أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الموزاني - وسط البلد















المزيد.....


وسط البلد


حسين الموزاني

الحوار المتمدن-العدد: 4721 - 2015 / 2 / 15 - 11:39
المحور: الادب والفن
    


حسين الموزاني
وسط البلد

اضطررت بعدما شعرت باضطراب في أنفاسي، وبارتجاف في الركبتين، أن أستقلّ تكسيًّا، فجلست في المقعد الخلفي بمفردي، واجمًا أتثاب وأقرع صدري، كما لو أنه قربة خاوية؛ فسألني السائق إن كنت صائمًا، فهززت رأسي بالنفي. قال إنّه أراد أن يدخّن سيجارة في الواقع ، لكنه فكّر بأنّ الدخّان قد يزعجني، فأوضحت له بأنني مدخّن قديم، لكنني انقطعت عن التدخين هذه الأيّام بسبب البلغم.
كان السيّد عبد السميع، البوّاب وصاحب الدار، قد شكا أكثر من مرّة من أن التدخين يفسد ورق كساء الجدران، فضلاً عن أنه يضرّ بالصحة والجيب إلخ؛ فحسبت أنني سأجيد الدفاع عن نفسي بالقول " ما أنت عارف يا سيّد عبدو أني رجل غريب ومنفي" لكنه ردّ بغضب كمن أراد الانتقام لكساء الحيطان":منفي ليه يا ابني؟ وعشان إيه؟ دنت لو رحت للصعيد دي الوقت، وقلت إنك عراقي، مش حيسيبوك تخرج من البلد خالص، حيجوزوك هناك وحتخلّف عيال وتعيش وتموت ويدفنوك بقى في أرض الصعيد كمان!"
إنني كنت في الحقيقة أكبر سنّاً من عبدو البحراوي، لكنني سمحت له أن يكون لي أبّاً على أمل أن يتخلى عن شكواه من رائحة ورق الجدران.
أنزلني السائق في قلب المدينة، في ميدان طلعت حرب بالتحديد، والذي تفرعت منه ستة شوارع عامرة بالبضائع والمعروضات كلّها وكأنّها متاحف طبيعية: باعة الثياب القديمة والأمشاط والجوارب والقرّاصات والسجائر والعيش الأبيض والجرائد التي جعل الجفاف والعجاج لونها أصفر متربًا والكتب التي صهدت الشمس أغلفتها، فالتفت حول بعضها البعض وعربات الفول والطعمية وساعات الوزن والرجال المسلحون الذين وقفوا أمام بوّابات المطاعم والمصارف ووكالات السفر وصباغو الأحذية والمتسولون ذوو الأطراف المقطوعة وجيش البلدية الذي كان في أقصى حالات التأهّب. وأبصرت حلاّقًا مُسنّاً يهرب حاملاً فرشاته، ويُلوّح بالموسى صارخًا في زبون تركه حليقًا إلى النصف: "يا جدع هات البتاع والحقني لباب اللوق!" بيد أن الزبون الذي انتابه الغضب من تصرّف الحلاّق، أو من مطاردة البلدية، رفس السطل برجله فترنّح السطل واستدار حول نفسه، ثم تدحرج في عرض الميدان، فهرعت لكي أنتشله من مكانه، خشية أن تسحقه المركبات، فسمعت صوتاً يهتف ورائي: "سيبه يا ود أنت وهو"، وحين التفت أدركت أنّ رجل شرطة كان يزعق بي؛ إلا أنني حضنت السطل بذراعيّ وبقيت واقفًا على الرصيف، فأثرت بتصرفي هذا حفيظة الضابط الذي هزّ سبّابته أمام عيني مباشرة: "أنت مالك أنت يا ود يا مخرف غور بقى عن وجي، عامل كده بطل زي أبو زيد الهلالي!"
