أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله عيسى - محمود درويش . شعرية الخلق الجمالي















المزيد.....



محمود درويش . شعرية الخلق الجمالي


عبدالله عيسى

الحوار المتمدن-العدد: 4714 - 2015 / 2 / 8 - 20:19
المحور: الادب والفن
    


محمود درويش *:
شعرية الخلق الجمالي - مقدمة لقراءة تحولات قصيدته الجديدة رؤيوياً وجمالياً.

د. عبدالله عيسى **


اولاً :
الإبداع في الثورة
والثورة في الإبداع.


1-1
الممارسة النصية للشاعر الفلسطيني محمود درويش ، بمراحلها وتحولاتها ، تندفع بمشروعها المنجز بتصاعدية مدهشة مؤصلة على مقدرة خصوصية على إنشاء علاقة مصالحة خلاقة مع الذائقية الجمعية .
ثمة ما يركب - بضم الياءوتشديد الكاف - هذه المصالحة ، ويبرر تفشيها في الوعي والوجدان الجمعيين الذين تواصلت مع النص الدرويشي باحتضان ًْو احتفالية طاغيين ، ( وإن تعاطى جل ممارسي تقد شعره برؤية احتفائية وصوغ ارتجالي ) .
فالنص الدرويشي ، ومنذ اندلاع ظاهرة الشعر المقاوم في الأراضي المحتلة بعد نكسة عام 1967، برموزها توفيق زياد وسميح القاسم ومحمود درويش الذي بزهما فنياً ، مسيجاً بحاسة التعاطف مع ما يقول المبدع ( تفاصيل القضية الفلسطينية وتجلياتها التي نقلها عبر تجربته النصية من مسالة سياسية - جغرافية إلى سؤال جمالي -إنساني ) ، وكذلك عناق حساسية القول الإبداعي ( صوغ ملامح الروح الخاص - الجمعي ، وإنهاضه بأداء تعبيري يكثف في ذاته إيقاعات شاعرية الذاكرة - البحث الحداثي ) .
إن نشوء وتطور هذه المصالحة مكوكب في حدي تصاعد النص الدرويشي المنجز ، وتطور ذائقية قارئه ، حتى يكادا يشكلان لحمة تغري الممارسة النقدية الأكاديمية .
فلم يعلن النص الدرويشي القطيعة مع شاعرية الذوق الجمعي مفضلاً التوحد بحرارتها والنضوج معها وبها في آن معاً ، ثم إطلاقها في مدارات هجرة حداثية . وهكذا ينشغل نصه بأسئلة إبداعية تقارب بينها وبين الذوق الجمعي ، لتختلف عنه إذ تلتبس به ، وتتوحد معه وتقنع به لتنضج وتتمايز عنه وبه في آن ، وتعترف به ، في المحصلة ، لترفضه وتتجاوزه .
هذه الرؤية حكمت رؤيا النص الدرويشي منذ انطلاقه على منجزات القصيدة الكلاسيكية ، ثم تجليات الشعر الحر الذي أصبح أهم رموزه ، حتى خلقه لنص استثنائي جديد بماء الكتابة الجديدة .
لكن ممارسة درويش النصية ، لم ترافق بممارسة تنظيرية ، كما هي حال أدونيس مثالاً لا حصراً في المشهد الشعري العربي ، تشير إلى جهات رؤاه ، وتكشف عن أبعادها غير المكتشفة ، فيما اكتفى بتوضيح انشغالات نصه الفنية والوجودية في فضاءات على شكل حوارات أو كتابات نثرية ، جلها يوحد بين مصيره الإنساني والشعري .


