أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد حاشوش - درب الفيل















المزيد.....



درب الفيل


سعيد حاشوش

الحوار المتمدن-العدد: 4735 - 2015 / 3 / 1 - 23:53
المحور: الادب والفن
    




العراقيون مغيبون عن اللحظة
لا وجود لموتهم
إنهم مجرد فراغ
لا يسجلون بصفتهم موتى
المسرحي هارلود بينتر 2005

أليفتي ارض طيبة، مصغرة ،بيضاء بلون الحليب ،تلال متكورة على نفسها وسفوح ألتوت بأزميل فنان عظيم ،الانحناءات الملتوية تسخن بدفء قطرات الحليب......
على القفا تنام رمال بملمس الثلج ,تمتد يدي اليمنى - دون أن ادري - وتروخ الرمال الصفر, ينتابني شعور بتفقد جسدها البض ,الجسد المغموس بليقة صبغ مشع ومتفرد يحيل إلى بقع أكثر ابيضاضا تحت الشعر الأسود السائب ..وحتى هذه اللحظة , بعد عشرين عاما لا تفارقني التفاتها الحادة بشعر منسدل بعشوائية وفم مزموم بشفة عليا ملتوية للداخل ينفرج - في لحظة خاطفة - عن ابتسامة تتكور فيها كل آلام الأنثى , الأرض هائلة الجمال والحجم وثمة بروزات حادة على سطحها , بروزات خلق فوضوية, الأشجار..الطيور..الفراشات , غموض الفوضى على ما يبدو إحساسا فطريا ,تداعيات رحلة الوصول إلى أقصى ما في ذات البشر..ما زلت ابحث في وجوه الفتيات ...ابحث في تابوت الذاكرة التي احملها كنعش من خِرِق وكِسَر وبالات الهذيان...وفي لحظة غامضة , لحظة تعامد وتصالب الزمن في بؤرة غموض فوضى الجهل المقدس تجسدّ كل الوجوه وجه فتاة بلون الحليب يشبه وجهكِ حين تكركر سهام وحين يتلون الزمن ببياض شاحب تقفز في هذياناتي اللحظة الأخيرة .. النظرة الأخيرة لوجه ياسمين في ذلك الفجر الفضي الذي غاب في التاريخ ,بعد أن نسى أهل القرية جفون الفتيات الميتات في ليلة الجمعة الأخيرة , أبي الذي نسى نوافذ العيون مفتوحة , أمي التي فقدت الذاكرة ..قطرة ..قطرة.. إلى مرحلة بياض الطفولة ... الطفولة التي يخضع لها حتى الله 0
الإنسان إذا أراد الحفاظ على إنسانيته يجب أن يكون تحت نعال كل طفولة حتى لو كانت طفولة جراء أو قطط ...
نحن أطفال القرى المهشمة نعيش في دوائر صغيرة مغلقة ومتوالدة مثل البكتريا في كتاب العلوم .
العلوم والأحياء التي تدرس الخرافة لأني اشك أننا نولد بطفولة وإنما نولد عجائز بمكبوتات هرمة . الحب مفروض أولي (هكذا تقول الأديان ) شربته ممزوجا بحليب الأم والبقرة الحمراء الوحيدة ثم ارتسم بقوس قزح ابيض مثل يد بيضاء طويلة... الطفولة شريط سينما كثير التقطع والتلصيق..أتذكر فقط حين تركت الطفولة ,حسب ما اعتقد ,في سن التدشين(ستجديني يا حياة خلف إيماء الأحداث وليس في هذه اللغة المستهلكة الغريبة عن إحساساتي الغامضة).. السنة التي انتصب عضوي الصغير وقذف سائلا اصفر قليل الكثافة ,لأن الزمن يمضي ولا يمكنني أن اجعل تلك الثواني مجرد ذكرى وإنما هي أعمق من الذكريات ..هي الحياة.. تنحسر..تنحسر..وأنا في سن الثلاثين ,تخفت الإضاءة من النافذة وتقفل الأبواب...الحياة المرغم أن أعيش كل لحظة فيها ,اللحظات المتسلطة على الدماغ والمتمددة عبر الزمن , لحظة اختراق فحل حمار سباهي فرج سهام الصغيرة وموت ياسمين الفلسطينية بقضبان سود لرجال بغِتَر بيض ,اليوم الذي صاح طائر الططوة في سماء القرية بعيدا عن المستنقع ,أنا لا استطيع أن أحدثك بلغة العجائز السمسارات, العاهرات الهزازات الأرداف السمينات ,أصيبت شخصيتي بالاضطراب ..اعتقد ذلك ,أنا الذي شخصت دائي ,لا حياء من عاري ,أنا ابن القوماج العرب.
كل النجاح الذي نهوس من اجله هو فشل ذريع أن لم يكن نجاح إنسانية جديدة.
أبي يغتسل بماء حار اعتقادا منه إن النجاسة تتشبث به على شكل دهون !
ما حدث بالأمس مازال يحدث اليوم !وفي كل ليلة يتجه الأب إلى ركن من أركان الدنيا الأربعة ,إلى زاوية خصّ من زوايا دارتنا بدلا من وقوفه في باحة البيت والاستدارة مع جمع المصلين بعد أن اضرب عن صلاة الجماعة ,اسمع نشيج وبكاء...يا حجة الله على خلقه ,يا سيدنا ومولانا ,إنّا توجهنا واستشفعنا بك إلى الله, وقدمناك بين يدي حاجاتنا ,ويتحول دعاء الزيارة إلى نشيج: يا وجيها عند الله ..اشفع لنا عند الله..يكرر دعاءه الأخير مرتين ووجهه لمغرب الشمس وفي ذلك الدعاء الموجه إلى اثني عشر من الأئمة تمكنت من وضع خطة عظيمة مكونة من اثني عشر خطوة...وبالصدفة عثرت على مخطوطات نحاسية على شكل رموز شطرنجية نقشت بطلاسم على جدران صندوق أمي السيسم , الخطة داخل الصندوق تتحدث عن ثورة شعب أما على خارجه تمكنت من حل شفرتها العربية ووجدتها خطة شطرنجية باثنتي عشر خطوة أطلقت عليها التنين الأكبر المكسور الجناح.
هذا النص خلاصة إحدى عشر رواية لم تنشر عن مطابع وإنما عن آلات استنساخ ومازال الأصدقاء يحتفظون بهذه الروايات الوثائقية العجائبية حسب مصطلحاتهم النقدية التي لم استوعبها بعد0
ليس مهما أن امزج فصول الروايات وإنما المهم أن امزج الأفكار وأقدمها على شكل حساء...
قد يتراءى لكِ يا حياة إني اكتب سيرتي الذاتية والحقيقة المُرّة في كل رواية عن الجنوب إن السيرة مجرد عمود فقري للحبكة بينما يجسد جنوب الجنوب اللحمة التي تكسو العظام إما الجلدة المشعرة التي تعطي هيئة لهيكل روايتي هي جلدتنا....
الحقيقة التي يحاول كل منا إخفاءها عن الآخرين ..الرواية تعرية الهيكل النحيف عن ملابسه وإظهاره عاريا مثلما خلق أول مرة ..ليس صدفة أن يكون الإنسان هو العاري الوحيد بين الحيوانات على سطح الكوكب لا يستره ريش أو وبر...
لأني عاريا انتقلت ببساطة اثنتي عشر نقلة في الأسلوب ومنهج التفكير وكل الفصول تجتمع برابط خفي, مهيمن , منظم غير مرئي, ولولا هذا لاتهمت بالجنون ,قد أكون المجنون العاقل الوحيد في رواية التمثال, العاقل المعلق على القضبان كالقردة ,لكن أهل القرية فرشوا البساط لأبي ليجلس ويروي لهم الأكاذيب في هذه الرواية وقد لا تكون رواية ..أنا لا اعرف ما هي..شيء وحيد ابحث عن نتائجه ..الجهود المبذولة لإنجاح خطتي المستلهمة من الشطرنج , خطة التنين الأكبر المكسور الجناح بعد اكتمال افتتاح الدفاع الهندي, هل نجحت بقتل الملك الأبيض في النقلة الثانية عشر أم هي نقلة مؤجلة إلى ما لانهاية من النقلات؟
العبد الذي يأكل الهيس (التمر الممزوج بدقيق الشعير) ويحمل على كتفيه الحنطة ,أنا مشتت هنا ومتوحد في فصول أخرى ,مختبئ ومرئي معا..ابتلع الهيس بلذة عظيمة وابتسم ببلاهة وقدماي تغطان حتى الركبة في مياه المستنقع الآسنة0
ألح على تلاوة اسمك في كل فجر ..في كل مساء..وان مازلتِ ميٌتة , وسأسهر الأيام القادمة أحرسك واعزف الموسيقى من آلة التسجيل واسكر بالعرق إلى حدٌ فقدان الوعي وأرتل في أعماقي كل القصائد التي تتحدث عن الحب والثورة وإذا لم تستفيقي من الموت ..يجب أن تعودي إلى الحياة ..أنا انتظر..وإذا لم تتمكني من العودة هذا تأكيد على إني مجنون ...
عندما أطلقت النار على الفرقة الحزبية شعرت بأني حي وبنضارة عجيبة, أنا العاقل المجنون تمكنت من العودة فلماذا لا تعودي أيتها البيضاء الحليب..إذا لم تستفيقي من الموت يعني لي عدم وجود العدالة ..ولأني قطعت لساني من الجهة اليمنى على قاعدة تمثال عدنان خير الله في كورنيش العشار خوف البوح بما رأيت ولأني اعتقدت أن الناس لا تهمني بعدما رأيت ,تأكدت بعد ثرثرتي الطويلة ..أو هو هذيان...لا فائدة من الكلمات التي أقولها ,الأصح, أتقيؤها على الناس قررت أن اكتب لكِ بيدي اليسرى بعد أن حصلت اليمنى على اطلاقتين ,اشك إن الكلمات قادرة وحدها بالتعبير عن بشاعة القوماج العرب0
تأكدي إن الذي اكتبه ليس هذيان سجين على ورق وإنما يوجد رابط خفي يربط كل الادمغة0
سهام لم يغتصبها حمار سباهي على الرغم من انتصاب عضو الحمار الجاثم فوقها...هكذا يبدو من بعيد ..تنحني برقبتها تحت العضو الهائل السواد والضخامة باغتصاب تعبدي أو مقدس ,جنود مدرسة القتال في الدريهمية هم المغتصبون ..اعتقد ذلك ,أنا الوحيد الذي يعرف كيف ماتت الأليفة بعد أن ابتعدت صاهلة بكركرتها التي لم تنمو بعد وتنخلع من كركرة الأطفال ...تبتعد وتلتفت للوراء ,لي أنا الواقف في عتبة النص, عتبة باب حوشنا المبني بالقصب المسيع بالطين0
تجمدت عينا سهام ببياض على نجمة غروب ليلة الجمعة الأخيرة وما زالت قطرات البول تبلل وجهها...صدرها الهائل البياض من تمزيق الثياب وثمة عضو اسود لحمار ابيض يتصلب بتحد ويسمط ذاته بذاته, نترة هستيرية أسفل البطن وعينا سهام المشدوهتان تتابعان الرأس المفلطح للعضو الأسود وهو يسد فراغ الكون0
أعراب حي الدريهمية نظروا للحمار بحسد ...وغيرة عجيبة وبوخزات الدبوس انكمش العضو الهائل متواريا عن الأنظار في نفس اللحظة التي صاح فيها طائر الططوة في السماء0
بحثت عن وجه نحيل ابيض ساح بين الوجوه ,كل الوجوه تجسد وجه سهام وكل الوجوه تَعلَقت عليها النظرة الأخيرة لوجه ياسمين الفلسطينية ,ذلك الفجر الذي غاب في التاريخ ,النظرة الأخيرة نظرة بيضاء 0
وأنا مازلت اجلس على عتبة باب دارتنا عالقا بأحداث مسحها التاريخ قبل أكثر من عشرين عاما0
قبل أيام انفثأ خوفي دون رجعة حين ضغطت على زناد البندقية وأطلقت النار على الفرقة الحزبية في قضاء الزبير وأفسدت حفلة ميلاد السيد الرئيس , كنت البطل الوحيد المتخفي في تلك الليلة...
صاح المذياع الملبد بمعطف جوزي :طوبي يسابقني ..يطر من فوقي ,عرج أبي مبتسما مهللا: أوراق الخباز والحرفوش تنظر بوجهي..الأوراق والأزهار تطالعني بفرح بعد الله... فيما هطلت الغيوم مطرا غزيرا لتزيح التراب وتروي الجذور...وصاح المؤذنون بحنجرة واحدة ومباغتة :الله اكبر ..الله....كلما اسمع الأذان تتداعى الأحداث في ذهني ,طبول الأذان التي تطير على إيقاعها المباغت كل حمائم المدينة وتدور دورات واسعة قبل أن تختفي في الأقفاص, البقرة الحمراء الوحيدة ودفء أمي في ليالي الشتاء واليد البيضاء الطويلة الممتدة في السماء, رحلة على الورق لفك طلاسم هذا الحب في أعماقي لكل موجود وثمة كره لمخلوقات قميئة زائدة على الكوكب ..اعتقد ذلك ..الكائنات بغموضها العجيب تفرز طفيليات يجب أن اكرهها بقوة ..أفكر بسر الغموض وما جرى في ذلك التأريخ ,اليوم المتوج بليلة الجمعة الأخيرة للاجئات الفلسطينيات ,ليلة افتتاح ريسسز الدريهمية والرقص المجاني الاستعراضي للغجر وتومان العبد الذي يعزف الناي من أنفه وسمران الهيوا والنوبان والخشابة بغترهم البيض والعُقل السود والصبيان الراقصين بصدريات لها ذؤابات تهتز على إيقاع الطبول0
بدأت الأحداث حين استطال الأذان ونبتت له قرون الماعز بتوجع الملالي وأنينهم قبل ساعة أو ساعتين من تبيان الخيط الأبيض من الأسود, وجعلني في الواقع أقدس الغموض، انه جهل مقدس بالأشياء, الإنسان كائن مقدس بغموضه، أحاول جاهدا أن أفك شفرة تجليات الغموض في إحداثيات الصفر، صفر المكان والزمان ,كانت خطة الشطرنج وثيقة تاريخية عثرت عليها صدفة عندما تعلمت لغة الشطرنج العربية مما دفعني فيما بعد أن ادرس كاربوف السوفييتي بدفاعه وهجومه المضطردين وفيشر الأمريكي بهجومه المباغت بعد تأمين دفاعاته لكني اتجهت إلى فلسفة البحار نمزوفتش وتأملاته وحصلت على بطولة الاعداديات في الزبير للشطرنج واختارني ألد أعدائي هو أستاذي في درس الوطنية عبد الله العلي أن أدرب الصغار على الشطرنج في الاتحاد العام للشباب الذي يرأسه.
تأملاتي في الشطرنج جعلتني أفكر بجيفارا واختراقه الهجومي الانتحاري واحلل بشروحات غريبة على العقل الجنوبي خطة التنين الأكبر على إنها خطة تستقطب لعبة القط والفار , تدرس ثورة شعب ضد ملك بيٌض نفسه بالقوة وكان صاحب الهجوم بخطوته الأولى لذلك ظل الشعب في موقع الدفاع ...
قال أخي الأوسط - الذي استشهد فيما بعد على ارض نجهلها وأهداف لا ندركها عن تحرير فلسطين وإرجاع قبة الصخرة الضائعة - إن خطتك الشطرنجية مجرد حلم يقظة صنعته بإرادة دماغك العجيب من مسامير نحاسية تجد زخرفتها على كل صندوق سيسم اسود0
الآن اسمع صوت ألاف المآذن تنادي مجتمعة وأنا في محرقة قمامة الريسسز الذي تحول إلى سجن للاستخبارات قرب المفتول أو هي القلعة0
المساجد المستدقة المنارات نثرت انفصامات هائلة على رؤوس أطفال الأزقة...
في كل يوم أرى لحية والد الأقزام تطول ... إصبع .. فيما تقصر دشداشته ..إصبع ..
لا تربطني الجمل الغريبة التركيب بحبال إلى مرسى روايتي بل بشعرات رأس سوداء مزيتة بدهن بشري مثل الشعور المسبلة على العظام في القبور الطولانية قرب خطوة الإمام علي0
كل الروايات تبحث عن بؤرة اتصال مع القارئ إلا هذه الرواية أو هي نص ,أنا لا اعرف ما هي, تؤسس نفسها على انفصال مع القارئ, هي تبحث عن معنى يصنعه .. يا طاهر حبيب أنا بريء من خلط أجساد الإيرانيين في مرصد 2/5 , إستيلاد ميت من جثث موتى ..أنت تقول لي : ما المانع إذا كنت في العراق وجثتك في إيران وتطلق ضحكة مخمورة تشير بسبابتك نحوي: أنت فوق الأشجار..كثيرا ما سمعتك تنادي السماء : فوق الأشجار....
(أنت فوق الأشجار تخلط جسدي سهام وياسمين ..كلنا نخلط البشر ونصنع منهم تشريب لحم, وما المانع أن تخلط عراقية بأخرى فلسطينية, لأن لهن مصير واحد وماتتا باغتصاب واحد أو هو عضو واحد, سهام لاجئة في وطنها إما ياسمين مجبرة على ترك وطنها, الغجر وحدهم لهم عين على الأرض, هجرة لانهائية على أطراف المدن...لان المسلمين حاربوا بعضهم بعضا أكثر مما حاربوا أعداء صنعوهم بالقوة لذلك اعتقد أن الجنون ظاهرة سياسية عربية توثق أحداث جنوب البلدان .. جعلوا الإنسان اثولا من مهيمنات اشترك الدين الشعبي بصناعتها0
سارة المومس هي الوحيدة الصادقة في القرية لأنها تقول أن فرجها الأسود يمضغ بشراهة أعضاء الرجال ليمضغ فمها كسرات الطعام0
الناس تلبس أقنعة لتخفي أقنعة أخرى...
أنا أحاول أن افهم نفسي والعالم وهم يحاولون فهم ودراسة التدريب على أسلوب السيطرة المطلقة لان الإنسان لا يعنيهم بشيء وبالتالي هم في حالة تناسخ (المربع التاسع في إحداثيات الخارطة)0
إن تعلق المظلوم بالظالم مثل تعلق القطة بالذي يخنقها أطلقت عليه مرحلة التعالق (المربع العاشر في إحداثيات الخارطة)0
إن بث مفاهيم السلطة وتجميلها وإرسالها معلبة ضمن فترة حفظ وتحت درجة معينة من السيطرة أطلقت عليها مرحلة إلامباث (المربع الثاني في إحداثيات الخارطة)0
إما مربع التماهي هو المربع الحادي عشر الذي يضم الشعب والسلطة , الوصفات التي تحاول جعل الناس مجرد قطيع خراف سأشرحها لكِ فيما بعد في خطة التنين الأكبر المكسور الجناح, لأني أدركت إن كل أبناء القرى المهشمة يتكاثرون مثل البكتيريا وعلى شكل بصقة حمال أمتعة , تكبر وتكبر البصقة لتكون صفرا هائلا عندما أقول صفرا يقول الأعراب تعني (زرف) لتقودهم الكلمة فيما بعد وحسب ما ورثوه إلى أعضاء جنسية ,اعني بكلمة الأعراب ذيول العرب الهائمة في كل ارض 0
لهذا السبب يغتسل الأب الحكواتي بماء حار لاعتقاده إن النجاسة دهون مسودة0
أبي استطاع أن ينمي الدكتاتور الصغير في أعماقه ليصير شيخ القرية , في كل منا دكتاتور صغير ينتظر أن يكبر أو يتمدد لكنّا لا نمتلك فرصة تسميده بالكمياوي0
أب الأقزام المساكين أصيب بالكآبة وانقطع عن السلام والحديث مع الآخرين ,يصلع رأسه كل يوم ويقصر جسده فيما تطول لحيته أصبعا وتقصر دشداشته أصبعا آخرا...
السيد هو الفاتح الجنسي للقرية بدون منافس ,أبي المثور الذي أنجبه تاريخ قديم, أنا البصاص من ثقوب على خيام اللاجئات وأكواخ الغجر وبيوت الصفيح(الجينكو) للأعراب ....
المربع السادس هو مربع التناذر حين تتناذر الأيام العصيبة وتفرز اجهاضات نفسية وتوترات عصبية تؤدي للتقاتل أو النفاق وفي أحيان قليلة تؤدي الإرهاصات إلى كتابة رواية مليئة بالإنذارات والوعيد0
الكتابة مهنة بصاص من ثقوب متهرئة, البصاص الذي يحدث الناس عن فيلم في عالم الحيوان عرضه تلفزيون الكويت في بداية السبعينيات حين هاجم قطيع ذئاب قردة تهرول على الأرض ومن خوفها الشديد وقبل أن تلتهمها الذئاب أنجبت وليداً صغيراً فما كان من احد الذئاب إلا أن يعضّه من الرقبة ويصعدّه على غصن شجرة متكئ على الأرض..رأيت الذئب خجلا من الطفولة...
الله هو الطاقة المشعة في كل حياة ,الأرض هي الجميلة والرائعة مثل الفتيات ,لا يعقل أن تنجب رجال السلطة ,الأرض هائلة الحجم ,الله حين نفخ الروح في الكائنات نفخ فيها الضمير ,الضمير الذي يسكن حتى في أعماق ذئب وحين نكوّم القمامة أمامنا نراوح في المربع الدائري للصفر..وقد لا نصل للمربع ألاثني عشر(في خارطتنا)الكل يحشر في مربع خفي أطلقت عليه مربع التعالق لأنه يتعالق ويتزامن مع كل المربعات..اكتب لك عن انطباعات سأجعل منها رواية فيما بعد لان أبي جالس على بلّة من خوص النخيل في عتبة دارنا ليقود القرية إلى المجهول ,المحاولة هي بحث عن معنى حياة كل كائن, أنا جالس في عتبة الباب ..اعني عتبة النص ,وكل داخل أو خارج من الحوش دخل على الرغم من انفي روايتي المنتظرة..رواية عن ثورة لا تؤدي بالناس لحياة أحسن ..أو أسوء وإنما لهاوية من نكاح واغتصاب0
بعد اغتيال الأشجار وتجفيف الاهوار لم يبق لأبن الجنوب إلا جمال الوجه والصوت البشري وتلك الطاقة الشعورية المؤلمة الدفينة المتحولة لحركات راقصة بعقد زواج بين الموسيقى والجسد ,شعوب بأكملها تغتصب ولا تموت
, اغتصاب الجنود لسهام مجرد توهم لان العرب السكارى ليلة الجمعة الأخيرة اغتصبوا الحيوانات بعد أن ضجّ حي الطرب بصفوف عشوائية تمارس العادة السرية في العلن, الليلة التي أزيح الستار فيها عن كل مخفي ومستور وسري, ليلة المغناطيس التي جذبت العرب من كل حدب وصوب, ليلة الذباب البشري0
افكك انطباعاتي واسرد محاور ومجاهل لأكشف عن ماض فرض نفسه دون إرادتي من اجل تركيبه بهيكلية جديدة لمستقبل لا اعلم ما هو ...
في تلك اللحظات التي تسبق تمجيد المؤذن للرب بكلمات الشكر والدعاء وآيات من الذكر الحكيم مثلما هو هياج غروب كل ليلة جمعة رأيت قفا الحمار ابيض ناصعا في ذلك المنخفض القريب من قمامة مطبخ مدرسة القتال للمغاوير ,الوجه المستطيل للحمار ينخر ويتمخط, صاعدا ونازلا, وأدركت إن سهام تحته تمرغ عضوه الهائل السواد والحجم بفرجها الصغير في أعظم ما تكون النشوة لكن الحمار وبنترة مباغتة ولج رأس عضوه الأصلع الثقب الأسود الصغير بن فخذي سهام وسمعت صرخة عالية تبعتها عدة صرخات متباعدة وعرفت إن عضو الحمار اخترق الأحشاء وضغط على الرئتين ولم تستطع الصراخ بعد ذلك ورأيت بضعة جنود هاربين إلى أشجار أثل المعسكر ,أنا اشك برؤيتي تلك لأن الجميع يتهمون الحمار لخوفهم من السلطة , كل سلطة مستبدة لا بدّ أن تغتصب أفراخها الفتيات الجميلات بذكورة عنترية لتأكيد القوة والاغتصاب المستقبلي لكل شيء..أعتقد ذلك0
استطاع حمار سباهي أن يهرب للكويت لاجئا وعلى ظهره الفنان سعد الخليوي..حمار ابيض كالبراءة ,مات وحيدا على تلّة قرب جبل سنام في الحدود الكويتية بعد أكثر من اثني عشر عاما بعد إن هربّت على ظهره أكثر من ألف لاجئ هارب من السلطة, الحمار هو المناضل الوحيد في القرية0
العالم ولد معي وليس عجوزا شائخا ينتظر الموت لكني تحولت إلى أذن فقط بعد أن قطعت لساني من جهته اليسرى وأصبت باطلاقتين بساعدي الأيمن لكني ارفض أن استنسخ مثل الأجداد وإلا لكنت زائدا على الحاجة ولا يوجد سبب لولادتي 0
أنا لا اعرف السر الخفي لانتظار أمي مولود جديد , انه مجرد انتظار ...
هي رحلة على الورق لفكّ طلاسم غموض هذا الانتظار , اعتدت أن اجعل من وجودي صفرا في كل إحداثيات ارسمها لخطة التنين الأكبر المكسور الجناح وان اجعل الفرقة الحزبية في المربع الثاني عشر(المربع الذي اعتبرته صفرا أسود في الانتفاضة ولم أجد معنى لوجودي في هذا المكان سوى أن أتبرز فيه) بعد أن جعلت كل مائة متر تساوي سنتمترا واحدا على الورق والمفروض إن أضع الإحداثيات تسعين التربيعية التي يتربع عليها مرصد التحدي 5/2 بعد أن صغّرت كل كيلو حرب إلى أربع سنتمترات0
في تلك الالتواءة التي لها لسان صغير وفكّ مأكول بالأسلاك الشائكة ,هذا النخر الممسوس هو بحيرة الأسماك التي لم اصطد منها سمكة واحدة بل تلبط فها الجثث قبل أن تجيف, الآن من فتحة كوة محرقة القمامة اسمع الهياكل العظمية تطقطق وتثغو كالخراف وتارة يحل الصمت, اللاشيء , أهذي, الهذيان وحده يصنع تابوتا جميلا بخشب ابيض لكل قتيل , انه كنز الذاكرة المقدس, من المحتمل أن يكون الهذيان ذاكرة كل البشر, منذ أجيال وأجيال اسمع صراخي في أكواخ الذاكرة , الأكواخ المفخخة بالأسرار والمغلقة أبوابها من بواري القصب والمشدودة بهستيريا حبال الليف0
أنا كائن يصغي فقط لأني قطعت لساني خوف البوح بما رأيت لأن قدمي داست على عظام حية سامة وانتفخت بداء الفيل لذا لا استطيع السير طويلا ولا أرى ما في البعيد بعد نفخة العربيد الذي يسكن حلانة التمر..وحتى لو تحدثت, الكلمات وحدها غير قادرة على التعبير بما رأيت, الكلمات عاجزة, وأنا أحاول كي لا أصير كائنا مستنسخا عن الآخرين الذي يشرعون الآذان ويصيخون السمع لأوامر السلطة والمجتمع الشائخ كجذع شجرة, اللحظة التي سمعت فيها نداءات طائر الطيطوي ..ط..طا..طو.. آتية من السماء, السائق طاهر حبيب هو الذي خلط جثث الإيرانيين...أنا بريء , اعتقد إني كائن يهذي بفوضى الجنون وحين تمكنت من فلّ عقدة الأبواب عثرت على مذكرات ملقاة بفوضى عجيبة ,هي الفوضى الخلاقة للدماغ , اسمع الآن الأصوات ومحاولاتها الخائبة بالإفشاء عن وجودها في تأريخ مضى , لا استطيع أن اكتب لكِ عما جرى لأن الكلمات وحدها قادرة على تنظيم الفوضى وليس لها القدرة على التعبير , صحيح أني جعلتها في جمل أعتقد أنها مفيدة , جمل كالنتف من بقايا الأشياء التي تدور بها زوبعة الذاكرة , زوبعة محورها غير موجود على الأرض وإنما تتمركز في الذاكرة, في رأسي فقط لذا جعلت الإحداثيات صفرا , الصفر الذي أقف عليه بكل هيبة ووقار ..مثل ديك عربي مزين بريشات حمر أصيح عاليا وقدماي تخطان بالنجاسة ....لهذا السبب يغتسل أبي بماء حار لأن نجاسة الإنسان هي دهون مشمعة مسودة, الدهون التي التصقت بجسدي في سجن الحارثية أو رائحة القتلى الإيرانيين ألإحدى عشر في مرصد 5/2وجثثهم المشمعة بانتظار تبادل الموتى بين الأحياء على ضفتي نهر العرايض أو رائحة الشيوعي الأعمى والآخر الصامت أو رجل حزب الدعوة أو الكردي الملغى نصفه الأعلى, المومياء سباهي وسهام الحبيبة وياسمين الفلسطينية وماموستا ازاد وعماد زنكي اللذان لفظا الروح ببطء في سجن مديرية الأمن العامة في اربيل , ماموستا جمال احد زعماء حزب الكادحين المعلق على زخارف الباب للسجن , أبي آخر القرامطة وأمي التي فقدت الذاكرة, أحاول أن ابعث الجميع للوجود, على الورق, أنا الجامع المصحح للحيوات ...اعتذر من الموتى لان السلطة اغتالتهم قبل أن يحققوا الأحلام التي عاشوا من اجلها ..أنا الشاهد الوحيد أو العاقل المجنون الوحيد الذي يلح على بعثهم للحياة ثانية .
الذاكرة التي توقفت عندهم وتفتل إعصارها كزوبعة مرعبة الصوت لابد أن تتمكن من إعادتهم للحياة ثانية , ضمن دورة واسعة من دوراتها المجلجلة في الدماغ , لا ليس هو الجنون الخلاق لأني أتحدث معهم في كل ليلة وابتسم للنكات التي يروونها وقد تسمعين ضحكتي البائسة وتتسمر عيناك بوجهي....إنهم أحياء على الأرض وأنا ابحث عنهم في كل الوجوه ..لم يكن أي شيء من صنعي , نظرتك للعالم... نظرتي ,أنا وأنت عالم قديم, كل شيء غير واضح, كل شيء مفكك, حتى إني بذلت جهودا هائلة بإعادة سهام للحياة ..في الحقيقة تمكنت من إعادتها وطلبت منها أن نتزوج ونهرب بعيدا ..أتذكر أني قبلتها على جبهة الوجه المترع بالحليب وابتسمت متحججة بأنها سجينة وان عبد الباقي سيمرض لأن جسده بارد , أنا اروي لكِ ما رأيت , لم اكذب لكني افتقد الصدق أو هكذا اعتقد..هي الذاكرة التي تعيد صياغة الأحداث..لست انا0
كل فوضى تفشي تاريخا مسكوتا عنه إحداثياتها صفر قد نتناساها في لحظة ونستعيدها في لحظة أخرى هي موجودة في الواقع وقد تبدو لكِ غير موجودة فوضى الصفر الذي يتحين الفرص ويهم بالقفز على يمين الأرقام ويجعل لوجوده أهمية وفي كل مرة يفشل ويعود للفوضى , للاشيء, لمحاولة أخرى فاشلة....لأن الحقيقة دائما تبتلعها مخاضة الصفر ولا تخلف إلا مرارة في الريق ووحل لزج ازرق في بركة براز للسجناء في جملون الحارثية, البركة المركز, أخوض اللزوجة بقدمين حافيتين واصرخ .. اندهش أن صوتي يبتلعه الفراغ لأن الكل يصرخ معي , بركة الصفر مركز الكون العجوز 0
أنا العارف والرائي احتوي على الجميع ,أبطال روايتي والقليل منكم .. إخوتي في الجنوب لأني مازالت بارتباط روحي معهم الموتى ,الحيوانات وحدها قادرة على سرقة الزمن الماضي لعدم وجود نسخ في الذاكرة مثل الماء الذي يركد صامتا في حبانة الماء أما عقل الإنسان يتدفق بكل الأشياء والامواه ... مخضرة ..مسودة ..الماء الذي جعلني اكتب لا احد يشبه المسيح والتمثال والماء الماء في كل مكان 0
الساعات الأخيرة هي التي تتدفق في ذاكرتي قبل الاغتصاب الكارثي في ليلة الجمعة الأولى والأخيرة , الذي يفقد في الصفر لا يستعاد وإنما يخضع لذاكرتي المشوهة بفقدان إحدى نسخ رواية الأفاعي ...
اعترف لكِ أن أبطال رواياتي هم الناس لأنهم نسخة دينية موروثة ونتاج أنظمة عابرة..أكيد ستقرئين الأوراق كلها حبا بالفضول معتقدة أنها سيرتي الذاتية..لأنك لم تستوعبي لماذا أبدو غريب الأطوار ..حسنا...سأهمل بعض البشاعات ولكن كيف يكون الإنسان طيبا وحقيرا في نفس اللحظة؟
سأكتب لكِ مذكراتهم وما حلموا أن يكونوا , أنا الموزع بين شخصيات عدة, مثمن الشخصية أو معشر وليس مزدوج الشخصية , انتِ كذلك, أنا لست حقيقيا وإنما مجموعة أفكار صنعتها أحلام يقظة عن عمد وقصد كي اهزم الخوف المتشبث بأعماق كلّ منّا ..انه الجنون لان الرصاصة لا تخترق الدماغ وإنما تصطدم بجدران الفكر الخفية ...الجدران حقيقية .. هي موجودة لكنكم تنضغطون عليها بقوة هاربين من السلطة ..نظام النظام0انا على يقين استحالة تغيير النظام بالعنف لان العالم يحرس الهرم عن بعد, أنا أتحدث لقراء وهميين لأنكِ ستكفين عن القراءة ...
أو أن ذيول الهرم وأضلاعه متشبثة برؤوسنا كمجسات إخطبوط حبار هائل لا يذر الرماد وإنما يعمي العيون..لا احد يرى الجدران التي ننظغط عليها في الشوارع وهذه لذة الكتابة التي أحاول أن اجعل منها النسخة الأخيرة لسلسلة الأفاعي , هي لذة كل عراقي يكتب رواية , حين تنبت لنا قرون الماعز ونناطح جبل سنام , لذة تكسير القرون لمن يؤدي واجبه, انه العبث الثوري في تغيير العالم , أننا نخدش فقط حياء السلطة أو اكبر قحبة في هذا العالم , القحبة التي مازالت تتعطر وتضع ألاف الأصباغ الحادة على وجهها0
الأقنعة والصباغ لا يفضل الله صلاة صاحبهما على آلام التعساء , لا تجعل ظهرك للجياع ..أو مثلما يقول أبي : للناس ووجهك لله, إنكار للإنسان إنكار لله أما أنا أقول إن الكفر ليس قضية بين الإنسان والخالق وإنما هي قضية حقوق بين الإنسان والإنسان, حتى يوم الحساب هو بين الإنسان وأخيه الإنسان وليس بين الله الحاكم وبين الإنسان مثلما يقول شيخ مرتضى شيخ جامع الكوت أو سيد مجيد مؤذن جامع الشيشية0
الله يتجلى في الصحراء الواسعة المفتوحة, حين نلهو أنا وسهام وياسمين راكضين إلى شجرة أثل قالوا إن طيور الفاخت تعشش فيها, يتجلى الله في الحرية التي تنهض فجر كل يوم, وقد يتجلى في الشمس الحارقة, الله هو الطاقة المشعة في كل حياة, الوجوه الماثلة في الذاكرة تغيب وتتلاشى بابتسامة حب بوجوه شديدة البياض مثل بياض الحليب, ترتعش الأشياء الغريبة وتارة تنزل أرقام بلغة عربية قديمة ببطء أو تتسلق سلما وهميا يؤدي للتلاشي وحين ترمش عيناي يختفي كل شيء, أنها الرؤيا, أمي رحلت بكفن ابيض ومازالت تتسربل به لكنها مازالت موجودة بفقدانها الذاكرة الإرادي لان الظلم جعل الذاكرة تنساب قطرة .. قطرة........
تمسك الأب بذاكرته وهو الآن في سن الثامنة والسبعين ليرحل إلى أزمان بعيدة ومازال ينظر متأملا الساعة اليدوية التي أهداها الزعيم عبد الكريم قاسم لفصيل القداحين في كتيبة سارية الجبل في فلسطين عام الوثبة0
الله هو الطاقة المشعة في كل حياة, الحياة التي لا نعرف متى وهبتنا إياها الطبيعة, وجلّ جلاله ليس حكرا على الأديان السماوية وإنما تشع طاقته في صميم الأديان الأرضية لأنه حين نفخ الروح في ادم نفخ فيه الضمير, الضمير الذي يوجد في أعماق ذئب, وكل الأديان تنتظر نقطة مضيئة في مستقبل يأتي أو لا يأتي لتحقيق العدالة وإخراج النور من أعماق الظلمات, كل الأديان ..كل الأفكار تهدف إلى انتصار خير لا يمكن أن يوجد وهذه لذة الكتابة ,لذة انتحار الثوري من اجل عدالة لا تتحقق, لذة المحاولة في التغير واحترام الإنسان لنفسه, مثل لذة انتظار الذي لا يأتي, لهذا السبب نعيش في دوائر صغيرة ومغلقة تتكاثر مثل تجمعات البكتيريا, الجنوب البكتيري يتمدد ويتمدد مثل الكون, لا يوجد يقين واحد مثلما قال اينشتاين ,إذن هناك احتمال إن بصقات البكتريا تتكلس على نفسها لتكوين أحزاب ومنظمات السلطة , الم يقل صاحب الوثيقة السرية إن البشرية هم سكان بصق كائن سماوي , عالم البصاق والقذارة هو عالم الثوري اليائس الذي وجّه الثورة ضد نفسه منتحرا..هذا المعنى موجود في الوثيقة العظيمة التي عثرت عليها مطوية في داخل صفحات احد الكتب العائدة لشخص نحيف غامق السمرة يجلس وحيدا وامامه مكتبته متناثرة الكتب على بلاطات اسمنت وسخ ومترب قبالة جامع سيدنا الزبير 0
ليلة الجمعة الأخيرة تم اغتصاب القيم والأفكار الخيرة وليس فروج الفتيات
الاغتصاب أزاح الستار عن وعي العربي المسترجل والذي لا يرى إلا أعضاء جنسية ,الوعي المخصي الشاذ , الوعي المسطح يحتاج لكارثة حتى يستيقظ .. كارثة الاغتصاب لم توقظه لأنه عقل من الوهم يجتر ويلوك العادي والمستهلك والبالي...ثمة عقول قليلة أدركت المخفي والمستور ,عقل جنوني مثل عقل أبي ,عقل غير متوازن لأنه ابن واقع غير متوازن..هو الذي سيقود الثورة على اللاشيء...أنا الراصد اعتقد أن عقلي مثاليا لذا ارصد كل شيء بالمقلوب..............
لم استطع كتابة الرواية الثانية عشر لاستنزاف جهودي في النسخة الحادية عشر واشعر بإحباط غامض في عدم إكمال الرواية لأن النسخ التي بذلت جهودا جبارة وكتبتها(بصبر القديسين )حرق رجال الأمن اغلب فصولها في الانتفاضة وكان أخي الأكبر يرافقهم وقد مزق وحرق بالتنور الكتب التي تحمل أسماء غريبة لمؤلفين أكثر غرابة في أسمائهم فيما حرقت أيتها الزوجة الأوراق المسودة من أوراق التغليف والكارتون لعدم وجود الحطب0
أنا مجرد بصاص على الأحداث وليس لي دور مهم0
الأصابع تدرب نفسها على مسك الأشياء، تناسيت الصمونة العسكرية المجففة بلون رمادي بين أصابعي، أحاول تدريب الأصابع التي لا تستلم الايعازات بشكل صحيح بعد تعليق دام خمسة أيام على باب مديرية امن اربيل, الحقيقة, لم أكن معلقا وإنما متعالقا ومتشبثا باشياش الحديد ,الأيام التي تحولت فيها إلى رمز أسطوري في تحمل التعذيب, الإبهام والسبابة يعملان بشكل جيد هذا اليوم وأحاول أيضا أن أتذكر أن الصمونة ليست للأكل لكن يدي اليمنى غالبا ما ترتفع إلى فمي وحين اقضم الصمونة بأسناني لا افلح بكسرة منها وأعود ثانية لأتذكر إن الصمونة لتدريب الأصابع على مسك الأشياء ومن المفروض أن تكون بالونه كي تلتم الأنامل حولها بقبضة من المحتمل أن تشتد يوما بعد آخر, إبهام اليد اليسرى هو المنفرد والمتجمع مع احد عشر أصبعا , هذه الأسطر من أول نسخة كتبتها سنة الثمانين وأعاني في هذه اللحظة مشكلة عدم مسك الأشياء من اطلاقتين اخترقتا ساعدي الأيمن قبل أيام وأحاول تدريب الأصابع على مسك الأشياء...لهذا السبب خلطت كل الفصول في كل الروايات وجعلت منها تشريبه لذيذة0
اكتب ألان خربشات قطة بيدي اليسرى, كلمات سرية لا احد يتمكن من قراءتها إلا أنا بعد أن ضغطت خوفي كله على الزناد وأصبحت حرا 0
أنا استحي أن اكتب لك عما حدث في مرصد 5/2 ... وبعد قطع لساني من جهته اليسرى حالفني الحظ أن اكتب عن جرائمي بشجاعة بعد أن غمست لساني في الحبر , جرائم لم استوعبها لان رأسي كان محددا بالموت وفقدان الحرية ( ألان أتذكر ..ألان فقط .. لا استطيع النطق ..لا استطيع الكتابة إلا باليد اليسرى ..لا استطيع المشي لمسافات عدة .. ولا أرى ما في البعيد ..نتانة الجرح العميق الذي خيطه صديقي المضمد بخيوط قاسية ينشر رائحة قيح تخيم في سماء الغرفة)
وقد لا تكون جرائم حرب لأني اجهل كيف تنمو الأحداث وتصل ذروة الجنون 00كيف تنمو الأشياء إذا كان الزمن صفرا مثل نبات فقع غليظ 00 كالزوبعة التي تهرس وتطحن وتعجن الأحداث وتصعد بها لأعلى الكون 00للغيوم ثم تعود بها إلى ارض الصفر ..تهز الزوجة كتفي الأيمن صارخة ..ابنك عبد الباقي يحتضر من الإسهال وسؤ التغذية 0
لثغت بصوت بشري .. الانتفاضة اندلعت في بداية عام 91 لكن السلطة ما زالت تطارد رجال الانتفاضة ونحن في عام92والجوع ما زال جاثما على صدري مثل الصخرة ... لا املك دينارا واحدا..افتح فمي ؛ ليس ثمة صوت .. أردت أن أقول لها أني مت في السنة الأخيرة من طفولتي وأكدت لها حين تمايل راسي على أنغام أنشودة آنه هولندي ..طوبي يسابقني ويطر من فوقي ... هي .. ي...يه يا كاع ترابك كافوري على الساتر هلهل شاجو ري .. هي ..ي ..ة ..
بصقت على الحائط وكل كياني يبصق على كل من حاول إخراجي من طفولتي الطويلة ... وافترت شفتي عن ابتسامة ساخرة مخذولة ( امرأة لها احتياجات ) فيما نظر إليها أبي بعينيه الجوزيتين الصغيرتين وهو نائم بشكل ابدي على قفاه ... في هذه اللحظة تحدثت أمي مع الحائط وغصت بكركرتها وعرفت إن الحائط اسمه جاسم ابن عمتها الذي توفي قبل سبعين عاما 0
( لم اعتد مسك القلم باليد اليسرى .. أنا اكتب خربشات حين مط أبي رجله اليمنى واستطال ظهره كأنه بلا عمود فقري ) التفت إلى رسم على الحائط بورق زيتي لامرأة جميلة قال عنها :أنها معيديه من الحلة أحبها ضابط انكليزي ,اللطخة المظلمة تفتح جفنين برموش وأهداب سود عذراء تفتح لأول مرة ثم تضيّق من عينيها ولا تستطع أن ترى عمق البشاعة, أنا الشاهد الوحيد على عقد زواج أو على أقسى ما يكون الإحباط حين تهرب من لطخة الصفر ثم تعود إليه صاغراً مستسلما وثمة دماء مازالت تسيل على الساقين بشأبوب احمر ..اسود لزج يغطي العرقوب من اغتصاب متواصل وليس مجرد زواج فجّر في عيوننا الحياء واشتعلت عيوننا بالغضب(رأيت الجدة في بداية الانتفاضة تستجدي في باب سيدنا الزبير بعد طرد الكويت للفلسطينيين ,ولأنها عمياء لذلك هربت منها) التفّت أصابع يدي على خشبة المسحاة ونحرت الهواء بضربات أصابت هدفها بدقة وقوة, لم يكن أمامي الهواء لأنه في الحقيقة لا احد رأى هذا الذي نتنفسه أو نعلكه في الرئة كاللبان وإنما جسدت مخيلتي العظيمة الرجال السود الثلاثة , وحين دقت ضربتي الأخيرة عنق ألأقصر قامة طارت المسحاة بعيداً بعد أن أفلتت من يدي اليمنى وبكل ما املك من قوة رفعت رأس الخشبة الأملس بباطن كفي اليسرى ولم أتوقع إن رقبة العبد الأسود(احد الجلادين اسود البشرة انشغل واستلذ بتعذيبي في شعبة الأمن الخاصة في اربيل مما أكد عبوديته للأبد)بهذه النحافة ولم أتحسس الآلام في ساعديّ بعد أن كلّتا من حفر قبر البقرة في مقبرة سيد احمد وباغتني الأب بمنجله الذي يحدّه بمسنات تصرّ بوجع الأسنان واستقرت عيناي على المنجل المثقفة أسنانه بالتماع الفضة , في تلك اللحظة لو انفجرت قذيفة قرب أبي لما التفتَ أبدا, تتحرك شفتاه بدون صوت ثم صرخ بوجهي صرخة اخترقت الزمان, صرخة القاتل والقتيل معا, هي نفس الصرخة التي حزّ فيها رأس الأفعى السوداء المنسابة بتمهل على الحائط المسيع بالطين..سعد..يا سعد يجب أن ننتقم لشرفنا..لا يباع الشرف بهذه البساطة , أذعنت لأوامره ولم يكن شاروف المسحاة وإنما عمود نحرت فيه الهواء مجددا بالتذاذ خفي ..لحظة الهجوم على الطغاة, الطغاة بالنسبة لمن يتدشن في عالم اكبر من الطفولة, اللحظة التي نعتقد فيها أن أقسى اضطهاد هو الاغتصاب (اكتب لكِ خربشات الآن لأن يدي اليمنى تنام في جبيرة بيضاء واسخر من دماغي الذي رأى اضطهادا اكبر وأبشع وما الاهانة إلا سريعة وسهلة الآثار) هرول الأب هاجما مستنفرا قواه وضمائر كل شباب ورجال القرية وكعادتي ركضت خلفه حافيا غير آبه بالحصى الذي تآخى مع باطن قدميّ بشعور خفي اسميه لذة الأرض, تستطيل المسحاة فوق راسي بنصف متر تقريبا فيما تشكل كتفي تقاطع صليب, كل العيون الملطخة بالسواد ترقبنا صامتة, فات زمن السكوت , حتى السيد العاقر لحق بنا مهددا بعصاه التي يتوكأ عليها ,فيما وقف القزم الملتحي بلحية سوداء مهيبة على وجهه العريض الفكين ومعه أولاده السناجب يطالعون المشهد صامتين كالتماثيل .
لم يعثر الأب على الشباب السود الثلاثة لينتقم من طويل القامة أولا والذي قرأ معه سورة الفاتحة قبل أن تزف الفتاة الفلسطينية الصغرى إليه بإلحاح من الجدة لاعتقادها إن الكفافي البيض غالبا ماتنكث الوعد فسارعت لتزويج الفتاة في نفس يوم خطوبتها على أمل أن تصل الكويت لأن الأسود قال انه كويتي من بيت الوكيل0 هرب الغرباء وطاردهم الأشقياء الجدد (جبار ستيل وكاظم ابن فطيمة الدلالة وعبد الزهرة ابن سكينة ويوسف ابن صبار النزاح ومحمد البيضاني ودرويش وماهر كزار وزه راو وخضير الطويل وعبد وصادق ألمطي) الجيل الذي تربى على التمرد في أحياء الزبير ولا اعرف سرّ تواجدهم ذلك اليوم, لكن أبي ظلّ يطارد شبابا يميلون للسمرة لأنه لا يعرف أن يعود للبيت فاضي اليدين لذا بادر للسمين فيهم بضربة سريعة على الكتف وفلق السيد هامة رجل غريب مربوع القامة إما أنا أيتها الزوجة شلّت يداي حين وجدت عملاقا ضخما أمامي يقال له خضير الطويل ومعه شقي الحيانية كاظم خنجر وأطول وأضخم شقي في البصرة اسمه عبد بوجه جميل يميل للسمرة, جلس الثلاثة بقدسية يتعبدون بطل عرق أسفل القلعة ..لا اعرف أين اضرب العملاق ولأي سبب لأن العملاق الأول كتلة حديد متراصة عملاقة وباتت المسحاة في يدي عامودا ثقيلا يصعب علي رفعه وعرفت إن الجبن يشلّ الأيدي والأدمغة, ابتسم خضير فوجدت الفرصة سانحة للهرب واللحاق بأبي ورأيت المنجل على وشك أن يحزّ وريد رقبته حين انهالت القبضات على وجهه, أبي شقي قديم, لم ارث منه الطول الفارع بل ورثت السمرة والنحافة والقصر من الأم, المرأة هي الأصل لذا ترث الطبقة العاملة الملعونة عيوبها جيلا بعد جيل..ثمة من ينادي :أنت غير موجود ؛أنت تجلس على أخر درجة في سلم الطفولة وبدون أن التفت أجبت الشبح :أنا موجود مادامت الإنسانية موجودة, سمعت الشبح يسخر :الإنسانية ....الإنسانية...
أتحسسه يقترب وارسم في ذهني لقطة عابرة لقبضة يد تريد أن تلطمني على النتؤ البارز أسفل رأسي يقال عنه المخيخ وأنا اعتقد أن كل ما خبرته الإنسانية أو ما حاولت الوصول إليه ترشح داخل ...وبكثافة أسفل الدماغ , أي في نتوء المخيخ ..إني القزم الذي تطاول على الكون ثم تطاول على السلطة, التمرد ينمو من خطوة غير مدروسة.....الجرائم التي أتخبط بها تجعلني أدور وأدور في ظلمات اللاشيء, لست أنا المجرم وإنما السائق طاهر حبيب, هو الذي يأتي وفي كل مرة يشدّ بطل العرق إلى حبل يتدندل من سلسلة المغلاق في باطن سيارة خزان الماء الحوضية0
سأروي لكِ كل شيء, تذكري ...أن كل شيء يصلح للحكاية لا يصلح لكتابة الرواية لأن الحكاية تصف أحداث ما جرى وأنا لا أريد أن اصف, من الغباء أن اصف...يجب أن أتحلى بنظر حاد واروي لكِ كل شيء غير مرئي, الوصف للقشور وأنا أريد أن أنفذ لجوهر ما رأيت وان أحوم كالتائه في الظلام لكي أصل إلى عمق الأشياء, هل يوجد عمق ظاهر فوق الأرض .... ؟...لا..وإنما في ...الجوهر, حقيقة هاربة, كل شيء هارب وسط الظلام, فوضى الهروب هي النظام الحقيقي لكل شيء, اهرب من حقائق مسكوت عنها لأولجها في اسطر قليلة, سطور اكتبها بماء الذهب, لأن الأنظمة تفرق العرب ولا تجمعهم إلا عاهرة0
رجال السلطة عتلات الآلة التي لا تقبل التأويل أو التملص والخالية من اللذة والمغطاة بنظام هائل التسلط لن يصل القلب 0
لإسقاط النظام الهائل التسلط والقوة اتجه الشعب للفوضى ,الفوضى هي النظام الدقيق والخفي الذي لا يقبل الخطأ في الرواية ,مثل فيروس لا يُرى في جسد بطل لرفع الأثقال ,الفوضى صرخة الثوري الأخيرة, قالوا قديما هم الغوغاء أو الدهماء أو رعاع الصفر ببطون تصفر من فراغ0
لا احد باق كما هو , النظام الزيتوني مرجع الدساتير التي تبدو أزلية هو نفسه يتغير في كل لحظة ,الأحزاب المتشبثة بقوانين الاضطهاد ,كيف تريدني أن اصف الأشياء كما هي, لأنهم قوماج يصنعون بقوة أعداء لهم من قوميات أخرى وحتى لو انتصر الشعب بخطاب ديني لطائفة ما سيحارب دين السلطة ويصنع أعداء من طوائف أخرى , لا مجال لنا في جنوب العالم إلا اختراع العدو , العدو الذي يفرض نفسه باللون الأبيض في الشطرنج0
أنا ابن الفوضى ببساطة هزمت السلطة في أول عيد غير رسمي لولادة القائد الضرورة بعد سنة من الانتفاضة حين دمرت بضعة أطلاقات نارية كل هذا النظام في تنظيم حفلة ولادة الحرس الزيتوني والإيقاعات المتلاحقة والمنظمة لراقصات الغجر ومجاهدي خلق وعاهرات الحزب الموثوق بولائهن وفرقة البصرة للفنون الشعبية ,سيدمر بثلاث أطلاقات أو أربع ,أطلاقات مضيئة قفزت من الصفر المظلم على نظام الأعداد غير القابلة للتشتت والتلاعب , أرقام الرياضيات المتشبثة بالمنطق, هي أطلاقات في سماء فارغة ,مجرد أصفار وان تكررت لكنها أفشلت حفلة مهيبة وامتنعت يدي اليمنى من الكتابة باطلاقتين زيتونيتين ,الأسود يظل اسود مهما تغيرت الألوان لكن الأبيض في الشطرنج قد يزرق حين يجيف أو يصفرّ من الخوف ,أنا اعرف أني لست أنا لذا اسرد لك ما جرى في مرصد 5/2 هي ليست ذكريات وإنما الحياة نفسها أعمق من صور عابرة...تجري المياه في نهر العرايض بيضاء تلبط بأسماك الشلج وفي الغروب أرى ذيول اسماك البني تلمع مصفرة في فسحة الطحالب المتشبثة بالأسلاك بين ساترين ترابيين تخدشهما الملاجئ أو تنخرهما سراديب الجنود لكن مرصدي 5/2يخترق الساتر على خط التسعين بلسان يمتد في النهر, النهر الملغوم والمسور بأسلاك شائكة وصدئة وبالصدفة عثرت على هيكلي المغطى بجلدة مطاطية يقف ذاهلا لحراسة الجثث الإحدى عشر, يتيبس حلقي كلما أرى الدهن البشري يتقاطر بطيئا من ثقوب أكياس اللايلون وفي كل كيس جثمان صغير ينطوي على نفسه بكآبة لا تحدها سواتر أو جبال ,أمد يديّ في الفراغ..أهزهما بعصبية محتجا على عدم استمرار تجربة العيش ,اشتم الأحياء ...أسب كل كائن بشري وخاصة جنرالات الحرب ورجال السلطة, الحرب انتهت مثلما بدأت, حرب اللاهوت والناسوت......
نزل ثلثا الجيش بإجازة ولم يبق إلا الثلث المعاقب لذا كنت وحيدا في المرصد ولم أع أني السجين اسجن ثانية في الخط الأمامي وحارسا لجثث القتلى الإيرانيين في مرصد5/2بعد أن جاءت بأكياسهم الأمم المتحدة بانتظار تبادل الموتى ولم يكن هناك تبادل للأحياء, هذه الجثامين وضعت هنا قبل أربعة أيام وكنت مهووسا بتدوين كل ما يطرأ عليها من تغيير ورصد زيارات خنافس بطيئة الحركة بقفا متصلبة كحصاة وحين رأيت اليساريع في اليوم الرابع تخرج من الأنوف وتارة من الأفواه المفغورة أو تنبثق من أحشاء البطون المتهرئة أو المثقوبة بإطلاق نار لكن الشمس اللاهبة تمتص أحشاء اليسروع وسرعان ما ينكمش على نفسه متيبسا في هاجرة النهار وتلك الرائحة......
أصبت بمس من الجنون وطاردتني الرائحة العطنة للموت, الرائحة المهيمنة على تلة المرصد لا تستوعبها أوصاف اللغة, الرائحة القاتلة....حينها انتابني شعور غريب بأني أقف على تلّة الصفر في إحداثيات الفراغ لأني لا استطيع الوقوف في مكان واحد لثوان معدودة, تلك الرائحة تطاردني وأنا مسور بدائرة من الألغام والأسلاك الشائكة ,في ذلك اليوم توقفت فيه الأرض عن التنفس0
اكتب لكِ... إن النقلات الشطرنجية التي قام بها الشعب حتى ألان إحدى عشر نقلة واعتقد إني قمت بتنفيذ النقلة الثانية عشر حين أطلقت النار في الفراغ واختفيت على أمل الهرب لصحراء الجزيرة أو ايران0
الشعب سيوجه ضربات أخرى في الفراغ أيضا كتعبير عن تململ من ثقل الظلم والاضطهاد0
النقلة الثانية عشر يقوم بها الفيل بهجوم مباغت يبدو ظاهريا ردّة فعل عفوي بمساعدة الحصان عظيم الكون على الجهة اليمنى للأبيض(الكون المصغر)بعد احتماء الدكتاتور بالتبييت القصير وقتل جندي القلعة في مربعه الثالث الآمن ...
في الخارطة العسكرية جعلت المربع الثاني عشر مربعا أسود لوجود الفرقة الحزبية في منتصفه...ولأنه مربع صفري أعمى ولا تكلّ مسحاتي من حفر القبور فيه ,لا لأدفن الموتى لأنهم آلات ميتة في الأصل وإنما لأحفر قبرا لي ,لأني كلما أنبش الأرض ..تحت هذا الصفر أرى هيكلي العظمي مهشم العظام ..وبقسوة فيه , سرقت هذا المربع ووضعته في خطتي الثورية التي عثرت على وثيقتها في أعماق الصندوق السيسم ملتفة مع ملابس أبي البيضاء لأجعله المربع الثالث ,هذا المربع هو الوحيد الذي يجمع خطتي الشطرنجية والثورية والخارطة العسكرية ولكن بأماكن مختلفة تبعا للإستراتيجية والتكتيك لأني في الحقيقة الفيل الأبيض ضمن الرقعة الجنوبية السوداء ,كل قوة فيها فيلان لهما لون يؤخذ من المربع الذي يقف فيه ,ومشكلتي أنا راوي الأحداث هو انطلاقي الصعب والزرن والجانبي الذي يشبه السرطان في هجومه لأقتل في المربع الأبيض الثالث أمام قلعة الملك الأبيض بعد تبييته على اليمين ,أنا ابيض محمل ببراءة المسحوقين أقتل منتحرا ..من أجل إخوة لا يهمهم إلا تعداد الموتى ..أعتقد ذلك..لهذا السبب وتيمنا باستشهادي جعلت المربع الثالث في الخارطة الثورية بالمربع الأبيض ..
في تلك اللحظة التي تدور أحداثها خارج إحداثيات الزمكان تذكرت ذلك الهاجس الذي اخترقني كسيخ محمر بهوس البحث عن الوثيقة السرية والتي لم أتمكن من فكّ طلاسمها أو على الأقل أن افهم الذي ترمي إليه هذه الورقة الممتدة كشريص والمطوية أربع طيات منتظمة ومساوية لحجم أوراق الكتاب الضخم الذي اشتريته من مكتبة أرضية على شكل قمامة من الأوراق والكتب تفترش أرضية ساحة سيدنا الزبير, كان ذل الرضوخ تحت ظلم تأريخي رهيب(أيتها العزيزة حياة أنا قادم إليك من تحت أنقاض الحروب والنسيان والسجون لأدخل في منفى يسكن أعماقي ,في كل لحظة امسك فيها القلم ادخل منفاي الذي احمله معي, أنا المنتظر الراوي من زمن شاحب فقد الشعب فيه انتظار كل شيء ,لم ينتظر أحدا لينقذه بعد أن ملّ الانتظار وأنا قادم من زمن غير متوقع أشبه بطائر خفق قلبه وجناحيه من عطش هاجرة صيف وحطّ على شجرتكِ.. أنا الطائر الذي رأى كل شيء, طائر بسرّة اختفت من الجوع ولم تنتفخ إلا في بطون الأطفال, عيناي ترى إننا نقدس الموت..نعبده ..نحن لا نحب الحياة, سأرصد لكِ التفاصيل المهملة التي لم يلتقطها الأدباء رسوم الكارتون, أدباء المسموح به ..والشعارات, أقود المعركة وحدي وارصد تفاصيل المسكوت عنه والمهمش والمقصي ليس فقط لماض عشته بمرارة وإنما ماض قادم آخر ستعيشينه بكل جدارة, اخترت العزلة بإرادتي لكي لا تكون سجنا واخترت الإقصاء والتهميش لأن الروائي يكتب في كل شيء من اجل أن ينبذه المجتمع البليد, الفاقد الأخلاقية لأنه يخلق السلطة ولا يواجهها , يخلق رؤوسا عفنة ويدين بالولاء لها, انه ليس مجتمعا وإنما لملوم عربان حتى الكردي فيه يستعرب حفاظا على وجوده أما المسيحي فليس له همّا إلا السكر في البيت والاختفاء عن عالم مريض, المجتمع الذي يعيش كل شيء بإكراه أتمنى أن أعيش على هامشه لان التاريخ نصنعه نحن المهمشون المنبوذون , المهمش المعزول عن القطيع ولا مرجعية لي سوى الروح التائهة التي تختار الجنون بإرادتها لأن الجنون هو المنفذ ... المنقذ من عاهات موروثة في المجتمع)0لكني لم أتمكن من استيعاب الوثيقة بعد على الرغم من تعلمي علم الشطرنج لإثارتها وتأكيدها على خطة شطرنجية ما وأعدت قراءة هندسة فيثاغورس وكتاب تاريخي مهم هو رواية عبدة الصفر للكاتب ألان نادو ..البحث الدؤوب عن مجتمعات سكنت دوائر الصفر والتهميش0
قرأت عن جماعة من العرب عبدت الصفر في ملاجئ وكهوف تحتي في ارض الدريهمية الممتدة إلى طريدون على سفوح جبل سنام المطل على البحر وان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حاربهم بسيفه ,تأكدت أنّ الرقم واحد هو الواحد المهيمن الذي يكرر ذاته في كل رقم ويتجلى في تلك العلاقة المنطقية الخفية بين الأعداد في تنظيم الموجودات ,الواحد ثلاثة والثلاثة واحد هذا ديدن الديانة التي سكنت الكهوف تحتي ,اعتقد ذلك وإلا لماذا جعلوا من الصفر بقعة ظلام هائلة , (الكلمة الطيبة-الفكر الطيب-العمل الطيب)ثلاثية اهورمازدا في الزرادشتية ,الإله المعبود على رمال الزبير وتحتها ,ارض الخريبة الموغلة في القدم, الإله الذي قال عنه مسيلمة كاهن بني تميم بأنه الرحمان في قوله تعالى(قل اعبدوا الله أو اعبدوا الرحمان) في زمن لم يتعرف العرب على لطخة سوداء اسمها الصفر أو النقطة , نحن كالحباحب نضيء في هذه اللطخة...منذ قرون لا ننتج إلا قتلى الثورات في بقعة الرسيل الاسود0
(تقول الزرادشتية إن الإله خلق العالم في سبعة أيام أما الإنسان هو المخلوق السابع القتيل الذي خُلق نورانيا بلون يضيء كالحباحب في الليل ثم أعطاه الإله جسدا جميلا أثار غيرة الشيطان اهريمن, ثم دخل الشر في تمازج في مرحلة خلق الإنسان الثانية, إن صراع الخير والشر بعد مرحلة التمازج الثانية أدى لانتصار احد القطبين , الشر أو الخير ,ليدخل الإنسان في مرحلة الانقسام حيث يكون المصير الجنة أو جهنم وهي مرحلة تدوير الإنسان(أورد لكِ مصطلحات التمازج والانقسام والتدوير لأنها مراحل ضمن الوثيقة التاريخية التي استعنت بها في خطتي الشطرنجية الثورية )إن الإله خلق الإنسان لمساعدته والقضاء على الشيطان اهريمن ويؤكد الإله على انه سيخلق مهديا منتظرا في بطن امرأة تسبح في بحيرة لتنجبه على صخرة ليقود العالم المهمش ويضرب المركز المستبد ويزيحه عن الوجود ,(قال المسيحي لأبي إن المسيح هو المنتظر ,الليلة التي ولد فيها أبانا جاء الشياطين من كل مكان للقضاء عليه لكنه انتصر على الصليب لأنه أخذ خطايا البشرية معه وستكون له قيامة أخرى يقضي فيها نهائيا على الشيطان ) ردّة فعل عفوي بمساعدة الحصان عظيم الكون على الجهة اليمنى للأبيض بعد احتماء الدكتاتور بالتبييت القصير وقتل جندي القلعة في مربع ق م3 ,العودة إلى مجتمع ما قبل الفلسفة, ذلك الهاجس الذي اخترقني كسيخ محمر, هوس البحث عن الوثيقة السرية التي لم أتمكن من فك طلاسمها أو على الأقل أن افهم ما ترمي إليه هذه الورقة والممتدة كشريص والمطوية أربع طيات منتظمة ومساوية لحجم أوراق الكتاب الضخم الذي اشتريته من مكتبة أرضية انتشرت كتبها بفوضى عجائبية , وعندما فتحت الغلاف لأقرأه وجدت الورقة المطوية مما جعلني أعيد قراءة الكتاب مرتين لأرزخ تحت ظلم قهري تاريخي رهيب0
أصيب البعض بالتفسخ لأنه صمم على البقاء قرب فراخ النظام وأيتامه أما الآخرون من جماعتنا هربوا إلى أماكن قصية وخفية ووجدوا أنفسهم يمارسون عبادات سرية وثنية ليتخلص الشعب من رائحة الموتى في زمن يصعب فيه تمييز القاتل عن القتيل والميت عن الحي ,الرائحة هي الفيصل ,البعض بدأ يتحسس انه يدافع ويقتل دفاعا عن مليكه لا أن يحيى هو ,تبجح المثقفون بالقول إنها العولمة التي تجعل الإنسان يسلق جلد نعاله ليأكل والأخر ينبطح بانبطاحه ثورية متحدية من اجل بضعة نقود وان يهيئ نفسه ويفتح ساقيه على اتساعهما ليستقبل التطور الاقتصادي الجديد المنفتح من أساسه وقال العرافون إن الدكتاتور مخرز بخرزة سليماني ضدّ الرصاص بعد أن تأكدوا أن إبراهيم العواجي الحاكم العسكري للمدينة والهوير بأنه أمي وهرب من مجاهدي الاهوار ليشتري أكياسا من هذه الخرزة السحرية بعد أن يأس بالعثور عليها في تل النبي شعيب معقل ثوار الجنوب0
فعالية السحر واضحة بعد أن مشى الآلاف من الجنود على جثث الموتى المسحولة في الشوارع من الأحمدي حتى قضاء الزبير0
ملاحظة كتبت بحبر جاف اخضر على الصفحة التي تنام جنبها الوثيقة التاريخية والعائدة لكتاب تاريخ الحركة الثورية وثمة احتمال أن الملاحظة المكتوبة بخط رديء قد لا تعود للوثيقة وإنما للكتاب نفسه , الخربشات تقول: نحترق لكي نضيء كالحباحب, الحشرات المهمشة والسابحة في ضوء الأسياد الذين أصابهم العشو النهاري لذلك يسوّد كل شيء ..حتى الورد ..لذلك نسكن في إفريقيا العالم ..جنوب الشطرنج الأسود 0
أنقل لك ماقاله زرادشت لأن الملك أردشير الثاني الساساني أعاد بناء البصرة باب البالميتي أو شايليتوم أي البحر الأسفل التي بنيتْ في زمن الملك الآشوري سنحاريب ,أو إن الإنسان كان مجرد طريدة مثل الأغنام مثلما أطلق عليها الاسكندر بمدينة الطرائد أي طريدون لأن نهر الفرات كان يمر بخطوة الإمام علي ويصب في خور الزبير ...
في بحث مضنٍ وجدت اهريمن يعيش في دائرة واسعة لبحر الظلمات , بإحداثيات صفر شمالي شرقي ضمن خارطات الكون أو ثاوية البروز للمستطيل (الاسطواني) المدبب المزروع بهيبة الأسياد والذي يرجمه المسلمون بوثنية ووقار , كائنات الصفر هم سكان الظلام ,تعايشوا في الصفر معنا, أمامنا فرصة عظيمة ..لإبادة قطع الملك الأبيض الماثل أمامهم, نصف الأرض الجنوبي, مربعات الشطرنج ,القطيع ,الرعاع الذين يستحقون الموت والذين يتحدثون بالضمير لضعفهم وجبنهم كالقردة أمام الذئاب , الذين لا يستوعبون أن ضمير الإنسان العائد لطفولة البشر ما هو إلا شوق الإنسان للعدالة , القوة كبرياء النظام الفارغة0
الجد الفلسطيني يتحدث عن ثلاثة ثم يقول إن الثلاثة هم واحد ,الرب الواحد الأحد, أو يقول (الله ..الابن..الروح القدس ) كل هذا الجهد لأصنع من مربعاتي ألاثني عشر دوائر وكل دائرة تخفي في أعماقها ثلاثة دوائر, كان من المفترض أن أكتب شروحاتي في الهامش والهوامش في المتن, وأدمر حكاياتي المروية بشخصيات مفترضة, أنا لجوج بإثبات وجودي والتغلغل في كشف حقيقة لا توجد, وفي كل مرة أتناسى حكاية مرصد5/2 واروي الأكاذيب خوفا من الضمير المتشبث بالجسد, ثمة شروحات على هامش الوثيقة انقلها لكِ:
الصفر هو لا شيء... عدم..وبقوة خلاقة لكي يجعل من نفسه رقما أيضا له احترامه وقيمته المادية, يقفز فوق الأرقام ويغتصبها بهستيريا سادية وبضرب مبرح ليحيلها صفرا مثله ..إلى لا شيء..
هامش آخر: الصفر هو لا شيء لكنه يحمل في أعماقه القوة الكامنة الخفية لإيجاد الأشياء وإلا كيف تختفي الأرقام فيه, يحمل البعث والفناء, الوجود واللاوجود, القيمة التي تكتسبها الأشياء أو الحيوات وفي نفس الحين يحمل اللاجدوى والعبث والفوضى عندما يتذيل مهمشا على شمال الأشياء..
هامش آخر: كل مهمش يحمل في أعماقه القوة الكامنة الخلاقة ليستحق بجدارة لقب الجندي المجهول ويحتج على تغييبه من حاضر الأشياء والوجود بنشر العبث والفوضى والشر الذي يعتبره البعض إن دائرة الصفر مصدره ولكن الحقيقة هي ثورة ضد تهميش الأرقام والأشياء له ( هو الفيل في دربه الزرن ألزاويتي الجانبي, من قادة الجنود المجهولين ) هامش آخر: تعلمنا نحن البشر من حقيقة الصفر أن الحقيقة الوحيدة هي لا توجد حقيقة لأي شيء لان الدكتاتور الأمي ولو انه يعرف القراءة والكتابة هو واحد مثل وزير الشطرنج وحين يعزم الصفر على ضربه يحيله ببساطة إلى رقم غير موجود أما حاشيته مجرد أرقام ضمن جذر الواحد وبمجرد أن يتزعزع نظامها تنهار وتبحث عن رقم واحد آخر(لأني بثلاث أطلاقات أو أربع وبهجوم جانبي مثل فيل شطرنج انتحاري تمكنت من تدمير حفلة عيد ميلاد القائد الأوحد)0
الصفر هو عدم مثلما يقول ألان نادو في روايته الثورية(عبدة الصفر) التي تدرس ثورات صفرية منقرضة وهو تدوير لإعادة الخلق مثلما أقول أنا المؤرخ0
مجمل الهوامش تشير إلى أن الصفر لاشيء لكنه بقوة قادر يقفز فوق الأرقام ليجعلها تقفز بجنون هي الأخرى لكني لم أتمكن من فهم القوى الخفية في خطة الشطرنج والتي يطلق عليها (التنين الأكبر المكسور الجناح ) وما علاقة هذه الخطة بثورة الشعب , مع ذلك سأكتب روايتي أو لا اعرف ما هي حسب الخطة المرسومة في الوثيقة بنقلاتها ألاثنتي عشر . عرفت أن ثمة متاهة في الوثيقة ينطلق منها الكائن في فراغ مظلم تحت سطح الأرض , فراغ دائري يشبه الكهف وقد يكون رحم الأم ويظل الكائن يمشي على غير هدى لتقوده الأنفاق الملتوية كجوف أفعى عظيمة أو تنين نائم وقد يكون تنين الشطرنج نفسه , يلتوي الكائن ويعرج متأملا طريق الخلاص إلى دائرة النور , أكثر من أربعين استدارة واثني عشر مسارا , أما أن يصعد الكائن للأعلى حيث توجد شجرة تفاح أو ينزل نفقا مظلما أطلقت عليه قاع الظلمات ... ابتسمت.. قلت مع نفسي ليس هذا هو دربي وإنما طوبي يسابقني ويطر من فوقي ...والتفت للحائط الذي كان مزينا بسجادة يعتلي عرشها عبد الكريم قاسم , الذي يربكني كيف اقتحمت المدارات مع المربعات ولهذا السبب وحده انقل هذه الوثيقة لكِ وحدك لأنك القارئة الوحيدة التي تركت القراءة (امرأة لها احتياجات..عبد الباقي يحتضر) الذي يحيرني إن كتاب تاريخ الحركة الثورية هو احد كتبي الذي لم أتمكن من بيعه ذلك اليوم لكثرة الهوامش التي وضعتها أسفل المتن0
قد تكون الوثيقة من تشكيلات الوهم , الكئيب والمهزوم لا يملك إلا حلم اليقظة أو الوهم( نيتشة يقول إن النحو والدقة اللغوية هما خزين التجربة البشرية وبدونهما يتيه الله) سلاحا ضدّ الجنون بعد أن بات الجنون خيارا في مجتمع معتوه لا يجيد إلا البزخ والبكاء0ولكن كيف اجتمعت المدارات مع المربعات والدوائر والمتاهات والشطرنج والمثلثات والأضلاع المنطلقة من إحداثيات الصفر لتثبيت اتجاهات وأمكنة أخرى مستعينة بالأبراج وخارطة الساعة لمرصد المدفعية بزوبعة هائلة للفراغ, الأرقام وقطع الشطرنج تنبع منهما الموجودات وتعود إليهما صاغرة بإعصار اللاجدوى الصفري وثمة ثورة أجمل ما فيها أنها لا تؤدي إلى حياة أفضل وإنما التلذذ بها والتشبث بمنظر يعطي معنى للانتحار الثوري وثمة منفى سواء كان في الخارج أو في داخل الإنسان نفسه0
بعد ليلة الجمعة الأخيرة للاجئات المغتصبات بهجوم جماعي مجاني التحقت برجال قالوا عنهم (سيك ) بجلودهم الحمراء المسلوخة وبقبعات تغطي الجبهة وبنظارات سود وأسلاك تلتهب بضوء الشمس وهم يلحمون الأنابيب الحديدية في الأخدود الذي حفرته آلات لها أشكال الحشرات المخيفة وكانوا يشربون عرق العصرية قبل البدء بلحم أنابيب النفط ولأول مرة وبدون أن يقودني شخص فاسق(حسب اعتقادكِ)إلى السكر والعربدة كنت اشرب ما تبقى في قنينة ربع العصرية أو المُسيَح حينها يبتسم الضخم المسلوخ وينظر للسماء ويكرع الربعية بجرة واحدة كمن يمارس طقسا تعبديا إلى أن يتوقف بلعومه من الاجترار ,حتى لو بقي أكثر من الثلث للسائل السحري..أنا مثله اشرب ما تبقى بجرة واحدة بعد أن كنت احتسي العرق حسوة حسوة, وبدون مازة حتى لو احترق بلعومي..الاحتجاج الأول على السلوك العربي في ليلة الجمعة الأخيرة ,حين انتشي أتحسس نفسي مازلت جزءا صغيرا من هذا العالم في منتصف الكرة الجنوبي, صحيح أني درست في المدرسة إن العراق في المنطقة الشمالية المعتدلة لكن هذا الخطأ يجب أن يصحح لان السلوك الاجتماعي والسياسي هو الذي يصنع الخرائط والمناخ ,بقيت ملازما للأجانب إلى أن عبروا حدود خارطتي المتمثلة بالشارع العام الذي يخترق الصحراء ويقذف على جانبيه حي الطرب والريسسز وصولا للكويت0
الجرة التي تلهب البلعوم جعلتني لاعبا من الدرجة الأولى في كرة القدم والشطرنج والحفظ الغريب لأبيات الشعر العربي لكن عيني أصابها الرمد لكثر ما أتفرس في شعلات الاوكسجين , القذى في العينين هو الذي أوقف مطاردتي لرجال الغرب الكحوليين .