لكنني وجدت نفسي أسأله كالمغتاظ دون أو أعير شتائمه انتباهًا" :طيّب، والبتاع ده أحطه فين؟"
فأحتد غضب الضابط وانتزع السطل من يدي وهو يردد عبارات تشبه العتاب، لكنها كانت شتائم: "أما أنت يا ود لخم قوي بجد، اللي يشوفك كده يحسدك، عامل خواجه وأنت حتة واحد مغفّل!"
لم أشغل نفسي بهذه الإهانة المقذعة التي وجهها رجل الأمن ليّ دون أن أقترف ذنباً، وانشغلت بالبحث عن اسم "البتاع" الذي أنقذته من الدهس، فلو أنني قلت للضابط "السطل" بدلاً من البتاع، لربما شكّ في أصلي، وقد يجعل منيّ شخصًا مشبوهًا أو محرضًا أو مخرباً؛ ألا يكفي أن أكون عراقيًا؟ وقد لا ينفعني حتّى هويتي الجرمانية "أنا ألماني يا بيه، مش عراقي، ألماني وغلبان والنبي يابيه”، حينئذ تذكرت بائع الليف في نهاية السوق البلدي تحت كوبري قطار الأنفاق في "معادي السرايات"، والذي غشّني ذات مرّة وباع لي الليفة بجنيهين بدلاً من جنيه واحد. كنت ارتديت في ذلك اليوم جلاّبية أصيلة، ليست مخيطة للسائحين، وكنت محترسًا تمامًا من الوقوع في خطأ قد يكشف هويتي؛ لذلك أشرت إلى الليف وسألت البائع باقتضاب: "البتاع ده بكم؟" لكنه لم يجب على الفور كما ينبغي أن يفعل الباعة عادةً، بل أخذ يتفرّس في ملامحي، ولم يحر جوابًا، ثم ناولني ليفتين دون كلام، فاخترت واحدة وأعطيته جنيهًا؛ لأنّني سمعته ينادي بصوت عال "الليفة بجنيه". غير أنه ظلّ فاتحًا كفّه، ثمّ أفرد سبابته وصار يفركها بوسطاه، بمعنى هات جنيهًا آخر. كانت ذراعه الأخرى عضباء معقوفة. كنت على وشك أن أقول له "بايع ليف وكمان بتغش؟" غير أنني أعرضت عنه في اللحظة الأخيرة، إذ أنّه، حتى وأن غشني، فإنّه بلا شكّ يفعل ذلك مرّةً أو مرتين في الشهر أو الشهرين، حسب الزبون الذي يرى فيه ملامحي. ومع ذلك فإن هذه الحقيقة لا تفسر سرّ معرفته بأنني لست مصريًا، مما جعلني أضرب أخماسًا بأسداس، قبل أن أتوصل إلى حلّ، غير مقنع إلى حدّ ما، لكنني، على أية حال، لم أجد غيره آنذاك. حدث ذلك بمحض الصدفة، إذ أبصرتُ نفسي في مرآة الحائط عندما كنت أطوف في الغرفة حائراً، فأدركت أنّ هناك عيبًا ما في الجلاّبية، أو في هيئتي نفسها، فسرحت بيدي أتحسس شعري؛ وفي تلك اللحظة بالذات عرفت السرّ: لقد كنت حاسر الرأس! كيف غابت عني هذه الحقيقة البسيطة؟ أصعيدي بلا عمامة؟ ألم أكن قادمًا في الأصل من أطراف الهور والبردي، حيث أن العمامة وحدها هي الرداء، حتى لو كانت خرقةً مهلهلةً، وما عداها ليس سوى العري عينه! لقد كان بائع الليف محقًّا عندما حسبني معتوهًا، فكان هذا هو السبب الذي منعه وأصحابه من إطلاق تعليق، أو ضحكة ساخرة، فهل يسخر المرء من عباد الله المعتوهين؟
وصلت الشمس في ميدان طلعت حرب إلى هامة السماء، حيث ظلّت ثابتةً زمنًا طويلاً مثل كومة أصواف ملتهبة، فشعرت بغشاوة ساخنة تطبق على عينيّ، ورأيت أن أحتمي لحظة بمظلة مكتبة صغيرة الواجهة؛ كنت أمرّ بها كلّ يوم تقريبًا دون أن أدرك وجودها على نحو يغريني بالدخول إليها. وحالما قفت تحت المظلّة تقدم منّي بائع وسألني إن كنت أحتاج خدمة ما، فقلت بلا وعي إنني أفتش عن كتاب حول جزيرة العرب قبل الإسلام. فقال "خشّ وشوف.”
