أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الخامس















المزيد.....


أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الخامس


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4728 - 2015 / 2 / 22 - 23:03
المحور: الادب والفن
    


تزامن رجوعي إلى مدريد مع وضع الملك تحت الإقامة الجبرية في الإيسكوريال، وذهب كل شيء عبثًا، فلم يُرجع العساكر مشكلة المشاكل إلى أبعادها الحقيقية، ولم يصيبوا رميتين برمية واحدة. حاولوا مرات أن يضربوا آميديه في جبال البرنة، ومع ذلك لم يفلحوا. أحرقوا كل السحلبيات وأشجار الصنوبر، وحطموا كل الصخور والقمم الزرقاء.
كان جو الحرب الأهلية يسود كجو الرقصة الخليعة: تحولت الأديرة إلى سجون أو محاكم، وتمت تصفية الناس فرادى أو جماعات. نزلت التماثيل عن قواعدها، وتركت النوافير للموت من ورائها. اختلطت قضية آميديه بقضية الملك والديمقراطية، ولم يعد أمام العساكر غير كم الأفواه، وهجر الأصدقاء، وحذف كل معارض، حتى الأخوات "الحمراوات" اغتصبن، ثم قُدمن قرابين على الهيكل.
اتصلت أول ما اتصلت بأبي بكر الآشي، فقيل لي إنه بمعية جلالة الملك في الإيسكوريال. حاولت التكلم معه هاتفيًا، فكانت الخطوط كلها مقطوعة. خاطرت بالذهاب إلى رؤيته، فأجبرني العساكر على العودة على عَقِبَيّ. كان كل شيء قد انتهى بخصوص أرخذونة، بخصوص كل إسبانيا، الحياة معطلة، والجامعات مقفلة، فعزمت على ترك مدريد إلى مراكش. لم أشأ مشاهدة الموتَ الكوكبيَّ لآميديه وإيزابيل، لا سيما بعد أن استجابت فرنسا إلى أخذهما من الخلف، من الجهة الأخرى للبرنة. فضلت الوقوف على نهايتهما المفجعة، نهايتهما المفجعة الأخرى، التي جرت منذ مئات السنين، في الجزء الثاني من قصة حبهما، في مكتبة الكُتُبِيَّة. أردت الهرب من الواقع المرعب إلى واقع أقل رعبًا، بفضل الزمن، والذي لم يبق منه سوى بضع قطرات دم جفت. لم يكن باستطاعتي رؤية النهر الأحمر لأمة، وهو يتفجر، ويمتزج بدم الأميرة إيزابيل والمتمرد آميديه، العربي الأصل، المجنون!
في البداية، رغبت زوجتي وبناتي في المجيء معي، كن يخفن من البقاء وحدهن في بلد لا أحد يشعر فيه بالأمان. غير أنهن طلبن مني السفر بأسرع وقت، خوفًا من أن يرين العساكر، وهم ينقلبون عليّ. ربطني آميديه، دون أن يشاء، بأرخذونة، بالعاهل الإسباني، بالأردن، البلد الذي جاء منه أهل آميديه الأوائل. لم يهددني أحد بإفشاء سري، ولعب التكتم المصاحب لمهمتي إلى عمان في صالحي، فالعساكر لم يوقفوني إلى حد الآن، وغيابي في مراكش، سيجعلهم ينسون الأمر كله. وعدت بناتي وزوجتي بأن أرسل من ورائهن أول ما أستقر استقرار طائر البَلَق، وألا أتأخر كثيرًا عليهن. كان لدي من المال ما يكفيني سد الرمق عامًا من غير عمل، وبالمقابل، أملت بمنصب جامعي يحميني وعائلتي من غائلة العيش.
في ليلة ليلاء، انطلقتُ إلى مدينة الجزيرة، وعلى متن أول سفينة، قطعت مضيق جبل طارق إلى المغرب.