شروحات وحواش عديدة لم تؤشر بقلم واحد أو كتابة يد واحدة وبعض الكلمات لم أتمكن من قراءتها لكن الجمل التي وضع تحتها خطا بقلم قوبيا هي :.
إن الأبيض دائما يتقدم بخطوة واحدة وهو الذي يبادر بالهجوم أي أن الشعب لم تنفتح ظروفه الذاتية وتمتزج مع الظروف الموضوعية بعد مما أدى لمقتل الزعيم عبد الكريم لأنه فسح المجال للقوماج بالصعود والسيطرة وتشكيل ميليشيات القتل بالتعاون مع قوماج عبد الناصر ...
جمل أخرى :.
اسم الخطة هو التنين الأكبر المكسور الجناح بعد دراسة كوكبية الدب الأكبر وثبوت النجمة الثالثة التي ينبت منها ذيل الدب والتي تشير دائما وأبدا للشمال مما يجعل خطط الشعب التي تتجه دوما للشمال لأنها تنطلق من الأسود في الشطرنج واضحة الاتجاه والهدف ,ثمة نجمة لامعة تحرس الدب من الهجوم أطلقنا عليها سايج بنات نعش لأن أمي تقول إن البنات السبع يحملن أخاهن القتيل في بحر الظلمات إلى مقبرة الكون البعيدة ,أمي كتلة من الخرافة لأن النجمة المنفردة مثل إصبع الإبهام الأيسر المضموم والمفتوح لوحده ,كل الأصابع لا قيمة لها بدون الإبهام المنفلت من روح الجماعة, الإبهام هو الواحد الذي يستنسخ نفسه في الأصابع وبمعنى أدق هو الوزير المكرر ذاته إلى تسعة بيادق ,سدد الأبيض في قطار الموت المكون من عشرين باص خشب مغلقة النوافذ وفي الشهر السابع من نقل مائتين وأربعة وثمانين سجينا على رأسهم عبد الحسين علوان وعلى مدى يومين في طريق صحراوي يمر بمنطقة بصيه إلى السماوة ولكن لم يمت أحد لأن الثوار هرب الموت منهم منسحبا وتمكن الأسود بهجوم الحصان والفيل وبإسناد من الوزير لجناحه الأيسر السليم في تسديد خفقة قوية ترأسها المقدم ضيوي .
تمكن الأبيض في نهاية السبعينيات من اختراق دفاع الأسود الهش وهاجمت بيادقه بعشوائية وقتلت البشر والحشر والشجر ووضعت سواتر من حجر في مرحلة تسمى الانقسام بعد مرحلة التمازج في زمن الجبهة الوطنية ثم تخلص الأبيض من ثلثين قواته في حرب الخليج وسحقهم مثل الذباب بمساعدة ملوك بيض آخرين وقد لقب نفسه بعد هذا الانتصار بهانيبال (الشر المطلق أو اهريمن ) وبالصدفة قرأ إن الأفيال عندما تسكر بشرب النبيذ أو ترى نيران الخير مضيئة تهاجم ملكها نفسه وتسحقه بالأقدام لذلك قتل كل الأفيال قبل أن تسحقه مثل حشرة حيث عمد إلى ترك قتلاه على ارض المعركة لتتعفن وتجيف جثثهم بين جنودنا كي نهرب من الرائحة والمرض , وهذا يفسر ياعزيزتي كثرة الهاربين من حدود الخارطة .....
الغول يأكل أفراخه إذا لم يجد من يلتهمه من النمل الأسود الذين هم نحن...
أصيب البعض بالتفسخ لأنه صمم على حفظ منشورات التقرير القطري الثامن للقوماج مما اضطره للبقاء قرب فراخ السلطة وأراملها أما الآخرون من جماعتنا هربوا إلى أماكن قصية وخفية ووجدوا أنفسهم يمارسون عبادة سرية وثنية للتخلص من رائحة النظام الشبيهة برائحة الموتى ,البعض يغتسل بماء حار وبرغوة مسحوق التايد والشب والبخور وأوراق السدر والخروع والبابونج0 الموتى بين الأحياء ,زمن التداخل بين القاتل والقتيل ,الواقع والخيال, حتى أنكم نسيتم ما جرى للفلسطينيات وقد لا يوجد المخيم في ذاكرتكم ,غسل الأدمغة بالتايد والكلور ولم تبق إلا حياتي الشخصية لأسرد و أأرشف الأحداث, الأحداث هي التي جعلتني أطلق النار بدون أن أعي وأزيح من الوجود الحفلة الأولى للأفراخ ورقصات غجر فلسطين أو الجنوب الرمادي0
بعضنا تحسس انه يدافع عن جذوره الطبقية لكن النظام دمر الطبقات وجعل الكل موظفين أو جنود0
ملاحظة كتبت بقلم حبر جاف اخضر على الصفحة التي نامت جنبها الوثيقة التاريخية والعائدة لكتاب تاريخ الحركة الثورية لنزيهة الدليمي وهناك احتمال أن الملاحظة لا تعود للوثيقة وإنما للكتاب نفسه ,كل الحروب لا بدّ أن يقتل فيها الجنود أولا الذين هم أبناء الطبقة العاملة..كل حرب وقودها العمال والحجارة ولهذا السبب فان العمال يكرهون الحروب بالفطرة0
ملاحظات أخرى لا تستحق الذكر منها أن المظلومين يمارسون عبادات وثنية للدفاع عن النفس مثل رسم وجوه غريبة على الخشب أو الأرض بفنية فطرية فولكلورية أو ينحتون إشكالا غريبة الوجوه لأطفال جياع يقدسون خروفا مشويا أو يشكلون من النفايات منحوتات هشة تتحدى الدكتاتور لبضعة أيام , فزاعات من الأقمشة البالية واشياش الحديد وصفائح السمن بأرجل مقطوعة وعيون مفقوءة , قال النظام عنهم بأنهم ملحدون يعبدون الطبيعة ولو إنها أوثان ممزقة الأسمال ,جمل غير مفيدة كتبت بالمقلوب ..الحرب تطحن الفقراء والذي يفلت من المطحنة تأكله أرضة السجون ...شعب الجنوب هو الشعب الكارتوني الذي استنسخ ليجوع ويطحن ويعدم بدم بارد لأنه مخلوق من أوراق الكارتون... العبيد يحاربون من اجل السلام..جمل مستهلكة تعود لثورة الزنج التي عثرت على عملة ذهبية تعود إليها قرب منارة خطوة منارة الإمام علي , ثمة جملة مقحمة, ليس لها علاقة بمضمون الوثيقة: قطرات مطر قليلة أسقطت الجدران ,كأن الجملة تقول : فئران هي التي أسقطت سد مأرب....لأدرك أن العرب ما اغتصبوا الفلسطينيات إلا لهشاشة الأخلاقيات التي نتمسك بها أو الأفكار بل الدين الذي توالد في بقعة الصفر وصار دينا شعبيا صفريا غريبا عن دين محمد ...
نحن محتلون بقوى غامضة عبرت إلينا عبر التأريخ المقفل مثل فتيلة إعصار ...
أحدثكِ... وأنا ارصد جغرافية المكان من كوة صغيرة لمحرقة قمامة الريسز, المحرقة التي جعلتها الاستخبارات سجنا انفراديا..أرى أشجار الأثل التي تسوّر الريسز وارى المفتول (القلعة) والجزء الجنوبي من المستنقع المقابل لبيتنا الآن... الآن اختفى بكاء عبد الباقي الذي أدمن عليه وسمعت رنين خلاخل أمي التي فقدت الذاكرة.. الأم تمشي بحجل الفضة المفضض بكرات صمد ,تنتهي الاسورة المشرومة لكل حجل بكرة مفضضة أكثر ابيضاضا من الاسورة , تزن كل كرة أكثر من كيلو غرام ومن المحتمل أن اعوجاج الساقين من ثقل الحجلين وليس من إنجاب الأبناء , جمالية الحجل اقتبست من موروثات جميلة لتاريخ قبيح .. تمكنت فيما بعد أن أدق إسفينا لأحد الحجلين بالأرض لأسجن الأم العظيمة في باحة الحوش خوفا عليها من الخروج عارية بعد أن فقدت الذاكرة ..قطرة ..قطرة...نحن شعب يعتقد إن فاقد الذاكرة هو في أقصى درجات الجنون ..
لأني في الطفولة نحت تمثالا لامي من طين حرّي ولم يكن يشبه أمي أبدا لكني الوحيد الذي يصمم على أن التمثال هو أمي التي أنجبتني إلى هذا العالم بعد أن وضعت كرتين في كل حجل تزن كل كرة أكثر من خمسة كيلو غرامات تعبيرا عن سجنها عبر التاريخ بموروثات ثقيلة...
كنت فنانا متفردا..
كنت متنبئا...
سنسقط على الأرض في بداية كل هجوم بل ننبطح حتى ..ولو لدولة افريقية جائعة..لعصابة لا تمتلك بندقية...
كنت زعيما لعصابة من أطفال الحي ولنا في كل يوم هجوم على أبناء القصور وكان شعارنا في كل هجوم مكتوب على لافتة بتعليم وتآمر من أبي ..تقول اللافتة ..على دلعونه ..على دلعونه ..سلام تزوج بزونة ..فيما يعمد أصحاب الكفافي البيض على تأليب صغارهم ويوعزوا لهم مثل الكلاب ليصيحوا بنا ..على دلعونه ..على ..دلعونه ..عبد الكريم ..تزوج بزونه ,وفي حدة المناوشات نصرخ ضمن ثلة تنقسم إلى نصفين ..الأولى تصيح طار لحم ..أما الثانية تجيبها طاح فحم ..لتشتد المعارك وفي كل مرة كانت الغلبة لنا وذات يوم شج أحد الكبار السمر رأسي بحجر طابوق وحين ضمد أبي رأسي في المستوصف سمعته يحدث المضمد إن هؤلاء يريدون النيل من الزعيم ويضربون الأطفال ويتعلقون بعبد السلام عارف الذي احترقت به الطائرة لأن الله انتقم منه لأنه طائفي ..ثم قال متأثرا إنهم يدّعون بقتل الزعيم الذي لا يقتل حتى أنهم فطروا في نصف رمضان ونحروا البعران ليعلنوا مقتله ويجعلونه عيدا ..هل سمعت بمسلمين يفطرون في رمضان لأن القوميين والانجليز يصفقون لهم ..تصور أنهم سجنوا الحاج طوينه صاحب الجامع المشهور في محلة العرب لأنه من جماعة الزعيم ..بعد أن سجنه الانجليز قبل صعود الزعيم وقالوا عنه بأنه شيوعي .هذا الشيوعي هو المسلم الحقيقي لأنه مع الناس ضد الانجليز ..وسمعت المضمد يقول لأبي إن هؤلاء البدو من السعودية ونجد والحجاز أعطاهم العثمانيون سندات طابو لأرض الجنوب ليشتروا ولائهم ضد إيران وبعدها جاء الانجليز حين مرت بهم أزمة مالية ووزعوا الأراضي على شكل إقطاعيات للضباط في الأربعينيات وسلبهم الزعيم هذه الأراضي ليوزعها على الناس دون أن يحتفظ بقطعة ارض سكن له فاجتمعوا هاربين من سطوة الزعيم والشيوعيين ويسكنوا قضاء الزبير فكيف لا تريدهم أن يفطروا في رمضان ..لا إسلام ولا بطيخ ..وظلا يتحدثان عن عظمة الزعيم حتى خلته على أنه أحد الأنبياء وهذا الجرح في رأسي هو مجرد عربون امتنان له ثم تشاجر أبي مع المضمد لأن أبي يلح على أن الزعيم كائن لا يموت ...
كتبت فيما بعد في مذكراتي لو نجحت خطة الشطرنج وهزم الملك الأبيض فان اللعبة ستجدد نفسها مادامت الرقعة ذاتها والجنود هم أنفسهم عبر التاريخ لا يدافعون عن وطن وإنما عن ملك أو عن رمز سيحارب الدكتاتور حينها يبيّض نفسه بالجص أو الحليب بنفس الخطوات ولكن معكوسة وبشناعة اكبر ,الدكتاتور.. الديك الأحمر الذي تخط ساقيه في النجاسة ليصيح عاليا...
في أعماق كل منّا دكتاتور صغير ينتظر تحلية من أسمدة كيمياوية لينمو مخضرا وبسرعة الضوء..
وفي أعماق كل منّا مكبوتات متراكمة قد تنفجر مثل بالونه أو نهرب بعيدا بصوفية لاجئ أو نعرج بروح انتحارية لنواجه التسلط ...
أبي الذي ينتظر الذي يأتي لم يأته احد إلا الموت...
الآن ابصق على كل من أخرجني من الطفولة..طفولتي العظيمة ,لأن كل أشيائي بقيت هناك ,يجب أن استرجعها قبل أن يسرقها الكبار ,الطفولة وحدها التي تزيل التشنج والشيزوفرينيا..قبل ثوان سمعت المطر ينهمر في الباحة لكني لم اسمع المرزاب ينهمر بالماء بعد..
ارفض الخروج من الطفولة...طفولتي العظيمة ..
لمخابئ الأعراب خيالات توقظ الذاكرة وتكشف عن كهوف لحيوانات مختلفة الأشكال والحجوم ,اجتمعوا صدفة أو تشبعت أنوفهم برائحة كلبة ضابع فتشكل قطيعهم البشري للخصب والتكاثر....أبي يكره خسة القطيع بشدة...
اكتب مذكراتي وأنا في اشد ّحالات العزلة ,ومثلما قالت السيدة سيمون بوفوار :إن الكتابة في عتمة العزلة هي لنا نحن القراء أو هي لكِ...
كل عتمة يشع فيها نجم صغير هو أنتِ
لأني فقدت الثقة بالقارئ, أخاف أن يشي بي للسلطة لهذا السبب لا اكتب عن الانتفاضة التي اندلعت هنا..اليوم الذي جاء فيه السيد جاسم عضو اللجنة المحلية للحزب الشيوعي على صهوة شاحنة قديمة محملة بالأسلحة جعلنا نغرق بضحك جنوني لان البنادق تملأ الشوارع بعد أن نهبت المخازن في الدريهمية ومدرسة القتال وأهدانا الجنود الحفاة المنسحبون من الكويت أسلحتهم مقابل لقمة زاد ,خطب على أسماعنا خطبة شهيرة يؤكد فيها على اندلاع الانتفاضة الليلة وليس غدا مستعيدا ذكرى القائد لينين وتوقيت ثورة اكتوبر ,هتف معه كل من صالح موجر وحسن عليوي وسيد جمال ورائد سيد إسماعيل شقيق ناقد الذي أعدمه النظام ومحمود الساعدي وعلي عبد الحسين علوان ووالده كبير الرفاق في الزبير والشهيد ابن عبد الحسين طاهر الحمداني الذي اعدم رميا بالرصاص فيما بعد ,همست لسيد جاسم إن الانتفاضة اندلعت قبل شهرين لوحدها وأمس بدأ الجيش بالقضاء عليها حين أطلق النار احد رجال الحرس الجمهوري المختبئين بدبابتهم في معمل الدواجن(حي الطرب سابقا) عن أعين الشعب وليس من الطائرات الأمريكية, على سباهي المومياء ,سرقنا أنا وسباهي علف الدجاج الملون بالدم المجفف ومسحوق العظام المطحونة0
رحل السيد جاسم صباح اليوم الثاني حين أضرم النار ملثمون بجسد صاحب محل للحلويات وكان اقرب الناس للمجتمعين ...تأكد الجميع أن الانتفاضة اخترقها القتلة لكي لا يثور الشعب ...من أين جاء القتلة؟ ولماذا لا يعتبر استسلام الحرس الجمهوري لنا ..نحن أبناء الدريهمية الفتيل الأول للانتفاضة لانها عفوية اخترقها القتلة ,الجلادون هم الذين صنعوا القتلة بعد أن أعدموا الناس ..القتل ثأر الأحياء للأموات؟ ..ولأن سباهي لم يسجل ضمن الأموات أو الإحياء..انه فراغ..صفر ..غير موجود في سجلات الموتى, الجنود الذين أرادوه قتيلا على الألغام شرق البصرة حافظت عليهم الطائرات الأمريكية سالمين ,هم ودباباتهم السريعة ليقتلونا فيما بعد وأنال نصيبي من أطلاقة تائهة ,أما الآليات القديمة في حوشنا القديم الذي يقابل مستشفى الزبير الجمهوري ومبنى الجمارك فقد تحولت إلى رماد بقصف من طائرات سود منخفضة تطير على مهل وخلفها سرب مروحيات ...
هناك تجمع آخر لحزب الدعوة لاشعال فتيل الانتفاضة رأيت بعض أصدقائي الطلبة من الجمهورية الثانية وكذلك أياد حنتوش وكاظم محيبس وحير جبر دايخ وشخص آخر يدعى والده بتور....
قبل أيام عزمت على إطلاق الرصاصات الثلاث أو الأربع بتصميم مفاجئ حين سمعت إن راقصات الغجر وفلسطين ومجاهدي خلق يغنين على وتر أحلامنا القتيلة كان حسّ المهانة هو الذي قادني منوما على الدراجة النارية الامزت 125سي سي ..لم أفكر بالموت أو بالدفاع عن قيم نبيلة تستحق أن يستشهد الإنسان من اجلها أو الدفاع عن الإنسان المثال المقاوم..لا شيء في حياتي يستحق أن يكون مثالا للمقاومة, اللهم إلا الإضراب الطلابي على الرغم من ترقين القيد والرصاص الذي واجه المظاهرات و...الاعتقال, لا..هي المهانة التي قادتني منوما وعلى كتفي بندقية, الذي قادني هو الله الذي يسكن الضمير والذي ألبسني جبة ضدّ الموت0
إن كياني هو الذي قادني للمواجهة وثمة رفض خفي في أعماقي لإستراتجية الإدراك المتأخر0
كل من يحارب البلادة والرضوخ للقطيع يجب أن ينتحر بين القوماج واديان السلطة ....
أهل الحيّ هم حثالة القطيع مثلما يقول أبي , ينعقون مع كل ناعق ويمكن اختراقهم ببساطة....هل هم القتلة؟ أم الذين تاجروا بالدين ..الدين الذي كان لنا وسرقته السلطة0
نحن سكان الفراغ..لا نسجل كوننا أحياء أو كوننا موتى ,سكان الصفر هم الشجرة المثمرة وإلا لماذا ترجم بالحجارة أو تشحن في أقبية السجون كغذاء احتياطي للأرضة , نعدم أو نسجن أو نهرب إلى ابعد نقطة, لابدّ أنّ ثمارنا مثل نبق السدر اللذيذ وإلا لماذا نرجم بقسوة ..نحن الحطب بعد شتاء أكلتنا الأرضة0
ولكن من أين جاء القتلة؟
اعتقد إني أعمى ينافق المارة ليوصلونه إلى مكان ما يصلح للتسول..متى أرى؟
هل كل مهمش في العالم متخلف عن القطيع بمتلازمة اودان مثل التي في.... عقل المنغولي0
كل المنغوليين في القرية رضخوا للِواط بشذوذ جنسي بعد تغرير الكبار...
السنة التي اكتشفت فيها إننا نعيش في زرائب نسميها دارتنا..
بعضنا تحسس انه يدافع عن شيء أو كائن لا يعرفه , في أخر مرحلة للتكوين ،مرحلة الظلام وكل ظلام ينتهي بمصباح مضيء أو نقطة ضوء مثل نجمة وحيدة في السماء.... انه المنقذ الذي يسكنه كره غريزي للسلطة ،إذا كان منقذ اليهود متشالح هو كورش المجوسي في رسائل اشعيا ومنقذ كورش هو من تحبل به امرأة على صخرة وسط بحيرة, ومنقذنا من كورش ومن فراعنة العصر هو المهدي أو الخضر الذي مرّ من هنا في دعاء كميل وله خطوة غرب الدير بعد أن دفنوه عنوة على تلّ الدهدار.. هل كان كلكامش الذي عبر هذه الصحراء إلى البحرين ... ولكن من يجمع الهامشيين والبسطاء ، المهمش لا يتبع إلا مهمشا مثله يستجمع القوة الخيرة في أعماق كل إنسان ،المهم هو ليس في المعركة الأخيرة أية ورقة جوكر أو دو شش باثني عشر نقطة يربح بالصدفة في لعبة فوق السبعة أو تحتها ،المجتمعات تسير وفق خطة عظيمة تسقط فيها كل الأقنعة ويهزم كل طغيان (الشيوعية هي المهدي للاشتراكية ) أعلن نفسي من اجل أن يكتمل العالم بالخير والعدالة ومن اجل أن تصبح الحياة بسيطة وأن يصير العدل مهمشا أو مستوطنا (قسمة أو جور مشاع )ألا يحق لي أن امثل المهمشين في محكمة البصرة الموقرة .... مجرد ممثل يستعرض أوراق الآلام والنبذ ,.. أبي الحكواتي أخر القرامطة... كان أميا ولكن يحفظ عن ظهر قلب ما قاله أبو ذر الغفاري ،الأمي الأول الذي قادته الفطرة للعدالة 0 أبي الحكواتي يكره القطيع ... يؤمن أن القطيع منوما وزائدا على الكواكب ويأمل من حرب أو مجاعة أو طاعون أن يزيح النصف على الأقل ... مثل كل القرامطة يستشهد من اجل المستضعفين لكنه يكرههم لضعفهم واختفائهم خلف الأقنعة ... انه يحارب من اجل عودة البراءة ... قالوا عنهم بعض ما يسيء ولكنهم اتفقوا على انه أطيب ما يكون الإنسان وقالوا عني فوضوي ولكني اعتقد أن الفوضوية فطرة سليمة في مجتمع يدعي الاستقامة ولن يهمني ما يقوله الناس عني بعد أن رأيت .. قد يكون أبي هو إنا لأني ورثت عينيه الصغيرتين الجوزيتين مثل عيني الصقر , وصفنا منظم الجنسية /لون العين نرجسي 0 وأنا ضمن ترتيب محكم وغريزي سيد النقلة الثانية عشر في الشطرنج حين أطلقت ثلاث اطلاقات أو أربع وخبّلت السلطة في ليلة احتفائها بولادة هانيبال .. أم أن كل البسطاء المهمشين هم قادة المربع ألاثني عشر....
صباح ذلك الخميس الذي مهد لليلة الجمعة الأخيرة مسك أبي البقرة من قرنيها وقال لي اضربها بالعصا ....
لان يده لا تطاوعه بجلدها لكي تسير بأقدامها للذبح , قال أبي ؛ الله ... الله ...إنها تدور حول نفسها لأنها تدري أننا ذاهبون للمجزرة ... قلب الحر يعلم ...
وبكت الأم ودمعت عيناي ..
فورة نباح تستفز الظلمة , تتصاعد من ضفاف المستنقع , نهيق حمار على مبعدة أمتار جعلني التفت باحثا عن متلازمة النهيق و كالذرور أثقل النباح حدة فيما تصاعد من الألواح ... زوايا قصب الأخصاص , أسوار الصفائح الجينكو ودهن الراعي ثغاء خراف وماعز وصياح ديوك .
يهيمن ديكنا العربي بصياحه المنتهي بشخير وثمة صوت منفرد لإنسان يكسر انسياب هارمونية الأصوات وتناغمها ... هع ...هع ... كانت تلك هعهعة الراعي تخيم على أشباح الليل وقتامه الأصوات ولا اعرف أن للراعي صوت غريق وان للأفاعي جلجلة تتناغم مع كل الأصوات . تكوّن الأصوات لحنا كونيا , امتزج مع اللحن , أريد أن أكون نغمه ... مجرد نغمه في سلم موسيقى الكون (القوة المنظمة هي المايسترو ) كي تنساب روحي المحتضرة مع مسيرة الأصوات للمجهول واكتشفت أن صوتي هو الآخر صوت غريق أو صوت نوارس الغاق قبل أن اعرف أني أتوهم لان البقرة ماتت في ظهيرة الخميس المتوج بليلة الجمعة الأخيرة , انه توهم بالامتلاء لأني معصور ومتورم بواقع عجائبي مريض وكنت أنا المنتج بجهود لذلك الواقع ...
جدة ... يا جدة -
الآن وأنا اكتب لك أرى يدا بيضاء ممتدة في عرض السماء على شكل قوس ابيض وتنشغل أذناي بدبكة تردد انه هولندي ... هذا هو دربي ...
جدة -
العطش جفف فمي وعيناي عينا بومة تفتحان بدائرتين جوزيتين لترقبا البر الالق بأنوار خفية , الظلام المكتظ في الأودية , دركال المستنقع , الحفر بين أكوام القمامة , في تلك الوهاد تبرق صفائح معدنية , عيون قطط مختبئة في الظلمة ,عيون مردة وتيتان لم تخلّف فيها النيران غير ذكرى بريق 0 نتؤات أحجار كلس صلدة ، مدقات الصخور ، حصى، صفائح لها بريق قمري ، ألاف البور النورانية ترتعش ،هي نيران نفط الشعيبة ترجف الأجسام الملساء أم الأرواح المتسللة كأفعى تنساب.. كالقتلة عبر الحدود ؟
من أين جاءوا ؟ هل انسابوا بالتهريب أم نحن الذين نصنعهم بعد أن صنعنا السلطة؟ ... (ارتجافه سرت ببدني ،كالقشعريرة ، حين رأيت التنين الأسود الطويل بجناح مكسور على جبل سنام يخيم باستهتار فوق رأسي ،التنين المتوالد من احتراق النفط هو الذي أوحى لي بقراءة النقش على صندوق أمي السيسم وفك طلاسم خطة عظيمة لإسقاط السلطة ,النفط الذي يعيش السلطة هو نفسه الذي يميتها.. ابتعد عن النفط فانه يحرق كل كرسي لأنه غالبا ما يسيل تحت المسؤول وقد يشتعل, دببت على الأرض كاليسر وع والوهن القاتل والبقرة الحمراء الوحيدة وعواء أجش لكلبنا الأسود العجوز وصوت النوارس المصطادة للبيع لكي يلهو بها أطفال الأسياد وبدون أن أعي التصقت بجسد أبي الحكواتي المكدود من العمل ولا اعرف لماذا تشبثت بمناداة الجدة الفلسطينية التي تنام مع بناتها خلف خصّ من القصب فيه مسربة تكبر يوما بعد يوم .. جدة ..جدة ثمة كرة سوداء تتدحرج مبتعدة ، التصقت بشدة بجسم أمي التي لا اعلم كيف وجدتها بقربي تتحسس حرارة وجهي ... الكلاب تنبح سوية والأرض ، ابوازها مسدوحة بارتخاء على الرمال الباردة وحين علا صوت مؤذني الفجر من مئات المنارات النابتة في ارض الزبير بين بيوت الطين وأخرى مقببة بالآجر , في الزبير تصحو كل الكائنات في الفجر وبعد دقائق تغط بسبات , أنا الآخر رحت بسبات عميق مقهور .
صحوت على شمس مدوخة على الرغم من العباءة التي تسترني من أشعة شمس لا ترحم ، في صحوتي خيم صمت مباغت على الأفواه ومزامير القصب ،لابد أن الريح غيرت مجراها ،تراب القمامة التي تتقيؤه الشاحنات يموج كثيفا ويرغي على الأكواخ, كان مارد التراب جريحا والشمس شلّت على راسي كعامود مائل, جسدي تعرق بقطرات انسابت تحت الإبطين .. جدة ...يا جدة ..يا جدة وأسندت الجدة الفلسطينية راسي إلى صدرها ،شربت الماء المج وتقيأته في الحال ،أسندوني وامسكوا براسي خوف الإفلات من شيء أبهمه ، شربت الماء مرة ثانية واستقر هذه المرة في الجوف 0
أرى ورقة بيضاء تتهادي على الرمال المنبسطة ورأيت امرأة منحوتة من خشب الأبنوس الأسود وعرفت أنها سارة , مزامير قصب الأخصاص ، طنين ذباب ، بدون الحان تزمر أبواق القصب .. أنصت .. سلاسل البقرة تصرّ في رقبتها , بقرة حمراء وحيدة ، استطالت حوافرها حين قبعت تحت يأس انفلاتها من مركز الثبات المشدود إلى رقبتها بانشوطة وحين رأى الفلسطيني العجوز المسيحي بقرتنا جن جنونه وقال إن اليوم الموعود لظهور وقيامة المسيح تسبقه بقرة حمراء ترعى في المراعي.
وأجابه أبي لا يوجد مرعى في هذه الصحراء لبقرة أنها مشدودة للأرض بشيش من حديد, إن علامات الظهور هي باصطياد طيور الغاق ،ثمة كرات من العتمة على مبعدة ، كرات سود بحجم الشمس تئز بصوت يعسوب وانين ذبابة ،انتبهت ،كانت عيناي في عين الشمس مسمرتين .
أسندت الجدة راسي ثانية وشربت الماء المج وتقيأته في الحال ، وعاودت الجدة ثانية وأسندت راسي إلى صدرها المتكور بثديين صغيرين وراودتني الرغبة لمضاجعة فتاتي دون إيلاج، على ما يبدو أن عضوي الصغير شمّ رائحة الجدة-رائحة المرأة... وانقض يستطلع لجوجا رائحة امتزجت بصورة شائهة مع سهام الأروع والأجمل من كل الفتيات على الأرض لكن العيب بل الخجل تحت سطوة هيبة الجدة جعلني أتعرق وارتشف حليبا محلى بلذة عظيمة وعيناي تزرزران هاربتين بين اكمات الأحجار والقمامة ، ثمة أطفال تبرزوا وتركوا عوراتهم ظاهرة للشمس ورأيت سباهي ومعه بعض غلمان اللواط يسترقون النظر إلى عورات الأطفال هاج شعور الكره لسباهي شقيق أليفتي فمشيت وحدي دائخا تحت شمس لا ترحم وأمامي ينتفخ البطن ويتكأ على عمود فقري عاد للوراء بمشية مستلة من هيئة أشقياء نهاية جيل الستينات.
والريح أتحسسها ثقيلة كمياه البالوعات، كالسيل تلك الريح.. لا تسرع.. لا تبطئ ..فيما انتصب حمار سباهي الأجرب وحيدا وسط كلاب آبقة مثل حيوان مرسوم في بحيرة تميل للزرقة في الظهيرة( أتمنى أن اخرج من هذا النص ،التوقف عن سرده , ممل بتفاصيل وصفية و بدائية اللغة، آمل أن أكون خارج هذا النص بعد الانتهاء من قراءته لكي لا تفتح شبكة مجاري التأويلات على سعتها، النص المفتوح لا يعني أن تظل النهاية مفتوحة وإنما شبكة مجاري تأويلاتنا هي التي تظل مفتوحة، أننا لا نفكر أو نتأمل بأشجار ومياه عذبة وإنما ذاكرتنا بالوعة هائلة لنتانات التاريخ.. كل همي أن لا أتحول إلى مسخ ممسوخ الذاكرة ومحشو بفتيلة الرعب من السلطة ، التذكر وحده هو البندقية الموجهة لكل سلطة ،هم يعتقدون أننا بلا ذاكرة مثل قطيع الحيوان ، نكبت كل شي وندفنه في مقبرة سيد احمد أو نستنسخه ونحنطه لنحتفظ به أسفل الدماغ... اكتب لك ما جرى قبل انتهاء الشهر الأول لمجيء اللاجئات بخيام من قبل الأمم المتحدة أو الصليب الأحمر أنا لا اعرف معنى هذه الحروف الانكليزية على الخيام التي هجرها اللاجئون, سبع ليال من الجمع لحين افتتاح الريسز وحدوث كارثة كشف الأقنعة في ليلة الجمعة الأخيرة.
أرى سباهي وحده ينحدر نازلا من مربع التناذر السادس في خارطة علم نفس الثورة محملا بالقلق والخوف جراء صدمة مواجهة الإعدام في تفجير الألغام 0
انتم تتذكرون حي الطرب والريسز وبجهود جبارة تتناسون اللاجئات وحي الدريهمية الذي يتوسط الريسز ومدرسة القتال ومقبرة سيد احمد والجمارك، الحي الذي وزعت له فيما بعد قطع سكنية صغيرة وأبي الوحيد الذي لم يحصل على قطة ارض عقابا على انتفاضته وإنما اشترى قطعة ارض في قلب الحي المقابل للروضة التي وضعوا قطعة تعريفية لها (روضة الكروان ) ليطلق اسم الدريهمية فيما بعد على الحي الذي يسكن أبي قلبه وعندما سألته لماذا اخترت السكن هنا قال لكي أرى المستنقع0
أومأت بيدي إلى الطيور الخضر وأثرت تساؤل انقضاضها على علو خمسة أمتار أو ستة ،تصدم أو تكاد بشدائد القصب في مثلثات الأكواخ.. تحذرنا من كارثة على وشك أن تقع..
اسمع هدير شاحنات مقبلة، لغط نسوة وتصايح رجال..رأيت الأليفة تتخاصم مع الفتيات الفلسطينيات.
(ذاتي المبحلقة بالحيطان هي التي تروي بعد أن يئست من إمكانية تهجينها ضمن القطيع، اليأس المحرر من كل الأوهام... ).. الظلام في الخارج...
بعد أن جالت عيناي في اللون الرمادي البالي للقمامة رأيت الجدة تمسك الأليفة من ضفائرها وتصرعها على الأرض ثم سحلت جثة خروف منتفخ بصوف له لون الأرض وعلى مبعدة تقيأت شاحنة قلاب حمولتها من أنقاض البناء على ضفاف المستنقع، المياه الممتدة اسودت كرائب ثقيل ينزاح بموجة ويرتمي على الضفاف الأخرى..ترتجف سيقان القصب والبردي وتهمد، أنا الآخر ارتجف مع دقات القلب وأتحسس معدتي تريد أن تتقيأ رائبها الذفر وبدون أن الوي رأسي..بل بدون ألم أو إيعاز للحظة التقيؤ انبثق الرائب من فمي وبلل دشداشتي الممزقة.
- جده
ولم اسمع صوتي فصحت بملء حنجرتي
-ياجدة... أريد أمي..
انتظرت فاغر العينين وسمعت قرقرة انبثقت من الجوف وثمة سائل دافئ ينسكب من المعدة أتقيأه بآلية،ضمور وضياع يتيهان عيني المبحلقتين بالكائنات،الضفاف الأخرى للمستنقع،جلست في عرزال الجدة...وحين اتسع الكون تنفست الصعداء وتخلصت من تساؤلاتي المبهمة، ذاكرتي المعتمة بصناديق مقفلة، ذاكرتي كوخ أعرابي قمام يجمع ما ترصد العينين، النفاية لا تصلح لشيء والأسياد جعلوها لنا لأنها تأريخهم بكل قذارته بل ترصدهم ألان.
الفقراء يخصبون الأرض بقماماتهم لأنهم لم يعرفوا أوراق السليفون والعلب المغلونة والعاب البلاستك والسموم ... ثلاث غجريات بملابس ملونة وفضفاضة يقتربن من جثتي ، جثتي قد تكون مجرد هيكل طين لم يملأ بعد ، فوجئت بالأخوات الفلسطينيات واندهشت لاكتشافي أن بنات فلسطين يلبسن ملابس الغجر ، بصدار وثوب طويل يزهي بالألوان ،عشرات الفتيات تقاطرن من بئر للأثاث .
رأيت عينيي ياسمين تتشبثان بوجهي ، هذا الاتفاق في النظر والإنصات ،في ساعات العزلة والمرح، سرب اسماك أو طيور، ذلك الانصهار بجسد واحد يعذبني ،اشعر بالمرارة.. ينظرن إلى أثوابي المتسربلة بالقيء دون امتعاضه ترسم ملامح ما .. سرت القشعريرة بجسدي وأنا أحاول بوجه اللاشيء رائحة الفطيسة تحتل المكان والجدة تهذي بلغط لِلغة ميتة ،في كل نترة تنخلع ضبة صوف من الجلد المتفسخ ورحمها يندلق على الأرض ،فغرت فمي دهشة حين رأيت اللحم الوردي يندلق، لا يسكن في شق وإنما بانتفاخه وردية أنبوبية ،اعتصر قلبي ألما غامضا، أنجبت الجدة الأبناء وولدت نساء فلسطين وفي الخاتمة يخرج الرحم للعالم متسائلا عن جدوى الإنجاب، وأدركت سر التصاق الذباب على لزوجة السوائل في الثوب المدعوك تحت كرتي عجيزتها العظيمة.
أسمع هذيان الجدة:
- سأحوك لك فراشا تنام عليه.. لابد أن الأكل في بطنك اختمر ..
الله أعلم..مصرانك مسدود أو تحجر، اقشعر بدني، أقف دون أن أعي، أنا الشاهد الوحيد على ما ارويه لك رأيت اليساريع بحركتها الافعوانية الحبلى والعجلى تلتوي بين أسنان صفراء لجثة خروف دون تمتعض الجدة أو تقتلها رائحة الضربان .. حين تخيم رائحة الفساد مثل خيمة عظيمة وتتشبع أنوفنا وتمتصها أجسادنا لا نشمها لأنها تصبح جزءا منا ..لا نتأفف أو نحتج لأن الفساد غيمة عظيمة ،غيمة مخيمة بالدخان .
لأني لم أتمكن من خسارة الإنسانية لذا ارصد الخسائر ....
وتعلمت من أبي أن اغتسل بمسحوق التايد لأني اعتقد أن الرائحة تلتصق مثل الدهون المسودة 0
نحن الأطفال المنفخو البطون لم نصب بالطاعون وإنما نموت بسوء التغذية ..
وأنا بعد عقدين اكتب لك أيتها الزوجة لأني أدركت أن سكان الصفر يحملون في ذواتهم الجراثيم المضادة الشرسة التي تقتل الأسياد القوماج والمتعبدين العبيد في البيوت النظيفة ذات الطابقين ..هل نحن القتلة وما سر تكاثرنا الآن؟
- اذهبن للزبالة .. انعم الرب علينا بنحاس اصفر وفافون وخشب وأكياس ورق وأسمال يشتريها أصحاب المزارع لسدود السواقي واهمّ ما فيها الخبز وقناني الزجاج ..هذا الصمون ..صمون المطاعم .. أريد أن اشتري لأخيكن سعيد لحمة غموس يقوي بها قلبه ..لا تتسولنّ بعد اليوم في الشوارع.أنا لا اعرف لماذا يعتقد السائقون لكل العجلات بأننا عاهرات ؟ ...
( يا حياة أنا لم اصدق حتى هذه اللحظة أن الفلسطينيات ونساء جنوب لبنان يتحدثن مثلنا) اسمع الجدة:
- أمه وأبوه والسيد نزحوا عن فيضانات الريف ..هم شيوخ إسلام بحق وحقيق ،ليس مثل الأعراب بدون جنسية ،البعض من عربستان وآخرون من البدو ألصلبي ..النبط ..
أهل البصرة أكرمونا ولم تراود نفوسهم الخطيئة ...انتن أخوات لسعدي ..الله..أحب طير السعد هذا ....
وسط دخان الهذيان المبعثر قبل سنين أدركت إن أبي كان عظيما .. اعني عظمة الإنسان وليس الرب ..حين ضرب مدرس الأحياء عبد العزيز القناص على رأسه بالمكوار وأخذ أمواله ووزعها على عاهرات القرية فيما اخذ السيد سترته التي هام فيها فيما بعد ..لأن القناص المسكين لم يعط اجر الفتاة الصغيرة ( هكذا قال أبي مع العلم أن القناص صار معاون مدير إعدادية الزبير ورأيت فيه الأستاذ المؤدب والمثقف) على ما يبدو أن أبي يعبد العدل بجنون ويرى مالا أرى ... وهو ابعد الناس عن بائعات الجسد ,يطمح أن يكون المثال في واقع غير مثالي وهذا سرّ الانفصام والخبل في شخصيته) أتذكر أبي يضرب بعصاه المثقلة بكرة القير رجلا بيشماغ احمر يصرخ عاليا .. أعطوهن أجورهن ..الله لم يوزع المال بالعدل وإنما خلقكم لتعتاش المسكينات على أموالكم ...وينظر لاهثا برئتين تشمعتا من قير التدخين للرجال الذين يترصدون المشهد ...كان يسخر في سره من أبي حنيفة النعمان الذي قال :من وطأ امرأة بأجر فلا حدّ عليه....
أبي دائم النظر والحذر من سيد الأقزام الصامت كالأموات ...
هم يضعون المساكين في زاوية ويقولون إن الزنا بالأعراض مهنة ...
هل سمعتم بزانية بنت قصراً ..انظروا لسارة العبدة لا تجد أمها العمياء ما تأكله.. السمسرة هي المهنة الأولى للرجل .
(الله.. يا حياة..كلما أتذكر أبي الحكواتي أتذكر عبد الله بن ميمون الفلاح الثائر من سواد محمرة البصرة حين هدد الطغاة بظهور المنتظر )
إن أبي لا يعرف الخوف حين يقف بوجه الظلم ولا يعرف الأخلاق التي تسيء إليه حين يعتقد انه على حق ...
أبي آخر القرامطة ومن المحتمل أن جده أبو ذر الغفاري أو حمدان قرمط وليس حريث أو قتيبة ابن مسلم الباهلي..من المحتمل أن الله والعدالة في قلوب الأميين فقط ..نحن نعيش في دائرة مظلمة تعتاش على الاحتمالات ... لأنه يهدد الجميع إن الزعيم على قيد الحياة وانه ينتظر عودته على حصان ابيض من عمق مياه دجلة ...
الجدة تلح على ذاكرتي ..اسمعها بوضوح: ابنك عبد الباقي يحتضر من الجفاف وسوء التغذية .. لا لم يكن هذا هو صوت الجدة لأني توسلت إليها :
- جدة..الجيفة قتلتني ...
صمتت الزوجة وسكتت الجدة غير أنهما ترمقاني بنظرة عطوف .
الجرذ الذي يشاطرني الغرفة لا اعرف أين يروم الذهاب من خربشة في الجدار ،هدير موتور سيارة يتوقف عن الدوران تخرس الدنيا بصمت المقابر ..ناديت أبي بصوت هامس وتذكرت في نفس اللحظة أن أبي توفى قبل شهر واحد .. هذا سعال الأم التي تجوب باحة البيت ,باب غرفتها الذي اختفى في ظلمات الذاكرة ..السيارة تبتعد , تشممت رائحة الجثة التي سحلتها الجدة لضفاف المستنقع ..
رأيت الذباب يطاردها بشراسة وحين عادت كان الطنين يسبقها ويتشبث بها , غمامة رمادية حيث استرجعت الريح الجنوبية الدبقة ذيل التنين المبطوح على جبل سنام وكانت يدا الجدة تتحركان بهمة لتدوير الصوف ودعسه في كيس من الجنفاص فيما بقيت الجثة بين دائرة كلاب تزر وتزأر وتتعاضض بهستيريا .
الخليج ..الخليج ملاذنا الأخير ولكن كيف الدخول للكويت
أقربائي دخلوا الكويت بخزانات الماء .. بوابة سفوان والعبدلي تعرف أن في الخزانات فلسطينيات وقلة من الرجال ..الشرطة تغض النظر عنا ...
وتصاعد هدير موتور ساحبة تقطر عربة تعلوها القمامة ولمحت سائقها يغازل أليفتي ويمسك انتفاخة كتفها متفقدا طراوته براحة يده اليسرى ،انتفض محتجا لكن النحول اناخني على الأرض وحين جاءت شاحنة أخرى انصاع سائقها لتوسل الأليفة والفلسطينيات واستمرت الشاحنة تدب بين الأكوام والفتيات يطاردنها ثم انعطفت وسرعان ما توقفت وفوجئت بها ترجع للخلف ،باتجاهي تماما ،لم أبال ...ارتفعت الجهة الأخرى للقلاب في السماء وانكب تل هائل النجاسة أمامي ودفنت ساقي تحت رز متفسخ وطين سيان ازرق البالوعة ، مخلفات ولائم وخراء الأسياد ،لم احتج ...لم اعثر على معنى للاحتجاج ،جثم الصمت على راسي كصخرة وشل لساني بالخرس ولم تسمعني الجدة حين صرخت ،ومن المحتمل أن صوتي لم يخرج للعالم .
وتحسست أن معدتي تمتلئ ..تقيأت بآلية ولم اشعر أن الإفرازات الملونة انبثقت من أعماقي ..أنا مجرد فرخ صغير لقطيع هائل العدد ، كل القطعان تنمو وتتكاثر بسرعة مدهشة لتناولهم حبة البركة وبيض زنخ من بحر قزوين ... امرأة القطيع لا تحلم إلا بفرخ جديد وفي أعماقها رغبة لا تقاوم للانبطاح تحت عضو سيد القطيع .
بعد أن نفضت معدتي قاذوراتها شعرت بارتياح عميق .
ارتياح باعث على الدوار والخدر ،كأني أتوغل في ارض مفتوحة ,ارض الله الواسعة ، في الأعالي طفت كرة الشمس ،اعرف ذلك حين تختبئ الكائنات ،الجرذان المختبئة ،اختبئ في الصريفة ،الخواء ،لاشي غير سياط الشمس تنزل من الكوة بحزمة هائلة البريق ،من أدخلني للصريفة ..؟ هل أنا في غيبوبة أم أني روح سائمة ؟.
الشمس تدفع رأسي للأرض ..تدوخه..لا استطيع حراكه ،رأسي أثقل من كل يوم ،طنين في الأذنين والقلب ينبض في الصدغ ..في الجبهة الم خفيف يدب فوق العينين وينزل العرق مالحا وتنغرني آلام جروح القدمين ..تميد دائرة الكوة وتتمايل الأخصاص المسيعة بالطين وتتهادى الأفعى السوداء على هطار القصب ..الأب يقترب رافعا منجله على مبعدة..يرتجف ..يصرخ ويحز رأس الأفعى.
الأفعى تنفخ بصرخة رهيبة ،صرخة القاتل والقتيل .
كأني في قارب ثمل بالريح ،تمسكت بعروة النحاس لصندوق أمي السيسم وقعدت القرفصاء مذعورا حين رأيت جسدي عاريا إلا من خرقة ممزقة لفت حول العورة وسورت بطني بمسبحة طويلة من بذور الحرمل وثمة كف بشرية من حجر أملس ازرق فيما يسبح المكان برائحة البخور الحجري حين اقتحم حزمة الشمس بخيمة بيضاء ترسم وتشكل وجوها ساخرة وإشكالا أسطورية وحكاية عن رجال أشداء يقتلون أفعى عظيمة ويلتفتون للأبناء واسمع صوت الرجل العجوز ينادي الآن حان دوركم ،يجب أن تتعلموا المواجهة ..
نفثت حسرة مسمومة وصحت رغم جفاف فمي :
- يا جدة ..العطش يا جدة
وجدت أمي لاهثة تحاول بإصبعها أن تبلل شفتي بالماء وكان الماء فاترا حين شربته ..مياه الحب في أواخر الصيف ،في يوم مسكون بالرياح الجنوبية الشرقية الرطبة ولان الماء ليس باردا ..ليس حارا لذا تقيأته في الحال .
اعتقد أن الكائنات التي تسكن المنحدر هي كائنات تخوض في قيء سماوي وليس في بصقة حمال أمتعة ...الكل ينضغط على جدران لم يرونها لأنهم سجناء غير مكبلين ,مسكت العصا من الطرف وجلدت الافرشة والجدران..ناديت بصوت عال: استيقظي في النص على الأقل....
عاد سباهي من مربع التناذر السادس في الخارطة متوترا بناذرة المخلفات النفسية العميقة بعد الصدمة التي لا تمحى بحيث انه مازال تحت سلطة النظام وهو ميت على الألغام شرق البصرة ...
(هم يصنعون دينهم بقسوة, لكي يخافوا من الإساءة للرموز)
ليس الذي أراه بحدقتي العين موجودا لان الأشياء الحقيقية لا ترى ,الواقع الحقيقي هو المخفي تحت الأقنعة مثل العلاقة المنطقية بين الأرقام في الجمع أو القسمة....
عاد الصمت الثقيل مخيما على الكائنات المنزوية والعتمة الكثيفة والرطوبة الخانقة ورائحة البخور والجسد المندى بعرق لزج ودائرة الضوء المبتعدة بدبيب خفي يتسلق دون أن يرى مكعب صندوق أمي السيسم المغلق على خرافة التاريخ والأحجار الملونة 0
الصريفة لها أركان أربعة وسقف مثلث هرمي وكوة دائرية تطل على كون دائري عظيم0
المربع طابو مشاع والمكعب للاهوت – للذين رفعوا الله للسماء أو انزلوه على الأرض- والمثلث للناسوت وفيثاغورس أما المستطيل الطويل الواقف أبدا على ضلعه القصير بشكل طولاني للماسون (عمود رمي الجمرات في الكعبة أو عمود الشيطان) أما الدائرة ملك مشاع للمهمشين , دائرة الزرقة المتناهية التي تقوم فيها الدقائق بدخان يسف من أحجار البخور..ثمة يد بيضاء مرتمية في دائرة الضوء التي تسلقت الخص المسيع بالطين الأبيض , يرقش الذباب اليد البيضاء الممدودة لطفل رضيع، وفي ارض الله المفتوحة تكون المياه في القوارير، تختلط أصوات وتتبعثر... ارض الله في الربيع الفائت والعشب الأخضر والزهور البرية والكمأ المنبثق تحت تكسرات الرمال وتكويراتها الصغيرة الناتئة وقصبة الفارسي تلقي بحبات الكمأ على السطح..ارض الله ..أمنا الرءوم..التي نلهو أنا وسهام بين أعشابها جعلها القتلة أرضا للجثث والقمامة وجعلوا كلمة السماء منقوشة بخط بارز لوصف الخالق ,كلما أرى الصحراء ممتدة أحس أن الله فيها 0
تختلط أصوات وتتبعثر, زناجير آلات حفر , دوي طائرات مروحية وزراعية ... يقول مدير البلدية عبد الكريم الشطيب إن بين تلك الطائرات طائرة خاصة لقتل الذباب... دوي شفلات وشاحنات القمامة وأزيز لحيم أنابيب النفط في الشق العميق بين حوشنا وأساسات مستشفى الزبير الجمهوري 0
كاويات اللحيم تضيء أيدي الرجال بجلدة مسلوخة ..
- أمي
يتيه النداء ومن تحت السوباط يأتيني صوتها
- خدرت لك الزعتر
أرغمتني الجدة على شرب الزعتر المشوب بصفرة خفيفة وأمي تبسبس بدعاء هامس ...
عاد الوهن يخدر إطرافي ,ينمل جسدي , رفعت ساقي الأيمن واستقرت القدم في دائرة الضوء المرسومة على الجدار ,الشمس تلسع القدم, تخزّ الجلد بأصابع محناة ,العجز ترك ساقي ممدودة بدون ادنى رغبة لسحبها وتكويرها معقوفة، النار تتأجج في أصابع قدمي،أصابع متوهجة، دف الزعتر الباعث على الغثيان والتقيؤ برائحة نفاذة وغريبة ونترت ساقي كمن لدغ بعقرب حين تسلقت رائحة القدم يساريع ذهبية ،تابعت عيناي الشنابر المتوالدة والمنزوية خارج دائرة الضوء ورأيت اللون الذهبي يخبو ويخبو ويفقد هيبته منذ تلك اللحظة لان المعدن الثمين يلون الأسياد واليساريع التي تنتفخ وتتلون بلون براز الأطفال ،اللون البالي لكل الأشياء الشاحبة.لا تنزعجي من سرد ممل التفاصيل لاتسمن أو تغني وإنما هو سر للحياة التافهة والقذرة قبل شهر واحد من الاغتصاب الجماعي لان العربي لا ينتصب قضيبه إلا على عربي مثله ,عقلي هو ضحية ما جرى لأنه توقف عند نقطة الصفر ولا تزيده القراءة فيما بعد إلا تجسيد واتساع هوة الظلم وفلسفتها بإطلاق الرصاصات الثلاث أو الأربع لعقدين من السنين.
تعلمت أن الإنسانية ليست احاسيسا دينية أو اجتماعية فقط وإنما تصميما ضمن قانون بشري معد سلفا .
وان الإنسان لا يثور ضد السلطة بالصدفة وإنما تراكم واختمار ثورة في الأعماق وتصبح حربا طويلة الأمد داخل الذات . لا لن يعود الزعيم من غيبته وإنما جرفته مياه دجلة لكن أبي قبل وفاته بنصف ساعة تأمل صورة الزعيم المنقوشة على سجادة صوف معلقة على الجدار ،آلاف المجانين تركهم الزعيم ورحل إلى الغموض ويعود السؤال لجوجا على لسان أبي :وهل حقا رحل ؟..طيب أين قبره إذا رموه القتله في الماء فهو في هذا الماء الذي اشربه..إني أتحسس أنفاسه الدافئة واشم رائحته وارى ضحكته الواسعة انه حي مادامت ساعة اليد التي أهداها لقداحي سرية سارية الجبل تتكتك , السارية ترفرف فوق بعقوبة وثمة جنود قدامى يقفون بصمت.....الجنود في حالة ترمل بعد أن توفى زوج الوطن .
الآن رأيت..اليساريع لا تنساب بالحركة الافعوانية بل بانتفاخ يثقل الرأس ويسري في البطن ويتكور في الذيل ومن ثم يدفع اليسروع جسده بهمة ونشاط مثل كل طفيلي في هذا العالم .
الظلام..تكورت في جوف الظلام حيث وقفت الجدة بجسدها الضخم في الباب وقالت أن اللجوء إلى بلد عربي ليس خلاصا من اضطهاد إسرائيل وإنما هو حجر تراكمي وقسري.. ثم فكرت أن الجدة لا تتحدث بهذه اللغة وإنما أتخيل ذلك ...
أتخيل أن اللاجئ كائن يشرب الحليب ويطيع أسياد المخيم ... ومازلت اجهل إسرار نصب خيم خارج أسوار الزبير في الصحراء قرب الغجر..الفرز العربي الإنساني الدوني الذي لا يتمكن فيه اللاجئ أن يعمل مع أبناء البصرة ولا يمنح جنسية مواطن ولو من الدرجة الثانية وبدون حماية أمنية وإنما هناك مدير قواد يتحدث دائما مع وكلاء الإغاثة الدولية وعلى استعداد أن يبيع الفتيات بأبخس الأسعار ويغمض عينيه عن تسرب اللاجئات وتناقص أعدادهن والحسنة الوحيدة التي قام بها مدير المخيم هي إقناع شذاذ الزبير أن الغلمان يحملون أمراضا جنسية ...
الجميع يعيش في دائرة العماء النفسي التي هي دائرتي المهشمة حين يقنع الإنسان نفسه ويخدعها بأنه تعب من الثورة وألان من حقه أن يستريح.
الحق كله معك يا جدة حين جعلت يديك آلات لتدوير القمامة..وعتمت الصريفة حين أغلقت الجدة الباب بجسدها المترهل وفوجئت بأبي يجبرني على الوقوف وحين تعثرت بمشيتي حملتني الأم بين ذراعيها ,أمي شديدة السمرة والنحول تتشبث بقزان اللبن الذي حطّ على رأسها مثل بجعة 0
قال أخي الأوسط الذي استشهد في ارض غريبة وفقدت جثته...أمي تقول أن أخيك طاهر لا يموت هكذا .. أنا اعرفه جيدا ..انه حي وسيأتي قريبا:- حكايتك مبنية على غفوة العقل..حلم يقظة لا يمكن الخروج منه ,التعالق بمحاولات بائسة ..إسقاط نفسي على تأريخ غير معروف ,هكذا قال أخي ..الفيل هو الكائن الوحيد القادر على الطيران لأنه الأقل وزنا في العراق , أجبته : تقصد على رقعة الشطرنج ..أجابني : لا يوجد فرق لان الشطرنج حياة مصغرة وغير معقدة ..تقول الوثيقة المسمارية على جدران صندوق أمي : الفيل هو الكائن الوحيد الذي قرر أن يطير لينتحر يائسا تحت أقدام الملك الأبيض..كل الكائنات في العراق تنبت لها أجنحة بل الجميع لهم وزن بعوضة لان السلطة ثقيلة مثل صخرة 0
في ذلك الفراغ الهائل اتخذت شكل منحوتة جامدة على حمار ابيض ساكن بأدب وفاجئتني الأخوات المصبوغات بالدماء من جراء بحثهن عن قطع الزجاج والقناني في باطن المستنقع وفي تلك اللحظة قال الأخ الذي يكبرني بسنتين والذي يصغر من الأكبر بسنتين عن لذة توظيفه كلمة لازورد في قصيدة كتبها تحت تأثير شاعر كردي ليرى الكلمة التي تلذذ بها كيف اتخذت وجها وتسيدت النص مع العلم أن الساكنين في الفراغ لا يقدسون إلا البياض والوجوه النورانية ....
مشى آخي طاهر خلف الحمار ثم تسمر على الأرض يطالع بفضول الإطارات التي صفت بعناية ,ثمة بالات رتبت بمكعبات من أكياس الاسمنت الفارغة , أوراق وكارتونات ممزقة،أخشاب ،أواني مدعوكة من الألمنيوم ، خبر مجفف ومخضر، كومة متفسخة من فضلات المطاعم تنبش فيها الدجاجات والعصافير على مهل ,وعلى مبعدة رأيت سهام تشيعني بنظرة ملتاعة، لكزت الجدة حمار سباهي الصامت وربت على الأرض بقوائم قصيرة ونحيفة فيما جمدت كائنات القمامة بنظرات متسربة وثمة أيد تشير إلى هيكلي المثبت بمسامير على ظهر الحمار.النتانة تملا الفراغ وسحابات غبار مصغرة وتارة مسودة تقتحم كوة الشمس المزرقة مثل مصابيح نيون بعيدة...على المرتفعات في كل الأصقاع مازالت طيور الحوم جاثمة ،صمت غريب ومريب ،في البعيد يهرول كلب بتكاسل وذيله بين الفخذين فيما ينظر كلبنا الأسود العجوز نظرة لا مبالية ..كلبنا الأسود مرافق ثقيل أينما ذهبت.
في الأعالي يطارد الطير الأخضر فراشة ويور كاشفا عن نفسه ومعلنا بأنه وروار قديم،حلق الطائر فوق راسي وتفحصني صامتا وحين تعلقت عيناني ببطنه الناصع الخضرة نحر الهواء مبتعدا ليطارد جرادة زرقاء ...
هبة الريح جعلتني اشعر بالوحدة والغربة، لحظتئذ أنشدت الأنشودة التي علقت بلساني آنه هولندي..طوبى يسابقني ويطر من فوقي أنشودة أتذكرها مهما تغيرت الكلمات لكن لها لحن ثابت في الأعماق.
سأرحل من هنا، لابد أن ارحل من هنا ،العدو قادم أليّ ...لم يكن هذا صوت الجدة إنما صوتي بعد عشرين عاما وأنا اسمع موتور سيارة لاندكروز يتوقف عن الدوران فيما تشبثت عيناي بجرذ اسود يخربش في الجدار ...
أمتي ..أمتي..تتزحلق على سلم بلا درجات مثل سلم سوباطنا القديم وعندما قالت لي الجدة إن شاء الله يشفيك السيد ..قلت لها في النص الذي اكتبه الآن.
أنا لا أغلق عيني وأموت مثل الحيوانات بسرعة هناك الكثير من الأشياء التي تنتظرني وان اكتشفها قبل أن أموت ،أنا احدد ساعة موتي هناك الكثير..أنا لا أموت قبل أن اعرف كل شيء ...
أنا العارف...
قبل أن يتوفى أبي بيوم واحد صرخ بوجهي: لا تضرب بالعصا قرب رأس أمك..
استدار بكامل جسده للحائط حين نزل عبد الكريم قاسم من السجادة المتهرئة فارجا عن ابتسامة عريضة وقال لي بأدب جم :.الصوت يفرقع...
أجبت الزعيم صارخا :
يجب أن ابعث فيها الحياة بعد أن سلبت السلطة كل شيء....ما زلت أضرب الأرض والتراب يتطاير وأمي محبوسة بخلخالها للأرض... يجب أن ابعث الحياة ثانية ولو أنها حية لكنها فقدت الذاكرة ..قطرة ..قطرة.. بعد أن قتل وسجن كل أبنائها في الحروب .. أنا اعني ابعثها في النص ..أنت وهي .. أنا مجرد شريك خفي, الجوزي الباهت اللون.. المعطف الذي دثرته به بعد وفاته ونقلت جثمانه للنجف ولم أتمكن من استرجاع معطفي الرائع من متسول إلا بالقوة .
فيما نعت أمي بصوت باكي يشبه صوت وحيدة خليل لم تكن الكلمات مفهومة وإنما اللحن فقط وعرفت إنها تناجي وترثي الحائط جاسم .
وحدثني أبي قبل نصف ساعة من موته عن عظمة الزعيم والقداحين وهم يطلقون النار على الجيش الإسرائيلي ولم تكن الطائرات المغيرة إلا حشرات سود مثل ذباب هائل الحجم ...
حدثني أبي عن صديقه صينخ شيخ عشيرة الحمادنة في كرمة علي الذي مشى للخلف بعد أن صعق باغتيال الزعيم ..لكن الزعيم لم يغتاله احد ..هذا الزعيم العظيم لا يمكن أن يغتاله احد لكن صينخ لم يقتنع وظل يمشي للخلف...
أنا اعتقد إن الأحداث التي بدأت مع أول أغنية بثها مذياع بغداد لوحيدة خليل ....
قالت لي الجدة سيشفيك السيد إن شاء الله.
رأيت الحبيبة جامدة في وقفتها والرمال أكثر والحفر الرملية ، حفر الكلاب أكثر حمرة والمستنقع بات مكتبة الأسرار
سمعت الأم تطمئن نفسها
- إن شاء الله يشفيك مولانا أبو سيد احمد .. يده مرهم
وقالت الجدة :
- سأنذر للسيد صبري ديكا ابيض
واستدركت لاهثة:
- بعنا الفافون..الله يلعن أصحاب المزارع يريدون الإطارات ليصنعوا منها زبلا لجلب الطماطة..ضحكوا علينا..عيونهم تتابع النساء والغلمان
والتفت ألي:
- لم يشتروا الإطارات يا ولدي
صمتت برهة وأضافت:
- في الصباح جاءنا هذا المخنث ومعه أبو سمر ومحمد الاصمخ وابتاعوا الصفر أما هذا الشاب الجميل الشديد التأدب ولو انه اعور واسمه صالح اشترى الإطارات بسعر بخس..... التجار يا ولدي يريدون الزجاج .. قناني الخمر والبيبسي. أنا لم أر في حياتي إنسانا واحدا يفتح طيات مطاط العجلة بيديه..
وكمن تكلم نفسها:
- مثلما تقول أمك الحاجة:أملنا في المجامر..إن شاء الله نبيع الخفت بدينارين..صرنا مثل موقدي النار المجوس..هل حقا يريد أصحاب المزارع هذا الرماد سمادا أم أن عيونهم تتفحص أولادنا ؟ أنا اكره البدو والزبارى والأعراب كلهم صاروا تجارا فوق رؤوسنا أو على يجب أن نهرب للكويت ولكن يا ولدي نحن نخاف المهربين لأنهم أنفسهم أصحاب المزارع..لا نعرف ما يفعلونه بنا في الصحراء..إنهم لا يكلوا من التغرير بالأطفال..ألا تراهم يحيطون بنا كالغربان بدشاديشهم وعقلهم السود المطرزة بخيوط الذهب، هم مثل البطريق حين يلبسون عباءة الصوف السوداء وكوفياتهم البيض أي والله بطاريق ..
(يا زوجتي الرائعة هذا هو السر الذي جعلني مهربا للمناضلين وعوائلهم إلى كردستان خوفا من تحقير الإنسان واغتصاب أطفاله)
واستفزت أمي صارخة ...
- مولانا ..مولانا
همست لنفسي :
الذبابة اشرف منهم ..الذبابة على رأسها تاج من ذهب , استقبلتنا كلاب المقبرة السمينة والأليفة وتحاشى الكلب الأسود النظرات الشرسة لذكور الكلاب وزمجرتها حين وضع ذيله بين الفخذين ،وكان السيد واقفا بباب مقبرة ولده الصغير الذي طاف عليه في المنام وقال له يا أبت ادفن بجانبي الأطفال الفقراء والكبار المشردين فيما اعدم النظام أخويه في بداية الثمانينيات ..
استفهم السيد أمي التي يعرفها بين ألف من النساء وتفحصني بوجه وقور دون أن يلمس بطني الحامل بجنين ما .. انتفاخ كاذب .. نظر بوجهي وكأنه لم يسمع بإنسان يحبل فجأة .
وتسمرت عيناي على حزامه الملفوف من قماش اخضر
اسمعه يقول للأم :
- لله في خلقه شؤون..لولدك هيكل أشباح
ورفع وجهه للسماء ونادى بصوت واضح النبرات والمخارج.
- لك القدرة يا قادر
وناول الجدة قماشا اخضر وحين هم بالانصراف
تعلقت الجدة بأذيال جبته الرمادية اللون فما كان من السيد إلا أن ينظر بوجهي ثانية.
- هل بصق بحلقك سيدكم الذي لا اعرف من أين جاء بالخرز..هل هو سيد وابن رسول الله ؟ ثم بصق على الأرض.. بعيدا عن القبور ،وهي المرة الأولى والأخيرة
أرى السيد يبصق على أرضنا الأم الرؤوم لكن البصقة كاللعنة أطارت بها الريح وبللت وجهي ورأيته يسرع بين القبور ..
اسمعه يقول
- ما هؤلاء القوم يا ربي .في الصباح جاءتني امرأة بمولود له شفة أرنب وعلى وجهه زبالة ،توقف سيد صبري بين ولديه ومعهما عبد الرزاق وهيب الذي كان زميل دراسة وقد أعدمها النظام فيما بعد ،تقدم الحاج مناتي بمسحاة مفلطحة ثم سمعنا السيد يقول يا من يعطي من سأله حننا منه ورحمة ..خذوه للمستوصف الكرفان فيها طبيب أجنبي ...
وحين حرك حمار سباهي رأسه وإذنيه طاردا الذباب رأيت الجميع يفرون هاربين لأعماق المقبرة قرب الضريح مستقبلين تابوت يحمله عدة رجال ..
نظرت الجدة في وجهي بعينين دامعتين ولفت بطني بقماش اخضر اسمعها تهمس..انه قماش المار جرجيس وتداركت أمي الحزام وشدته بيديها لاعتقادها أن المسيحي نجس وسيفسد مكرمة آل البيت .
أمي لا تتوانى أن تعض كسرة خبز لقمتها الجدة قبلها لكنها في مسائل الدين ترسم خطا احمر .
أمي الرائعة العظيمة التي عاشت مع صابئة الريف في ناحية المدينة قبلت سمير جردي الذي غير اسم أبيه إلى عزيز لتحطم كل الحواجز والموروثات وتصنع لي أصدقاء حميمين من الصابئة حتى هذه اللحظة أمي المتمسكة بالدين لم تستوعب ماهية الطوائف أبدا ثم نادى السيد بصوت غليظ وبيده ثمرة صفراء حسبتها برتقالة رماها عبر السياج إلى الأم قائلا دعيه يمتص بطرف لسانه مضغة من هذا الحنظل .. مضغة .. فإذا حرارته قاتلة ...
ثقبت الجدة الحنظلة الصفراء بحصاة ناتئة وعصرتها بأصابعها كالليمونة ..
لا يوجد إنسان يتحمل حرارة الحنظل لكني امتصصته بين شفتي واقتحمتني مرارة فظيعة وأصبح جسدي كله مر المذاق وتقيأت من الأعماق مرتجفا ..مهتزا.. وكأني اقتلعت الروح من الجذور وكان للقيء هذه المرة رائحة البراز في الأعالي صار ألق الشمس معدنيا والريح عالية تكنس الدنيا من دوامات طيور البوم ، تنزل الريح من أعلى مثقلة بالتراب وتقشش الأرض لتمنح القبور غموضا وغربة..فيما تبرز القصور المتراكمة كأشباح الموت بأشكال إسمنتية وكانت ساقي ممدودتين وفي نيتي أن انزل عن ظهر الحمار لكنه هرول مطرقا وخلفي يرفرف علما اخضر .
تلهمني ريح السموم .. تخزني بأشواك في الساقين والصدر ..في خصيتي آخذت الأشواك تنقر وتنقر وأنا تحت جاثوم سماوي أتساءل عمن يخزني بخصيتي الخصب ،واكتشفت بعد فوات الأوان أن الرمال الناعمة تبرى كألأبر المسمومة ,الرمال الناعمة مثل مياه منسابة لا تمزق إلا صخور التلال والجبال وعورتي حسرت عنها الأسماك وبذلك العلم الأخضر المرفرف خلفي سترت العورة الجلمود ولم يهرول احد خلفي واسمع توسلات الأم والجدة كي لا أخرجهما من النصوص التي كتبتها والتي جاوزت إحدى عشر رواية ، نسيتهما في باب المقبرة في محاولة لدفنها وان لا ابعثهما للحياة في أي نص قادم .
اصطدمت نظراتي بالمبنى الأبيض للمستوصف و عزيف الريح تركت الحمار في الخارج يستفهم المارة عن ملابسي الغريبة، المستوصف فارغا إلا من كائنات مكفنة بالبياض تتحرك هنا وهناك بآلية ،اصطدمت بشبح يجلس خلف منضدة وبادرته كالممسوس :
- أريد التخلص من مرارة فمي والبراز .. البراز في فمي
ذهل الشبح الأبيض وغاب مهرولا إلى غرفة جانبية وفوجئت كاللعنة أطارت بها الريح وبللت وجهي ورأيته يستريح بيت القبور ..
اسمعه يقول يا ربي قي الصباح جاءتني امرأة بمولود له شفة أرنب وعلى وجهه زبالة ،توقف سيد صبري بين ولديه ومعهما عبد الرزاق وهيب الذي كان زميل دراسة وقد أعدمهما النظام فيما بعد ، تقدم الحاج مناتي
كفن أخر يقف أزائي بوجه مسلوخ ويتمعن مليا بوجهي ..الحزام الأخضر والخضرمة التي امتصت نظراته .
أنا الأخر تحديته بنظرة لا تحيد ثم رأيته يلبس كفا ابيض ولا اعرف أية قوة قلبتني على بطني ومن الخلف احدهم يبعصني بفضاضة .. أردت أن احتج لكن المسلوخ أعاد الكرّة حين حشر أصبعه الضخم في مخرجي ثم ادخل تحاميل زيتية لزجة .
جلست محتجا ومحاولا أن افهم وأدركت من المستحيل أن افهم شيئا ،أما الكفن الأخر ثقب ذراعي الأيسر وادخل فيه أنبوبا يمتص قطرات الماء من كيس معلق ورأيت المسلوخ يمسك أنبوبا معدنيا وتساءلت ..هل من المعقول يريد إدخاله في مخرجي .
وفي لحظة خارج الزمان شعرت بالذلة ،هذا الطبيب الأجنبي بإمكانه أن يفعل أي شيء معي لأنه يعتبرني حثالة ..قُمّة ،لا يمكنني التحدي .. انسحب.. أتنصل أو أقاوم ،أنا مجرد جرثومة مضادة وإلا كيف تمكنت من العيش حتى الآن ..
الكلب الأسود وحده اقتحم الأشباح واحدث زوبعة من الخوف في الغترات البياض وطرد هو الآخر ذليلا ...الطبيب الثاني جعل حياتي معلقة بأنبوب ،الآن يشير إلى رأسي وبيده أنبوب نحيف ...يريد غسل دماغي بثقب صغير ويجعلني أفكر وأتألم عن طريق أنبوبة .. يبدو انه عربي .
يضخ الشباك رائحة موتى ويهوم الذباب الأزرق على وجوه النسوة المقرفصات على البلاط ،يلتصق بالمضادات المنقوعة بالصديد ،ينقحها القيح الأصفر الذي يكسو الأجساد المحترقة للمصريين في محطة وقود ساحة سعد ، استجمع قواي ..ألوي رقبتي وأباغت –في كل مرة- بنظرات الكلب الأسود تفترس ،على مبعدة، أسفل حاوية القمامة بتحد حيواني خان فيه الكلب ذلك الاتفاق السري بين الإنسان والكائنات منذ فجر الخليقة ،تتشنج نظراتي على بوز الكلب المدمي حين ينهش أحشاء بطن مبقورة لرئيس عرفاء تهتز جثته بانتظام وتساوق كلما يخفي الكلب بوزه تحت الأضلاع .