1-2
منذ مقالته " أتقذونا من هذا الحب القاسي " (1) في عام 1969 ، يواجه محمود درويش الممارسة التنظيرية ، والنقدية منها خاصة ، خارج الأراضي المحتلة برؤية تدعو إلى تقييم نتاجات حركة " الشعر المقاوم " على أسس فنيّة ، لا إيديولوجيّة .
فالروح الشعري ّ الذي تفجّر في فلسطين المحتلة مستلهماً قاموسه من مفردات الحياة وتفاصيل الأرض ، شكّل حالة اختراق قصوى للروح والكلمة الشعريين العربيين ، تصدت لها الممارسة التنظيرية – النقدية العربية بوصفها ظاهرة شعرية قائمة بذاتها . ففي مقابل " القصيدة " العربية الموطوءة بروح الإنكسار بفعل هزيمة حزيران 1967 ، مجسّداً بخطاب هجائي ّ للذات والعالم ، نهضت " القصيدة المقاومة " بروح الصمود في وجه الاحتلال الإسرئيلي ، مدعمّة بإرادة التشبّث بالوطن .
لم تكن إشكالية تعاطي الممارسة التنظيرية – النقدية العربية بالممارسة الشعرية لحركة " الشعر المقاوم " ، كما تحسّسها محمود درويش مبكراً ، قابعة في نظرة التعاطف المؤولة بمهاد إيديولوجي غيّب القبض على الملامح الفنيّة المبشّرة فيها ، بل مكوكبة في النعرض إليها كفعل شعري ناجز ٍ مكتمل بذاته ، مما شيّع مخاوف عزله عن حركة الشعر العربي .
يتصدى محمود درويش لهذه التصورات سعياً لتبديدها بالقول :
" وشعرنا ليس ندّاً للشعر العربي المعاصر ..إنه جزء غير متجزئ منه ، ورافد من روافد النهر الكبير . لقد تربّينا على أسلوب الشعراء العرب القدامى والمعاصرين ، وحاولنا اللحاق بأسلوب الشعر الحديث بعد أن تعرفنا على رواد هذا الشعر في العراق ومصر ولبنان وسوريا . ونحن لا يمكن إلا أن نعتبر أنفسنا تلامذة لأولئك الشعراء " (2) .
بهذه الرؤية ، يصب ّ محمود درويش تيار " الشعر المقاوم " في مجرى حركة الشعر العربي ، ما يعني عدم الإكتفاء بالتعاطي مع روحه الإيديولوجي ، بل حتمية العناية بانجازاته الفنية –الجماليّة . أمر يقضي بأن مسألة الإلتزام التي تبناها رموز هذا التيار ثمرة لشرط موضوعي للذات الفلسطينية ، ولا ينبغي له أن يلغي عدم عناية هؤلاء بالشرط الفني الذي يشكل ضمانة تطور شاعريتهم وملاحقتها لتجليات الحداثة الشعرية دائمة التحول .
لكن درويش في تساؤله : " كيف أوفّق بين الجماهير بصفتها كلمة ثورية من ناحية ، وبين متطلبات الشروط الفنية لهذه الكلمة " (3) يطرح ضمنا ً أن شرط الإيصال أو التواصل لا يعني التضحية بالشرط الفني ّ . وبهذا ظل التفاعل بين الفعل الفني للقصيدة ومفعولها هاجساً حاكماً لأدوات درويش ورؤاه الشعرية ، متمايزاً في مراحل ممارسته الشعرية ، والتي يمكن رصدها في ثلاث مراحل رئيسية :
أ-قبل هزيمة حزيران بعام ، وتحديدا ً بعد تجربة سجن مضنية ، يسمّي محمود درويش التزامه " نبضاً في الدم " ، وليس " مبدأ أو وجهة نظر أو طريقة " (4) ، وهذا ما تبدّى في ديوانه " عاشق من فلسطين " (1966) مؤيّدا ً بقفزة فنيّة " نحو المزج بين الأشياء " (5) هزّت بناء قصيدته الكلاسيكي ّ ، حيث اتخذت حركيّة الرموز شكلاً وإطاراً جديدا ً ستتضح معالمها في ديوانه " آخر الليل " المُنجز إثر الهزيمة ، طالما أدرك الشاعر في تصديه لكتابته أنه " لم يتبّق َ شيء إلا القصيدة والكلمة " (6) .