فدخلت إلى المكتبة التي كانت ضيقة المدخل، وتزداد ضيقًا كلما توغّل فيها المرء، إلى أن تنتهي بدهليز طويل لا يتسع لشخصين، وقد نُضّدت على أرضيته الرطبة أعمدة من الكتب على نحو رأسيّ. فسحبت من الحزمة كتاباً كان بعنوان "طواحين بيروت"، فأخذت أتصفحه، لكنّ أوراقه كانت حائلة اللون من الداخل، رطبةً ومتخمّرة أيضًا. وحين سألت البائع عن ثمنه قال ثلاثون جنيهًا، فقلت بنبرة لا تخلو من جفاء: "وهذه العفونة الزرقة اللي أكلت بيروت وطوحينها؟" فأجاب بلهجة جافة متبرمة: "النسخة ديّت اللي في يدّك مفيش غيرها في مصر كلّها، إن كنت عاوزها فخذها، وإن ماكنتش عاوزها رجّعها بقي عَ مطرحها."
رمقت البائع بنظرة عتاب باردة بعض الشيء وسألته بقصد الإحراج عن كتاب "الباه عند العرب"، لكنه يجب، لأنّ سؤالي بدا له بلا معنى، وعندما أطلت التحديق به، قال بزعل واضح":أي خدمة؟"
فدخلت الدهليز مرّة ثانية، لكي أعيد الكتاب إلى موضعه، ثم استللت كرّاسة جذّابة الألوان، ذات ورق أبيض صقيل. وقد احتل العنوان الصفحة الأولى كلّها. وبعد مشقّة تبيّن لي أن رسمة الغلاف المنقوشة بدقّة فنيّة كانت تمثّل رجلاً عاريًا منكوش الشعر، وتعني "قفشات"، أي أنها كانت العنوان الرئيسي للكرّاس، وكتب تحتها بالخط الكوفي المستحدث آليًّا عبارة "مطبوعات لندنية لفكاهيي العرب؛ تصدر مؤقتاً عن "مجلس الإنماء والبناء العربي". فبحثت عن تفسير لكلمة "القفشة"، وبعد تأمّل واستعادة لمشاهد كانت مدفونةً في الذاكرة، توصلت إلى أن المفردة لبنانية الأصل، وتعني بلغة أهل السواد جملة من المترادفات مثل: "الكمشة أو الكضة أو التعريتة أو اللزمة". وما كان لي في الواقع أن أتوصل إلى هذا الاستنتاج لولا إقامتي القديمة على أرض لبنان، إضافة إلى أنني وقعت ذات يوم في ورطة مماثلة حين كنت أستقل القطار من بروكسل إلى برلين. ولم أعد أتذكّر ما الذي كنت أفعله في تلك المدينة، ربّما شاهدت تمثيليات لمنفيين عراقيين، لكنني مازلت أتذكر جيّدًا ما حصل لي في القطار نفسه. كنت اشتريت جريدة لبنانية من محطّة القطارات في بروكسل وبضع زجاجات من البيرة، وكانت المسافة إلى برلين طويلةً، ثمان أو تسع ساعات. في البدء احتسيت الزجاجات، وحالما فرغت منها تناولت الجريدة، فقرأتها بلهفة حتى أتيت على الأخبار كلّها، ومعها صفحة الآراء والمواقف والرياضة والمدارات، بل إنّني أطلعت حتى على ما يسمى أحيانًا بالتفنيصات، ولم أكتف بذلك، إنما قرأت الأبراج والكلمات الضائعة والصيدليات الخافرة ومواعيد الصلاة في بلدان المشرق والمهجر، ولم يبق أمامي سوى حقل الكلمات المتقاطعة الذي لم أقترب منه يومًا طوال حياتي. كانت الكلمة المفقودة آنذاك تتألف من أربعة حروف، وهي عبارة عن أداة تستخدم للتنظيف، فلا بدّ إذًا أن تكون مهمتي سهلة للغاية. لكن يا لحماقتي وتعاسة ظنّي! لقد أمضيت ساعتين وأنا أنقّب عن حرف واحد آخر أضيفه إلى الحرفين اللذين اكتشفتهما بشقّ النفس. كان الحرف الأول ميمًا والأخير تاءً مربوطة، فما الذي بقي يا حمدان؟ لكن هيهات! كان القطار قد غادر للتو بوتسدام، أي أنّه أصبح على مسافة ثلاثين كيلومترًا من برلين، آنذاك، وفي آخر لحظات اليأس، برقت في ذهني خاطرة سريعة مثل لقاء منسي بين عشيقين: كنت قد اشتريت ذات مرّة في بيروت، ومن أحد محلات الروشة بالتحديد، تلك الأداة التي أبحث عنها الآن، فانتفضت، وأخذت أهزّ رأسي نحو الجهات كلّها، ثمّ صرخت كالمستغيث: "مقشّة، مقشّة، مقشّة"؛ ففزع المسافر الذي كان يجلس قبالتي، وأخذ يقلّب عينيه باضطراب. كان ألمانيًا شرقيّاً صعد قبل دقائق من محطة بوتسدام، أو ربما لم يكن ألمانيًا؛ كان أبرص وذا صلعة عظيمة ورأساً ضخماً، فصار يهزّه دهشةً وتعجبًا، فزعقت به من جديد: "يا شراميط يا أولاد الشراميط، مش معقول! مقشّة، بالشين المشددة؟"
عدت إلى الكرّاسة اللندنية من جديد، وأخذت أتصفحها، مأخوذًا بشهوة الفضول التي تلبستني بعدما تذكرت حادثة القطار، متمعناً في رسومها الكاريكاتورية البارعة التي كانت تصورّ رجالاً ونساءً عراةً، متداخلين في بعضهم البعض. رسوم غير مألوفة ذُيّلت بعبارات من قبيل "الكفاح المشلّح والنظام الدولي الجديد"، أو "أعرب ما يأتي: غربي وعربي وعبري يعربون عن رغبتهم في نقل مكّة إلى نيويورك"، وأبصرت أيضًا رسمة تمثّل إسحاق شامير وهو يقف على طاولة ويهتف: "افرح أيها القلب وأطرب، فقد أصبحت إسرائيل فائدةً للشعوب السامية!" وثمّة رسمة أخرى لرجل في حالة من التأمّل العميق، وقد وضعت أمامه لفائف تشبه الصواريخ المصنوعة من الخشخاش، فكانت تخرج من فمه كلمات مسننة ومخلوطة بالدخان: "إن الخطأ الأكبر لا يكمن في وجود إسرائيل بحد ذاته مثلما هو شائع، بل في سماح إسرائيل لأمّة لا غاية لها سوى الزوال في الديمومة والبقاء؛ أمّا الخطأ الأشدّ خطورةً فهو أنّ إسرائيل نفسها بدأت الآن تتواطأ مع هذه الكيانات الآيلة للاندثار"، وكتب تحت هذه العبارة "فيلسوف كنعاني"، ورأيت تخطيطًا آخر يعرض رجلاً منحنياً إلى الأمام ويقف وراءه طابور طويل، تعرفت فيه على المستر بوش والسيدة ثاتشر التي ربطت حول خصرها جهازاً اصطناعياً؛ وكان هناك أمير عربيّ منسيّ في ساقية مهجورة يلّوح بيده وينادي "يا إخوان وأنا كمان، خذوني معكم، لا تنسوني يا عربان!" وخُطّ تحتها بالقلم العريض: "من أجل ترسيخ الروابط العربية -العبرية - الغربية في ظلّ الانفراج الدولي!" وفي الصفحة ما قبل الأخيرة عثرت على نصيحة لا يمكن إلا التشديد على أهميتها، بل إنّها بدت لي ملزمةً في دقّتها وفحواها، على الرغم من أنّها جاءت خلواً من الإمضاء، وربّما كانت من بنات أفكار الفيلسوف الآنف الذكر: “ اعلم يا أخي العربي أنّ أمريكا لا تحترمك ولا تقيم لك وزناً ولا شأنًا إلا في حالتين وهما إمّا أن تكون عبدًا لها خاضعاً وذليلاً، فتغدق عليك بالحسنات والمكافآت وتحميك من كلّ شرّ بما ملكت يدها من بأس وسلطان، وإمّا أن تكون ندّاً لها كفئاً وحرّاً، فتخشاك حينئذ وتتهيبك؛ وإذا ما تمردت عليها وأخذت تهزّ ذلك بلا سبب أو قوّة فاعلم يا أخي العربي بأنّ أمريكا ستلقمك الخوازيق تلو الخوازيق أينما يحلّ بك المقام. وفي صفحة الغلاف الأخير ثمّة قبور متداعية ومتناثرة في الصحراء وقد غُطّيت بكوفيات مثقوبة ومتسخة ووقفت عليها إبل صامتة جرباء ومطلية بالقطران؛ وعُلّق على هذه الرسمة بعبارة: "معرض المعارضين!"
رميت الكرّاسة بانفعال، غير منتبه إلى أن عامل نفسه كان يراقبني، فرفعها من الأرضية المتربة، ومسحها وهو يقول بلهجة اللامعنيين "زعلت للدرجة دي من الكتاب يا أستاذ؟" فقلت "هل تعرف ما فيه؟" قال "ولازم يعني أعرف؟" فقلت "قفشات وتشبيحات وتشليحات"، ثمّ خرجت من الدهليز مشلوحًا متوترًا، بعينين مصفرتين مبحلقتين، فتطلع الباعة والزبائن إلى وجهي برعب وذهول.
دخلت على الفور إلى الحمّام الشمسي العام، حيث أضحيت منكشفًا أمام صليل الهواء الذي دبغته الشمس وندفته فصار رقيقًا كالدخان، على الرغم من أنّ النهار قد شارف إلى حدّ ما على الاندثار. فجأةً جثت على صدري تلك الغصّة المريرة حتّى كادت تخنقني بلا رحمة. فهذه هي ساعة السويداء التي تأتي عادة بلا موعد ولا إنذار، فلا تنفض يدها منّي إلا بعد أن تتأكد من تحطيم أعضاء بدني واحداً تلو الآخر لتلحق بها روحي وحشاشتها. فكان مما يضاعف من وطأتها هو خلو الدم من ثمالة الخمر وخموله وصراخ كريات الدم، هذا الصراخ الذي كان يهدّ العظام ويفتتها، مطالباً بجرعة من الكحول. في ساعة النكد هذه كانت تعتلي وجهي صفرة الموت بعينها، فتجفّ شفتاي ويتصاعد خيط الألم من صابونة الركبة إلى حبل الوريد، ومن هناك إلى هامة الرأس. فأخذت أتعثر بأحجار البلاط المنزوعة من الرصيف، وارتطمت بسيدة عجوز كان تقود امرأة حبلى، أمسكتْ بطنها على الفور وأطلقت حوقلة مضطربة، فاعتذرت لها بنظرات فارغة، ثم تطلعت مرّة أخرى إلى واجهات المحلات والدكاكين، لعلّني أهتدي إلى زجاجة خمر منسية، أو عرق للدعاية، أو كونياك مغشوش، أو الأوزو الإغريقي، أو حتى نبيذ البطالسة، بل السمّ الزعاف، لكي يُسكت أنين الجمجمة الخاوية المطرطرة ويطفئ ظمأ الرأس، لكن دون جدوى. فلم أر إلا فساتين النساء وبذلات الرجال والأحذية الملمعة وأشرطة الأغاني والتنورات والسراويل الداخلية ومعاجين الحلاقة والأقطان الطويلة التيلة والعتالين والمجاذيب والمتسولين والجرائد المنقرضة الأخبار والمنشورات المصبوغة بتصاوير العجائز وأقلام الحبر وأقلام الجاف، فتذكرت جدتي عندما سألت عطّارًا في مدينة "الثورة" ذات يوم، وبالقرب من سفارة "بيت سويري"، سألته ببساطة وبداهة: “عيب عدّك يا بعد روحي غلم جايف؟"؛ بل تذكرت الأقلام الجائفة كلّها، قلمًا قلمًا، تذكرت أقلام القنّاصين فرداً فرداً. فيا لتلك الساعة السوداء، ويا لهذا العمى الذي صار ينخر في خلايا الروح، ويا لنعيب المحبّرين والمخبرين، فيها أيّها الحبر الأعظم إلى أين سنيمم شطر أوجهنا، وإلى أي وجهة سنشطر أرواحنا في هذا الليل البهيم؟