مازالت تلك النظرة الأخيرة غير مفهومة تلون العينين المبيضتين لرئيس العرفاء ، أنا الآخر أتحدى الكلب بنظرة حيوان جريح خالية من شعور إنسان ..الإنسان في أواخر شهر شباط مجرد كائن يمشي على قدمين ، الكلب يدرك ذلك ..بالتأكيد ..ألوي رقبتي واعتصر الألم وارى الكلب يعتلي الصلعة البيضاء وينبح ثم يعوى كالذئاب ..شجرة التوت الخضرة تفر الطيور من أحشائها ،تطوف عيناي على الوجوه البائسة للنسوة المقرفصات على بلاط لزج من دماء وصديد ..تحتضنان أذناي ثرثرة تنبعث .. بل تمجها أسرة ردهة الباطنية ..صرخات الم مبتورة من النصف ..صرخات أخرى تتحشرج وتختنق قبل أن تخرج للعالم من أفواه مفغورة لجنود غرباء قطعت سيقانهم وتلونت بصدأ الغرغرينيا ، الجنود الغرباء ما ينفكوا يحكون أورامهم بكل معدن صلب حتى لو كان إنسانا ويشربون الماء المج بشراهة ،لا تعني ملفاتهم الصفر للرجال المدنيين الملثمين الذين وينبشون في الأوراق على مصطبة ملصقة بالأسرّة البيض المصفرة والمحمرة من القبح .
تتوقف نظراتي على وجه إنسان قميء يقف قبالتي ،تنحدر عيناي بسر خفي لمصري متفحم ومختف تحت كلّة من بطانية قذرة ..لم أره ولم اسمع صوته أبدا ، حشرجتي تبتر وتخرج للعام بصوت يستغيث ،لا احد يسمع حتى لو قرعت الدفوف في أذنيه.. الكون كله ،من يسمعنا من ؟..اكتشفت إن يدي مقيدتان بخيوط من أنابيب المغذي إلى أعمدة السرير ،هناك أنابيب , أخرى تكبلني ..ذلك الأنبوب الذي يخترق المريء ويضخ إفرازات ملونة في كيس تحت السرير ،أنبوب آخر يخرج من البطن وآخر يضخ قطرات الماء في كل مرة أحاول فيها الانقلاب على الجنب ، ويشل قضيبي بكيس اللايلون .
أخي الأكبر يلقي بثقله على ذراعي وبإحدى ساقيه يحاول تثبيت ساقي اليمنى أما الأخ الأوسط الذي عاد من الأسر بدون قوة عضلية وشعرية (هل ينسى الإنسان قواه العضلية والنفسية والفنية في مكان ما ؟)يتعلق بالساق اليسرى ..ينشال وينحط مع الساق ،ثمة من يقطع أمعائي بمنشار ،إنها الاطلاقة اليتيمة التي احترقت أمعائي في الانتفاضة .
يلثغ الدكتور هاشم الخياط ..احمد الله ..أنا والممرضة شذى خَيّطنا أمعائك على ضوء شمعة ..لا اعرف كيف عشت وتتنفس الآن (أردت أن أقول له أنا لا أموت لأني أعيش على خط الصفر بين الموت والحياة ) وقال :قد تكون رعاية الله الخفية .
مازال الرجل القميء يغدو ويروح يتفحص أوراقي ،ذلك الملف الأصفر ،كرر الطبيب القول : مجرد انسداد في الأمعاء وأجريت له تداخلا جراحيا ..لكن الرجل هز رأسه كمن قبض على الطبيب بجناية مخلة .. شزر الطبيب بعينيه المحمرتين ،تحداه الطبيب قائلا بقامة عملاقة ونظرة ثابتة لا تحيد لكن الملثم زعق بصوت وكأن عدة أصوات محت حروفها تتحركان بلثغة غير مفهومة اسمع الملثم يقول :احترم نفسك دكتور وإلا جعلتك مثل طبيب ردهة الصدرية وأردف بصوت بارد ويائس :الكلاب تأكل في بطنك ، رأيت الطبيب يدور ويحوم حول نفسه كالمخبول .أغور في ممر سري من اللامبالاة،الشباك المفتوح تقفز منه القطط الهاربة من الكلاب ..حشرات غريبة الأشكال والحجوم قبل التلاقح والإخصاب ..شجرة توت عملاقة احمرت ثمارها ..زقزقة عصافير ،ثم وجدت نفسي أحدق ببوز الكلب المدمي والصلعة البيضاء المؤطرة بشرايين زرق ،حشرجة غريبة انبثقت من فم مفغور ،ثغو خراف قبل الذبح ..كان ذلك صوتي ،أخي الأكبر يقف بعلامة استفهام مقلوبة كي لا يسقط عقاله أما الأوسط فاستقر لاهثا فوق ساقي اليمنى ،وبغتة معطني الرجل المدني من قدمي ،ألم بغيض في الأمعاء والتفت دشداشتي اللينة من الدماء تحت ظهري وخرجت عورتي للنساء ،الرجل يسحبني للخارج وأخوتي يسحبونني للداخل ..ارتفعت على السرير بعلو ذراع،العورة المثيرة للشفقة ظاهرة لكل النساء المقرفصات بيأس على بلاط لزج من دماء وصديد وحزن اكبر من كل العورات ،نخرجك من هنا ..قد تصاب بالطاعون أو الكوليرا ..يتحرك السرير والأخ الأكبر كيس البول المشدود إلى قضيبي ويركض خلفي فزعا أما الأوسط تلقى لطمة من أخمص بندقية على الساقين واليدين ..بدون حراك..رأيته يتمدد على البلاط منفرج الساقين واليدين ..بدون حراك ..من الخارج سيارة بيك آب ..في حوضها جثتين،إحدى الجثث تؤمني بيد خارجة عنها ،حين قذفوني في حوض السيارة انفجر كيس البول كالفقاعة وبلل وجه أخي ..(وجه أخي جلدة قشطت بعناية من ظهره ورتقت الوجه المحترق في الحرب العراقية الإيرانية) السيارة تسرع وأخي يركض خلفها كالمجنون . مازلت تحت البنج ولم افهم معنى الموت أو الأقل تحسسه ،الموت يعني لي هذا الألم المستشري في الأمعاء .. ينفث البنج رويدا ..رويدا... ألوي رقبتي وأحاول أن أرى الكون من خلف الجزمة المتصخرة فوق صدري . الجثة التي تتوسط حوض السيارة فاقدة الحياة أما الأخرى ثم يد ترسم لا ..جثث ممدودة في ساحة سعد بجزمات وأخرى جلدية وصوت إطلاق نار ،رأيت النار من الأحادية وتصرخ على رجل يقف على الأرض يهيئ لها الاعتدة ،الرجل المحتمي بالدبابة .اسمعه يصرخ حين يتوقف إطلاق النار ..قبيلة فلننسحب بسرعة ..لكن الفتاة قبيلة تطلق النار على الجيش من بندقية كلاشنكوف ..رأيت الرجل يسقط للأرض ورأيت قبيلة تقفز من فوق الدبابة وتهاجم الجيش بشكل انتحاري ..بضعة أمتار وتسقط الفتاة على الأرض،على مبعدة ثمة جندي من قوات الحرس الجمهوري صغير العمر يتوسل بامرأة أن تبتعد عن ولديها قبل تنفيذ حكم الإعدام ..يصرخ الجندي المتقلنس الرابض فوق الدبابة بعد أن نفذ صيره ويطلق النار من أحادية على الأم والوالدين ..الدبابات نفسها التي اختبأت في معمل الدواجن وبحماية الطائرات الأمريكية .
صوت النار المرعب جعل البنج ينفثأ تماما ..تحركت السيارة وفي لحظة سكون غامضة ،لحظة خارج الزمان ،سمعت صوت اللاسلكي يجأر بيد الذي أراح جزمته على الصدر ،أجاب الرجل بسرعة ..سيدي العقيد معنا رجل حسب المعلومات في قضاء الزبير –الدريهمية- وبالتعاون مع ضابط أمن المنطقة سيد ضياء على أن حاشوش هذا شيوعي..لا.. سيدي لهم علاقة ،وسمعت العقيد يسب ويشتم بلهجة موصلية :وهل يوجد شيوعي واحد في البصرة أو الكون كله حتى تأتيني بهذا الكلب ..اتركوه حالا ..أنا لا اعرف كيف عادت أجهزة اتصال اللاسلكي تعمل في البصرة وهل الأمريكيون سمعوا بها للحرس الجمهوري قرب الجامع ..توقفت البيك آب بزمجرة على الإسفلت واصدم يافوخ الرأس بمعدن صلب ،مسكني الرجل من قدمي ،امزج ساقي بكرة دفين ومزمن ..لم يعر عورتي اهتماما .. الشارع فارغ من كائنات تمشي على قدمين ،الهدير وحده في كل الشوارع ولم اشعر بألم في يافوخ الرأس ..الألم ينفجر كاللغم في الأحشاء ..ألم شبيه بذلك الذي ... بعد الاطلاقة التي سددها الجندي إلى بطني ولم اشعر بالوحدة والوحشة والإهمال بهذه الحدة من قبل ،حتى عورتي على ما يبدو لا تهمّ أحدا غيري لذا تركتها تتفرج على الشارع ..كيس المعدة وحده ابتعد عن جثتي على الإسفلت ..أطلاقات نار متفرقة ثم تنبثق النيران كالدوى ،كرعد يستمر في تفتيت أحشاء السماء ..وفي لحظة استدارة البك آب سحقت كيس إفرازات المعدة الذي انفجر بفرقعة أخافتني وجعلتني انقلب على البطن كالمفزوع ،تستدير السيارة وتبتعد ،الكيس المنفجر جعل جثتي العارية متعددة الألوان ، إفرازات بألوان ..هذه الحمراء والخضراء والصفراء ...
كنت عاريا وبلا لون محدد ,ثمة كلب سائب أخافه الانفجار فوضع ذيله بين الفخذين واختفى في حفرة قرب راْسي , بعض الكلاب مازالت (كلاب) وفي مخيلتي شجرة توت عملاقة تلعب الريح بذيول القطط الحمراء المتدلية بالثمار..والطيور ..وتكبر دائرة الدنيا ,في مخيلتي تكبر ..تسبح وتكبر الدائرة وثمة ابتسامة فاترة ..لا مبالية.. بلا لون ..متيبسة على الشفتين0
وفي لحظة خارج الزمان توقفت نظراتي على وجه وقور مؤطر بلحية بيضاء تعلوه مسحاة غليظة , تفحصني العجوز ثم تحولت نظراته ببطء إلى الجهة اليسرى وتحركت بؤبؤا عيني إلى المكان الذي توقفت فيه نظراته ورأيت جثتين مرميتين بإهمال وعلى مبعدة رأيت الفتاة قبيلة برأسها المشدود بعصابة سوداء تتشبث بجبهتها وجسد مسلوخ بلون اللحم الأحمر من سحل بسيارة لم أع متى جاءت بها .. توقفت عينا الرجل على السطح المائج بالأسماك في باطن القناة ثم سارع لتسوية الحفرة التي هرب الكلب من باطنها مذعورا وذيله بين الفخذين .. سمعته يقول لا تخف .. سأنقلك من هنا .. الله اكبر على الظالم ..
رأيته يتحرك بساقين نحيلتين وبجهد يسحل الفتاة بعد أن غطى ساقيّها بكوفيته المرقطة ليترك رأسه محبوسا بالعقال الأسود ويدفنها في الحفرة المحاذية للشارع المقابل لبناية نفط الجنوب .. اسمعه يبسبس بدعاء أو أو آية قرآنية فيما تقوم الأسماك على سطح مياه النهر النتن الذي يفصل الشارع السريع عن بناية منشأة النفط ومن بعيد رأيت أخي الأكبر يهرول ومن خلفه الأوسط ويده على الرقبة ..
لا اعرف لماذا تذكرت في تلك اللحظة استشهاد وليدة جواد الحلفي على تل النبي شعيب جنوب الناصرية واحتضانها لبندقية الكلانشنكوف وإطلاقها النار على علي كيماوي..
ذات الفتاة وذات العدو ... أنا مندهش .. كيف بقيت على قيد الحياة وكيف عرج الحمار بجسدي المتعدد الأنابيب والإفرازات ..أنا المندهش لكل شيء يحدث بل تعلقت الدهشة على ملامحي ..دهشة اقرب للفزع دهشة الطفل حين يكتشف حقارة الإنسان لأول مرة.
ابصق على كل من أخرجني من الطفولة
الطفولة العظيمة المتمددة عبر الزمن.
وجوهنا تقول إننا ولدنا عجائز، حرمان وجوع ..
أنا ارفض الخروج من زوبعة التدشين.
تناولت كيس المغذي بيدي الأخرى وهربت للخارج لم تكن الأم والجدة في الخارج .. تناديت بأعلى صوتي.. أمي يا جدة..ولم يجبني إلا الصمت وعزيف الريح ،تحاملت على نفسي وشعرت أن حمار سباهي قوس ظهره للأسفل ليحملني للا مكان انعطف في أول شارع ،قصاصات صحف تسيرها الرياح معي وصور الفدائيين الفلسطينيين تتقافز فوق إسفلت الشوارع 0هرول الحمار في دروب رملية ووجدت بيوتا طينية مختنقة بالتراب، مرآب للشاحنات ،رأيت تجارا بكفافي بيض ..
تنازل الأغنياء عن كبريائهم ونحن تبرجزنا بالبوردة والعطور التي تتحفنا بها القمامة..على ما يبدو إننا لا نصلح إلا أن نكون كيسا لخزن حيامن الأغنياء..حين ينظرون لنا يدوخهم النكاح ..تأكدت أن العدالة لا يعرفها إلا أميا مثل أبي , على الرغم من السحنة والشكل والملبس واللهجة كلها حواجز بين دائرة الصفر ومداراتهم .
رأيت ثامر العساف على دراجة هوائية يدرج لقريتنا ليرسم حمامة ميتة علقها بمقود الدراجة وشاهدت عقيل سيد زيارة ينشد شعرا على تلة من المرمر وسألني سعد الخليوي ماسكا فرشاة ألوانه وعيناه على كيس المغذي ، كان يخاف الإمساك بأعنة الحمار، حمار سباهي الذي يهرب على ظهره بعد عشر سنوات في صحراء العبدلي ,رأيت الفنان شوان الكردي والشاعر حسن الحيدري (ابن الفقراء) يناقشان المسرحيين كفاح عبد السادة وعبد الستار عبد ثابت وفهد محسن وخالد علوان والبرختي جبار حسن طلال عن مسرحية الفيل يا والي البلاد لسعد الله ونوس0
حدثني أبو ضلع عن عظمة الطبقة العاملة فأعدمه النظام بعد عشر سنوات بقطع عضوه الذكري ليضعه إلى جنب عضو الشاعر علي الحاج حسين المتأثر بشاعرية المتنبي اللغوية إلى حدّ الهوس مما جعل شقيقه الأصغر إبراهيم فنانا متبحرا في رسم الأختام لهويات وجوازات الثوار الهاربين في الداخل والخارج قال إبراهيم : سنوصلك للمستشفى
... قلت له : أنا هربت من المستشفى ..المؤامرة ضد المثقفين
وضاع صوتي في عزيف الريح ..خرجت من كل الشوارع , تميد الأرض , تتحرك رمالها ، كل شيء يغذ السير للمجهول ولا يوقف المسيرة الهانلة إلا صوت ارتطام الصفائح ثم تختلط الأصوات ، وحدي صوتي يجاوبني صداه ، يريدون دفن المستنقع كي نخترق شوارعهم حين نذهب للتسوق والعمل ، من اجل أن لا ننعطف حول حاجز الطبيعة ورب السماوات وشعرت بميل شديد للتبرز .
وضعت كيس المغذي على رأسي وقعدت القرفصاء على حجرين متباعدين وانزلق البراز متحجرا وخلفه أفاع صغيرة عرفت فيما بعد بأنها سلابيح إسكارس ميتة ،أصبت بالرعب .. اقشعر بدني وأدركت على حين غرة .. إن الأفاعي في بطوننا وليس خارجنا ...وفي السنين القادمة ستصرخ السلطات بأجهزة المذياع - ورجال السلطة في المنطقة والمدرسة - إن الأفاعي ستأتي عبر الحدود ..الآن عرفت إنها في أمعائنا ..تحتشد على إحداثيات خط مرسوم كي تنساب بهدوء في الداخل ..الأفضل أن أحدثك عن ديكنا العربي الأحمر الذي يصيح ثلاثا وساقيه يخطان في الخراء ...
كل الذي اكتبه لكِ يكشف زيف الكبرياء الذي نلبسه قناعا ..زيف آلاف الحكم والأمثال لأن أبي يقول لا تخف من الذي تأكله بل من الذي يأكلك فقط .. هي أقنعة الاضطهاد التي تجعلنا ننتفخ ببطولات زائفة .. جنون العظمة...
كان إطلاقي الرصاصات الثلاث هو مجرد انتحار بكآبة انفجارية .مجرد إيقاظ للقوى الخفية وتحدي الرهاب ...
سهام وياسمين والاغتصاب بعضو عربي واحد وفي نفس الساعة التي أذن بها مؤذن غروب ليلة الجمعة للصلاة..
لن اخفي الجريمة ..سأبعثها لكِ في نص كي لا أصاب بعقدة المغتصب والمقصى إلى مركز الصفر ..ابعد نقطة في هذا الكون الأحدب قف .. الذاكرة معطوبة ..
حسنا ..سأتوقف واروي لكِ .
لا اعتقد أن مركز الصفر وهو مركز رقم ما وإنما الصفر مرحلة انتقال إلى الأرقام ،فوق وتحت ،ولأنه برزخ بين الأرقام لذا اعتقد إني في مركز المرحلة التي تشبه الدائرة .
اشعر إني المغتصب وليس سهام وياسمين ..
مقصى إلى ابعد نقطة ..
يحدثنا أبي كل يوم كيف تمكن جيش الزعيم في حركة حسن سريع أن يتصادق وينافق للموت في قطار الإعدام المشحون بالقار والبشر في تموز والمنحدر للجنوب .. ولم يحدثنا أبدا عن الحركة والثورة ضد القوماج .
وأنا سأحدثك عن الهروب والجوع في الانتفاضة وليس عن الانتفاضة نفسها ...يا ترى هل أنا مستنسخ من الآباء والأجداد ...
بعد أن اقتربت من الحقيقة رأيت الزوال يحل على أسطح المرئيات وعرفت إن العاصفة بعثها الرب لتزيلنا عن الوجود قبل أن تزيلنا شفلاتهم ونتلاشى في زوبعة التراب ومن بعيد ،مسافة صيحة طفل رأيت الأليفة سهامة تحثّ خرافها على الوصول لفتحة الخباء ، الخراف مذعورة ..لا تكاد تتقدم حتى تعود القهقرى وأدركت أني ميت لا محالة وكم تمنيتها قربي تحوم مثل طائر لكن التراب الأصفر أخفاها...أخفاني,
سمعت أذان العصر من عشرات المآذن وأدركت أنها الساعة الرابعة عصرا وحين التفت إلى المستنقع رأيته يتقيأ مياهه على الضفاف وثمة تلال من القمامة ، نقلت النار بطرف قصبة مرضوضة من المجامر الأزلية لنيران المجوس وأشعلت النار في إطارات صفّت بعناية ..هنيهة وتصاعدت ألسنة النار ، ينبوع كثيف من الدخان ينبعث من الأسفل ،يسف عن روائح خانقة ،ترتعش النار ..تشب ..تتطاول ثم تهوي للأرض وأنا اصنع فزاعات من اشياش حديد وأقمشة بالية وأحجار وصفائح وأدوات كهربائية أشدها بالخيوط وأشكل منها أنوفا وأفواها ..أفواه مفغورة ..
أعظم ما تكون النشوة ،نشوة الفنان الذي يجسد العالم الهش الذي تأكله النار ،عفوية الفن الرافض ،فن النفاية الوحيد الذي أطاح بالقوماج في بلدي .
تصفعني النار بخفقة جناح ..تلسعني وكالفراشات اكتوي والدخان يتصاعد اسود كالمردة ويرتمي على الأكواخ وثمة طقطقة مبعثرة لشيء ما يُسحق ويتهشم .. يتوالد الضوء ويطيش وكان ظلي يتطاول ، يكبر مع انفجارات ذخيرة أكسدتها القمامة ،الآن ،أدركت أن روحي كانت طلقة أكسدتها الرطوبة وان النيران فجرتها ،انفجرت الروح وجسدي اسود بالسماخ ،هي ذات اللحظة التي اندلعت الانتفاضة فيها في الدقائق الخمس الأولى حين قتل سباهي وأخفيت جثته خلف العربة المحترقة بطحين العلف الممزوج بالدم المجفف ومسحوق العظام المطحونة ثم هروب الحمار بالعربة المشتعلة بلسان من دخان اسود وانكشافي للعدو كأنني عاريا بلا ملابس وهجوم شباب الدرهيمية والحي العسكري على المدرعة التي لاذت بالفرار ...لم تكن هناك دبابة واحدة في معمل الدواجن . وإنما اختفت دبابات الحرس الجمهوري تحت سقيفة الجينكو بحراسة الطائرات الأمريكية فيما بعد ..
في الظهيرة اجتمع أكثر من ألف شاب مسلح بقيادة رجل أشيب اللحية وعلى رأسه كوفيه سوداء وهاجمنا الفرقة الحزبية المحاذية لإعدادية الزبير ولم يكن في البناية التي احرق ملفاتها حزب البعث أية مقاومة فانشغل الجميع بالبحث عن الملفات التي وضعتها الديكتاتورية عنهم ..
والبعض يبحث في السراديب عن المفقودين والسجناء ..
عصر ذلك اليوم أمطرت السماء مطرا اسود , وهتف أشيب اللحية شعارات طائفية وجعل الدين مجرد تنهدات مظلوم سجين لا يدافع عن مظلوميته وإنما عن اله ملك عرشه السماوات والأرض ..ابتعدت لكن عيني على الانتفاضة وبعد شهرين هربت مع الهاربين وأصبت باطلاقة طائشة ..أنا حتى هذه اللحظة لا أدرك كيف تطول شعرات لحيتي بسرعة ويتشعث رأسي واختنق كسجين ..
يطبل القلب على معدة فارغة وتنفسي نصف تنفس لأني مازلت سجينا انزلق في يوم رطب وحار على فزاعات الأجساد المنضغطة على الجدران دون أن تعي ..
ثمة عصا بيد رجل ملثم تهوي على رأسي ،لم أكن اعرف أن ظلي تطاول حتى عنان السماء متحديا تنانين النفط ..
الساعة الرابعة في زمن آخر أطلق جنديا أطلاقة تائهة وتمزقت نصف الأمعاء النحيفة .....
الكل مخنوق بيد خرافية امتدت من بطون التاريخ , يد تخنق البلعوم ..
التاريخ الذي يخنقنا نريد أن نبعثه من جديد لأننا مكبلين بقيود غير مرئية , نحن عرب الجنوب 0
ربما كنت احلم .. توقف .. خيالك معطوب ,خيال المثقفين الذين لا يجيدون الحديث إلا عن مستقبل مجهول بعد اكتشاف الناس أن الجامعات لا تخرج إلا الأميين 0
من المحتمل إصابتي بالكآبة لأني احلم باستمرار, حلم يقظة طويل ,معطوب الذاكرة ...العالم المعطوب والبالي لم تكن فيه ألوان الأحجار الكريمة,الأحجار هي الأساس الأول لكل شيء ,اللبنة الأولى لصفاء الألوان مثلما يقول السيد...
لون الماء ازرق مخضر مثل حجر التركواز ,أدركت الآن سرّ قصيدة أخي طاهر عن هذا اللون المفقود , هو يقول عنه بأنه لون الضمير الذي ظل يطارده عبر مئات القصائد في الأسر أو في السجن أو قبل اغتياله بربع ساعة , الأخ الذي خنقه اللون الأسود بدون تحدٍ...
لهذا السبب يغتسل أبي بماء له لون التركواز ويردد على مسامع أخي (قلب المؤن عرش الرحمان ,فاذا سويته ونفخت فيه من روحي)لا توجع قلبك لأن الإنسان كله وجدان , أبي لم يقرأ سورة الفاتحة بصوت عال حين زوج الأخت الصغرى لياسمين إلى الرجل الكويتي لأنه ظل ينافق للرجل المسيحي بأن أم الكتاب فيها مس خفي ومبيت للمسيحيين وان العجوز الفلسطيني واللاجئين ضيوف عنده وان الله لا يقبل بذلك, أبي دجال وكذاب كبير حين قرأ سورة الكوثر بدلا عنها , لعلها اغتصبت لهذا السبب أو أن الكاولية غنت في ليلة الحنة الوحيدة والمتفردة في هذا الشهر المشؤوم ..اجلدني بالسوط .. اجلدني ..ولكن لا تسجنني ليلة واحدة ...
حيث انشد المذياع :
طوبي يسابقني ويطر من فوقي ... بصوت يخيف الأطفال ليزيل الوحشة بعد ذلك غنى المطرب فاضل عواد أغنية لا خبر ..لا ..جفية ..لا ..حامض حلو ..حامض حلو ..ياللومي ياللومي ..
لأني أتذكر مذاق الحموضة تنبعج شفتي للخارج الآن...
في الأزمة.. لا توجد منطقة حياد ..السجن أو المحاباة
حتى في العبودية للنظام , حين يدخل الإنسان ضمن القطيع المدجن , حين يصبح الإنسان مجرد حيوان ,في قلب الذئب بقايا إنسان ,لكن إنسان النظام ذئب كامل , طاهر حبيب هو المجرم على الرغم من هروبه المتكرر ,أقبح إنسان من يرضخ لنظام بالقوة ويتفنن في عبوديته وعندما يهرب ينمو الإنسان الذي فيه ,ينمو مع كل مكان جديد ,يتحول إلى قديس أو مناضل والقديس إلى حثالة ,لا يبقى الإنسان كما هو في كل انتقال في المكان...
تجري مياه نهر العرايض بيضاء تلبط بأسماك الشلج بين ساترين ترابيين تخدشهما الملاجئ على خط التسعين وتنخرهما سراديب لكن مرصدي 5-3 يخترق الساتر بلسان يمتد في النهر ,النهر الملغوم والمسور بأسلاك شائكة صدئة , بالصدفة عثرت على هيكلي المغطى بجلدة مطاطية يقف ذاهلا لحراسة الجثث الإحدى عشر للإيرانيين ,حلقي يتيبس كلما أرى الدهن البشري يتقاطر بطيئا من ثقوب أكياس اللايلون ,في كل كيس ينمو جثمان صغير ينطوي على نفسه بكآبة لا تحدها سواتر أو جبال مثل كل الموتى في ارض غريبة ,أمد يدي في الفراغ ,أحركهما بعصبية لعدم تمكني من فهم عدم الاستمرار بالحياة ,اشتم الأحياء ,اسبّ ضباط الحرب ,بعد انتهاء الحرب التي مثلما بدأت وبعد نزول ثلثي الجيش بأجازة ولم يبق إلا الثلث المعاقب أو الذي على ذمة الاستخبارات لذا كنت وحيدا في المرصد في منصف الشهر الثامن ولم أع إني السجين اسجن ثانية في الخط الأمامي وحارسا للقتلى الإيرانيين في مرصد 5-2 بعد أن جاءت بجثامينهم الأمم المتحدة بانتظار تبادل الموتى ولم يكن هناك تبادل للأحياء ,شعوب لم تقدس إلا الموتى وتجهد بصنع رموز بين الأحياء ,هذه الجثث وضعت هنا قبل أربعة أيام أو خمسة وكنت مهووسا بتدوين كل ما يطرأ عليها من تغيير أو زيارة الحشرات والخنافس السريعة الحركة , وأجهد بمطاردة خنفساء متصلبة القفا مثل حصاة لشعوري الغريب بأن كل كائن ميت هو كائن مغدور به من قبل الأحياء ,لا توجد كلمة شهيد في قاموسي ,وحين رأيت اليساريع في اليوم الثاني تخرج من الأنوف وتارة من الأفواه المغدورة أو الثقوب التي على تركتها أطلاقات نار , اليساريع تخب وتختفي تحت هاجرة الصيف... أصبت بمس من الجنون حين طاردتني رائحة الموتى العطنة أو.. لا احد يستوعب هذه الأوصاف ...لا أجد الكلمة المعبرة عن تلك الرائحة القاتلة ,رائحتي أنا الإنسان , حينها انتابني هاجس خفي بأني أقف على نقطة الصفر في إحداثيات الفراغ ,لا استطيع الوقوف في مكان واحد لثوان معدودة ,الرائحة تطاردني وأنا مسور بدائرة من الألغام والأسلاك الشائكة , في ذلك اليوم الرطب والذي توقفت فيه الأرض عن التنفس 0
في تلك اللحظة , اللحظة التي خارج إحداثيات الزمكان اخترقني الهاجس الخفي بالبحث عن الوثيقة السرية التي لم أتمكن من فك طلاسمها , هذه الورقة الممتدة كشريص طولي والمطوية اربع طيات منتظمة ومساوية لحجم أوراق الكتاب الضخم الذي اشتريته من ساحة سيدنا الزبير والذي أعدت قراءته حين وجدت توقيع غريب متصاعد في شخبطات قلم الحبر لينتهي بذيل نكوص مثل ذيل العقرب وفوقه اسم لا يقل غرابة عنه هو سعيد حاشوش وراودتني صور أشباح عديدة لهيئة هذا الشخص واقتنعت أن هذا الشبح لا بد أن يكون احد المتصوفة في معرفة خفايا الثورات وان شكله متقشفا وكلما ازداد نحافة ازداد شراسة في الحصول على وثائق التاريخ لكشف الاضطهاد والوضاعة في تاريخ طويل اسود لا يستعاد منه الإنسان الحر إلا بعد سنوات تأهيل في مكب تأهيل نفسي لتراكم قمامات التاريخ ورائحة الموت التي تسكن أعالي الأشجار وصفحات الأنهر 0
يقول سعيد حاشوش في حاشية كتبت بخط رديء ... إذا اختفى الرقم الاثنا عشر لا توجد قوة ولا يمكن أن توجد قادرة على إخراجه ما لم يأتي بنفسه نتيجة علاقة منطقية تتجلى بضرب الرقم ستة في اثنين أو تراكم الأعداد تسعة بزيادة ثلاثة , ثمة جماعة جلسوا بدائرة منتظمة وعيونهم في تلاشي الضباب ينتظرون قدومه ,وفي حواش أخرى تعرفت إلى سعيد حاشوش وخالجني شعور بأنه معتوه أو يعاني من اضطراب في الشخصية لأنه لا توجد علاقة حقيقية بين الأرقام والشطرنج والأبراج وأحجار العقيق الداوودي وجثث الموتى واغتصاب فتاتين بعضو عربي واحد 0
حاشية متفردة بعد انتهاء احد الفصول بنجوم ثلاث ,يقول سعيد حاشوش في دراسة له عن قصيدة العازر لخليل حاوي التي نشرها عام 1961 أن زوجة العازر مريم المجدلية بعد أن توفى زوجها عن كبر في السن ذهبت بعد أشهر إلى ابن أختها عيسى ابن مريم تستعطفه لبعث زوجها العازر وحين استجاب الله لدعاء السيد المسيح بعث العازر عجوزا هرما لا يقوي على النكاح ولا يسمع منه إلا السعال وصوت يفلته أثناء شدة الاختناق فقال لها السيد المسيح(الذي هو الرب وهو الخروف) إن الله يبعث الكائن كما هو وليس كما تريدين أنتِ 0
والذين جهدوا ببعث الحضارة العربية الشمطاء (الشرموطة) فأنهم بعثوها هرمة وليس فيها إلا النكاح بعد أن فهموا الحضارة على أنها غزوات القتل والاحتلالات وسبي النساء الحسناوات ...طبعا ...
لهذا السبب وحده احتل حزب البعث الكويت لاسترجاع نساء فلسطين والبصرة , النساء المنكوحات من كل حدب وصوب من اجل أن تفتح السمرة الداكنة لوجوه السادة البدو مثلما قال أبي في تفسيره للغزو قبل سنة من كتابة هذه الصفحات لهذه الرواية التقريرية0
وكان الهدف من قتل الأفعى المتسلقة على الجدار قبل عشرين سنة بمنجل أبي المفتول العضل هو أن يقول لي بأننا أدينا واجبنا وعليكم أيها الجيل أن تبنوا حاضركم ومستقبلكم... الجيل المهمش والباحث عن عرش على مملكة الصفر, أبي على الرغم من امتلائه بالحكم والأمثال إلا انه يخاف من كل من يطرق الباب في الليل وفي نفس اللحظة يتمنى أن يزوره إنسانا ما ..أي إنسان ليفضفض غريزيا ما يجول بداخله ..لا لشيء سوى ليزيح جبالا من الإثقال على قلبه بحكاياته العجيبة والغريبة ...الآن حين توقفت الأرض عن التنفس لم اصدق أبدا ولم يستوعب أسفل دماغي مهنتي الجديدة المهيأة لحراسة الموتى وبكل ذلك التهديد أو الغضب الذي يصرخه ضابط الاستخبارات الذي يرافق الأمم المتحدة .. يجب أن تحرس القتلى .. أن تعدهم في كل لحظة في سجل الموجود وأحذرك من اختفاء احدهم ....
الذي استفز ضابط الاستخبارات وظل يرغي ويزبد التفل بوجهي هو جوابي المنبثق من أعمق فطرة في أعماق الإنسان : لكنهم موتى ..سيدي...
الرائحة القاتلة والشمس جعلاني اطوي بطانيتي العسكرية على شكل قفة فوق رأسي وأهرول كالملسوع حافي القدمين في كل بقعة في الدائرة التي تحيط بالجثامين هاربا من رائحة أشرس من رائحة الضربان التي تعبقها نسمة ما ..أنا لا اعرف أين اهرب لأن الرائحة على ما يبدو تشبثت بجسدي وضاق (كمر) النطاق العسكري على بطني ,البطانية يسورها دسم اسود يلون حافتها المتآكلة ووجه أشعث التقاسيم وبطن زنبور ملون ورائحة الضربان , أنا الآخر – على ما يبدو- أشبه فصيلة الإنسان حين فقدت الشعور إن الجثامين لبشر هرولوا في الشوارع والأزقة ,أو تعود لكائنات مشعرة تقطر دسما اسود شديد الصفرة تحت شمس لاهبة ,احد الجثامين تنساب اليساريع من فمه بهمة ونشاط وسرعان ما تلتوي على نفسها في سبيس الأرض منبعجة من شمس لا ترحم ,الجثة الأولى تلتصق بذبابات زرق حالما تمتص الصديد تطير هاربة إلى عتمة ما في الملاجئ ,بغتة سرت رعشة في جسدي وتشبثت في هيكلي النحيف كفزاعة طير 0
قذفت البطانية فوق صديد الموتى الذي بقع الأرض ببقع بترول 0
أين الجثة الحادية عشر ؟
وبإصبعي حسبت الجثامين مرات عديدة ..بالتأكيد .. فقدت الجثة الأخيرة بشكل مفاجئ ,حاولت استعادة الجثة المفقودة ...من هو بالضبط ؟ هل الذي يفتح فمه ويكشر بيأس ؟ أو هذا الجندي الأخير الذي ينظر بوجهي متأملا دون أن تطرف جفناه ؟
درت حول نفسي عدة دورات ..لا بدّ أن حيوانا قذرا مثل( أبو الحصين) سرق الجندي ؛..أو احد كلاب الجبهة المعاقة بقطع ساق أو يد لكن هذه الكلاب لا تستطيع أن تأخذ كيس لا يلون بعيدا ثم ..ثم اقتنعت إن الكلاب في الجبهة تختبئ في الملجأ مع الجندي حين تسقط قذيفة لأن الخوف وحدّ المصائر وأعاد احترام الكلب للكائن الذي يمشي على قائمين ولأني لم أر كلبا نهش جثة إنسان خلال تواجدي في الجبهة ,لأني سجين سياسي جاءوا به لتفجير الألغام قبل شهور ولم تسنح لي الفرصة بالهرب لإيران على الرغم من صغر الحاجز الذي يفصلني عن الجبهة الأخرى بعرض خمسة أمتار أو ستة ملغومة بمختلف إشكال الموت0
من المحتمل إن الجثمان اختفى في الصباح الباكر لأني غفوت وبنطالي شائكا بالأسلاك على ضفة النهر ,ثمة إيراني بقميص اسود يقف على الضفة الأخرى للنهر ويرصد هيكلي صامتا بعد أن حاول الحديث معي لقتل الوقت الإضافي بعد توقف إطلاق النار ,استيقظت حين أصابت جسدي تفاحة حمراء ,رأيت الإيراني يبتسم بين لحية سوداء وقميص أكثر اسودادا ,التهمت التفاحة بجوع مزمن دون التلذذ برائحتها وقد تكون بلا رائحة ,الإيراني هو الأخر حارسا لجثامين العراقيين0
إخوتي الذين هم ليس إخوة وإنما اشعر بالخوف منهم لحظة الهرب خوف إطلاق النار على هيكلي الهارب ,الإخوة يطلقون النار على الظهر فيما يطلق الأعداء النار على البطن 0
الغريب أيتها الزوجة حين أكلت التفاحة غفوت دون أن ادري , أيقظتني الشمس بعد ساعات وأنا مسطول بدوخة جثمت على دماغي ,لا اثر للجثة بحثت في الحفر التي تختفي بين الأسلاك , حفر عديدة وبأحجام مختلفة تبعا للقذائف المنفجرة .. رأيت إحدى الكائنات المشعرة التي تضاءلت إلى حجم الشمبازي على سور أسلاك زرعت بصفوف متباعدة ..لا .. ليس هو ..هذا الكائن منذ أشهر تشبث بتلك الأسلاك وقد لا يعود لإنسان ما 0
أدور حول نفسي كالمخبول ,ألثغ من خوف مزمن بدورة الصمت التي تهذي بكل اضطهاد في هذا العالم ,كيف يسرق الإنسان مرتين ... بعد كل هذا الزخم العصابي في التفكير عرفت إني متصفر بجنون 0
فكرت في تلك اللحظة أن خطتي الشطرنجية تكمن في عدم منطقيتها وإنما الفوضى الانتحارية هي التي تدمر المنطق للسلطة ...فكرت بالصعود على منصة شعراء المربد وأدور حول نفسي كاللولب دون أن أتفوه بكلمة واحدة بل ارفع يافطة بيضاء مكتوبة بقصيدة صامتة ثم أقلعت عن هذه الفكرة التافهة لأن الشعراء لا بد أن يقبلون أقدام السلطة بغريزة مزمنة ..كرهت الشعر لأنه يتغزل بالأزهار المستنبتة وأنا لم أر وردة واحدة في القرية زرعت في إناء من فخار ,تحت نزيف أفكار الاضطهاد فكرت بفزاعات القمامة المستنفرة بهياكل بشرية لتفرغ الفن الرافض بصمت ..نحن فزاعات أيضا بعد أن صارت الإنسانية مجرد احتمال ...لأن السلطة تستثمر الأجساد للدفاع عنها ,لذا هو ضحية أخرى غير مباشرة للنظام الزيتوني...,تسليع الأجساد للمبادلة بعد الموت ,الأجساد المقهورة برغبات مكبوتة ,رغبات تطير مثل الفراشات ,كيف يفقد الإنسان بشريته ولا يثير الرأفة في قلب النظير في الخلق ؟ اسمع سعيد حاشوش المصاب بعقدة اضطهاد مرضية دون أن يدري : ينادي فوق الأشجار ويبصق على الدكتاتورية بعد دراسته لكارل ماركس مثلما يدعي ...اسمعه بوضوح ..تفو ..على كل من أشعل الحروب وتاجر بهذه الأعضاء الهزيلة ,الأعضاء التي احتضنت فتاة ما أو لوحت بطفل في الهواء ,اسمع سعيد حاشوش يؤكد :الكعبة كلها فدوة لدمعة إنسان ,الإنسان الذي تناسخ إلى شمبازي بائس أو حين جعلوا مني حيون طويل الأطراف مثل قرد لا يتدلى من الأغصان بل من اشياش السجون ..سمعت صراخا عال ينادي ..فوق الأشجار...
التفت بحدة إلى بقعة بين الأسلاك الشائكة وتذكرت رجل الأشجار الذي دفنته تحت جسدي وتضامنت روحي بتواصل جسدي وصوفي معه...بغتة ,مثل كل مرة ,اكتشفت باني أنا الذي كان يصرخ فوق الأشجار وتارة ينشج ببكاء... أنا هولندي ..هذا هو دربي...طوبي يسابقني ويطر من فوقي ..ايه ..غابت سهام وياسمين في ذلك التلاشي والتناسي المقيت في التاريخ ,تاريخ النكاح من كل المداخل ,كرهت شخصية سعيد حاشوش وانفصلت عنها لأنها لا تفكر إلا بالجنس ويردد دائما أن شخصية العربي لا تدركه إلا من خصيتيه ,وأنا خالق الشخوص في هذا النص الذي لا اعرفه من أي جنس انفصلت عن عقلية العربي كي أتمكن من الخلق ,حتى إني أعطيت جواز مرور سحريا يمكّن الشخصيات من العيش حتى في المستقبل وعندي أيثاب وعقاب ,أنا المتطاول على تنين النفط , صرت كائنا معبأ بكيس لايلون متخم بأفكار السماء والأرض ومتاهات العصور السالفة ,متاهات العشاق ,متاهة باثني عشر مدارا تؤدي إلى فراغ عندما أصل إلى فراغ أقول لنفسي إن جسد سارة العبدة بخزانها الحوضي الممتلئ بهرمونات المتعة أفضل من جسد معبأ بأفكار الحرب ,انتم لم تعرفوا المأساة الحقيقية للحروب لأنكم لم تجربوها وإنما سمعتم بها 0
الآن ..قررت أن أوقف المتاجرة بجسدي ,انه اضطهاد من نوع أخر..أنا إنسان أم رقم طويل على قلادة الألمنيوم التي تسور عنقي ,هي قلادة تعويذة للموت أو الدفن أو النسيان 0
قد لا يستوعب كمبيوتر السماء رقمي الطويل والغريب وقد أكون غير مستنسخ ولا يوجد مثيل لي ,أفضل مني قليلا ,سواء في السماء أو السديم وبمعنى آخر الخواء...الفراغ 0
هي رحلة في طريق معتم ومتعرج لحقيقة الواقع البشري مثل رحلة يسوع الرب أو الخروف من الإسطبل إلى الذبح بين العشاءين ,أنا القربان الذي بلا هوية والذي يحمل رقما طويلا يحشو المشحوف الذي تتقاذفه الريح على أمواج بحر شاسع فيه السماء تأخذ لون الأرض وينتهي كل شيء في المدارات البعيدة , المدارات النائمة تحت الضباب ,أنا اردد أنا ..أنا ..لأني اضطهدت بذلة أنجبت جنون العظمة .. لا.. لا تتركي قراءة الصفحات لأنه لا شيء مجرد عتمة بلون الطباشير ,صفحة الماء وجه معدن , التلاشي المضبب ,التلاشي العجيب للكائن ,التلاشي الذي يفقد فيه الإنسان هيبته ويصير وجبة دسمة لأرضة السجون أو المقابر ,نحن الحطب بعد شتاء أكلته الأرضة 0
اقفز أمام أرجل الموتى ,أدور حول نفسي ,في صفر خارطة الساعة التي تثبت الأهداف الصديقة والمعادية في مرصد المدفعية ,ارقص مثل الهنود الحمر في أفلام اليانكي ...
تصرخين بوجهي : أنتَ تعيش في هلوسة ,هل أنتَ تشرب العرق؟
أجيبك ...لا والله أنا لا اشرب الآن واعرف إن لكِ احتياجات وان عبد الباقي يموت ..
سأكتب رواية عنوانها الزوبعة تنطلق من عمق المتاهة بسلم حلزوني يتمدد بقوى الخفاء ويتحول إلى سلم زوبعة ليتسلق جدرانا دوارة ثم الامتصاص إلى أسفل ,انه الصعود من اجل النزول إلى أسفل نقطة ...اعتقد انه الفراغ حين يصعد الإنسان إلى أسفل ...
فاجئني طاهر حبيب سائق عجلة خزان الماء الحوضية والمعاقب منذ أربعة عشر عاما بخدمة إجبارية دون أن يشمله التسريح لهروبه المتكرر والذي اختفى من سطح الكوكب هو وعجلته بصاروخ أمريكي في فنطاس الكويت 0
وقفت لكن فمي ما زال يتعتع مثل المجانين ..هه...هه...هيا ..هو ..هو..و..و..ووووو وجسدي يهتز مع اللحن الذي اكتشفته بالصدفة 0
تتلاشى أقوال وتساؤلات طاهر حبيب حين قال في ظهيرة الأمس : لو كنت مطوعا على الجيش لكنت الآن نائب ضابط بدرجة ممتازة أو احمل نجمة الحزب ,كعادته يظل يهلوس في المتاهة التي ابتلعته لكني لم استقبله هذا اليوم بابتسامة مثل كل مرة حين أخطو على الطريق المتعرج بين تلة المرصد والطريق الترابي الذي بسدة خط التسعين ,تسمرت تحت شمس حارقة مثل فزاعة لا تخيف إلا الموتى وبعد أن أوقف موتور السيارة ترجل صامتا وتحرك بقدمين مثقلين ببسطال عراقي مثقوب الجهتين صاعدا المرتفع الذي تغطيه الجثث ,عيناه تستفهمان هيكلي الذي يشبه البشر وعلى راسي اللباس الداخلي الملون بسحاب مطاط تشبث بالجبهة وغطى الأذنين فيما تدلت أطرافه على كتفي بهيئة مقتبسة من تماثيل مصرية قديمة أو شيوخ الهنود الحمر في أفلام رعاة البقر 0
ثمة كلمات مبتورة تستقبلهما أذناي دون أن افقه شيئا وبيده هزّ كتفي الأيمن ...ها ..أستاذ سعيد ..لم اجب ..هو الآخر انتصب صامتا , مسخنا إلى تمثالين ملونين بوجوم الموت وعيوننا تحاول الابتعاد عن الجثامين المحسورة العورة 0ثمة هاجس خفي اقشعر له بدني ,الأجساد لا تكشف للموت وإنما للخصوبة , كل زاوية على بدن الإنسان تنطق برغبة مؤجلة ,أحلام تود الانطلاق ,الاقتحام ,الطيران بحرية والتخلص من قيود الإخفاء وقد تكشف الأجساد للموت بعد أن يغسلهما المطهر ويطيبهما الكافور ,ليس استعدادا لرغبة ما وإنما وجبة دسمة ومعطرة لديدان الظلام 0
الآن .. كتبت انطباعات على قصاصة ورق مهملة لترميم لحمة روايتي التي سأكتبها ... الإنسان مستباح عند الولادة والموت 0
قلت لطاهر حبيب ..أنا...أنا..وتلعثمت في الأنا الثالثة ,تأملني باندهاش .. أجبت : (أبو الحصين) سرق إحدى الجثث وإذا جاءت الأمم المتحدة فأن رجال الاستخبارات الذين يلازمونهم سيجعلونني أروح في شربة ماء ,إنهم يمنعونني من الإجابة حتى لو سألني الغرباء وخاصة الرائد الأسود أسئلة جانبية ,لا اعرف ماذا افعل؟
أجابني بعد صمت طويل :كل القتلى تتشابه..عراقي أو إيراني ..مسلم أو صابئي ..عربي أو كردي أو تركماني ..
ومن حركة بؤبؤي عينيه حزرت انه يشير إلى رئيس عرفاء يلماز, حين ذكر التركمان ...لأن يلماز ما زال مدفونا بقذيفة قرب البرج الحديدي (برج التحدي) للمرصد الجوي 0
ابتسم كعادته وأشار بيده لمئات الأجساد المدفونة تحت حفر القذائف
قال : هي حرب عشائر لا أكثر..
وبيده اليمنى أشار ,تلك الإيماءة التي أدركها بعدم تمكنه من نبش رفات أو كائن آخر دون أن يسكر بربع عرق زحلاوي على الأقل ولأني لا اعرف بماذا اجيب لذا وافقته بالحال على مقترحه العجائبي .. في الحقيقة ..أنا الآخر كنت مستعدا لعمل أي شيء يقترحه الآخر ,حين لا يعرف الإنسان ماذا يفعل يصاب بداء العبث أو الانقياد..
أنا الآخر على استعداد دائم لأسكر إلى حدّ الثمالة أو الجنون ...اعتقد إني مصاب بجنون الكحول , أجبته صاغرا :-
- أريد أن أصير حمارا مضبوطا مثل حمار سباهي ..وليحدث ما يحدث..
- وهل هذا حمار مثل الحمير..
- لا اكبر قليلا لكنه ليس بغلا ..اختفى من سطح الكوكب منذ سنين , انه يقفز مثل حصان الشطرنج لذا أطلقت عليه الحصان عظيم الكون ,هذا الحصان يصهل في خطة التنين الأكبر المكسور الجناح ليقتل الملك الأبيض برفسة من قائميه ..ومع الأسف ينتحر على طريقة تشن في رواية الوضع البشري لمارلو لكن الملك يتمكن من النجاة وعاش آخر أيامه معاقا ..
حدثت نفسي متمتما ..حمار كبير ابيض اللون ..الأبيض نادر في العراق 0
طالعني بفضول وثمة صمت هائل على خط التسعين ,أوقف رغبته في فهم ما يجري وقفز بخفة منحدرا الرابية ثم تسلق حوض الماء وفتح مغلاقه الشبيه بطابق خبز صاج ,سحب سلسلة حديدية مسودة .. في حلقتها الأخيرة بطل عرق صرمهر مشدود بخيط لايلون سميك ,وفي لحظة تقارب رمشة عين فتح عقدة الخيط واخفي القنينة تحت قميصه الخاكي وقفز من أعلى كالسعدان وتمتم بلهجة العارف ...يجب أن لا يسخن لأن العرق فيه حمى التايفوئيد ..هو دائما مسخون ..
ومشى قبلي للملجأ الأرضي وما زال يهلوس ..لو وضعنا بارومتر في حلقه لوجدناه مصابا بضربة شمس ,افلت كلمات مبتورة وأغان لا يعرف إلا الكلمات الأولى منها ... هو لا يجيد إلا معرفة المداخل والمخارج من كل الأغاني , وبطاسه قذرة القعر صبّ لي نصف بطل عرق تقريبا ثم مزجه بماء دافئ هو ماء النهر ولا افقه بالضبط بماذا يثرثر ... اسمعه ..لا يوجد ثلج ..ماذا افعل ..العرق بطبيعته مصاب بالحمى حتى لو وضعته في الثلاجة ..هو يريد أن يقول إن العرق يتبع أفريقيا أو جنوب العالم الأسود أو الأسود في الشطرنج ..انه من صميم الحياة الشعبية للفقراء حتى خيل إلي انه لا يوجد مناضل حقيقي إن كان يحب المشروبات يحتسي ويسكي أو شمبانيا..ما سرّ الشاي والبيبسي والكولا وماء الورد وعصير الزبيب والعرق والبصل في حياة المضطهدين ؟
اسمع طاهر حبيب ينادي : جرّه أستاذ سعيد ..مجعة ..مجعة ..هذا أفضل ...شعرت إن العرق اخترق بلعومي بحرارة ومرارة ,ذلك الاختراق الساخن يلهب معدتي الخاوية وتحسست إن عيني جحظتا للخارج بدموع حمر ..وصوت طاهر حبيب الذي ذكرني باسمي أو اسم آخر له وقع ما في إذني ...كعب ..كعب ..شعرت في تلك اللحظة إن السائل ما أن اخترق صمام المعدة وسقط في الجوف دفعته قوة ما أشبه (بسبرنك) غضروفي فقفز مرة أخرى إلى الرأس بقشعريرة ودبيب في الشرايين وعرفت فيما بعد أنها النشوة المباغتة ولم أجد إلا حبات الملح المحلي الخشن لأمتصها كمازة من نوع آخر ,مختلف تماما ,كابن بار لكل الفقراء في بلادي , اجتاحني الهدوء,شيء آخر لا استوعبه ..قد يكون الرضا عن الحياة التي أعيشها الآن ولا اعرف منبع السر الذي كتمته عن التفوه به هو أول ما أصرح به 0
- هل تعرف إن نهر العرايض حين ينحدر للجنوب يطلقون عليه نهر جاسم وعلى جانبيه الجثث المدفونة وبعضها ما زال فوق الأرض بين الألغام ...
سكت على حين غرة ,ووجدت عيني طاهر حبيب لا ترمشان وإنما تعلقتا بمسمار على وجهي ,بعد صمت تفوه دون أن تطرف جفناه
- أنا حين دخلت الملجأ لم أشم رائحة الموتى لكنك حين دخلت سبقتك الرائحة ,رائحة الموت فيك أستاذ سعيد ,كل من يعيش مع الجثث تتعلق به الرائحة ,تصبح جزءا منه ..أسبح في نهر العرايض ..ملابسك أيضا ..تشممت جسدي ولم أشم به رائحة غريبة سوى رائحة العرق ...
- لا .. لا توجد رائحة ..العرق العراقي وحده يحطم القيود ولا يمكن إخفاء رائحته , انه يتمرد على البخور الحجر ويعلن عن نفسه ....
ابتسم طاهر حبيب بعد أن كرع طاسه امتلأت حتى الحافة المسورة بالسواد بعرق ابيض يشبه اللبن المغشوش ويداه تبحثان عن مازة ما حتى لو كانت صمونة عسكرية يابسة ..لم يجد إلا أرضية الملجأ وغص فمه بحجارة رطبة بعد أن تفل الطين ظلت بقاياه متشبثة بأسنانه المتآكلة من التدخين وتعتع :
الملح يسبب لي الضغط ...لهذا السبب يصاب العراقيون بالضغط الدموي0
في هذه اللحظة قفزت الجرذان بهياج رائحة الخمر وثمة جرذ سمين مائل للسواد وبحجم قطة ,قفز بيننا غير آبه ببني الإنسان ,لفنا صمت وبدون أن نعي خلعنا ملابسنا .. قطعة.. قطعة .. تحت عرق غزير تنفثه مسامات مزيتة لأجساد نحيلة , تفوه طاهر حبيب بصوت بارد :
- سكر الجرذ ونحن لم نسكر بعد..
وبالية تناول القنينة وصب لي عرق ساخن وثرثر كعادته : لا تتذوقه أو تشم رائحته ..المهم هو ألبيك الأول ..الحكمة العراقية تقول ..ألف عير ولا ألبيك الأول , وحين وجدني غير قادر على الابتسام لاذ هو الآخر تحت غيمة صمت ...
تزوغ أفكاري رغم النشوة التي فتحت أبواب الدماغ الموصدة على وضاعة الإنسان في إحداثيات الصفر , هذه الدائرة الفارغة على سطح الكوكب , رغبات عنيفة تشتعل في داخلي ,رغبة مثل هاجس خفي يسري بسخونة ويصعد للأعلى ,أتحسسه يتبخر على سطح يافوخ الرأس ,رغبة التحرر الغريزية من سجن كبير ودكتاتور مرسوم على ورق 0
- أريد أن اهرب
وبدون أن يجهد في التفكير أجابني مطرقا
- إلى أين يهرب الإنسان وكل حدود الواقع والخارطة ملغومة
- اهرب من هنا ..معبر 2-5 وإلا كيف يتم تبادا الجثث حتى لو كان المعبر ملغوم بشكل عشوائي ..ألغام بتار فوق الأرض بحجم أوعية الاجبان نوع كرافيت هي خمسة أمتار لا أكثر ..
- سأهرب معك يجب أن نتأكد من مرصد الاستخبارات ..الليلة ..ونحن مخموران نستطيع الهرب بعد أن نتأكد من مواقع الألغام
- نعم ..أنا متأكد من الألغام ..لا أريد التعفن مثل الكلاب الميتة
وشعرت بجنون العظمة كأنني بطل خارق وتفوهت بحنجرة عدائية:
- والله ..كل نعجة تمشي على قائمين جعلت الدكتاتور يتضخم مثل بالونه
فوجئت بطاهر حبيب يستغرق بضحك جنوني كاد أن يشرق به مختنقا بحشرجة حنجرته ..اسمعه يزمجر أنت تضحكني أستاذ سعيد لأننا نجلس قرب الموتى عرايا ..مثلهم ..ولكن بشعر لحية سفلية..
بعد أن امتص كل منّا عقب سيجارته ضحكنا من الأعماق ولو كان ثمة من يسمعنا لاعتقد انه عويل وبكاء 0
همست لنفسي .الله ..العراق واسع المساحة ,ارض الله المفتوحة ,الظّلام يحشرونا في زاوية ضيقة..في السجون.. الجيوش ..امشي في الشارع وكأني أتجول في سجن كبير ليس صدفة أن يتعارف كل شخص على أخيه في المحنة البلد الذي يتصادق فيه الناس بدون تعارف مسبق ..ليس صدفة 0
الآن أيتها الزوجة الرائعة بلون الحليب اقتطع جملا وكلمات وضعتها على قصاصة ولا اعرف سرّ إقحامها في حكايتي الغريبة ...(الملجأ يشبه سردابا ارضيا ينغل تحت الماء وكنا عاريين متمردين على أعراف الرب والإنسان دون أن نعير أهمية لكل شيء لأننا نسمع في أعماقنا صراخ الإنسان البدائي في قمة مراحل العصر الحديدي الحديث ولا اعرف لماذا أطلقت عليه التنين الأكبر المكسور الجناح والملتحي مثل قرد , وكانت أقدام جدنا البدائي العظيم تدوس الورود على ارض بكر دون أن تميتها , ثمة رمان احمر مفلوع .. برتقال مازالت خضرته تشوب الصفرة , تخاف أن يصفر البرتقال كي لا يسقط على الأرض ويتيتم عن أمه العظيمة الشائكة الخضرة ,حارب الوحش من اجل أن ينجينا , من المحتمل انه تعفن عاريا اكرد الشعر في سرداب ما , أعطانا فرصة كبيرة أن نخرج للصحارى البعيدة, على القدمين أو على ظهر حمار, ارض الله مفتوحة , لا اعرف لماذا كل شيء كان عظيما , اشعر بالرهبة لمجرد ذكر الأجداد...الصراع على السلطة جعل الأرض ضيقة , محصورة في أقبية , سجون انفرادية ..إعدام جماعي , تضاءلت قيمة الإنسان إلى نعجة ..تعلمت أن لا أحدق في الأعالي كي لا أدوس لغما على الأرض ,وبدون أن ادري اصرخ في لحظات معينة على الأشجار البعيدة حين تتعلق عيناي على أغصانها وفجأة أعود وأحدق أمامي كالمعتوه حتى لا تخترق الأسلاك الشائكة حدقتي العينين ومن ثم اعور وارى الواحد اثنين لكن الإنسان لا يطرق أبدا من اجل ان يبقى الواحد واحدا , المشكلة..إني أخاف الوقوف كي لا تخترقني أطلاقة ,المضطهد هو إنسان الكآبة الحديث لان كل فنونه تريد التحليق للأعلى مثل طائر بل كل عضلة فيه تريد أن تنطلق بمتعة ما , اشك إن الإنسان في العراق يتطور لإنسان وإنما لكائن آخر يمشي على قدمين) ,يا حياة أن سر كتابتي الأوراق كلها لأني لا أريد أن اسقط في الكآبة والجنون ..أن انتشل نفسي واحلق عاليا مثل طير اخضر في النص ,في هذه اللحظة التي لا اعرف الوقت فيها تركت الأوراق وقبعت تحت صمت هائل حينها انشغلت أصابعي بلفّ سيجارة من تتن سومر وبللت بلساني أطراف ورقة البافرا ونحتُّ سيجارة متماسكة من خبرة اللف الطولية ..دخنت بضعة أنفاس وشعرت بنعاس مفاجئ وغريب ,تركت الأوراق على جانب واعتقد إني غفوت لأني سمعت سعال أبي ثم تذكرت انه توفى قبل شهر ..أمي ما زالت على قيد الحياة ,حين استيقظت تذوقت مرارة في طرف جوف فمي وتذكرت إني حلمت بجثة أبي معلقة بكلاب حديدي اقتطع اللحم منها بسكين وأوزعه على المتسولين حسب الطرقة الإسلامية التي توزع الغنائم بالتساوي على المقاتلين الفقراء وكنت أنادي على كل من لم يذق لحمة في عاشوراء الماضي لكن احد المساكين من الذين اكرهم بشدة لشفاههم الغليظة ورائحة زنخته أكل اللحم نيئا ..صرخت ولم تخرج الصرخة للعالم ,كان جاثوما , وفجأة أدركت أني اغتبته في الأوراق التي ستقرئينها فيما بعد0
استيقظت في الفجر على صوت المآذن وزقزقة عصافير سدرتنا الشائكة وقبل أن أتبول في المرافق تفقدت والدتي ,وجدتها جالسة القرفصاء في غرفتها قرب الباب تلهو بمربعات ملونة وقطع معدنية ودمى بلاستيكية تالفة , خدرت الشاي ...عدت بكوب ومعي الخبز الأسود وما أن قضمت الخبز اشتغلت أصابعي بلف سيجار وعدت للكتابة بدون أن أعي , قرأت الأوراق الخاصة بمرصد التحدي 2-5 وتركت الورقة المقحمة التي تتحدث عن إنسان الكهوف وتذكرت والدتي خوف أن يصليها الشاي الحار فهرعت إليها ووجدتها لم تنتبه لكوب الشاي الأسود وسمعتها تحدث الدمية العروس عن ابن عمتها جاسم ثم عرفت إن الدمية اسمها جسام وعرفت أنها في حالة تودد لشخص عاش قبل سبعين عاما ,استحييت من أمي لذلتها الغريبة وعدم استيعابها لما يدور حولها وعدت للغرفة وهممت بالكتابة حالا مثل مدمن على الكلمات ,سرعان ما تراءت لي الأحداث أمامي وشخبط قلمي باليد اليسرى..تركت الكتابة وحقنت وريد يدي اليسرى بمضاد حيوي عن طريق كانونة مثبتة , اعتقد إن اسم الإبرة كلورفرام لأنها حارة ومؤلمة ,وسرعان ما عدت للكتابة...
كتبت : أنا مدفون في الملجأ الأرضي ومحاصر بالرطوبة والجرذان...سمعت طاهر حبيب يتعتع ثملا ...
- أستاذ سعيد عندك أفكار رائعة, الموتى ليس من بني الإنسان ,اعني تركوا الحياة الرائعة وانساقوا كالنعاج للموت ,العبيد لا يميزون الحياة عن الموت ,أنا احترم الذي يموت من اجل أهداف نبيلة ,أو فكرة يتخدر بها ,الجنود الإيرانيون يدافعون عن وطنهم والعراقيون يدافعون عن وطن ليس هم مواطنون فيه ,حروب لا تفرخ إلا الأيتام
ثم انتبه فجأة وصاح:
- اشرب ..اشرب ..جر ..كعب ..كعب..يا عراق يا بطيخ ..اشرب ..ملعون أبو العراق
وتفرست عيناه بوجهي ..استدرك قائلا:
والله لو أتيحت لي الفرصة بالهرب لبصقت على الوطن كله ..بل تقيأت هذا العرق (السبيرتو) على خارطة البلد ,وطن لا يحترم حتى الحيوان فيه ,هذا ليس وطنا ,إسطبل ..اشرب ..سأبحث عن جثة بدلا من الهاربة..,أبو الحصين نغل ويعرف شغله
- كيف ؟
- ما معنى كيف؟ حين يحصل الإنسان على قبر يؤويه ..عراقي ..إيراني ..الموتى إخوة يوم الحساب 0
- اعرف ..نحن حاربنا السلطة بكل ما نملك ونفكر بالهرب في هذه اللحظة ..نحن ليس نعاج تثغو .. ولو أني عانيت أبشع انحطاط يمر به العراقي في السجون ولأن كل إنسان يهان غايته القوة ..الكرامة .. الاعتماد على القوى الحيوية الكامنة , وقد يصاب بالكآبة ويطمح لعدالة ..أو حالة توازن ,قد يتحول لقاتل أو قديس جبان لأن السلطة تعيش في الفراغ الذي حولنا ونحن نعيش ضمن مدار مثل خراف تشعر بالخوف ونلتم حول أنفسنا ,العدو يعتاش علينا , نحن صنعنا العدو والسلطة ..وأنا في السجن أنادي فوق الأشجار..
فغر طاهر حبيب فمه لعدم تمكنه من ربط الجمل...
- أنا لا اعرف عن ماذا تتحدث أستاذ سعيد.. ولكن ما معنى فوق الأشجار..أنت أم صاحبك المدفون ..؟
انتظر إجابتي على سؤاله ..غير انه لاذ بصمت وبعد أكثر من دقيقة صبّ لي طاسة أخرى من العرق وقد ازدادت ارتعاشات جفنيه وشحمتي عينيه0
احتسيت رشفة صغيرة وتقيأت مرا اصفر وحشرج بلعومي مختنقا ..
- كيف تأمل بمنقذ يأتينا إذا لم نناضل نحن ؟
- وهل تريد أن يأتي المهدي ويجدك( سكران عريان) وفيك رائحة العرق والموتى ,أمثالنا عليه أن لا ينتظر أحدا.. يحارب أو يصمت 0
صمت طاهر حبيب وعيناه تعلقتا على وجهي فيما التوت سبابة كفه الأيمن على شكل قوس صغير يجمع فيه وشل العرق الذي ينثه جسده بغزارة فيما سال السخام الأسود الذي يلون جسدي الرمادي مكونا أقواسا لينة من عرق مشحم وبأصابعي افرك الفتائل المنصهرة لضفائر سود تلتوي تحت الأصابع , تأفف طاهر حبيب من رائحتي وردد مع نفسه ..فيك رائحة الموتى ومازالت في عنقك قلادة الالمنيوم ..وكالعادة حين تهيمن رائحة الموت يهرب إلى تشمم رائحة العرق ..
أخذت القنينة واحتسيت من فوهتها عرقا سادة واخترقت الحرارة هذه المرة الأمعاء الخاوية وحين مسدت على بطني هذه المرة بخفة سمعت طاهر حبيب يقول لي :
- ليس فيك مصران واحد مستقيم .. أكيد إن العرق الآن داخ من دورة المصارين ..
ثم غير لهجته وقال :
- يجب أن تغتسل وأنا ابحث عن جثة
- أنا اعرف موضع جثة لشخص دفنته بيدي .. تحتي .. في تلك الليلة التي هجم فيها الجيشان على بعضهما .. لا اعرف منه سوى فوق الأشجار.. أما سباهي لا اعرف كيف وجدته أمامي سكرانا في الدريهمية ..
مشيت متمايلا ,اصطدمت كتفي بخشبة بارزة في باب الملجأ المجاور وعرجت مثل أبو الحصين ..امشي عدة خطوات واقف شاهرا كمن ابحث عن شيء مفقود وخلفي يقزل طاهر حبيب مخمورا , سلكنا جادة بعرض مسطرة مدرسية بين الألغام ,هي الدرب الوحيد الذي اقطعه ذهابا وإيابا لمرصد آمر المدفعية الذي يبعد مائتي مترا عن خط التسعين ..قلت :احفر هنا يا طاهر ..لم يجبني .. سوى إني اسمعه يتأفف من رائحتي ويمتص رشفات متقطعة يختطفها بسرعة مذهلة من رأس القنينة ..أين الجثة ؟
- احفر وتجد
وبعد صمت وذهول عرج راجعا إلى سيارته الحوضية وعاد بنفس الهمة حاملا مسحاة صغيرة ومرفضة خاصة بالآليات العسكرية وسرعان ما انكب يحفر مأخوذا برائحة السباخ ..تحت عمق ذراع اصطدمت حافة مسحاته بساق بيضاء وتساءلت حينها : أنا وضعته تحت قدم واحد .. لماذا غار فوق الأشجار عميقا في الأرض .. أردت أن أفلسف سر هذا التوغل في الأرض لكنه قاطع أفكاري وقال : مر عليه شتاء .. سيول المطر تدفن الألغام والجثث ..ثم ضحك ::من هو فوق الأشجار؟ من المحتمل قد نبتت له جذور شجرة ,قلت لا اعرفه لأنه قتل مظلوما فيستحق أن يدفن في إيران , قال عظامه ثقيلة ..أجبته : من المحتمل أن تزداد جاذبية الأم لأبنائها .. أمنا العظيمة تريد امتصاصنا بالقوة والعودة للأرحام المظلمة , سمعت طاهر حبيب يقول : أنت مجنون رسمي ..الجوع جعلك لا تقوى على حمل مسحاة ..لا تفلسف كل شيء ..انتم الشيوعيون بسبب القمع تفلسفون كل شيء ,أطلق ضحكة يتيمة على الأسلاك الشائكة وأصابعه تزيل الوحل عن العظام ثم لملمها بين يديه وقال لي أن احمل المسحاة والمضرفة وكنت امشي خلفه بخنوع حين صرخ فجأة :
- لون عظامه ابيض ..أما لونهم ..اللون يختلف
ثم أطلق ضحكة رنانة :
- هل تعتقد إن صاحبك يشرب حليب الجاموس
لم اجب ,الذي تعرض له فوق الأشجار الشيوعي من التعطيش أكثر مما يتحمله الإنسان .. ولغثيان السكر في تلك اللحظة دارت الأسلاك ببطء حولي .. قلت بصوت عال ..كيف يبقى الإنسان شيوعيا في العراق دون أن يزل عن أخلاق الماركسيين ,هم يعتقدون إن كل الناس مثل فهد العظيم ولهذا السبب طردوني لينظموا للصف الوطني الذي حشرتهم فيه السلطة ,الصف اللا وطني وفي النهاية أنا وحدي على أرض المعركة ..هل حقا أنا فوضوي .. اسمعه يكلم أللا احد .. كيف اجعل عظامه صفراء فيها صديد الموتى ..وحين تسلقنا رابية المرصد كنت خلفه مثل تابع أمين ,رفع بيده بعض الأكياس وهزها كالممسوس على أمل تساقط بعض قطرات الصديد والدهن البشري على اللون العاجي لعظام فوق الأشجار وكنت امسك الأكياس حياء ورهبة من الموتى ,تصاغر طاهر حبيب بإحباط غير متوقع وكرع من القنينة جرة طويلة ونفخ متألما ...وحين إعطاني الزجاجة التي استعصت على نفاد سائلها السحري رشفت من فوهتها رشفة صغيرة وحين أدركنا الإحباط الذي وقعنا فيه وقد يكون الإثم تقلصت الفترة الزمنية بين الرشفات ,رشفة بعد أخرى حتى صرت خارج الزمكان ,انزاحت كل الكائنات من مخيلتي ,رأسي طبل فارغ فيه عينا الرجل الذي ينتظر إعدامه لأنه متهم بالانتماء إلى حزب الدعوة ..فيما صرخ بأذني ماموستا جمال احد مناضلي حزب الكادحين في دهوك : أنت مناضل كاكه سعيد ..,وحين نزلت الدماء على الساقين وضاعت معالم القدم والعرقوب ..اسمع حسن ياسين الطالب السجين في الانفرادي ...توفي الطالب عماد زنكي بسبب ضربة جلاد مزقت معدته ,العالم كله يئن من التعذيب والقمع , الموت لعبة لم العبها بعد..,على الرغم من إني مقموع وانحدر للظلام والكراهية والمهانة لكن اشعر أن الله يحبني وان ثمة سكينة في قلبي لأيماني العجيب بالعدالة ,الإيمان الذي جعلني محفوظ من الموت ,اعتقد ذلك ,الذي يروي أقبح جرائمه ويعري ذاته يسقط في عدم احترام الذات والآخرين لكني اكتب شبه الاعتراف أو الندم لأتخلص من عقدة الذنب , أنا اتجه لكي أكون نبيلا في المستقبل ... ليس هناك مقموع أو مظلوم واحد أو سجين هو إنسان سوي والذي يكابر على هذه الحقيقة هو إنسان كريه وعدائي ويحمل في أعماقه سر وجود السلطة لأنه احد عناصرها غير المنظمين ,هو مشروع لكي يكون الثقب الأسود للنظام من اجل أن ترمى فيه نفايات الحروب 0
الآن أنصت لصراخ كومة العظام البيض بمد حزين ويائس في حرفي الألف والراء ..أنا حقا اسمع صيحة ..فوق الأشجار ,اسمع صراخ لحوح ومختنق لياسمين حين قطعتها الكلاب إلى أربع قطع متساوية في ذلك الفجر المكتنز بالسواد من تراب عاصفة احمر في الجهة الغربية المتراقصة على ارتعاشه تنانين نفط الشعيبة ,ذلك الفجر الذي خيم كئيبا على الصحراء ,الأب يسحب اليد اليسرى لياسمين فيما يسحب العجوز الفلسطيني اليد اليمنى بينما تجر الكلاب ساقي ياسمين فارجه فيما بينهما تعثر الفلسطيني لعدم تماسك الرمل تحت نعليه ,سحبت الكلاب جثمان ياسمين , والأب مازال متشبثا باليد اليسرى (لم يصدق الأب حتى لحظة مماته أن هذه الحيوانات مجرد كلاب جائعة)..اصرخ ياسة أو أصَغّر الاسم إلى ياس في ذلك الفجر الذي اختفى في التاريخ بعد إن رفض دفان مقبرة الحسن البصري أبو عدنان ويه دفن مسيحية لاجئة في مقبرة السنة وكما رفض الحاج مناتي دفنها في مقبرة سيد احمد وكان صديقا لأبي ..كنت صغيرا حين قلت له : دفنا البقرة رغم انفك ولم يجب سوى تمتمات...البقرة حيوان حلال ومع ذلك سحلتها الكلاب...حين يحصل الحيوان على قبر فيما لم تتمكن اللاجئة من الحصول على نصف متر في ارض غريبة عنها وبهذا الشعور الخفي أريد أن تصل الجثامين للأرض الأليفة لها 0
ضربت طاهر حبيب بالمجرفة حين سرق جلدة من جثمان أو هي عظمة نافرة مثلما قال , لكني أوقفت الجريمة ..ولم أع كيف استولى على المسحاة وانهال بها على العظام البيض لفوق الأشجار .. قتل فوق الأشجار عدة مرات مثلما قتل تومان العبد مرتين واغتصبت سهام عدة مرات ...
ارض الجنوب لا تكتفي بالقتل مرة واحدة , بكيت في سري وعاودني الغضب المزمن وصوتي تعالى بالتهديد حين انهال طاهر حبيب بالمسحاة ورضّ العظام وقطعها ,فاجأته بضربة على الرأس بقبضة يدي لكنه تمتم الآن.. أنجبت الجثة الحادية عشر ,جلست على الأرض محطما ورشفت حسوة صغيرة من القنينة ...اسمعه يحدث نفسه ثم لفّ أصابع يده على قلادتي المرقمة للموت وانتزعها من فوق رأسي ,ليس فيها رقم خمسة وإلا جعلناه بالطرق يشبه التفاحة ..أنت تعرف إن البنج الفارسي هي تفاحة ..وضع قلادتي في رقبة فوق الأشجار وغطاها بكومة العظام ..اسمع طاهر يهمس لنفسه ..ستحتار الأمم المتحدة بهذا الرقم ..ثم يقتنعون إن العراقي اثول ويخطئ بالجرد دائما .. نزل الرابية وبحث عن كيس لايلون ... الحكمة وحدها أنجبت (جثمان جديد )لان الكل قتلتهم السلطة 0
وانتابني الشعور الغريب الذي يغربن نفسي عن كل الموجودات .. شعور بغيض لا يمكن التعبير عنه سوى أن أقول عنه إننا لم نتعلم بعد سر ماهية الموت ...