لكنه ، قبل هذا ، وتحديداً في محاولته الأولى " عصافير بلا أجنحة " ( عام 1960) اقترح روح التزام بما أسماه الحب ، العذاب ، الكفاح ، الثورة ، والألم (7) ، أو بما وصفه آلام الناس ، التغني بالأرض والوطن والكفاح والإصرار على رفض الواقع ، وحنين المشردين إلى بلادهم ، ومحاولة العثور على مبرر لصمود الإنسان أمام مثل هذا العذاب ( 8) في محاولته الثانية " أوراق الزيتون " ( عام 1964).
ثمة ما يستجيب للتكهن أن حاسة الإلتزام في هاتين المحاولتين خارجية ، غير مشبعة برؤيا عمودية ، فقد كان تبسيط الكلام الشعري خطاباً ، منشغلاً بجعل وظيفة الإيصال أولوية .
غير أن انحراف شاعرية درويش عن متطلبات الذوق العام ، منذ مجموعته " آخر الليل " ( 1967) بالإتكاء على " التعبير المباشر " كونه " شاعراً ثورياً يخاطب الجماهير ، ويلتزم بقضية الجماهير ، ويكتب من أجل الجماهير " (9) ، ثم إلحاح السؤال الفني على أدواته إثر مجموعته " العصافير تموت في الجليل " (10) قيض له تحديد الشعر باعتباره " رؤية ثورية للحاضر ورؤيا للمستقبل " (11).
ب- تنبعث شاعرية درويش منذ خروجه الأول من فلسطين المحتلة مطلع سبعينيات القرن الماضي ، واندماجه في حركة الشعر المعاصر ، نصاً وتأملاً نظرياً يستند أساساً إلى المراجعة والبحث في الممارسة الشعرية والتنظيرية .
وعلى هذا النحو ، يندفع بمشروع رؤيا شعرية تنتصر لأسئلة الفعل الحداثي ، في محاولة
لتقصي إيقاعات ممارسته التجريبية . يقول محمود درويش :
" كنت شديد الحماس إلى عدم التنازل عن التفعيلة ، ولكن إيماننا بالحداثة ، وقبولنا التنازل عن القافية ووحدة السطر قد يجرنا إلى التنازل عن التفعيلة أيضاً ، لأن كل مبررات الشعر الحديث إذا سرنا بها حتى النهاية قد توصلنا إلى اكتشاف عدم وجود قواعد ثابتة في الشعر ، على الرغم من كون التفعيلة قاعدة مهما قلنا فيها ، وقد نستغني عنها في يوم من الأيام . هذا إرا كنا نؤمن أن الشعر ليس بناء لغوياً فقط وليس قاعدة مقررة ، وإنما هو حالة شعرية . والحالة الشعرية قد يكون أحسن وسائل التعبير عنها كلمات لا تفعيلة لها ، وقد يكون الزواج بين الجملة الشعرية ، كما هو شائع ، والجملة النثرية ، نحو إلغاء التفعيلة نهائياً في يوم ما . أنا شخصياً أحزن كثيراً عندما أتصور مستقبلاً للشعر لا تفعيلة فيه ، ولكن حزني هذا قد يضحك الأجيال القادمة عندما يقودها التطور الشعري إلى الإستغناء عن أشكال نعتبرها اليوم ثورية وستكون ذات يوم متخلفة . وبودي أن ألاحظ هنا بعض بوادر أزمة الشعر الحديث الذي بنى كل مبرراته على التحرر من أطر جاهزة ، ووجد نفسه في السبعينات أسير أطر جاهزة خلقها هو . إن الحرية لا تكون في التحرر من قيود الآخرين فقط ، ولن أكون حراً ما دمت أسير قيود خلقتها " (12) .
تتقدم هذه الرؤية ، كما يمكن أن نستخلص منها . نحو المقترحات التالية :
أ- الشعر في حالة طلاق مع الثبات ،
ب- وبهذا ، فإنه يعني التجاوز الدائم لأشكال ووسائل التعبير المفترضة ،
ج- ولهذا ، فهو حالة تتجلى ملكاتها الإبداعية عن ، وتكتشف في ، الممارسة النصية ، كلمة وروحاً ،
د-مما يستدعي افتراض أزمة آن تصديه للممارسة هذه برؤى مسبقة .
غير أن منحى هذه الرؤية يتبنى البعد الشكلي ، المنحاز لانزياحات تطرأ عليه بفعل التطور والحداثة ، ما يبرر حيازة هذه الرؤية على تناقضات داخلية تتأرجح بين قبول ورفض الشكل الشعري : لزوم التفعيلة وتعديها ، والوسيلة التعبيرية : المزج بين الكلام الشعري والنثري .