* * *

في فندق صغير من فنادق الدار البيضاء، سألت شاب الاستقبال عن غير القطار سيارة أم حافلة مسافرة إلى المدينة الحمراء، فتدخل رجل كان يقف غير بعيد عني:
- هل تريد الذهاب إلى مراكش؟
بدافع الحذر، نظرت إليه دون أن أفوه بكلمة. دفع نظارته الطبية على أنفه، وصعد الدم إلى وجهه.
- أرجو المعذرة، سارع إلى القول، سمعتك تسأل عن وسيلة سفر إلى مراكش.
ثم قدم لي نفسه:
- عبد الصمد بلصغير، خادمك، أنا من مراكش، أستاذ في الجامعة.
ظننت أني رأيته من قبل:
- ألم نلتق في مكان آخر، في الماضي؟
- لا، يا سيدي.
- عجبًا! وجهك ليس غريبًا عني!
- هذا ما يقوله الناس عن شخص يروق لهم.
أجبت على ابتسامته، وقامت الثقة ما بيننا.
- بالفعل، أنت تروق لي! ظننت أني رأيتك من قبل في مدريد.
سرنا إلى كرسيين في القاعة.
- أعرف جيدًا كل الجنوب الإسباني، قال المراكشي، كل الأندلس، أما مدريد، فلم أزرها أبدًا.
أعرب عن أسفه لما يجري في إسبانيا، إسبانيا على شفا حُرْفٍ هاوٍ. رآني أمتنع عن الحديث، زاجرًا إياي، فسألني:
- وأنت؟ يبدو أنها زيارتك الأولى للمغرب.
- إنها زيارتي الأولى، أنا في الدار البيضاء منذ مساء البارحة.
- وتريد مغادرتها إلى مراكش؟ أقول لك الحق، لا شيء يغري في هذه المدينة الصناعية بناسها الغلاظ القلوب!
- لم ألتق بعد ناسها، أنا في المغرب من أجل هدف محدد جدًا.
كشفت له من أنا، ولماذا أنا هنا، فأبدى سعادته بالتعرف عليّ شخصيًا بعد أن قرأ بعضًا من كتبي. اقترح أن أرافقه في سيارته، إلا أنه لن يغادر الدار البيضاء قبل يومين. أمام تحيري واستعجالي، برر مسلكه:
- في الواقع، لدي موعد هام الليلة، إذا تم كل شيء كما هو متوقع، استطعنا السفر إلى مراكش غدًا.
- حسنًا، عملتُ، أفضل هذا.
كنا في أول النهار، بانتظار موعده المسائي، استعد عبد الصمد بلصغير ليعمل دليلي إلى المدينة الغليظة القلب، فقبلت، من أجل تزجية الوقت، وإرضاء رغبة غامضة في التعرف على أجواء "كازابلانكا" الغريبة.
- هذه المدينة مفتوحة لكل شيء، أوضح مرافقي أمام متاجرها الغربية، مفتوحة على كل شيء، يتعايش فيها الحلال والحرام جنبًا إلى جنب إلى درجة يختلط فيها الأمر عليك، فلا تعرف أيهما المدنس وأيهما المقدس. هذه المدينة قصيدتان في واحدة، بروفسور! أرجو ألا تكون الأشياء كذلك بخصوص الجزء الثاني من قصة الحب في الكُتُبِيَّة، وكل القصص والأشعار الأخرى التي ربما توجد هناك.