واقتحمت إذني ضحكته الفاسدة ....
- أنت الآن في إيران
وبعد صمت ثقيل وضع يده على الجرح الذي آلم ظهره من شفرة المجرفة ..
قلت : هي ليست قلادتي وليست قلادة السجين فوق الأشجار وإنما لقتيل إيراني ,صفر طاهر حبيب بفمه صفرة طولية مندهشا ..باغتني قائلا :
أنت ميت كل هذه الأشهر دون أن ادري ...وأنا أتساءل من أين لك رائحة الموتى..
لا اعرف السر الخفي في كلماته الأخيرة الذي جعلني ارتعد .. هل أنا ميت أم حي ...لكني شعرت بألم شرس حين انهال طاهر بمجرفته على عظام فوق الاشجار ,كان يهشم في عظامي ...
عرجت إلى نهر العرايض ,قد أكون من الموتى دون أن ادري .. لأن الحياة لا تعني إني أتنفس وإنما أن يمتلئ الجسد ويعبأ بالحياة وان ترى عيني الموجودات ,وثمة حب لكل كائن ,لأننا ننجب الموتى فقط ونفرح بتسجيلهم على أنهم موتى لأنني فرحت كثيرا عندما سجلت أبي في المستشفى الجمهوري ميتا وتمكنت من الحصول على ورقة لدفنه في مقبرة النجف 0
على صفحة النهر المحاذي للملجأ الأرضي تمايل جسدي النحيف وعلى وشك أن ينكب وجهي على لغم بتار يبعد بضعة أصابع عن قدمي ,تمسكت بالأسلاك ....
سمعت طاهر حبيب :هل تعرف أستاذ سعيد أن المرصد الآخر لمدفعية هاونات كتيبة 106 توجد عشر جثث فقط ...كل المعابر فيها عشر جثث ,وضع كومة العظام البيض على أرضية الملجأ وخرج يصفر حزينا ولم يلتفت أبدا ..غمرني الرضا وارتاح ضميري من مشقة التزوير وأقنعت نفسي .. نعم هي عشر جثث فقط ,نحن نتخيل أشياء لا وجود لها ,على الضفة الأخرى يرقبني الإيراني مندهشا ,لا يمكنه أن يرى ما حدث للجثث النائمة على التلة لأن المرصد يحجز الزاوية من الجانب الآخر ,لم يكلمني القميص الأسود أبدا وإنما كان فزاعة حرب ....كنت عاريا حين غسلت جسدي بحشائش ونبتات عنقر قصب طري ثم مرغت الجسد النحيف بوحل يميل للصفرة ,أنا لا اعرف السر الذي دفعني لتنظيف جسدي في هذه اللحظة ,هل إزاحة الآثام عن كاهلي ؟..يتشبث الطين الحري بشعثة رأسي ,تحولت إلى تمثال صلصالي لم يجف بعد ,الطين أبو الفنون .. لم افهم بماذا يتحدث الإيراني .. أراه يقفز على الساتر كالممسوس ودوى انفجار هائل واقعيت في الماء وحالت الأسلاك الشائكة من انفجار الألغام , فزعت لأول وهلة حين رأيت احد الجنود العراقيين يعبر معبر 2-5 ويصعد على الساتر الإيراني ,صحوت من سكرتي الشديدة وفوجئت بسيارات الأمم المتحدة البيض التي ذكرتني بسيارات (اللاند كروز)لأمن النظام ,ثمة رجال استخبارات يصرخون في أجهزة اللاسلكي و(اللود اسيبكر)ثم عرفت أنهم يستهجنون عورتي الشعثة بشعر عانة منتوف بعشوائية , لأنهم يرافقون الأمم المتحدة كان لهم ضجيج وحياء ,هرولت للملجأ الأرضي وسمعت صراخا يائسا وكنت اعتقد إن كل صرخة هي الأخيرة , رأيت جنديا من مشاة لواء 45 بملابس فاقدة اللون ببسطال ممزق يهرول عابرا الدرب بين الملجأ الذي اختبأ فيه واطل على الكون من كوة صغيرة والى نقطة التنصت الإيرانية المقابلة ,شجاعة التحدي للجندي هيجت غريزتي أنا الآخر بالهرب , تحركت كالملسوع لألبس أية ملابس تمسكها يدي, هي الفرصة السانحة بالبصق على القمامة ,لان الاستخبارات لا تطلق النار بوجود الأمم المتحدة , ليس مهما أن أعيش وإنما المهم أن أحب الحياة التي اقتنع بها , هرعت فارا كالجرذ من فتحة الملجأ...ناديت :طاهر حبيب ..طاهر ..يا طاهر.. لكن طاهر هرب بعيدا بسيارة خزان الماء وثمة زوبعة تراب ابيض خلفه ,عشرات الأيدي تقبض على جسدي اللزج ,رأيت قلادتي تتدلى من أكياس احد الجثامين المنقولين بهيبة عبر المعبر قد تكون قلادة أخرى تشبهها وراودني شك بأني كنت ميتا فعلا ,ورأيت نفسي أعود مع الجثامين للتلة بأوامر وصراخ من أفواه رجال الاستخبارات حين تأكد لهم أن عملية هروب واسعة قد حدثت في مرصدي , أنا المسؤول عن ذلك ,لابد أن يعثروا على شخص ما ويحملونه جريمة الهرب من الوطن 0
في منتصف المعبر جندي عراقي يئن ملتويا بين الأسلاك فيما يحاول احد رجال الأمم بوجه اسود كالح من أشعة شمس آب (مازال الشهر الثامن في منتصفه ) برتبة ميجر أو رائد أن يسحب الجندي لكن انفجارا بتر ساق الجندي اليمنى فيما سقط الأجنبي على عجيزته يصرخ طالبا الإنقاذ ,في تلك اللحظة رأيت جنود بقمصان سود يلوحون بجنديين عراقيين عاليا ويطوحون بهما ويشقلبونهما بنشوة الانتصار وقبل أن تشد الأيدي عصابة سوداء على عيني رأيت الجيش الإيراني يرجم الساتر العراقي بالحصى ,رأيت الآلاف يخرجون من مخابئهم ...واختفيت في الظلام 0مرت أيام نقلتني الأذرع فيها وأحيان قليلة تقلني سيارة عسكرية محاطة بالحرس ,رأيت الفارس المغوار الأسود الكندي وعرفت أن السجن الذي كنت فيه هو سجن الفرقة الحادية عشر في شرق التنومة ثم انتقلت الى بيت اثري من الآجر يطلقون عليه بيت الاغا وشممت رائحة الماء وسمعت الزوارق وتأكد لي أن الجثث عشر وليس إحدى عشر لكني متهم بإفساح المجال للجنود بالهرب ولم أتوقع أن سيارة عسكرية تنقلني إلى معسكر الدريهمية وعلى بعد مائة متر عن بيتنا المقابل لروضة الكروان .. في مخازن الدريهمية رأيت الفارس المغوار الكندي على حصانه العابر فوق الجبال وثمة صهيل في كل مكان لذلك الحصان الأسود دون أن يفارق رقعته الإسمنتية .. من فتحة الكوة الصغيرة المخصصة لحرق القمامة , كوة القمامة نفسها التي سكنتها قبل شهور عديدة , في لحظة تبدو تلك الفترة بعيدة وفي لحظة أخرى تبدو قبل أيام قليلة (اكتب لكِ هذه الأسطر للحفظ في مكان آمن وليس للقراءة... بعد إطلاق سراحي من تحقيق بائس في مديرية الأمن العامة في اربيل سببه الاشتباه بتزوير هويتي الجامعية في سيطرة شقلاوة حين كنت مهربا لمجموعة من الأصدقاء, هم الفنان إبراهيم حسين وكريم عليوي وجاسم الموسوي من سكنة براحة النقيب في الزبير وعبد الحسين جبار الطالب الراسب سنتين في إعدادية الزبير المسائية والذي يسكن في بيت أخته أم جاسم في الحي العسكري القريب من بيتنا والالتحاق بمفارز البشمركة التابعة للحزب الشيوعي بعد أن زور للجميع الفنان إبراهيم هويات جامعية لم يشك بصحتها رجال الأمن في العراق وإنما الشك بهويتي والتي هي الوحيدة صادرة بشكل رسمي عن جامعة صلاح الدين ,وبعد أن صعدوا للجبل ما عدا عبد الحسين جبار وجاسم الموسوي حيث تم تأجيلهما لوجبة أخرى وحين رجعت للبيت بعد سنة كاملة من السجن, باغتني الشاعر الشعبي سالم منشد خنجر ..نعم ..شقيق حكيم الأكبر.. بقوة ضاربة رأيت بينهم ضابط امن المنطقة سيد ضياء ليقبضوا على هيكلي المنهك والنحيف اثر تقرير كتبه الشاعر واتهامي بقيادة تنظيم للحزب الشيوعي وحيازة أسلحة ودفنها في باحة بيتي الذي تطل عليه عيون النظام وشبعت أطنانا من الضرب عن علاقة لا اعرف عنها شيئا مع شخص من محلة العرب في الزبير واسمه سليم الأسود ,توقفت عن التهريب والعمل على التحاق الشباب بالجبال بعد أن زور إبراهيم أختام السلطة وختم هويته واختفى في الأعالي ) أرجو يا عزيزتي أن لا تعتبري سيرتي هي سرد لبطولة ما حسب قناعات المرضى والمنحرفين وإنما هي سرد عجائبي لتعميق الاهانات والقمع 0
من فتحة الكوة تشنجت على باب بيتنا حين رأيت أمي العجوز عارية على عتبة الباب يرشقها الأطفال بالحجارة دون أن يهرع الأب لإعادتها للبيت ,لم أتمكن من معرفة ما جرى ولِم تُرجم الأم بالحجارة؟ ..وهل أبي على قيد الحياة أم سرقه الموت ؟
مرت سنتان لم التق ِبهما ,هما يعيشان في ذاكرتي فقط ,أنا اعرف إن أمي العظيمة بدون ملابس لأني لم أر أثوابها السود التي تكتسي بهما ليل نهار 0
يحدثني الأب بصوت هامس كي لا يسمع الرفيق الحزبي الذي يراقب بيتنا من ثقوب الحائط ,أنا الآخر أترصده من ثقوب حائط البلوك ولأهرب إلى مكان لا يطل الحائط عليه ,الرفيق الذي جعلني أدمن على متابعته وهو يضاجع زوجته ,أنا الآخر أضاجعها في الخيال انتقاما منه لأنه استباح حياتنا الشخصية , قال الأب:
- لا اعتقد إن الزعيم سيأتي ...سأنتظر الإمام عجل الله فرجه
وتعاتب عيناه صورة الزعيم المطرزة على سجادة معلقة على الحائط وبصوت يشبه الفحيح :
كشف الدجال عن نفسه وهو ..حتى جماعته يصممون على محاربة الإمام لحين قيام الساعة بعد أن اشتروا ذمم الناس ولم يبق إلا ظهوره عجل الله فرجه لأن الأرض ملئت ظلما وجورا...
وبعد صمت طويل سمعته يسبح لله بصوت ذي نبرة واضحة و واثقة ...
- عندما يخرج لا تعرفه الناس وإلا باعوه أو قتلوه ..لكن الزعيم لماذا لا يأتي ...أنا فقط أريد أن اعرف ,لا يمكن أن يقتله احد .. انه الزعيم ...
ورسم صورة الهيبة على وجهه في اللحظة التي صاحت ديكة المآذن لكنه لم ينهض للصلاة وإنما غاب بأوجاع وتنهدات مثل فحيح كل المظلومين الضعفاء في العالم ,الأب الذي علمني احتقار الضعف والجبن عند الفقراء رأيته لأول مرة على انه واحد منهم ..لا أكثر ..تألمت حين دمعت عيناه لحظة تعالى نشيج الأم على الابن الأكبر القتيل في معركة الطاهري والأصغر منه احترق بصاروخ مضاد للدبابات في المحمرة ومازال راقدا في المستشفى والأوسط الأسير في معسكر تسمان في إيران وأنا الأصغر الذي لا تمل من البكاء عليه حتى حين قبلت رأسها لأني كنت سجينا... الأم تعتقد إن السجين في العراق لا يفارق سجنه أبدا 0
أنا في عمق الكوة ,كوة تنحني أضلاعها بسجود ابدي وثمة مخروط دائري ينطلق من الأرض ويتكاثف وسط القبة ,رحلة دائمية بغوص تأملي لكشف صوفي من نوع آخر ,البياض رحلة للتطهر ,السواد صوفية المنتقم ,أنا لا استطيع أن اكتب لكِ عن شعور الانتقام الذي يخيم على رحلتي الطولية في أحلام اليقظة ..التحدي من اجل رفض الذات الأخرى الخنوعة ..أحلامي هي ترجمة لخيال معطوب , كل سجين خياله معطوب بل ذاكرته معطوبة أيضا ,إن يدي اليسرى تكتب ما رصدته ذاكرتي عن هذا العالم 0
تحدث الرجل الفلسطيني في ليلة صيفية .. شرب الشاي الأسود فيها وتعرق مرتجفا ومتكأ على عصاه وهو يقتعد الأرض ,أنا لا اعرف لماذا تمسك يداه العصا فيما احتضنت ساعدا أبي من الخلف جذع النخلة المشطور المتكئ عليه ..
- هل تعرف يازاير حاشوش إن مركز الأرض هو مكة المكرمة ,اعني الكعبة وخاصة الحجر الأسود الصغير
كعادته يحاول العجوز الفلسطيني الإشارة لموضوع يروم إليه عن طريق المجاملة والكذب لينتشل حكاية من ذاكرته ويراوغه الأب أيضا على أمل الوصول لبداية مناسبة لذا قاطعه الأب مستدركا :
- إي والله ..لا يدخل الغني أو المتمكن الجنة إلا إذا استطاع سبيلا ..
- نحن نحج إلى بيت المقدس ونمشي في طريق الجلجلة نلبس البياض وندور حول الكعبة الطاهرة ونرمي الجمرات ..يقول العارفون إن الحجر ليس اسود وإنما اسود من مسك الأيدي والدعاء
- وقد يسود من كره الناس بعضهم لبعض مثلما يقول يوحنا الرسول في رسائله ,أنا اعني ذلك الحجر الأسود الذي وضع على حافة الجنوب الشرقي والذي يعلو عن الأرض خمسة أقدام
- الناس في الحج يحب بعضهم بعضا ..الذي اعرفه إن الحجر من عند الله انزله جبرائيل عيه السلام
- نعم هو كذلك عندنا ,لكن البنائين اليهود عندما وجدوه ليس مربعا أو ما يشبه الطابوقة ,ولا يمكن بناء كنيسة النبي داوود به رموه مع الأنقاض فوقف عليهم أبانا قائلا ستأخذه امة يعلو شأنها به ..في الحقيقة ..انتم أخذتموه ,أتعتقد إننا منذ ذلك اليوم ندور وندور حول اللاشيء .. أبانا يجمع اللاهوت والناسوت بعد أن نزل للدرك الأسفل للناس وخطاياهم ثم صعد بكل ذنوب البشرية وقدم نفسه ضحية أو قربان ..لأنه الوحيد المؤيد بروح الله لهذا السبب هو الابن لأنه على صورة الله أما نحن البشر تقليد للصورة ..نحن بشر ناقص ونطمح للكمال ,الله نفسه لا يتعامل مع الناقص وإنما مع المسيح الكامل لان الله كامل....
استنكر أبي فورة المسيحي بأفكار لم يسمع بها أو يتقبلها فسارع بالقول :
- استغفر الله يا رجل ..العن الشيطان ..نحن إخوتك ...
قال المسيحي باستحياء :
- لو أن محمدا
سمعت أبي يقول:
- صلى الله عليه وسلم
- لم يفتح مكة وظل الناس يصلون تجاه القبة الصخرة لمل حدث ما حدث ,لأن قبة الصخرة هي قبلة لكل الأديان ,هي مركز الكون وكل مركز لا يهرب أهله لاجئين في البلدان ,لكل مركز قوة امتصاص وجذب...
وفغر أبي فاه ,لم يفهم ما يقوله المسيحي ولم يحاججه أبدا لاقتناعه الراسخ إن بيت الله الحرام هو القبلة ,اقنع الأب نفسه إن العجوز متألما من شيء ما وانه يريد حاجة لكن الحياء يمنعه من الطلب فظل يحثه على تجلياته ..قال الفلسطيني:
إن الرب يسوع يحب كل البشر أما انتم تقولون إن الله جعل في آذان الطغاة وقر وتعتبرون غيركم ضالين أو مغضوب عليهم وان كل إنسان يخضع لملاكَين احدهم يتجسس على كل ما يفعله البشر ومن ثم تتحدثون بالقتل أو الجهاد وكأن الله بلا حول أو قوة وينتظر (زيد أو عبيد) ليدافع عنه ..الله عظيم وجبار ..لو أن النبي محمدا يقتل كل من لا يؤمن بالله وبه ..أليس هو القائل أمرت أن أقتل كل من لا يقول لا اله إلا الله ..لبعث الله الحجاج الثقفي لأنه خبير بالقتل وإلا لماذا بعث ....
- يا حجي ابتعد عن الكفران واطلب المغفرة...أنا افهم إن العرب أو المسلمين هم الذين باعوكم لكن الدين الإسلامي بعيد عن هذا ..
وكأن العجوز الفلسطيني يفهم بما يدور بخلد أبي فأكمل مجاملا :أنا اعني مركز الكون وليس الكرة الأرضية.. حتى عندما ضرب الحجاج ابن يوسف الكعبة بالمنجنيق وقتل عبد الله ابن الزبير انقسم الحجر الأسود إلى ثلاثة أقسام بضربة حجر مباشرة ولأن روح الله فيه عاد الحجر واحدا بعد ترميمه لأن الثلاثة هم واحد في الأصل ...
فغر أبي فمه مثل سمكة مختنقة محاولا تقريب صحن إذنه اليمنى من فم المسيحي الملتحي ولكن دون جدوى ,أوقف أبي ثرثرة ضيفه العجوز بإجابة فغرت الفمين الادردين من التدخين ..
- تحدثني عن سيدنا الزبير وله في كل مدينة قصر وخدم وحشم بينما لم يملك أمير المؤمنين إلا كوخا ...
زوجتي العزيزة ..أدركت إن الثرثرة عن كل شيء هي زاد المقموع ..تأكدت إن الإسلام قام على أكتاف الفقراء وان تضحية الإمام الحسين بكل ما يملك هي التي أوجدت تشابه الإسلام والمسيحية وأنهما من اله واحد لهذا السبب رسمت مثلثا متساوي الساقين .. رأسه الأول في خطوة الإمام علي أما رأس الوتر الآخر على جامع سيدنا الزبير أما الرأس الثالث ينبت هنا ..في مركز الفقراء ..عند ثبات البقرة الذي هو شيش حديد معقوف0
البقرة لا تريد البقاء في الخواء لذا تسافر إلى المدار واحد تحت تأثير نيوتن والقوة الطاردة عن المركز وبعد أن تعبت من الدوران وطالت حوافرها قبعت تحت يأس جعلها تعلس صفائح المعجون الحمر متلذذة ومستقرة على الثبات الغائر في الأرض بشيش حديد غير مرئي ,ثمة فراغ بين المركز – الثبات وبين المدار ,هو الصفر الذي جهد أن يفرغ نفسه عن كل قيمة ووزع نفسه في نفس اللحظة على كل الموجودات ,أنا كاتب السيرة اكبته بقوة في ابعد نقطة .. في أعماق اللاوعي كي لا تعثر عليه السلطة لأن الصفر يجسد الواقع المخفي في كل منّا , الواقع المريض والهش للحياة .. الذي يبوح عن نفسه دون أن ندري ,الواقع المخيف والعاري الذي يهزم السلطة بعد انهيار القيم الهشة التي نتمسك بها ,كل الثورات تنبعث من هذه النقطة الغارقة وتنتكس فيها 0
التذكر وحده البندقية الموجهة للأعداء ,لا ننسخ التاريخ ونحنطه وإنما يجب رصد تفاصيل الصفر اللعين لأن التاريخ هو وحده من جعلنا على هذه الشاكلة ,نتمسك بقيادة شخصيات ونخدمها طائعين دون أن نراها ..ونُقتل من اجلها , الثورة الحقيقية للصفر والأرقام والأبراج والتصميم على إنجاح خطة الشطرنج تصب كلها في إسقاط منظومة الأوهام والهدوء الكاذب لحكماء القرية والقيم التي نلهج بها مثرثرين حتى إنني اكتب بتناقضات عجيبة وكأنني اسرق أفكاري من آخر خفي في أعماقي المهم أن لا ندفن اعز ما نملك في المقبرة من اجل أن ننساه بعد ذلك ,شريكي الآخر واسمه سعدي يكتب تاريخه ,اسرق منه الأسطر والصفحات ..كتب :اليوم الذي تمكن أبي أن يشيد موكبا حسينيا مهيبا رأى الشباب والأطفال تجمعوا مسرعين ومعهم سلاسل ترتمي ذيولها الحديدية على الأكتاف بإيقاع عاشوري مستمد من التراث الريفي بحنجرة الرادود سيد القرية الجميل والمهيب الطلعة وثمة سود عرايا في ذلك الصيف يوحد دبكات أقدامهم اللحن الجنائزي وعلى رؤوسهم تعلو سفينة بوم صغيرة يزينها شراع من خشب تضيئه الشموع بقيدوم يتجه لجنوب العالم, إدراكي إن حرية ممارسة الشعائر ليس ما ينقص الناس وإنما هناك شيء أعمق في هذا الواقع بعد أن اصطف الجميع بخطوط وخلفهم نساء تبكي واندهش الأب حين وجد نساء وأبناء حي الطرب يضربون براحات اكفهم على الصدور بكل حرقة وألم مما جعله يتوقف متأملا ارتال الناس الواجمين والذين يرددون (اللطميات)وان يتوقف عن طرد الغجر لأنه قال لا يحق له أن يطرد محبي أبي عبد الله الحسين ,المواكب هي تعبير خفي عن قهر هكذا قال للسيد حيث فكر باستثمار هذه المشاعر في وقوفه الصامد بوجه السلطة وعشائرها التي تتوارث القيادة في الزبير 0
أبي جعل من وجوده في لبّ الصفر قيادة سياسية وتاريخية في أحلام اليقظة أراد أن يجعل من نفسه المهدي بعد أن رأى القرية تعيش بأبشع ظلم وجور لكن السيد هو المؤهل لهذه المهمة بعد فوز أحجاره الكريمة والمصورة بالوجوه والحروف بمختلف الكرامات..
أمي هي الإنسان الوحيد الذي استعر من الأب لان الغجر أزالوا الهيبة من موكب القرية ,نحن فقراء نتقرب إلى الله ,نظرت الأم إلى الأكواخ ومخابئ الجينكو والقمامة وتنهدت بحسرة طويلة...
الواقع المستتر هو أعمق من الذلة ..يا ترى كيف هو الواقع الآخر لأبناء القصور ؟ حدائق الأزهار ونزهات أثل البرجسية ...
التفاهة وحدها هي التي تجعل سعدي – الشريك أو القرين يكتب هذه الملاحظات عن الأسياد...نحن سادة الأزهار والأشجار ,السادة الفقراء المسودّون بالقوة0
الآن بعد عشرين عاما نظرت للقصور وسمعت الموسيقى الراقصة ورأيت ابتسامات على الوجوه المارة بقربي وببساطة أزحت الأقنعة وحولت الاحتفال إلى رعب بثلاث أطلاقات أو أربع...لأنه في الأصل كان عزاء وليس ولادة....
الساذج وحده يرقص على أنغام الموسيقى..
الوعي المسطح يبني أوهاما مقدسة...
انه فرخ تاريخ مغلق وقيم مجترة مثل حشائش في فك بقرة
بقرة العصر تجتر الشعير والقمامة
الثوري وحده الذي يرى الجدران التي تنضغطون عليها من الخوف
أما أنا قد يقودني خيط أفكار خفي ...وفي النهاية ...قد لا اعثر عليه
,من المحتمل إني لا ابحث ,كل عربي لا يبحث هو مشروع لتجسيد المخفي في الدماغ ,المخفي من المستهلك والبالي والقريب المجتر...لذة وهم التاريخ ,عكازة الخدر اللذيذ ,خدر الأقنعة والعباءات ,لكل منا قائد سري يقوده بحبل سري مثل حمار...أنا لا اعني القارئ وإنما أبناء الحي الذين فشلوا في تكوين قرية ,حبل مجدول يسحبني إلى زاوية ...
كلبنا الأسود يرهز على دكة تنور ويمارس عادته السرية تاركا الكلاب بسرب طويل يسوده الحذر حول كلبة ضابع يافعة ..
سهام اسمك محفور بشكل خفي بين الشفتين وكلما اكتب تقفزين وسط ثرثرتي , عن حدث ما ....
الكتابة عن مجتمع مغلق ومهوس بالجنس والتآمر هو قمة الجنون وحين أقدم نفسي مثل سمكة مقلية , عن طريق سيرتي الذاتية ,لأفواه رجال الأمن والوشاة هو جنون من نوع آخر ,الواقع الحقيقي هو خيال محتمل بقناعات مسبقة ....
بعد أن قطعت لساني من جهته اليمنى تحدث قلمي بثرثرة لا يوقفها ساتر ..وبدون فواصل ,وأنا بدأت أشك انك تقرئين الأوراق ,سأكتب ما أشاء ,أعظم حرية يمارسها القلم حين يدرك عدم وجود قارئ ,القراءة تستعبد الكاتب في زمن الحروب التي لا تنتهي ...
وأذني أخذت تسمع كل شيء بعد ثورة على الجهاز الصغير الملفوف بقطعة خضراء وخضرمة زرقاء والذي ينصت أبي إلى صوته بهيبة ووقار.. يده اليمنى ترتعش كلما فتح زر جانبي يبقى مؤشره ثابت على إحداثيات محطتين إحداهما بصوت آمر وسريع ..هنا لندن دار الإذاعة البريطانية ,أما الأخرى تزعق ليل نهار آنه ..هولندي ..
ليلة الجمعة الأخيرة ,تلك الليلة التي علقت فيها ذاكرتي بتجسيد حي متكرر تمكن الشقي عبد من تسليب شاحنة محملة بدراجات هوائية صفر ثلاثية الإطار وملابس مشمعة هي الأخرى صفراء فطار الأطفال في صباح الجمعة كالفراشات الصفر الربيعية على الرمال ...
جميع الموتى والأحياء تحدثوا فيما بعد لا لشيء سوى إن الأحداث تعاد ثانية ...
الواقع الحقيقي ليس الذي أراه بحدقتي العينين وإنما هذا واقع صنعناه بجهود الحروب والاضطهاد والأسياد ,الواقع الحقيقي هو الواقع المخفي تحت هذه الأقنعة والذي يجب أن ارصده بدقة وعفوية ...
يجب أن أستعيد الماضي ,الزمن الذي شربه القط وسرق الأب مياهه لسقي مزروعاته البرية التي لا تثمر ,نبتات حرفش وشفلح وعاقول ,كانت حبانة الماء التي تنام تحت حب الماء هي الساعة المناخية التي تقيس الزمن من ناقوط الحب المنتظم في فوهتها ونحسب الزمن بدقة من حزوز الفخار داخل الحبانة ثم اكتشفنا إن الزمن متوقف على الرغم من تساقط ناقوط الماء لأن القط مريم يلعط منه وأبي يسرق الماء لزرع الله وأنا أشرب الزمن الماضي لأكتبه فيما بعد على شكل نصوص ...
شجرة الحناء الوحيدة ,في فناء البيت ,فنار المتعبين ,يا أنا كيف دارت بي المدارات أو درت بها لتستقر في مدار الحناء ,تحدق بي أبدا في هذا الصفر اللعين ,ذات مرة قرأت لنيرودا عن قبطان تائه في البحار تعلق خلاصه بفنار وحيد يومض في الضباب وما أن عبر الحيد مخترقا مصدات الصخور ,وجد كل السفن محطمة في جزيرة الفنار ,يا مناري اللعين ,شجرة الحناء مقبرة الصفر اللعين .. وأشلاء سفني المحطمة بشكل عجيب 0
- عبد الباقي يموت ... أكيد يموت من الجفاف وسوء التغذية
التفت...لم أر الظلام ,تأكدت انه الوهم ,غالبا ما اسمع أصوات تقتحمني على حين غرة ,اعتقد ذلك ...أنا اخفي أو اطمس أفكاري بعبد الباقي ..أحاول الابتعاد وبجهود جبارة عن كل ما يذكرني به الذي سماه عبد الباقي رشحه لينال رقم الموت ,من المحتمل أن رقمه يشبه القمر ,يختكسف عبد الباقي وهو بلون الشمس واصفرار القمر ,رقم خمسة أجمل دائرة في هذا الكون ,دائرة الشمس والأهلّة ..دائرة فوهة المدفع ...أنا هولندي...هذا هو دربي ..طوبي يسابقني ويطر من فوقي ...صالبت مثلثا آخرا على المثلث الذي ينتهي في باحة بيتي واكتشفت إن الجنوبي عندما يختار واقعا بديلا سيجد أن المثلثين صنعا نجمة داود ,في الخيال طبعا ,(لأن العربي لا يذهب إلا للجوامع والحسينيات وإذا أراد أن يعيش الواقع يسافر إلى مدن ليس فيها جوامع) ,السيد يحتفظ بحجر يشم زيتوني فيه نجمة داود تشع بجلال ,عدت الآن إلى مدينة الزبير .. (أدركت ..إن الواقع هو ترويض الخيال وتحشيده حول بؤرة أو بركة ماء ) مدينة المآذن والبغاء.. في كل لحظة وعلى حين غرة تقتحمني أصوات آلاف المآذن وتتقيأ الدروب آلاف البغايا وصبيان اللواط...
بحت حنجرتي حين أعدت المقطع
انه هولندي ...هذا هو دربي
وفجأة صرخت: فوق الأشجار... بمدّ حرف العلة
- أنت إلى من تنادي فوق الأشجار..للأشجار... أنت واقف تنظر إلى من .. هل تنتظر أحدا ...هل تريد سيجار؟
أشعرني حرس الاستخبارات في الريسز انه ودود ومسالم ,إعطاني سيجارة بعد أن أورثها بين شفتيه , في لحظة متناهية الصغر صعد الخدر إلى رأسي وانفثأ الصداع الشبيه بكابوس وسرحت متأملا في نفس اللحظة بحلم يقظة اخترقت فيه أشجار الأثل وانتزعت كل البيوت عن سطح الكوكب, عاد الخلاء الشاسع للبر .. أعود في كل مرة.. إلى بر الدريهمية قبل أن تبنى الأحياء السكنية , البيوت والخرائب في تلك الفسحة المقابلة للجمارك , البر الالق بأنوار خفية , تشمخ الطوبة (تلة مرتفعة لنصب المدافع في زمن الدولة العثمانية ) تجاه سيدنا الزبير وهناك منارة خطوة علي ,أي حجر يشرف بلون الشمس ..أصفر .. احمر ... زبادي .. كبدي .. سليماني , حتى لو كانت حصاة عادية فيها عين مصورة تراقب... هي فرصتنا غب المطر ,نبحث أنا والسيد عن الأحجار اللامعة والمغسولة بماء السماء.. لنا الفضل باكتشاف العقيق الداودي بلونيه الادعم والرمادي ,السيد هو الذي أطلق عليه هذا الاسم بعد أن كان العقيق السليماني هو المعروف بتعرشه الخواتم على أصابع الكف الأيمن أما أنا لي الفضل بتسمية أحجار مباركة بأحجار مريم لوجود حرف الراء والميم أو حسب ما اعتقد بأنها حروف ربانية منقوشة ... بالصدفة أطلقت عليها هذا الاسم المهول عندما قرأت كلمة مريم أو حسب ما اعتقد ذلك ,لكني لم اعثر إلا على العملات الملكية بوجوه فيصل وغازي وشيوخ الخليج أو النسر والأسد الإيرانيين ,لا اعرف كيف يعثر السيد على الأحجار الغريبة ,تمكن من ضغط التاريخ في قطع أحجار صغيرة ,ويحتفظ بعملة فضية كتبت عليها الآية القرآنية (قل جاء الحق وزهق الباطل )عرفت فيما بعد أن العملة تعود لدولة القرامطة فأضطر أبي أن يبحث عن عبادة هذه الجماعة فقال له احد المعلمين في مدرسة ابن سيرين الابتدائية إن هذه الفئة يريدون إفقار الأغنياء واغتناء الفقراء وعندهم علم ابيض كتبت عليه هذه الآية الكريمة( نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) فيما قال آخر .. إن العلم احمر وعليه عنقاء بلون أسود , فاثأرا إعجاب أبي مما جعله يشتري قماش الحلاوي الأبيض ليخط عليه الخطاط الأعور في سوق البنات في الزبير عدة قطع مزخرفة النهايات بالورود والأغصان وان يكثر السؤال عن هذه الجماعة الشيعية الضالة حسب ما قاله الشيخ مرتضى شيخ جامع الكوت0
قال لي السيد قرب المنارة الطينية للخطوة ...هذه اكبر معركة قتل فيها المسلمون بعضهم بعضا ,وكل مسلم يحمل جربانا من الأحجار الكريمة لان الأحجار هي العملة الأصل بدل هذه الخمسة فلوس أو الدرهم بعد أن حملوا البغال من غنائم كسرى والشام... هنا عاشت مدينة بل دولة الإسلام كلها كانت هنا .. ابحث تجد الأحجار ,كنا وحيدين نبحث في الرمال ,لم ينتبه أي حجار حتى يومنا هذا إن البر على جانبي الأثل وقرب بقايا النهر الذي يخترق محلة الزهيرية مثل شريان ,كان ذلك تحت أقدام شعراء أول مهرجان مربد والذي قرأ الجواهري فيه أول قصيدة 0
بعد رحيل السيد صارت كل حصاة في البر المفتوح على الجن والملائكة حجرا ثمينا وكريما ,كل هذه الأكوام من الحصى جمعتها من الصحراء لاعتقادي إنها أحجار سليماني ثمينة ,ثمة أرواح خيرة أو شريرة في كل حصاة ألوانها الغريبة تشدني بعنف لا أستطيع مقاومته وتمكنت أن أجمع ثروة بددتها فيما بعد على شراء الكتب والكحول ومساعدة الفقراء ...وبعض الأسر المترملة بعد سجن وإعدام المناضلين...
دارتنا الكبيرة الواسعة حطّ عليها الضباط والمعلمون وبنوا عليها بيوتا من آجر 0
في هذه اللحظة بصقت على خزانة التاريخ وخرج من فمي صديد مصفر وتصاعدت مع الأنفاس رائحة لحم مسلوق ,مازال لساني متقيحا من جهته اليسرى .... لا استطيع النطق 0
كتبت على قصاصة بيضاء ..
كنت مع سهام نلعب على ارض صحراء مفتوحة
في الصحراء نشعر بالبعد عن اضطهادات الإنسان والجريمة
كلما أرى الصحراء ممتدة أحس إن الله فيها
ألف ألف وجه للحرية
وكلما أقف حيث أشجار الأثل أتحسس ضآلتي حين تهيمن الخضرة العالية في السماء ..لا ..لم تتحول بعد إلى بصقة خضراء في الأعالي ,لأني أدرك بسر خفي إني مجرد زهرة أنجبتها الخضرة الهائلة ,جزء من هذا الكون أو أنا مجرد نغمة أو درجة في سلم موسيقي ,حين يتطاير خلفي التراب تقتحمني الأفكار السيئة على الرغم من طفولتي الغريبة ,لم أدرك إننا بلا طفولة ونعشق إلى حد الجنون فتاة ما ونحن في سن الثانية عشر ,اختزلنا الطفولة لأنها لم تكن طفولة حقيقية ضمن تطورنا البايلوجي ,نكبر قبل الأوان ونشيخ 0
من المحتمل إني كنت أتوهم إني أمارس الجنس مع أليفتي سهام غيرة من حمار سباهي أو إننا نمارس لعبة الاختفاء والانفراد أو لعبة العريس والعروسة ,حي الطرب واللاجئات وتحول غيضة الأشجار إلى اكبر وأول حلبة سباق ريسز في العراق 0
لا اعرف بالضبط من جعل شعارنا السياسي ... الجنس والمكان اثنان لا يلتقيان...
قد يكون السيد هو الذي يكمن خلف كل شيء لأنه ترجم مكبوتات الإنسان لسلطان خفي بالحجر ,أبي يقول إن الأحجار ما انزل الله بها من سلطان وكنت اعتقد إن شيعة علي ابن أبي طالب وحدها التي تتختم باليمين لكني وجدت المصلين في جامع سيدنا الزبير يتختمون بعدة محابس فضية تزينها الأحجار ,أبي يرتعش حين يمسك بيده العقيق اليماني الأحمر ويقول إن الأحجار كانت ملونة بلون الورود واغلبها الأبيض الحليبي لكنها احمرت حين انقسم ظهر الإسلام بالقتل الشنيع للإمام الحسين وآل بيته ,الثورة التي أسقطت الأقنعة عن وجوه العرب واحمرت بكاء أحجار العقيق وأكد المسيحي العجوز هذا المعنى حين قال :إن مقتل الحسين وتضحيته بكل ما يملك هو الذي أقنعنا إن الإسلام صار دينا إلهيا حقا ...
قال السيد :-
- كل الأحجار منكاش تجمع كل الألوان ,أحجار المراد تأتي من مقام الرضا ونيسابور والعقيق من ارض الإمام زيد ابن علي الحنفية في اليمن أو مكة والمدينة أما أحجار اليشم من مكة والنجف...أنا في الحقيقة مركوب وممهور بشيطان حجر سليماني أضعه في جيبي يجعل الرجل يراود أمه أو أخته ويجعل المرأة تبحث عمن ينكحها ,هذا الحجر تؤمن به كل الأديان في المنطقة مما يفسر كثرة النكاح ...والله اعلم ,النساء هن اللواتي يتشاجرن على فحلي ,ويلتفت ليتأكد إن أمي لم تسمعه حين يفشي أسراره لأبي ....يهمس :
- أنا اترك الأحجار خلف كوسر الخص قبل التسري بالعتبة
- اعرف أين تضع أحجار العطف والمحبة
أنا الراصد للأحداث اشهد إن أبي والسيد يعانيان من صراع مدمر مع الذات التي تحاول بالكاد أن لا تنشطر إلى نصفين ...
بالصدفة مال وجه السيد نحوي وقال بدون أن اسأله :السنّة أبناء الجماعة جعلوا من إمامنا الحسين جدا لهم مثل السعدون والنعيم وشيوخ الخليج من الإخوان ..لا والله أعداء المسلمين ونحن الفقراء حرام علينا ....
أبي يشعر انه عار بدون الدين والمشيخة أما السيد يخور بخزي خفي ويصمم على عدم رفع عينيه بوجوه اللاجئات ويصطنع أخلاقا جنسية أو ما يطلق عليه بالشرف الذي يحاول أن يصل إليه 0
أبي يحاول اصطناع عدو في الخارج يمثل السلطة ...
ثمة قناعات نرزخ تحتها ونظل العمر كله نبحث عن أمثلة وبراهين لندعمها لا لنقوضها ونجدد أنفسنا ..
نحن حطب الحروب
أبي يشن حربا مدمرة ضد نفسه أولا ثم السلطة المتمثلة بأفراد ويكتشف انه سلطة متحولة ,السلطة في أعماقه وثمة دكتاتور صغير بحجم بعوضة يتهيأ للنمو والتضخم 0
بذرة السلطة تنتظر مطرا من غيم لا يأتي...العدو ليس في الخارج وإنما هو في الداخل يترعرع على شكل قناعات في الطفولة ووجهات نظر وأسلوب تفكير ...لذلك اخترع عدوا في الخارج متمثلا بمدير البلدية عبد الكريم الشطيب بعد أن كان حزب البعث الذي اغتال الزعيم ,لكنه لم يعترف بالاغتيال بعد..
وكل ثورة قائمة على هذه الخفايا ستدمر كل شيء ولكن لا تؤدي إلى نتيجة ...لأن رجالها يقولون إن ثورتهم مثل ثوب حية ينزع مثلما يقول روائي هارب من الواقع واسمه حمزة الحسن..
أنا الراصد لا انتشل حجر يشم أو زمرد داكن أو حتى أتفحصه عند بائع لأنه يلبس الزيتوني بل كرهت هذا اللون واعتبره في قاموسي مجرد بصقة خضراء 0
لم انتظر أحدا كي لا تصير الأديان والأفكار ثورات مؤجلة ولم اركع ببكاء كي لا يصير الدين آهات مهزوم وتنهدات ذات كئيبة ومغلقة ...
أنا ادرس المظلومين والعبيد الذين حررهم الدين من تجار بدو مكة 0
عيناي – دائما وأبدا – على ارض الله المفتوحة
أنا العارف بالأحجار والأبراج والأشجار والإزهار..... ,تركت كل علومي في قمامة ما لأنها معارف مرجعيتها قمامة التاريخ 0
أدركت إن مدينة البصرة هي مدينة أطفال عظيمة وحين يكبر الأطفال يظل حنينهم يكبر للمكان لأني كلما اكبر سنة يزداد حبي لأول الأمكنة..أنا هو انتم 0
هل حقا كنا صغارا أم مارس بعضنا الطفولة دون أن يدري ؟
يبكي أبي على لحن أبوذية تغنيه حمدية صالح وفي نفس اللحظة يكره كل غجري في العالم لأن شيخ الكاولية يلبس عقالا بزرد وقصبات ذهبية ...أنا لا اعرف لِمَ أوزع لحم أبي نيئا بين المساكين ؟
الأب الذي ظل يمشي للخلف حين سمع باستشهاد الزعيم ,صدمته دراجة عسكرية ومع ذلك يمتنع عن تصديق الحكايات عن الاستشهاد المروع وغياب الرمز وضياعه في نهر دجلة ...
الأب الموزع هنا وهناك ..,الأب الباحث عن السمو البشري المفقود كان هدفه قتل القوماج العرب بدون رحمة لأنهم قتلوا الزعيم ,الزعيم لو انه أعطى الكرد بعض حقوقهم لقبله الجميع على الرأس ...
مثلما كان هدف جدي قتل الانجليز لأنهم وقفوا مع الإقطاع وكان جد جدي يكره آل عثمان لأنهم على سنة النبي لأنه يخاف أن يقول إنهم مجرد إقطاع ..الخوف يُلبِس العدو لباسا مزركشا
قال كونتن بطل رواية الصخب والعنف : هذه ساعة جدي التي أهداها لأبي وفيها عقرب الدقائق يتك ويتك في زمن غير معلوم ويظل يتكتك إلى زمن غير معلوم 0
الصراع بين قديم لا يموت وجديد لا يولد .. أو قديم يتجدد.. يتفسخ ,حين يفقد الإنسان قدرته على النطق يتحول إلى تمثال ,التمثال الذي يلغي معالم الإنسان ليتشكل من جديد متناسيا أهم صفاته المتمثلة بالإنسانية ,تم إلغاء فمي بسبب التراكمات (اكتب لك هذه الكلمات لأني أتفرس في لوحة للفنانة الطائي المنشورة لوحتها في مجلة آفاق عربية)
حين انجلت الغبرة وانقشع الظلام عن كائنات تتحرك بمرارة تحت مساقط ضوء ذاكرتي سمعت سهام توشوش في إذني ..روغ صدري بيدك حتى يكبر ..الأيسر بحجم فنجان القهوة ..أريده اكبر...
مرت بضعة شهور ولم يتضخم مثل أخيه في الجهة اليمنى , في هذه اللحظة سمعت الزوجة تصرخ في باب البيت ...ابنك يموت وأنت تكتب .... وكأني لم اسمعها ,أحاول أن أداري عضوي المنتعض بجنون ...كلما تذكرني الزوجة بعبد الباقي يذبل ويذوي بل يختفي من الوجود ,الشعور بالذنب ,هو الوهم الذي اسمعني صراخ الزوجة 0
سمعت الحارس يقول: أنت مجنون رسمي..
وعندما تفرست بوجه رجل الاستخبارات رأيت فمه مطبقا... لا ....ليس هو من تحدث معي ..
اسودت ملابسي من سماخ أرضية وجدران كوة حرق القمامة ,وجهي المبقع بالسخام ,أصابعي تفتل ضفائر سود تلتوي كديدان كلما افرك وجهي بإلحاح ,صدأ الوجه من رطوبة الشهر الثامن وبقايا الأوراق المحترقة همس خفي يأتي من الأعماق ..اسمعه بالكاد ..لا تلعن الظلام اشعل بطل النفط أبو العجينة ....اسمعه...
أنا أنجبت سعدي .... اسمع أبي ...الخضار تطالعني بفرح ...الحرفش والخباز يبتسم لي .. كل النباتات تنتظرني ,أوراقها متفتحة وبلون الزمرد ألحشائشي ...زهورها متفتحة بوجه الشمس التي تدفأ ظهري ...
كان ذلك في الخريف , بعد هطول المطر بأيام ,الليلة التي رأيته فيها يهبط إلى قعر الظلام في باحة الحوش ويخدر الشاي بالقرب من مدار مراح البقرة ...الليلة التي ظل ينفخ دخان لفافته ويشرب قوري الشاي كله ..مهموما ورأسه يهتز على إيقاع خفي 0
في أواخر الصيف أو في بدايات الخريف رأيته يبحث عن القرص الأصفر للشمس خلف غيوم التراب ,التراب الذي كون عمامة من خوص النخيل فوق نخلة البرحي التي أراها الآن من الكوة ,نخلة وحيدة ويتيمة تطل على روضة الأطفال والمستنقع الكبير 0
قبل وفاته بشهر قال لي :- انه لم ينم مع الأم منذ تلك الليلة الشؤمة ,ليلة الجمعة الأخيرة ,وان حنينه عاد بالتواء عجيب بتجسيد حبيبته التي أحبها قبل سبعين عاما وتوفيت كمدا لأنها لم تتمكن من لصق جسدها بجسده والإبقاء على غريزة الإبقاء على الحياة ...
اليوم الذي قررت فيه عشيرة العلوان في ناحية المدينة أن تخطب لأبي فتاته وبعد أن فصّل الخياط على مقاس جسده الطويل (قاط)ابيض من سترة حريرية وسروال أبيض من قماش الحلاوي ونعال يماني وعباءة جاسبي من صوف الماعز المذهب والمدروز بخيوط البريسم والذهب لكن أبناء شيخ العلوان الحاج عبد الحبيب ومن اجل ليلة مزاح دفعوا سبع ربيات إلى الخياط ليقص من طول الزبون ليصير مثل تنورة نسائية لفتاة تمريض ...الليلة التي غضب فيها الأب وأراد قتل الخياط لأن أبناء الشيخ قالوا بأنه أنت الذي أوصيتهم بذلك...
لم يلبس الأب قاطه الأبيض واسترجع ماله لكن العشيرة ألبست القاط لكل من يمسك البيرغ في مناسبات الوفاة والعراضة المزدانة بحناجر الشعراء وإطلاق الرصاص 0
وبعد إحدى عشرة مناسبة خطف أبي القاط ولم يعطه للشيوخ بعد ذلك وهذا هو سر رحيله من ناحية المدينة إلى قرية أبو حلوة في ريف كرمة علي . ولازال يلبس قاطه بتنورته القصيرة وعلى رأسه عقال اسود خشن مثل تاج ملكي في أبهى ما يكون السمو الإلهي للإنسان.
قد يراه الغرباء أشبه بالمهرج لكن الأعراب احترموه لبياض ملابسه ونظافتها وولادتها على مشيخة زائلة 0
في قريتنا التي على أطراف مدينة الزبير يلبس الجميع ملابس غريبة الألوان والأشكال التي مصدرها بالات فِطَيمة الدلالة...
فطيمة الدلالة السيدة الأكثر شهرة وطاعة في محلة الكوت من السلطة نفسها ، عبد الرضا ابنها الأصغر يشاركني الرحلة المدرسة في مدرسة أبي ذر وإعدادية الزبير وتخرج مهندساً يعمل في الحديد والصلب , كان أبي يتجرع في كل يوم مع استكانات الشاي مخدر الفقراء ، التأريخ الأسود الملون بالضياء افرز حتى الآن أكثر من ألف معركة منذ أن كانت البصرة خريبة تمتد شمال المربد وجنوبها صحراء النفوذ في الدريهمية . أيها القارئ يستحسن التوقف , قلت لرجل الاستخبارات بممازحة وضحكة مبتورة : لا تلعن الشر وإنما ... شمعة ....
ضحك الرجل الزيتوني ضحكة يائسة ثم اطرق قائلاً....
- يا أخي أنت أين وأمثال العرب أين....
ومازحته قائلاً تعني عرب وين وطنبورة وين - أنت مثل جرذ في الكوة وتضحك على نفسك ، أحب أن أقول لك .. أبقوك هنا من اجل معلومات حصلنا عليها من ضابط امن المنطقة سيد ضياء وهذا الرفيق الذي يكتب شعراً بعرورياً سالم منشد خنجر من أبي حجيم ويقولان عنك أنت زعيم تنظيم شيوعي وعندك بندقية مدفونة بالبيت ، حفرنا في جذور الأشجار ، نخلة البرحي والخضراوي والفحل الغيباني والسدرة وشجرة كف مريم وأشجار الرمان ، أنا لا اعرف أين ينام أبوك في الصيف ولو صح بيده لزرع الغرفة أيضا .. من أين جئتم بهذه الشجرة....
- تعني كف مريم .. هي شجرة برية ولها ورد مثل اكواز ذرة زرقاء برائحة تعطر المكان كله .... أبي كيف حاله....
- نائم ، أمك نائمة أيضا ... ! أخوك بحث عنك في كل مكان وأنا قلت له أنت موجود هنا ، أنت تعرف انه نائب ضابط معوق ورئيس عرفاء هذا الريسز .. وبسببك لم يرفع إلى رفيق وإنما مرشح رفيق غمرتني فرحة خفية .. كالرجفة التي سرت بجسدي ، المهم إن أبي يعرف إني على قيد الحياة وبالقرب منه .
وانطلق لساني بشعر أو لا اعرف ما هو:
يا ابن حاشوش كيف دارت بك المدارات أو درت بها لتستقر في هذا المدار وتحَدق أبدا في دائرة الصفر اللعين...
أحدق من كوة يدخل فيها الزمن ويدور في صرخة هائلة ,أحدق إلى مدينة الزبير المنزوعة الألوان إلا اللون البالي للرمل ... مدينة أثرية بدون خضرة تتعرج الدروب بين حيطانها العالية ، في كل الأزقة أشم رائحة الزمن لإشكال وحجوم مجسمات حيطان الطين.
كل الأزقة تنتهي بالجوامع أو سوق الجت والعبي والخرازة.
يتعرج الموت في أزقة المدينة ، انه الاستسلام المهين للموت هذا ما وصلنا إليه .
الفقراء سكان الرمال النائمة في دوائر الضباب يعتقدون أنهم قابعون في قاع البياض وان الجميع يراهم لكن الأسياد لا يروا إلا أنفسهم وبغتة يندهش العميان سكان الظلام الأبيض بأنهم كائنات مجهرية لا تُرى فتنقضّ من تلاشي الضباب زوبعة تحيل أعداد الأسياد إلى لاشيء.
ذاتنا اللؤلؤة لا يكشفها إلا ظلام الاضطهاد.
نقدس الذي عاش وحيداً ومات وحيداً ومعه جيش من المتوحدين أمثال ميثم التمار وعمار ابن ياسر وزيد ابن حارثه وابنه أسامة والمقداد وصاحبته المياسة وسلمان المحمدي وبلال..... لا اعرف كيف ولد أبي ضد كل الاختلافات ومازال يأخذ الحكمة من الأسود والصابئي والمسيحي وأبناء الجماعة حسب قوله عن سكان الزبير الأصليين....
أمي لا تزور في قضاء الزبير إلا أم حسين السوداء التي ماتت حزنا على أولادها المعدومين .. وأنا لا أنام إلا في بيت أم حسين مع صديقي حسين ويونس وحين أعدمهما النظام ولم تبق إلا الفتيات تعَودت الجلوس في الباب لأغفو الظهيرة بعد شهور من رحيلهما .
بحثت في الوثيقة السرية ، الوثيقة الشبيهة بمذكرات ماسونية والتي تأكدت فيما بعد أنها تعود للقرامطة لأعثر على سطر بخط اسود كبير .. كل الثورات تنبعث في دائرة الصفر وتنتكس في فراغها .. بحثت بين أوراق رواية كتبتها في بداية الثمانيات وحشرت أوراقها تحت عنوان الأفاعي وفوجئت بصفحات فارغة تتوسطهما أوراق كُتبت عليها جملة أو جملتان وصفحة مخصصة للمربع العاشر ضمن إحداثيات خارطة السلطة تحت عنوان مربع التناذر حيث تختلط أوهام السلطة بأوهام الشعب تمهيدا لمربع آخر هو التماهي...
عثرت بالصدفة على جمل ناقصة تعود للقرامطة تقول إن الإنسان المبني على أوهام خاطئة يكيف كل أخطاء البشر لصالح عقيدته أو يسقط في دائرة الصفر ولا ينتظر إلا نكاح امرأة بفخذين سمينين....
ظل الأب منتظراً الزعيم ومل الانتظار بل تفسخ من طول الانتظار وحين قالوا له إن الزعيم مات ظل يمشي للخلف وحين يجلس أو ينام تتعلق عيناه على سجادة معلقة فيها صورة عسكري بأسنان لامعة , في صباح الليلة الأخيرة رحل الأب والعجوز الفلسطيني وهما يتشحان البياض ويثرثران عن كل ما يتعلق بالأديان بعد أن سهرا الليل كله يدخنان اللفائف ويشربان الشاي قرب رأس ياسمين المدفونة تحت الرمال وأنا افترش حضن أبي حين سمعت المسيحي ينافق مأخوذا بتلاوة آيات من الإنجيل ويردفها بآيات قرآنية حينها قال : عندكم في القرآن سورة مريم اعتزازا بأم السيد الرب البشرية بينما لا توجد سورة عن آمنة بنت وهب أو السيدة خديجة أو حتى فاطمة الزهراء هذه السيدة العظيمة والذي انتم من أتباعها ,الإسلام هو الذي ثبت الدين المسيحي على انه دين سماوي وعندكم سورة المائدة والتي تشير للعشاء الأخير حتى بلغ بالقرآن أن يذكر عيسى أكثر من النبي محمد وجعل في قلوب المسلمين مودة خاصة لنا خلاف اليهود وباقي النصارى ,لا اعرف كيف اقتنع أبي بالرفقة مشيا على الأقدام لزيارة الأئمة وليودع المسيحي في الدجيل على عتبة سيد محمد ويرحل المسيحي لوحده على طريق الموصل ماشيا إلى فلسطين ليحج ويسير في درب الجلجلة ,اعتقد انه مات هناك بينما عاد أبي من حجه وكله انتظارا لأمل سيأتي وفي قلبه حقد على كل سلطة ,استكمل أبي اختراع دينه الخاص بتقوى تختلف عن شيعة آل البيت في مفهوم الثورة أما أنا راوي الأحداث فقد عشت بعد تلك الليلة بعبث صوفي وثوري لأني اعتقد إن من يتعلق بفتاة وهو في سن التدشين يصنع قضبان سجنه في الداخل ويلتذ بهذه الجدران كمرحلة أخيرة تحارب النفاق الخفي لكل شيء وتجعل الإنسان يحترم ذاته محاولا البحث عن الحبيبة المفقودة بكل الوسائل أولها الاقتران بفتاة تشبهها أو خلقها من جديد في لوحات أو نصوص بفيض فني , في كل نص ثمة جنون لهذا السبب أقدس بل اعبد الفن , أوصيكِ حسب القول المأثور ... لا تهدي من تعايش مع أخطاء متراكبة لأنه يسقط في خيانة نفسه .. قال الإمام علي : (اتركوا طول الأمل( أي لا تخنعوا للاضطهاد تحت ذريعة الصبر أو الخوف من سيل الدماء.
قبل وفات أبي تشممت رائحة التفسخ من طول الانتظار لكنه قال لي من النوم وأراني كدمتين زرقاوين على وركيه من طول الارتخاء على الفراش... في جسده رائحة موتى....
ظل أبي يحج كل عام إلى كربلاء مشيا على الأقدام وحيدا بعد أن رافق في السنة التالية من رحيله الأول مع العجوز الفلسطيني موكب أولاد عامر وبعد أن يلح بإجازة لشهر كامل ويتغيب عن عمله بضعة أيام يرضخ لها قريبه مدير دائرة المياه الجوفية عزيز البدران ويغض النظر عنها ,وفي صيف ما رافقته وفوجئت إن الأب يمر بديار حبيبته الأولى فضيلة ويركب المشاحيف ويسهر الليالي عند المعدان في هور الحمار مستعيدا ليالي عمله الأول في بيع التبوغ والشاي واندهشت أكثر حين وجدت نساء المعدان يقبلن يد أبي ورأسه ويلتف الجميع حوله بعد غروب الشمس حتى منتصف الليل ليقص لهم الحكايات العجيبة والغريبة وينقل للرجال أخبار العالم الآخر الذي يسكن اليابسة ,لا احد من هؤلاء مشى في يوما ما على شارع معبد بالقير ,كان أبي يعرض بضاعته من زاد التقوى ويرى تأثير حكمته في داخل الرؤوس المغطاة بكوفيات سميكة وأدركت فيما بعد أن أبي يبث أفكارا عن تقديس الإمام الحسين وان القرآن بالنسبة له مجرد بضعة آيات عن الفقراء الثائرين ثم يودع الاهواريين وينام في كل ليلة عند بيت يبعد عن الأول عشرين كيلو مترا ويجادل في أفكار غريبة عن الزعيم وثورة المضطهدين القادمة غير انه لم يؤمن بالأحزاب الإسلامية وإنما الإسلام ثورة دائمة .....
مثل صوت القطة التي اشبع صوتها مخاوفي وفي كل مرة ابحث عن مصدر صوت لطفل يبكي لكني أجد قطة ضابع تموء وفي كل مرة يترسخ حدس إن عبد الباقي مازال يبكي...
في كل مرة اخفي الواقع المريض في كل منا ,أصيخ السمع (من هم الذين يقولون ... وأجيب عن ثقة مبنية على خطط شطرنجية ... أبطال روايتي .. السجناء الذين نادى بأسمائهم ملاك الموت صاحب السجل الكبير ، البشر الذين يهرولون بدون هوادة وبدون رحمة لصعود الرابية لكي ينحدروا بسرعة اكبر ..)
تجيبني الزوجة:
- أنا لا افهم
- يجب أن تفهمي أنا لست الخالق .. أنا الجامع لحيوات السجن الذين خنقهم النظام ولم يستمروا في الحياة .. سأعيدهم للحياة واجعلهم يمارسون تجربة آمالهم المغتالة ، إحياء النصوص بلغة الحياة اليومية ، أنا مضطر للبحث عن لغة تستوعب ما جرى وسيجري ، جثث تزرق وتجيف ، وأخرى تحمر وتصفر وتجيف أيضا , جثث تمشي في الحياة ، أنا يجب أن أتسلق جدران الواقع المر والصعب واهرب من سجن مدار الصفر وبلغة الحفاة ، لغة المشرط في تشريح الجثث ، لأني العاقل المجنون الوحيد الذي تسلق جدران سجن الحارثية وجدران سجن مديرية الأمن العامة في اربيل لأرصد من فوق .. فوق القضبان .. كل السجناء الذين يلفظون الروح عن طيب خاطر.
أنا أبله من تعذيب الجلادين ولا يمكنني أن أفكر بمنطق مقبول مثلكم لهذا السبب أتذكر فقط ... الذاكرة هي التي تسقط كل فاشية في العالم.
لا تربطني الحبال إلى مرسى...
أرى أبي الحكواتي في صلاته يؤدي حركات رياضية روتينية يعيد تكرارها كل يوم ويحلم أن يكون الدكتاتور في اللاهوت والناسوت ,السيد هو الآخر وشوش في أذني بكلام غريب على انه هو المهدي حينها لم اقتنع بذلك مما حدا به أن يقول انه رسول المهدي .
وحين ينبثق الأذان من كل البروزات المخروطية اسمع بكاء على ذنوب اجهلها...
لاشيء سوى أني أحاول أن اروي وارصد مشاهد ما حدث ويحدث....
حكايات عن ضغط النظام على بالونه منتفخة بل التفّت أصابع السلطة مثل كعكة الأفعى العاصرة .. تعصر وتعصر مما اضطرنا أن نبرز بإصبع جانبي منسرب حينها رسمنا خارطة طريق لحياتنا المقبلة ، خارطة لكل إنسان بشعر طويل مزيت بدهن بشري وشفتين يابستين مبيضتين..
أبي يصيح عاليا .. يجب قتل قطيع اللاجئين لأنهم لم يدقوا الخزان ، اخبرنا بذلك أبو الخيزران في رسالة غسان كنفاني ,رجال تحت الشمس , والتي قال عنها أبي فيما بعد .. إن الدكتاتور احتل الكويت لاسترجاع اللاجئات الجميلات التي تمكن مهربو البشر من رميهن خارج الحدود قرب جبل سنام....
الآن عرفت لماذا أشعلت النار بأكواخ الأعراب وصومعة السيد...
الآن أدركت السرّ في استقبال أبي للشرطي الكردي الوحيد من بين شرطة الجمارك ..
الآن من فتحة كوة القمامة رأيت شرطي الجمارك الكردي يمتطي حصانه ويعبر المسافة التي تفصل بيتنا عن الجمارك والمقبرة وبعد أن أزحت البيوت والمدارس والأحياء الجديدة واستعادت الدريهمية رمالها ومستنقعها الشهير رأيت الفارس يسلم على أبي وينزل عن حصانه ويترك عنانه سائبا إلا أنه توقف ووجهه المستطيل يطالعهما ,سمعتهما يهمسان لبعضهما عن أمر جلل حينها سدّ الفارس حاتم بقفاه عتبة الباب .....
الأب الذي يحجل كالغراب ويمشي مثل الحمامة : يتمكن من سرد حكاياته الطويلة التي لا تنتهي أبدا ، حلمت به في اليقظة إن إحدى حكاياته قصمت ظهره إلى نصفين وظل طريح الفراش وكف عن تخصيب الأم التي حبست توسلاتها وأدعيتها عند رأس مرقد سيد احمد ورمت كل التعاويذ .. لا تريد بعد اليوم أي مولود حتى لو كان ذكرا...
وكف كلبنا الأسود العجوز عن التسابق مع الكلاب بقطيع مصغر خلف كلبة مذعورة وظل ينكح نفسه بنفسه ويرهز الهواء ويداه تتشبثان بدكة التنور ليتحول فيما بعد إلى مثل يضرب عن إنسان متوحد شره يقابل خيره بالتساوي وكأنه غير موجود ,ما زلت أسمع عبارة مثل كلب بيت حاشوش على لسان الأعراب , فيما توقف قطّنا الأبيض مريم عن المواء والعراك مع القطط وثمة قط صغير مازال في دور التدشين يعض رقبته من الخلف ويعلم نفسه النكاح فيما تظل عينا القط العجوز مفتوحتين دهشة لتتابعني بصمت وما زال الأعراب يلبسون دشاديش بصبغة سمن البقر المدخن ، ليقة اللون البالي للأرض.
لأني أعيش في عالم مفترض وخيالي وعجائبي وبدون أن أعي وجدت نفسي احد أبطال روايتي . وأتحدث بجهد طوعي عن الذين لا يقدرون على التحدث عن أنفسهم.
بعد سنين من احتفاظي باللباس الداخلي الوردي لسهام الذي وجدته مرمياً على مبعدة من حمار سباهي قرب المعسكر والذي لبسته في لحظة فراغ لأتجول نصف عار في باحة البيت أو تحت ظلام الليل على ضفاف المستنقع وقد اثمل من زجاجة عرق وأنا على هذه الحالة لأدرك فيما بعد إني المغتصب وليس سهام الحبيبة..
دودة الإسكارس في أمعائي استغلت القذارة و لتتعافى بينما الإنسان الطفيلي هو الذي يصنع الفراغ والاضطراب أو الأزمة ليأكل فيما بعد الثمار بعد أن يرسلنا نحن العائل إلى الجحيم وينتشل من ربّى في أعماقه داء التطفل من الإعدام ليصير عائلاً بديلاً لأن كل طفيلي إن كان بشراً أم دودة عليه إن يحافظ على العائل الذي ليمتص قاذوراته بشراهة ، وحين ينشر البؤس والظلام إلا ليكون هو العادل والضوء الأخير...
ومن المحتمل إني بقيت على قيد الحياة بعد أن ربيت الازدواج بين الدودة والثورة لأصبح عتلة ضمن ماكينة التطفل والخيانة للذات ، الخيانة الهائلة من اجل أن يكمن العدو في داخلي ، العدو هو الخوف والإحباط ، أدركت كل هذه المطحنة الهائلة بإطلاقي الرصاصات الثلاث أو الأربع على الفرقة الحزبية للنظام لأكتشف إني أطلقتها على العدو الخطير في أعماقي ، إنا فيلسوف الخوف والعزلة ، اكتب لك عن كل من قدم نفسه عبداً للأحزاب وانتهي للمشنقة أو في قبور جماعية وكان أسير الوهم , العدو البارز هو النظام وقبله أسياد المال ولكن الجذور تكمن في أعماقنا ، العدو هنا وليس على حدود سوريا أو الأردن ... بل نحن الذين نسمن ونطيب العدو بالروائح العطرة .. العدو نحن ... قف ... لا تزحزحْ الخيال جغرافياً ، مازال العدو هو السلطة ومنذ عقود .. ليس خيالك معطوبا وإنما عقلك كله..
نعم .. من المحتمل إن خيالي معطوب فعلاً .. لأني الوحيد على سطح هذا الكوكب يحاول أن يصنع وطناً فنياً ومفترضاً على ورق بعد أن يئست من هذا الواقع الذي هو ليس وطناً .. انه مجرد نفاية للإنسان ,إن هذا الواقع نحن صنعناه بخيالنا ..ليس حقيقيا وإنما نتخيله فقط لهول ما فيه من بشاعة لا يمكن أن يقبلها عقل الإنسان السوي ,الوطن ليس بيتاً أو عدة بيوت وإنما المكان الذي أتحسس فيه بأني لست وحيداً في مواجهة العالم.
بعد سنتين تمكنت من سرقة كتاب وعاظ السلاطين للوردي لنتابع أنا وأبي أخبار أبو ذر ..أقرأ بصوت عال وأبي يبكي ولا أسمع منه ألا كلمة ...الله ..الله ..,استطاع أبي أن يكون له مريدين في جنوب العراق ..مسلمون شيعة أقرب للشيوعيين ليستعيد زمن الزعيم المفقود لأدرك فيما بعد انه القرمطي الأخير ..أما أنا استطعت أن أكون تنظيما مسلحا عام 1978 وإعلانه في مقبرة الحسن البصري وأغرب ما في التنظيم انه يتعلق بالإمام الحسين وأبي ذر وجيفارا أكثر من مرجعيته لماركس ولينين لأطرد من الحزب الشيوعي باعتباري فوضويا .....
الكتابة ليست لتصوير الحياة وإنما إدراك لها....
جمدت أمي كالتمثال بقبعة ملفوفة من قماش مخملي اسود قبالة البقرة , بعصاباتها السوداء المتبزلة الأطراف وبقذال معقود لتبسبس بدعاء يصعد بكل التراتيل للسماء وبغتة رمت عمامتها لتنفش شعرها الأكر المتكوم على شكل محابس بحجم دورة إصبع الإبهام من نوم قلق على وسادة جاسئة ، مازلت تتثائب بكلمات مشوهة ، غير مفهومة ، مقضومة الأواخر ، متسارعة ، متراكبة بدون مواصل ، وعلى الرغم من ابتلاعها الحروف الأولى من كل كلمة ثمة اتفاق خفي على التفاهم ، أدرك المعنى الخفي من النغمة .. الإيقاع الخفي الذي لا يزيف ، ما يخطر في الرأس يتلقفه اللسان ، كانت ترثي بقرتنا الحمراء الوحيدة المتهالكة سوية والأرض في وسط الباحة والثدي المتورم بالحليب يغطي السيخ الحديدي الذي يربطها للنواة المركز ، أنا جالس قرب الثبات المركز وأمي التي اعتمرت عمامتها السوداء المفروشة كقحفة مبرومة من لفات سود تغطي عصابتها السوداء المتبزلة الأطراف اللامعة بكلاب ذهبي ثبت مثل الزرد بليرات ذهبية ثلاث ، الكلب يبتسم تارة وأخرى يبكي قَبالة البقرة حين رآها تدلق لسانها المتورم والمحزز بالشوك ونشارة الحديد ، أنا في نواة الباحة حين سمعت الكلب يهمس في إذن قطنا العجوز بأن البقرة تعلس شدائد الثوم وصفائح المعجون المتأكسدة ، كلبنا الأسود الوحيد الذي يبكي بين الكلاب بعينين حمراوين مثل زنجي مستعبد ، وحين يبتسم يفرج عن أسنان صفر وغالبا ما يعض كفل البقرة ليمازحها .. ، أنا مباغت بشعور غريب حين نزلت من دائرة السماء إلى باحة الحوش المعتمة برائحة الأسماك المجففة والدخان ، سارعت بالخروج من الباب المواري ببارية مؤطرة بشدات من القصب ، مجانين القرية وبعض المنغوليين والمعتوهين ينسربون بين فجوات الخيام وبيوت الصفيح ، بضعة رجال بأثواب بيضاء نحيفة يترنحون من غثيان خمر الليل و النكاح ، أبي بفراسته يميز الرجل الذي نكح قبل دقائق أو قبل ساعة بل ويجزم أن المنكوح امرأة أو فتاة صغيرة من مصران مخرجها أو غلام صغير لم يتدرب بعد على إيلاج الأير في أسته ، تعلمت من فراسته أن أميز المرأة المنكوحة عن غيرها من النساء حين تفرج ساقيها وتنزل بقدمين مسطحين على الأرض أما إذا نزلت قدمها على باطن مسطح تكون مرضعة وولود لعدة أطفال ولم اعثر في القرية على فتاة تنزل على كعبيها ، جعاز القدم هو العذرية المتبقية ,كثرة اللعاب المنسرب من غمازتي الفم والذي له تأثير على سرعة النطق يدل على شذوذ جنسي عند فتاة غير متزوجة وغالبا ما تمتص العضو وتدخله في دبرها ,أبي يدرك هذه المسألة من ضعف الشخصية والحركة الهستيرية المفاجئة ، فراسة أبي المنبثقة عن دربة ودراية ورصد دقيق غالبا ما تصيب ، الإنسان بالنسبة له مجموعة إشارات لا إرادية هو يدرك إن الفتاة الباكر تصم إستها بضم كرتيها إلى بعضيهما مع إرجاعهما للخلف مثل فجرة امرأة سوداء إذا داعبها رجل دون أن يدخل فيها ، الفتاة المتزوجة قبل أيام تفرج ما بين قدميها حين تلامسان الأرض ,تعلمت من أبي حكمة ذهبية ..الذي ينام مع من يحب من الدبر يكون ذليلا في الدنيا قبل الآخرة حتى لو كان تراض على هذه الذلة بين الطرفين, أنا إذا داعبت أليفتي بعضوي تقدم وسطها حين تمشي بدعارة مع ابتسامة ثابتة على شفتين ، أمي تدرك النساء من عيونهن ، نحن عائلة تختمر فيها خبرة العرب الجنسية وتردد صدى كلمة النكاح تحت تأثير السيد وألف ليلة وليلة وأعني حكايات أبي التي لا تنتهي .
افترشت الفسحة بين ارو مات الحنظل والحرمل والشفلح المعرش بورد ألق وناصع البياض ,الحرفش مازالت وروده الصفر العجائبية مفتوحة قبل أن تلتم خائفة من ضياء الشمس الساطعة ,على مبعدة يقتعد الأقزام عتبة باب دارتهم الجينكو ثم التفت ثانية وتأكدت إن الأقزام يقفون مثل سناجب حذرة من الخيول التي تدور حول سلاسلها في إسطبل مبنى الجمارك المفتوح والمطل على أساسات المستشفى والشارع العام والقبور في مقبرة سيد احمد ، نسيم بارد وثمة أفق داكن الحمرة ترتعش دمائه فوق رؤوس تيتان نفط الشعيبة البعيدة ، وتناهي لأذني ثغاء خراف أو صوت آدمي مبتور وبدون أن أعي وجدت نفسي في باحة الحوش قبالة البقرة يطالعني الكلب والقط بأذنين صغيرتين مرفوعتين دهشة فيما نقر دكنا الأمريكاني بوقاحة بثرة في رقبتي فيما انسابت مستعمرة الدجاج هائمة في الصحراء القريبة تبحث عن جراد أو روث البقر المجرور بالعربات للمجزرة القريبة ، أمي تقف بقلنسوتها السوداء المؤطرة بخيوط لامعة والمزينة بجنكال أو كلاب ذهبي بطول راحة يد تتوسطها خضرمة زرقاء مثل قائد بدوي.
سألت عن البقرة وأجابتني... الله ، كل شيء يعود له ... لاكتشف فيما بعد إنهما يؤولان الآيات تبعاً لفقداناتهما المضطردة ، اكتشفت خفايا عقلهما الباطن الموَحد حين أجابا إجابة واحدة واتفقا على صمت آخر , قفز هر صغير على هرنا العجوز وهو نائم وسلخ لحمة صغيرة من رقبته ، ذلك الجرح المميت الذي جعله قبل أن يموت يتبرز يساريع صغيرة بدلاً من البراز بعد أن ظل يموء صباح الخميس الذي هيأ نهاره لليلة ألجمعه الأخيرة ، في الحقيقة حدثني القط بلوعة عن حاجة ماسة لهرة لا تضطره للعراك من اجلها لكني تجاهلت رغبته وكان من المفترض أن يمؤ عالياً أو بصراخ غاضب حتى يكبت رغبته الجنسية حين أومأت الأم بصمت وخرست كل أفواه الضفادع المتهالكة على قشاش الباحة ودنوت منها وجلاً .. حافياً .. أنا لا اسمع إلا صوت ارتطام قدمي بالأرض وتطاير دخان الموقد من رماد جلة خافتة ، في عتمة الصريفة وعلى ضوء بطل النفط المعمم بالعجينة رأيت أبي يمد منجلة الأثري على مبعدة من جسده وثمة خوف هائل , يرتعش المنجل تحت بريق مسنناته ، عيناه تبحلقان على هطار الخص المسيع بالطين ترقبان أفعى سوداء تنساب بتمهل خوف السقوط غير مبالية بالوحش الإنسان لاعتقادها إن الإنسان العربي كائن غير مخيف وإنما مهرج مثل ديكنا الأمريكاني الأحمر ، رأيت المنجل يدنو من رأسها مرتعشاً وفجأة علت صرخة من فوهة أبي أو من رأس الأفعى .. وقد يكون الكائنان نفثا صرخة مبتورة معاً ، صرخة القاتل والقتيل ,أعظم ما في تلك الصرخة هو الغضب ، غضب أبي المكبوت في أعمق أعماق اللاوعي وامتزج الصراخ وما زال أبي يحزّ الجدار بيد مشلولة على الرغم من تهافت جسد الأفعى المنهوي على حافة السرير الخشبي المزين بالزجاج الملون اللامع على ضوء فتيلة بطل النفط الذي رجّ أبي سائله بشدة ، لا اعرف أين انسل رأس الأفعى لتوقف الثغيب الشبيه بصوت امرأة ذبيحة وصوت أمي المدمر والمتوسل مثل صوت كلب جائع .. ( قال لي عقيل سيد زيارة فيما بعد : ليست اللغة العربية أن تكتب بسذاجة أطفال فأجبته إني كتبت بهذه النغمة آلاف الصفحات لأنها لغة الواقع التي تزيل الهيبة عن كل مسكوت عنه ) لأن أبي يلبس سترته البيضاء بدشداشته المقطوعة من النصف مثل تنورة مضمدة معتوهة وبالكاد حين حرك ذراعيه رأيته يلبس سرواله الداخلي الأبيض القصير لأتأكد في نفس اللحظة إن ملابسه تدل على يوم استثنائي لا اعرف بالضبط ما هو وما الذي يخطط له ضمن برنامجه الذي قاطعه كشيش الأفعى ونسى أن يلبس كامل قيافته المجصصة بالبياض.
انتصبت كفزاعة طير مولعة بالفضول والاندهاش ، تطالعني البقرة بعينين سوداويين ، عينا عاشقة تتوسطهما فيروزة مفلطحة بثقوب الطلاسم والأساطير ، الأب يرفع الرأس المقطوع فوق قصبتين واللسان المشطور الوردي مازال ينبثق ويلج الفم بسوائل مزبدة فيما تشبع انف الكلب برائحة الرأس أما القط مازال انفه يبحث عن ماهية الرائحة ويربض سوية والأرض ويده اليمنى بمخالبها المشرعة تستعد للعراك ، الرأس يبعث رسالة أخيرة قبل أن يدمسه الأب تحت جمرات الجلة وحين تصاعد دخان ابيض نقي ابتعدت الأم خائفة من تراث سري ترجمه خلخالها الفضي برنين منبعث من أعماق التأريخ ,صاح الطائر الططوة عدة صيحات حينها تعوذ الأب من الشيطان لكنه صمم على عدم الرحيل من الأرض وهرولت الأم تبسبس بدعاء اجهله لترمي بذور حبات الحرمل الجافة في موقد النار وتصاعد الدخان هائشاً ليطرد الأرواح الشريرة والبق والبرغش والذباب المنزلي وذبابة الخيل الزرقاء التي كف ذيل البقرة عن مطاردتها من الملل.
عصرت الصمونة العسكرية المسودة عدة مرات لتدريب يدي اليمنى وعدت للكتابة بيدي اليسرى التي ترسم حروفاً كبيرة غريبة عن كتابة الحروف العربية....
أذن المؤذن بصوت يشبه ضرب الطبول وصاح طائر الططوة صيحتين...
دسّ الأب قصبة بطول ساعده الأيمن تحت الأفعى المقطوعة الرأس بعد أن خلعت جلدها تعبيراً عن الموت ليرفعها عن الأرض .. نادى : يا سعدي .. في البئر المهجورة .. كل الأفاعي ترمى في الظلمة ، خرجت وجَلاً دون انبس بشفة , يشب الكلب الأسود محاولاً عض الذنب الغليظ بأصداف رمادية رخوة وحين طردته ابتعد مستفهما وأقعى على عقبتيه ورأسه يلتوي مع القصبة ، اتسعت عينا قطنا مريم ، وجدت سهام تمشى على غير هدى صامتة بوجه حليبي البياض محدقة بوجهي ومن بين الأكواخ نادت الأخت الفلسطينية وحين التفتّ اليها ألحت على مرافقتنا لرمي الأفعى في البئر المهجورة ، كل لاجئ يقتله الفضول وبذات الفضول نفسه اجعله طيعاً لما أريد ، لكني لا أريد شيئاً من كل لاجئة في العالم وإنما أريد حبيبتي .. كنا صغاراً تلفنا لغة عجيبة التفاهم والوضوح ، التدشين الرجولي والأنثوي الأول.
رأيت عيني سهام تبحلقان في الكثبان الرملية على يسار القلعة العثماني المطلة على الريسز ، اخترقت عيناي السفوح المخضرة ، ثمة فارس بحصان ابيض وملابس خضر ، ثلجي البياض ، عرفت فيما بعد أنها الفرس البيضاء الوحيدة في مبنى الجمارك القريب لدارتنا ، فرس ثلجية تتجاذبها الريح ، لا تتقدم .. لا تتقهقر ، يراوح الحصان في مكانه وسط حوئب تنفخه الكلاب ، أبواق الصحراء القديمة ، صهلت خيول معارك الجمل وزمر بوق الزنج ونحرت الصحراء خيول القرامطة ، اسمع صهل وشهيق دواب الفقراء من كل الأصقاع , اندهشت ـ كل شيء مدهش لي في الطفولة ـ كيف تعبر الأصوات المسافات ، دهشتي ازدادت غرابة ، لم يكن الذي اسمعه صهيلاً بل نهيق أحمرة القرية وصهيل محموم للفرس ، بعد أن شهق حمار سباهي واخذ يعدو خلفنا ، اعتقد أو على ما يبدو أن الفقراء لا يمتطون صهوات الخيول ، ثرثرت عن أشياء عديدة ، عن أحداث انثالت في الذاكرة ، عن كرامة وكبرياء الكائنات ، حدثتها عن الخنزير حين يفلق البطيخ بنابه في حقولنا التي غطست تحت الماء في قريتي الأولى ، بحثت عن الاندهاش ..الفضول في عينيها ـ لم أجده , لأني منزعج من وجود الأخت الفلسطينية وضياع فرصتي بالاختلاء بجسد الحبيبة.
عيناها الصغيرتان - مثل العيون الملتصقة بوجوه الأطفال - تسمرتا بعينيّ متسائلة
- لماذا تلح بالركوب خلفي على حمار ؟
أجبتها لاهثا بنزيف مراوغ
-لأني لا اعرف كيف اركب على حمار!
هي تعرف بطبيعة الأنثى إني كذاب كبير ، وعندما بحثت بيأس عن شيء غير مرئي كركرت بنعومة الأطفال وشبّتْ بخفة على ظهر الحمار وتناولت القصبة من يدي اليمنى لأتسلق القفا الناصع البياض ولكن بالمقلوب هي تنظر للأمام وترفع العصا مثل راية وأنا انظر للخلف شامتا بالأخت الفلسطينية التي تسمرت في وقفتها وسباهي القميء الذي يهز يده استنكاراً لالتصاق ظهرينا ـ لا يعنيني سباهي بشيء ذي قيمة لسمعته الرديئة ، ولأنه فخور بالرجل الذي يحرس الماخور الكبير في الحوطات المقابلة للفرقة الحزبية 0 الآن ..ما زال يسكن عبر الشارع ـ باستعماله لمتعته الجنسية مقابل مائة فلس ، لأدرك انه يشير لجماله الخفي الذي رآه الرجل وحصوله على الأموال لكنه لا يرى أن طفولته سرقت ... لذلك السبب وحده يجهد بسرقة طفولة الآخرين .. ، ليس هو الذي لا يرى بل لا يريد أن يرى , أنا اعتقد انه لا يمتلك أدنى فكرة ، مهما كانت بسيطة أو عفوية عن كرامة الإنسان .. ما أنا بكائن غريب الأطوار ولو إني لا يحق لي بالحقيقة ـ بالحديث عن ذاتي في الرواية المقترحة ، واحمل صك الحياة بجيبي ، أو ارتدي بذلة ضد الرصاص ، لأني لم اقتل في الفنيطس حين سلكت اللسان البحري المقابل لبيت (أبو) خمسين الزجاجي الأزرق في عصر يوم رطب لاصطاد بصنارة بلد من اللايلون اسماك البحر بعد أن أعددت الطعم اللذيذ من أمعاء دجاجة فاطسة ، استأذنت من الحرس التابع للواء 45 مشاة وعرجت على الصخور واصطدت كائنا يقفز تحت الماء بمسافة مخاضة رجل طويل القامة لأكتشف سرطان بحري ملون بالأبيض والأزرق ولأني لا اعرف أن هذا الحيوان يؤكل لذا سحقته بصخرة مسننة وألقمت صنارتي قطعاً منه وأخذني الصيد الدسم لأسماك الزبيدي والعروس وحين رفعت رأسي ارقب البحر رأيت ظلام الغروب ومثل الذي لدغته أفعى وقفت مفزوعا وسمكة الزبيدي تلمع مثل الفضة في الصنارة ,ارتميت على الصخور مرتعباً من إطلاق نار ، أطلق جنود اللواء من خلف خنادق المكلفين بحراسة البحر من إنزال الغواصات البريطانية والأمريكية النار من كل الأسلحة ، حتى من المواقع الرشاشة المخصصة لمقاومة الطائرات والسفن ، هاونات 106 تدوي قنابرها قرب رأسي ، شظايا الصخور أدمت ساقي وثمة مكبرة صوت تنادي .. اكشف عن نفسك .. أنا اصرخ بكل ما أوتيت من قوة : أنا معين المدفعية سعيد حاشوش ولكن لم يسمعني احد.
بغتة سكت إطلاق النار وسمعت ضابط المدفعية يصرخ على الجنود أن يتوقفوا عن النار ، شعرت بالأمان وما أن وقفت وإذا بالجيش العراقي يطلق النار كله دفعة واحدة فوق رأسي , خطوط حمر وقنابر مضيئة ترسم خيوطاً من دخان وسمعت أصوات الجند تقترب مذعورة .. وقبل أن يصلوا إلى مكمني نادى احدهم : اكشف عن نفسك .. وحين وقفت أطلق احد الجنود على هيكلي زخة رصاص ، اسمع الضابط يصرخ .. لا تطلق النار .. اسمع الجندي يقول : سيدي العدو الذي وقف قبل قليل أطول من هذا , عملاق يشبه جنود الكوماندوس.....
لا اعرف كيف مازلت واقفاً ، بحثوا عن جروح في جسدي ولم يجدوا لكني لم استطع ابتلاع قطرات الماء بعد توقف إطلاق النار لبضع ساعات قلت لهم : أخبرت الحرس .. لكن الجنود استبدلوا بالمناوبة على ما يبدو , أنا ..أعني إن مشكلتي تكمن في الخوف ، حياتي كلها مبرمجة على صراعها مع الخوف ، اعتقد إن الخوف لا يعني الجبن عن المواجهة مثل الأعزل من السلاح لا يعني انه اعزل من المواجهة , تعلمت أن اخفي الجبن في هجومي الانتحاري في الشطرنج .. أن اقتل بماسوشية رهيبة ، على ما يبدو إن التعذيب في السجون هو الذي جعلني انتحارياً مريضاً ، في وكدي أن ازور سهام النائمة في القبر وأحدثها عن تحرري العجيب من الخوف حين أطلقت على فرقة القوماج الحزبية ثلاث أطلاقات أو أربع ، أدرك إن الهلع هو الذي اسقط بندقيتي بعد أن سمعت أزيز بل دوي انفجار الخرطوشة ، أنا نادر جداً لأني جبنت من صوت أطلاقتي وهذا يفسر سرّ الضغطة المبتورة على الزناد من الأزيز وليس عن هلاهل كانت مخمورة.
حتى حين صار سباهي لصاً معترفاً به ويحترمه النشالون وأنا ارقبه وأنادي بصوت مخنوق على إغراء الأطفال من اجل تسويق بضاعتي النادرة من فرارات ملونة صنعتها بأصابعي من أوراق الزرق ورق وعيدان القصب حينها أدركت إن سباهي يسرق كبار السن لان جسده سرق منه ويريد استرجاعه بالمال لأن أبي الحكواتي يقول إن المرأة إذا سُرِق جسدها وهي صغيرة تحاول استرجاعه حين تكبر بكل الوسائل حتى بالتسول من الأسياد ... أبي عبقري الزمان الذي يجب أن يهدي الناس للثورة ..لا يكفي بضعة مريدين.
وعلى ما يبدو أن الحمار يسحل مسرعاً ، هذه الطوبة .. هذا هي الصرائف ، عمال أجانب بوجوه مسلوخة يلحمون أنابيب حديدية بشعلة شمسية زرقاء ، حفارات بوكلاين تحفر شقاً موازياً للأول ، قفزت سهام بخفة لنحافتها وتسلقت الرحى الدائرية البيضاء ، أومأت بيدها لكي أتسلق الأنصاب معها ، انتبهت لوجودي الزائد عن الحاجة والأفعى مازالت مرتخية على القصبة حينها التفت الحمار وطالعي بوجه مستطيل ، انتصبت أذناه الصغيرتان واتسعت عيناه وكاد أن ينهق لولا الحياة التي سرت برعشة وسمعت صوت الدبيب بجسدي النحيل تحت شمس لا ترحم ، غمرتني نشوة عنفوان الحياة حين بانت سمانتي ساقيّ الحبيبة تحت أثوابها التي مازالت تنحسر ويضيء أسفل فخذها الأيمن وهي تمارس طقوسها السرية فوق الرحى الأثرية وتحت منارة الخطوة , ثمة من يشتت رغبتي العنيفة ، يشظي نوازعي السرية ,يعزلني عن الحياة ـ اللحظة ـ التي التفت اليها في سماء الحي ,التي ساحت معتمة مزرقة مثل بصقة حمال فيها أجساد النساء بكتريا تصارع جدران من فراغ , تجعل النساء يختبئن محطمات تحت فحل السيد الملول من المضاجعة...
قبعت تحت ضغط وتأنيب لأني مازلت واقفاً ـ أنا والحمار ـ على ارض مقدسة ، رأيت الحبيبة تهرع للبئر المهجورة ، عرجت خلفها , ثمة سر خفي جعلنا نأتي بالأفعى لهذه البئر المهجورة ، كأننا قبضنا على الشيطان لنودعه سجون الأوصياء ,ناديت الجن بأسمائهم ..طمطل وطمطال وتيتاو وقيساو ومازر وكمطم وقسورة وطيكل وعشائر الجن من بني قمقم وقيقان ودهمان ,لم يجبني احد , قرأت فيها بعد إن الإمام علي بني أول سجن في الإسلام -للأشرار والزنادقة ـ وفي نفس الصفحة قرأت أن محمد ابن موسى اخترع الصفر عندما بصق على الرمال بعد أن جفّ ريقه من حساب الأرقام التي يحفر رموزها بعصاه على شكل خطوط متوازية ليعدّ المقاتلة الجند الفرسان والمشاة وحاملي أقواس النشاب والأعمدة....كان الصفر ابن بصقة رجل متعب.
على حافة البئر المظلم تمهلت وجلاً قبل أن ارمي الحية ــ الفقراء كل حية كبيرة يطلقون عليها أفعى للتهويل ـ لم يكن البئر عميقاً ، لأول وهلة بدا مظلماً ثم انقشعت الظلمة عن بقعة ماء اسود مسوّرة بطابوق احمر متآكل ، انتابني إحساس الخوف والغياب وعيناي تجوسان عقب القاع ، ارتعاشه خفيفة ظلت تسري وتنغر في الأعماق , أنا لا أريد أن اسرد لك ما تجهلينه بل ما اجهله عن نفسي ، ابحث وابحث عن أعماق النفس الغريبة ، النفس التي تحب بجنون وتكره بجنون , في ذلك الشهر الأخير الذي لم أتأكد بعد هل أنا رجل أم امرأة ... النفس التي تعتاش على ما يتركه الجيش في مدرسة القتال من الشوربة والمرق والصمون العسكري وتحلم بتحرير فلسطين قبل أن تحرز نفسها من طفيليات العقل والبطن .. من اليساريع وأفاعي إسكارس الصفر ، كل الأحلام مهملة ومؤجلة ولا تؤججها إلا أنشودة هذا هو دربي ... أنا أركز فقط على الأحداث التي تعطى للموت والآثار المندرسة معنى ما ، لاشيء ، سوى حمأة الشمس والحنظل والشفلح ورائحة الحرمل ومنارة من طين تشبه قبرا سماوياً حين يتربع الله وحيداً في الزرقة الواسعة...
تسلقت الأليفة الأسوار ، أسوار تحن لأمها الأرض .... تتهدم تدريجياً وقد تتلاشى بعد سنين ، الزمن وحده يضفي الجمال على مخلوقات الله القديمة ، عندما تنهار الزخارف وأبواب الصاج المطعمة بالفسيفساء بانحرافاتها الهندسية النباتية المتناظرة والمتشابكة ، نباتات تتشابك بأذرع وسيقان آدمية ، أحرف الخطوط القرآنية تتشابك بتعريشة نباتية ، أنا متوحد في إدراك السر الإلهي في غيضة التشابك الذي يعبر عن خصوبة وحب مجنون ، يولد الجمال وحيدا ويموت بين الناس .
ثمة وجوه مضيئة تتألق في صور ثبتت على الجدران الطينية للمنارة (المنارة في حقيقتها ركن جدار مطل على نهر مندرس والرحى البيض هي أعمدة تسند سقفاً من خشب الجندل والجاوي والبواري والقصب حيث وقف الإمام علي وخطب : البصرة عابدها عابد وساجدها ساجد(
هذا المسجد الجامع لمدينة من طابوق مفخور يلون الأرض تأثر مهشماً بمطرقة الزمن.
سهام وحدها تنبثق بين الكثبان المغطاة بالشفلح والحر تش والشويل والحمض والحرمل والحنظل وارومات ألمرخ الشبيهة بالأثل ، الأزهار البيض للشفلح والبنفسجية للعاقول ومستعمرات مبثوثة على الرمل لأزهار صفر تلون القرنفل البري والحرفوش المتسامق في أوراق شديدة الحمرة....
ترفع وجهها للشمس ، يضيء بأوردة زرق ، تلمع عيناها بوهج أدرك سره ، تبتسم راكضة للنصف الطيني من المنارة تاركه طابوق بغداد المنجور بأناقة ، الجهة المطلة على العابرين في الشارع الاسفلتي الذي يخترق أشجار الأثل تهمس بآيات اجهلها و تحاول التطهر من ذنوب ترغب بها بشدة أو تأمل بمراد قد أكون أنا ، في لحظة اتحاد مع ألاف الفتيات عبر التأريخ.
على حيث غرة يفزع الحمام البرى و يطير من بين الشقوق ،التفت سهام ضاحكة وتومئ إلى رغبة سرية ....
- الخطوة مهجورة .. اعتقد إن اليوم ليس جمعة .
يأتي صوتها متناغماً مع الرغبة الخفية في الاحتضان ..
- علينا أن نجمع كارات الحمض اليابس ونحش الطراطير للحيوانة والخراف والسخول .... اعتقد إن الطراطير والبطنج أيضا أزهر....
قلت :- تتحدثين ياسهومه وكأننا في نهاية الربيع وليس الآن هو الخريف .. ألا ترين الشفلح احمرت ثماره واصفرت ثمار الحنظل كالبرتقال.... يُخيل إلي إن الأفاعي ترتاد الأماكن المهجورة ,يجب أن أتحرر من الخوف الذي يشلّ فرحتي بالفتاة الوحيدة التي أتمنى البقاء جنبها ، لا يمكنني التآلف مع أفاعي الصحراء ، أفاع بدوية لها وبر اسود وقرنان صغيران وأهداب لامعة ، اصداف حلقية مسودة مزرقة تحت الشمس ، أفاع ملساء من التسلق أو الاختباء ، عرابيد بوجه بومة بتراء بطول ساعد أبي الأيمن ، بالتأكيد ومن الجنون أن اعش مع حنش بدوي في صريفة واحدة ، اكتب لك عن كل شيء لأني انحدر باستمرار نحو كارثة أو انتحار ضد السلطة ، أنا لا اعرف ما يحدث في المستقبل ، لكني لا استطيع التعايش مع البدو ، البدو العرب .. أول اثنين في الإسلام هما علي والزبير ولكل منهما سيف شهير ، ذو القفاز لأول فدائي والآخر الذي (يا من خدم الإسلام بسيفه وهو أول محارب ... تقاتلا هنا ، على الأرض التي نبتت أزهارها عن سبعين ألف جثةً ، ارض القتلى وأم الأحجار الكريمة ، قرأت فيما بعد في الجزء الرابع لكتاب ديورانت ـ قصة الحضارة ـ إن الزبير له في كل مدينة قصراً وزوجة وخادمات وان علي لا يملك إلا بستاناً ورثته فاطمة في البقيع ... أنا سأتبع الذي لا يملك شيئاً لأني لم ولن املك في المستقبل شبراً في وطني , أنا ابن الطبقة الزائدة أو قاعدة جملون السلطة ..أنا أقدس الزبير ابن العوام لأنه قالها صراحة إن الفتح الإسلامي ما هو إلا غزو وسبي وغنائم مثلما ورد في كتاب أنساب الأشراف في الجزء الثاني ..الصفحة 271 (حدثنا ها هنا بيضاء وصفراء ,دراهم ودنانير ,فجئنا لنأخذ منها )....
تذكري إن المكان الذي أقف عليه والذي راودتني فيه نزوة - (أنتِ) تعتقدين بأنها شيطانية - تحول إلى قاعدة صواريخ ارض ـ ارض وارض جو ، وهناك في باب الريسز على جهة الشارع العام قتل سباهي باطلاقة من الحرس الجمهوري ، اعني باب النظام ، لهذا السبب وحده سأروي كل شيء ، أدق التفاصيل ، الطفل هو الراصد الحقيقي للأشياء ، تجربتي في الطفولة هي التجربة الناضجة الوحيدة ، أرجوك لا تنزعجي ... لاشيء زائد في التفاصيل المرصودة ، في أعماقي هدف أسمى من كل الأشياء المروية ، انت وحدك ... آخرة الليل .... ستكتشفين ذلك...
صواريخ ارض ـ ارض ، ارض ـ جو تشبه عضو فحل طائر تبحث عن أنثى لتنصهر في لزوجة أعماقها...
نحن لقطاء الواقع .. يجب أن نقفز فوقه لنرَ بشكل أفضل , رائحة شط العرب سنخة مومس عجوز.
كل شرطي في العالم نبول عليه مثلما قال تومان العبد وأنا احلم أن أنادي الشرطي بكلمة يا أخي أو أناديه باسمه الأول دون أن احصل على اهانة ، كل شرطي أدنى من مومس عجوز لكني احلم بالنفاق إليه من اجل إبعاد الخوف ، رجال الجيش والأمن ورفاق الفرقة الحزبية جعلهم النظام مجرد شرطة بائسين , لا يمكن شراء الحثالة إلا بالمال وفرج امرأة صغيرة ، الآن.. الذي يكثف جنون الاضطهاد في الواقع والمشكلة في هذا الحلم كيف أتعامل مع اللوطيين لأن لهم مؤسسة هائلة العدد في مدينة المآذن , سباهي هو الوحيد الذي يحصل على صمون عسكري حار وأوراق اللهانة والخس والسلج ، لأنه قواد على فتيان وغلمان القرية ، هو قبيح باع سهام لثلة الجنود
واعتقد إن (أبو) أير بينهم ،يردد سباهي حكمته الشهيرة (الزب يصنع أوادم) كل ساعتين ويداعب خياله حلما سرياليا عن أعضاء جنسية لا ينفك باستحضارها كل ساعتين ويضحك وحده على رسومات خياله وبالصدفة قرأت تروتسكي - لأننا نُمنَع عن قراءته وحسب قولهم بأنه تحريفي- حيث يقول إن الشعب إذا فقد كرامته يتحدث بلغة بذيئة , اعتقد إن أهل القرية يعرفون ما جرى لسهام في ذلك الغروب لكن الجرائم تعلق دائماً برقبة حمار ، أنا وسهام نعرف إن سباهي يأتي بشوربة العدس في الصباح بعد أن يعقل المطية لأبي أير الذي يحمل رتبة رئيس عرفاء ويؤكد سباهي إن سلاح هذا الرئيس بطول وغلط اير الحمار .. كل أهل الحي يعنون بكلمة سلاح .. العضو الذكري....
قالت سهام ذات مرة : أنها تكره سباهي لأنه الكائن الحقير الوحيد على الأرض .. الله جبله على اللغة البذيئة ولا يعرف الضمير...
أنا اكره سباهي لأنه يقتلع عن عمد النباتات والأزهار البرية كما انه يفرج مابين ساقي جراء الكلاب حتى تتمزق البطن أو يقطع رأس الحمامة حين لا تلوت مثلما يريد.
جاء أبي حافياً .. مبتسماً وقال : أن النباتات لا ترى إلا الله وأنا من بعده .. الأوراق الخضر تبتسم لي .. ثم احتضن المذياع الملبد بجلد جوزي وهوس بإيقاع خاص واخذ يطلق النار على السماء بيده اليمنى من عصاه الخيزران . ويردد .. هذا هو دربي .. طوبي يسابقني ويطر من فوقى .. ثم نظر إلي بوجه صارم وقال : أنا قداح في كتيبة الزعيم سارية الجبل .. جعلنا الصهاينة مثل الجرذان .... الله .. الله .. هذا هو دربي..
مومس القرية سارة العبدة التي لا ترتاح أو تغفو جفناها إلا حين يركبها الحمار مثلما نطقت في غروب ليلة الجمعة الأخيرة بصوت أجش يشبه صوت الإوز ، في الحقيقة لا احد يعرف بالضبط ماذا قالت لكن مرجان العبد أكد إن الجن هو الذي نطق فازداد قرع الطبول وعلت أوتار الطنابير وبحتْ أصوات الصرنايات واهتزت الدفوف والدنانبك - تومان العبد هو الآخر اختفى بعد الانتفاضة وقد مرت سنتان على اختفائه - برقصات مجنحة الأيدي مثل نوارس على وشك أن تطير حينها هزّ مرجان عجيزته المنتفخة عائدة للخلف والمطرزة بحوافز الماعز والأغنام بلفة منجور مثل حزام أفريقي.. اسمع صوت شيخ العبيد ولو أن مرجان ناداه بالملا لكنه شيخ بشري يحاكي الجن اللابد والمختفي عن عين الله في أحشاء سارة العبدة ، يمسد الملا لحيته البيضاء الصغيرة على وجه اسود مستدير يعود لبدايات ظهور العالم حين كانت اللغة أصواتا آمرة معدودة النبرات وحين نطقت سارة بصوت ذكري متمرد بحتْ أوتار الطنبورة بقرار غليظ وانمغط التاتو ونفخ القمع الخشبي للصرناي صرير بوق حين دخنت سارة سيجارة مزبن ضحك مرجان من سطوة رهبة العزيمة التي قررت تكية فطوم البحر أن تعزمها لسارة وتطرد وسواس جنون الشيطان الحيوان الذي جعلها تنبطح على الأرض وترفع فخذيها اللامعين بلون خمري لكل كائن ، نطق الشيخ الوقورّ : سارة هي الشيطان عينه ولو انه شيطان جائع ،واتجهت سفينة البوم الصغيرة التي يحملها رجال التكية للجنوب وقد أطلق عليها مرجان العبد بسفينة النجاة وتحولت العزيمة إلى رقصة هيه يايمه الهوى والتي رقص على أنغامها مرجان الذي استيقظ في الصباح دائخاً من ثمالة خمر البارحة على حد تعبير عقيل سيد زيارة .. وعلى ما يبدو إن مرجان مازال مخموراً لأنه غنى هه وهاي وهيّه ثم تحولت الرقصة والألحان على يد خميس العبد الذي يسكن الدروازة للنوبان ثم السادة وكلما ابتعدت جمهرة العبيد الذين يقدسون الموسيقى تشعرينَ أنها تترجم روح الإنسان إلى صوت وحركة بكل وقار .. عزيزتي .. سمعت تلك الألحان تتبدل وتنقلب على نفسها بتلقائية عجيبة .. من الحبوش والوينكا للهيوا سيدة الرقصات مثل البيبسي سيد المشروبات بين السينالكو والتورابي والسفن أب.
كل السود العبيد الذين رقصوا هيّه وهاي وهيّه ماتوا من الإدمان على العرق منتحرين ببطء قبل الانتفاضة إلا سارة حرقت جسدها في السبعينيات.
اقتربت من سارة المنبطحة على الأرض والمختنقة بضحك هستيري اندلع مع أول جرة عرق مستكي تحتفظ بزجاجته في جيب داخلي ومازالت منسدحة سوية والأرض حين جن جنونها وعضوها الأسود المزموم بشفتين منتفختين مثل شنطة نسائية مفتوحة الزنجيل ...
ومثل دودة الاسكارس التويت على نفسي وبدون ابريق وعلى بعد بضعة أمتار جلست وعورتي ظاهرة للعيان ,رأيت أطفالا يتبرزون بعورات مكشوفة ويتناقشون بودية ,ثلاث نساء تركن عوراتهن للهواء وثمة امرأة بلهاء وسمينة رأيت الشعر الكثيف يغطي عانتها والشق الأسود بين الفخذين الكبيرين....
طوابير رجال ينتظمون بصف معوج ,آخرهم يحاول أن يلمح الغجرية كي ينتصب فحله في الهواء ويتمكن من قذف سائله الأبيض وعيناه تبحلقان بفتحة الخباء ,استجاب الطابور لنصيحة رجل بكفية بيضاء ..على الرجل أن لا يقذف شهوته في العشر رهزات الأولى وتذهب أمواله سدى لينفضّ الطابور محتجا حين تأكد لهم إن المرأة سارة العبدة المستهلكة مثل حذاء قديم ليتراصوا ثانية بصفوف عشوائية على نساء اللاجئات اللواتي يستغثن بأبي الفاقد الوعي من الضرب والرفس بأرجل سكارى مجانين ....
وضعت تاج أبي الأسود على رأسي وتحته مربعات شطرنج بلا عدد تنسدل على كتفي وألقمت إبطي الأيمن نبوت من التوت حينها لهج لساني شعرا مقاوما للسلطة وساقي اليسرى تنحط وتنشال على الأرض بإيقاع عتيق يعود لهوسة شعبية أتوعد السلطة فيها بهجوم مستقبلي ...
بعد اختفاء صوت الله من المآذن عاد صوت النكاح والرهز لعضو طويل بمهبل تاخ من اللزوجة ,العضو يعاود النفخ والإدخال والإخراج ولا أسمع الا الطش ..طش .. بعناد وانتظام وانتقام لأرى بضعة جنود سكارى ينسلون من بيت سارة ..واحدا بعد الآخر ..
بعد ساعات جلست سارة أمام أبي تعتع من السكر وتقص حكاية غريبة عن جنود معسكر القتال... حين خرجت في أول الليل تترزق على باب الله حسب ما تقول وأومأت بيدها لسيارة ولم تكن تعرف أنها سيارة عسكرية فصعدت في ظلام الشاحنة واعتقدت إنهم ثلاثة إلى أربعة جنود لكن عجلة الكاز ست وستين تنقل أكثر من ثلاثين جنديا تعاقبوا عليها واحدا بعد الآخر وبينهم عدة رجال بفحول لها غلظة عضو الحمار جعلوها تصب دما اسود وحين أنهكها الجماع بكت وتوسلت ثم غفت من السكر ولحقها الجنود لكوخها المنعزل عن بيوت الأعراب وضاجعوها حتى الصباح ..سمعتها تبكي وبغتة ضحكت بضحكة داعرة ....
تألم أبي وأقسم أن يأخذ لها حقها من الجنود ,أبي الشخص الوحيد الذي يذهب لمدرسة قتال الدريهمية والتي يطلق عليها بمعسكر المهداوي الذي كان برتبة نقيب ويسكن الزهيرية في الخمسينيات قبل إعدامه بعد اختفاء الزعيم للمطالبة بحق امرأة مغتصبة لأن أهل الزبير يخافون من الجنود بعد حادثة اغتصاب وتحرش وعندما تكاتفوا لمعاقبة المعتدين هجم الجيش على الأهالي بقبضات الأيدي وهروب المدنيين بدون نعال بوجوه مدماة وأنوف مكسورة ,قال رئيس عرفاء الوحدة لأبي إن العبدة سارة هي عاهرة لكن أبو عير ضاجعها عدة مرات لذا تعتقد أنهم سرية كاملة ولم يصدق أبي هذه الحكاية وقالوا له إن كل قواد يصدق عاهرته ولا يصدق الناس واحتج أبي على كلمة قواد ووجد نفسه في موضع لا يحسد عليه أحد فضرب رئيس العرفاء وضربه الجنود ولكي لا تصل الحكاية للضباط أعطوه ثلاثة دنانير وعاد أبي فرحا على الرغم من دمائه المنسابة من الأنف ليعطي سارة المال الذي لم تحصل على ثروة مثله طوال حياتها ...أبي المدافع عن حقوق المظلومين وجد نفسه قوادا بالفطرة ,تألم وتألم وصلى ليستغفر عن جريمة لم يفعلها ...أبي غريب الأطوار...
قال رجل الاستخبارات:
- أنت أين وعرب طنبورة أين....
من فتحة الكوة في محرقة الريسسز للقمامة رأيت عتبة الباب وتمثال أمي العاري بشعرها الأبيض الاكوش والأطفال ترجمه بالحجارة...
الجنون أو فقدان الذاكرة خياران مفتوحان في مجتمع معتوه سهل الاختراق...
لهذا السبب تتعالق رواياتي في فصول رواية واحدة .
ولا يمكن تجزئة تداعيات الذاكرة مثلما لا تُجزأْ وساخة الواقع لهذا السبب أيتها الزوجة تصبح الفصول فصلاً واحداً ممتداً إلى ما لانهاية في ذلك الثقب الطولاني المصنوع من هشاشة بلوك الاسمنت (الشكرلمه )غرست عيناي في ليل ابدي بعد قرار والدي أن اختفي في النهار واخرج في الليل تحت الظلام وأحرك قدميّ في باحة مظلمة وان لا افتح الباب أبدا أو أتحدث مع إنسان بعد خروجي من سجن تعذيب وتركي الجامعة في اربيل ، كنت أتوقع أن يأتي الرفيق الذي ينتمي لعشيرة معروفة في قضاء الزبير تتوارث حزب البعث واستبداده بين الأبناء لزيارة زوجته الثانية والغافية دائماً بعد عشاء دسم حاسرة عن أثوابها ليشع جمالها الطفولي وابنها الذي يبكي ببكاء طفلة ، في باحة مضيئة تحت ليل قائظ ، حين تقدم الرجل السمين محاذراً أن تستيقظ الزوجة أو احد أطفالها وهاجمها بضراوة بعد أن بصق بيده وبلل عضوه ليلجه قبل أن تفقه الزوجة ، كالعادة ، تهيأت الزوجة بجسدها مسرعة لاستقبال العضو المغتصب وفي لمح البصر رأيت ساقيها مرفوعتين على كتفي الرجل وهو مازال يلبس حزامه العسكري الخاص بالجيش الشعبي ينفخ رفيق الحراسات في الفرقة الحزبية من انفه والمرأة الطفلة تأن أو تبكي أو تصرخ .. خلل عشر رهزات أو اقل قذف عضوه وتوقف عن الرهز ، بل يحاول الرفيق إيلاجه إلى ابعد مضيق في بطن المرأة وبالكاد قذف قطرة أو قطرتين ومازال عضوه تقطر منه قطرات بولية حين اتجه لإبريق اللايلون واغتسل مسرعاً بالخروج لإكمال واجبه في حراسة الفرقة الحزبية ، وحين رأيت طفلها بعمر خمس سنوات جالساً القرفصاء ويبكي على إيقاع بكاء الأم أدركت إن الاستبداد سيغتصبنا جميعا فأوغلت بالخرس التام.
اعرف .... انك تعتقدين إن الرواية التي سوف اكتبها ستحشى بهذه الإسرار البائسة ، الذي يفشي أسراره المكومة يبيع نفسه لأول شرطي يصادفه في الطريق ، فكْري فقط بما اطرحه من مواقف وأحداث وليس الذي قرأتيه ، أنا ابحث عن السر الخفي لموت الإنسان تحركت مبتعداً ، خرائب البصرة القديمة هي موت من نوع آخر , تطأ قدماي الرمال دون هدف ، الرمال تتشابه لذا اتسعت خطاي ، في رأسي مازالت خيول الصحراء تصهل وتقطر السيوف بدماء الفقراء , في البعيد .. في تلك البطاح المالحة خلف أكواخ حي الطرب فطس أكثر من سبعة آلاف من ثوار الزنج الفقراء ، نفقوا كالجرذان ، قد أكون سليل احد الثوار ، من المحتمل ، لأني كومة كبيرة من الأسرار .. بيدر من أسرار التأريخ الموروث في الجينات ، روايتي تتابع الثورة ، هي ثورة حتى لو أخفقت ، مثل طلقة تأكسدت لكنها تبقى طلقة مخيفة .. في أعماقها يكمن سر الانفجار.
تحركت مبتعداً عن السدرة المزهرة بورد نبق الخريف وتلك الرائحة ..رائحة السدر العطرة وعن شجرتي خروع , استوقفتني الأليفة مفزوعة : هذا عش .... عش زرا زير.
الأليفة تزحزح كلمة عصافير إلى خشونة الزرازير ، ثمة فرح خفي جعلها تتقافز على الأرض كالسَعدان ، عيناها مسمرتان في ثقوب حلزون المنارة ، اللون البالي للعظام .
تارة تختفي خلف جدار الطين وتارة تتسلق الرحى الدائرية ، أسوار آجريه متآكلة تخفيها حتى انتفاخي الصدر .. الصدر يتبرعم تحت الأنقاض ويزهر بثمرتين ناتئتين ، الشعر الأسود مسدولا على شكل خصلتين مشدودتين بخيطيين مختلفين في قحفة الرأس , الشفة السفلي تتكوز وتومض العينان ببريق ، بغريزة الأنثى أدركت أن التماع عيني أمتاح برغبة جنسية خفية فسارعت إلى دس إبهامها بين شفتيها المكوزتين فيما تدلت الأصابع مكونة لحية تهتز مع صوت حيواني ذكوري شبيه بمعمعة المعزى .
حين ضحكنا من الأعماق عرفت إن كل رغبة لا ننفذها ضائعة ، الرغبة الضائعة نفشت شعرها المنسَدل بعشوائية .... لهذا السبب أحبها لأني لا أومن بالاستفحال واقتناص الفرص وإنما أسير تجاهها وهي تسير نحوي ونلتقي باحتضانه وتلاصق.. كل خائن ومستبد يبتدئ بامرأة.
- هسه سعدي . ألا تقتلع الحُميض ؟
مشينا نحو المنخفضات ، في المنحدرات تعرش نباتات الحرتش والشويل والهندباء البرية المحنية الأوراق على قلب جوزي كحدقتي عيني الأليفة والحرفوش المزهر بالورود الصفر ومستعمرات الخباز تعلوها ورود الأقحوان...
كان ذلك في الربيع ، صورة النباتات عالقة في الذهن ، نحن الآن في الخريف أو منتصف الشهر التاسع ، ثمة ارو مات حنظل مثمرة بكرات صفر تتكور على عريشه سحالي ، كل الشجيرات تتكور على أسرار خبيئة في الصحراء ، أفنان الشفلح المزهرة بزهور بيض وعراميط خضر وأخرى مفلوعة بل متفجرة بسلافه حمراء سكرية لها ترجيع مر ، مضغت ألسلافه الحمراء ، للشفلح الصحراوي رائحة أليفة تخنقها الشمس حالما تتسلق السمت أو حين تتسمر في الوسط لتذوي الأزهار البيض إلى لحى ذابلة , روائح وحشية لزهور صفر وبيض وزنابق حمر بأشكال نرجسية، ورائحة وحشية نفاذة بأريج يسبح فيه الخيال.
لا .. لم يكن ذلك في الربيع بل الحرمل الآن يخيم برائحته التي تطلقها الشمس حينها نلتهم اكواز الذرة الرقيقة التي نسميها بالتفاح على الرغم من مرارتها اللاذعة لأننا لم نأكل تفاحاً حقيقياً وإنما نراه معروضا عند البقال فقط .
النباتات البرية تعرش في الذهن حتى لو تيبست ...
انسدحت في المنخفض متلذذا ببرودة شجيرات حطب ألمرخ وغابت المنارة وشجرة السدر خلف الروابي .. في أعماق التأريخ , كل حصاة اعتقد إنها من أحجار السليماني حين ترتفع التلال اكبر من حجمها الحقيقي ، أذناي تصطادان الأصوات .. السكون .. يبدده زئير سيارات مارقة تنسل تحت أشجار الأثل المحتضنة بفيئها الشارع العام ، المدخل المعبد الوحيد الذي يخترق مدينة الزبير ، ثمة عساليج وأوجار مشبوهة مثيرة للريبة تحف بالمنخفض , أوجار أبو الحصين والقطط البرية أو لهداهد الصحراء الصفر الأجنحة ، اضطجعت على ظهري ورمت عينيّ لزرقة السماء خائفاً من سرقة لحظاتي الرائعة ، اللحظات التي أسبح فيها بزرقة لانهائية ، التي تجعل من جسدي النحيف جزءاً من هذا الكون ، أوكار القطط البرية مثيرة للريبة ، أدرك الآن بشكل أفضل ما معنى أن يألف الإنسان طبيعة تألف الرضا والدهشة ، جلست القرفصاء ، ثمة شعور بالاطمئنان يكتنفني هو الارتفاع القليل عن رمال الأرض ، راحة بال تبعت الكوامن الخفية في السيطرة على الأشياء ، الأليفة مازالت تقتلع الأشواك والحصى الملون ، اسمعها تطلق صيحات فرح أو فزع لاكتشافها مستمرات وأكوام ملونة من الحصى ... اعرف ذلك من الإشارات التي ترسمها بيدها ملتفتة تلهث حين استوقفتها نبتة تبرز على الأرض مثل ساق وردي شائك ,أو عضو فحل مرعب ,بحجم انتصاب عضو الحمار..وعلى قحفة وردة حمراء شائكة بحجم وردة الزعكور , ، أنا الأخر اكتشفت سحلية جامدة وبلون الأرض فضحها لسانها حين انتعض واصطاد شيئاً ما ، انه التماهي ، المربع الغامض في الخارطة لأن السحلية كانت بحذاء ساقي وبالصدفة عرفت إن هذه الحجارة التقطت حشرة .
أطلقت العنان لمخيلتي في رسم أشكال مرعبة لألسنة الأفاعي والعضاءات وبأحلام يقظة اجعل فيها الألسنة تنبثق من العساليج والدياميس وتلتقطني بأوضاع مختلفة ، في الحقيقة أن كل عراقي هو كائن ملتقط بكلاليب وحبال لأنه فأرة تجارب رخيصة الثمن ، حاصرني الخوف ، رافقني كدقائق أشعة الشمس ولم تثر ساقي سهام البيضاويين الرغبة التي أكرس أعماقي من اجلها في كل لحظة , الرغبة المؤجلة في الأعماق ، الساقان المشعان بالبياض وهي تكرف الملح بقحفة صدئة ، ثمة شيء يربطني بالأرض , دائرة الموت المغلقة تفتح أسرارها ، ثمة مشحوف مزروع تحت الأرض في تجويف حفرته سيول المطر ، هيكل عظمي بدون قحفة للرأس وأسنان منخورة الفكين بلون الأرض ، اللون البالي للموت ، هيكل محدد تحت خصلات شعر ممسدة بزيت الموتى ، لأول وهلة اعتقدت إن القبر الطولاني المغطى بلبنات طين غير مفخورة لامرأة من عصر سحيق لكن مقبض السيف والسيور الجلدية التي تفتت حالما لمستها أصابعي وحقيبة صغيرة من جلد متماسك ومتحجر على عملات فضية ، مازال اللبن مصفوفاً بانتظام تاركاً جوفاً معتماً ، لم يكن قبراً وإلا ما سرّ وجود العملات المسودة من الزمن وقد يكون الدفن مع أملاك الإنسان في ديانة لم يذكرها لنا التأريخ في هذه البقعة من الأرض ، لم اعثر على إشارة في الوثيقة التاريخية عن أموات عبدة الصفر يدفنون أملاكهم القابلة للحساب.
ذعرت سهام وركضت نحوي منحنية خائفة من عدو يكمن في باطن عربة انزلقت من الشارع المعبد بالقير وفيء الأثل يجرها حصان على درب ترابي,اسمع الحوذي الملثم بكفية مرقطة يتحدث بصوت عال ليسمع سمينا متهالكا في باطن العربة عن أسعار الطماطم وان الدنيا قد تغيرت بحيث أن زوجته تعاتبه على عدم توفير لقمة زاد هانئة ,اختبأنا في حفرة خوفا من الغرباء ,حينها مرت العربة بحصانها العجوز والرجل الملثم يثرثر عن كل شيء والسمين المتهالك هو الآخر ملثما بكوفية بيضاء يهز برأسه موافقا على الحديث الدائر بينهما ,وقرب ثاوية متفق عليها مسك المتهالك حبال الأعنة من الحوذي الذي نزل غير آبه بوجهة الحصان واتجه لجامع خطوة علي فيما دببت العربة ببطء إلى ضريح طلحة ابن عبيد الله وسرعان ما تعالى الآذان من جامع طلحة بدون مكبرة صوت ,الحوذي النحيف هو الآخر تعالى صوته حال انتهاء رفيقه مؤذن طلحة بصوت جهوري تسيد الصحراء ,مجد خالق السماوات أولا خلاف السمين الذي رفع الآذان كالمذعور حين صرخ : الله اكبر .. الله اكبر ..وحين انتهى آذان الشيعة عادا بنفس العربة وعلى نفس الدرب وهما يتحدثان عن أسعار الطماطم الغالية الثمن .
بعد سنين تأملت ملياً قبل أن ابعث الموتى لأتمكن من بعث جثتي للحياة ثانية وتدشين الدخول للحوش القصب من عتبته الشهيرة التي يجلس أبي عليها ويقص على الأعراب ما يفهمه من العالم دون أن يفهم نفسه ولأعيد احترامي لنفسي التائهة وأصير بطلاً حقيقياً وشخصية مهمة في الرواية التي سأكتبها وأتحدث عن الحب الشرس والمتجدد بانتقاله لك ياحياة لأنك تشبهينها ، لا استطيع الحديث لذا سأكتب آلاف الصفحات عن الحب الذي أبقيته حاراً ، انت لا تقرئين لأن عبد الباقي يحتضر وسرق حياتك ، هذا أفضل لأني سأتحرر من القارئ ، القارئ يجعلني عبداً لرغباته ، أنا الخالق الحر الذي ينتشل الموتى ويعيدهم للحياة ويحشرهم في عتبة الباب التي شهدت عرساً حقيقياً حين تزوجت سهام في الرواية التي سأكتبها وكيف عَزف تومان العبد بالناي من انفه ، هم ليس أبطال رواية من فراغ ، أنا كلما أوغل بإثبات وجودهم أوغل بإنكارهم ، مثل الإنسان المتشكك بوجود الله كلما يحاول أن يثبت وجوده فإن براهين فلسفته تؤدي إلى عدم وجوده والعكس هو الصحيح أيضا .. انه موجود وغير موجود مثل أبطال روايتي ,لا يوجد يقين واحد أبدا حتى الإحداثيات الدقيقة التي رسمتها لخارطتي الثورية تجعل فسحة الحياة ضيقة ، اختزال الأمكنة يؤدي لسجن الحياة واختصارها ، بالأحرى تجعلني الأفكار مثل حمار سباهي الذي يهرول بإسطبل مسور بأربعة جدران وحين انطلق للحرية انطلق في الحقيقة للموت على رابية.
يكمن إيماني بالخالق لأن يقيني أن الحياة لا احد يستطيع انتزاعها مني إذا لم أتطوع بها لأحد أو أن أموت بملء اختياري اعتقد إني خالد لا أموت إذا تمكنت بجهود جبارة أن أصير احد أبطال روايتي المنتظرة وكلما يقرئني احد أتجدد مثل الكمأة التي تنبت من صوت الرعد بل من تلفظ حروف الرعد ، سيأتي اليوم الذي اجمع فيه أشتاتي من الرجل الكردي الملغى نصفه الأعلى والذي يشبهني بإلغاء لسانه أو رجل الدعوة وإيمانه بالعدالة ، أنا في الحقيقة تزوجت سهام وعشت معها ومازلت أتواصل روحياً معها.
إنها تكبر في قلبي كل يوم...
لا توجد نهاية لروايتي المنتظرة لأن أبطالها ولدوا في الصفر الذي بجهود جبارة صار على يسار الأرقام ولم ينتبه له أحد ,حين رقص الجميع في ليلة زواجي ,ليلة الفرح الوحيدة في الحي الذي ولد ومات منسيا ,تبرقعت النساء ولثم الرجال وجوههم كي لا يتعرف عليهم الأبناء في الظلام حينها رقصت الغجريات ومعهم رجال بشوارب معقوفة عزفوا على الربابة ودقوا الطبول ,في تلك الليلة المقمرة كنت خائفا من تومان العبد الذي قال لأبي ..إن أرنبة انفي تورمت وبلغت سن الزواج ...لكن نظرته الشريرة جعلته ينحدر مثل زنجي يغازل الغلمان بعد أن نفش ريشه وصار غيمة طارت من كتلي علاء الدين ,هزت الفتيات صدورهن دون أن ترتجف النهود وهز الشباب أكتافهم دون أن تتحرك صدورهم وجلست غجرية في حضن أبي منتشية بالرقص لتمازح شيخ القرية ورأيت يدي الأب تلتفّ على خصر الغجرية ويعصرها إلى وسطه بسرعة البرق وأعتقد إن الأب انتشى بصعقة الجنس المكهربة وذهب مسرعا لمضاجعة الأم عدة مرات لأني أسمع وشيش الماء في باحة الحوش ...سألته في نفس الليلة عن سرّ سباحته بطاسة ماء تلو الأخرى فأجابني متحيرا إن الحر الشرجي لا يطاق ..بغتة سألني عن عقال عازف الربابة ثم أقسم انه لم يرَ في حياته كلها رجلا تليق عليه عباءة الصوف الخفيف الصيفية والعقال إلا هذا الكاولي ..تألم وبكى وعرفت فيما بعد إن أبي غنى أبو ذية والتي تشبه البكاء العلني الذي يفتخر به الجنوبي الحقيقي ,عدت إلى الصريفة وسحقت عظام سهام باحتضانه إلهية لأستيقظ من النوم وأسمع أبي يتشدق بضحك جنوني ويقول إن سعدي طاحت عليه الجنابة ليخفي رغباته الجنسية مع الغجرية الراقصة ...
ذلك الحصان الأبيض وفارسه الشاب الذي يعتمر عمة وعباءة خضراء تغطي كفل الحصان وذيله المعقوف ، الشاب الجميل والمهيب الذي ابتسم وصاح السلام عليكم بحنجرة صافية كأن صوته الوحيد المنبعث في غروب ليلة ما اعتقد أنها ليلة جمعة قبل أيام من فيضان الماء على طوفة نهر العسافية في قرية أبو حلوة حين قفز نهر الخاور بحصانه الذي يخب ورقبته معوجة صوب الشط ليختفي في شافي القصب ، الأرض التي صارت مقدسة ومهيبة ولم يسكنها احد إلى هذا اليوم ، من أين جاء الحصان والفارس وأين اختفى وكيف قفز نهراً بعرض عشرة أمتار ؟ أمي التي تعودت الابتسام منذ ذلك اليوم لأن الفارس سلم علينا جميعاً حينها اكتوت أصابع أبي بالنار لأنه يشوي الباذنجان الذي يدسه قرب قوري الشاي دون أن يحس بالألم ، أبي مازال يشوي على حطب نبات الغضا والحمض باذنجانة واحدة بعد أن أهيئ له منقلة النار ويشرب الشاي ويمتص لفافة التبغ بشراهة....الآن .. الريح تسكن هنا .. تهبَ من الجهة الغربية حين ينفخ تنين النفط قمعا اسود يغطي سماء المدينة .. انتصبت كعامود خيمة .. أين الزرقة البلورية ، هي ريح السموم وهمسها العنيد .. تحف بجسدي وتصنع ذيولاً متعددة الأشكال لدشداشتي التي التصقت بالجسد العامود.
الآن .. من فتحة كوة القمامة رأيت شرطي الجمارك الكردي حاتم أبو كريم يمتطي حصانه ويعبر المسافة التي تفصل دارتنا عن الجمارك ,أزحت البيوت والمدارس والأحياء الحديثة عن الوجود وعادت الدريهمية الى رمال ومستنقع ,رأت الفارس يسلم على أبي وينزل عن حصانه ويترك العنان سائبا ,توقف الحصان يستطلعهما بفضول ,سمعتهما يهمسان لبعضهما عن أمر جلل حينها سدّ الفارس بقفاه عتبة الباب ..........
سمعت أصوات ارتطام الأحذية التي تقترب على البلاط ,أحذية آخرة الليل التي تسحلني للتعذيب وتطيرت ممسوسا حين سمعت صفارة حرف السين تلوكها ألسنتهم ,تزداد دقات القلب ويجيب صدى الوجيب إيقاعها ,الخوف واليأس جعلاني طيعا مثل سمكة محاصرة في شبكة ,يسألني بحقد الجلاد الذي تنبعث من فمه رائحة العرق وسجائر الروثمان وأدرك إن للأحذية الأخرى نظرات شزرة .. اللحظة التي تقطع فيها الأنفاس ,كره من يغرقوه عنوة ,شعرت بجبن وتوحد حتى ساقيّ لم تستطيعا حمل جسدي المترهل بماء الخوف ,أحذية الليل تفتق الجسد عن ارهاصات ,طقطقت الركبتين حين أسندوني على أكتافهم ,أتلفت مفسحا للفراغات أن تملأ أذني بحفيف قدمين استطيع أن أميزهما بين مئات الأقدام لكن لا أثر لوطء قدمي كاظم رحيم جاسم ,أدركت إني وحيدا أساق للتعذيب أو الإعدام...
أبشع ما يعانيه الإنسان هو أن يسقط في بئر الوحدة والنسيان ,اجتزت بساقيّ عدة أبواب واخترقت أنفي روائح مختلفة وباغتتني رائحة دفلى وأدركت إني خارج السجن الذي هو بيت واسع ,أمشي على ممر الشتايكر حين صفعتني الشمس على صدغي الأيسر ... منذ أشهر لم أتدفأ بالشمس وكمن يركلني بقوة أو أفتح عيني على حقيقة مخيفة ,ارتعشت .. انفجر ذلك الخوف الكامن أسفل الرأس .. وهن الركبتين وتعثرت ركبتي اليمنى بحافة صلبة لكن أيدي الجلادين مدربة على سحل الأجساد إلى أماكن مشبوهة ,قبل أسبوع اختطفوا ثلاثة معتقلين من الطلبة وأعلنوا بأصوات مكبرة ومتضخمة بجهاز لود سبيكر إن هؤلاء المخربين هم الذين اغتالوا محافظ اربيل والحقيقة أنهم وضعوا أحذيتهم على صلعه عميد كلية الآداب الدكتور إسماعيل الهاشل الذي يدعي انه عالم في النفس البشرية ويرتعش مأخوذا وقد ينتصب عضوه على طالباته الصغيرات حين يرى ارتجاجا في الفخذين ,الدكتور الشهواني والمتصابي مثل الأعراب ,أنا حتى هذه اللحظة حين اسمع صفة دكتور اعتقد أنهم يتحدثون عن ثور أصلع الرأس ....
تلك الأيدي الخشنة دفعت جسدي بقوة ووضعته على المقعد الخلفي للسيارة ثم سحبني شخص ما بلطف وجعلني أتمدد على المقعد منحنيا كي لا أتعرف على السجن السري الذي تأكد لي فيما بعد أنه يبعد مائتي مترا عن مبنى محافظة هولير على الطريق المتجه لمنطقة ملاي ,بعد دقائق سمعت أبواق السيارات وأصوات مارة ,تملكني الرعب بدون رحمة ...
انعطفت السيارة في تقاطعات عديدة ثم دارت حول نفسها وتحسست ثمة أصابع تفتح القماشة الملبدة بالرمد واللعاب والبلغم ,تلك اللبادة آذت انفي المكسور والذي ظل عظمة فوق عظمة وازرقاق في جفون العينين .
دارت السيارة في الشوارع مسافة صرختين لطفل خائف وسمعت أبواق سيارات تزدحم وصفارة شرطي مرور .. زعيق مارة ونداء نسوة ,خيم على أعضائي رعب هائل جعل ذاكرتي تتوقف باصطياد الهمسات أو نأمة صوت أو حركة ,قلبي يخفق مذعورا وثمة ارتجاف يسري ببدني كالقشعريرة .. برفق أزال أحدهم تلك القماشة وجعلني أجلس على المقعد مثلهم ,تماما ,للفرح قشعريرة ,القلب هو الآخر يطبل بإيقاع مختلف ,أرى الناس من خلف الزجاج وفي أعماقي رغبة أن اعثر على طالب يعرفني لأن اعتقالي كان اختطافا ,أريد أن أقول لأي كائن إنني مازلت على قيد الحياة ,وفجأة انطلقت من فمي ضحكة أجهل مصدرها فانصبت نظراتهم الذئبية الحاقدة على وجهي وأرغمتني على الصمت ,وبدون تفكير مسبق كسرت الحاجز الكونكريتي الذي يحول بيننا ...
- أستاذ .. والله أشكركم لأني لم أدخن سيجارة واحدة منذ أشهر
- تنصب النظرات الجامدة على وجهي... تفترسني النظرات
استدركت :
- أكيد سأترك التدخين
سرق الشرطي الذي يجلس قرب السائق أسارير وجهي المصطنعة ومحا الابتسامة البائسة المرسومة بجهد على الشفتين حين تفحصني بنظرة لا تحيد وبغتة توقفت السيارة وألقوا بي للشارع كقطعة بشرية زائدة...ابتعدوا ارتجفت فرحا ,غريب هذا الإنسان سيد الكون ,إن روحي تغلبت على روح الكلب الذي لا يمكنه التكيف مع واقع عجائبي فيه تخاف أن تتحجر فضلاتك في القولون وتصير صمامة المخرج شبيهة لباب الغرفة السابعة في الحكايات الشعبية ,حيث الأمل كله أن تفتح تلك الصمامة في وقت قياسي ويخرج البراز قبل أن تتحجر أفكارك وتكف الأحلام من إيلاج منفذها السري إلى الرأس المعصوب العينين ,تتابع عيناي السيارة التي انعطفت في شارع ما ولم أتأكد مما يحدث لكن تزاحم أبواق السيارات وذلك الازدحام المروري الذي لا أرى منه إلا اليد اليسرى للسائقين تشير نحوي وشفاههم تفتح وتغلق ,اعتقد إنها تمج السباب كالأبواق ,تمكن شرطي المرور أن يخرجني للرصيف بعد أن أعطاني سيجارة وتذكرت إني لم ابتسم بوجه شرطي منذ سنين .
ثمة بشر انتصبوا كالتماثيل الجامدة وبعيون عظمية لأسماك الشلج ,صاحت امرأة ساخرة .. أوه عرب شيته ...فهمت مما قالته المرأة باللغة الكردية غير أن الرجال الكرد حائرون ..كيف تنبت اربيل عربي مجنون.. هل جاء مشيا على الأقدام أم قذفته السماء ؟
سمعت احدهم يقول لابد أنه يعمل في المخابرات مثل المصريين والفلسطينيين ,كانت طبيعتي الاحتجاج ...صرخت بالوجوه المبحلقة :
- أنا طالب كلية الآداب
تفجرت كلماتي عن سخرية فظة ..احدهم بزي جبلي قال :
- عرب وشيته ...
أحاول جاهدا ..مستميتا أن أقنعهم إني كنت سجينا تحت التعذيب لأنهم لم يستوعبوا كلمة معتقل والتي يعبر عنها بكلمة (جيراوة ) تغامزوا فيما بينهم ,احدهم يقرص جنب الآخر ضاحكا ,أرعبتني الحقيقة ..كنت مرتديا معطفين ممزقين ومختلفين وقدميّ بدون حذاءين ..لحيتي نافرة ..شعر وجنتي ..فروة رأسي التي تخفي الأذنين ,الفروة التي احكها باستمرار ,فروة صوف الأغنام ,ثلة من طلاب المدارس الابتدائية ألّفوا جوقة غنائية ودبكوا بأغنية كردية لم أفقه كلماتها ..أصبت بخدر ,يدي اليمنى تتحرك بعصبية وأنا استجدي من يفهمني وثمة صفاء وألمعية في ذهني وأنا ارقب الناس ,على ما يبدوا إن شرطة الأمن اختاروا أيام الإضراب الطلابي ليخرجونني للشارع ..أنا بروح كلب أمتلك الصفاء الذهني لمنازلة خصم عنيد في الشطرنج أتوسل بصبر القديسين كي أفهم ,سمعت شابا بزي صخري يقول :فقيره ..مسكينه ..عرب
استجمعت آخر قواي للنفاذ إليه واغتنام التضامن معي ...لا فائدة ..رجمني الأطفال بحجر صغير ليحركوا الماء الساكن أو ليجسوا النبض ودرجة الجنون بل ولتعرفوا على نوع فنية الجنون ,الجنون فنون ,أو الفنون جنون ..لا فرق وفاتت الفرصة لأن طبيعتي الاحتجاج ,اتجهت نحوهم ويدي اليمنى تنهش فروة الرأس الأشعث ,في تلك اللحظة انهمرت الحجارة على كل عضو من جسدي ودوى رأسي بانفجار.. لا أجد أمامي إلا الدفاع ..أعني الفرار ويدي اليمنى تتحسس الدم النازف دافئا ,آلمني الشعور بذلة رهيبة وغريبة ,بضياع شيء ثمين في مكان ما... ذلة لم أشعر بثقلها من قبل لأن الذليل لا يصلح أن يكون مناضلا لذا تناولت الأحجار التي رموني بها واستهدفت الأطفال لألج السجل الرسمي في أرشيف عقول الكرد بأني مجنون رسمي وأعتقد إني دخلت في تلابيب حكاياتهم حول مواقد العشاء وبقيت صورة مرسومة لمجنون غريب الأطوار وبالتأكيد حيكت عنه مغامرات لمعرفة مخابئ الثوار الكرد ,من السهل أن تكون مجنونا في العراق لأن الجميع أصيب بمس من الجنون في ظل السلطة ,وحين تعالى الصراخ سدد الكبار إلى جسدي المتورم ضربات موجعة ,هربت وجوقة الأطفال تتقافز خلفي (الشيء الوحيد الذي أعرفه هو إني أسست خطة شطرنج عظيمة لهزم النظام وثمة فكر خفي ومنظم لكتابة رواية مازلت أجمع شتاتها الموزعة في إحدى عشر رواية من أجل كتابة رواية ستهزم النظام ويكفيني فخرا أن بضع أطلاقات من بندقيتي الكلاشنكوف دمرت احتفال السلطة بعيد مولد الدكتاتور وانتصارهم على الشعب في أربعة عشر محافظة ,الليلة التي أطلق حزب البعث النار في الهواء والزوايا المظلمة حيث اعتقد أن ثورة دبرت ضده وحقيقة الأمر أنه تمكن من إبادة الثورة غير الموجودة ليكشف عن ذعره من أبناء الشعب وتحدث الكثير من عناصر النظام فيما بعد عن شجاعتهم في تلك الليلة ونال بعضهم الأوسمة والترقيات الحزبية..حيث كتب كاتب هذه الصفحات واسمه غريب أيضا مثل أسماء أبناء الريف الذي تآكل واختفى قبل هروبه الطوعي إلى منطقة الجزيرة في تكريت ,كتب في صفحة أخرى ..كيف أكون مجنونا وقد أصبت نظاما عتيدا بالإجرام في تلك الليلة بالذعر والجنون وقد وقع الراوي لأول مرة تحت عنوان المهمش العبقري ,في نفس الصفحة كتب سطرا طويلا دون أن يستكمله (إن موت السيد الرمزي ودفنه في البر وتحوله إلى رمز الخصوبة حيث تزوره النساء في غروب كل ليلة جمعة لأكتشف إننا بارعون بتقديس الأسياد وصناعة الرموز الدينية من العدم والنقيض بعد أن وجدوا امرأة عجوز تعطي للنساء مرادا من طحين أوراق الشجرة الهندية مانروكا التي أثبت العلم أن لها علاقة بالخصوبة بشكل فعال ).
حين عجز الكلب عن التكيف مع بني الإنسان ,حتى لو كان حمارا شرسا وأسطوريا مثل حمار سباهي سيصاب بالجنون ,اقتنعت أخيرا إن كل من يحمل لوثة ما أو خيط جنون خفي هو من أفراد الشعب أما العقلاء تماما في بلد يسحق فيه الإنسان كالصرصار لابد أن يكونوا من رجال النظام ,الرجال الآلات ,عتلات الماكنة الجبارة ,رجمني أحد الأطفال بحجر منفرد ليستمكن درجة جنوني ,طفل ذهبي الشعر ,يتطابق شكله مع طيور الأحلام في أفلام الكارتون ,في تلك اللحظة نهشت يدي اليمنى فروة الرأس الأشعث ,اللحظة التي انهمرت الحجارة على جسدي كالحالوب ودوى رأسي بانفجار ,اللحظة التي قررت فيها الدفاع وبغتة تحولت عزيمتي إلى انكسار وثمة خيط دافئ من ثألول أعلى الجبهة ,أنا الذي تحديت السلطة تحت التعذيب اهرب من الأطفال ,مؤلم ذلك الشعور بذلة مضاعفة حين تدرك إن الجميع يختفي تحت مظلة لؤم كريه يستشري بالرجال ,ذلك الشعور الذي رافقني في سن التدشين وأنا أبيع سجائر الروثمان المفرد وعلكة أبو السهم والذي رشحني أن استشقي وأتمرد بجدارة في حواري والدروب الملتوية والأزقة المتاهة بصحبة عقيل سيد زيارة وإبراهيم الرسام ,كاظم رحيم الرائع الجمال والقوة والذي ما زال مقيد اليدين من الخلف ومشدود النظر بعصابة سميكة في شعبة الأمن الخاصة ,كل طفل مدشن في عالم الكبار يبيع الروثمان والعلكة يصير متمردا على الرب أولا ومن ثم السلطة التي تربي كروش الأسياد .تناولت كسرات الصخور التي رجموني بها واستهدفت الأطفال برميات ضعيفة القوة على الصدور المنتفخة كصدور الفتيات ,انبعث صراخ من طفل قصير القامة مما جعل الكبار يسددوا لجسدي المتورم ضربات موجعة ,هربت وجرى الأطفال خلفي ولم يكن ذلك الهروب من الأطفال وحدهم وإنما أحببت الدوران حول قلعة اربيل للمرة الثانية والناس ترقبني بفضول وثمة ابتسامة ارتسمت على الوجوه ..كلهم اشتركوا في المؤامرة ...توقفت بضعة لحظات وفكرت أن انزع احد المعطفين من فوق قلب يطبل بقوة اسمع التطبيل وأنا واقف اشهق وازفر بقوة ,اجتاحني الكره الغريب لنفسي ولجحود الكرد بل تضخم الكره للعالم وزايلني ذلك الإحساس بحلم يقظة بأن الجميع سيمسح عن جسدي آثار شهور من التعذيب .
الشمس ساطعة وأنا لا اعرف أين أذهب وبدون أن أعي مسكت احد المعطفين بيدي اليمنى ولم تكن في وكدي أدنى فكرة أن أرميه في القمامة ...أنا لا اعرف لماذا أتشبث بأسمال السجن ,وبالصدفة وجدت نفسي محشورا مع فتيات جميلات ,أجمل ما يكون الإنسان كان ذلك بالسوق القيصري وواجهاته الزجاجية ,أجمل سوق في العالم ,طردني الباعة بقسوة خوف انكسار الزجاج الذي يبهر الأنظار بزخرفيات الذهب والقلائد وفوجئت بشارع عام ,وما زال الأطفال خلفي ,أومأت لسيارة اجرة علِ اركب عربة واهرب بعيدا أو اذهب للقسم الداخلي ,لا بد أن يكون هناك حارسا في باب القسم يسمح لي بالدخول والاختفاء عن هذا العالم لكن سيارات الأجرة ما أن تبطئ عجلاتها ويتفحصني سائقها يدوس على عجلة البانزين ويلوذ هاربا ... أتمنى أن اذهب إلى غرفتي وأقفل الباب ولم أخرج منها أبدا...
وقفت في منتصف الشارع وبكلتا يدي أحاول إيقاف السيارات..لا فائدة ...عاودني الكره العميق لذاتي ,يتفاعل الكره مع اليد اليمنى لتنهش فروه الرأس العكشة ,يخالجني ذلك الشعور كمن فقد أعز كائن في مكان ما ,هو ذاته الشعور الذي تشبعت به منذ أن تركت سهام في ذلك المنخفض مع حمار سباهي ,الشعور الذي اقتحمي وأنا اكتب العمود الفقري لرواية الشمال ..الشمال وعيناي لا تفارق باب بيتنا المقابل لروضة الكروان...منتظرا خروج أمي المثير للجنون .
(اسمي حسن ياسين من سكان محافظة السليمانية كتبت الرواية على ورد الكمبيوتر لعلمي إن صديقي سعيد حاشوش لا يمكنه طباعتها أو استنساخها في الجنوب لوجود الرقيب الأمني في منتصف التسعينيات وسمحت لنفسي بحذف عشرات الأوراق لعدم وجود علاقة بحبكة الرواية المولفة عن اللاجئات والوضع العراقي في أعوام نهاية الستينيات ..سأنشر رواية أخرى بطلها شخص كذاب اسمه حسن حديده من أهالي الزبير يكذب ويكذب لكنه في النهاية يكذب على رجال الأمن دفاعا عن أربعين معتقلا من رجال حزب الدعوة من طلبة إعدادية الزبير على رأسهم زغير شنون وحسين خلف وآخرين ويعدمه النظام أيضا وسعيد حاشوش يتعرض لأغرب اعتقال في تأريخ العراق حين يسجنه النظام في مدرسة يحجز فيها أهالي الكرد الصاعدين للجبال ويظل أياما واقفا في وحل المدرسة تحت المطر لاعتقاد شعبي انه من رجال الأمن ) .
في مكان ما تركت صديقي معصوب العينين ,مشيت غير آبه بالناس وحس الفقدان يمشي معي ,الوقت عصرا حين باغتني الربيع ملونا بالأحمر والأبيض , الأشجار تفوح برائحة أزهار تنام على أسيجة البيوت أحياء شعبية ونساء يغمزن الأفواه ,ثمة جدار من الأسلاك تنوخ عليه الجهنميات الشديدة الحمرة وتذكرت حديقة كل تند العامة ووجدت بابها مفتوحا بعد أن تمكنت من تمييز بابها عن باب نادي الأطباء ,تسمرت خلف الباب المكون من قضبان حديدية في محاولة أخيرة لطرد الأطفال الذين تومض عيونهم بخضرة دائرية كعيون القطط ,لكن جوقاتهم المتجددة والمتكومة من أطفال الحي الشعبي ما زالت تنظر لهيئتي بفضول ,تشممت رائحة الكلب النائم في كل طفل ,كلب مهجن لا يشبه كلبنا العربي ,ستكبر الكلاب ذات يوم وينخرط الأطفال الكبار في سلك الأمن ووجدت مقابلة الكلمات أكثر واقعية ,أن تصير الكلاب فرسانا أو....جحوش .
ثمة فتاة كردية سافرة بشعر أشقر ووجه كالحليب ... يكاد جسدها الأنثوي البض أن يتفتق عن تكوراته خلف قماش بنطلون الجنيز .. اصطدمت عيناها بنظراتي الزائغة ,استحيت وبان الخجل على حركات يدي اليمنى التي تنهش فروة الرأس ,ارتبكت وتذكرت إنني رجل .. تشممت رائحتي النتنة وأدركت إني كتلة ممزقة من الثياب ,لم أستطع الصمود أمام الجمال الإنساني فوليت هاربا تحت الأشجار لا ألوي على شيء ,شعور قاتل يلوب في الأعماق ,إحساس خفي إن شعبة الأمن الخاصة اغتالوا رجولتي أيضا حيث انتفخت إليتي وصارت اكبر من اتساع ظهري فيما تورم البطن بكرة صلبة تستدير بشدة وتنخفض على العانة ونهد صدري بثديين نافرين لم امتلكهما من قبل ,أنا المشهور بالنحافة ,أنحف طالب في جامعة صلاح الدين ,أتحسس ثديّ الأيسر الذي ملأ راحة يدي اليمنى .. رخوا ..دافئا وثمة حلمة نافرة وليونة في سمانتي فخذي السمينين كفخذي فتاة ,الآن وأنا أكتب لكِ ,اعتقد لا يعنيك ما فيها أتذكر رجرجات فخذي سهام .. بالضبط .. عندما تكون الشمس خلفهما أو تهمل الضوء خلفهما حين تقف في فتحة باب الصريفة وتطل على الظلام تترآى الفخذان كأنها عارية ,البياض اللامع وحده يتفتق تحت أثوابها في الظلام ,ويزداد التماع البياض حين تلبس ثوب عاشوراء الأسود .
اندفعت برغبة عارمة في الانزواء ,الاختفاء ,ذاكرتي التي ألهبتها المهانة تومض فيها صورا مشوهة لجسد كاظم رحيم جاسم المسجى على البلاط بعينين مشدودتين ويدين مربوطتين للخلف .. رغبة عارمة في تدخين سيجارة وثمة تعب مزمن ,ترهل في الجسد ,ثقل في الساقين ,ألم مافتئ يزداد في الفقرات ورغبة في الاستجداء بدون حياء ,بل أن شعورا يرافقني منذ ساعة ..إن حقوقي المتمثلة بالحياة والحرية قد تبعثرت بشكل مقصود وعلني في ذمم العراقيين .. بدون استثناء إلا من اعدم أو اعتقل .
أعظم ما في الكائن هو الكرامة , هذا الكائن حتى لو كان قردا في قفص حين تسلب كرامته يسقط بيأس وقد يتفلسف مع نفسه بالعدمية .. نعم ..حتى لو كان قردا ولا يستطع التحدث فانه يفلسف الشعور وإلا لماذا ..أنا ابن الجنوب حين أتحدى ابن الصحراء البعث البدوي ..لا أهابه وحين أفشل في مهمتي اسقط في جبن غريب المصدر ,ارتعش من صوت كلب ,أحب بجنون وأكره بجنون ,وفيّ إلى حدّ الغباء وحين يخون الآخر أظل أنافق وأنافق ,كيف احمل النقائض كلها ؟ من أنا ؟أم أن كل نقيض يحتضن عدوه في الأعماق ؟
-انت كاكه ليش يكلم روحه ؟
تحسسته متعاطفا معي حين هم بالوقوف ليناولني سيجارة أورثها بعجالة ..سحبت نفسا عميقة وشعرت بدوار لذيذ ,كدت أقع على الأرض المغطاة بالحشيش ,نظرت إلى كردي هرم ورأيته مستفزا بشكل يوحي بأنه لا يفقه شيئا عن حالتي وبدون أن تستقر عيناي على وجهه الملتحي امتصتا بجوع قنينة العرق التي بجانبه ... بادرته :
أنا طالب عربي .. من البصرة ..كنت مسجونا .. هم قالوا لي لا تقل شيئا عن السجن ...