إن افتراق الممارسة الدرويشية عن لغة اليقين يشكل إعلانا ً تفكيك علائقه السالفة بقضية الإلتزام بالثورة في الإبداع والواقع ، وإيذاناً بالإفضاء بهذه الممارسة إلى مختبر فني يفتح انشغالاته على مغامرة تخلق بذاتها حدودها .
غير أن الرؤية الدرويشية تتكشف في مقالته " أنقذونا من هذا الشعر "( عام 1982) عن أن التقنع بالتجريب عبر التحلل نهائياً من المرجعية الفنية والأصول المعرفية الثقافية يقود إلى ممارسة " اللعب الطائش بالشعر " (13) .
يجعل درويش سؤال " ماذا جرى للشعر ؟" مفتتح ولازمة وخاتمة المقالة ، معتبراً أن " ما نقرؤه منذ سنين يتدفقه الكمي المتهور ليس شعراً "(14) ، حتى أصبحت " الأشياء ، كما هي على أرضها ، في تجلياتها الخام ، أكثر شاعرية " (15) .
وفق هذه الرؤية ، فإن التجريبية التراكمية السائدة كظاهرة مشوشة سيدت " ما ليس شعراً على الشعر" ، وخلطت الحدود بين اللاشعر والشعر ، الأمر الذي جعل هذا " اللعب العدمي " بالفن الشعري يقود إلى " إعادة النظر والتشكيك بكامل حركة الشعر العربي الحديث ، ويغربها عن وجدان الناس إلى درجة تحولت فيها إلى سخرية " (16) ، خاصة وأن هذا الشعر لم يحقق ، بعد ، رسوخه في الوجدان العام ، وثباته في تاريخ التذوق ، مما يجعل هيمنة نماذجه الرديئة مدخلاً لإعادة النظر في التجربة كلها " (17) .
إن ضحالة الأصول القيمية ، وفق الفهم الدرويشي ، في أدوات ممارسي لعبة التجريب يسر لكل " كلام غامض، ركيك، مشوش، نثري، عدمي " التمسك " بالإدعاء أنه شعر حديث مكتوب للمستقبل " ، مدعوماً باحتضان " ثقافة موظفي الأقسام الثقافية في مؤسسات النشر " (18) ، في ظل تورط الممارسة النقدية الأكاديمية بالصمت عن تسلط سيادة هذه النماذج ، والتلكؤ عن اشتقاق مزايا التطور الشعري واكتشاف قوانينه الخاصة .
وتأسيساً على هذه النظرة يرى درويش أنه في ظل طغمة " الفوضى العامة " في المشهد الشعري يصبح لزاماً الدفاع " ليس فقط عن قيمنا الشعرية " ، بل عن " سمعة الشعر الحديث الذي انبثق من تلك القيم ليطورها لا ليكسرها ، حتى شمل التكسير ، بدافع الإدراك أو الجهل ، اللغة ذاتها . فكيف تطور الحداثة الشعر بلا لغة ، وهي حقل عمل الشاعر وأدواته ؟ . هل شرح لنا الذين لا يعرفون لغتهم ماذا يعنون بالمصطلح الدارج " تفجير اللغة " ؟ . هل أوضحوا لنا مفهوم " الموسيقى الداخلية " في إصرارهم على احتقار الإيقاع ؟ . ولماذا لا تأتي الموسيقا الداخلية إلا من النثر ؟ . لماذا تعجز ثورة الشعر العربي الإيقاعية عن إنتاج موسيقى داخلية ؟، وقبل هذا ما هي بالضبط الموسيقى الداخلية وما هي الموسيقا الخارجية ؟ (19) .
وبهذا ، يجعل درويش من تفاعل عنصري اللغة والإيقاع ، بما لا ينبغي فصلهما تعسفاً في مجرى الممارسة ، أداة تعبير لخلق النص ، لا إشكالية مسبقة لتصور النموذج الشعري .
إن مزاعم ممارسي ودعاة هذا الشكل من التجريب بأن " الإيقاع يخلق نمطاً مشابهاً ورتيباً "(20) لم يسعفهم من الوقوع في ممارسة " نموذج النمط " ، أي إعادة كتابة " القصيدة الواحدة التي نقرؤها كل صباح منذ عشر سنين بمئات الأسماء " مما أغرق " الشعر الحديث"في نمطية أشد انحطاطاً من نمطية القصيدة الكلاسيكية التي كانت تحميها عناصر تقيها صعوبتها ، على الأقل ، من سهولة اللعب الشائعة في هذه الأيام " (21).