كانت شمس أوائل أيام الخريف لطيفة، والعابرون لا تبدو العجلة عليهم، لا يبدون غلاظ القلوب، وهم يتمهلون أمام الفترينات. تركنا الحي الأوروبي وراءنا، وأخذنا نغذ الخطى باتجاه القلعة القديمة. كانت أمواج البحر تلوّح جدرانها منذ مئات السنين، ولا يَكُفُّ الأزرق اللامتناهي عن سكب زفراته التعبة. اخترقنا السوق بدكاكينها التنكية وكيلومترات خيوط لمباتها المشتعلة في وضح النهار: بائع الذهب يحاذي بائع الأقمشة، وبائع الأقمشة بائع الكاسيتات، وهذا بائع الحلويات أو الخردة أو الدجاج أو أدوات الكهرباء أو أدوات النحاس أو الأحطاب أو الشوّاء أو الحفار أو الرسام أو العازف على الكمان أو الطبال أو بائع الفيديوهات الكمبيوترات الألعاب الإلكترونية... ونحن نمضي بدكان الملابس الداخلية الناعمة، لفتت انتباهنا امرأة محجبة لا يبين منها سوى عينيها السوداوين الواسعتين المكحلتين. كانت تنظر إلينا، وهي تخفي نفسها وراء تمثالٍ لعرضِ مَشْلَحٍ من الحرير. بدا على عبد الصمد الانفعال، فتركني، وخف إلى اللحاق بها. اختفت بين الجموع، فعاد "دليلي"، وهو في ارتباك كبير. قال إنه مضطر إلى الذهاب. سألت إذا كان في الأمر ما ينذر بالسوء، فلم يجب. شرح لي كيف أعود إلى الفندق، وأغلق على سره باب القلعة القديمة. وأنا أراه يذهب بسرعة، صحت إذا كان بحاجة إلى عون. شكرني دون أن يلتفت، ووعدني بقول كل شيء فيما بعد، ثم ذاب كالملح على ألسنة النحل.
لم أفكر في هذا الحادث كثيرًا، ما جرى منذ قليل لم يكن يهمني، وعزمت على ألا أنتظر عبد الصمد، وأن آخذ أول قطار إلى مراكش. وصلتُ أسبابي بأسبابي، فعادت العينان السوداوان للمرأة تسائلان روحي، وكذلك اختفاؤها المفاجئ: لغز آخر للحل! في نهاية الأمر، سأنتظر المراكشي. عدت إلى الفندق، والساعات طويلة قبل الغروب، قليلة، وفي الوقت ذاته، كثيرة. تشاغلت عن الضجر بالضجر، إلى أن بدأت سماء الدار البيضاء تلامس أفكاري. سقطت شمس أرجوانية في اللُّجَّة، وهي تخلع عن الجسدِ الأسودِ للكون ثوبَهُ القطيفيّّ اللون. فكرت في الأرملة، في لياليها، في قبلاتها.
داوم الوقت على الإبطاء، فاجتررت أفكارًا قلقة. عدت أرى العينين السوداوين للمرأة المحجبة، كمن يتصرف بفظاظة مع نفسه. أعياني الجلوس كل هذه الساعات في قاعة الفندق، فوقفت أمام بابه أنظر إلى الدار البيضاء السابحة في الضوء، فأجدها ككل المدن جِدّ جميلة في الليل. نظرت طويلاً إلى كل عابر، وأنا أحاول أن أحزر قامة عبد الصمد. فجأة، ظهر بوجهه المبتسم، وإصبعه تدفع نظارته الطبية. شد على يدي بحرارة، واعتذر عن التأخر. انتظرت أن يخلو بي في زاوية من زوايا الفندق، فضبح الثعلب في صدري. تعللت عذرًا، فالحذر لا يمنع القدر، أحيانًا. أمسكني من ذراعي، ودفعني إلى مطعم غير بعيد من هناك.
- ليس هناك وقت نضيعه، بروفسور! قال لي وابتسامته تضيع، سنتناول طعامًا خفيفًا أقول لك خلاله الحقيقة.
- الحقيقة! أية حقيقة؟ طلبت متبلبلاً.
أدخلني أمامه، واختار طاولة على انفراد. ومع ذلك، كنا أول الزبائن.
- أية حقيقة؟ أعدت، وأنا أجلس، بصوت ظامئ.
ابتسم ليخفف من اضطرابي.
- لا تقلق، بروفسور! ليس الأمر خطرًا إلى هذا الحد!
حضر الخادم، فطلب لنا عبد الصمد أسياخ شواء وسلطات وماء معدنيًا. وضع وجهه بين كفيه، ونظر إليّ بعينيه الطفليتين.
- الحقيقة أنني كنت هناك، في البرنة، عند لقائك بآميديه والأميرة إيزابيل، قال دفعة واحدة، بكل هدوء.
أطلقت تنهدًا عميقًا.
- قلتُ لذاكرتي المخادعة إني واثق من رؤيتك من قبل، همهمتُ. إذن، كل هذا ليس ابن صدفة.