ورأيت فمه الفاغر يتسع أكثر في محاولة لفهم شيء لا يمكن فهمه
-البصرة حلوة .. أنا يحب أهل البصرة .. كنت في الجيش هناك .. أنت ليش سجنوك ؟
-جاءتني فرصة سانحة أن أطلب رشفة من عرق زحلاوي وقبل أن يأذن لي اتجهت يدي اليمنى نحو إناء مليء بعرق ابيض ,التضامن الخفي جعلني أتصرف بدون لياقة ,اشعر إن الجميع يجب أن يسدد دينه لي وحين اخترقت حرارة العرق بلعومي هاجت سخونة في المعدة الخاوية وثمة شيء لا أفهمه يسري في الدماء .. نشوة ..أو خدر لذيذ جعلني أنسجم مع هذا العالم وأتحسس فجأة أن الحياة جميلة وان الفرح يطغي كالفيضان احتفالا بالحياة , إني ما زلت على قيد الحياة وقد اجتزت الامتحان بعد أن تحطم فكر وهوس الجلادين على صخرة الأجوبة الجاهزة التي أضعها في جيبي على كل سؤال محتمل ,حتى لو كان هناك تعذيب ,كل من نافق أمام السجان يظل حذرا من الانزلاق في مراوغة الظلم لأن السجان هو أنا الآخر في الأعماق ,السلطة آخر الظلامات على الجنوب .
تدفعني رغبة لا إرادية للاحتفال ,مازحت العجوز الفاغر فمه دهشة : أنا أحب الحضارة العراقية لأنها اكتشفت الكتابة وصنع الخمور ,تخيل في ذهنك شعبا أميا ليست له علاقة بالكتابة ولا يسكر وهذا يعني لا يعزف الموسيقى ويغني ويتحدث بالحضارة .. أية جرائم سترتكب .... ياكاكه إذا كنت تشرب ولا تسكر كيف نزيل التمييز القومي والديني والطائفي والطبقي ...
حين تمكنت من اجتياز محنة البيك الأول استبد بي الضحك .. اضحك .. اضحك وأنا أرتشف عرق سادة من فوهة القنينة ومازال العجوز الكردي فاغرا فمه دهشة ,صار ضحكي مسموعا ,وحين سمعت نفسي اضحك شعرت بسفالة ونذالة ,شعرت إني كبرت كثيرا واختفت طيبتي الأولى أو هو شيء لا أستطيع التعبير عنه ,كأنه اقرب إلى فض ببكارة نفس جاهدت أن تبقى نبيلة ,قد تندهشين إني اكتب لك عن الأخلاق التي أعتبرها نسبية وتتعلق بكرامة الإنسان نفسه ,وقد لا أستوعب الأخلاق وانسيابها في ضمير الشخص نفسه ,الأخلاق للحمير هكذا تؤكد الكتب الصفراء وأبي أيضا الذي يقول : الوفاء للأسياد يجعل من الإنسان كلب وفي ,كرامة كلب يهز ذيله للذي يطعمه ويركله في الوقت نفسه ,الكلب ينبح وهو نائم دفاعا عن حياة سيده ,إنها دائرة السيد والعبد الوفي .
قلت للكردي : هل أنا مجنون أعني شيته ..
لم أسمع جوابا بل اتسعت دائرة فمه الأدرد ,من المحتمل إن العرق ساعدني بالبحث عن ملفات أخفيها بعناية أسفل الدماغ وثمة نغرة تلح على أكواخ الذاكرة حين انبثق كاظم رحيم من عتمة الأشجار وظل يلومني مؤنبا , تجسدت هيئته المسجاة على بلاط بارد في عالم موحش لحيته الكثة الشديدة السواد ,لماذا أخرجوني من ذلك الظلام وأبقوه ,اجتاحني خزي وعار غامضين ,كان ذلك بعد بضعة ايام ,بعد الليلة التي كسر فيها الكيبل أنفي وجعله قطعتين ,مازال الآن قطعة فوق قطعة ويميل باعوجاجه لليسار ,عندما ساد ذلك الهدوء الغريب ,الصمت الذي يفضح نفسه بريبة ما ,حين لا أسمع صوت حذاء يطأ البلاط حينها اعتقدت إننا وحيدين ,أنا والطالب الكردي الملتصق بظهري مثل تؤم سيامي ,حين ينكمش ظهره ويلزق على قفاي ,الآن أيتها الزوجة تذكرت اسم الطالب حويز محمد نادر حويز من إعدادية صناعة اربيل ,من أهالي كويسنجق حيث سجن لانتمائه لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني ولم يبلغ الثامنة عشر بعد وكان اسم ضابط شعبة الأمن الخاصة هو الرائد صباح فيما تتردد أسماء رجال أمن مثل العريف عبدا لله ونائب عريف كريم البصراوي وكذلك احمد أبو زرقة العراقي وكل هؤلاء طلاب في جامعة صلاح الدين .
كان رجال الشرطة يجلسون معنا في القاعة الدراسية لكنهم لا يحفظون من الشعر إلا غزل أبو نؤاس وتهديد الحجاج ابن يوسف لأهل العراق.
حاولت أن اخلص معصمي من دائرة اسبانية الحديد وهي اصغر جامعة حديد في هذا المعتقل ,لم أتمكن ,وشرعت بحك قماشة عينيّ بكتف تؤمي الملاصق لي ولأن انفي متورما تمكنت من فتح ثغرة صغيرة ... ويا هول ما رأيت ,الغرق في ظلام دامس وان القماشات لا نفع لها سوى الزيادة في ثقل التعذيب ,أردت أن أتأكد فقط إن كاظم رحيم مازال حيا ... حاولت .. في ذلك الظلام ,ارتفع الصوت من فمي دون ا ناعي وصحت ..كاظم ... كاظم .. ورأت ثمة جثة قريبة ,تتململ أطرافها الشبيهة بالزوائد ,باغتني ضوء خفيف ينتشر فوق الجثث الحية ,في تلك اللحظة بالكاد رأيت لحية شديدة السواد وغمرني فرح عجيب .. انه معي ,لا سجين ينهار إذا كان بين الناس ,اللحظة التي أدركت انه معي أصابتني رأفة تجاهه ,أشم رائحة القوة الخفية تنام في أعماق الجثث الملقاة بلا مبالاة ولو ربطت أيدي وأرجل حيوان وجيرت عيناه لأصابه الجنون ,أية قوة خفية وغامضة في أعماق الإنسان المقاوم ,قوة لا أستطيع تصديقها أنا نفسي ,الروح التي حدثني عنها أبي الحكواتي بأنها روح عربيد ,يعتاد الظلم ولا يخضع ,حكاية العربيد والوردة .. حين قطع الملك رأس العربيد وظل الرأس ينتظر شهورا في سرج الحصان ينتظر أن يمدّ الملك ساقه في السرج ليعضّه .
أصابني دوار سكر شديد كمن ارتفع ضغط دمه فأقعيت على الأرض المبلولة بماء المطر أو مياه السقي ومددت ساقي ويدي كالأموات ,عيناي تطوفان على هامات الأشجار وغيوم متناثرة في الصحراء ...,اسمعه بوضوح وأنا مسجى على قفاي ..
- أنت مثلا صرت حرامي
ابتسمت في سري وأجبته بصوت يتعتع من الخمر
- كل ما في المسألة كنت أنا وكاظم رحيم في غرفتنا في القسم الداخلي لدار الطلاب الموجود في إعدادية الصناعة وجاءنا شخص بلباس زيتوني وقال انه مسؤول الأقسام الداخلية وظل يسب ويشتم وينعتنا بأوصاف مثل الشروقي والشيعي والشيوعي ..انتم شنشنة الجنوب لا تعرف إلا لعب الهيوا وببساطة ياكاكه قام إليه كاظم وسدد له ضربة أسقته على الأرض ثم جاء الفرسان واعتقلونا في مدرسة ابتدائية وصارت قضيتنا الإضراب وسب السيد الرئيس وبعد ما اعرف شنو ...
فوجئت بالكردي ينتصب أحدب الظهر ...
- أنت سياسي ..ليش يجي يجلس قربي ..أنا انسان فقيره ..كازم هذا عرب؟
أنا الآخر جلست مندهشا ..
- أنا لست سياسيا وأفقر منك
فاجئني بصوت بارد وكريه
- أنت يجوز مخابرات لابس مثل المخابيل
وهرب الرجل بين الأشجار بل رأيت عينيه اليابستين تومضان على الرغم من خفوت واتساع سواد البؤبؤين كعيني خفاش مخاتل ,ثمة ظلام تكدس بين الأشجار على مبعدة من أضواء المصابيح في حوض تعريشة عنب الثعلب وأشجار الفرشة بفرشتها الحمراء من أبواق مشبعة بسلافة سكرية لها ترجيع مر ,قد أكون مجنونا أو أنهم يدفعونني للجنون عنوة وإلا لماذا رموني في منتصف شارع متخوم بالأطفال ,كقمامة ما لسجن متخم ,وعلا صوتي بين الأشجار...فوق الأشجار ...فوق الأشجار ..وجدت صوتي لطيفا ,الصوت المحروم من استعماله ,تمتعت بالهمهمة بصوت منخفض ,نسيت العجوز الكردي تماما وارتفع صوتي مغردا ..فوق الأشجار وهمست بدندنة وتنهدت بأنفاس عميقة حين انفثأ الهواء الحبيس في أعماقي وسرعان ما عدت أهذي .. الأوغاد جعلوني أجتاز المرحلة الأخيرة من سلم الاهانة ,كلما أقاوم اسقط في حفرة يأس ليس لها قاع ,أنا متأكد أيتها الزوجة حين رموني في منتصف الشارع كانوا على يقين أني احمل لوثة ما في عقلي لأنهم لم يقتنعوا إن الإنسان انتحاري في المقاومة ,أنا لست خروفا في قطيع وهم يعرفون كل شيء عن التعذيب ..تصوري لماذا أصابني الإمساك وصار برازي متحجرا مثل براز الماعز أو الخراف تارة على شكل كرات صون تن وأحيانا على شكل أصابع مقطوعة ...
أين تعلموا كل هذه العلوم ؟ بعد أن كانت طبيعتي الاحتجاج صرت طيعا كحمار عجوز ,حين تحجر برازي تحجر دماغي المشلول بالخوف ,يجب أن أقص حكايتي ,كل شيء لا يكتب غير موجود ..لا يحق لكِ التأفف من النجاسات لأننا جميعا نعيش في نجاسة هائلة لذا لا يشم أحدنا الآخر ,أعرف انه التواء في التعبير ,ترجمة للالتواء في العقل العراقي في كشفه عن الحقائق ,كنت أقضي حاجتي في مرافق شعبة الأمن الخاصة ,هذا الوكر للأمن هو بيت صغير في الأصل ,مرافق صحية من المرمر وبسيفون ابيض لماع يعكس صدى همهمتي ويصدي الهمس في كل مفصل من أكواخ الذاكرة .. من تحت القماشة أرى كل شيء يلمع بألق عجيب وبدون أن أعي تنبثق بروزات الأصابع في فتحة السيفون ,أتحسس إني أزيح سموما مختمرة ,وبسرعة .. أتهيأ قبل أن يحين دوري .. أضغط .. اضغط.. في بعض الأحيان يخرج الريح صافرا وأنا ملتصق بصاحبي الكردي السيامي ,هو من الشمال وأنا من الجنوب ,لا أحد يشمت بالآخر لأننا نضغط على الأمعاء لنزيح تحجر ما ,اللحظة التي يخرج البروز من مخرجي تنتابني استلهامات شاعر ..أفكر بظرف ثوان ما يحدث في هذا اليوم ,وقد أعود للطفولة .. لخلائنا القديم في برّ الدريهمية حين أخلو مع نفسي وأغني أغنية ..لا ..خبر ..لا ..جفية لا حامض حلو ,وفي يوم ما خرج ذلك المصران الأبيض الشبيه بأفعى صغيرة من شدة الضغط وعرفت إنها دودة الإسكارس ,صرخت لحظتها .. أنت كذاب يا أبي ..يجب أن أخاف من الذي آكله وليس الذي يأكلني ,الضغط قد ينجب طفيليا في بعض الأحيان ,ومضت في رأسي ذكرى غروب خريفي حين لحقت بالسيد وكان سباهي معي لنتأكد أن صاحب الكرامات هل يبول ويتبرز مثلنا نحن الرعاع وحين ينكح النساء تعود المرأة بعدها جذلى إلى البيت وصوتها مرتفع فوق العادة وتوزع الابتسامات على الهواء ... وجدناه يثقب الأرض بماء بولته وأعتقد إنها كرامة أيضا ...
في خلوتي على السيفون الأبيض وفي حلم يقظة تمنيت أن أهزم الجلادين وأنتقم منهم ,الانتقام يجعلني إنسانا آخرا ولكن بإنسانية عظيمة ,المراحيض البعيدة عن كوخنا القديم ,مراحيض الطفولة تجعلني أغني ,كل أغنية لها طعم لذيذ ,الصرخة في حلم اليقظة تصير حقيقة ,تنبثق أفكارنا بعلم أفضل وأجمل من أقذر وأنجس مكان في العالم ,ثقافة الازدواج,النجاسة والطهارة .. حرام .. حلال .. حرام ..بعد أن تطور مرحاضي من صفيحة صدئة إلى سيفون ابيض لماع .
أجمل ما في شعبة الأمن الخاصة هو هذا السيفون لأني أكون وحدي مع انبثاق أصبع البراز والأفكار الهائمة التي تقتحم الجدران ,هذه المرة اكتشفت ثمة جلاد يقف خلفي وأنا أتبعرر ,لو كان سجينا لتبعرر مثلي مثلما كنا نقضي حاجتنا في جهنم سجون الحارثية ومديريات الأمن في اربيل وبغداد والبصرة .
قوقأته الموصلية تأمرني أن أضع أصبع البراز في فمي لأني أزحت القماشة عن عيني وحدقت في قدميه الجوزيتين ,المفاجئة جعلتني ألوذ بالصمت ,إعادة تهيكل في الذاكرة والتفكير ,لم أستوعب بعد لماذا يقف الجلاد خلفي ليرى كيف يخرج البراز من مصران المخرج رفضت الأمر متوسلا ,لم اصدق بعد إن أنسانا يجبر آخر على تذوق البراز ,انهال على رأسي بالعصا وأعتقد انه الكيبل الأسود لأن رأسي كاد ينفجر من الألم ,ليس الألم وحده بل دوي انفجار في الجمجمة ,الدم ينزل حارا ويلتوي خلف الأذنين ,يتشرب في عكشة رأسي الاكر ,صرختي المبتورة تاهت في فراغ حين رأيت الجلاد يمسك بين إصبعين البراز الذي لم أجيد تهديفه وإسقاطه في السيفون ,أطبقت فمي ولم أدعه يولج الإصبع بين الشفتين ,مازلت حتى هذه اللحظة لم أستوعب كيف يمسك إنسان ببنطلون وربطة عنق برازا نتنا بل هو أقذر نجاسة على الأرض ثم يقيس قطره براحة يده ليعرف مدى اتساع مخرجي وهل أنا لوطي لأني من البصرة حسب قوله لأكتشف انه شاذ ...هذا الجلاد هو الوحيد الذي دمر أجوبتي الجاهزة ...كل الهذيان الذي أحدثك به ما هو إلا زوبعة الكائن البشري وضجيج كل ما يحيط بهذا الكائن وكل ما يفكر به وحتى الذي يخاف أن يفكر به ,الزوبعة التي لها مخروط إعصار لابدّ أن تنتهي في قبر صغير أو مقبرة جماعية ,الجلاد المسخ وحده الذي جعلني احترم نفسي وأجلّها إلى درجة الجنون ,هي اللحظة النادرة التي تسم على التفكير البشري حين أدركت إن الدكتاتورية تربي المسوخ أما نحن الناس الحقيقيون على هذا الكوكب ,أنا أريد أن أحدثك عن تؤمي السيامي الكردي وذلك المكان الذي يشبه السرداب المثلث تحت الدرج الذي يصعد وينزل منه الجلادون وكيف أميز إيقاعات أحذيتهم , في أحيان قليلة أسمع خطى حفاة تحجل على ساق واحدة ,تصعد الأرجل ولا تنزل أبدا ...
انتبهت صدفة , تأكدت إن ثمة صوت بشري لم ينبع من داخلي هذه المرة ...
- أنت كاكه اللي يكلم نفسه ... قف ..
وقفت ويدي اليمنى تنهش عكشة الرأس ومعي تقف فوهة بندقية ..
- هويتك ..
- أنا طالب عربي من البصرة لكن هويتي بقيت هناك ,في شعبة الأمن الخاصة ,هم قالوا تعال وخذها الأسبوع القادم
اقتادوني أمامهم كانوا مجموعة من سبعة فرسان أو أكثر من الجندرمة الفرسان ,انبثقوا وسط ظلمة الأشجار ,لم أحتج .. مثل مخبول ,كانت بنادقهم مصوبة لإسفلت الشوارع وثمة قطرات باردة من المطر وكنت أعرف إنهم سيقتادونني إلى إحدى المدارس ويضعوني في أحد الصفوف حتى الصباح..اجلس على كرسي المعلم لأواجه هياكل وهمية لتلاميذ صغار ومن خلفي سبورة فارغة .
السجن الذي خرجت منه وعدت إليه ,كنت ... أزحف على الأرض حين أشم رائحة الطعام ,أجتر دون أن تتعب الفكان ...ترهل جسدي انتفخت أعضائي ,يرتج اللحم بين الفخذين كلما أنقلب على ظهري .
جسمي يتمدد أمامي وأمعائي تلفظ براز لين ,مثل فضلات بقرة ,في الشهر الأخير يرمي الجلاد مواعين التمن والفاصوليا أمامي وفكي يلوك وأنا منبطح على بطني ..ألوك ..ابلع ..أجتر ..
لم يقتلوا السجناء من الطلاب بتعذيب ما لكنهم وزعوا القتل البطيء على الجميع ,خبوت .. شيئا فشيئا ..كجمرة وحيدة يكسو ظهرها الرماد وما أن تهب الريح أجدني أتوهج بلون أزرق فاتح ,أضيء ..شديد اللمعان ..كحجر فيروز تضيء أشجاره المعرشة ثم تخفت كابية منسية...أعتقد ذلك ..حين ينحدر الإنسان إلى هاوية ينحدر كصخرة ثقيلة تغور في الوادي في ثوان معدودة لأن صعود الرابية أصعب .
الانزلاق سهل من القمة الوسائدية للرابية المطلة على مدرسة أبي ذر ,
نصعد بضجيج ونجند كل القوى الخفية وحين نقف على القمة لا ندرك معنى لوقوفنا على ارتفاع شاهق لذا ننحدر بانزلاق سريع وصامت إلى هاوية الصفر.
ياسمين وردة بيضاء تنبثق بين تعريشة هائلة الخضرة ..
نحن العرب أصحاب الضغط الدموي لأننا نكثر من التهام الملح لتعقيم المداخل والمخارج ...ولم نتعقم حتى الآن...
أبي الحكواتي يقول : العربي الذي يكون رحيما بالطير والحيوان والشجرة يكون رحيما بالإنسان...أبي لا يقتلع الفجل من جذوره وإنما يأكل أوراقه مثل غزال ...
سهام اغتصبت لأن وجهها يحتضن الجمال الطفولي الشرس ...
لملمت أوراق الروايات المبعثرة .. الجمل المبعثرة على الحيطان ..الآن اختصر ..لا أحد يقرأ ..
أبي يشم رائحة جيفة فيهرب إلى الماء ومسحوق التايد والبخور الحجري ليقتنع في النهاية إن رائحة شوارع الحي سببها الفساد الأخلاقي وليس القمامات المتفسخة ...
الطوائف تفرق العرب ولا تجمعهم إلا حجارة الكعبة ...
شدات ولفائف الثوم والبطنج تتشبث بخصاص كوخ البقرة لأنها تصيب الأفاعي بالجنون وتلوذ بالهرب ,السيد قال : دنت الساعة لان البقرة هي التي تلتهم الثوم دون أن تجتر ...والمسيحي يقول قربت قيامة المسيح لان البقرة شديدة الحمرة وفي الحوش شجرة دفلى بورد احمر ..هذا الورد نزرعه في المقابر ...
أنا ارصد فقط ...الأحداث هي التي تروي نفسها ..أنا انحدرت من أقذر مكان في الجغرافيا فأما أكون مجنونا أو قديسا أو أجمع الاثنين ......
لو إننا نبني دعائم مستقبل لأطفالنا لرويت الأحداث بخط مستقيم وجهدت برصد التتابع الزمني ,لكن المستقبل مظلم ولا نعرف الاتجاه ,مجرد خطوة قدم ونضيع في الصحراء ...
مربع المتحولين الذين يقلدون السلطة بتلفظ حرف الراء في المربع الخامس ,في الوسط تماما ..أما مربع التدوير هو السابع لأن فيه خلق بإعادة تدوير الإنسان من القمامة وإيجاده من جديد ,أنا أكره كلمة إنتاج أو صنع وإنما إبداع ,التدوير هو إبداع ولكن بأقل سمو من المثال الكمال ...
دائرة الصفر التي نعيش فيها هي قاع زوبعة تدور وتدور ,ولأنها دائرة مقفلة ,بالتأكيد ,تدل على كآبة مستشرية ,لذا وضعت الدائرة في مربع هو الآخر مقفل ,مما جعلنا نقع بكآبة أعمق ,فاضطررت أنا راوي الأحداث أن ارسم خريطة لأن كل صفر في حقيقته نداء للبدء ,البدء من أماكن مظلمة لا تضيء عتمتها إلا ألوان الأحجار المشعة ,إننا تعرفنا على قدسية الألوان من تنوع الأحجار ,نحن لا نرى الألوان في الشوارع إلا لتجعل من الطاغية إلها مزدانا بخيوط حمر وصفر وزرق مثل ديك عربي ...
كل بيت احتضن أحجاره بعيدا عن عيون السلطة ,أحجار مباركة للبقاء على قيد الحياة وأخرى للشفاء من الأمراض وأحجار اكبر وبألوان شفافة من أجل الحب والإنجاب ...
تلون أصابع السيد أحجار العقيق الكريمة التي تتوج محابس من فضة من الأحمر إلى الكبدي إلى شرف الشمس والأزرق والأسود الذي يقول عنه بأنه ياقوت ,ماعدا الخنصر الأيسر يعلوه حجر توباك بكابشون تلمع فيه عين الهر وثمة تاج لتك العين المسورة بحزام من خيوط القط ,أحجار يتمسك بها السيد والمسود ,لا توجد طبقة وسطى تمسك الحجر من الوسط ,إناء فخاري يتوسط كوخ السيد تعلوه أحجار عمدانية لها شكل المخاريط ,فيروز مشجر منقوع في الماء ,محار وخرزات بلون الحليب والتي يهديها للنساء الحوامل لأبعاد عسر الولادة بعد أن يوصي بالمضاجعة لزيادة ماء المرأة والتوسيع وهي راقدة على جنبها الأيسر ,محدّ مسنن ومطرقة صغيرة وموقد فحم تنام جنبه ثاقبة حديدية وسط غيوم من البخور الحجري ,على البساط المخصص لمراودة النساء يتناثر حصى بأسطح مصقولة ومقطعة إلى قطع صغيرة يطلق عليها صفة يغلب عليها حرف السين والنون ,عندما تتخذ الأحجار أشكالا غير متوقعة عند القطع بسبب الكسور والكشط غير الدقيق والمتناسق مع طيف امتصاص الأحجار للضوء أو التركيب البلوري للحصاة ,يبحث عن أحجاره في مجمع الجرانيت والكوارتز الذي ترميه شاحنات هائلة الحجم قرب أساسات مستشفى الزبير لبناء الآبار وسكة الحديد ,وأحجار الخطوة وصحراء الزبير بل أن كل حصاة يصنع منها كرامة بعد أن يعالجها بآلاته الحادة والقاطعة ,تشتري الناس أحجاره بمبالغ لا تخطر على بال ويوزع كل تلك الأموال على نساء القرية وبكرامات لا تخيب ,أنا راوي الأحداث لكثر ما عملت مع السيد صرت عارفا بالأحجار,بعد أن يشوي الأحجار كالبلوط في مجمرة الموقد ليثبت ألوانها ويتأكد من عدم زيفها , الحجر الأصلي الذي يصفه بالقديم دائما لا بدّ أن يحوي على شوائب وأحزمة ,وسر الجمال في الشوائب بل على ما ينطوي عليه من روح وكرامة ,السيد يقول إن الله ما انزل بهن من سلطان لكنه يؤكد إن كل حجر حين يمهر ويتزوج حامله فان جن النبي سليمان تكون بخدمته ,وللثقة العجيبة بالروح الكامن في الحجر فان حجر ضد الرصاص يحفظ صاحبه من كل نار بعد أن يحرق السيد الحجر ويتأكد انه لا يخاف أو يتبدل لونه يعطيه للشاري تيمنا بالأئمة ألاثني عشر ,لم تخب أي من كراماته فأصاب المنزلة والاحترام عند المريدين بل وصل الحال بالسيد إذا رفع يده وقف الجميع في حضرته .
أبي هو الآخر يحتفظ بحجر زنة كيلو غرام غير نظيف من العقيق اليماني الأحمر لوجود شوائب من أحجار أخرى ,أنفس أنواع العقيق ,وجده لامعا غب مطر الربيع على تلة النبي شعيب ,مازلت احتفظ بهذا الحجر وبالقماشة الخضراء التي أهداها له قيم ضريح النبي في الاهوار ,وحين استشهد أول رفيق من مناضلي الاهوار الشيوعيين دفناه على التل وكان جواز مرورنا للمقبرة في أعلى المرتفع هو أنا ابن الذي وجد الحجر الكبير من العقيق ,قبلني خادم الضريح وقال ..الله أنّ أبيك من مريدي آل البيت ,أوصيته أن يرسل الحجر إلى كربلاء لوجود نية ببناء متحف للإمام الحسين(ع) يضم تراث ثورات الشيعة لكن الحجر ما زال في صندوق أمي السيسم ,يخرجه أبي كل ليلة جمعة باكيا على الأمة التي تناست عن عمد ثورة الإمام الشفيع ,وان الإسلام عاش وانتشر بين الأقوام بالحسين وتضحيته من اجل العدالة ,ثم مال بوجهه نحوي مطرقا وقال : لم يشترك في أي حرب ضد أي دين أو دولة أو طائفة لان الإسلام لا ينشر بالسيف والإكراه وكذلك أبوه أمير المؤمنين ,الفارس الذي ثبت الإسلام بسيفه ولم يشترك بعد ذلك في أي حرب ضد المجوس أو المسيح , حتى عمر نفسه الذي أمر بالحرب بكى على السبايا وقال :هل طلبتم عذراء في سبيل الله أم سبيتموهن فكيف يا ولدي تريد الأئمة تظلم ,إن النبي جاء رحمة ..والبدو جعلوه نقمة .
مازال على التل الأثري يتناثر الزجاج الأخضر المائع والمتلون على أرضه تحت القمر بأضواء متراقصة تختفي حالما نقترب منها في ذلك الهور الشاسع ,في العام الماضي كان معي خبير الآثار البصري السيد هاشم محمد علي العزام حين زرنا التل من اجل التعرف على قبور الشهداء – عبد الزهرة ضيدان الحلفي وسيد هاشم البطاط وسيد مهنا ومولودة الحلفي ومعهم أكثر من أربعمائة شهيد - حينها وجدت عملة فضية نادرة تعود لثورة القرامطة ,الأرض الثائرة مهما تمر السنون تظل ثائرة .
كنت في سن التدشين حين اشتغلت تحت إمرة السيد الذي جعله أبي سيدا لأنه يحلم أن يكون دكتاتورا صغيرا وعايشت زوجته وأطفاله وكنت الوحيد الذي يدخل هذا البيت الغامض بالأسرار ,في كوخه الضبابي بدخان البخور همس في أذني لأنه يعرف إني سأسرد لأبي ما سمعته من حديث ,أنا لست راض عن عيشتي ,الذنب يقتلني ,النساء يعتقدن إني الكرامة وليس أحجاري ويطمحن بإنجاب أولاد لهم جمال وذكاء كي يتمكنوا من العيش مثل الناس ويتزوجن الأغنياء أو رجال الكويت والخليج ,أنت تعرف إن الشديد السمرة لا يتزوج إلا بيضاء وإلا كيف تفتحت البشرة في الخليج.. حسب قولهن فيهم عِرقْ سادة وسيحترمون الوالدين في الكبر ,فتيات غير مشوهات على الأقل يحصلن على زوج في الخليج أو هنا في البصرة ,اكتشفت انه خجول وانه مبتلى وانه سيهيم على وجهه من الذنوب , وأنا حتى هذه اللحظة أفكر دوما في اغرب واجب أخلاقي عبر التاريخ لأنه ابعد قرية كاملة عن التسول ويكاد يتبرع حتى بملابسه لكل عاهر .. غريب طريق العدالة وحين أفكر فيه أصاب بالثول وتنهار كل قناعاتي .
السيد يعاني أغرب فصام في التاريخ حتى خلت انه سينفصم وينقسم إلى شطرين في الجسد لغرابة الثنائية التي ينوء وسطها ..
كل حجر يضعه السيد بحنو في راحة يده بعد أن يبسمل لأنه يخاف من حجر نجس اسمه الهبهاب ,ثم يرفع الحجر إلى وجه الشمس ليتأكد من لألأته وكيفية انكسار الضوء وتباطئه والألوان المتشكلة والمتغيرة ,ثم ينظر للحجر من زاوية أخرى لان انكسار الضوء يميز نوعية الشوائب وازدواج المعادن وتعدد بلوراتها وقوة صلابة الحزام والملونات الجزيئية والجواهر العضوية وتلك السوائل المنصهرة ذات الحلمات والصخور المتحولة بعد احمرارها بالنار ,ويبرع السيد بصناعة الألوان من طحن الحجر والمحار.
أنا الراوي اختص بعلم غريب هو معرفة ثمار الرقي الأحمر ودرجة بلوغه ونوعيته وحلاوته ومكان زراعته أو إذا كانت بذوره مهجنة أو لا ,أدهشت الجميع في علم الغيب الذي احمله في معرفة ذوق البطيخ الأصفر وهو مازال محمولا على العربات ,قد لا تعني أحدا هذه المعارف مع علمي إن كل علماء البايلوجيا والهندسة الزراعية لا يمكنهم تخمين ذلك ,معلومات لا تعني لكم شيئا سوى إني كنت بائع ثمار لذا أتوقف عن السرد ......
حسبت إنه الياقوت الأحمر لكنه قال إن حجر الباءة يجعله كثير النكاح ,تتعبد النساء لحظة ولوج عضوه دفعة واحدة ,ويكثر السيد من تناول حبة البركة السوداء ودبس دمعة من نخل ألديري وبيوض سمكة زنجة مسودة اللون يجلبها له من بحر قزوين إيران بعض المسافرين إضافة للطراطير والسبيناخ من سلج وشبزي وجرجير ,قال أبي عن الحجر السحري انه سليماني ,وفي بحوثي الخاصة عرفت انه حجر بجادي تعلوه بنفسجه ويعني حب الرمان لأدرك سر تناول السيد للرمان وشغفه مثل الأطفال بحباته المتناثرة والتقاطها حبة حبة لأنه يعتقد إن سر الحياة في إحداها وليس في كل الحبوب ,حياة السيد تكمن في الخرافة والألغاز والجن وماء الحياة ,أنا لا استطيع التفريق بين العقيق الأحمر والأسود عن الياقوت الأحمر والأسود وثمة حجر يؤلمني عدم الحفاظ عليه هو الحجر الصيني الأبيض أو الأسود لاعتقادي انه حجر سليماني لذا بعته بسعر بخس بعد رحيل السيد ولم أدرك انه الحجر الذي تختم به الإمام علي ,الرحيل الذي لم يعد منه أبدا حين اكتشف بالصدفة انه عاقر بعد تحليل المجهر لمائه الذي يقول عنه الذي أنجب مئات الأطفال بوجوه بيضاء وجميلة ,وان سبب عقره حسب قوله انه لمس عرق اسطواني دون أن يبسمل ويصلي ليكتشف فيما بعد انه عرق هبهاب ,ترك لي زوجته وأطفاله وكل ما يملك ورحل يهذي مثل المجنون ,ولم يدخل أبي كوخ السيد أبدا طوال حياته ,هذا من الأسرار التي لم استوعبها أبدا ,رحل السيد في ليلة افتتاح الريسسز لأحرق الكوخ الذي ينكح فيه النساء ويؤذن للصلاة وعندما سألني الأب عن جريمتي قلت له إن الله هذا العظيم والكبير ينادي السيد باسمه من فوهة طبل مفتوح الجهتين ,احتار أبي في إجابتي ونقل ما تبقى من عائلة السيد إلى بيتنا لتختفي العائلة في صباح اليوم التالي والى الأبد .
الفصل كان خريفا ,اعتقد إنها رطوبة نهاية الشهر التاسع ,سنة السبعين التي افتتح فيها الريسسز ,حيث الشمس لم تصل بعد للنجمة السفلى لبرج العقرب ومازالت تحاول الفكاك من النجمة البابلية لبرج الأسد ,البرج الذي يحمل معه متعة الجنون والكارثة ,بعد أن نرسم خطا وهميا للشمس لتجري على مهل في الظلام ..لا شيء سوى أن الأرض تزرع بالطماطم وارض أخرى تهيأ لبذر الحنطة .
بعد سنين اختفت عائلة السيد ,كل مَنْ يرحل لا يعود ,ولم تبق إلا أحجار احتفظت بها بكيس جنفاص وضعته مع رواياتي الإحدى عشر في صندوق أمي السيسم ,وثمة حجر وحيد بأحزمة خضر يطلق عليه السيد بحجر الملكات لجماله الباهر وللسم المنقوع في صلابة الحجر حيث تتزين به الملكات والملوك في عصر غابر وامتصاصه بمصة واحدة من الحجر تجعل الإنسان يموت في ظرف أيام دون أن يدري , حجر آخر بلون اللازورد جعل أخي طاهر يكتب شعرا وثمة حجر تلفه أمي بقطعة من الصوف ليس باللازورد ولا بالأزرق الداكن وإنما باللون السماوي عرفت حالما رأيته انه لون أمي ,وضعت حجر الملكات في كيس لايلون صغير وأعددته كمشروع أولي للانتحار إذا اعتقلتني السلطة ,أنا غير مستعد أن استقبل راشدي واحد بعد الذي رأيته من تعذيب وفي الانتفاضة التي حرمتنا من الوقود أخذت زوجتي تخلع أخشاب الصندوق لصنع فطيرة طابق ذرة لأبي وحين عزمت على إنقاذ رواياتي والأحجار فاجئني جرذ وحيد قفز من بين أشلاء وحثربة الأوراق ,لم اعثر على جملة كاملة ,كل الجمل المفيدة ابتلعها الجرذ ,حتى كتب جدي الصفراء المجلدة ,طاردت الجرذ وحصرته في زاوية ,وقف على قدميه الخلفيتين كمن يهم بالقفز على وجهي ,تراجعت مذعورا حين كشف عن روح يائسة وانتحارية وبأسنان صفر .
خيم الآذان على المدينة وهبت الريح من الجهة الغربية ونفخ تنين النفط غيمة سوداء تغطي ضفائرها جبل سنام المزرق اللون ,انتصبت كعامود خيمة ,رأسي مرفوع للسماء ..أين الزرقة السماوية الفاتحة البياض ,هي ريح السموم وهمسها العنيد ,تحف بجسدي وتصنع ذيولا متعددة الأشكال لدشداشتي التي التصقت بالجسد العامود ,وحده بارزاً بتحدٍ من بين انثناءات الجسد.. الشمس في السمت والرائحة الكريهة .. تضغط على يافوخ الرأس .. اقتحمت عتبة الباب هارباً من حمأة الشمس , يتفحضي الكلب بعينين حمراوين , في باحة الحوش يمسد أبي عقاله الخشن , يروم قول كلمات لا اعرف كنهها .. عقال مثل هذا أو لا .. انظر يا سعد .. له شراشب من البرسيم وليس من السوتلي .. أنا اكره الرجال أصحاب العُقِل النحيفة الملساء كحيات الماء ,هل حقا رجال ؟ واخذ الأب يهز برأسه كاتماً أوجاعا خفية .. وبعد صمت قال :
-أنا ذاهب للشايب الفلسطيني ولو أنه مسيحي يندب حظ فلسطين والتعساء , هو يقول إن العرب هم الذين فرهدوا فلسطين وليس إسرائيل , ملك فلان سرق صوب وعلان نهب صفحة .. كان يجب أن نقبل بالثلثين ولمملكة النبي داود ثلثا لكن العرب .. آخ العرب يا ولدي ..لا افهم...
وهرب للخارج متحاشيا نظراتي حين أدرك بحسه الخفي بأنه خدعني في رمي الأفعى , الأم هي الأخرى اختبأت , البقرة الحمراء هي الوحيدة التي تستجدي عطفاً من سماء أو منحة من كائن , الريح تزمر بقشور قصب الخص ــ وثمة رائحة جيفة قادتني لها حاسة الشم .. هناك .. في الزاوية البائرة بزمن عتيق ,كعادتي أصاب بالذهول حين لا أدرك سر الأشياء .. كيف يفلت فأر من أفواه الأفاعي والقطط , وحين وضعت قصبة كي ارفعه عن الأرض يزلق رخوا ,أعدت الكرّة مرات عدة .. لا اعرف سر الانزلاق وبغتة أصيبت يدي اليمنى بالشلل حين وجدت هيكلي يقف جنب أفعى غليظة وقصيرة ولها رأس اسود تتبؤ فيه عينان دائريتان وأذنان ناتئتان ,وجه طائر بوم بدون منقار , ووبر اسود يتضمخ بالحناء عند الذقن ، الخوف يشل التفكير .. نفخ الرأس واختفى في حلانة التمر ,اندهشت حين وجدت العربيد بطول المسطرة المدرسية , ذلك الرأس المرعب مع جسد مبتور ,الخوف مازال يشل يدي على الرغم من انسياب العربيد بهدوء غير آبه بوجودي ,الصدفات المقشرة عن صفرة لامعة .. يمه .. يمه .. وكنت أتراجع للخلف ,حين سحقت بقدمي عظام حية ميتة وأصبت بداء الفيل ,سباهي هو الذي يعيرني دائما بالفيل حين يقول ..جاء الفيل ...ذهب الفيل..الفيل حيوان أليف..
واجتاحني ثول غريب . كيف تحرسي أفعى وتعضني أيضا ..حين رجعت إلى الوراء اصطدمت بالبقرة التي هي الأخرى تعاني من ورم خبئ نادت الأم ..سعد يا سعد ..يايمه ... لا فرق أو اختلاف في صياغة كلمات عن حب فتاة أو عن مأساة لاجئة أو غجرية ترقص بأجر زهيد .. عن أفاع وبؤس وبيوت من صفيح أو تنك .. مادامت كل الكلمات متشنجة لا تحمل نغمة أو ألفة.. المذيع في الراديو يصرخ بصوت أجش يخيف الأطفال عن انتصارات وهمية .. وعن قومية ..وطنية (بعد الانتفاضة تحولت فلسطين إلى هوية دينية وتأكدت أكثر على ضياعها إلى الأبد على يد الأخوان المسلمين).. على ما يبدو هو لا يعلم إن اللاجئات نكحهن العرب بالقوة منذ ولوجهن الخارطة في الجهة الغربية الصحراوية .. وحتى هذا الذي يصرخ .. آنه هولندي هذا أو دربي .. الله اعلم .. أنا لا اعرف بالضبط في أية سنة نحن .
الآن .. كل الأشياء شائهة .. الكرات السود تلتصق على الخصاص هل هي نفخة العربيد أعمت عيني أم الدخان .. نعم .. الدخان بدا لأول وهلة ملتويا ينفثه اللسان المشطور لنار الموقد .. ثمة قصبات تحترق وطرف سعفة يابسة ,للاحتراق صوت متسارع ,لا تني النيران تتصاعد حين تطفق القصبات بالطقطقة , إرهاصات الم ينفجر في جوف كل قصبة .. يلتوي الدخان ويعبر رأس جذع النخلة المشطور ، النخلة التي تحولت إلى سلم مائل لسقف السوباط .. وعندما هبت الريح أنفرش اللسان بدخان ابيض كثيف جال بفناء الحوش ليعلن النفير على النبر والبرغش والذباب المعشعش في فضلات البقرة وتلك الحشرة الازيرج الجاسئة كالخنفساء ,ذبابة الخيل التي لا تهاب ذيل البقرة فكف الذيل عن الميلان لليمين واليسار كبندول شَعري لساعة لا تقيس الوقت أو عمود دلو والقراد الذي ينتفخ ببطن سوداء حارة بالدم والأم التي لا تكف عن خلع القراد بالقوة بأصابع محرشفة من قسوة العمل .. الموقد يلتهم وبعد كل التهام ينفجر فيه كائن سواء كان قملة أو نملة فارسي أو قرادة .. كل تلك الحشرات لا تخلف ورمة حمراء على أجسادنا وبطن البقرة المتهالكة وسط الباحة , الباحة المكتظة بالدخان .. تجعل الكون يصغر .. ويصغر إلى فسحة من عالم ابيض ,انكمش في تلك البقعة حين يحفر الدخان مجرى لسيل دمع غزير , الدمع ينهمر من عيني الأم .. تغوص كشبح في عالم ضبابي معمّد بالنيران ... مرت لحظات متناهية في الصغر لحظات تبرعم النيران من شقوق روث الجلّة وخبوها حين تناهى إلى أذني صوت سباهي الآتي من بعيد .. فتح سباهي الباب دون أن يطرقه .. لأن باب ألبواري لا يطرق ,تحنحن بحنجرة ناعمة :
-يا الله .. خل نروح...
في الظهيرة يختبئ جبل سنام مزرقا في الكون اللامتناهي .. هجير بخار بحيرات يرقص مرتجفا مثل غاز تنفخه الأشباح فوق الروابي .. سراب الأشياء , ترتعش الكائنات البعيدة .
حي الطرب يقترب .. شرطي الباب يتأملنا صامتاً . لا يمكن الدخول للحي إلا من الباب .. البي آر سي يحوط الحي .. انه معسكر ليس للقتال وإنما للنكاح .
الرجال تخطو بين الأكواخ ,كائنات تدب في كل الاتجاهات لتبحث عن قوت .. وكل الأكواخ تتشابه بخطوة الرجال المتسعة .. أكواخ .. خباء .. بيوت من تنك .. خيام .. في كل هذه القبور نساء ينتظرن شخصا ما لينتشلهن بيد سماوية ويقذفهن على ارض من سماء وورود , لا يأتي , الذي يأتي يكون مخمورا برائحة صناجة نتنة مقابل دراهم معدودة , تجول الرجال بلا هدى تحت شمس لا ترحم لتهيج رائحة الإبطين المبتلة بالجيفة ,القطيع ألذكوري .. الوجوه عابسة وكل الرؤوس ترسم صورة لامرأة بيضاء بفخذين سمينين ومدورين بكور مترجرجة وأسفل الكور الطولانية شق اسود , تفحصت الوجوه ..وجوه قبيحة وأخرى بالغة الجمال ,القبيحة بشعر منفر ولحى غير حليقة أما الوجوه الجميلة تزينها رسومات تاتو من سكاكين ونجوم لتعلن عن شذوذ ما , وجوه جنود بزي مدني ,وجوه أهل الحي عابسة وتخلو من ابتسامة حتى لو كانت مصطنعة على وجه طفل أو امرأة مما يدل على إنهاك في العمل .. وجوه متعددة الأشكال ,النظرة الباحثة الثابتة بالتحديق وحدها التي تجمع الوجوه .. ثمة وجه غليظ على وشك أن يبتسم حين عثر بالصدفة على مراده .. استوقفني سباهي قرب خباء منعزل بضعة أمتار عن الأكواخ .. وقد يكون السبب في إفراده وانعزاله هو مياه المجاري المنسابة دون كلل .. ومن فتحات القصب المقشر والمشدود بحبال من ليف رأيت رجلا كث الشارب وله اعورار خفيف في عينه اليسرى .. النساء في عيونهن اعورار خفيف أيضا .. امرأة سمراء سمينة مسجاة على الأرض تتوسل ببكاء .. عليّ العادة .. يا عالم .. ياحوش .. العادة .. وسألت سباهي ما معنى العادة .. أجابني بدون أن ينظر بوجهي .. هذه الدماء النجسة التي تسقط من .. المرأة .. يسمونها الدورة الشهرية .. ثم قال بصوت خفيض..أش ..شش .. كي لا يسمعوننا .. وبإلحاح من الرجل ذي العقال والكث الشارب ,سمعت القواد المعقوف الشارب: الرجل يأتي مثل الخنزير لا يعرف عادة أو بطيخ .. يقذف التيزاب الذي يحرقه ويذهب لحال سبيله ,هي بصقة يبصقها في الخراء بعدها يصدم رأسه بالحائط ويذهب .
المرأة تصرخ باكية .. يا عالم .. يا حوش .. والرجل يجيبها بهدوء لسنا حوش نحن كاولية .. لا أجعل بناتي ينمن مع كل هبّ ودبّ , أهل الجنوب فقط ولو انك تتحدثين بلهجة بغدادية... كان المفروض أن تظلي في شارع بشار, بناتي محجوزات لرجال أكابر..للتمتع فقط .. وسمعت ضحكة غجرية افلتتها فتاة شابة : يلاطف أجسادهن الجميلة .. ويرقصن مع الابوذية .. أنت ماذا تجيدين يا قحبة سوى هذا الفرج المصاب بالسيلان .. أعطيهم من الخلف .. الزبون مثل الخنزير ، والمرأة تبكي.. عندي فتق .. يؤلمونني .. بدون رحمة ..
- طيب .. اطفالك ؟
وصرخ الأطفال احتجاجاً .. على الاغتصاب الذي تعرضوا له من رجال كبار يلبسون كفافي بيض .. ولم تنفع كل التوسلات ,التفت اليها الرجل المختفي تحت عقاله والكوفية المرقطة وتحت تأثير شاربه المعقوف رأيته يضرب المرأة بالعقال .. وهو يزعق .. أنت التي جئتي ونحن نريد شغلا هل تظنين إننا نلعب ,العتب على الأهل الذين هربتي منهم .. الله اعلم .. أية.. (يا زوجتي العزيزة وأنا اكتب لك ذكرى ما رأيت وسمعت توقفت عن التفكير في المربعات بين الشعب والسلطة ,على ما يبدو إن الخارطة يجب أن ترسم هنا وتحدد إحداثياتها ,شمالي شرقي كلها تحت الصفر , أي أن الصفر الهائل جعلت منه المربع صفر ثم وضعت داخل أضلاعه مربعات تصغر شيئا فشيئا وصولا إلى نقطة في الوسط تماما تتلاشى فيها حدود الأشكال الهندسية ,لأن الكفاح يجب أن يتوجه لأعماقنا أولا نحن الذين أنجبنا السلطة ووضعنا للقضاء عليها خارطة ثورية ).. مصيبة .. وتوقف الرجل حين اقتحمت الكوخ امرأة مزينة بأساور ذهبية تزين معصميها وتلبس الهاشمي ... ها كيف الشغل؟ .. أجابها الرجل ببرود .. موزين أي والله .. وافرغ جيوبه وأعطاها الأوراق المالية والدراهم .. قائلاً لها .. نريد أن نأكل شبوطاً .. أو بُنّي , ابتعدت عن خص الكوخ ووجدت نساء بجمال أخاذ يبعن السمك بطشوت ,اختارت المرأة المهيبة اكبر سمكة شبوط واشترتها دون أن تحاجج على السعر .. بائعة السمك تقول للمرأة .. يا شيخة صبيحة .. كل شغلكم تأكلون وتشربون به ..لا تتركوا قرشاً ابيض ليوم اسود , أجابت شيخة الغجر وهي مطربة شرائط تسجيل معروفة لسائقي السيارات : نحن لا نأمل ونخاف يوما اسود أبدا .. انتم تقولون يكده أبو كلاش يأكله أبو جوزه .. ونحن نقول هذا وكانت تشير إلى فرجها ويبتلعه هذا بعد أن وضعت يدها أسفل بطنها .. وغرقت بائعة السمك بضحك هستيري مما جعلني اسأل سباهي :من هو أبو جوزه .. وسباهي كعادته متجهم الوجه أجابني هذا .. أليست هذه جوزه وكان يشير إلى خصيتيه.. واندهشت حين تحولت لغة الغجر إلى لغة لم افهمها بمقاطع مبتورة وسريعة مثل الباي مشرابش معراكش وجملة أخرى ترددها النساء البايات موكاعش منظارش مقحابش ,وتعني الرجل يشرب عرق والرجال واقفون في انتظار الدخول على القحاب ,(هذه لغة كاذبة بإدخال حرف عربي يتكرر مثل ... يعراق بعا وكذلك ممراقش وتعني الكلمتان مشروب العرق كما أن كلمة مومس يعبرون عنها بكلمة حاته او محيات وعندما سألت سباهي عن قول المرأة الغجرية التي تلبس القماش الوردي بملازاش مسيارش مقمارش يريال برا يقاف بوا أجابني بترجمة سريعة ..الرجال واقفين في السِرَه بصفوف بانتظار دخولهم على العاهرة وبعضهم يريد راقصات وحين أجابت المرأة الأخرى ...بايات بكاري بسه ياظين على الحاتات يحبه بقا وياقصات برا ... ترجم سباهي ..إن الرجال بدون أخلاق وكذلك النساء ..قلت له هل هذه ترجمة ما قالته المرأة أجابني نعم ولكن لهم لغة أخرى اعتقد أنها هندية من نغمتها التي تعودنا عليها في الأفلام ,لغة خاصة لم أتمكن من فهمها أبدا..سوى بعض الكلمات منها كلمة بتوك وتعني نقود ..وكلمة مزش وتعني جيد وحرف الجر على إذا استخدم مع أي فعل أو كلمة يعني غير جيد .. )
طابور لرجال بمختلف الأعمار والأشكال والأعراق لعمال وكسبة وجنود يشتركون بالصمت والقبح وثمة من يمارس العادة السرية التي فشلت في سريتها وبعيون تنظر في الفراغ ,ذعرت لكن سباهي قال :هذا أفضل كي لا تقذف في أول دقيقة وإنما تلتذ بالعاهرة حين تطول الفترة لأنك حالما تقذف يرميك القواد أبو شوارب في الخارج .
سحبني سباهي من الكتف .. وابتعدنا .. أنا يا حياة .. ارصد لك هذا الواقع المؤلم الرهيب وإلا كيف نتجاوزه .. أسألكِ بالله .. أي بؤس هذا .. ونحن نسكن فوق اكبر بحيرة نفط في العالم , في طريق العودة أتعثر بالحصى لأني مرغم على السير ,واختفى جبل سنام في سراب رمادي ,وعلى يميني ترغو جمال بعيون سوداء ووجوه مستطيلة بلهاء .. وأطفال صغار بقمصان من قماش الجلسة يتجمعون في دائرة وخلفهم الخيول جامحة وهي مشدودة بسيقان أشجار الأثل .. التدريبات الاستباقية لليلة الجمعة العظيمة .. قال سباهي:
- لا يمكننا القفز من هنا في يوم الجمعة ,السياج فيه أسلاك شائكة ,إلا من الباب
- ندخل من الباب .. الدخول مجاني .. هل السباق في الليل ؟
- لا في صباح الباكر ليوم الجمعة...أو عصر اليوم .. لكن الرجال يشربون القناني الصفر والحمر والبيض في الليل ومعهم نساء فنانات ..
وبعد استدراك :
-منذ البارحة رأيت الرجال يغنون ومعهم نساء بملابس تختلف عن .. وأيضا مِن الخشابة.. في أثناء السباق يبيعون البيرة .. أنا سأشتري حبة بيرة...
-حبة ؟
-اعني بطل بيرة.
وتوقف عن الحديث .. توقف عن المشي وتسمرت عيناه على فتيات بيض وبدون أن يعي ظل فمه يترجم ما يدور في رأسه الأكبر..
-آخ .. لو أضعْ أبو جوزه مرة واحدة بين فخذي ياسمينة .. أو من الخلف مرة .. وبس..
وأصبت بغضب مباغت .. غضب اكبر من كل العارات .. لأن أبي يقول إن ياسمين أختي وهذا اليوم ستنقل خيمتهم وتلصق بدارتنا , قلت له بأنه منحط وحمار مثل حماره ,يا حياة لا اعرف لماذا التصق هذا الاعتقاد بدماغي , ليل نهار يفكر مثل حماره , ألا تعتقدين أن الألفة بين الحمار والإنسان تجعلهما يفكران بتناسق وتآلف ,ضربني سباهي بقبضة يده على رأسي .. ضربه أخرى دائرية لكمت فكي .. سقطت أرضا وبيده المحرشفة من حبل الرشمة خنقني وكان يجأر بأني لست رجلاً ولو كنت كذلك ما تركني اركب خلف سهام على ظهر الحمار .. لا اعرف كيف سددت له ضربة بقدمي على خصيتيه .. وقف منحنياً يحتضن الخصية صارخاً من ألم ما ينفك يزداد ويتحول صراخه إلى بكاء, أنا أكره سباهي الذي حولته بقدرة قادر بعد أكثر من خمسة عشر عاما إلى مومياء , هكذا شاع بين الناس بأني الخبير والعارف بكسر السواعد والأذرع اليسرى للجنود كي يحصلوا على إجازة مرضية أو عوق يطردهم من الجيش مقابل بطل عرق صرمهر ,إن أعمالي وأفعالي غريبة ,أبي يقول كل الذي تزرعه تحصده فيما بعد..نفس الزرع ,حين تزرع حرفوش لا تتوقعه يصير خضارا (إن عمل المرء لملاقيه ) لكن حكم الأجداد كثيرة لهذا السبب نعيش ونتناسل في القاع .
في تلك الليلة كنت مخموراً كعادتي حين نفذت مهمتي العسيرة بكسر ذراع احد الجنود المجازين وأيضا يسكر إلى حد الثمالة من يريد كسر أي عضو من أعضائه .. على ما يبدو لا ينفع كل عرق العالم لأني حالما افلت البلوكة الإسمنتية من يدي اسمع الصراخ , إلا سباهي لحظتها كنت أتمايل من السكر ، حتى البلوكة ثبتّها بيديّ البحار عبد علي خيون ,أصبت بالثول من أوامر عقيل سيد زيارة وهو يمتطي قبر السياب ولا اسمع منه إلا صوته الأجش... انطق .. انطق يا سياب .. سجل في مذكراتك .. هذا الذي لا اعرف كيف وصل إلى البار وحده بأنه .., عبد علي خيون البحار المدمن على الكحول مهووساً بكلمتي الوجود والعدم ... يا سعيد هذا موجود حوله إلى صيرورة العدم لكن السباهي يحاول بكل وسيلة النظر للبلوكة الهائلة الثقل والحجم .. كان مرعوباً رغم تحنيطه بأيدي البحار الطويل والذي نلقبه بالمدرعة .. البلوكة يا حياة .. كسرت ذراعه وضربته في المخيخ .. هذه العظمة البارزة في الرأس على شكل كرة أو زر منتفخ لجهاز ما.. لا شيء .. أرسلناه للمستشفى بعد أن ضمدنا جراحه بعرق الزحلة ولباس داخلي قطني لميت ما ,قالوا بضعة رجال يلبسون اكفانا بيض في المستشفى ,فيما بعد , انه أصيب بالشلل في النطق ولا اعرف كيف جاء به القدر إلى سجن الحارثية .. الله يحبني يا سهام لأنه يرحم بي . اعني يا حياة لأنه أول قتيل في الانتفاضة .. أنا لا اعرف كيف الفظ كلمة شهيد عنه .. في الحقيقة أنا .. أنا .. لا تنزعجي من تكرار أنا .. لأنها لا تعني شيئاً .. بعد أن أحبطت كل الذوات وأنا جزء من هذه الذوات.. حين أقول أنا أي نحن المحبطون .. الأنا لا تعني هنا إلا صرخة في فراغ هائل .. عبد علي خيون يعبر عن هذا الفراغ بالعدم الهائل .. عبد علي سكير مادام (بكيف) يكون هائلاً . أما عقيل فيقول إن الأنا جزء من الذات المطلقة المتلاشية في الكون , انه متأثر بغاندي .. لكن غاندي يؤكد إن الأنا تتوحد مع الذات المطلقة عن طريق الحب ,الحب واجب الإنسان تجاه إخوته من البشر .. أي بعد أن يمارس الإنسان إنسانيته المطلقة , مهما كان البشر.. عبيداً أو قطيعاً من البشر .. أنا اكره سباهي لأني لم أتمكن من حبه أو احتوائه , لم أتمكن من القيام بواجبي تجاه هذا الإنسان المسكين ..ونحن لا نحب إلا من نقدم له الأشياء الرائعة ,الإحباط يكمن في عدم تمكني من نيل حريتي وحرية الآخرين , أنا محبط , اكره كل ما في الكون من كائنات لعدم تمكني من الإسهام في تأكيد الإنسانية للذي يمشي على قائمين .. أنا في الحقيقة اشعر بالكره والقرف من كل قومي وطائفي .. لهذا السبب سأتعلق بكتابة الرواية , هي الوحيدة التي تنقذني .. تجعلني اشعر بالسمو البشري .. بالتوازن .. لأن النظام يراهن على تشتيت عقلي .. وبالتالي أصير مثل عقيل سيد زيارة تتضخم ذاته ويتحول إلى سوبرمان العصر ويُشهِد السياب على كل كلمة تنبؤية يطلقها ,المتضخم الذات يعاني من ظلم عتيق ,أنا الوحيد الذي يؤمن باللاشيء لأني أعيش في الصفر , سباهي .. المومياء ..أرجوكِ اكره الحديث عن سباهي هذا ..انه يشعرني إني مجرد نواة بحجم حبة الفجل أو الخردل في كون متبعثر في الطغيان .. أنا اعرف إن الجمل الرنانة لا تصلح إلا للحديث في المقاهي ولا تصلح لكتابة الرواية .. الحلم .. يجب أن يكون لكِ حلماً أيضا .. الإنسان بلا حلم يصبح كائنا ضمن قطيع , ابتعدت الآن عن سباهي ..في كل يوم أنفتل أو أصعد على درج القلعة من الآجر المتآكل وأتسيد رأس القلعة لأتبرز في منتصف المساحة الدائرية التي كان العثمانيون يضعون مدافعهم عليها ولهذا السبب وحده يسمي الفقراء هذه القلاع بالطوبة ,كل مركز لا بدّ أن تكون إحداثياته صفرا ,بعد تبرز السموم والأثقال في أمعائي أرصد الرؤوس المارقة تحتي ,في بعض الأحيان أرى وجهي يمشي على قائمين وأسرد لك تقلبات الوجه المنفصم عن وجهي ,في الأسفل أسمع صوت صاحب المزرعة الأخيرة التي تركها الريسسز تعاند الرحيل محمد أبو جاسم الطيب القلب (الذي يحدث أبي عن بيتهم أسفل ميبب العون في سوق البنات في محلة الشمال)والمترهل الكرش يحدث حماره ويحثه على الإسراع بالناعور ليسقي شتلات طماطم الخريف... نادى بصوت رخيم ..
- ياسعد يازعرور
لا أعرف كيف يراني في كل مرة أصعد المفتول ,صوته الضاحك يملأ الفضاء ..أنت تحب العنجور...في يده بطيخة مازالت خضراء ,أبقى دقائق أخرى أتأمل البحيرة التي تصنعها ينابيع خفية بمياه حلوه ..أسراب حمام الزاجل البري ,ودجاج الماء الأسود والذي يصطاد أبي منه في الشتاء ,وأسماك الخشني ..البحيرة الوحيدة في الصحراء التي تعود بي للطفولة وعلى مبعدة انتصبت الصبايا الفلسطينيات كالفزاعات في الصحراء , الاتفاق في الذهول والنظر إلى بؤرة واحدة في الكون يعذبني .. مثل كل طائفة يربطها حبل من اتفاق خفي .. الغرباء عن الأرض والبشر عيونهم متشنجة خلف الخيام يرقبون عدوا مختفياً .. بل لا يمكن فهمه .. لماذا الجميع يريد أن يغتصبنا ..خاصة أصحاب سيارات الأجرة والشاحنات عندما نتسول .. لا يستوعب العربي أن فتيات جميلات يتسولن ..كل لاجئة يمنع العمل عليها والاختلاط بالناس وتهيأ للنكاح ما السر في ذلك ؟هكذا تساءلت ياسمين حين كنا نمشي في البر متجهين للخيام .. ولم آبه لأسئلتها على الرغم من تأكيد أخواتها على هذا التساؤل .. رأسي يدور في عالم آخر .. عالم يتقهقر فيه سباهي الأقوى بين الأولاد بضربة واحدة على خصيته ، ثمة شعور غامض ملون بالفرح عن أحلام أتلمسها بيدي كوني سيد القطيع ، وانطلقت من فمي أغنية .. لا خبر .. لا جفية ..لا حلو.. لا شربت .. وصمتت ياسمين والأخوات وأعدت الكرّة ثانية بصوت أعلى ثم همدت صامتا حين أصدت أغنيتي بالصمت ..
الغربان جاثمة على المرتفع المقابل للمقصب والمعتق برائحة فضلات تتشبع في المكان .. ثمة كلاب تتوسط المنحدر ورقابها مرفوعة للسماء المبيضة في الهجير , بضعة كلاب بليقة صبغة الجرب لا تستقر في مكان وتهر ابوازها المسلوخة عويصاً ونباحا من ذلة وألم .. ثمة كلب أجرب يهرب مصعوقا وفي أثناء جريه يلوي الرقبة ويكشر بأسنانه ويعضض مابين فخذيه ليعاود الهرب كالزيطة .. ركضنا خلفه وفي يد كل منا حصاة ليهرب للمخيمات ويباغت بخروج الفلسطينيات من إحدى الخيام , برز ثلاثة رجال بدشاديش بيض ليسددوا كسرات الحصى والطابوق إلى بطن الكلب في الشق الذي حفرته آلات تشبه العقرب والمخصص لأنابيب النفط ,خنقني سباهي لكي اصمت حين جن جنونه برؤية ياسمين تتبرز في الحفرة القريبة من المخيمات وكان وجهها يدقق النظر في رجال يتحدثون في باب خيمتهم متناسية عجيزتها البيضاء الممتلئة عارية تجاه عيني سباهي المتماهي مع كل حركة وتشنج لا إرادي لإخراج برازها المتحجر من الإمساك ,انتفض عضو سباهي واحتضنه بيده وأخرجه أمام ناظري وهو يتعتع ..سأدخله بين تينتها ويشير إلى خلفيتها مهووسا باللواط وحين نظفت ياسمين خروجها بالأعشاب والنباتات ورأى سباهي مخرجها الوردي جن جنونه ولم أتمكن من السيطرة عليه لأني لا اعرف بماذا كان يهمس ,يحتضن عضوه بين يديّه وعيناه دائرتان تلمعان بجنون ,هربت ياسمين حين رأت سباهي مرعوبة وخجلة في الوقت نفسه ,ورأيت سباهي يشم الأرض التي يمشي عليها ثم يمسك براز الفتاة ويشمه مثل الكلب ,رأيت في تلك اللحظة جنونا يفوق كل التصورات ,اعتقد .. أنتِ لا تصدقين ما أكتب لأن سباهي أخذ يقيس ضخامة عضوه بضخامة البراز المتماسك في راحة يده اليسرى ويمارس العادة السرية بيده اليمنى .. يحاول أن يشبع انف عضوه برائحة البراز ,أنا لا اعرف بماذا كان يثرثر سوى أني أدرك إن كل من يألف البراز ويضمخ به العضو لا بدّ أن يكون في قاع الجنون والذلة .
تركت سباهي يبحث عن شيء لا اعرفه على الأرض واتجهت مصعوقا للفلسطينيات اللواتي يهمسن مع رجال بدشاديش وعقل نحيفة ,أريد أن اعرف فقط ماذا يريد الرجال من الفتيات ,شم انفي رائحة مؤامرة على الاتجار بجسد صغير ما ,وحين اقتربت مسك احد الرجال يد رجل شديد السمرة وانتحى به جانبا ,اقتربت وجلا ,تلتقي عينا ياسمين بوجهي وسرعان ما تشيحهما نحو الخيمة ,وحين انتقل الرجال والفلسطينيات إلى خيمة أخرى تاركين خلفهم الأشيب الشديد السمرة ,قالت ياسمين والعبرة تتكسر في صوتها :
- هذا الشايب - الله يلعنه – ينيك بالولد حماد والبقية مع البنات ,كلهم من الزبير مقابل تهريبنا إلى الكويت ,لهذا السبب تريد أمي العيش معكم وليس في المخيمات .
اسمعها تقول للسماء ..الله اكبر على العراقيين ..
(زوجتي العزيزة أنا انقل إليك ما رأيته وسمعته فقط والمخفي أعظم ..أنا لا أتجنى واختلق الأحداث ,لم يحب احد وطنه والناس مثلما أحببت لكن هذا الذي جرى ).
اقتربت من الخيام ,ملابس الغسيل النسائية الملونة مشرورة على الحبال ,الصمت ,ضحكة شاردة ,أزحت قماش الجتري لباب الخيمة ,لم استوعب ما رأيت ,الرجل المأفون بشعر عانة أبيض يمرر راحتي يديه على خلفية حماد العارية ...حماد منبطح على بطنه ,يسحب جسد حماد الصغير ويحاول أن يولج عضوه الأسود بين فخذي الطفل ,الطفل يتوسل صارخا من الألم وعلى ما يبدو أصيب الرجل العجوز بالطرش وعيناه تبحلقان بالتماع غريب , شعرت بالخوف حين اعتقدت إن العجوز ينظرني بنظرات مخيفة لكنه على ما يبدو يميل برأسه لجانب ما حين يلج عضوه في مخرج الجسد الهائل الطفولة والبياض .أسمع الرجل العجوز يهذي مع نفسه ..سيدخل ..لا تصم ..افتحه ..افتحه أحسن لك ..يالله ..أنا اعرف انك تشيل من رائحة الفساء...
صرخت بصوت افزع كائنات المخيم ..ابو..وي .. بوووي ..
صعق العجوز وهب واقفا...لسانه يشرشر بكلام بذيء ..ماذا تريد ..أنا لا ..مع واحد خايس مثلك .. مبزر ...رميته بالحصاة الكبيرة ,لا اعرف حجم الغضب الهائل الذي جعل الحصاة تنطلق من يدي اليمنى وبرمشة عين تفلق الرأس الأشيب ,هربت ,تلاحقني صرخات الرجل وثمة رعب جعلني أخطو في سراب حين رأيت الدماء تلون الجبهة وتتساقط القطرات على الوجه ,من الخيمة الأخرى طاردني شابان فيما ترك أبي جذع النخلة المشطور الذي يحمله من طرفه وذهب لملاقاتي راكضا ,رأيته ينزع المنجل من حزامه ويشتبك مع الشابين بعراك لا تراجع فيه ,طرف المنجل يفتق جلدة ثدي الشاب العريض الصدر ,فيما تلقى لكمة قاسية على أنفه من الشاب الآخر وسقط أرضا وبرك عليه الشاب الذي سدد له القبضة واخذ يضرب الأب بقبضتيه ضربات متسارعة ,على الرأس والوجه ,وبدون أن أعي عدت لإنقاذ الأب وبحصاة ملئت راحة القبضة هويت على الشاب برأسه المفلطح ,سمعت صوت الضربة كصوت انكسار عظم ,صرخ الشاب وهب واقفا وفوجئت بالجدة الفلسطينية تهوي على رأسه بمحراث تنور وعلى مبعدة كان صوت الأم يسبق ضربات عمود الخيمة ,العمود الطويل والثقيل مازلت لا اعرف كيف تسدد الأم به ضربات محكمة التصويب ,ثمة بشر يجيدون الدفاع والعراك والحرب بالفطرة ,هرب الأغراب وظل أبي منسدحا على الرمال يئن من جيل غريب الأطوار ,أشقياء الزبير تجمعوا تحت راية أبي بعد أن تلقى الضربة الموجعة ,انتفخ انفه واحمرت عينه اليسرى وحين حاول مسح دموع عينيه التي تهمل بدون حساب اكتشف انه بدون كفيته المرقطة ,ومن بين الخيام جاء الرجل الفلسطيني يتوكأ على عصاه ولا اعرف سر الغضب الذي جعل أبي ينهال على وجهي بعدة صفحات , هربت ,من المحتمل إن احتضانه الأرض وتلقيه الضربات وعدم تمكن منجله من حزّ كتف الشاب والدماء التي تلوث وجهه جعلته يخفف من ذلته بمطاردتي وهو حاسر الرأس عن شعرات بيض . ولم يستوعب حتى يوم مماته كيف أن شاب اسود نحيف خنقه من الزردوم وتركه سنينا طويلة مهزوما بذلة تفوق طاقته , حتى انه ظل يؤكد لنا .. هذا ابن زنا ..أكيد ابن زنا .
في باحة الحوش مازال العالم يصغر ويحفر الدخان في مآقينا سيلاً من دموع ,ومازالت البقرة منكفئة بوجهها المستطيل على القشاش ,أفعى رمل مبرقشة تنساب بتأني وتؤدة لتختفي خلف أكياس السمك المجفف ,الأخ الذي يكبرني بسنين ثلاث يبعص إحدى الأخوات ويخفي بخفة يده في جيب دشداشته ,نظرت الفلسطينية بوجهي دون أن تندهش وعاودت ترويج كرات العجين على دكة التنور ,وبدون أن أعي انتبهت لمذيع الراديو وأصخت السمع لعواء كلب لأكتشف انه الرفع في أواخر الكلمات العربية وبغتة قفز صوت غريب اللكنة بيننا... هذا هو دربي ....الطوب ...
الأب في الخارج مازال يعيد سرد الأحداث بلهجة ووقائع تختلف في سرد ما جرى ,الأم في الباحة تحدث النسوة عن أبي الذي هزم عدة رجال بضربات لا تخطيء من منجله المعقوف ,غفوت في باطن الصريفة رغم الذباب وعقارب العتمة ,على ما أعتقد قبل أن أغفو سمعت الأخ الذي يكبرني بعام يغني لا خبر لا جفية لا حامض حلو ,أظنه كان العام السبعين ,ثمة يد تهزني بلطف ..يمه أنت معرس بالصريفة ,أدركت إنها الأم وان آذان الغروب ينبعث من المآذن ...وحين لم أحرك ساكنا قالت :الشيطان وحده ينام والمؤذن يؤذن باسم الله .. الرحمن ,لا أعرف متى وكيف غفوت ؟ تحركت متثاقلا وغمست وجهي في ماء الحبّانة البارد الذي يرشح من تحت الحب المفخور والمبلل بالماء دائما ,ارتويت من الماء مثلما ترتوي الكلاب ,لعقت ولعطت بلساني ,قالت الأم : يالله ارحمنا..يا سعد يا يمه ..ماء الحبّانة يشرب منه الكلب ومريم والبقرة ..نجس يا ابني ..يالله ..يا سيد أحمد ... أعطنا مرادنا وأبعدنا عن كل شر .
في ذلك الغروب يطن البعوض في باطن السوباط وتعلو الأدعية مع التراب والدخان ,ويصمم أبي على فتح باب الحوش وخلع البارية كي تدخل الرحمة من عتبة الباب ,أنا أعتقد إن الرحمة تأتي من خلق نص جديد يبعث الناس من بؤرة القمامة ,لكن أبي يعتقد إن كل شيء يأتي من عتبة الباب ,الباب غير الموجود أصلا لأن الكلب يدخل من شقوقه متى يشاء ,وأجمل ما في لغة الأم والأب كسر أواخر الكلمات ... لا يحدث الكسر إلا في لحظات التجلي الصادقة ,إيقاع الكسر يشعرني بالطمأنينة ,حين تتناغم اللغة ندرك المعنى المشفر للكلمات ,بدون مقدمات ,بدون أن نلوي أفواهنا ونمد الحروف أو نأكلها في بعض الأحيان ,اللهجة موقف طبقي ,كل من يبث تقليعة في تلفظ الحروف يتنصل منا ,الخائن يبتدئ بتلفظ الكلمة ليقلد الأسياد ,أسياد عشائر تنقل أفكار الدكتاتورية والجريمة لأبنائهم بالوراثة ,هم الحكومة سيزيحوننا من هذا الحي ويرموننا في عمق الصحراء ,الآن أسمع أبواق سياراتهم في كل مكان ,تضع الأم يدها على خدي وتتحسس سخونة مرض ما ,هي تقول ان الخوف يمرض الأطفال (أدركت في الكبر إن الخوف يمرض الكبار بعقد الاضطهاد والجبن والارتياب والنفاق) .
أعطتني الأم طاسة لبن أتحسس معدنها باردا وثمة قطعة ثلج طافية ,أترع أنفي برائحة اللبن ,وبحب غريب وغامض تأملت اللبن حتى ذوبان قطعة الثلج شربت الطاسة كلها دون توقف وشعرت بالبرودة تغمرني وبالنشوة أو الخدر ,نجمة المساء توسطت عدة نجوم ,لا أعرف متى غفوت .. حلمت بفارس أخضر على فرس بيضاء انبثق من تحت الرمال بين قبر طلحة وخطوة علي يخب على الأرض ويقفز الروابي .. قلت لأبي في الحلم ..الفارس القافز فوق الروابي والتلال عنده سيف لامع ..وأكد أبي ..أكيد عنده سيف ؟ ..أجبته نعم ..أطرق وقال :العرب مازالت عندهم سيوف ,الفرس البيضاء تصهل وتختفي خلف القلعة الأثرية وأدركت بعد جهد إن الواقع اختلط بشبيهه حين صهل أحد خيول الجمارك .
