أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبداللطيف عدنان - شامة تنظر















المزيد.....

شامة تنظر


عبداللطيف عدنان

الحوار المتمدن-العدد: 4723 - 2015 / 2 / 17 - 09:02
المحور: الادب والفن
    


شامة تنظر

عبداللطيف عدنان


حياكة الذاكرة

عرفت الصين في عهد الملك تانغ، الملقب بالملك الأصفر، جفافا اضطر معه الفلاحون إلى بيع أبنائهم. لكن هذا الملك، أمر بصك قطع ذهبية وتوزيعها على الفلاحين لكي يستردوا فلذات أكبادهم. وسيلة ذكية لكي يتحايل على الأعراف والتقاليد الصارمة التي بدونها ما كان ليكون ملكا. وسيلة ذكية لكي يحافظ على الطفل داخله الذي ضاع مع حملات التوسع والفتوحات التي تجاوزت ما بعد النهر. في عهده جربت لأول مرة أكلة البوضة أو الأيسكريم كما يجري في اللسان الدارج كونيا.

بعيدا عن الصين، في النقطة المواجهة من طريق الحرير كانت أروبا. كان مركز الكون. هناك، اقترنت أكلة الأيسكريم باسم ماركو بولو الذي رسم شرقا ذهبيا أسال له لعاب كل مغامر تسلح بعلم غاليليو وكوبرنيغ. هناك ركب إيطالي آخر البحر قاصدا هذا الشرق الذهبي. إسمه يحمل معاني الفتح والإستيطان معا. وباسم كولومبوس اقترن الإستيطان والتوسع الكولونيالي.

هنا في نقطة ما من أمريكا، هته القارة التي ينسب اكتشافها، إن وافقنا على التسمية، له، عرضت إحدى نشرات الأخبار صور جديدة مقترنة بعملية الاستيطان والتوسع الكولونيالي.

صور لأطفال من غزة حفظت جثثهم في حجرة تبريد الخاصة بالبوضة.
في هذا الصندوق التي يسمى في دارج اللسان المعولم بالآيسكريم فريزر.

في التساقب الصوتي المفراق لمفردة البوضة بالإنجليزية لا يجد الطفل الغزاوي لعبة كلامية مثل الطفل الأمريكي. يجد كوجيتو اللامعقول الذي مَنْطَقَ حياته يضع منطقا لحالة موته كذلك:
أنا أصرخ Ice cream /
أنا موجود I am/

حكاية هديل

كنّا أربعة أو يزيد.
لم تدوي القذيفة في مسمعنا كما تدوي عادة حين القصف.
خيالي يقنعني أن الصومعة التي سقطت وتهشمت أمام صمتنا كان داخلها مؤذن أظنه تمتم: اللهم طهرهم بالبرد والثلج.
ضحكت في ملامحي الجامدة من هذه الدماء العربية الفوارة التي تتنافس على سقيع السماء المطهر.
ضحكت لأن طهارتنا هي التي نزلت من السماء إلينا. وهنا في الأرض، دخلنا فريزر أيسكريم.

كانت رحلتنا قصيرة بين الثدي والقذيفة
سماءنا اتسعت بين نظرة واغماضة
وأرضنا جاذبية بين ذراع وضعتنا على فراش وأخرى تضعنا على صفيحة جليد.
كانت المسافة قصيرة بين الهواء ونزولنا.

هناك، شاهدتم أجسادنا الصغيرة توضع في فريزر الأيسكريم بعناية وكأنها توضع في المهد. شاهدتم ذلك ولكن لم ترونا نتسلل عن خرقنا البيضاء، و نتسابق للإنزواء في المكان الذي يركن فيه النوع والشكل المفضل من البوظة لكل منا على حدة. كنا نشعر فرحا وكأنها الحياة على شاشة التلفزة، رصاصها لا ييتّم، وعطشها لا يقتل. مغتبطين كنا ومنتشين بهذا السبق إلى فردوس الأيس كريم، إلى جنة لم تصورها الكنائس والمساجد. عذارى، كانت كل الأنواع برسوماتها وألوانها الجذابة ترنوا للمسة من أناملنا. كلاوديا المغامرة أبدا، كانت تعانق العلب المغلفة بقشرة جليدية شفافة، بكل حرارة شوق الحياة والموت معا إلى أن انبعث بخار لم نتأكد إن كان مصدره العلبة أو صدرها الثائر مبكرا عن طفولته. وسهام المشاكسة كانت تلعق أصبعها بشبقية كادت تبعت الحياة من جديد في أخيها رأفت.