- سلمت عليك كالآخرين الذين سلموا عليك، وعدت تحت الخيمة. كنت بذقن لم تعرف طعم الشفرة منذ عدة أيام.
سكت قليلاً ليفحص رد فعلي ثم رجاني:
- اسمح لي، بروفسور! الظروف وراء كل هذا التكتم.
- هل تبعتني من البرنة حتى هنا؟
- ليس أنا، ولكن رفاق آميديه، نعم. من أجل حمايتك، بروفسور. أنا، في الدار البيضاء، منذ وصولك، للغرض ذاته. إنهم إخواننا الأندلسيون، الذين ننسق معهم في سبيل تحرير أرخذونة، هم الذين طلبوا مني ذلك.
- أشكرك على كل شيء، وأطمئنك بكوني قادرًا على حماية نفسي بنفسي دونما حاجة بي إلى أحد.
- لا تخدع نفسك كثيرًا، بروفسور! المغرب مليء بأعوان "جانت" مدريد. إنهم "المور". منذ عهد فرانكو، وهم في خدمة القومجيين. أشربوا بنا ما لم يشربوا، وحملوا السلاح إلى جانبهم. واليوم، تعود الأجواء ذاتها، بعد حركة آميديه وكل ما يجري في إسبانيا، فلا تستخف بالأمور، وكن حذرًا.
بخطوات سريعة جدًا، أحضر الخادم الأطباق، وذهب، على العكس، بقدم رخوة. لم تعد لدي أدنى شهية، وعلى النقيض، راح عبد الصمد يأكل بشراهة، ولم ينبس بكلمة حتى نهاية العشاء. شرب كأسي ماء معدني، تجشأ، وحمد الله.
- لم تأكل كثيرًا، بروفسور! قال وهو يشير إلى طبقي المليء حتى منتصفه.
- لست جائعًا كثيرًا.
نظرت في عينيه الطفليتين حاثًا إياه على المتابعة.
- بالطبع ليس هذا كل شيء، قال.
- لماذا كنت في البرنة؟ لماذا أنت هنا في الدار البيضاء، ما عدا من أجل حمايتي المزعومة؟
أشار محدثي إلى الخادم بإحضار الحساب.
- لقد وَقَعْتُ على الوثيقة التي كان آميديه يبحث عنها في الإيسكوريال، قال، معاهدة الاستقلال التي أمضتها أرخذونة مع أمير قرطبة الأموي محمد الأول.
- معاهدة استقلال أرخذونة، هنا في المغرب؟
- في أحد مواخير الدار البيضاء.
- ماذا؟! في أحد...
قهقه عبد الصمد:
- بعض المواخير عندنا أغنى من أحسن المكتبات!
- وكيف عرفت أنها الوثيقة المطلوبة؟
- هذا بالضبط ما يريده إخواننا في أرخذونة منك، أن تتأكد، أنت شخصيًا، بروفسور، من صحة هذه الوثيقة.
- أنا أفهم كل شي، في الوقت الحاضر...
جاء الخادم بالحساب، فدفع عبد الصمد بلصغير، وهو يقول لي:
- تفضل بالمجيء معي إلى موعدي، بروفسور!
نهض، وأنا أفعل مثله. اتجهنا نحو باب الخروج. شددته من ذراعه، وأوقفته.
- والمرأة المحجبة ذات العينين السوداوين، قلت، ما شأنها في كل هذا؟
- اتبعني، بروفسور، ستقف على جلية الأمر بنفسك.
