من العوالم واجترار المسكوك من الجماليات، ولعل ذلك، أيضا، ما يُضيع على العقل القرائي لذة النص الأدبي ومتعته الجمالية لأن قراءاته الأدبية تخضع لوصاية الدوائر اللاهو - سياسية وتوجيهاتها الجبرية.

5- بروكست في مدن الملح

ينشغل العقل النقدي على المنتوج الإبداعي بأدوات بروكست ومفاهيمه، ومن المسطور في المدونة الميثولوجية أن بروكست يُعاير الجسد الإنساني بسرير صَمَّمَه بالاِرْتِكان إلى ذوقه. إن بروكست لمتذوق للجسد الإنساني، والسرير بهيئته ومقاصه ما هو إلا بنية سطحية للذوق البروكستي، والجسد الإنساني بتمظهراته المتنوعة ما هو إلا مادة إبداعية للمُعايرة النقدية البروكستية. وينشغل العقل البروكستي، بما هو قارئ نقدي ومتذوق عالِم، على الجسد الإنساني، بما هو منتوج فني، بآلية القياس، وبهذا يكون الجسد الإنساني مقيسا والسرير مقيسا عليه، والذوق البروكستي علة للقياس أما حكم القياس فينقلب بين الإيجاب والسلب، فالحكم الإيجابي يدل على أن السرير باعتباره مقياسا نقديا على جودة الجسد الإنساني وأصالته قد احتوى هذا الجسد دون زيادة أو نقصان، أما الحكم السلبي فيدل على أن هذا السرير لم يستوعب الجسد الإنساني كأن يأتي هذا الجسد صغيرا على السرير- القالَب أو كبيرا عليه. وينشغل بروكست على هذا الجسد بآليتين، تتجلى إحداهما في التمطيط من خلال تمطيط الجسد الصغير حتى يتوافق والسرير- القالب، وتتمثل الأخرى في التقزيم من خلال تقزيم الجسد الكبير حتى يتلاءم والسرير- القالب، وتؤدي هذه الممارسة البروكستية إلى تشويه الجسد الإنساني.
إن العقل النقدي الذي يصدر في اشتغاله النقدي على الإبداع الأدبي من مرجعيات غيبية وخلفيات سياسية هو ناقد بروكستي لأنه يُعاير المنتوج الأدبي بسرير صممه بالارتكان إلى عقيدته الدينية والسياسية والإيديولوجية. ويقدم الناقد البروكستي الإبداع الأدبي، موضوع الاختبار شبه النقدي، في نمذجتين، وتتمثل النمذجة الأولى في الأدب السَّريري، وتندرج في هذه النمذجة الأعمال الأدبية التي تشتغل بمنطق الولاء والبيعة من خلال استعادة الإملاءات السياسية في قوالب فنية. والحق أن العقل الإبداعي في هذه الوضعية لقلم مأجور لفائدة الدوائر اللاهو – سياسية، وينشغل في إبداعه الأدبي بآليتين؛ التمجيد بما هو مدح للعقل السياسي – الغيبي و تعداد تَنْفيخي لشمائله وسرد تعظيمي لمنجزاته، والتخدير بما هو استنبات للوعي الزائف في البيئة الاجتماعية مما يحول المجتمع بكل أطيافه إلى قطيع آدمي يُلبِّي باسم العقل السياسي – الغيبي وأقواله وأعماله، ويمكن هذا الإجراء الانتهازي العقل الإبداعي من تحقيق مكتسبات مادية ومعنوية. وتتجلى النمذجة الثانية في الأدب غير السَّريري، وتندرج في هذه النمذجة الأعمال الأدبية التي تشتغل بمنطق المعارضة والممانعة بما هي ثورة إبداعية على الدوائر اللاهو – سياسية، وترتكز هذه الثورة على آليتين؛ التَّعرية بما هي فضح أدبي لممارسات هذه الدوائر الاستغلالية وكشف إبداعي للأبعاد الاحتلالية وتناول نقدي للوصاية السياسية و السلطة التاريخانية، والتنوير بما هو استنبات للوعي الصحيح في البيئة المجتمعية مما يحول المجتمع بكل مكوناته إلى مريدين يلبون باسم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
إن الناقد البروكستي ينشغل على الأدب غير السَّريري بآليتين، تتجلى إحداهما في التمطيط بما هو قراءة مُغرِّضة وتأويل إيديولوجي للمنتوج الإبداعي ، وتتمثل الأخرى في التقزيم بما هو طعن في القيمة الفنية للمنتوج الإبداعي وتبخيس لقيمته الفكرية. ويتغيا الناقد البروكستي، بما هو قلم مأجور لفائدة الدوائر اللاهو – سياسية، تشويه المنتوج الإبداعي مما يعرضه للهجْر القرائي والحصار الأدبي لما يحويه من تهديد مبطن للدوائر اللاهو – السياسية في وجودها الآني وتمددها المجالي.
والخلاصة الأولى أن الإبداع الأدبي إذا تعامل معه العقل القرائي باعتباره فنا لا ينضبط للمؤسسة الاجتماعية بما هي نسق من الحقائق والأعراف والقيم، فإن هذا المنتوج الإبداعي يستطيع أن ينمو طولا وعرضا دون أن تسكنه هواجس أمنية، ويستطيع، كذلك، أن يوفر للعقل القرائي اللذة الفنية والمتعة الجمالية، كما يحفزه على تحيين أدواته القرائية ليدرك ثوابت الأدب ومتغيراته، وليميز، أيضا، زائف الإبداع الأدبي من أصيله. والخلاصة الثانية أن العقل الغيبي – السياسي مُتَلَوِّن في تعامله مع المَنْتُوج الأدبي ومُنْتِجِه، فهو يُدَوْزِن تعامله بمعايير ذاتية ومَصْلَحِية، فإذا كان الإبداع النصي تمجيدا فنيا لهذا العقل واحتفالا أدبيا بإنجازاته فإن الدوائر اللاهو ـ سياسية تُؤَمِّن له سبل النجاحين المادي والقرائي، أما إذا كان الإبداع النص تشكيكا جماليا في هذا العقل وتبخيسا هزليا لإنجازاته فإن الدوائر اللاهو ـ سياسية تُجَهِّز له سبل إجهاض أدبه وإسكات صوته وترهيب ذاته، وتتغيا في ذلك أن يكون عبرة لأولي الإبداع الذين يريدون ارتجاجا في العقلين الغيبي والسياسي.

المراجع:
1)ـ ديوان أبي نواس، دار الجيل، ط 1984 ، ص .96
2) ديوان ابن هانئ الأندلسي، تحقيق أنطوان نعيم، دار الجيل، ط 1996، ص .105
3) ظاهرة الشعر الحديث أحمد المجاطي، شركة النشر والتوزيع المدارس، ط 4 – 2011، ص 38
4) أدباء معاصرون، حبيب زحلاوي، الدار التجارية، القاهرة 1933، ص 73.
5)- ذهنية التحريم، صادق جلال العظم، دار المدى، ط 1- 1997، ص 180.



#محمد_الساهل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نهضة أم نهضتان: نحو تحيين جديد لكرونولوجيا الثقافة العربية


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الساهل - الأدب في حظر