فادي، الأكثرنا شقاوة، تقرفص كأميرعربي بين سلمى وعمر. وبكثير من المبالغة العربية بدأ في رواية مغامرة عاشها في نيويورك، والتي سبق وسمعناها، بتفاصيلها التي عادة ما تتغير بتغيّر حلقة المستمعين، وتتنوع مشاهدها بتنوع ظرفية الاستماع. شدّ انتباهنا بصوته الرخيم البكّاء. ودخل كل منّا في طقس استماع تجاوز الرغبة في متعة حكاية، سمعناها لمرات عديدة في ردهات المدرسة، وأمام أبواب المنازل التي تهدمت والتي لازالت لم تتهدم بعد، إلى رغبة في اكتشاف لذة الحكي داخل الموت. وكمناسبات عديدة نسيها هو ولم ننساها نحن، يعيد فادي القصة نفسها عن يوم اكتشافه لهذا الصنف الممتاز من بوظة "درييرز"، وهو في برج تجاري شبه مهجور في إحدى مدن الخليج، حيث كان أبوه يشتغل كمدرس للغة العربية. كانت لمهنة المعلم قيمة اختزلت عند فادي في هذه القطع الزائدة من البوضة التي كان يخصّه بها صاحب محل الأيسكريم، والذي كان والد أحد تلامذة البابا. يضيف فادي، في هذه المناسبة، كيف كان يتلمظ تحت أنظار ملثمات لا يبدو منهن إلا نظرة تشي بالغيرة والإعجاب. ثم يصمت لوهلة، ونستمع في صمته لتفاصيل إتهام والده بالمؤامرة مع حاكم عربي. وكيف تنّكر لهم الأصدقاء خوفا على وضعهم في مدن الملح. وكيف خرجوا ليلا بدون امتعة وظل أبوه يبكي كطفل كل مسافة الطريق التي عبرتها سيارة مستأجرة كان يقودها مهاجر من الهند، إلى أن وصلوا الحدود المصرية. وعبروا إلى مصر. ومن مصر عبروا إلى أقطار عربية أخرى. وأسئلة في كل مطار عربي ودولي، وزيارة مركز الشرطة كل نهاية الشهر، ثم وثم إلى أن ينطق فادي من جديد ونسمع عن يوم إضرابه عن الطعام في عيد ميلاده الثامن، وهو في نيويورك. لم ينطق ببنت شفة إلى أن طاف به عمه كل منهاتن، أمام الاستنكار الديبلوماسي لزوجة عمه في البيت، ونظرات أبيه التي عكستها مرآة السيارة مضاعفة حجم الإستياء فيها. أما أمه، فلم تقوى على رفع رأسها من الأرض، كما لو كانت تتأمل في أفقها التحتي تفاصيل حياتها في سيناريو مختلف. طافوا لساعات إلى أن وجدوا العلبة الوحيدة المتبقية من هاغنداز. أمام خجل والده الأصفر فجّر عمه فوقعة التوتّر بتبرير لم يعرف فادي كيف يسمعه ناهيك عن فهمه: "على الأقل هناك شيء نبحث عنه ونجده في الأخير". وكما لم يفهم فادي لم نفهم نحن كذلك، ولم يكن مهما أن نفهم حتى لا نموت ثانية. ونحن بين الإنتظار ونهاية الحكاية، يصفعنا فادي بملحق آخر لم نسمعه من قبل. وبين إماءة تحيل على وضع المستفسر و أخرى على حالة المستنكر، تركناه يضيف ... هاغنداز كان كذلك النوع المفضل للموتى الأحياء حين استعمروا نيويورك... نجونا منهم بفضل نباهة عمّي. كان يسوق سيارته بأقصى سرعة ممكنة لدرجة أنها قفزت بنا إلى الضفة الأخرى من نهر هادسون دون أن نشعر. ومن حين لآخر، كان عمي يخرج يده من النافذة ويغرس خنجره اليمني في صدر أحد الموتى الأحياء. لكن فادي وهو ينطق بهذا الوصف، انتبه لظرفية حكايته الجديدة. كما تعلمون كل كتب القصص المصورة التي كنت اقترضها من ابن عمي تعرض الموتى الأحياء كمخلوقات شريرة. هل هو شرّ أن تصّر مخلوقات ميتة على الحياة؟ لماذا لم يسمّونها أحياء موتى؟ من منا لا يموت في حياته ويحيى في موته كل يوم؟ أم..؟

توقف فادي فجأة عن الكلام بعد أن لاحظ أن ترياق الواقع الذي تركناه بدأ يبطل سحر الحكاية. كان تفصيلا لم نعرف هل نردّه لخيال فادي أم لقلبه. قتبلناه لكي تطول الحكاية ويطول معها الموت حتى نبقى في الفردوس.