سلك طرقًا مختصرة، وهو يهرول، وأنا أتبعه، لأجد نفسي، في زمن قياسي، لا أعرف كيف، في قلب القلعة القديمة. نزلنا درجًا حجريًا ضيقًا إلى الشاطئ، وأغذذنا في السير باتجاه الصخور. كان البحر هادئًا، باستطاعتنا التقاط النجوم عن سطحه، وكانت باخرة راسية في عرض البحر، هناك، تعبث بالنجوم أضواؤها. انتظرنا قليلاً، فبدا من وراء صخرة ظل رجل ثم ظل امرأة حسبته لحورية. وهما يتقدمان منا، عرفت المرأة المحجبة ذات العينين السوداوين المكحلتين. تركها الرجل مع حقيبتها إلى جانبنا، وما لبث أن ذهب بعد أن شكره عبد الصمد، والمرأة لا تنبس بكلمة، وكذلك أنا، أما عبد الصمد، فلم يتوقف عن الابتسام لها. استدارت نحوي، ووقفت بعينيها عليّ، فجمدني جمالهما. وددت لو أنزع برقعها عن سر كل ما يجري. كانت الأمواج تعانق الصخور، وتنسحق برخاوة، لما فجأة، وصل الجميع صوتُ محركٍ لقارب، وهو ينبثق من الظلام. نظرنا باتجاهه، فرسا غير بعيد عنا. نزل رجل لا ينجح في إخفاءِ سلاحِهِ، المعلقِ على وسطه. أشار إلينا بالتقدم، فتقدمنا، وقبل أن نصعد في القارب، سلم علينا واحدًا بعد آخر، وكذلك فعل السائق. أشارت المرأة إلى حقيبتها، المتروكة على الرمل، فخف هذا إلى إحضارها. عما قليل، انطلق القارب، وهو ينحرف دونما توقف، نحو الباخرة الراسية.
قرب القارب الكبير، همس عبد الصمد في أذني:
- هذه الباخرة كازينو طافٍ، وهي لأحد أثرياء الدار البيضاء العظام.
رأيت على ساريتها بيرقًا إسبانيًا:
- ولكنها باخرة إسبانية!
- للتملص من دفع الضرائب والتنقل بحرية بين الساحلين.
والقارب الصغير يتوقف عند قدم السلم الذي قذفوه من سطح الباخرة، رموا بأحدهم في البحر، فطفا، وصاح طالبًا النجدة. مد له السائق مجذافًا، وعبد الصمد يعلق:
- لقد خسر حتمًا كل نقوده.
قلت:
- وحياته.
- هؤلاء هم الغلاظ القلوب الذين حدثتك عنهم.
ونحن نتسلق السلم، رموا بآخر، فأمسكت المرأة المحجبة بيدي. أحسست بأصابعها ترتعش بين أصابعي، فساعدتها على الصعود. على سطح الباخرة، أحاط بنا عدد من الرجال، وقادونا إلى مقصورة واسعة. قدمهم عبد الصمد لي: "إخواننا الأندلسيون".
- والوثيقة، أينها؟
بهزة من رأسه، طلب إلى إخوانه الأندلسيين الانسحاب، فانسحبوا، وهم يغلقون الباب بهدوء من ورائهم. عاد يهز رأسه للمرأة ذات العينين السوداوين، فقلت لنفسي، الوثيقة معها. وبدلاً من أن تعطيني إياها، أعطتني ظهرها، وجلست على طرف السرير. أسقطت حجابها، وأخذت تفك أزرار ثوبها، تحت نظراتي الذاهلة، تاركةً إياي أكتشف قليلاً قليلاً كلمات موشومة من أعلى ظهرها حتى أسفله. فتحت فمي لعجيب ما أرى، دون أن أصدق عينيّ، في سراب كل هذا الجمال النادر. ومع ذلك، كان الوشم حقيقيًا، والجسد على مقربة من يدي. دفعني عبد الصمد بيد مرتعشة لأقرأ ما هو مكتوب على ظهر العاج:
- هذه هي الوثيقة، بروفسور! قال المراكشي بصوت ديني، تناقلتها على ظهورهن نساء أرخذونة بحرفيتها منذ مئات السنين، وحفرنها في لحمهن كيلا تضيع، ترثها البنت عن أمها، والتي لا ابنة لها تعطيها لأختها، وهكذا جرت سُنَّةُ هذا الأرشيف الآدميّ مذ وُقّعت المعاهدة عام 873، ورغم تَبَدُّل الحكومات والحاكمين، مرورًا بعهد الريكونكيستا الكريه، وما تبع ذلك من هجرة بعض أهل أرخذونة إلى المغرب حتى يومنا هذا.