تثاءبت الأم بغتة ,كعادتها ,حالما تستيقظ تتثاءب قبل أن تعلو أصوات المآذن الخاملة بحناجر مبلغمة وغليظة ,قد يكون دوي انكسار القصبات هو الذي أيقضها ,نظرت بوجهي تتمطى وتتمخط بساعدين نحيلين ترسلهما خلف الرأس حتى تلامس القصبات كفيها ..لا توجد انتفاخات في الساعدين لعظمة بارزة أو عضلة ,الساعد الأيمن أعوج من حضن الأحمال الثقيلة ,سواعد نساء الفقراء الشبيهة بخشبة طولانية مرققة المعصم مع اعوجاج في مفصل العكس ,عسقة عذق تمر,العمل الذي لا يهادن العضلات الناتئة أبدا ,ارتفاع الساعدين للأعلى والهمس بدعاء لم اسمعه والسبابة التي تحك فروة الرأس والانحناءة الملتوية كل ذلك التف بحبل امتد إلى لسان أبي ليخلعه من نهايته ويصرخ مفزعا الطيور التي تستوطن مثلث سقف الصريفة والكائنات التي تسترخي على سطح السوباط ,السوباط الذي يصلح لتكاثر الطيور ,واقتحمني شعور غريب هو أن الشيخوخة في هذه المنطقة من العالم لا تنجب إلا الموت ,الشيخوخة التي تنتظر عزرائيل كضيف ثقيل , أدركت فيما بعد إن الموت بسيط جدا وأن تعقيد فلسفته تعتمد على الحنين لفقدان الآخر ..اعتقد ذلك ,عاد رأسي يدور ثانية في الانتظار الصامت ودائرة الموت المغلقة ,حاولت جاهدا إبعاد أشباح الزوال لكن الليل وعتمة الصحراء وتلك الهياكل العظمية في الدياميس الطولانية قرب الخطوة ,جماجم وخصلات شعر ممسدة بالدهن البشري ,بساطة الموت غير المعقولة ,عشرات الجثث لخراف وحمير وخيول تقبر في مجمع القمامة القريب ,الفقراء أصدقاء البيئة لا يخلفوا نفاية أبدا ,كل الفضلات تأكلها الحيوانات والطيور حتى قطع الكارتون ,يجب طرد الأغنياء قمّامة العالم المتحضر ,إنهم غربان العصر .
اليوم الأول أرى الحصان مستسلما لنومة هادئة بعد تعب مضني ,اليوم الثاني تنتفخ الجثة كبطن امرأة في شهرها الثامن ,ولماذا لا؟ الكائنات تنجب بعد الموت يرقات بيض تنساب وتلتوي في اتجاهات أربعة ,(العقرب أيضا ينجب صغارا سودا من الحقد وحين لا يتمكن ذيل الأم من عقفه بشكل دائري تأكل الصغار البطن التي أنجبتها ) .
حين يستسلم الحصان لنوم هادئ وطويل ومخدر يباغتني بعد أيام بعمود فقري مهملا على جانب ما وثمة فقرات بعظام عاجية وكلاب نائمة ,وقد تنتقل سلسلة الفقرات هنا وهناك ,ثم يختفي كل شيء,أبي يقول إن الحيوانات تأكل نفسها لأن جيفتها مقبولة ,الإنسان وحده بجيفته يهجر قرية كاملة ,أبي حكيم عتيد حين يقول إن رائحة الإنسان الميت رائحة لا تليق بكائنات الله ,وحين سألته عن سر جيفة الإنسان أجابني بعد ممازحة ..لأن أبن آدم يأكل كل شيء حتى أخيه الإنسان مثل الذئب ولأن الحكواتي دائما يجد منفذا لسرد حكاياته عن الآدمي المستذئب وكيف يولد في العراق بين القتل والاضطهاد والمعتقل والقذارة المتراكمة بعطنة بول ,ضحكت على كلمة البول لأنه من المحذور التلفظ بها , قال مغموما :- يا ولدي حين تقص حكاية لا تكثر من ذكر النتانة والنجاسة لأن السامع يشم حالا وباللحظة الرائحة التي تعذبه في باب بيته... القذارة هي التي تفرض نفسها على كل حديث ويجب أن نتجنبها ...
يصمت أبي حين تذكره الأم إن كل حكواتي هو نحس في أعماقه وإلا ما الذي يجعله قصاص بالسخرة وبدون مقابل ,أمي تقول إن كثرة الحكايات تطير الرزق ,أمي علم مثيولوجي قديم يحتفظ بتابو سري عن حكايات دينية فقط وأنا أحترم أبي لأنه يحاصر الجيف في كل مكان ويعتبر إن الدهون التي يفرزها الإنسان هي نجاسة لهذا السبب تعلمت منه أن أغتسل بماء شديد الحرارة لإذابة الدهون وبمساعدة مسحوق التايد سومر الذي نعلق صورة الفتاة الرائعة الجمال والنظافة على غلاف عبوة المسحوق بالمسامير على الحائط ,الأب يعلق صور الفتيات والأشجار والأزهار ويتعطر برائحة بنت السودان ,والأم تعلق صور الأئمة وتتعطر برائحة البخور الحجري .
عالم سحري السواد كل شيء يلد فيه من جديد .. هاهو يحاصر الجيف في كل مكان .. تختفي رائحة الفطائس والجلود المشرورة على حبال غسيل الأعراب وبقايا المجزرة القريبة .. كل الروائح العطنة تتلاشى هل الريح الشمالية أم كثرة قناني العطور الفارغة التي نجمعها في القمامة ؟.. اعتقد إن برودة نسيم الفجر تخنق الجيف , رطوبة خانقة تجول في الأصقاع .. هذه اللحظات النادرة هاربة , دقائق من الزمن يعشقها الإنسان منذ فجر الخليقة .. يا حياة .. المشكلة .. عندما تنام كل الجيف تستيقظ رائحتنا البشرية .. وبأنف كلب أتصيد روائح عطنة بول الإخوة والفلسطينيات ,ياسمين بدون رائحة سوى عطنة بول حددت مصدرها من صفرة دائرية تلطخ الكلّة التي أعطاها أبي للجدة .. السوباط الذي بنيناه أمس مشدود بحبال لشدائد سوباطنا .. الأم ترتاب بسرّ احترام أبي للجدة .. لكنها تلعن الشيطان حين تراه يطرق الأرض حين يحدثها , رائحة إبط الأم أليفة ,في الشتاء نهرب أنا والأم لحراسة البقرة .. هناك رائحة غريبة تنام معنا .. بدون هوية .. ليست عطرة .. هي اقرب لرائحة السباخ , دنوت من الأم .. رائحتها المعتادة المشبعة بالشب والبخور الحجري , ملئت رئتي بالهواء .. هي رائحتها المعتادة بل جعل النوم رائحتها أكثر تميزاً .. لا حاجة أن أعيد ما قصصت لكِ , على الرغم من كبر سني أدس وجهي تحت إبطها وفي ليالي الشتاء اخفي جسدي الناتئ العظام تحت أضلاعها ,أحشره بالقوة متظاهراً بالخوف من كوابيس مرعبة , أنازعها على بقعة الصفيح المستوية تاركاً تموجات المعدن (الجينكو) واشبع إلى حدّ الامتلاء برائحة الأمومة رغم إننا ننام في كوخ البقرة .
-قاعده
ثم تعالى صوت الأب ثانية .. يا الله ارحمنا بجاه هذا الصباح .. انتفضت الأم بوجهها النحاسي خانقة زفير مسموم لرائحة شدائد الثوم ، فرقعت شدائد القصب المشدودة بحبال مجدولة من بند ليف النخيل ، تكسرات خفية في ليط القصب المفروش .. إن أمي كلما تكبر في السن ينقص وزنها حتى أصبحت بوزن الريشة .. في بعض الأحيان حين تمشى لا أسمع لقدميها صوتا ,من المحتمل إنها تطير هذه الأيام مثل ريش الدجاج ,وبدون ان تمدّ قامتها المبتورة من النصف تحبو كالأطفال على القصب المفروش .. تستحي من شرطة الجمارك المبحلقة عيونهم على الأكواخ ,في الفجر وبالتواء قطّنا العجوز نزلتْ على السلم المكون من نخلة مشطورة ومائلة .. على النخلة حفر متباعدة .. حزوز بمثابة درجات للسلم .. مالت الأم فوق الحزوز وكادت أن تسقط كرهوان مازال النعاس يغشي عينيه .. اسمعها الآن تسعل .. هي دائما تسعل في كل فجر من سلّ قديم ,مرت لحظات بالغة القصر ثارت بعدها زوبعة الأصوات المتآلفة في باطن الحوش, خوار البقرة وهي تحاول النهوض .. مواء القط العجوز .. صفيق أجنحة ثم نوبة من نباح الكلب الأسود ومعه عويص جراء .. الكلب العجوز أصيب بغريزة الأمومة ، الكلب الوحيد المهيب الطلعة .. ثمة احتمال انه ينتمي لكلاب الحراسة العربية الأصيلة , ليس حجمه الضخم هو الذي يدل على ذلك وإنما نحن نعرف أبيه وأمه وجده وجد جده لأن هذه الكلاب عاشت مع أجدادي ,كلبنا الأسود خلف مثلا يضرب فجأة في حوار وثرثرة العرب (مثل كلب بيت حاشوش يرهز على دكة التنور وحده )وحين أصغي لحديث الناس أتأكد أنهم لا يعرفون أبي أو أخباره .
نوبة نباح تعالت ثم خفتت مثلما بدأت , الجراء وحدها تعوص لاهية , اسمع الأم تكلم البقرة بصوت أبح وخافت ، لابد أن الظلمة كثيفة في زوايا الحوش , يأتيني صوتها كمن تتكلم في قعر بئر عميقة ,تهش الإوزات وتنش الدجاجات .. كالناعور تدور .. تدور وتدور وتتفقد أشياء وكائنات البارحة .. هي تقول إن الكلاب في الزبير ملقحة بابن آوى .. الكلب لا يثير في الإنسان الهيبة وإنما يثير الرأفة بجسده الممصوع والرقبة التي يرفعها للسماء حين يعوي... حثالة الكلاب وحثالة البشر ... اعتقد هذا هو الذي يدور في رأسكِ الآن عن كل كائن يسكن أطراف مدينة .. بل على قمامتها .. الأم مغزل عجوز متوحد , صوت دورانه يعلن خوفاً جاثماً .. في لحظة متهورة تكون فيها على وشك البكاء .. عيناها تدمع أولا ..يختفي بريق العينين المائي وتحمرا فجأة , في الخارج , الأكواخ مازالت مترعة في الظلمة ، غبش ثقيل ، إن تراصفها وتناثرها بشكل متراكب جعل الظلمة تسكن هناك ، ثمة فسحة بيضاء انقشع الغبش عنها , لا اعرف سر الغموض الذي جعل الأب يبني حوشنا على مبعدة من الأكواخ .. رمية حصاة هكذا يقول أبو سباهي , في الظلمة وحده بيتنا يمتاز بألق خفيف لعلو سيقان قصب الصرّيخ المقشر والمعلن عن أنوار خفية , الزمن علس لون المخابئ , ليقة صبغ خشب منخور ,زنجار صفائح دهن متأكسدة , خباء حائلة اللون من شعر الماعز , ومن بعيد يبدو كل شيء رمادي كالغيوم ,الكل يغور في الظلمة, لا ترى إلا اضوية الجمارك الخافتة ومصابيح نيون دور المياه الجوفية ,الآن كل شيء ساكن ,سكون ليل بهيم ,يعكر السكون تدحرج أواني الألمنيوم ,رنين سلاسل حديدية ,أصوات الليل ,تنبئني باستيقاظ عجائز الأكواخ ,توقيت النسوة الهرمات ,لا بدّ أن ثمة مشاعر ما تربط النسوة الآن ,وفي كل ظلمة ثمة بحث عن أواني وحطب ,القوري ملك أواني الفجر بل على رأسه تاج ,الأم تدرك بحدس خفي أن كل نساء الأعراب يتحركن في زوايا المخابيء بعيون مقفلة ,كل شيء يسكن الذاكرة ,بعض النساء يوحدهن السعال ,والقلة تؤمن إن نكاح الفجر أثوب وأعتقد إن بعض السيقان في الهواء أو على كتفي رجل ,الديكة والكلاب هي الأخرى تعتقد إن الفجر لها ,الجميع يعلن عن وجوده خوف الضياع في ليل بهيم ,,الليل الكئيب ,المشبع برائحة النتن والتفسخ , مدير البلدية عبد الكريم الشطيب هو الذي صمم وعزم أن يكون مجمع القمامة على ضفاف المستنقع لأنه من أصل بدوي ويخاف الماء مثل حيوان الضب ,بعد أن شبعت من الرائحة لا أشمها الآن وأنا أكتب ,أعرف إن الليل مشبع بالنتانة , كاسفنجة منقوعة بإفرازات صديد بقرة ومن المحتمل أن يكون حمار ,اعتدت على الرائحة لكني لم اعتد بعد على الرعب ,رعب بدون هوية ,ليس له آخر... ليس له أول ,يوما ما سأهزم هذا الخوف الذي يشلّ حواسي كلها ,يستقطب دماغي ويبلور أفكاري في بؤرة سوداء تمتص إشعاعات الضوء من الدائرة المحيطة ,في بعض الأحيان أعتقد إن هذا الخوف صدى أسى وقهر قديم ,لأني يا حياة .. أدركت إن قلقي الآن وعدم انصياعي للقطيع الذي يقدس الدكتاتور ,من المحتمل انه يعود لطفولتي ,لأن جنوب العراق يبكي ندما على عدم ثورته على أقسى اضطهاد ,الجميع يبكي على نفسه ,ويبكي على أجداده لأنهم لم يناصروا الحسين ابن علي ,أنا يا حياة ابن ألف معركة حدثت هنا ...ابن ست ثورات عظيمة ,بعضها للزنج وبعضها للقرامطة ,الزنوج البيض ,لون وجهي بلون الدخان لأن أمي داكنة السمرة (قاع التاريخ الأسود النائم في مقبرة الدماغ يطلقون عليه باللاوعي وأنا أسميه بالوعي الغائب الحاضر ,يعذبني التذكر الآن ,يبعثر أحلامي في الهواء وأنا دائما وأبدا أتذكر بأني من جنس الإنسان لذلك أمسك أشيائي بقوة خوف الضياع في ليل طويل ,طويل كالتأريخ الأسود ,التأريخ الزنجي للعرب ,الجواري والإماء والأزواج الخدم ,أجاهد بقوة للتحرر .. ثمة عجز مستشري في خلايا الدماغ ).
من أعماق الظلمة تصاعدت نافورة من الدخان الأبيض النقي .. ينبوع كثيف ينبعث من موقد حجري ، في زاوية مراح البقرة ، إلى جهة الجدي يسف الدخان عن رائحة نفاذة لبخور حجري ، رائحة تنام في أركان البيت المتباعدة ممزوجة بالروث المتحجر أو ذلك الخثي الذي تسميه أمي بالمطال وفي القاموس أقراص الجلة وتسميه الفلسطينيات بالأقراص النارية على سبيل النكتة تحت ثقل الحرب .. تشع الجلة حرارة على قشاش مراح البقرة .. سخونة أجساد لدنة .. رائحة حيوانات داجنة وأخرى تختفي في الزوايا والثقوب ,زنخة أسماك مجففة ومخزونة في أماكن رطبة ,رائحتنا المبخرة بالمسك والحناء والطين الخاوة وماء الورد وزيوت الشعر الكثيفة التي تتحفنا بها قعور قناني القمامة .. تجتمع الروائح بعمود الدخان المنبثق من فوهة الموقد مكونة طقوس وثنية مازلنا نعتنقها برهبة وإجلال .. نجلّ النار لأنها ترتعش .. تشبّ .. تتطاول أو تهوي للأرض ثم تنهض .. بالتأكد تسكنها روح ما .. تلك الروح ترتمي على الوجوه بكرامات وتمارس طقوساً تجعلنا نبحلق باللهيب وإلا كيف ترفرف حورية البخور وتطير من حجر أصم .. عندما تصفعنا النيران بخفقة ريح , خفقة جناح , تلسعنا بدبابيسها كالزنابير ,ننصهر ..نتلاشى بوميض الألسنة المشطورة , وقد نحترق كالمتصوفة دون أن نحس بالألم , كالفراشات .... لا تملّي من القراءة .. قد أكدس الأوصاف ككومة حطب لكن ما أطمح الوصول إليه لا تجدينه في النص ,أريد أن أنقلك إلى بطن الرواية التي سوف اكتبها فيما بعد ,الذي أكتبه هو تجميع لروايات سابقة ,وحدك تستحقين رواية منفردة لأنك تصارعين المستحيل من أجل لقمة زاد ,أنا زوج زائد ,مجرد كاتب نحس لروايات لا تقرأ .. كل همومي تكمن في جملة غريبة .. كلما أرى طيور البوم على المرتفعات أتذكر الخراب ,من الصعب إقناع القارئ .....
- سعدي .. سعدي البر
انتبهت .. يذكرني أبي بطائر السعدي دائما .. يريد أن يبعث في داخلي روح الطبيعة وفرحها الصباحي ...
لحظات أخرى من الكسل والانتظار .. صاح ثانية بعد أن يأس من إيقاظي
-سعدي...
بعد سنين طويلة من القهر يمتزج صوت أبي مع صوت السجان ويتلاشي فيما بعد ويصير اسمي يا للهول .. يا للمصيبة .. ويحرف بجهود من الأغلال ليصير (أبو الهول) لكن السجان لم يبتسم يوما , الأب وحده الذي يبتسم في ذلك الفجر حين رآني ابتسم بخبث.. أستدرك بإيماءة من رأسه وكأنه يريد أن يقول .. لا .. لم يؤذن الآذان الثاني بعد .... يعني بالآذان الثاني هو آذان الشيعة .. وبدون أن نتبادل الكلمات المعتادة نزلت على المصعد بخفة ومواء القط الأبيض المبقع بالسواد والذي يفترش دكة السلم وينام كل ليلة .. ألتفتَ إليَ بعد أن تجذرت قدمي اليمنى بين نتؤات حوافي سلم النخلة المائل .
سمعت سيد مجيد مؤذن جامع الشيشية ينادي على مؤذن جامع الحساوية ويصفه بالنائم والمتقاعس عن أداء الصلاة ويجيبه الآخر في مكبرة الصوت بأن سيد مجيد تسنن ويعني انه صار سنيا ويسارع لنداء الصلاة حتى قبل أن ينتهي مؤذن جامع الزبير وبراحة النقيب والباطن والزهيرية ....كان الناس في كل يوم يسمعون تحرش سيد مجيد أثناء الآذان بالمؤذن الآخر ويعيره بعيد الفطر الذي فطر فيه أولاد عامر في قضاء الزبير بعد أربعة أيام من إفطار المسلمين .. أعتقد انه عام السبعين حين تدخل شيخ مرتضى مؤذن جامع الكوت ومعه مؤذن جامع الحاج طوينه الذي يجيب بنعم أو لا بمكبرة الصوت وكان أغرب حوار ومشاجرة دينية عبر التاريخ .
الجميع ينطلقون من فطرة وسريرة صافية ويتحدثون عبر الأثير لأكتشف ولأول مرة إن مذهب أبي وجدي من قبله منقسم إلى جماعات ولا يوحدهم إلا الإمام علي وولده الحسين الشهيد ....قال لي الجلاد وأنا أتدلى بالمقلوب من مروحة تدور وتدور بأني شيعي وشيوعي وشروقي ..كل هذه الشنشنة تنطق بالخطر .
-يا سعد .. البقرة ليس فيها حليب .. غرزت من المرض .. لا تذهب مع أمك لبيع اللبن والفرارات .. اذهب للجيش .. صمون يابس .. سلج أو لهانه لهذه المسكينة .. في الباحة ، من طاسة حديدية رماها عمال البناء يتصاعد الدخان من أقراص الجلة ابيض كالقطن المنفوش .. الدخان يتصاعد ببطء ويرتمي على كل الوجوه وبنسمة ريح خفيفة يغطي البقرة وتتلاشى كأنها في غيمة .. ثوان .. تجلى وجه البقرة الخارج من السراب الأبيض مبحلقاً بكسل في جمرات النار بعد أن نفخت أمي الروث الجاف برئتين منخورتين من سل قديم .. تمد أقراص الجلة لسان احمر برأس رمادي وكلما ينشطر اللسان تطقطق وتتهشم أرواح اكتوت باللهيب .. الدخان المهوش يصغر ويصغر ..يعود لقمقمه كالعفريت .. الآن .. يتوالد الضوء بين الجمرات ويطيش .. يصطدم بالخصاص المقشرة بقصب يأتلق مع النار .. يطفح قوري الشاي ويمج سائلاً يطفئ اشتعالات الضوء .. يتلاشى الضوء ويضيع .. تصغر الباحة وتكبر وتتلون البقرة بالقرمز .. فيما جثت البطات البِيض بلون أمغر واغبر وبالصدفة عادت طيور البط والإوز إلى ألوانها وعادت البقرة إلى لون فاقع الحمرة..
عاودت الأم النفيخ في النار بزفير مخنوق ,غمرني الدخان وسالت الدموع بدون سابق إنذار وحفرت أخدودا شديد السواد على جانب الأنف من جهته اليمنى ,مازال الأخدود مرتسما على وجهي كبقايا من قذى عين دائمة الرمد ,أمواج الضباب الأبيض طاردة البق والبرغش المهوم ليل نهار على جسد البقرة المتهالكة على الأرض .. لسان النار المشطور كأفعى يفتت الظلمة في زوايا الحوش المتباعدة , ينشر ظلاً مخبئا متراقصاً وقد يكون مرتجفاً لأجسادنا النحيفة .. فيما كانت الزاوية البائرة بزمن عتيق تنفث روائحها كلما تهب الريح .. ثمة أفاع تنساب وتختفي ومن المحتمل يترآى لي إن حبالاً تلتوي وتنساب للمجهول .. الخوف يعيد صياغة أحجام الكائنات .. هناك رائحة جرذ نفق في جحره .. ويقول الأب إنها رائحة سمك الشلج .. الرائحة المخزونة .. ومازال الطقس السحري يجعل الظلال تتراقص تملقاً كلسان مشطور ينبعث من أسفل أقراص الجلة ثمة بياض يسيح على الباحة المكنوسة من القشاش تتحدر شيئاً فشيئاً حتى تمتلئ بقشاش التبن المتناثر ببعثرة تدل على حركة قائمي البقرة الخلفيين برفسة مفاجئة ومستفزة , يتبعني الدخان ويتوه .. حالما يتوالد يطيش بهبة ريح وثمة صرير نظيم في بارية الباب , تزمير بدائي لقشرة قصبة غليظة , حبل الغسيل يعلو ويباغتني حين يهوي .. انفجار أطلاقة عصفت بالسكون , أطلاقة يتيمة ,اقرب ما تكون لدوي بندقية صيد كسرية قديمة , اعتقدت إن الأم تضرب ملابس طافية في الطشت بأصل جريد سعفة .. ونظرت للأخ الأوسط الذي كعادته يجمع الأكياس في القمامة وينفخها ثم يضغطها كي تنفجر , ليس للانفجار صوت أطلاقة .. لابد أن هناك شيئاً ينفجر كلما توقد الأم حطب الموقد والتنور .
- زايره .. ما الذي يثور
مازلت في وقفتي المتسائلة .. الأم مندهشة وكفاها الغليظتان ترسمان الرعب وصرخة تعوّذ أفلتها الفم الخالي من الأسنان ..
-مطال وهرش حمض لم أضع خشبا وقصبا حتى....
بالتأكيد إن النيران تفجر كل شيء ونشك كعادتنا بغصن أثل رطب كي لا نوغل في الخوف .. ندرك أن هناك معاركا أخفاها التأريخ في جوف الأرض , القبور الطولانية وبطائح الممالح والفارس الأبيض الذي يقفز فوق التلال...
قالت الجدة الفلسطينية :
- قناني أدوية بنسلين أو عطور في كومة الحطب
وقالت الأم:
- آهة سعلاة عندها فروخ تحت الموقد
وقال الأب :
- من المحتمل أن اليهود رموا بالطائرات القنابل لأن الصغير قال ذلك ويعني بالصغير الرجل الفلسطيني الهرم .. في هذه اللحظة دوى انفجار قنبلة نثر الرماد في باحة البيت .. حاولت البقرة الوقوف ولم تستطع وهربت البطات والدجاجات بقوقأة الخوف .. لابد أن قناني العطور مغلقة بإحكام .. النيران تفجر العلب الفارغة .. بل كل شيء تأكسد على نفسه .. قد تكون روح بريء خاملة قتلت غدراً حوقل الأب ويداه تمسكان خصره دلالة على التحدي وعدم الفهم فيما نقلت الأم طاسة الموقد الواسعة كطشت إلى زاوية بائرة أخرى .. في تلك الزاوية ثمة شيء يعلو ويتطاول كمارد السندباد .. وأدركنا بعد حين إن قطعة بيضاء تعود للكلة التي أعطاها أبي للجدة الفلسطينية مازالت مشرورة هناك ولكن الريح الساخنة تدفعها من أسفل .. الريح دائما تدفع الأشياء من الأسفل .. اقتربت وجلا .. مازال دم البراغيث والبق يرقط الكلة وثمة بقع صفراء تعبر عن أحلام رائعة في الفراش .. إدرار بول غزير كان ذلك بولي .. لأني احلم بالتبول على ضفة الجدول .. وعندما تمتص خيوط القطن السوائل العطنة وتبرد الركبتين استيقظ متأسفاً على ضياع ووأد حلم جميل .. ولكن لماذا أعطى الأب كلتنا للجدة .. ؟ البالون الأبيض كان يميز سوباطنا حتى من قبل الجنود في المعسكر البعيد , الأب يكره عيون شرطة الجمارك ولا يحترم إلا العريف الكردي حاتم الذي يسكن الدروازة في الزبير وأب لصديقي وزميلي في المدرسة كريم الأحمر الذي استشهد أو قتل في الحرب العراقية الإيرانية فيما بعد.. من قال لأبي إن الكلة في الصحراء غير صالحة ـ أم أن الشقوق والثقوب والعمل اليومي في رتق الفتوق .. دوائر معضوضة بأسنان فأرة أو أظافر إنسان .. في الليالي الأخيرة هي التي تختزن وتحتجز البق والبرغش والقارص على أجسادنا بعد أن تهب الريح وتلوذ الحشرات بالسواتر.
بعد آذان الغروب .. وحين تصعد النجمة في السماء تحلب الأم البقرة ,إخوتي يمهدون السبيل لتطيير الدجاج على مثلث الصريفة الهرمي خوفاً من ذئب أو ابن آوى , ابن آوى اختفى لكثرة الكلاب .. أو انه تناسل مع الكلاب وصارت كل الكلاب هجينة .. وأنا أتدرب على نصب الكلة وتظل عيناي تبحثان عن بقة مختبئة في زاوية أو طيّة ملتوية , من المستحيل النوم مع بقة وحيدة في كلة مستطيلة .. الكلة تتمايل مكسرة القصبات .. ميلها كميل سفينة جانحة على الضفاف .. تارة تميل لليمين وتارة لجهة تخلقها الريح , أنا لا أميز الجهات الأربع حين يغطيني البياض .. فقط حين أرى نجمة المساء الوحيدة التي تتسلق السماء من الشرق إلى الجنوب , الكلة تميل دائما لليمين .. قصبة الخيزران ثابتة ومشدودة لنخلة المصعد .. الخيزرانه مائلة لأنها شدّت بحبال للمصعد الذي هو مائل منذ فجر الخليقة , القصبات التي تحاول سترنا من الجانب الآخر , ستارة القصب على جهة الأكواخ والمخيمات والمجزرة تتكسر لدى هبوب الريح .. وقد تنحني كأغصان توت دون أن ترضها الريح .. قبل ليلتين كانت الريح شرقية رطبة دبقة والدنيا كفّتْ عن الدوران حينها تنضح الأجساد رطوبة لزجة , اله الروائح ينتعش في الليالي الرطبة .. يقدس الإله في كل مكان , على ما يبدو أن الأب سليل ذكاء فطري حين أعطاها للجدة تاركاً قطعة صغيرة نصنع منها ألبسة داخلية .. أحب أن أذكركِ .. لم نخيط ألبسة أبدا .. نشد بطوننا بسلك معدني مغلف بالبلاستيك (واير) ونطوي أطراف القماشة من الخلف والأمام لتحتضن الخصية .. أسلاك النساء لها أغلفة خضر من البلاستك , تعلمت بعض الفتيات في القرية ارتداء اللباس القطني من الفلسطينيات .. يا حياة .. كيف أجعلك تعيشين معي في بطن الرواية , الإنسان كومة أسرار بائسة .. جبال من الأسرار , سأقلك بعربة الكلمات لأجعلكِ قريبة مني .. من الواقع .. واقع بشر القمامة والقنانة الساكنين كالنمل على بحيرة هائلة النفط ..النفط الذي لا يقتل إلا الحشرات في بلدي , أقف الآن على الربوة الطولانية ، القبر الذي أمحت الأقدام معالمه وهذه الكلة التي تنفخها الريح كشبح ابيض .. أشباح الطفولة دائما بلون ابيض ,وجوه الفقراء وحدها ملونة بالسخام , تعلو الكلة .. تأتيها الريح من اسفل ,أسفل الدماغ المتراكم بالخوف ,حين تتسامى الأرواح من جوف الأرض ينتفخ مثل خيمة .. ارتعش .. وحيداً .. كأني أغيب في عتمة سرداب .. انزل .. اهبط في بئر, يغرقني الظل المرتعش بالعزلة .. عزلة الكائن وهو ينزل لجوف الأرض ,على سلم نخلة مشطورة إلى نصفين ,تراب الباحة بليلٌ وبارد ,ورائحة الأرض والزاوية البائرة بالخوف والظلمة ,أغور مبتعدا في رحلة لا رجعة فيها , الزاوية تبعد أمتارا عشرة , الأم تقرفص حول نيران الموقد وبطرف ثوبها تمج الريح على النار , وثمة حبل اسود يلتوي وينساب بألفة وتمهل ويختفي في أكياس الجنفاص .. الضوء يخبو .. ينحسر بهبة ريح .. نسمة فجر جعلت الكلة تعلو ثم تنسدل ببطء منفلتة من جاذبية سقوط الأشياء وفجأة تراجعت إلى الخلف مذعوراً دون أن أتبول كعادتي في كل فجر , صَدَف لحظة رجوعي خائفاً من الظلمة وتلك الأفاعي أصدمت وجهاً لوجه مع أبي .. كان عارياً متمرداً على أعراف الرب والإنسان ,ومن ذلك السطل الذي تشمشمه البقرة يغرف الماء بطاسة تومض ببريق على ارتعاش استشعال النيران , جسده الطويل كساق شجرة هرمة يرشرش الماء على البقرة المتهالكة وسط الباحة , مرت لحظات وأنا كالتمثال والأب لا يأبه بنظراتي .. لحظات يستغرقها شهاب يزيغ في السماء ويحترق , أردت أن اسأل الأم , لماذا لا تكفان عن التناسل والخصوبة ونحن أبناؤك كبار , الشيخوخة لا تنجب إلا تبادل السوائل , تأملت السماء البلورية .. اندهشت .. كيف هي سماؤنا البصرية بلورية وداكنة في نفس الوقت؟ .. لم أكن أدرك حدة زرقتها إلا متى ما نزلت إلى جوف الظلمة .. ثمة أصوات تزيد عمق الصمت .. مؤذن الفجر يهلل بدعاء الخميس , صعدت النخلة المشطورة وسمعت الأب يؤنب الأم...
- توّكِ ؟
لم تجب .. ولم تحلبها بعد .. لحظة صعودي تحسست نفسي اصعد نخلة مائلة كتلك النخيل التي تحني جذوعها على الأنهر , فوق السوباط السماء فاتحة الزرقة , وكلتنا هائلة البياض تضم داخلها فتيات طريات بالبياض ,هذا التحرر من عتمة الحوش جعلني أتحرر برأسي البارز النتوء من الخلف .. اتسعت الدنيا , بانت الأكواخ المخمورة بالظلمة واضحة المعالم , وجدت عينيّ ترصدان كوخ ما .. تنكشف الظلال المعتمة للروابي عن كائنات تتحرك بتأنٍ فوق الصحراء وينفتح أفق رمادي في الأسفل فيما تتسع الأعالي بلازورد مشع , في أعماق البرية تكبر دائرة الأفق الرمادي .. تكبر إلى مالا نهاية , ومازال الغبش يغشي الأودية , كالضباب يحيل الرؤية في الآماد البعيدة .. الرمال بليلة .. وحين لويت عنقي تجاه الأكواخ .. نحو خيمة شعر ,ثمة كوخ بلا باب ,رأيت طيور البوم كرات سود جاثمة على المرتفع المطل على المجزرة , خيام اللاجئات الواطئة بظلال معتمة , ثبج الصحاري البعيدة , الهضاب التي بلون رماد الجلة , انتصبت على السوباط كما ينتصب أجدادي لرؤية طيور مهاجرة , مازالت غريزة الوقوف تخامرني كلما أريد رؤية الأشياء , عنقي تنمط لوحدها , بشر في ذلك التلاشي يهاجرون , أرى أكياسا أو صررا ملفوقة فوق رؤوس نساء بملابس بيض وملونة , حمير تختفي تحت أفرشة وخيام , كلاب تهرول في كل الاتجاهات , وبأنفي اصطدت رائحة سبي جديد , هؤلاء أما الغجر أو المهربون يسوقون الفتيات وغلمان فلسطين لجهة مجهولة , أو هم أصحاب المزارع , أصحاب المزارع الذين لايجيدون تخصيب الأرض بل تخصيب الغلمان .. رويداً .. رويداً كهبوب نسمة أو تدلي غصن طري .. ينفتح الأفق فوق الصحراء .. أفق رمادي ومشع بنجمة وحيدة , تتسع السماء وتكبر دائرة الأفق .. تكبر إلى ما لانهاية .. ترتجف المخابئ , لابد من وجود نيران تداعب مثلثات الأكواخ وسطوح المخابئ , اخترقت عيناي الوهاد المتلاشية بالغبار والضباب والظلام .. لاشيء إلا الرمال .. الوديان .. أين اختفى اللاجئون .. عاد الفجر إلى طبيعتة الساكنة الباردة ,ثمة أبواق تنفتح فيها الريح بعواء مألوف .. تصرخ تلك الريح .. تعال يا سعدي .. أصخت السمع .. ثمة غبار تثيره أسراب ماعز وأغنام وكلاب يتناهي نباحها إلى أذني خافتا , جابت عيناي الصحراء بفزع ,لا شيء إلا النباح ودائرة الغبش الشفافة في المرتفعات . لكن العتمة مازالت تسكن الوديان والدراكيل وباطن المستنقع .. الدنيا تتسع بين اللحظة والأخرى , تستبين بيوت المدينة العالية , المنارات تشع بمئات المصابيح , وتتراكب الأكواخ في الغبش , يندس الكوخ في بطن كوخ اكبر ,مخابئ أخرى حفرت في الأرض مثل سراديب وبجدران من صفائح دهن الراعي وبسقوف من قطع قمامة أدرك وجودها لكنها مازالت في الظلمة , في ظلمة الأكواخ ترتعش الأشكال الهرمية التي ترسمها اعمدة الخيام فيما أنفرش خباء الشعر على الرمال , لهذا الفجر ألق خفي .. ضوء فانوس خافت بذبالة مرتعشة يلقي ظلاله على خيام تبعد بضعة أمتار .. في تلك الخيام رأيت بضعة رجال بدشاديش بيض يودعون فتيات صغيرات بقبلات حافية وثمة نجمة وحيدة بأفق أحمر , تتراص الأكواخ كقطيع خراف خائف .. تتكتل .. خوف الضياع في أرض الله الواسعة الغليظة , أمس قال مدير البلدية الشطيب : يجب أن تتزحزحوا للبر . نريد أن نبني لكم مستشفى ودوراً للضباط وبلمح البصر ركب سيارة اللاند لوفر وداس على دواسة البنزين مندفعاً كالهارب مخلفاً وراءه أغنية لسليمة مراد .. يا قلبي صبراً على ما كنت تهواه فلم أكن ظالماً استغفر الله .. وعلى ما يبدو أن فلسطين لا تعيش إلا في أذهان البسطاء .. لم يستمتع الأعراب بالأغنية لأن اللاندلوفر مهيأة للصيد البشري .
أمي تقول إن الدخان يطرد الأفاعي والبق والبرغش لذا لا أستغرب أني بلون الدخان وروحي هائمة سائبة ...
صباح أمس عاد الأب بوجه غائر الأخاديد واختفى في عتمة الصريفة ولا نرى إلا دخان سجائره ولا نسمع إلا الصمت بعدها خرج للباحة وطبطب على رقبة البقرة ومسّد شعراتها الحمر وكلّم الأم بحنان لم نألفه من قبل حينئذ رشت الأم بضع طاسات من ماء الغسيل على أرضية الباحة ,يسيل الماء على شكل يساريع سرعان ما تمتصها الأتربة والقشاش ,يطير التراب ورائحة سباخ الأرض ,أسمع الأب يردد مع تساقط قطرات الماء ..باخ ..باخ ..الله ,نفث دخان لفافته بشكل مسموع ..
-هل سقيت السدرة والبمبرة وفحل النخل الغيباني ؟
وبدون ان اسمع الجواب يستدرك :ألم تأكل الحيوانة ؟ ولم تجبه الأم ,فغر فاه مشدوها حين وجد البقرة تعلس صفيحة معجون حمراء صغيرة وثمة خيط لدم فاتح الحمرة يتدلى من زاوية الفم ,دار حول نفسه عدة دورات ... وفمه مفتوح على اتساعه ,لا يعرف بالضبط ما الذي دهى مخلوقات الله ؟ وكالمخبول أفترش الأرض تاركا البساط المسفوف من خوص النخيل للقط العجوز وظل يمتص من سيجارته اللف أنفاسا متسارعة فيما خيم على البيت سكون الخذلان .
على سطح السوباط اكتشفت أن عيني أخي الذي يكبرني بعامين مفتوحتان على اتساعهما ومسمرتان على الكلة المنصوبة خلف القصبات وحين انزاحت الستارة البيضاء تحرك متشنجا ثم همد حين مدت ياسمين رأسها ..رأيت عضوه منتصبا تحت دشداشته الممزقة ,ابتسمت لأني الآخر انتصب عضوي فجأة حين رأيت الهزات السريعة المتلاحقة لخلفية وردة النرجس ,لم تكن ياسمين هي المشعشعة في ذهنه بل نوار الأصغر ,هو بالكاد ينظر لنوار ,عجيزتها المفجورة عن تكورات تهتز حين تميل بجسدها وتعطيه القفا وهو سريع بخطف وسرقة نظرة في أقل من ربع الثانية ,أنا ما زلت أرمق الفتيات بهذه النظرة السريعة والتي أسرقها من الناس عنوة ,أريد أن أقول لك لا أحد يمكنه المشي على فوق السوباط والسطو البريء على جارة ما لأن القصبات تفضح برضيضها الأقدام الآثمة ,أتمنى أن أكتب عن كل شيء ولو انك ستملين القراءة ,بل تجدين الصفحات زائدة ..والمانع ..نحن في الحقيقة كائنات زائدة على الكوكب ,وبدون الوهم لا يمكننا العيش لأن الحياة التي تعرفينها تؤدي للقبر ..ليس أكثر من ذلك .
يمتد السقف القصبي الأكثر صفرة من قصب الخصاص لكثر ما تدوسه الأقدام ,الأقدام ما أن ترض السيقان تخرج أحشاء القصبات بقطن أغبر كأنه نسيج عنكبوت ,ليس لهذه المادة الأسفنجية رائحة سوى تطايرها كالنفاش ,وحين أبري القصبة من الداخل لأصنع مزمارا أو أضع سلكا مطاوعا بانثناء خفيف ,ثمة عُقد في جوف القصبات تتحول إلى لون الرمان بعد تكسر الشدائد ,بعض هرادي القصب تحتفظ بقشورها ,قشور هشة تزمر في هبوب أول نسمة ريح ,ثمة نوافذ تخلفها شدات الحبال على القصب المرضوض والمهشم في الخصاص ,أسترق النظر من هذه الثقوب (من هذه النوافذ أرقب السيد المختال بفحولته وعضوه الغليظ وخصيتيه الكبيرتين بفتق ريح وهو يتهادى أمام داره متأملا مملكة زائلة ) ,وحين نزيل قشور القصب تتلون السيقان بألوان صفر ,أخرى بلون الأرجوان ,يتفرس الأب بنظرات فاحصة ليعرف أصول المهاجرين الجدد لأن كل بقعة على الأرض لها قصب خاص يرث جيناته للجذور ,أصول القصبات أسلحة بدائية ,طريقة الحش هي التي تصنع الرماح المدببة والمثقفة الحربة ,حين توضع الحافات المسننة للمناجل على علو كف أو أقل بإصبع أو إصبعين عن الطين ,كلما نحش القصب ينجب جذره البديل ,كل شيء يعود لجذوره ,أبي يبحث عن جذور الإنسان في قدميه ,أنا أحش فراخ القصب ,هذا العنقر الطري للبقرة ,أشرح بالمنجل جذر الساق من الأسفل للأعلى وكل من عاش في الريف لا بدّ أن تنغل عجود القصب في راحة قدميه ,الأب يبحث عن الجروح ولا يجد إلا طبقة نحاسية من أورام تركتها طبقات صدفية من قذارة متراكمة .. طبقات مقشرة ومشوبة بالزرقة ,وتأكد أن البدو الأعراب لا يصلون لله ,البدو لأقدامهم راحات غليظة بمسامير لحم مصفّرة ,سأل أبي أحد هولاء البدو عن أخبار دابة تكلمت أو شذوذ تجانس الحيوانات لكنه فوجئ بلكنة لا تبدو عربية ولم يستطع فهم كلمة واحدة ,يسمع نغمة حنجرة تتصاعد ثم تثقل وتتوقف وحسب قوله شعاع وتحميله..ثم تأتيه كلمات كفَوْرة بالوعة أو شلال ماء حينها ضرب الأب كفا بكف وأخذ يصدق أن الصهاينة سيصلون الشط ,من غير المعقول لا يفهم العربي عربيا آخرا ,ظل الأب مندهشا ولم يستطع فهم ما يجري ,جرب حظه ثانية وسأل عن الناقة البيضاء الوحيدة وقيادتها للجمال ولم يسمع من البدوي إلا ...ها ..هوو ..لو لو ..لو...انه يعتقد بأنه سمع مقاطعا صوتية لا تمت للعرب ,على ما يبدو أن البدو خرجوا من حظيرة العرب ,البدو المجرثمون بالسلالة تحولوا إلى بلوش أو بربر ,تأسف الآن فقط على ضياع فلسطين وعدم عودتها للعرب بعد ذلك .
وبدون أن يأكل قطعة خبز مع الشاي ,ريقه المعتاد منذ سنين ,دخن سيجارة اللف واتكأ على مخدة الصوف الثقيلة ووضع ساقا على ساق ,أبي يكاد أن يقدس القصب بل أعطاه الناس اسما لأنه يحش القصب في هور صلين في طفولته ويسرق السكر من الانجليز بقصبة الصيد بعد تجويفها وتعبئتها بكيلو سكر كل يوم من موانئ المعقل ,لا يمكنه التفكير بشيء محدد سوى الخصاص قبالته وزخرفتها التي تشبه تلك العلامة التي تختفي خلفها جمجمة على محولة الكهرباء ...
مساحة السوباط المستطيلة صغيرة وغالبا ما يتوهم الغرباء بأنها سقيفة البقرة بسبب الخص المكون من قصبات متعاكسة بشكل متصالب , خصّ تزخرفه الثقوب ..شباك كبير ..ابتسم الاب حين رأى الجدة الفلسطينية تتحرك خلف الخص وحين جلست القرفصاء وغطت فخذيها المتهدلين لتتبول , سمعت الاب يضحك بصوت مسموع بعدها قال ..والمانع ..وعاد ليضع ساقا فوق ساق ,حاشرا ثوبه بين فخذيه وإليته عارية ,الذي أثار حفيظتي هو فخذاه الأملسان , مقلدا نساء المدينة واستخدامه كلمة والمانع ليعبر عن شعور يائس واستهتار بالأخلاق الضمير .
خص السوباط المقشر مازال يحتفظ بخضرة خفية تشوب ألق صفرته ,كل ثلاث قصبات شدت معا بحبل من ليف النخيل ,الرزم المغروسة في اليسار تميل لليمين ,القصبة المنظومة طرف اليسار تكون أول قصبة في اليمين ,ومن اليمين لليسار وعقدة الحبل تكوّن علامة الضرب في الحساب .. أو الصلب ..تلك العلامة على الخندق المحفور لأنابيب النفط ,أنابيب العمال السيك أو الجيك الذين يرمون زجاجات عرق المستكي شبه فارغة ,رزمة من قصبات ثلاث تنزل من أعلا بشكل عامودي على تقاطعات الصلب وترتفع أعلا من السقف لتحجزنا عن المارة وثمة قصبة فارسي في الوسط تقابلها قصبة الخيزران على السلم المائل لتثبّت الكلة للسقف وتحرمها من الطيران في ريح الصحراء ,عاد الأب ينظر للزخارف ولا أعرف لماذا أطلق ضحكة يتيمة ولاذ بحزن غامض ,تكوّ الزخارف مربعات مقلوبة ,مستطيلات تتكئ على حافة واحدة ,أشكال أخرى ليست لها أشكال هندسية متناظرة تكونت بعُقَد من حبال الجنب والليف لشدّ مخضة اللبن المكونة من قرعة يابسة مذبوحة الرقبة ,شدّ الطرف الآخر بالنخلة السلم ,زخارف الخص تغير أشكالها في اليوم عدة مرات ...وسمعت الأب يكلم نفسه أبو سباهي بدوي صلبي ,وهذه جدة فلسطينية تولد نساء العرب ولو هي مسيحية ولكن يسمونها حجية ..وعاد ليطلق ضحكة مبتورة .
في اللحظة التي سمعت الأم خوار البقرة نحبت تجيبها ,وحين مطت البقرة خوارها بحرف علّة خُيل ألي أنها تنادي أم كبرى ..ي..ما..ما ..ع,صيحة بشرية ..استغاثة لولا عيّ الحيوان ..الحيوان الذي لا ينطق الحرف الأخير من الصرخة ...
-ها يمّه
وصاحت البقرة مرة أخرى وأجابتها الأم بصوت مفعم بالحزن واللوعة ,شيء ما يؤلم البقرة ,نحن لا ننادي الأم إلا في أقسى تشنجات الألم ,وأم البقرة بعيدة ..غائبة ..مجرد صورة في الذاكرة أمها الحاضرة هي أمي وأنا أشعر أن القرة هي أيضا أمي أو أحد أقربائي ,وعندما خارت البقرة للمرة الثالثة بكت الأم بحرقة ...
-أنا هنا ... قربك
وانتقلت عيناي للبقرة التي لم تغير ملامحها وما زالت الدهشة تسكنها في لحظة اقتراب كل كائن من مُراحها ,عيناها ترقب أجسادنا المتحركة بين السوباط والصريفة ,اقتربت من جسدها المسجى ..حكت قرنها الصغير بكتفي الأيمن ثم نطحتني بخفة ولاكت بين أسنانها شيئا ما ,حسبتها تجتر ,وحين مطّت رقبتها الأكثر حمرة اعتقدت أنها تريد لحس شعرات رأسي ..بالتأكيد ...لن أنسى لعقتها التي تركت على رأسي تسريحة لامعة حين كان عمر وليدها بضعة أيام وحين انتابتها عادة اللحس لكل الكائنات المتحركة في الباحة ,حتى ديكنا الأمريكاني حين لحست ريشاته بلذة استأنسها وظل يقضي القيلولة في مُراحها تحت عذر البحث عن ديدان في الفضلات ,حين ينفش الديك ريشه يظل الذيل مزيتا بالمخاط مع عقصة على شكل جديلة ,لا يمكنني أن أفهم كيف أخذت تلتهم كل شيء كالرضيع تذهب كل الأشياء التي تطالها يده إلى فمه الأدرد ,بعد أن ابتلعت شدائد الثوم والبصل قبل أيام وانبشمت تجتر بالرائحة ...قلت للبقرة :
-لسانك
أجابتني بنترة من رأسها ,حاولت فتح الفم .. اللسان الوردي المتورم بشوك العاقول ونثار الحديد والزجاج .. أردت أن أقول لكِ حين يلتهم الكائن كل شيء وحين يتخم بأكلات لا تهضم سيتوقف ,حين يتحول الكائن الى قمام كبير ,كالانسان القمام الأول على سطح الأرض ,حوافر البقرة استطالت كالمناجل أو القرون ,تدور وتدور كحمار الناعور ,كيف لكائن حي يدور ويدور حول ثبات أو مركز يمكنه التحرر من المركز .. السجن الخفي ,ابتعدت بعيني للاشيء ,أنظر ولا أرى ..
صاح ديكنا الأمريكاني بعد أن صفق بجناحيه تحية لي بعد حواري مع البقرة ... إن صيحة ديك قريب تثير في أعماقي ألفة وأن العالم مازال بخير لكن مناداة الديوك الأخرى البعيدة تثير الوحشة .
الباحة بدت غائرة في الظلمة حين صاحت الديوك وعوت الكلاب .. والريح ... الريح.. ارتعشت الأشياءعلى فتيلة زجاجة النفط ,يوهمني الارتعاش بأني أسكن في هاوية سحيقة ,هاوية الظلام لتاريخ اسود لبشر مجهولين ,البشر النكرة ..من المحتمل أن أموت دون أن يأسف لموتي أحد ,سنون طويلة تمر لأدرك بالصدفة أني المرشح لتغيير العالم ,أنا النحيف والمسحوق بوجهي الذي يميل للقبح ,أدركت ببساطة أن الضعيف هو الذي يقدر القوة ويحذرها لذا يستعمل عقله ,الثور الضعيف يجب أن لا يستخدم قرنيه للنطح وإنما يجب أن يتعلم كيف يخز بدبوس ,دبوس الفقراء الذين جعلوا الدكتاتور يقفز مرعوبا من لدغة عقرب ,الدكتاتور الثور القوي هو الذي جعل من الدبوس عقربا ,أنا المرشح لإدراك الجمال وتوازن البيئة وجمال الطبيعة والمدن ,المضطهد وحده الذي يغير التاريخ كلما أوغل في كونه نكرة ,عزيزتي أشعر بالتوازن الآن بعد أن أطلقت ثلاث أطلاقات أو أربع ,وسأطلق أطلاقات أخرى كلما ينتابني فصام مع الواقع أو شرخ يجعلني أقف وجها لوجه مع جبني وعجزي ,نحن كائنات تظل جميلة إذا حاربت كل أنواع السحق وجنون عظمة السلطة ,أحزاب الطوائف والمذاهب والقوميات عزيزتي أنا ..أنا ... جميل في أعماقي إذا انتحرت في مجموعة من أمن النظام ,النكرة يميل لتدمير القانون وإشاعة الفوضى البناءة ,إني غيرت الهمزة في أن اللعوب مثل امرأة من الحي كلما أندفع في محاربة الفصام وثمة حاجة لتأكيد أناي ,أمي وأبي والفقراء يكسرون الحروف والهمزات تحت ضغط الخوف والحاجة لتأكيد الوجود .
تقلب أمي بطل النفط على عقبيه وترجّه كي تتوهج الفتيلة بشعله صفراء محمرة وبذيل من الدخان الأسود ,تعاود وبهستيريا قلب القنينة ورجّها حين أدركت إن فتيلة البردي احترقت ولم يتبق إلا عجينة التمر المتفحمة كعمّة على فوهة الزجاجة ,لهيب السراج تارة ينحني للبقرة وتارة ينهض ثم يذوي في الظلام قبل أن تطوح به نسمة ريح أو نفثة هواء من كائن ما ,في لحظة التطويحة ينزل السلم إلى قاع بئر عميقة .
النخلة السلم مازالت جذورها تتدلى في الهواء وتعانق النخلة المتعامدة والتي تتكئ عليها بعد أن لفّ الأب الجذور حول الرقبة المقطوعة وثمة حز في الرقبة نامت حوله الجذور بعناق أبدي وعرفت الآن أن السلم نخلة متشقلبة بعد أن طمر الأب رأسها في الأرض ,أوغل رأسي بفورة أفكار عن شبه النخلة بالإنسان,النخلة التي تسبح في الماء دون أن تغرق ,الشجرة الوحيدة التي إذا قُطع رأسها ماتت ,نخلة البيت تكثر في الإثمار لأنها تستأنس الإنسان ,كل المنحوتات الفنية من نفاية القمامة فيما بعد والتي تجسد جذور أو خصلات شعر تعانق رقبة مقطوعة هي ترجمة لهذا السلم الموغل في الآلام ,الجذور دكة جلوس مأهولة طوال الليل .
تتباعد حفافي النخلة السلم الخمس لتسكنها الدمى والقناني الفارغة .. مجمع القمامة آخذ بالاقتراب من المخابئ ويمشي مثل سلحفاة .
العتمة في الداخل وغبش الصحراء في الخارج ,من ثقب مزخرف أرى كائنات تمشي على قائمين وثمة كائنات أخرى تمشي على أربع ,تنبش عيناي في البعيد.. أعتقد ذلك لأنها أقل ارتفاعا ,صعدت النخلة السلم ووقفت على الرقبة المقطوعة للنخلة العامود ورأيت قافلة للبدو أو الغجر لكن لم تكن هناك أغنام وجمال سوى بعض البغال أو الحمير وأطفال تتوزع في كل الاتجاهات خلتها كلابا في أول نظرة ,الضمور والضياع يتوه عيناي في ملاحقة الكائنات ,جبهات الروابي ,ثبج التلاشي ,يتسع الكون... وكلما يتسع أتخلص من أكواخ ذاكرتي ,في الأكواخ صناديق مقفلة وأخرى مشرعة الأبواب ,مشكلتي تكمن في الابتعاد عن هذا الفجر وعدم تحسس طراوته والانغماس الدائم في الظلام ,أنا لا أرى شيئا ... أشاهد ولا أرى ...الآن ..(يفصل السوباط عن الصريفة خصّ طوله ثلاثة أمتار ,خص بدون هوية ,ثمة عامود صفصاف يسند برديات مازالت تحتفظ بتماسك أليافها ,يتكور ساق البردي في الأسفل بحجم قبضة اليد ,ساق أملس من الحافات الباشطة كالسكاكين تتحسس امتلاؤه في راحة اليد وثمة نعومة طرية كأوراق الخس الدهينة ,في الأعلى تنعقص أطراف البردي مكونة جديلة تلتف حول بعض القصبات , القصبات لوحدها تطاول سقف الصريفة وتشكل جدار سوباط الفلسطينيات) .
من الشقوق نرصد عورة الفلسطينيات ,عورة كل لاجئ في العالم تثير الفضول لأنه كائن مستباح ولا يمكن أن يكون اجتماعيا مع المحيط الذي يضمه ,السبب في نظرة المحيط له ,الفلسطيني يحاول التعايش والمحيط يحاول أن يفرغ رغباته في جسد كائن لا حول له ولا قوة ,المراهنة على تأثيث الضمير (أدركت هذه الحقيقة في زيارة لأقربائي في السماوة قرب مخيم للمهجرين الكرد الذين لم يذق أطفالهم البطيخ الأصفر لثلاث سنين خلت ) الفضول سرّ التلصص وليس ولوجنا سن التدشين ,خلف الخص وضع الأب جريد النخل الذي نسميه بالمرفع ,كان المرفع بطول الخصّ ،أنا حتى هذا اليوم أسمي المناضد والدواليب بالمرافع بعد إضافة الشكل الهندسي المصمم به , تبرز تلابسات أعمدة الجريد على شكل نتؤات متقاطعة بعلامة الضرب الحسابية وعندما ننتقل من السوباط إلى الصريفة تعترضنا المثلثات الناتئة لتشق لنا الجيوب وأطراف الدشاديش ,أفتقد جيب الورك الداخلي ,أبي مازال محافظا على جيبه وأما الأم فهي بدون جيوب ,لعل ذيل فوطتها (الشيلة)المشدودة مثل صرة ينوب عن الجيب ,كلما تعلو الخصاص نتفنن بالتلصص بوضع قصبة مجوفة مثل ناظور ,أين العيب في ذلك ..كل سارد هو بصاص .
الآن ...انتبهت...أرى بين الرؤوس المستدقة للكثبان ,أفواهها المقوسة الممتدة حتى باطن الصحراء والمطلة على سماء بلورية ,الهلال صار ابيض ألقا ,أشعة خفية تكسو الأقواس الهامدة للكثبان ,تنبثق التلال من إطلالتها على الزرقة ,في الصحراء نور خفي , شيئا فشيئا ,تحت رحيل العتمة اقتنصت عيناي عربة يجرها حصان أبيض أو بلون الملح الأغبر من التراب الذي تثيره قوائم الحصان أدركت إن العربة تجر الثيران للمجزرة وحين تسلقتْ العربة الرابية عرفت أنها فارغة بل لمحت فراغا خلفها ,يصهل الحصان بين الفينة والأخرى وتخب مسرعة وخلفها تهرول الكلاب بصمت غامض ,انحدرت بسرعة اكبر فبانت أعداد الكلاب فوق الرابية ,كلاب أخرى مقبورة في الحفر رفعت أبوازها وثمة نباح متكاسل هنا وهناك يجيبه صدى نباح أكثر خفوتا ,شلة كلاب تنحدر من التعلية المطلة على المجزرة تتسابق لملاقاة العربة ,تتشابه الكلاب في كل الأزمنة والأمكنة ,مازال جريها مخاتلا ,تنثني أجسادها فيما ترمي يديها ثم تسحب رجليها بحركة يسروعية ,الأبواز تشمشم الأرض ,العربة تقترب ,لابدّ أن الدماء تتقاطر مثل حبات المطر أو هي لصيقة بالأرض ,مناورات ذئاب باتجاهات مختلفة ,في تلك اللحظة تراءت الكلاب صخورا ملونة ..الكلاب الأكثر سمنة ,لماذا يلح على ذاكرتي مشهد ذئاب وكنت لائذا خلف أبي من الخوف ,من ذلك المشهد أدركت كيف تُغتال ثورات المضطهدين .
عندما تعوي الذئاب تولد خوفا يستشري كالعجز بأشرس المحاربين ,يوهم العواء بالكثرة ,وانكِ محاصرة ,في الحقيقة يتراوح عدد الذئاب بين الأربعة أو الخمسة ,في بعض الأحيان يعوي الكلب عواء متواصلا لعواء الذئب ,هذا العواء النادر للكلب هو عواء الذئب في المعركة وحين يستمر ويتواصل أعرف أني هدف هذا النفير ..في الحقيقة ..أنا الهدف حتى لو كنت مختفيا بين قطيع الخراف ,أو كنت مختبئا بقلب يدق ويكاد يقفز بين الضلوع ,الذئب يشم رائحة الخوف ,يدرسها قبل الهجوم ,بغتة يقترب العواء ,أدرك أني محاصر بدائرة قطرها مائة مترا ,الذئب كالأفعى ,ينساب خفية ,لكن الذئب يقول أني هاجم قبل ثوان تكفي لإثارة الخوف ,الإنسان الحقيقي يخاف على وجوده الثمين على الأرض ,يهجم الذئب الأول وفي نفس اللحظة أرى ذئابا أخرى .عدد وهمي ,جري مسربل بالمشاجرات التي أدركها من النفير ,الإيهام والإمعان في الترهيب ,حينها تسمعين عواء مبتورا ...زمجرة كلب قبل الهجوم ,الكلب هو ذئب رضخ للعبودية وتفنن فيها بهز ذيله للأسياد ,الذئب الأول يهجم بسرعة خاطفة ثم يقفل عائدا من الجبن وبنفس السرعة التي هجم فيها ,عيناي تتابعان الذئب ,في هذه اللحظة رأيت أبي ينظر بطرف عينه غير آبه بالحيوانات المكشرة , اللحظة التي يجب أن أقرر ما أصنع وأن التفت لكل الأمكنة ,سرعة اتخاذ القرار تدربت عليها في رقعة الشطرنج المحكومة خطواتها بزمن ثابت ومناسب ,لحظة سمو الإنسان في مواجهة الخطر ,الخطر هو إنزيم يضخم الصفات الرائعة والسيئة معا ,تتجلى صورة الإنسان في الرعب ,لا أحد يدرك لذة الحياة بدون مواجهة الموت وإلا سقط في الأنانية المقيتة .
عندما عاد الذئب أدراجه يهجم آخر من الخلف بعد أن ترتخي العضلات ويخفت التوتر ثم أفاجأ بهجوم من الخلف ,يجب أن لا يكون العدو سيد النقلة الأولى لأن المفاجئة تشل الشجاعة وتدمر التخطيط المسبق للهجوم ,الذئب الذي يأتي من الخلف لا يهرب بل يواجه الإنسان على بعد متر ونصف ,يشدّ نظراتكِ ,يراقب يدكِ ,لأنه يخاف كل الأسلحة ,في الليل تثير العيون الزرق المشتعلة بالشر كوامن القلق ,سوف يهجم ولا تستطعين الالتفات ,التفاتة صغيرة ليس بليّ الرقبة وإنما حين أزرزر أو أرمق بعيني لذئاب أخرى ,إذا تراجعت تقدم وإذا تقدمت تراجع بانتظار هجوم كل الذئاب في توقيت واحد ,أشعل أبي زناد النفط بجذر حمضه يابسة ولاذت كل الذئاب بالفرار,النار المضيئة هي العدو اللدود لكل عدو ....النار وحدها تفجر عدوا تأكسد على نفسه ...أنا الآخر أتمشى منذ ذلك اليوم في روحي الغريبة وأتجول على جسدي النحيف العظيم البنية والقوة لأني بدأت أدرك قوة العدو من نحافة جسدي ...احترم القوة لأني في الواقع محروم منها ,وكلما أتمشى أكتشف وأكتشف وألتصق أكثر مع الذات ,كل الذي تهدف إليه هذه الرواية أو لا أعرف ما هي إلى محاربة الفصام الذي ينتاب الآدمي في حربه المستعرة من أجل العدالة ,لا حرب بدون خسائر ,الكتابة صلاة تأملية في الروح والجسد والطبيعة والمجتمع وفيكِ من أجل تقبل الحياة والموت ....
تجر الكلاب رائحة الدماء الحارة ,حبل خفي مجدول حول الرقاب الممطوطة إلى خلفية العربة والصمت الهائل كمن يشيع جنازة ,في باطن العربة جثث مسلوخة ,لا أستطيع الجزم أن هناك لششا لكن مطّة رقاب الكلاب توحي برائحة دماء تتقاطر من خشبة الباب العارضة في المؤخرة ,العربة الوحيدة والفجر والكثبان ,الكثبان المقوسة على الغموض وجماجم الأجداد ,الجماجم المرسومة على لوحات ملصقة بأعمدة الكهرباء وأنابيب النفط ,الحوذي شبح مكفن بالبياض والدماء ,يهتز مع أكوام الجثث المرتجة بشحوم ,الآن عرفت الحوذي الموشوم بعقارب وذيول نمور تتوتر مهتزة كلما يرفس الثور الدنيا بقائمتيه الخلفيتين ,الحركة المتعاقبة تبطئ بالتدريج ثم يتنفس الثور الحياة لا لشيء سوى أنه يريد أن يتقيأ الروح برفسة أخيرة ليهمد بعدها كالجبابرة حينها يسرجن روثه ببطء ,بطء لا يتناسب مع قوة العضلات وتشنجها ...آلاف المهانات ترافق الكائن عندما ينفث روحه ويقتلعها من الأعماق .
الآن بدأت أدرك لماذا تبكي الأم عند قائمي البقرة ,كيف نبيع أمّنا الثانية للجزارين ؟ولو أنها بأربعة قوائم..الجنوب عبدة الحيوان والشجر .
سرت بجسدي قشعريرة ابتدأت بالأطراف وصعدت إلى يافوخ الرأس ,شيء ما انفثأ من هامة رأسي ,ربما الشعور بالشناعة ,شيء ما يغلي في داخل الأوردة ولا يمكن التعبير عنه بالكلمات ,اللغة لم تصل إلى جذور الألم الإنساني بعد ,يخنقني ضيق خفي ,إحساس غير مريح كالذي تحمله سماء رطبة عندما تكون الشمس هاجرة أو ريح السموم تعبق برائحة حرق القمامة من جثث وعطاب أقمشة وإطارات ...أعني دخان الإطارات ...
رأسي يجتر بقفزات وصيحات لكائنات عاشت معنا,البعض مازال يعيش ,لم يبق من تلك الكائنات إلا دجاجة عجوز,باضت وباضت وملئت البيت بالصيصان ولآن عقرت ,الأم تقول إن لحمها جاسيء لا تفلّه النار لذا ظلت تجول دون قيود,تذرق على قصب السوباط وتسرق الخضار من صينية الطعام ,حين يمسح الكائن المسافة بينه وبين سيده الإنسان ,من جعل الإنسان سيدا على الكائنات وهو عبد لأسياد أُخر ,الكلب العجوز عاش معي منذ الطفولة وفي الكبر هجر غزواته الذكورية على الإناث السائبة وتعلم النوم في العتبة ينتظر كائنا لا نعرفه بعد ,الآن .. أرتع بنسائم الفجر الخفيفة وعيناي تمتلكان السماء ,نحن الآن في بداية الخريف أو أواخر الصيف ,الساعة الآن بعد آذان الفجر حيث الثريا باشقة في السمت ,ميزان الحق ربما يختفي بعد دقائق ,ميزان فارس المتهدل الكفة يتسلق السماء وئيدا بعد النجمة المضيئة التي يسميها أبي بسايج الميزان ,ميزان الشلغم مازالت نجمته فارسة ,مذكرا البشرية باللاعدالة ,مازلت أرتع بدقائق من الزمن تعشقها الكائنات منذ بدء الخليقة وظهري باتجاه نجمة الجدي التي شحبت حمرتها حين مرت أسراب النجوم والغيوم تحتها ,النجمة ساكنة لا ترتعش لتدون أسرار البشرية في كل فجر ,وجهي تلثمه الريح ,تقبله ريح الشمال حيث نيران الشعيبة تضفي حمرة متوردة على جهة القبلة التي ستغرب الشمس ..عندها.. هناك .. الأعالي ..تتلألأ نجمة الصباح البابلية ,شفق شمس نائمة ,الصحراء التي تجعل الأفق ورديا ...صراصير الليل ملكات الزوايا والدحائس ..تختفي الأفاعي في الليل سوى بعض النفيخ والجلجلة ,صكيك الصراصير يصك أو يصلّ الأسنان ,شحذ مبرد لساطور جزار ..لا يبطئ ..لا يكل ..ماكنة خياطة ..أزيز يصم الأذان والعزلة العميقة في النفس البشرية ,في بحيرة الغبش ..في البعيد ..جهة شروق الشمس عندما تكون الأشياء متلفعة بالظلمة أكثر اسودادا في تلك التي في الشمال ,في مساحة التماثيل البوذية تشمخ قلعة الزبير العثمانية وتمدّ ظلا اسود تحتها .. قد لا يكون ظلا .. لا ظلال في الفجر وإنما شقوق حفرتها سيول المطر ,وعلى يسار القلعة برز فارسا بحصان أبيض ,حصان مخلوق من قطن تتجاذبه الريح ,يراوح في مكانه برقصة هجينة ,في تلك اللحظة ولد فرسان التاريخ ثانية وصهلت الخيول وحوئبت الكلاب ,يعبر الصهيل مسافات الزمان والمكان وتطبل دفوف الحرب وفي الخارج مازالت سهام كعادتها في كل فجر تنادي بالذهاب للمعسكر القريب .. لم أجبها .. وإنما قال أبي لها بحنان : أبنتي اليوم نبيع البقرة وبعد برهة اختفت سهام في الغبش ...نادى ...
- ألا تفطر ..؟ يجب أن نسرع ..عندما تشرق الشمس يقل سعر البقرة
نزلت متثاقلا ...درجة ..درجة ..ثمة عجز خفي جعلني أسترخي على الدرجة الثانية وأرحت ساقي على هردي القصب المقوى بخيزرانه وبدون أن أعي ,عادت الساقان تخبطان في الهواء ,تدلتا فوق رأس الأم المنكفئ بالنفخ على جمرات الموقد ,والدي خشع بتسبيحه أدركت من دعواتها إن اليوم هو خميس ,بعد الركعة الأولى شعرت بلذة غريبة بجلستي على حفافي السلم ,الساقان يتدليان بحرية فوق الرؤوس ,برودة جذع النخلة تتخلل فتوق دشداشتي وقد يكون الثوب مطويا تحت عجيزتي الناتئة ,لا أشعر بثقل القدمين ,والداي أصغر قليلا من حجمهما البشري ,أجشاع الأم مكممة وفمها يمج كلمات لا يربط بينهما إلا الدعاء والغضب على كل الأشياء ,غضب مفاجئ جعل الأم تشمر عن أردانها وتحسر عن عضلات ناتئة ,تمسك الجمرات بأصبعي السبابة والإبهام وتنفخ الجمرات عن باذنجنة أشم رائحة شوائها تملأ المكان ,تمسك النار وتضع الثمرة السوداء في باطن الصينية الوحيدة في البيت وتشق بطنها البيضاء وتملؤه بالملح ورائحة الشواء ,تميل برأسها وتلوي الرقبة النحيفة وتنفخ الهواء على جمرات الجلة وحين اشتعل الموقد باللون الأحمر طبطبت على الجمر براحة يدها ثم فرشت قرص طابق من عجين الرز ,أجهل الأسرار التي أجعل الأليفة بخيالاتي الغريبة أن تعيد وتجسد ما أراه وأتحسسه ,أتخيل أصابع الأم المتشققة من داحوس مزمن أصابع جزر بيض مثل أصابع الحبيبة ,عفوية البياض في تزاوجه مع السواد في عتمة ليس فيها ألوان ,أجعل الصوت نغمة بعد أن أشذبه من بحة الغضب وعندما تنتر رأسها الأكر فزعا أعيد تجسيده بتماوج شعر مسدل ,تستدير بالتفاتة حادة ويتطاير شعرها بطيئا ,الأليفة تطمح أن ينسدل الشعر بطيئا مثل حرير ,أنا لا أصدق أنها تلهو بفحل الحمار وتمارس العادة السرية ,تنغص الجراء في لهوها البريء ,الهر العجوز هو الكائن الوحيد الذي يستريب بالحبيبة حين تمسك إذنه اليمنى يثور ويحتد ويتساقط شعره كمن أصيب بداء الثعلب ,القط لا يحب المداعبة وقد يرفع يده بمخالب ولو أنها مختفية ويوجه صفعة لوجه الأليفة ,تفز الأليفة مرتدة ثم تعاود المزاح الثقيل مع القط إلى أن يهرب وهو في أقصى حالات الغضب ...تناديه ..عتاو ... عتاو .. حينها يتناسى القط ثقل المزاح ويظل على مبعدة يرقبها بأذنين مشدوهتين ريبة ,أنا أستغل الممازحة إذا كنت منفردا معها لأني أعتبرها قطة ,قد أصحو من نومي وأجدها أطول من قامتي ,الأم هي التي أوحت إلي بهذه الأفكار المنغصة لأنها تردد إن الفتاة تكبر فجأة وتنضج مثل امرأة ,أنا لا أصف لك جمالها لأنه لا توجد فتاة بهذه الأوصاف في اللغة ...كل الصفات استهلكها الكتّاب ,كنت أخاف بدو الخليج ,إلا ترين وجوههم ابيضت في شاشة التلفزيون , لا تعرض الشاشة إلا وجوه سود ما عدا الممثل عبد الحسين عبد الرضا في بساط الفقر الذي جاء به الفقراء وسرقه الأغنياء أيضا ,قال تعالى (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها )الغني لا يدخل الجنة فكيف يَعِضنا من سكن القصور ,إنهم يستهزؤون بنا ,العجوز المسيحي يقول لأبي إن عيسى ابن مريم قال (إن دخول جمل في ثقب إبرة أيسر وأسهل من صعود غني إلى ملكوت السماوات )لهذا السبب يؤمن أبي بأبي ذر الغفاري ولو انه بدوي ..أنا أعرف بأنكِ انزعجت من الحديث المباغت عن الغني والفقير ولكن ما باليد حيلة هو الذي يفرض نفسه بالقوة حتى إني أحاول طرده من كل صفحة ثم أجده أمامي على الورق ,أنا لم أر غنيا تزوج امرأة قبيحة ,أبي وحده العارف بأسرار المرأة وجد الأنوثة في وجه أمي ..أعتقد ذلك ..الآن ...عاد الدوي يطن في رأسي وبالكاد أتلفظ بعض الحروف ,لا تعقم جروح لساني إلا بمضمضة العرق ,الكحول عقمت فمي وشفت لساني ,أنا لا أشرب لأني عاهدتك على ذلك ,الكحول غسول فم فقط ,أنا لا أتحدث وإنما أكتب فقط ,أقسمت لك ..لأني لا أعرف نشوة الخمر وإنما السكر ...ومن هذا الإلحاح بدأت أعي إن الخطة الشطرنجية التي عثرت عليها في الوثيقة التاريخية هي ليست لقتل الدكتاتورية وإنما لقتل الثوار أيضا ,والخارطة التي رسمتها بدوائر ووضعت الدوائر في مربعات وجعلت من وجودي صفرا وكل مائة متر يقابلها على الورق أربعة سنتم هي رحلة معادة لروحي التي أتمشى بها وأتجول في غرابتها لأجعلها صفرا نهائيا ,أنا أعرف انك لا تدركين ما أعني سوى أن في الخارطة هدف الوصول إلى الموت والرجوع إلى عدم ,تجسد المربعات حالتي الفكرية والنفسية للوصول إلى نقاء مثل بياض السماء ,وهي حالة الانتحار الثوري في جنوب العراق ,حين أتمشى في روحي وأتأملها أكتشف الكوامن الخفية لإمكانيات الثورة وقد تكون رحلة شعب إلى ثورة عارمة لأني واحد من الناس وقد أجسد مستقبلا ما .. أنا لا أعرف ما هو لكني متجه إلى الموت بقوة بعدما يئست ,أنا فرحت كثيرا عندما مات أبي لأني أشعر لأول مرة في حياتي إن أبي إنسانا مهما في الموت وان المستشفى الجمهوري في البصرة وضع ورقة وفاة باسمه تجعلني اجتاز سيطرات النظام دون خوف حتى أني رأيت شرطي بوابة النجف يقف بالاستعداد لأبي لهذا السبب وحده أدركت إني عظيما عندما أموت بعد يأس عجيب وغريب وإصرار على إنكاري وأنا على قيد الحياة .