أخذت أغذّ السير في اتجاه شارع الأستاذ عبد الخالق ثروت باشا، لكنني لم أر هناك سوى زجاجات العطور المتربة وقمصان النوم المعروقة في الواجهات والبسط والفانيلات والتنورات الملونة وأقلام الحبر وأقلام الجاف وبحار من الأحذية المدهونة المعلبة بالزجاج والباعة الجوالين المطاردين والمتفرقين سدىً أمام رجال البلدية الذين شرعوا أسلحتهم النارية والمطاطية وطبنجاتهم، جيوش تطارد فلولاً من المارقين والعتالين والفقراء، وثمّة لا شيء سوى ثياب النوم الباهتة الألوان إثر صليل الشمس والبدلات التي نصلت أصباغها وتحللت خيوطها منذ زمن الحاكم بأمر الله والكلسونات الرقيقة والأقطان النسائية والبطانيات والصديريات ومشدّات الأثداء والمكانيس والمقشّات.
وجدت نفسي أدخل في دكّان صغير كان بابه مشرعًا للمشاة، كما لو أنه جزء من الرصيف، فأبصرت امرأةً ضخمة الهيئة كانت تضع يدها على خدها وقد سال لحم خدها الترف بين فروج أصابعها؛ كانت تنصت ساهمةً إلى فريد الأطرش وهو يردد لحنًا قديمًا شبه منقرض، يوصوص شريطه المنهك المعلوس مثل كتكوت. فتقدمت منها بقامة متخشبة، متشنجة، وسألتها عن محل للبروتينات، لكنها لم تفهم على الفور ما عنيته، ولم تبد اهتمامًا برغبتي ولا بعينيّ المبحلقتين وشعرات رأسي المتطايرة المنفوشة، فسألتني بصوت بارد: "بروتين يعني إيه؟" فأجبتها وأنا ألهث: "عرق، عرق، نبيذ البطالسة، براندي، ويسكي، خمر، كونياك، أوزو، أي حاجة." فقالت المرأة دون أن ترفع من طبقة صوتها قيد شعرة: "مفيش، مفيش، يا خرابي، أستغفر الله، أستغفر الله العظيم". فغادرت دكّانها برأس متصدّع، أترنّح ذات اليمين وذات الشمال، وحالما رميت بنفسي في بحر الشارع سمعت صوتاً ممطوطًا يندب نائحاً ورائي " الحبّ من غير أمل أسمى معاني الغرام "...
دخلت مرّة أخرى إلى الحمّام المترب تحت ذرّات الغازات وعوادم المركبات وغبارها وزعيق المنبهات المعطوبة والأبواق القومية والوطنية وشتائم السائقين وصفارات المرور والشرطة الجوّالة المعروقة القيافات والمسلحة بالبنادق الروسية، ومن حولي طافت الأحذية البرّاقة والطرحات والجلابيات والجرائد الصفراء والأقلام الجائفة؛ فوقفت في زاوية جلتها الشمس جلياً، فجذبت نفساً عميقاً انتفخت له بطني، ثم زفرته حارّاً ملتهباً، وأخذت أعيد عملية الشهيق والزفير كالمصاب بالربو، ورفعت يديّ إلى الأعلى في حركات سريعة سويدية إلى أن شعرت بقوة دفع كبيرة، فانطلقت كالسهم في اتجاه شارع "الشواربي"؛ وانتبهت إلى رجل عملاق كان يقف على حافة الرصيف أمام ساعة ضخمة، رأيته يتطلع إلى وجهي، وكان حليق الرأس وذا شارب تتري مفتول الطرفين، ويتطلع بعين واحدة لامعة حمراء ويصرخ: "وزن، وزن، يا سلام، أوزن نفسك يا أستاذ بعشرة ساغ!"
