أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (74)















المزيد.....

منزلنا الريفي (74)


عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .


الحوار المتمدن-العدد: 4715 - 2015 / 2 / 9 - 23:52
المحور: الادب والفن
    


تنشئتي : هزات وانقلابات

-1-
لم أولد إلا مرة واحدة، ولكنني ولدت مرات، مسيرتي لم تكن مستقيمة، بل متعرجة ومضطربة شبيهة بمخاض عسير، ومن ثمة فكل ولادة من جملة ولاداتي كانت قيصرية. لست سوى ذرة هوامية من ذرات الأرض، العميقة في الزمن، والمتشعبة التركيبة، اجتمعت ذات يوم صدفة، فولد هذا الكيان، ما كان وجودي ممكنا لو أخطأ السائل المنوي مساره ولم يقتحم لجة البويضة، آه لو نالت مني تلك الأعشاب الضارة التي رميت بها، لكنت الآن عدما، فيغيب معه انهجاسي بوجودي مفتقدا كل ضروب السؤال، راقدا كما يهمد البركان، لكن الإمكان تحقق، وها أنا أعتصر لكي أفهم كينونتي مقتحما إياها بالسؤال المضني والعسير : (من أكون؟؟؟)
-2-
تقول أمي في فورة غضبها : (لقد ولدت الكثير من الأبناء، وهذا سبب لي الشقاء طيلة حياتي، ندمت كثيرا، كان الأجدر بي أن ألد ولدين فقط، وأعيش في راحة تامة، كثرة الأولاد مدخل إلى التعاسة العظمى، لا أقول هذا الكلام لأن الأولاد لم يجدوا ما يقتاتون به، بل لأنهم بحاجة إلى رعاية وحنان دائمين)، حقا! ما كانت تقوله أمي صحيح كل الصحة، فالأسرة طاقة عاطفية تتشظى كلما كثر الأبناء، وأنا آخر الأبناء أشعر بهذا التشظي الوجودي والعاطفي.
-3-
أنتمي إلى أسرة قروية، متجذرة أبا عن جد في تربة كرزاز، منطقة الوطا، قبيلة الزيايدة، لكن المدهش في الأمر أن فخذة المحمديين التي تنتمي إليها أسرتي لم تنل حيزا مهما من الأراضي، وحسب الرواية الشفهية أن أرض كرزاز تعرضت لأكبر مأساة في تاريخها، لقد كان سكانها أشباه رحل، وكانت الأرض عبارة عن خلاء، فجاء إقطاعي يدعى اشتوكي، فأراد أن يضم الأرض إلى ملكيته ما عدا المقبرة، لكن الأهالي تصدوا له، فحصلوا على ذلك الحيز الضئيل الذي لا يحقق سوى الاكتفاء الذاتي، ومن ثمة كنا أشباه فلاحين، لم نتلق أية مساعدة من الدولة أو ما شابه ذلك، كان جدي يحرث أرضه بالمحراث الخشبي، ويدرس المحاصيل بواسطة الدواب، ويوزع قليلا من المحصول على (*البركالة) و**الشرفة، وما عدا ذلك يتم خزنه في المطمور، فيحتفظ بجزء منه إلى بداية الخريف، أما البقية فيتم طحنها من حين لآخر على الرحى لتحويلها إلى دقيق، فإلى عجين، ثم إلى خبز. حينما مات جدي سنة 1982، تشظى الحيز الترابي ولم يبق سوى جزء بسيط. إن التجذر في الأرض لا يقاس بحيازة ملكية كبيرة، وإنما يقاس بحب هذه الأرض والتعلق بها، فذلك الإقطاعي الذي حصل على الحيز الكبير من الأرض لم يشارك في معركة ***الفخيخات التي جرت أطوارها سنة 1907، بل الذين شاركوا فيها هم الفلاحون دفاعا عن أرضهم التي سعت فرنسا إلى ضمها. انهزمت فرنسا في تلك المعركة، لكنها استعانت بمعدات وجنود غفيرة من المرتزقة، واستطاعت أن تضم الشاوية برمتها، واعتمدت في سيطرتها على المنطقة بأمثال هؤلاء الإقطاعيين، فإذا كانت فرنسا تمص الدماء، فإن الإقطاعيين يبتلعون الجلد والعظم. تحكي جدتي لوالدتي عن ضراوة الأسياد وبطشهم، فهذا سيد يدعى العربي، كان يملك كل حيازات بنسليمان، حينما دخلت فرنسا استقبلها بالورود، وكان يعمل من أجل فخامته عدة جيوش من الأقنان. كانوا يقضون النهار في الحقول، تنهكهم الشمس، ويهدهم التعب، وينخرهم الجوع، تضي