مفتتنًا ومسحورًا، شخصت ببصري إلى هذا الجسد الوثيقة، وقرأت بصوت مرتجف:
- "أنا الموقع أدناه، محمد الأول، أمير قرطبة الأموي، ابن الأمير عبد الرحمان الثاني، وحفيد أمير الأمراء عبد الرحمان الأول، رحمهما الله وطيب ذكراهما، أقر بانفصال مقاطعة الرية وعاصمتها أرخذونة عن الدولة، وبالاستقلال لقاء جزية سنوية يتم الاتفاق عليها مع أميرها الجديد أحمد، هذه معاهدة الاستقلال، وفي الوقت عينه، معاهدة السلم والأمان معه التي يجري توقيعها في الفاتح جناير عام 873.
توقيع محمد بن عبد الرحمان بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمان
دمغها بتوقيعه أيضًا أحمد بن أحمد".
عندما انتهيت من قراءة الوثيقة، توجه عبد الصمد إليّ بهذه الكلمات:
- افحص بصمة الخاتم، بروفسور! إنها الأهم، فالدمغ الوشمي الأول دليل على صدق هذا الأخير، وبالتالي على صحة الوثيقة.
أمعنت النظر في حروف الخاتم المعوجة النافرة في آن واحد، وهمهمت:
- الوثيقة صحيحة! إنها حروف ذلك الزمان البعيد وطريقة أصحابه في الكتابة.
ولم أمنع نفسي عن وضع يدي على الظهر العاجي، أقرأ بسبابتي تلك الكلمات الخالدة، وفي الوقت ذاته، أحس بالمرأة، وهي تختلج تحت لمساتي. مادت الباخرة مَيْدَ العالم في أحضان البحر، وخرجت من أعماقه كل الكائنات الراقدة بين طيات الملاحم والأساطير لتشاهد عناق الزمان والكلمات. لم أمتنع عن الانزلاق بيدي على الظهر الصقيل، وهي ترتعش، وتئن من اللَّذة. بقيتُ غائبًا، حالمًا، إلى أن سمعتها ترجوني أن أتوقف عما أفعل. أبعد عبد الصمد يدي عن العاج والنار، فثبت إلى رشدي. أطلقت المرأة صرخة ارتياح صغيرة، وبارتباك كبير، عادت إلى ارتداء ثوبها، ثم حجابها.
هذيتُ:
- وشم عبقري! وشم ينطق! يجعل الجماد حيًا! رأيت الكثير من الطيور الموشومة التي لا تطير، والقلوب التي لا تنبض، والصور التي تبقى ميتة، مثل هذا لم أر في حياتي أبدًا!
التفتت المرأة إليّ، بعينيها الواسعتين السوداوين، فأبديت رغبتي في رؤية وجهها، لكنها رفضت.
قال عبد الصمد:
- سترى وجهها في مناسبة أخرى.
برقت عيناها السوداوان وكل كيانها: كانت تبتسم لي من وراء حجابها. فتح عبد الصمد الباب، فدخل الأرخذونيون.
- كل شيء على ما يرام، قال لهم، يمكنها الذهاب معكم.
ودعتني المرأة بسهم أخير من عينيها، وغادرت المقصورة مع رجال آميديه.
أوضح عبد الصمد:
- ستبحر بهم هذه الباخرة عند منتصف الليل، وعند فجر الغد، سيصلون إلى أطراف السواحل الإسبانية، ليعبروها بقارب بعيدًا عن عيون حرس الحدود. ومن هناك، إلى جبال البرنة. لقد دفع آميديه مالاً كثيرًا لصاحب هذا الكازينو الطافي.
أعادنا القارب بمحرك إلى المكان الصخري، ومنه صعدنا إلى القلعة القديمة، وأنا لا أتوقف عن التفكير في المرأة ذات جسد العاج والنار.
- تريد أن تعرف كيف وقعت عليها؟ أليس كذلك؟ سألني المراكشي.
أكدت بعجلة:
- نعم! هذه المرأة لا مثيل لها!
- إذن، تعال معي!