قطعت وسط البلد في نفس واحد، دون أدرك كيف فعلت ذلك، حتى كدت أخترق ميدان العتبة برمته. حينئذ بدأ وقع خطاي يرنّ رنيناً مخيفاً في مؤخرة دماغي، هناك تحت الهامة، في قحفة الرأس بالذات، عند نتوء الجمجمة، فأبطأت السير وجذبت نفساً أخيراً جافاً وصافراً في آن، ثمّ أدخلت أذيال قميصي تحت البنطلون، وأتتني رغبة عاجلة في البصاق، بيد أن ريقي كان ناشفًا فأخذت أنهج متحشرج الأنفاس كالمحتضر، وعلى الرغم من ذلك استطعت إيقاف سيارة أجرة لمحتها تتهادى سوداء خاويةً، فهرعت نحوها، وفتحت بابها بعناء. كانت زجاجة نافذتها مفتوحة إلى النصف، وحينما لذعتني نسمة الهواء الأولى حاولت أن أفتح النافذة كلّها، لكنني وجدت مقبضها مثلوماً، فتطلعت إلى وجه السائق الذي كان مركزاً جلّ تفكيره على الطريق غير المأمون، حيث المشاة والعربات والحناطير. بدا لي وجه السائق بشوشاً، مما شجعني على الإطلال برأسي من شقّ النافذة، فقذفت شيئاً لزجاً من معدتي، كان لونه أصفر ومخلوطاً بسائل بنّي، أخذ يلمع على صفيح المركبة؛ فسأني السائق:
"حضرتك صايم؟
لا، سايح”.
"من أي بلد؟"
"من السويد".
فقال بدهشة:
"سعودي؟"
"سعودي مين يا شيخ! سويدي، اسكندنافي”.
"معقول؟ إزاي بقى لونك كده أسمر وشعرك أسود زي شعر الصعايدة؟"
"شعري مصبوغ، لأني أحبّ الألوان الشرقية الحارة”.
"أهلاً بيك في مصر أم الدنيا والدين!"
"الله يجعل مصر وشعبها بخير وأمن وسلام”.
"بس ممكن تقول لي حضرتك تعلمت الحكي العربي فين؟"
"تعلمت الحكي في بلاد الشام”.
فهتف بصوت ممطوط:
"يا سلام، د،د، دأهل الشام بيتكلموا العربي زي العسل”.
"يتكلموا عربي وبس؟ دول يا عمّ بيحولوا السبع إلى جرذ، وبيعملوا بقلاوة ما في منها في أرجاء المعمورة العربية عن بكرة أبيها”.
فصمت الرجل لحظةً، والتفت إليّ مرتاباً بعض الشيء، ثمّ قال بحذر:
"يمكن تسمحلي حضرتك أسألك سؤال غريب شويه؟ معلهش؟ "وقبل أن أسمح له كان سؤاله قد انطرح بين زمارتين قصيرتين:
"اشمعنى يعني، بلا مؤاخذة، أنه أنتم الغربيين بحتكروا التكنولوجيا، بما فيها القنابل الذريّة وإحنا مش مسموح لنا نصنعها؟"
فشعرت بارتياح إلى حدّ ما إلى سؤاله، وابتسمت ابتسامةً باهتةً خاليةً من الشماتة، وأجبته ببساطة:
"السبب يا سيدي هو أنكم، أبناء أمّة العرب تحتكرون التنكلوجيا أيضاً ومحدش يحاسبكم خالص؛ وتشكون من الظلم وأنتم الظلمة. كويس كده، وإلا عايز كما شوية تنكلوجيا؟ إذًا وحدة بوحة حسب رأي المرحوم طه حسين. مش العدالة حلوة يا أخي؟ بعدين لما تكون عندكم أنتم القنبلة الذريّة أكيد مش تتبرعوا بها مجاناً للمساكين وأبناء السبيل، إنما راح تفنون الشرية عن بكرة أبيها إن كان لها أب أصلاً!"