ف جدتي لوالدتي أن فيلته الفخمة كان يعيش فيها خدم مخصيون، بترت أعضاؤهم التناسلية، وفصلوا عن زوجاتهم، بينما نساؤهم يسقن نحو السيد. فرنسا كانت تبارك هذه العبودية المقيتة مقابل الهدوء والأمن الذي تعهد به السيد، لهذا السبب يمكن أن أقول أن العبودية هي الوجه المخزي والذميم للإقطاع والامبريالية، حارب العالم القروي هذا الوجه، لكن هذه الحرب ليست سوى شعلة انطفأت في برهة. العالم القروي مهمش الآن كما كان البارحة، يعاني العزلة وغياب الرعاية الصحية والترفيه والمدارس، المدينة تهيمن عليه باحتضانها لكل التجهيزات، فأمسى العالم القروي قاذورة المدينة، رغم كل هذا أومن أن العالم القروي خزان لكل تغيير، فحيث السكون هناك الحركة، حيث الإذعان هناك التمرد. العالم القروي بحاجة إلى وعي ثقافي وسياسي، غير هذا لا يمكن أن يحصل التغيير، ومن ثمة تبقى المهمة منوطة بطليعة قروية أكثر انهجاسا بمشاكل وهموم العالم القروي تقوده نحو الوعي والتثقيف، ثم الخروج إلى الميدان لتحقيق المطالب المشروعة.
-4-
منذ وقت مبكر، اكتشفت أن الشر هو أصل العالم، في سن الثانية فتحت عيني داخل مستشفى مغربي، رأيت أجسادا متشظية مهملة، تفتقد لكل ضروب الرعاية، يحيط بها الذباب، أسرة متسخة، وجدران متآكلة مفعمة بالرطوبة تبعث على الحساسية والعطس. المرضى مقذوفون في عالم أشبه بالمجزرة، يتألمون ويعانون، أطفال معاقون لا ذنب لهم، مهملون، حقا لقد خلقهم الله في أحسن تقويم، لكن لم يردهم إلى أسفل سافلين، لأنهم وجدوا أسفل سافلين ولم يولدوا في أحسن تقويم كما يدعي الدهاقنة ! لست أفهم لماذا الإنسان يولد معاقا و القرآن يقول أن الإنسان ولد في أحسن تقويم ؟؟؟ (سورة التين، الآية 4/5)
-5-
فكرة الله تسربت في كياني منذ وقت مبكر، لكن أستطيع أن أذكر ذلك، لقد تمثلت الله كمرادف للخوف وعقدة الذنب مثل رجل ضخم قاس، يملك يدين طويلتين، يقبع في السماء، وبإمكانه أن يجذب أي واحد نحوه، ويرميه في نار مشتعلة. في طفولتي كنت أمرح بكل عفوية، فإذا بأختي فاجأتني ذات مرة وقالت لي : (احذر أن يتوقف قلبك وتموت)، لم أكن أعرف الموت من قبل، غير أن الكلام الذي قالت كان صدمة لي، على اعتبار أنني كنت أعرف الحياة فقط، أذكر قبل هذه الواقعة أنني رافقت أمي إلى تجمع مفعم بالحزن، كانت النساء يبكين، ويتعانقن، ويصرخن، ويرغين. كنت آنذاك على ظهر أمي، عرفت فيما بعد أنني كنت في طقس الموت، لكن في ذلك الوقت لم أعرف الموت، بل شعرت كطفل بالضجيج والصراخ والضيق، والرغبة في الهروب، بكيت ولكن رغما عني. حينما عرفت الله والموت تولد الخوف في كياني، فأمسيت أؤنب نفسي في كل سلوك أقوم، ذات مرة كنت عائدا من المدرسة، انجذبت مع رفاقي نحو مطاردة الفراشات في جو ربيعي يبعث على المرح، كنا نصطادها بقمصاننا، ثم أحث أصدقائي على إطلاقها، غير أن فراشة ماتت في حضني، وبكيت من أجلها، كنت أخشى أن يخطفني الله نحوه ويعذبني، دفنت الفراشة وصليت عليها الجنازة، وطلبت الله أن يسامحني، وعدت من حين لآخر أقرأ عليها الفاتحة لكي يرحمها الله، في طريق مدرستي كنت أصادف شجر الرتم، كنت أعقده، وإذا وجدت العقدة مفتوحة عرفت الله سامحني ولكن تلك العقدة لم تحل . أصبح الأطفال يلقبونني بالفقيه، كنت أحثهم على الصلاة، وأنبههم بالعذاب الأليم الذي يلحق تارك الصلاة، كنت أقول هذا الكلام من جراء الخوف وعقدة الذنب، يبقى الخوف هو ركيزة تنشئتنا، كلما أردت مرافقة أمي وخصوصا في الأتراح يتم تحذيري من الموت، فالميت يستطيع أن يخطف معه من يشاء وخاصة الأطفال. الموت تكلس في كياني كالشبح، فكلما حل بقريتنا أشعر أن أجلي اقترب. كم مرة هربت من المرعى خوفا من هذا الشبح، يقول سارتر حيث يوجد الله لا توجد أية حرية، فطالما الله متفرس أمامنا يراقب أعمالنا ويحرف إرادتنا، فلن نعيش أحرارا، بل نعيش مقيدين بالخوف وعقدة الذنب .

------------------------
* البركالة : هم مجموعة من المتسولين يتسولون الحبوب أثناء موسم الحصاد .
** الشرفة : هم مجموعة من الأفراد يدعون نسبا شريفا، فيرغمون الأهالي على إعطائهم رؤوسا من الغنم أونزرا من الحبوب، وإلا يمارسون آلية السخط، لذا يخشى الأهالي أن يطال محصولهم مكروها معينا، يتركون للشريف حرية اختيار كل ما يريده..
*** معركة الفخيخات : هي معركة خاضها الكرزازيون وثلة من القبائل المجاورة ضد الاحتلال الفرنسي إبان غزوه للشاوية سنة 1907، فأبلى الكرزازيون البلاء الحسن وقتلوا قائد كتيبة الفرنسيين المدعو بولو .

ع ع / 06 فبراير 2014 / بنسليمان





#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منزلنا الريفي (73)
- منزلنا الريفي (72)
- فلتعودي من حيث أتيت
- منزلنا الريفي (71)
- منزلنا الريفي (70)
- الرماد 2
- منزلنا الريفي (69)
- كنت الوحيدة
- حلم النهضة
- شرارة كلمات
- منزلنا الريفي (68)
- سأكتب لك أغنية
- أغصاني الميتة
- منزلنا الريفي (67)
- خربشات المحال
- منزلنا الريفي (66)
- منزلنا الريفي (65)
- منزلنا الريفي (64)
- منزلنا الريفي (63)
- حلمة الأثر


المزيد.....




- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (74)