مازالت ساقاي مدلاتين ,لذة تغمرني حين تخط أطرافي في الفراغ ,منذ أن وعيت ما يدور حولي تعلمت أن اجلس على الأماكن العالية أو أستريح على أصول هامة نخلة عالية أو أندس بين أغصان شجرة السدر العملاقة على شط العسافية أو أصعد شجرة التوت المعرشة في باحة بيتنا في القرية ,القرية التي تعيش في ذاكرتي على الرغم من إزالتها من الخارطة ولم تبق إلا في هوية الأحوال الشخصية ,ارقب ما يدور منذ نزولي للعالم الأسفل ,أعتقد إني قذفت على رأسي من زوبعة الانغمار الضوئي ,ألظلام الضوئي ,أنا متأكد إن مركبة فضائية قذفتني على الأرض وإلا لماذا أشعر بالغربة عن كل شيء ,لماذا ولدت ولماذا أموت مع العلم أن الحياة قصيرة ..أو هي طويلة ...أنا لا أدري ,ومن المحتمل أن يموت عبد الباقي ,من أطلق عليه أسم عبد الباقي رشحه للموت بجدارة ,الآن أشعر باللذة وأنا أرقب الكائنات ,ثمة لذة تسري بجسدي كالخدر وتسرح أذناي باصطياد الأصوات ,الأصوات المتناغمة متآلفة حتى صوت الغراب الذي أجعل منه لازمة موسيقية ...نهيق أحمرة القرية ,لغة الكائنات تشبه المساحة بين القرار والجواب ,صوت الغراب هو الإيقاع السري لتأكيد حالة ما ...ربما الاستمرار بالحياة أنا مجرد كائن بين كائنات ,ساعدي الآن يخطان في الفراغ ,ألفة المكان ,رأسي يسبح في الزمان ,يسبح في معنى الحياة ,أنا أتمشى في روحي وأتجول بجسدي ,أدرك ..ليس المعنى الذي أرمي إليه في أدرك بل أحس ..أو أشعر إن حياتي صدى أسطورة تعيش كل يوم ,لأني لا أعيش على فضلات الذاكرة بل تسرب تاريخ الإنسان لدماغي واستقر في القعر ,الإنسان الجنوبي يعيش في دائرة النقطة التي يبتدئ بها ينتهي عندها ,لا أعرف كيف اعبر عن هذه المأساة الكونية سوى إن الإنسان يأتي بلا ذاكرة ويجب أن يرحل بلا ذاكرة ,الانسان الدائرة المضغوط على خطوط مرسومة دون أن يراها ,الخطوط الجدران ,الجميع يدور في دائرة مفرغة ,يجب أن تؤكد روايتي هذه المأساة الفنية ولا لا تكون رواية ,أنا جاهدت أن لا أدور في دائرة مفرغة ومغلقة وإنما وجدت إن كل الدروب ملتوية وحلزونية لكني في كل مرة أجد نفسي في البدء ,مثل واعظ ديني لا يجيد إلا الكلام ..أعتقد ذلك لأن الأليفة قالت قبل أيام وأنا أستعرض أمامها حياتي البطولية في قريتي الأولى التي اختفت من الخارطة ..لماذا تركب خلفي وتضمني بيديك وما معنى أن ألتصق بفتاة ,لم أجد معنى لكلامها لأني أتحدث بموضوع آخر ,أنا وأعتقد انك ناقمة من شعوري بالأنا المتضخمة لأني عشت التهميش ,لأني ضعيف في الحقيقة أسيء إليك ,أحاول أن أخفي وضاعة الحياة التي عشتها ,القسوة أيضا ,القسوة والوضاعة لا تتآلفان مع الكتابة ,أقول لك الحق إن النظام قتل فينا روح الإبداع في الكتابة ,وقد تكون عكازة يتعكز عليها البعض ,يجب أن أبدع لأني أعيش في عالم يصدي أسطورة الواقع المعيش ,أسطره الواقع ألعجائبي ,لأني في السجن أدبّ حائرا ومنزلقا بين الأجساد المشحومة بالعرق , أتعلق على القضبان,لا رغبة بالموت ,لا رغبة بالحياة ,المهم أن أبقى معلقا كالقردة أنظر بثقبين غائرين لأروي لك فيما بعد عن الموتى الذين أعدتهم للحياة ,أغوص في أكواخ كينونتي ,أجد نفسي قردا معلقا بالأغصان ..في كل مرة أو بالأشجار وتنتابني رغبة أن أصيح بأعلى صوتي ..فوق الأشجار ..ثمة شيء مخفي في الأعماق يؤجل صرخات التمني إلى زمن آخر حينها أغوص في كتلة البشر ,أندغم بالأجساد وفجأة أنفرد عن القطيع البشري الذي ينتظر الإعدام , لأرصد فيما بعد الحياة السفلى للكائنات ,كائنات متداخلة الأذرع والأرجل ,هي وحشة تسكن الأعماق ,تجعلني أحذف التاريخ بتطوره وأعود إلى حيون طويل الأطراف يتدلى من أشياش الحديد ,وحشة تجعلني أتناسى مفهوم الحياة وأطمح بشكل غريزي أن أكون محترما بقبر مهيب وعلى شاهدته يكتب اسمي بحروف بارزة ,أحدثك عن وحدة الكائن أمام نفسه حين يتحول إلى روح هائمة سائمة لا تستقر في مكان وإنما تنزلق بين الأجساد المشحومة بزيوت سوداء ,أتساءل في بعض الأحيان من أنا بالضبط , أنا لا أستطيع أن أجيب لأني فاقد الهوية ,لا أحد يجيب ,سوى صاحب السجل الأسود الكبير هو الذي يعطيني اسما ما ليرسلني للإعدام ,ذلك الذي يلبس الزيتوني الممزوج بالخراء ويعتمر وجها جميلا ورائحة عطرة ,أراه الآن ...سهام تصيح في الذاكرة ..هذا عش زرازير...السِنة أفاعي مشطورة تلتقطني كحشرة ...في الأسفل يمسك أبي ملعقة شاي فضية وأصابع كفه تدور كاللولب ,ثمة تناسق وإيقاع للأفكار التي تدور في رأسه المطرق ,رأس تلجه الأفكار في كل لحظة حيث يميل برأسه معها لليسار دائما ,مأساة الأب تكمن في عدم وجود أذان صاغية ليسرد حكاياته ,العجوز الفلسطيني يثرثر دوما عن فردوس مفقود,عن قريته الخصاص في الجليل ,ويكره المسلمون لأنه يعتقد أنهم جعلوها حربا دينية وهي في الحقيقة وطنية ,ويحدث نفسه ..هي قبة الصخرة وثاني الحرمين قبل فتح مكة ويحتد بهستيريا ..هل دفن فيها مسلم واحد أم أن الوهابية والقومية هم الذين باعوا المسيحيين في المقدس ,نحن نحترم الزعيم عبد الكريم ...كفر قاسم على اسمه ..,وكالعادة ولج المسيحي للنفاق من هامة رأسه لأنه يعرف إن أبي يقدس الزعيم ,اكتشفت فيما بعد إن كل لاجئ ينافق المحيط حوله لكي يتأقلم ويعيش ,الجد يتحدث دوما عن اللاجئين وأبي يبحث عن ليال طويلة ليقص حكاياته عن حمد وحمود ,لا يريد أن يتعلم كيف يصغي ... شبع من الإصغاء .
نزلت على السلم النخلة وعيناي تحدقان في الاستكانة حيث يلوذ الشاي بسكون رغم دوران الملعقة ويختبئ.. في القعر مخلفا بؤرة في الوسط ,تجويف مخروطي ..خورة ماء اسود ..الابتلاع ,أسبح جاهدا للابتعاد عن قلب الفورة ثم أكتشف بأني لم أبتعد قيد أنملة ,تثقل اليدان ...الساقان ,أشعر إني في فورة الابتلاع ,ارفس ثم أرفس ..أغطس من شلل الذعر ,الخوف يكمن في عدم تمكني من سماع رشيش القدمين وهما يطفقان,في دوارة الماء أسبح واقفا ,أنغرس بشكل عامودي ,قعر زوبعة الماء تسكنه الظلمة الكثيفة بالاشنات والشمبلان والطحالب اللزجة بخفة حيوان مائي وأجد نفسي في قلب الظلمة ثانية ,نصف دورة أخيرة للأعلى ..للأسفل وتومض الملعقة الفضية حين تلتصق بالزجاج ,البثل وحده متكوم في الوسط ,أضيء كالملعقة الأثرية حين طلّ وجهي على حطب الموقد,في تلك الإضاءة تختفي الأشياء خلفي في عتمة السوائل الدوارة والكائنات الساكنة المتصيدة في الزوايا ,كنت مصابا بالرهاب من كل زوبعة ....
تكلمت الأم ..
- نظل في بيتنا ..عرب ..صار... معلوم..هم الذين أسكنونا هنا من الفيضان
ثم استنسخت صوتا يشبه صوت مدير البلدية الذي أنذرنا صباح أمس
- هي كوخة قصب ..شيلوا من هنا وتزحزحوا نحو البر ..
بعد ذلك أطلقت العنان لفن المحاكاة تعلوه مبالغة بالسخرية والهزأ لكن الأب استطاع أن يسكتها في اللحظة التي اعوج فمها لتنغمس بدور تمثيلي جديد ..
- يا امرأة الحكومة تريد أن تبني مستشفى ومعسكر للمهداوي وبيوت للضباط .. أشغال الحكومة تطوّل ..
لاذا بصمت طويل ,الصمت نفسه في كل فجر ,لحظة مشبعة بالوجود ,لحظة مغادرة الجياع أكواخهم والبحث عن عمل يجهلونه ,جلست على دكة السلم المكونة من جذور سمراء للنخلة السلم,جذور تماسكت بطين الغرين ,أتحسس رخاوة الجذور وتفرعها في الفراغ بحثا عن قطرة ماء أو رطوبة ,في زوايا وكواسر الحوش تكاثفت ذرات الظلام الشفافة ,تحت حب الماء المركون لمرفع من جريد النخل يتكور الظلام كالأفاعي ,أصوات خائفة للدجاج بقوقأة متقطعة بشخير ,نسمة صباح أطفأت ذبالة النار في فتيلة البردي المغموسة في بطل النفط ,في الخارج صهل حصان ثم سمعت نفيخه ومن بعيد تردد صدى الصهيل بين خيول الجمارك ,رنين سلاسل الحديد في رقاب الخيول أو تلك التي تسور القائمتين الأماميتين ,جلبة حصان يدور بجلجلة حول ثباته الحديدي ,لا بد إن أحد الأحصنة الآن يقف على قائمتيه الخلفيتين ويداه ترفسان الهواء ,انه الاستقبال اليومي لخيول الجمارك العائدة من بطن الصحراء ,لغيط شرطة يثرثرون عن العير الذي احترق وعلى ظهره أكواز الشخاط وجمال أخرى ببالات من سجائر الروثمان الأسود والكريفن الأحمر أبو البزون والكنت الأبيض الأنثوي ...
- سعد يايمه
اقتربت من الموقد ...ترتعش وجوهنا مع ألق الجمر بخفقات الريح وأطراف أصابعي قبصت قبضة من طابق التمن المملح ورشفت الشاي برشف مسموع ومع كل جرعة شاي أبتلع لقمة محرشفة ,أبتلعها بعد ضغط من أسفل الحلق بينما يلتهم أبي العجينة المحمصة بنحيط شبيه بالاختناق أو الزحارة وكعادته يكلم نفسه أو اللاأحد بنبرات غير مفهومة ماطا أواخر الكلمات فيما تغمس الأم الصمون العسكري الأسود متلذذة ,انتبهت للأم حين ملخت بأسنانها المنخورة قطعة صمون يابسة اكبر من فتحة فمها المسود وحين اختنقت تلصصت عيناها على العيون الصغيرة الملتصقة بالوجوه وبغتة مجّت فتات الصمون اللزق بوجهي حين انتابتها نوبة السعال .
نسائم الفجر العليلة ..الأرض الباردة البليلة ...وثمة صهيل خيول ,نفيخ متقطع وحوافر تدك الأرض بإيقاع يوحي بحالة الفرسان غير المستقرة ,الإيقاع يتسارع ,يهيجني اللطم المتسارع على الأرض ,على ما يبدو إن الخيول تهرول في بقعة واحدة ,يهرول الحصان بإيقاع ,الزنجي يسقط للأرض بإيقاع ,الكل يتحرك بإيقاع ,وحده الغريب لا يفهم سر الإيقاع ,ومن نقر الحوافر ادر كان الخيول تدور حول نفسها ,في هذه الدورات أشم وحشة الصحراء ,كآبة اتساعها ,لماذا لا تمر خيول الجمارك بدربكتها مثل كل فجر وتنتهي طبول الحرب وتسكت الكلاب عن النباح ,انتبه أبي لوقع الحوافر وأدرك ثمة شيء ما من هرولة الخيول والوقع غير المتسق والمدوزن ,اقتحمتني رغبة لرؤية الخيول المتقاطرة في الفجر ,صهيل وحوئب الكلاب ودرب من التراب يتلاشى في الغبش ,امتنع باب البارية من زحزحته للداخل ,وقفت على أصابع قدمي خيول وخراف مذعورة وكائنات ترحل مبتعدة بدون كلاب تزط هنا وهناك ,سحبت البارية بقحف على الأرض ,في الخارج صفعتني نسمة باردة ,أحد الجراء يلحوس ساقي بلسانه ثم حشر جسده اللدن بين كاحلي القدمين,ينثني جسد الجرو ..يتقوس ,لم أعره اهتماما فاشرأب بعنقه وكف ذيله الإصبعي عن الترحيب ثم عاود هزّ ذيله بحركة الكلاب الخرقاء حين لا تستوعب ما يجري ,مازالت ذرات الغبش متسلطة على رقاب الخيام وأكواخ الأعراب ,تغلق الفتحات والشقوق والأبواب المشرعة بجران وهمية ,حيث الصمت ,صمت الأعراب على الرغم من الصهيل ونباح الكلاب وبكاء الأطفال المستيقظين عنوة ,أطفال الفقراء المدمنين على البكاء ,أعرف إن بكاء عبد الباقي يصيبك بالجنون ,حاولي أن ترضعيه ولو أنه كف عن الرضاعة ,هو ينتمي لجماعة تبكي من خثرة البول والإسهال المزمن ,أسمع الآن نغنغة الأمهات والجدات ,ثمة عتمة تخفي العورات المشرعة ,المدينة كعادتها تغرق في قيعان الظلمة وتزداد المصابيح صفرة ,تنوس كابية معلقة في فراغ موحش يسبح في سطح المستنقع الراكد بين قريتنا ومصابيح المنارات ,الفرسان وحدهم ينحرون الغبش بالسنابك وصهيل الخيول ,ثمة تعارف وتأكيد وجود حين تفر الكلاب خلسة عن وقع الحوافر أو تندس بين القوائم وتتوازى بهرولتها الخبب مع الخيول الأكثر قوة وجمال في هذا العالم ,الوجوه الطويلة المستدقة تتصالب وتفترق ,الإحساس بالريبة من حوئب الكلاب وصمتها غير المسبوق بإنذار ,الفارس الأكرش يرفع سوطه الجلدي العسكري ويطرد الكلاب مفتقدا الخبب النظيم ,الخيول مستثارة ,الأكرش يفهم الاستفزاز الخفي من ليّ الرقاب المستدقة للجانبين ,فرسه تخفض رأسها المزين بغرة بيضاء على الجبهة,شخير وصهيل متقطع ,تعود كلاب الأعراب لافتها القديمة ,تشمشم الأبواز الأرض,,في تلك اللحظة أنثرت الكلاب كحبات المسبحة وباتجاهات مختلفة للإعلان عن حالة إنذار ونفير ضد عدو مجهول ,شرطة الجمارك من المستحيل أن تألف كلاب الأعراب السائبة أو تصدق علامات التحذير التي تنفخها الرئات من نباح لحوح .....من بين الخيول تخطف الأبصار الفرس البيضاء ,الفجر هو الذي أعطى هالة من الوهم والرهبة على فرس بيضاء تجتاز العتمة ,رغبة النفس البشرية الحالمة بفرس بيضاء وفارس بحزام أخضر ,لكن الفارس هو رئيس العرفاء الأكرش الذي يثير الخيبة ويغتال نشوة الحلم بأخلاقه وكرشه المفروش أمامه على السرج ,الأب ينظر ليدي الأكرش الخرقاوين وهما تزمان رشمة العنان بقوة تكاد أن تمزق جانبي الحلق ..قال الأب :
- الله يستر من هذا اليوم
وقال أبو سباهي محدثا أبي من وراء الخصاص :
- الأكرش يحسب حساب سقطته على الحصى....
الكبح القاسي لرغبة الفرس في هرولة متسقة بإيقاع حوافر الخيول جعلها تشرأب برأسها للأعلى ..للخلف ..وتارة تنحشر الرقبة في جران الصدر المفتول العضل ..أو يرسم رأسها المستدق المستطيل والصغير بمنخرين كبيرين وعينين متباعدتين وواسعتين زاوية تقدر بأقل من ربع دائرة حين تخفض الرأس ولا يبان منه إلا أذنين صغيرتين ,في لحظة غير محسوبة قصّر الفارس حبلي اللجام بيده اليسرى مرتكزا على ربلة متورمة تترجرج طافية على سبيب الرقبة ,الرأس المستدير يرسم خطا عاموديا على الرمال عند الخطم ,تكشر الفرس عن أسنان بيض ..تنفخ ..تشخر أو تتحسر ثم رفعت قائمتيها الأماميتين ودقتهما على الرمال ,تطاير الحصى ,يرتفع الحافران بعلو مسطرة الخشب ,على ما يبدو إن هذا الارتفاع لا يرفع الجران وإنما ترسم عضلات الصدر المتسع انثناءات وتقوسات أدرك قوتها من البريق الخاطف على الجلد الناعم الملمس ,نفخة من المنخرين العريضين ,يفلت الفارس الرسن من يده اليسرى ويتكور في أنبوب النفط .....,تتقاطر الخيول ,تتطاول أجسادها نحو السماء وثمة حصان يهوي بقائمته على كفل الفرس غير الآبهة بانكسار ذيلها في الوسط ,إن هذه العقصة في منتصف الذيل تنذر بعدو مجهول ,تجحظ عيون الفرسان في صباح بارد ,تتفحصنا بنظرات ثابتة سرعان ما تتسمر بوجه أعرابي في خباء ما ,خرج الأكرش من الخندق كالملسوع فيما تراوح الفرس في مكانها ونباح الكلاب استعر أواره على نفيخ أفعى بلون قشور الرمان ,الوجوه الطافحة بالكره لا يستبان من التفاتتها لليسار سوى الأنوف المعقوفة والشوارب الكثة بنهايات مدببة تختبئ تحت لثام من كوفيات مرقطة ببقع حمر ,الملابس خضر غامقة وفورة نباح في أوجها ,الكلاب البوصلة تشير دائما لعدو يختفي بيننا ,في دواخلنا ,الجري المخاتل وشمشمة الأرض ,عويص جرائنا هو الذي يشوه المشهد لأنها لا تدرك اللعبة بعد ,حين رأيت الفرس البيضاء مطرقة استحيت من كل أحلامي بمنقذ يأتي طائرا على صهوة حصان شاهرا سيفه من اجل الحق والعدالة ......
نزل الكردي عن صهوة حصانه وأطلق النار من بندقية السيمنوف على رأس الأفعى الكبيرة ويقتلها في الحال ...
ثلاث أطلاقات أو أربع جذبت الناس في ذلك الفجر من كل حدب وصوب واكتشفنا إن بعض الغرباء باتوا البارحة في أكواخ الأعراب والقلة منهم في مخيمات الفلسطينيات يتقدمهم تومان العبد الذي مازال مخمورا ويصرخ انه يكره كل شرطي في العالم ,التاريخ يبدأ هنا حين جاء تومان ومعه شقيقه الأكبر ناجي والأصغر نصيف العريف أبو شفقه ,وحين تعرف أبي على العريف الذي كان معه في سارية الجبل صار تومان العبد من عبيد أبي وظل يرقص ويغني بصوت حنون ورخيم ويعزف الناي من أنفه وحين ركبت على الدراجة الهوائية لأن ناجي والذي أطلقوا عليه لقب فنديق استجدى في ساحة سيدنا الزبير وحصل على أموال جعلته يسكر هو وأشقاءه في ليلة الجمعة المشئومة مما جعله أن يمتهن نزاحة فضلات مرافق بيوت الأسياد أو الاستجداء في باب الأمير في العشار إلى يوم مماته الذي اختلط بوفاة تومان أو إن الاثنين سكرا وماتا معا ,تومان الذي امتهن رفع لافتات سينما الرشيد والذي سكن منطقة الطمامة قرب ساحة أم البروم وأغرب ما في حياته بعد إزالة بيته انشىء الليث الأبيض الذي سجن فيه سكان البصرة بينما هو يعزف الناي من انفه بعد أن كان نجما في كرة القدم , باع كل شيء وهام في الشوارع ليعزف لأطفال البصرة ويحصل على شهرة تفوق شهرة كل الأسياد من المسؤولين في البلدة .
بوغت أبي ..وقبل أن تشرق الشمس بثلاثة رجال بكوفيات بيض وبدون أن يجلسوا على بساط الحكايات في عتبة الحوش بادره الأكبر سنا ..نريد منك القرب ياحاج ,التفت أبي للفرس الكردي وصفق يدا بيد ,كان أبي يشير بسبابته المدوحسة من حشة منجل إلى أفعى هائلة الحجم في الخندق فيما يفكر الرجال الثلاثة بأعضائهم الجنسية البارزة تحت دشاديشهم البيض ,بيض كملابس الحجاج أو الملائكة ..هو لا يعرف من أين جاءوا ,من المحتمل أنهم باتوا ليتهم في العراء بعد ثمالة السكر ,أو طردهم الغجر في الصباح أو سهروا في خيمة أعراب ...نصف العرب هم في الحقيقة غجر في الأعماق ,كيف عرفوا إن عند الحاجة الفلسطينية بنت للبيع أو الزواج ,في تلك اللحظة أدركت إن لكل إنسان حين يمشي حركات لا إرادية ترافقه ,خاصة حركات العينين حين تمشي بقدمين ,على ما يبدو لا يدرك أحد ذلك إلا أبي وأنا من بعده , تغافل الأب عن مقصد طلب الرجال الثلاثة وعاد مذهولا ليمتزج مع مشهد الخيول والكلاب والأفعى ,نظر بوجهي وكانت عيناه متسعتين بالطول مثلما تقول أمي وقال :
- يجب أن أشتري عباءة من سوق البشوت قبل أن يزيله أبو البلدية ...
الآن تأكدت إن الأحداث التي رويتها لك حدثت العام التسعة والستين لأن سوق البشوت أزيل في هذا العام ليتحول إلى محلات لخرازة النعل وتصليح آلات الطبخ النفطية في الزقاق المتعرج المقابل لساحة سيدنا الزبير .
يقف مفوض الجمارك الأكرش قبالتي معقوفا للخلف ,يشكل بطنه علامة استفهام مقلوبة ,تنخر الفرس من انفها سائلا لزجا وتراوح قوائمها في المكان والكلاب مازالت تقهقر الخيول بالوصول لمبنى الجمارك الذي يبعد عشرات الأمتار,المبنى الذي يحاول إخفاء مقبرة سيد أحمد التي تتناثر قبور أبنائها لنسمع صراخهم في الليالي المقمرة ,التقت نظراتي بعني الفرس السوداويين ,اعتقد إن نظراتها تصطاد نظراتي في لحظة بروز عنقها الطويل المستدق خلف مفتول القلعة أو حين تشمشم مياه آبار البحيث ,اصطاد نظرتها الخاطفة ,حين ألهو مع سهام قرب الآبار ونحن نجلب الماء بركايا على حمار سباهي ومطيتها اليافعة ,ذات مرة أثرت غيرتها بعد أن وجدت في القمامة جادر وردي فصّلته على قياس ظهر المطية على شكل جلال محمل بالورود الاصطناعية ..حينها وقفت الفرس مندهشة ورأيتها تبتسم لي بعد ان فرجت عن أسنان بيض شديدة اللمعان كالعاج ,الآن ...تكثر من التلفت مهضومة من تشمم الكلاب عرقها الغزير من خجل دفين ,أشعل كلبنا الأسود فورة النباح الطاغي والشرس الذي لا يفتر حين حمحمت الفرس بحياء وأدركت إن الكلاب تنبح على الأكرش الذي نال ما يستحقه من عضات الكلاب ,حينها حصل الكلب الأسود على رفسة قائم مباغتة ظل يعوص على أثرها ليعود إلى نومته الأبدية على العتبة وعيناه الحمراوان يدققان النظر في الأكرش وخاصة ساقيه الأصغر من جسده المبتور من الوسط ,دارت الفرس حول نفسها وابتعدت عن الكلاب المتكالبة على الأكرش الذي ضمّ ركبتيه خوفا ليجسد التماثيل التي صنعتها من أقمشة وأخشاب القمامة عن أقزام تزين رقابهم وأكتافهم شارات عسكرية .
حكايات أبي هي التي أقنعتني إن الفرس البيضاء تحبني وتبحث عن فارس مثلي وببساطة خجلت من الاهانة التي تعرضت لها الفرس الشابة وكنت أكثر حياء منها بل اصطبغ وجهي بحمرة ..قالت أمي عنها إنها حمرة الخجل .
أعتقد إن كل من تهتم بي وتوليني نظرات حارقة أحبها بفطرة مكبوت ومحروم .
عاد الرجال الثلاثة بإلحاح حول خطبة فتاة بلون الحليب لم ينهد صدرها بعد ,أقعى الأب على الأرض فريسة الدهشة وبدون أن يعي نظر للجهة الشرقية التي من المفترض أن تشرق الشمس منها واندهش أكثر حين وجد إن الشمس لم تشرق بعد ,هو لم يسمع بعد بخطبة فتاة أبدا قبل أن تشرق هذه الكرة الصفراء الملتهبة....
استطعت بصعوبة أن أوقف هجوم الكلاب دون أن أتمكن من شلّ ألسنتها الحمر من النباح أنا لا أعرف هل تنبح بألسنتها أو بحناجرها أم أن هذا الصوت يأتي من الرئات ؟,ابتسم الفرسان بوجهي ..لا لشيء سوى إني أخدم السلطة دون وعيّ مني وكأني أخفي سلع مهربة ,قالت الأم وهي في حالة من التجلي النادر :- اختفى الميزان والنجمة وستشرق الشمس أيضا ...إن شاء الله...
عزف تومان العبد الناي من انفه ساخرا من السلطة ,وضرب نصيف أبو شفقه على الطبلة بإيقاع نشاز ,تفرست في الطبلة وسمعت ...جق ..جق..طز ....جق ..جق ..طز ...خيم صوت جهوري غريب ينادي ...من ضايع له شيء ,ضحك أبي ضحكة عالية واتكئ على كتف أخي الأكبر ووقف متمايلا ليدخل البيت من عتبة باريته ضاحكا ,تبعته ماشيا لأعرف سرّ ضحكاته الغريبة ,لم أتمكن من سبر غور أعماق أبي حينها زمّ شفتيه واختفى في ظلام الصريفة ومن عمق الظلمة أسمعه يحدثني ..هذا الصباح نبيع البقرة على مقصب الظويهرات ...أفضل من أن تموت بيننا ...صحيح إنها عزيزة...
عاد الأب للضوء وبين يديه ملابسه البيض المطوية بعناية في صندوق أمي السيسم وحين جلس مثل علامة استفهام مقلوبة لبس دشداشته البيضاء غير المخبونة الذيل ثم لبس سرواله الأبيض ووضع نصف دشداشته وحشرها في السروال ليجعل منها قميصا ,نظر بألم ونكأ جراحه المزمنة في نظرته المتأملة إلى قاطه الشديد البياض مثل صيدرية طبيب ولبسه في الحال ليبدو وكأنه أحد الهنود أو الأفغان ,مسد على رأسه بأصابع مفروقة قبل أن يغطي هامة رأسه بطاقية بيضاء ثم غطى الطاقية بكفّية شبكة الصيد وأخرج من كيس ورقي عقالا من الصوف الأسود مقصبا بخيوط الزري الذهبية الملمعة بخيوط البريسم والفضة وهزّ العقال بوجهي قائلا هذا شطفه وأدركت إن اليوم يوم عصيب في التاريخ .
عند العتبة توقف أبي متأملا القزم الملتحي بعد أن طالت لحيته بطول دشداشته البيضاء ..الثوب المبتور على سمانتي الساقيين ..
سمعت الباب يطرق طرقتين ..خفت ..تصاعدت رائحة قيح ساعدي الأيمن الملتهبة وانتبهت الى خربشات يدي اليسرى ,خربشات ساحر برموز وطلاسم ,ارتعاشة الخوف في الكتابة ,ومازال الجرذ يحفر في الجدار وأبي يسعل في الذاكرة كلما أقترب من باب غرفته والأم التي تفتح فاها بدون أسنان ..لا شيء سوى إني اختفيت في غرفة أخرى ...
في اختفائي الثاني قررت أن لا أرصد العالم من كوة قمامة الريسسز وإنما من نافذة عقلي ,عقلي البالغ الذكاء في عالم منحط بل موغل في أخلاقية مقيتة ...
اكتشفت إن البراءة تنقصني ..مجرد احتمال ..أريد أن أفسر سرّ تشبثي بطفلة لم تتجاوز سن الثانية عشر ,رقم اثنا عشر مجرد رقم جذب انتباهي مثل مجنون توقف عقله عند رقم ما وظل يهذي ويبني آمالا على خيال جسّده بإلحاح إلى واقع ...وأغرب ما في هذا الواقع هو إني أرى سهام تتجدد مع كل امرأة أحببتها في حياتي ,خلطت الروايات التي كتبتها فيما بعد لأعيد تجسيدها في الحياة ثانية لإدراكي إن الأحياء موتى يمشون على قوائم ويصطدمون بجدران لا يرونها لأنهم بإرادتهم صنعوا الجدران من زجاج ,احتمالات ..فرضيات ..الحقيقة أقولها لك وحدك أيتها الزوجة ...هي ..هي لتضييع الفرصة كي لا تكتشفي الجرائم الغبية التي اغتصبت فيها أجمل امرأة في العالم بل أجمل من الأرض المصغرة وتلك التلال المكورة على نفسها برضاب من الحليب ,اغتصبتها في الخيال ..عدة اغتصابات لأكتشف أغرب وأكبر دناءة في العقل البشري حين يرتكب جرائم غير موجودة في الواقع ,أنا مريض بالغيرة من الحمار لذا دفعته للموت قسرا بعد تعطيشه وتجويعه وتصممي على تهريب الفنان سعد الخليوي على ظهره إلى الكويت ,كنّا مخمورين ..عقيل سيد زيارة هو السبب ..هو السبب الأوحد في كل الجرائم مع علمي إن الجنود هم المغتصبون ,النسخة التي لم تدخل في كتابي هي النسخة المخصصة عن الحبيبة لأنها تجسد الرغبة العنيفة للمقموع ورغبته التي لا يمكن السيطرة عليها في العودة وبجنون لتجسيدها أو العودة إليها ,الرغبة التي اصطدمت بظلم السلطة ..أنا لا أعرف بالضبط كيف دخلت السلطة إلى روايتي وشوهت الأجمل من الأرض والشجر والماء ..أعتقد إني أجسد لوثة ما لأن الزمن توقف في ذلك اليوم الذي كتبت الروايات عنه دون أن أستوعب ما جرى ولم أتمكن من رصد كل شيء ...روحي عالقة في براءة بكارة منسية في هذا التاريخ ...أعتقد إني لست مقموعا لكني أعود بجنون لشذوذ ما ...
هي رحلة من الذاكرة وترتيب الخيالات ومن ثم التنفيذ على الورق ..
من المحتمل أن أعماقي من الهشاشة هي التي دفعتني أن أطلق الرصاصات على الفرقة الحزبية لأهزم الخوف وأعيد احترامي لنفسي ..ليس كرها للسلطة وإنما لأسباب ما زالت غامضة تتعلق بتثبيت سطوتي التي لم أمتلكها بالدفاع عن الفلسطينيات أو سهام الحبيبة .
المنتظمون في العشوائيات والإهمال يحلمون دائما بإسقاط سلطة تبدو كل هياكلها منظمة .. مجرد أطلاقات في الهواء أسقطت السلطة في عشوائية وفوضى ,رغبة الانتقام والتدمير تنتقل من أقسى واغرب فوضى إلى هياكل الأنظمة مثل وباء ,احذروا سكان القرى المهملة والعشوائيات لأنهم ,ببساطة ,سيأخذون السلطة, مهما كان الثمن ..
كل الأبناء الذين عاشوا في دائرة الصفر سجنتهم السلطة وأعدمت أكثر من عشرين شابا لانتمائهم إلى حزب الدعوة وثلاثة لانتمائهم للحزب الشيوعي وعشرة رجال لهروبهم من الجيش ,كما قطعت سيقان سبعة عشر من الأشقياء ومن ثم موتهم بميتات غامضة ...
أصيب والد الأقزام وسناجبه بكآبة حضارية وغاصوا في حلم يقظة تصهل فيه خيول الغزو ورمال الصحراء بعد أن طالت الوالد أصبعا لتغطي ذيل دشداشته البيضاء ....
وحدي علقت في كل المربعات التي جهدت بترتيبها بعد دراستي لفرانز فانون في معذبو الأرض ,لأني الأوحد في محاربة السلطة بالخيال بعد أن يئست من تغيير النظام في الواقع ...جسدت أغرب خيال وفوضى وفطرة في رفض الظلم وما زلت أصمم على الانتحار الثوري الذي قرأت عنه في رواية اندريه مارلو في الوضع البشري ...تشن وكيو شخصان يعيشان في الذاكرة ....
رغبة لا تقاوم بشم عطر باكر ,عطر باكر في أول الليل لأزهار شجرة بمبر او ملكة ليل , نحن الآن في الخريف وستزهر أشجار سدر النبق بعد أيام , فركت أوراق شجرة كف مريم ثم دعكتها براحتي ووضعت خضرة الأوراق على شاربي وغلقت منخري الأنف ,تشبعت بالرائحة ,سحبت نفسا عميقة وناديت على الزوجة ...حياة .. قمطي الطفل بالكفن وضعيه بيدي اليسرى ,لم تتوقف الزوجة من النحيب , ثمة نساء متلفعات بالسواد يشيعن عبد الباقي بنواح طقوسي مجلل بحزن غريب ,أخذت الخمسة دنانير من الزوجة لأدفن عبد الباقي في مقبرة سيد أحمد ,لا أعرف السرّ الخفي الذي جعلني أعتاد الموت وكأني ذاهب للقيام بعمل ما لا يثير أدنى شجن في القلب ,مثل أي عمل يومي وعادي ,ثمة شعور غريب لا أعرف كنهه أبدا ,الشعور بالهيبة والكرامة المسروقة وأنا أحمل الموتى ,موتى يمتلكون ضمن القوانين الصارمة ورقة وفاة أرى فيها أسمي لامعا بتأكيد وجود على أن اسمي موجود في السجلات الرسمية ,ولم أشعر بالخوف من النظام وعيونه التي تراقب بيتي بل مررت بالقرب من شخصين يتناوبان الحراسة والحديث منذ أيام قرب روضة الكروان ,مررت بكل وقار وهيبة ,وفي أعماقي رغبة لا تقاوم لشم رائحة وردة في أول تفتح لها ,أعتقد إن روحي عالقة في بكارة منسية في التاريخ ,أو في مربع ما ,وحين اقتربت من المستنقع القديم وتشبع أنفي برائحته تذكرت إن الدرب الذي احجل عليه مخصص للفيل في خطة التنين الأكبر المكسور الجناح ,لكن الفيل انتحر في رقعة الشطرنج وأنا مازلت حيا ,أنا الفيل لكن أبي هو الذي مات ...بل ولدي الذي مات ومن المحتمل إني ميت منذ زمان وإلا لماذا أتحسس إن روحي هائمة وسائبة ,المستنقع الدائري ,مستنقع المتاهة والالتفاف بلا جدوى .. مربع المتحولين هو المربع الخامس وأخطر ما فيه هو انك حين تدور مع الضفاف من أقصى الشمال تجد نفسك في أول درجة في اليمين ,وما سر تعالقي في كل المربعات ,التعالق هو المربع العاشر في الخارطة وثمة مربعات لا أذكرها لك مثل المربع السابع المختص بإعادة الخلق من القمامة من جديد وهو التدوير وفي لهجتنا الشعبية نقول فلان معاد مثل نعال البلاستك ,ينتج ويستهلك ويعاد استهلاكه أو حين امتزجت روحي بالشر في المربع الثامن (التمازج) لأخفي جنوني بالانتقام من حمار سباهي حين هربت عليه الفنان سعد الخليوي إلى الكويت وقتلته بأشنع ميتة ,انقل لك هذه الأسطر من قصتي اليحامير (للعرق رائحة نفاذة تشربت بأثوابنا ,لمعت في ذهني فكرة المعية ..قلت لعقيل وسعد :امسكا رأسه فقط وأنا اصب في فمه نصف ربع عرق على الأقل وسيهرول مثل الحصان ,وتحت خيمة الإحباط لم يجادلني احد منهما وإنما قاما طيعين وامسكا بالرأس الضخم المستطيل وبيدي اليسرى لويت الرأس على جانب ودفعت القنينة حتى البلعوم وسمعت الزجاجة تبقبق وينقص السائل من عقبها ,ترك عقيل رأس الحمار واخذ يقفز كالسعدان بنوبة غضب خوف أن يشرب الحمار القنينة كلها..... أفرج الحمار عن أسنان بيض أدهشتنا ببياضها الناصع ,في تلك الليلة المظلمة لوى الحمار رأسه عدة ليات ودار حول نفسه مع اتجاه عقرب الساعة ..ابتعدنا قليلا وفتحنا له الدائرة كي يدور حول نفسه ونحن في قمة التوتر والفضول وبغتة قفز الحمار واخذ يهرول قافزا المطبات والصخور فما كان منا إلا أن نلحقه بجري سريع ...اختطف عقيل القنينة وهو يفح بلهاث مسموع : دعنا نسكر مع الحمار حتى نسبقه في الجري...دربكة القوائم تمتزج مع وقع الأقدام ...وعلى رابية مرتفعة توقف الحمار يرفس أعداء وهميين , يدور حول نفسه ويرفس ...وسمعته يشخر بصوت غريب اقرب لشخير الإنسان ,يهز رأسه المستطيل .. ينخر من فمه أو انفه أنا لا اسمع إلا الشخير ,صحت ياخليوي ادفعه للحفرة كي لا ترانا شرطة سفوان أو الجمارك قرب جبل سنام , دخلنا الكويت دون أن ندري وظل حمار سباهي .. ابيض ..ناصع البياض على الرابية .
هل تعتقد إن هناك حمارا واحدا في العراق حين يهرب يفكر بالعودة ,أنا وأنت فقط ..لأننا نحب الموت ..نريده بقوة ,أنت تهرب الناس من أبشع خنق وأشرس وضاعة وإعدام بالمجان وعلى الهوية ثم تعود صاغرا مثل قطة لا تحب إلا من يخنقها ,أنت تحب الموت ..تعتقد إن روحك تسمو ,ولأول مرة نتفق على شيء خفي في الأعماق وحين التقت نظراتنا قال: احدنا يجب أن يكون حمارا ,واتكأ على الرمل وانتزع الحبال التي كانت تشنق الحمار بقوة ونفخ بحزن ..سأصنع لك رشمة على رأسك ورقبتك لأنك طويل القامة وحين اسحب الحبال ستنحني ..بالتأكيد مثل حمار حقيقي ونضع البطانية التي جلبناها معنا لإخفاء اللون الأبيض للحمار كي لا ترانا الشرطة عند الهرب ..لا تخف أنا امسك البطانية من الذيل وأنت تمسكها من الرأس ..البطانية جلال رائع على ظهر الحمار ..هكذا نعود للوطن ..شرطة الحدود والجمارك لا يعيرون أهمية لحمار عائد للوطن ,كل من استحمر تمكن من العيش ...
تعلم عقيل كيف يرفس وأنا تعلمت النهيق) ...كان ذلك في بداية صعود الدكتاتورية .
حين درت حول المستنقع الميت منذ سنين وتشبع انفي بذفرة الأسماك الصغيرة وطنين نافورة للبق تدور مثل لولب أو إعصار غمامة كائنات بالغة الصغر وتحسست نفسي مثل خفاش يطير في سماء يمتد فيها جناح مكسور لغراب ميت.. جناح تنين النفط ,وفي لحظة بالغة الصغر ,لحظة خارج الزمان رأيت عيني الوليد تومضان على إشعاع ينبوع ضوء مستقيم معلق على واجهة احد القصور ,المستنقع الكبير مظلم وثمة ضفادع ملّت النقيق ,كيف تنق الضفادع بدون ربيع ؟,أدور حول المستنقع واعرف إن كل الدروب تؤدي للمقبرة ,مازالت يد الوليد تحتضن رقبتي جامدة من موت البارحة ,احمل الوليد بيدي اليسرى واليد تلتف على رقبتي وكأنه لم يمت ,توقفت بغتة ,تذكرت توأمي عقيل سيد زيارة فقررت الذهاب إليه بدون أدنى تفكير لأني كلما اخرج من بيتي أجد نفسي مبرمجا على الوقوف بباب بيته منتظرا خروجه من غرفته الجحر التي تضم دواوين الشعراء ...
تأكدت الآن إني حين أكتب أمارس طقوس عبادة سرية هدفها تطهير اللاشعور من الدنس والرضوخ للاضطهاد ,الرضوخ أقذر جريمة ولا أعرف لماذا لا تحاسب عليها الأديان ,أعني الرضوخ الطبقي بالتحديد ,وان تعدد الفصامات في الشخصية ليس جنونا وإنما التمسك بشخصية واحدة أمام الناس هو الجنون ,أنا لا أستحي حين أقول إن كل شخصيات روايتي لا تعاني من الفصام وحده بل من الانشطار وهو المربع الثالث بعد أن حدث التمازج في المربع الثامن ورقص الناس رقصات هجينة وتدرب الناس على حركات راقصة بإيقاعات دخيلة لم يألفوها بعد ,ثمة تطور خفي في انحناءات الأجساد ,تتقولب بمؤخرة كلب يهز ذيله وتارة تتجسد بمؤخرات قردة هزمت في الحرب وثمة عجوز تعثر بذيل عباءته وكبا على الأرض ,تكشف عجيزة الشيخ عن عظام ناتئة ومنحوتة من سوء تغذية ,كان ذلك تشييع لجنازة قتيل في الحروب التي لا تتعب منها الدكتاتورية ,ثمة نساء متلفعات بعباءات سود ككائنات لا تمت بصلة للبشر ,النساء واللون الأسود وعبد الباقي الضاحك الذي يلف يده على رقبة الزوجة ,توفي عبد الباقي في ساعة ما في فجر هذا اليوم لكن زوجتي حياة التي غفت من الإنهاك وقلة النوم في الأسبوع الأخير الذي كتبت فيه هذه الأوراق ولعدم تمكني من العمل في بيع اكواز الذرة المسلوقة بعد إصابة يدي اليمنى وبلع لساني الذرب تجاه السلطة ,لا تستوعب هذه الأوراق تعبئة كلمات عن طفل يحتضر وحلمة ثدي الأم في فمه كأمل أخير على امتصاص قطرات حليب بيد تلتف على الرقبة من الحنو .....,بقيت ساعات النهار تحتضن الطفل إلى صدرها بقوة ولم تتمكن طبيبة الأطفال من فحصه للمرة الأخيرة ,لم يمت عبد الباقي بعينيه المفتوحتين لأنهما ترقبان كل شيء دون أن تطرف جفونهما ,لماذا تطرف الرموش مادام كل شيء مستنسخ من أمس أو أول أمس ..مجرد ورقة شفافة طبعت بطابعة يدوية وكتبت عليها شهادة وفاة عبد الباقي جراء الإسهال وسوء التغذية ..الذي أسماه عبد الباقي رشحه للموت بجدارة وضمن طابور طويل .
وأنا التف حول المستنقع متحاشيا سيطرات وحراسات السلطة أشعر إني أتجول في رقعة شطرنج واسعة ,الطرق الوعرة بالمجاري والمختصرة هي هرولة في دروب قطع الشطرنج ,الهرولة التي تجعل الرعاع أثناء تطبيق الخطة الشطرنجية المنتظرة بشرا بنفوس نبيلة ,دروب قيصرية يسكن المهمشون نهايتها دوما ....
رأيت عقيل سيد زيارة يخطو على دربه الترابي الذي صنعته قدماه بين الأكوام والقمامة الصلبة لكثر ما يغدو ويروح بين بيتهم في طرف الشيشية ومدرسة أبي ذر الغفاري وبيده عصا شجرة ينش بها قصائد الشعر لشعراء من زمن غابر ,توقف مندهشا ثم قفز جذلا كالسعدان وهو يثرثر ... أين أنت .. كلما أطرق الباب تخرج لي أمك المجنونة ,أنا لا أعرف كيف تزوجتك امرأة رائعة الجمال ومعها أم مجنونة ..الجنون بحقها قليل أي والله ... أكيد تحمل بطل عرق ومعه مازة ..نحن لم نعتد بعد أن نجلب العرق بكيس أبيض ...أنت لماذا صامت يا سعيد ؟......
حاولت أن أشرح له ما جرى لكن لساني يلفظ كلمة ويبتلع عشرة ,وكل الذي أتفوه به غريب عن لهجتي مما اضطررت أن أريه الطفل .. عقيل لا يعنيه الطفل بشيء لأنه يعتقد إن العراقي من غبائه المتجذر بالدماغ انه يجهد لتكوين أسرة يستفيد منها النظام فيما بعد ,ثم قال إن الإنسان مجرد أن يتزوج يصير جبانا أمام السلطة ,أقنعني انه مجرد طفل ولو دفنّاه في البر لظل طفلا أيضا ,ما معنى أن يدفن الأطفال في مقبرة ؟,عرفت انه يشير إلى الخمسة دنانير التي خصصتها للدفن ,ببساطة أقنعني بأنه سيدفن الطفل في مقبرة سيد أحمد ويحفر القبر بأية آلة يجدها في المقبرة لأني لا أستطيع الحفر ,لأول مرة أشعر إني عاجز حقا ,أو معاق ,شمّ عقيل رائحة القيح المتقاطر على كفي الأيمن وبدون أن يسمع سبب الجرح الذي تخيطه أكثر من إحدى عشر عقدة قاسية قال وهو في أوج الانشراح ...سنسكر الليلة ونعقم الجرح بالعرق السبيرتو ,أخذ الخمسة دنانير وهرول في ظلام الزقاق الذي ينتهي رأسه في بيتهم الطيني الواطئ الأسوار ,بعد دقائق عاد مسرعا وفي كل يد قنينة عرق ابيض ممزوج بماء بارد ,كرع على فوهة قنينته وهو يثرثر ببيت شعري صدره ..وحسبي هذا التفاوت بيننا ,أردت أن أقول له باني لا استطيع الشرب وعبد الباقي احتضنه بيدي اليسرى ,باغتني حين قبص بأصابعه الغليظة على ياقة الكفن الأبيض وظلت اليد اليسرى تطوح بالطفل دون أن ينظر إليه ,سارعت بشرب جرة طويلة بحلقت فيها عيناي من حرارة العرق الزقوم ورأيت عبد الباقي ينظر إلى عيني صامتا ويده مرفوعة تنادي أن أضمه إلى صدري ,سكرنا من أول بيك وانطلقت حنجرة عقيل الغليظة تغني بدايات أغاني سليمة مراد ..هو لا يحفظ إلا البدايات ..,فجأة عاد إلى صهيل شعراء الجاهلية والمعلقات ,يتخيل نفسه ممتطيا حصان الشعر ويميل برأسه مثل حصان ثمل بالريح وتارة يقف فوق طابوقة أو تعلية وتفيض نفسه بقصائد يرتجلها صدفة ...هو الشاعر الأوحد الذي أنجبته المدينة دون أن ينشر قصيدة واحدة بل سرقه الشعراء ...
في السوق لا ادري كيف رقصت على رجل واحدة ,كنت أحجل مثل غراب ..أما هو يهز كتفيه بإيقاع غجري ...
تخاصمنا حول عبد الباقي فاضطررت أن أعطيه مجعة من قنينتي واحمل ولدي ...في مقبرة الحسن البصري تركت عقيل يمتطي قبر السياب وساقيه تلكزان القبر وعصاه انهالت على الشاهدة كمن يريد أن ينطلق مثل حصان ويصرخ انطق يا سياب ... انطق يا سياب .. دعنا نغلبهم ..وظل يثرثر بقصائد كتبها في ساعات العزلة ...كل على كل سيبكي وتضيع دمعتنا الرقيقة ..نتيه بين حقيقتين..الصمت واللغة الدقيقة ..ندور في أفق تحداه الرجاء وجفته أروقة الحقيقة ..
ثم قفز من القبر ومسكني من اليد المتقيحة وصرخ عاليا ...لا موت بعد الموت وليأت القضاء ولتذب عند القلب نيران الحقيقة ..
غنيت بصوتي الأبح من التدخين والمبتور من عضة بأسناني ورقصت على رجل واحدة.. اعتاديت على جنون عقيل الكحولي ...
عاد عقيل للبكاء وهو يتلو قصيدته ..من أي منخفض أتيت وبأي منخفض سكنت ..قرارة المدن المخيفة كم شكوت ..
شرب مجعة صغيرة وقال بهدوء ..يا زمن ضاع وما اعتدنا رحيقه ..وقف يتمايل ونادى شاعرا آخرا في الظلام جسدته أوهامه العتيقة ...
عاد واحتضن قبر السياب وظل يهذي كنا صغارا نسرج الفانوس ونصعد الأشجار,نبحث عن مكامنها ,لعل هناك هاجسة توحد بين نبض أغنية وغناء بلبل ,ثم سمعت عقيل يغني أغنية لياس خضر ويبكي ..أنا الآخر اردد مقاطع أشبه بالتراتيل أو الدعاء وكان صوتي لا يخرج للعالم ,عاد عقيل إلى جنونه الغرائبي بلكز قبر السياب ويلح على الانطلاق وعيناه مبحلقتان ومبحرتان في الظلام الممتد إلى ما لانهاية ...سمعته يقول :اذكر منظرا للموت حين تمر قرب بيوتنا تلك الجنائز نحو مقبرة بأقصى غابة النخل كيف نشرد بين حضن الأرض معتقدين إن الموت يعدو خلفنا ...استيقظت بغتة حين تذكرت عبد الباقي وسألت عنه لكن عقيل يصرخ ..هذا الموت كالكلب يعدو خلفنا..لم يسمعني صديق الجنون وتأكدت انه غاب في عالم آخر ,حين وقفت مفزوعا ترنحت لأسقط في بطن قبر أجوف ..لا وجود لعبد الباقي , سمعت عقيل يصرخ وكأنه في معركة على وشك أن يخسر فيها الحرب ... يجب أن نخرج السياب من قبره ونجبره على كتابة شعر ثوري وليس مجرد بكاء وكبت ...نجعله على الأقل مثل النواب أو البرغوثي بل نحيي ابن عمه الصحفي ..كل من حاول كتابة قصيدة مقاتلة ..أنا لا أعني سعدي يوسف أو درويش بل النواب ولكن بفنية عالية .. أين المشكلة إذا كتبنا كلنا قصيدة واحدة لنجعلها نشيدا أو نشيجا.. وعاد عقيل يضرب رأسه بشواهد القبور ويصرخ كالمجنون ,يريد أن يحطم كل شيء حتى قداسة الموتى ..آلام شاعر لتمرد لم يفلح وانتفاضة فاشلة ...اعتقد إن كل الشعراء الأحياء فاشلون يتملقون السلطة لأن لهم صلعات لامعة ,قال لي سأنجب من الموتى شاعرا واحدا وعاد إلى امتطاء قبر السياب يلكزه بقائميه ويجلده بالعصا وعيناه مبحلقتان على شعراء يسبحون في حزمة نور بعيد , ناديت وعلى ما يبدو إن الموتى سمعوني وأنا أنادي الحاضر على إني موجود واطمأنت نفسي الهاربة من شبح غامض إن عبد الباقي بخير ولا بدّ أن أجده ..أين يذهب ؟ ..مقبرة الحسن البصري لا توجد فيها كلاب سائبة ,بحثت عن الدرب الذي نسلكه في كل مرة بين القبور حين ندخل المقبرة من فتحة قديمة وتنهش فيها أيدينا لتزيل كسرات الآجر ,وجدته هناك ينتظرني ورأيت عينيه مفتوحتين تبحثان عن الأب الفاقد الأبوة وما أن وضعته على صدري بحنان عجيب سارع بلف يده اليمنى على رقبتي ,مشيت في الشوارع لا الوي على شيء وسيان عندي إن بكيت أو ضحكت ... اعتقد إن الكل موتى ,عرجت في مربع التماهي حتى كدت افقد الفرق الصغير والدقيق بين الموتى والأحياء ,في السوق وقفت معوجا استفهم المدينة منتظرا إيعازا غامضا بالهجوم حسب خطة شطرنجية رسمتها بجهود جبارة ,الهجوم على المشايخ والبيوت التي تتناقل الأفكار والمذاهب نفسها جيلا بعد جيل للبحث عن سلطة ما ,بين مقبرة الحسن البصري ومقبرة سيد احمد مائتا متر ,لا اعرف كيف قطعت هذه المسافة في اقل من دقيقة واحدة ,لا توجد أسوارا حقيقية لمقبرة الفقراء وإنما قبور بائسة تنبح على جنباتها الكلاب السمينة ,الذنب يجعلني احمل ولدي بلا مبالاة وأغيب في الظلام ,يجاوبني صدى النباح ,الريح تدفعني من الخلف والسماء جناح غراب ميت ,العتمة الغامضة والخفية تجعل قدميّ يغوصان بالرمل بدون صوت ,القوى الغامضة السائبة في المقابر شنجت يد الوليد على رقبتي ,كحبل بارد ولين يلتف ويعصر على رقبتي ,خفت حتى أن أفكر لأني لا اسمع إلا النباح والصمت الثقيل ,من خلل ريش غراب الغيم المتناثر بوجه قمر انبلج في السمت رأيت عيني الوليد مفتوحتين وبشرته بيضاء ,ليس مثل بياض الحليب وإنما بيضاء مصفرة ,وجه مدور بعينين سوداويين يشبه الطفل المرتمي على حضن السيدة العذراء التي مازالت صورتها المؤطرة تتسيد جدران غرفة أبي لتتبادل مع أسنان الزعيم ابتسامات ظلت عالقة على الشفاه ...
لا أعرف كيف قادتني قدماي إلى بقعة ارض بين القبور ,القبر الذي أجد نفسي نائما فوقه كلما يخطف السكر ذاكرتي وتسيّر روحي القوى الغامضة ,ثمة كلاب برؤوس مشعرة وأكبر من كل الرؤوس المعتادة للكلاب تشمشم بملابسي بتواطيء لمعرفة قديمة ,ترافقني الكلاب صامتة وتهز ذيولها بحركة بندولية وضمن إيقاع خاص ,رأيت الأليفة تلوح بيدها جذلى بقدومي ,على ما يبدو كانت تنتظرني لأكثر من ساعة ,احتضنتها بيدي الجريحة ,سخونة جسدها البض قدحت في روحي حيوية لمعانقتها وضم جسدها النحيف ,عصرت جسدها على صدري حتى توقف تنفسها وسمعت الوليد يبكي ,قالت لي سهام معاتبة بأني أخنقها في كل مرة حين احتضنها وظلت تعاتبني بأنها لا تهرب وإلا أين تهرب ويجب أن أرفق بها ,عدت ثانية أتشمم رقبتها ونزل وجهي كله إلى فتحة صدرها وعصرت النهدين على خدي ,النهدين الجاسئتين ,أرضعت بثديها الأيسر عبد الباقي وأنا مازلت ارقص على رجل واحدة وأترجم المعنى الخفي المتبطن في الألحان التي أصفرها بفمي إلى سيل حنان وحب عجائبي بتيارات ماء تسيل وتسيل للباطن ,تسامت روحي إلى خفقة ملائكية وأنا احفر واحفر بأظافري قبرها المشبع برائحة الرمل الأحمر لباطن الأرض وسهام تؤكد أن افتح الفتحة المؤدية للفؤاد لأدخل فيها كالملاك ,كانت دافئة أو هي ساخنة مثل كل مرة حين أضمها إلى قلبي ونتوسد الأرض لتمتد يدي اليمنى وتضمها هي وعبد الباقي ,لحظات تجلي لا تظهر إلا لقلة من البشر حين قالت بصوت لا يسمعه في هذا الكون إلا أنا كاتب هذه الأوراق ... أن اهيل التراب على فتحة القبر لنبني بيتا أنا وهي ونعيش تحت الأرض ,أنا أسميته (زواج) في العديد من الروايات التي كتبتها لكنا تقول بأنها تريد العيش مع معي وتحتضن عبد الباقي ..هي لا تريد شيئا سوى أن نعيش معا ....صرنا الثلاثة واحدا مثلما كان يقول العجوز الفلسطيني وهزمنا الشر في باطن تلك الحفرة ,هزمنا اهريمن أو الشيطان أو الشر ,الخير كله يتجسد في هذا الحب بل الانصهار في روح واحدة ,روحي أنا كاتب هذه الأوراق ,المرأة ارض طيبة ,مصغرة ,بيضاء بلون الحليب ,تلال متكورة على نفسها وسفوح التوت بأزميل فنان عظيم ,ينابيع ماء تنحت الشعاب الملتوية بسوائل من رضاب ,الكور الملتوية تسخن بدفء قطرات الحليب ,على القفا تنام رمال بملمس الثلج ,تمتد يدي اليسرى..تروخ على رمال صفر وينتابني شعور بتفقد جسدها البض,الجسد المغموس بليقة صبغ مشع ومتفرد يحيل إلى بقع أكثر ابيضاضا تحت الشعر الأسود السائب ,الفم المزموم ينفرج عن ابتسامة تتكور فيها كل آلام الأنثى ,الأرض رائعة الجمال ,هي رحلة للكشف عن حق خبئ وقدح زند ضمير لم يجد له تفعيلا في الواقع ...وحين اكتوت أضلاعي بسخونة جسدها اللين كجسد الأطفال وأقشعر جسدي البارد أمطرت السماء ,لا أسمع إلا الصمت وبقبقات المطر وثمة غموض هائل من خلل ريش غراب الغيم وكمن يكسر جناح خفاش هائل الجناحين بسيف مضيء ويسمع تفتق الجلد وتكسر العظام ....في ذلك الضوء المؤتلق ثوان رأيت عيني عبد الباقي مفتوحتين ,ويده تلتف على رقبة الأليفة , ثمة صمت هائل يختفي في باطن القبور ,أصخت السمع ...أسمع الأرواح تتوجع حين تنخلع من الأجساد وتسيح في العالم الأكبر ,زخة مطر أيقظتني ووجدت نفسي أعانق قبر رخو الثرى ,دلفت بين القبور المبنية بالآجر أما تلك التي بقيت بلا شاهدة راحت تنخسف تحت قدمي ,تغوص أطراف الأصابع في بطن ما وثمة دفء سري يغمر القدم كلها ,حرارة روح ولدت من معانقة أحشاء الأرض ,تمتزج بجسدي وتختلط بأرواح الكون الفسيح ,تنغل القدمين في الرمل مثل قدمي فيل ثقيل ومريض وثمة كلاب مترعة بسمنة لم أألفها من قبل تشم أطرافي بوله عجيب ..بغتة اشتعلت العيون الحمر والزرق و...تحت بريق الرعد ,اشتعلت بذكرى بريق ,أتنفس بعمق ,أعب رائحة الموتى المنقوعة أجسادهم بالمطر ,ترافقني الكلاب الأليفة ...يا لكثرة القبور المحفورة بحجم ذراع بعد الانتفاضة ...
الظلام والمطر أكدا لي بأني يجب أن أعيش من اجل أن أموت في يوم ما ..
عدت حزينا امشي بخطى غريب على الشارع الإسفلتي .. بين القصور ,المؤدي للبر المفتوح خلف المستنقع الكبير ...
لاشيء في الريح والمطر غير الصدى واصطفاق القطرات بصفيحة جينكو ,فتحت الباب ,وجدت الوحشة والسكون ,سمعت سعال أمي ..الزوجة نائمة ويدها تلتف على طفل وهمي ,تقرفصت في الزاوية بعد أن خلعت ملابسي المبللة ورغبت بتدخين سيجارة ,شعرت بنفاذي الصعب من فتحة كوة قمامة الريسسز ,وبأصابعي المفروقة سحبت سيجارة من علبة سجائر هوليود ,رأيت السيد وأنا مغمض العينين ينشطر إلى نصفين ,وبالتساوي ,وعاتبني الأب على استباحة حياته الشخصية وفي لحظة تغطية جسدي ببطانية خشنة تخاطر في ذهني إن زوجتي تحلم ,شفتاها اليابستان ترتجفان ,نحن مازلنا في الربيع ..اعتقد انه الشهر الرابع لأني أشم رائحة أزهار البمبر ولولا المطر لنمت بدون أغطية ,ثمة صرخة لم تنطلق بعد مرسومة على شفتي الزوجة ,فتحت فاها على اتساعه ,قد يكون كابوسا ,رأيت يدها اليمنى تبحث عن حلمة في جانب نهر الأضلاع وتحاول أن تلقم الطفل الوهمي ,طفل على شفتيه زبد وله وجه مدور مثل قمر ابيض ,شبتْ بفزع وسألتني ..أين الطفل؟ ثم اتسعت عيناها بنظرة مريبة ,تلك النظرة تعلقت بوجهي المغسول بالمطر ..لم اجب ,أنا الآخر تعلقت عيناي بوجهها الأبيض وبعد صمت نحبتْ ببكاء مر ,على ما يبدو فاقت من الحلم وتذكرت إن الطفل مات البارحة ,عدت أدخن بشراهة ,الدخان يملأ الغرفة ..هل دفنته أومأت إليها هازا رأسي للأسفل ,جاءني صوتها من غور بعيد..هل اخذ الحاج مناتي الدنانير كلها..أكيد سيبني له قبرا مثل كل الموتى ...
- لا ..دفنته مع سهام التي حدثتك عنها .. هو طفل إن شاء الله سيكون طيرا في الجنة ..
عاد السكون يغطينا سوى إن عينيها تعلقتا بوجهي مثل مسمار وقطرات الدمع تنهمر ببطء من زوايا العينين ,طال الصمت وشعرت بالنعاس تسلل كأفعى ,أردت أن أبعد نظراتها التي تخترقني كسيخ محمر .. قلت:
- دفنته مثل كل الناس .. رأيت كل القبور تتجه للقبلة فوضعت رأسه بهذا الاتجاه ..
وكمن لدغ بغتة رأيتها تشق زيق ثوبها الأسود,العيون لا تستقر في تجاويفها المظلمة ...
- كيف تضع الرأس على قبلة الصابئة ..إلى الشمال ..ألم تفكر كيف يبعث يوم القيامة ..كيف يجلس ؟
وبيديها تلطم وجهها تارة وأخرى تفرج ما بين أصابعها وتغم وجهها أو جبهتها..وجه مثقل بالبياض والشعر الأسود..لا تكتب إلا الشعر والقصص ..يا ليت شعرك مثل الناس ..يا ليت قصصك مثل الناس ...ارجع ..ارجع للمقبرة وإلا قتلت نفسي ..
الليل وانهمار المطر ,الريح شمالية تصفق ضلفة الشباك الخشبي وتنفتح البطانية القديمة المسدلة لتفتح الشباك على مصراعيه ,اسمع أمي في الذاكرة ..حين ينقر المطر على سطح سقف الجينكو ونحن نحرس البقرة في ليالي الشتاء ..ضع الطست هنا ..تحت شمرة الناقوط وأنا أقول لها أماه من هنا يدلف المطر ,حمى اللامبالاة تلفني بمعطفي الأصفر الثقيل الذي أعطاني إياه كردي قبل أن يأخذه الجلادون للإعدام ,ابحث عن دفء مفقود ,انفض الماء عن جسدي كحيوان بري ,انتر جسدي عدة نترات ,ارقص بهستيريا على رجل واحدة ,لكن البلل تشبث باللعنة والبكاء الجريح ,القوة العمياء عادت تقذفني ,تدفعني من الخلف ,تلقي بجسدي في المجاري أو شآبيب المطر ,الليل الطويل ..الطويل ..لا احد يسمع صوتي بعد سنة من الانتفاضة صار الإنسان مجرد كائن يمشي على قدمين ,استقبلتني الكلاب كعادتها بتواطىء مريب ,لم اعد أنا القصاص نفسه وإنما كائن آخر يشبهني ,شبح مبلل وموحل بالطين ..ثمة كلاب بعيون حمر تشتعل كلما تدوي السماء ,جمرات نار تومض كلما تنفخها الريح ,هي الذكرى الوحيدة التي ورثتها الكلاب عن ذئاب البراري ,كلاب أخرى تتوسط منخفضات القبور وأخرى, تعوي بتكاسل ورقابها مرفوعة لغراب الغيم ,الغراب طاووس ملك السماء والنفط ,لا اعرف لم لا تشمني الكلاب وتهز الذيول ,أعمى كالخفاش أبحث عن قبر الوليد ,أردت أن اسأل الكلاب عن فتاة بيضاء تسكن هنا لكني استحيت حقيقة من الحيوانات ,ثمة احتمال إني مخبول ..أو لا اعرف بالضبط..لكن أين الفسحة البيضاء ؟ كل الرمل اسمر..رمادي هو باطن القبور..البرد يصك الأسنان..كل العظام ,السماء المدلهمة تمر فوقي والظلام كرات سود هائلة الحجم تتقافز بين القبور ,لا اسمع إلا الصمت ,انظر ولا أرى ,قد يكون المطر هو الذي ملأ العينين ,أشعر إني في قلب ظلمة هائلة ,وكجرذ مشعر أحف ..أحفر وأشعر برجفات أو هزات خفيفة ,هي الأرواح السجينة التي تريد أن تنطلق ,لا يعقل أن يسجن الإنسان حيا وميتا ,احفر في ظلمة الأرض وتكبر الحفرة وثمة ورقة ممزقة تأكدت من حجمها على أنها شهادة وفاة عبد الباقي ,تزمجر الكلاب أو هي تقهقه ,أصابني مس من الجنون ..أين الوليد وفتاتي الرائعة الحب والجمال ,كالأعمى ابحث ..أين ابحث ؟,لا اعرف الوقت لكن الفجر قريب ,آخر إيقاع بوتر غليظ يدق الكون..كوتر نداف ,يرتق لحاف السماء ,لا اعرف متى كف المطر عن الهطول ,عدم الفهم جعلني التف بمعطفي ,اخفي ساقي ّويدي تقبض على شهادة الوفاة ,لا اعرف لماذا الشهادة التي كتب اسمي فيها مهمة ,التف حول الحفرة منتظرا الصبح ,انجلت بعض الغيوم من السمت وتذكرت قول أمي اختفى الميزان والنجمة وستشرق الشمس بعد قليل , عيناي مفتوحتان حين تكورت بمعطفي ,لا اعرف متى غفوت ,حلمت بغراب الغيم أكثر اسودادا من الفحم يلم جناحيه وبمخالبه العجائبية يمسك بيد الطفل المتشنجة على حلمة وهمية ,الكابوس يخنقني ,ثمة ثقل فوق الأضلاع وسعال وحشرجة أيقظتني ,ووجدت عيني مفتوحتين بوجه الحاج مناتي واندهشت لملامسة لحيته الشديدة البياض وجهي..سمعته يحدثني ..كم مرة قلت لك لا تشرب النجاسة في المقبرة ..حرام والله حرام ..الله يرحم أبيك كان من الشيوخ والأكابر..ثم عاد بصوت واطئ ..والله حرام ..أجبته بصوت نائم ومخذول ..أنا لا اشرب وإنما ...,مازلت ممددا على فوهة القبر المفغور حين رأيت الحاج يهيل التراب بمجرفته على باب الأليفة ,عيناي لا تستقران بمكان وفي أعماقي روح اسمع قرقرة بلغمها حين أتنفس ,دفء سري أشبه بسخونة البذور حين تنتفخ بالماء,أو على وشك أن تنفطر قشرتها وتتبرعم ,وثمة قهر غامض سجين السياط والقتل يفوح بتاريخ الفقراء ,خيل إلي إن عبد الباقي يعيش مع سهام في مكان ما ,افترت شفتاي عن ابتسامة لا تستوعبها الكلمات وفوجئت بالدفان يطردني هذه المرة ملوحا بمسحاة مبرودة الحافة ,بعد ليال مررت بالشارع الإسفلتي الذي يفصل المقبرة عن مبنى الجمارك وسمعت نغمة طفل يبكي ويد بيضاء لدنة تومئ لي أن أعود للمقبرة وابحث عنه ..بل أخرجه من مقبرة الفقراء ,وفي ليلة أخرى سمعته ينادي ويومئ بيده المتشنجة على رقبتي ..تعال وخذني يا أبي ,مرت ليال أخرى هادئة بعد أن حاولت بطرد ذكرى عبد الباقي وبعد أن كفت زوجتي عن النواح أمام مهد فارغ ..كلمتني بصوت رقيق : سعيد ..وضعت رأس الطفل تجاه الشمال ,عصت علي الإجابة وبدون وعي أجبت ..
- أنا حين رجعت ....بقيت تلك الليلة ابحث عن قبره ..بحثت كثيرا
- ولم تجده ؟
- نعم
انفرجت الغمة عن محيا الزوجة ,بدت مسرورة ,بادرتها مندهشا ...
- أنتِ فرحة لأني لم أجده ..
- نعم .. حلمت البارحة إن احد الأولياء الصالحين أخذه من يده التي ظلت واقفة ...رأيته ينعم بربيع وأجنحة زاهية ...
أشعلت سيجارة ,لذعتني سخونة التبغ الرديء ... لا أدري من أخذه ..ربما كان وليمة دسمة للكلاب ..قلت لنفسي تاركا الزوجة ترفل بوهم الخيال ,نحن بحاجة إلى وهم كي نعيش هذه الحياة الغريبة في جنوب العراق .
لكن الطفل ماانفك يهاجمني في كل شارع ,غيرت الدروب حين اذهب للمستشفى أو لعملي في بيع الشاي في المنطقة الصناعية المحاذية لمقبرة الحسن البصري ,في كل مرة أسمعه ينادي ..تعال وخذني ..اشعر إن يده تريد أن تمسكني من الخلف..تستوقفني ..التفتُ ولم أر شيئا ,أكثرت من التلفت ..كل رجل أراه أعتقد انه من الأمن وكل طفل اعتقد انه عبد الباقي ..استنسخ روحه في وجوه الأطفال ,قررت الهرب بعيدا ..إلى الريف ..لكني هربت إلى الشمال ,إلى صحراء الجزيرة في تكريت ..وفي ليلة ماطرة دلفت فيها قطرات مطر من السقف وحين صعدت فوق السقيفة لكي أطمر الثقوب بالطين فوجئت بيد بيضاء ,بحجم قوس قزح ابيض.. لدنة لطفل ولد توه تومئ إلي ..تستغيث ..بيأس عجيب ,جن جنوني وصرخت ..في الأسفل تصرخ الزوجة محذرة أن يسمعني أحد عناصر النظام وأروح في شربة ماء ,انتَ تقول بأننا يجب أن نسكن في قلب الخطر ..في تكريت كي لا يراقبنا النظام وتفضح نفسك الآن ,أصبح صوتي فحيحا لا أفهمه أنا نفسي وبيدي أتهم السماء تارة وتارة أتهم النظام ...لماذا تسرقوننا أحياء ..تسرقوننا أمواتا ..لماذا .. لماذا ..لماذا...ناديت بكل ما أوتيت من قوة في الحنجرة ولم يجبني أحد ..ولا حتى صدى ...مجرد صدى .....
مازالت اليد البيضاء مثل قوس قزح ابيض تمتد على الجهة الشرقية و الجنوبية للسماء في الليالي المظلمة ...
ومازلت أغتسل بماء حار ..شديد الحرارة وبمسحوق التايد لأن أمي تقول أن أرواح الموتى علقت بجسدك ....ولا اعرف أيضا سر التصاق النشيد الفلسطيني الشهير ..طوبي يسابقني ويطر من فوقي ..بحنجرتي كلما أسبح في حمام مغلق النوافذ ...
اكتشفت من تجربة التأثيث لانتفاضة لم تحدث في الحي إن الانتفاضات تحدث تلقائيا وتبحث عن بشر عظماء لتنفيذها وان أقبح جريمة هي تلك التي لم تحدث في الواقع وإنما الخسة في التفكير والسلوك بإيعاز من عقل مغلق بالرضوخ والتعصب لطائفة أو لفكر قومي ...
أدركت فيما بعد إن كل انتفاضة تخضع لخطط شطرنجية لكن الحياة تفرض مرونة ما ,وأدركت إن العالم الأول في شمال الأرض جعل من العالم الثالث رقعة شطرنج بلونين وتألمت إلى حدّ البكاء حين وجدت العرب والكرد مجرد بيادق ...
ومازلت أعتقد إن إطلاق النار على الدكتاتورية ليس في الهواء وإنما يجب أن تنزل فوهة البندقية للأسفل ..على الأقل تثقب الجدران ...
لكن السمو البشري ..بل كل السمو بقبضتي المتشنجة على القلم.. قلمي الذي أعتقد انه رمح صغير ....
تنويه :
كل الأحداث التي رويتها في الروايات الإحدى عشر هي مشاهد مهمشة ومتطفلة على الحدث الرئيسي إضافة إلى تناثرها في الأزمنة والأمكنة ويوما ما ستجتمع تلقائيا لتهيمن على المركز أو على ما جرى وسيجري.....
مازلت أكتب أوراقي وأخزنها في صندوق يشبه صندوق أمي السيسم لأني أعتقد إن الكتابة هي كشف صوفي وتطهري لأعماق النفس البشرية ,لأني افرح بإعادة الموتى المغدورين والشهداء للحياة ,لم يبق حي واحد في حي الدريهمية الأول وإنما قتلهم النظام بميتات مختلفة فوجدت نفسي الحي الوحيد واشك بأني عاقل تماما وأعتقد إني لست مجنونا ,الشاهد الوحيد على ما جرى ,كل الذين ذكرتهم في هذه الأوراق هم حقيقيون ,أعتذر من الموتى فقط لأن الأحياء تحدثوا فيما بعد في التسعينيات ليستعيدوا ما جرى من أحداث لكن كل منهم روى تفاصيل تخالف ما جرى في الواقع .



#سعيد_حاشوش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ستة أيام لاختراع قرية لعلي عباس خفيف
- معرض الفنان عبد الرزاق سوادي .....الفطرة الفنية
- قراءة في المختارة لجمان حلاوي ....عاصمة الزنج
- المختارة
- ازاحة الاقنعة
- عبد الحليم مهودر في ظل استثنائي... مدينة الانهار
- قراءة في مجموعة (اللوحة) القصصية لمجيد جاسم العلي
- ادباء بصريون : (شواهد الاشياء لباسم الشريف... شواهد الماء)
- (أصوات أجنحة جيم ) لجابر خليفة جابر....رفيف الأجنحة الراحلة
- كتاب ( طريدون ) القصصي ...رواية حديثة
- قراءة في مجموعة علاء شاكر رجل في عقل ذبابة : تطويع اللغة ومر ...
- لاأحد يشبه المسيح
- أدباء بصريون.... ناصر قوطي .. العمق المنفرد
- ادباء بصريون...عبد الحسين العامر في مرزوك ...الإيقاعات الضائ ...
- أدباء بصريون...حارس المزرعة لنبيل جميل .... عبثية الإنسان ال ...
- أنفلونزا الصمت..للقطراني قصص قصيرة جدا
- أدباء بصريون ... لعنة ماركيز لضياء الجبيلي .. رواية عجائبية
- أدباء بصريون... قراءة في رواية - علي عباس خفيف - (عندما خرجت ...
- أدباء بصريون .... محمد خضير بين التشيؤ والمثيولوجيا
- مكنسة الجنة لمرتضى ﮔزار...رواية ذاتية التوالد


المزيد.....




- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد حاشوش - درب الفيل