وكالعادة كان هناك "موسى". هناك من يقطع عن فادي خيط ملحمته. موسى الذي قفز عن موقع قعوده (أو جلوسه؟؟) وتوجه نحو شامة التي كانت تبدو كما لو كانت لا تزال في موت الأمس بعد سقوط الصومعة. موسى الذي باتجاه نظرته حدد مكانه في الوعاء الأكبر حجما، والذي كان من نوع بيل هذا الذي يظهر فيه ختم الجرس. والذي ظل يخطو في تأن ودون حاجة لأي صراع بالأكتاف، حتى وصله ونطّ جالسا فوقه. موسى لا يحتاج لأي نوع من إبداء الرغبة والترجي كصريخنا ونبرة صوتنا كما نفعل غالبا لنحصل على ما نريد. موسى كان يريد، وكفى. ومن اقتسم مع موسى قطعة كعكة عن إكراه، أو أقرضه قلما دون أي أمل في استرجاعه، أو ناوله أجوبة الواجب في الرياضيات، يعلم من هو موسى حين يبدي رغبته في شيء ما. والأسوء من ذلك حين يكون هذا الشيء في مادة وشكل يشبه مادة وشكل بوظة بيل. موسى من هذا النوع الذي تشد انتباهه الأشياء التي يمتلكها الآخرون فقط لأنهم يملكونها. وعادة ما يرسو شد الإنتباه هذا على عراك بالأيدي أو خنوع سريع للطرف الآخر، وبموسى يستحوذ على ما يريد، ثم ظهور طفل آخر في المدرسة يتبع إسمه نعت المذلول الذي لن يفارقه. طفل تلوك قصته كل الألسنة الصغيرة، وقد تصبح قفاه مشاعا لكل الأكف. الطفل المناسب لتبرير تعسف العدو في المعابر، ومعاودة القصف بدون مناسبة، وحتى تأخر الدّفع في الأجور وتعطّن الطماطم في الأنفاق. وربما تجاوز العقاب الجماعي لهذا الطفل، الذي لم يجابه غطرسة موسى، حد الكلام والأكف وتبرير الكوارث الإنسانية منها واللا إنسانية، إلى تحوله لمطية مشروعة في كل الزيارات المرحاضية. كانت أسوأ حال هي حين يستحوذ موسى عن الشيء ويسبّ صاحبه بالتهمة، اللزجة في حبيبات لسانه السّليط، بابن العميل. كان يأخذ الشيء ويتأمله لهنيهة، ثم يرميه أرضا بعنف معلقا بنفس العبارة التي ربما سمعها من جدّه: "شغلة اليهود أصحاب بيّك اللي ينيكو أمك". بعد هذا الحكم النافذ يعود موسى لعرشه على الدرج الرابع أمام باب المدرسة. تاركا ضحيته تتدوّر في ألم لا زال في المستقبل، وهي تشاهد على الأرض القرينة الوحيدة على براءتها تتحول لدليل جنحتها. وهكذا بين جرس وجرس، يحدث هذا مع موسى، وكما لو أن شيئا لم يحدث.

نزول موسى عن برج "بيل" كان أمرا نافذا بالصمت بالنسبة لفادي.

اقترب موسى من الصغيرة شامة التي كانت تجلس في سكون على قطعة من الفانيليا المغلفة بقشرة من الشكولاته. كانت شامة في وضعية التمليذة التي غالبا ما تُحمل حالة خوفها الدائم على مظهر حسن السلوك وقمة التأدب. مسح موسى بكفه على وجنتها وظل يحذق في وجهها كثيرا. كانت جميلة. وأجمل فتاة في الفريزر كما كان يدور في خلد ساري الذي كان يحبها ولم يستطيع قط التعبير عن ذلك. وكما كان يدور كذلك في خلد عصمت الذي كان صديق ساري المخلص وعلى علم بحبّه الصامت لشامة. دون النظر أحدهما في وجه الآخر، كان قد فهما أن تسلّط موسى صار هو الآخر كما موسى بدون حياة. وكذلك فهما أن الخوف من موسى لم يعد هو الآخر نفسه الخوف داخل حجرة تبريد لا تشبه أقسام المدرسة. كلاهما تسلّح بمعرفة المفارقة بين الأسباب والنتائج داخل هذه المعادلة الجديدة، وسلّ كل منهما من خلفه عودا عن قطعة الياغورت المجمد. ووقفا على استعداد للدفاع عن شامة التي بدت كما لو كانت كل أطفال المدرسة الأحياء منهم والأموات. كانت شامة تحدق في الثلاثي بنظرة ظلت الحياة علقة فيها بكل إصرار، وكذلك ظل علقا حب ساري وصداقة عصمت وهذه الرغبة الملحة في محاسبة موسى.

تتوقف هديل عن الحكي لبرهة ثم تستمر:

كانت شامة تنظر لهدف اخترق موسى وساري وعصمت واصطدم بجدار فادي وكلاوديا وسهام ورأفت. قالت كما لو كانت تستفسر:
- بابا وعدني بآيس كريم حين ينتهي القصف؟

أعادت كلمات شامة المكان لصمته البارد الأول. رجعنا لخرقنا البيضاء وتجمّدنا في انتظار تأقلم في انسجام مع جمدة شامة وهي تنظر.

وهكذا إلى أن فتحت يد الفريزر وأخرجت شامة وهي لازالت تنظر.

سكتت هديل.

هيوستن 2015



#عبداللطيف_عدنان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شاعرية الحدود (ثلاث محاولات فاشلة في الاختراق) سرد
- صدام حسينclose-up


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبداللطيف عدنان - شامة تنظر