اخترق بي أزقة شعبية لا أول لها ولا آخر، إلى أن وصلنا دارًا بدون باب، أحاطت بها مصابيح خافتة ملونة على شكل حبال. خرج رجل ثمل، ونحن ندخل، ثم آخر قبل أن يؤدي بنا ممر إلى ردهة واسعة النساء فيها شبه عاريات، والرجال ينظرن إليهن.
- في بيت الدعارة هذا وجدتَ المرأة ذات العينين السوداوين؟ سألتُ متحيرًا.
ارتسمت على شفتي الرجل ابتسامة الطفل، جلسنا، وغرقنا في الصمت. كان الرجال لا يكلون عن النظر إلى النساء، دون أن يفوهوا بكلمة، وكأنهم في مكان مقدس، يقوم أحدهم إلى إحداهن فجأة، ويذهب معها إلى إحدى الغرف.
- إنه أحد الأصدقاء، اعترف مرافقي، فأنا لا أخالط هذه الأمكنة. لي امراة، وامرأتي لا تغادر عتبة بيتي أبدًا دون حجاب، لا يبين منها شيء، كلها، حتى عيناها. هذا لا يعني أنني ضد تحرير المرأة، بروفسور! العادات والتقاليد في أيامنا أقوى من كل شيء!
سكت قليلاً، وهو يبتسم لعاهرة ابتسمت له.
- إذن، تابع عبد الصمد، إنه هذا الصديق الذي نقل لي ما أخْبَرَتْهُ المرأة عن الوشم على ظهرها. كلفني آميديه بالبحث عن وثيقة استقلال أرخذونة، في مكتبات العلم، لأقع عليها في مكان يجهله كل العلماء، والحالة هذه، هذا الماخور الخسيس. خلوت بالقحبة، دون أن يلمسها إصبعي الصغير، فقط للتأكد من وجود الوشم. أعادت لي قصتها، ومن عندها سافرت إلى إسبانيا في الحال، لأخبر آميديه بهذا الخبر بنفسي. كما تخيلتُ، لم يكن ينتظر أن يكون هذا التقليد باقيًا، وأقل من ذلك في المغرب، وطلب مني ترتيب سفر الأرخذونية إلى البرنة.
- ولماذا هربَتْ منك طالما أنها تعرفك وأنك تعرفها؟
- لست أدري. عندما خليتك، ذهبت مباشرة إلى هذا الماخور، خوفًا من أن تهرب مني ثانية. بقيت جالسًا على هذا المقعد، حتى هبوط الليل. جاء أحد الإخوان الأرخذونيين ليصطحبها، في الموعد المضروب، إلى الشاطئ، حيث أخذنا القارب.
نهضتُ مغادرًا المكان المضمخ بعطر النساء، وعبد الصمد، هذه المرة، يتبعني. كنت أفكر خاصة في المرأة ذات العينين السوداوين وجسد العاج والنار، ما الذي أدى بها إلى هذا الوضع؟ لم أسأل المراكشي، فهو يجهل حتمًا. اخترنا الصمت رفيقًا، طوال طريقنا إلى الفندق، صمتًا مشوبًا بصوت الموج الرقيق، البعيد. قبل أن نفترق، كل واحد إلى غرفته، قال عبد الصمد لي:
- سنغادر إلى مراكش غدًا في الصباح الباكر، نقطة لقائنا في الاستقبال، في تمام الساعة الخامسة.
- وهو كذلك، قلت له.
تمنى لي ليلة سعيدة، وكذلك أنا. أخذ المصعد، وأخذت الدرج. مثلت بنفسي أشنع تمثيل، وأنا لا أتوقف لحظة واحدة عن التفكير في الجسد الذي اختلج بين أصابعي.


يتبع الفصل السادس من القسم الثاني



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الرابع
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثالث
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثاني
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الأول
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الخامس عشر
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الرابع عشر
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الثالث عشر
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الثاني عشر
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الحادي عشر
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل العاشر
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل التاسع
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الثامن
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل السابع
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل السادس
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الخامس
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الرابع
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الثالث
- رماد لا يشتعل ردًا على ليندا كبرييل
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الثاني
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الأول


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الخامس