عندما أنهيت جملتي، أحسست بمعدتي تتقلب وتتلوى، فأخذت أطحن الهواء وأوزعه توزيعًا عادلاً على مصاريني.وصحيح أنّني تعلمت تصريف الغازات على نحو تلقائي من خلال معاشرتي الطويلة للألمان والتزاماً بنظرية جالينوس، لكنني أضفت إلى ذلك عملية التوزيع والتسويق خارج جدران المعدة والأمعاء، أي على طريقة "التنبيص" بلغة أهل السواد، أو من بقي منهم، فأردت أن أمارس آلية التنبيص الذاتي التي بدت لي الآن لا مناص منها؛ لا سيما وأن السائق بدا مسامحاً وطيّب السريرة، فالفرصة إذاً كانت مناسبة جداً. وبالرغم من ذلك ترددت في البدء، لأنني شعرت بالخجل من إصدار أصوات مسموعة قد لا تأتي متزامنةً وزمّارات السائق المشخوطة المتباعدة زمنيًا، فاضطررت إلى إخراج رأسي من المركبة المرتجفة من شدّة السرعة، في محاولة لتمويه ما كنت أفعله، فسمعت السائق يقول كلامًا لم يتضح لي معناه بالضبط، وأدخلت رأسي في السيارة ثانيةً وسألته:
"أفندم؟"
فأجاب بعد زفرة طويلة، حسبتها لا تنتهي:
"الحمد لله أنه أنا مش عربي، ومعنديش شنب من ريش الزغاليل”.
"أفندم؟"
"عايز تخش الحمّام يا أستاذ؟"
فابتسمت وقلت:
"لا،لا، متشكر جدّاً. ماكو داعي، على شنو أغاتي! على التنبيص؟ يمعود هاي ولا شي! دي الوقت تحسنت حالتي قوي، قوي”.
أخيرًا وصلنا إلى بناية عبد السميع البحراوي بعد أن أوشكت أمعائي على التشقق، وحين ترجلت ساعدني السائق، بل قادني من يدي إلى باب داري.
هرعت من فوري إلى الحمّام، وشعرت بعد دقائق بارتياح غريب، كما لو أنني تحررت فوراً من عقوبة الإعدام. وتطلعت إلى وجهي في المرآة، فتنكرت له، كان أصفر ممتقعاً، وجهي الغريب، مظللاً بخطوط بنيّة كالحة وبدت العينان حمراوين، وقد التهب غشائهما. فأخذت أكشّر في المرآة، فلاحظت تسوسًا خفيفًا بين القواطع، والفرشاة باتت قديمة، التوت شعيراتها البلاستيكية، فاكتفيت بالغرغرة، ثم تمطيّت وتثاءبت مطوحًا يديّ في الفراغ، وعنّ لي أن أستحضر ساعاتي التي هشمتها وهشمتني في شوارع المدينة الهائلة، ممعناً التفكير في معنى رحلتي، أو هروبي من الصحراء الغربية إلى الصحراء العربية.



#حسين_الموزاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فلفلة النيل
- صور الأب
- المعركة
- النكران
- جولة الوداع
- الفجر
- ليلة القدر
- الاستجواب
- الثورة المستجدة في مصر وسقوط الجدار العربي
- الحلّاق الفرعوني
- عندما يتحوّل الدين إلى سياسة
- إرهاصات الحداثة
- مفهوم الحرب لدى زيغموند فرويد
- سياسة منح الجوائز الأدبية في ألمانيا
- هل هناك هويّة ثقافيّة مشتركة في العراق؟
- حوار مع حسين الموزاني
- مفهوم الحرب لدى فرويد


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الموزاني - وسط البلد