وبهذا المعنى ، لم تعد تشكل قصيدة هذا المظهر التجديدي " إضافة " إلى العملية الشعرية الإبداعية ، بل " صارت تراكماً "(22).
وطالما أن الإنتصار لقضايا التجديد والحداثة الشعريين الغربيين مرتبط بمنظومة المفاهيم والتصورات والرؤى التي يقدمانها كفعل إبداعي جمالي يمتلك قوانينه الخصوصية التي تشكل مهاد حركيته وتطوره ، فإن هذا الشكل المقدم من التجريب ، مدعياً التجديد والحداثة وملتبساً عليهما ، يحولهما إلى " مرادفين للعدمية ، وللثورة المضادة أحياناً ، حيث لا يصبح هنالك معنى للأشياء ، واللغة ، والتضحية ، والعمل، و لا معنى للمعنى في الشعر . معنى الشعر هو اللامعنى ، لأن المعاني ، كما تقول هذا الحداثة ، مفاهيم قديمة بالية ، كالفصاحة ذاتها التي استبدلت بالركاكة " (23).
وفق هذه النظرة ، لا يمكن العناية بهذا المظهر المقدم من ممارسة تجريبية لا طائل منها خارج اعتباره نوعاً من " المثابرة المنهجية على تدمير الشعر العربي ، والتي تتغذى من اجتهادات التنظير لما ليس شعراً كنموذج للحداثة الشعرية " (24).
ونقيضاً لذلك يتبنى مقترح ضرورة دفاع الشاعر عن الشعر باعتباره " أحد تجليات روح الأمة وانتصاراً لكيانه ومصيره " ، طالما أن " الدفاع عن قيم الشعر العربي ، وفاعليته ، ووضوح رسالته ، هو شكل من أشكال الدفاع عن روح الأمة ووجودها الثقافي " (25).
لكن هذه الرؤية بما تجسده من " محاولة لتبرئة الشعر الحديث من تهمة الإنحلال العام " (26) لا تنهض ، ولا يمكن فهمها ، على حامل الدعوة للنكوص إلى النموذج الشعري القديم ، القبلي ، القائم على نظرية عمود الشعر التي تجاوزتها تيارات التجديد والحداثة ، أو تفكيك المنظومة الفنية التي أصلت لها ، ولا تزال تؤسس لتطويرها ، بقدر ما تشكل رفضاً لنماذج مقدمة تحت طائلة التجديد والحداثة تهدم منجزات حركة الشعر الحديث .
وبهذا ، يتجلى اعتبار " سؤال الشعر " جزءاً من سؤال المسألة الثقافية العربية الراهنة ، والتي هي جزء من سؤال الوضع العربي برمته ( 27) توكيداً لهذه الرؤية ، كما تنبري دعوة " آن لنا أن نعبر لا أن نكتب "(28) إصراراً على الانتصار للشاعرية في ظل حالة هيمنة نماذج تفسدها في الذائقة الجمعية .
ج- تتفجر الممارسة النصية الدرويشية ، بعد تجربة بيروت عام 1982، في مغامرة شعرية كونية ، وتستمد تأملاته وتصوراته حول الشعر وعلاقته بالعالم ، في منظومية خصوصية ، من إيقاعات تجربته الشعرية أساساً ، ومن المراجعة النقدية للعملية الشعرية برمتها .
ولا شك أن هذه المنظومية تحتفظ لذاتها بأهمية متفردة كونها تتجلى عن كلام وروح شعريين شكلا بأثرهما في الوعي والوجدان العربيين عالماً شعرياً يظل جديداً بمقدرته على التجدد الدائم .
في هذه المرحلة تتعمق الرؤيا ، وينجلي مفهوم الإلتزام في امتداداته القصية ، ويتكشف معنى الثورة في الإبداع والإبداع في الثورة لدى درويش .
وهنا أيضاً ، يغدو ربطه لمصيره الوجودي-الإنساني بالشعري- الجمالي أكثر قابلية ودلالة حين يعني الشعر ، بالنسبة إليه ، معادلاً للوجود الذاتي- الموضوعي ، وشكلاً من أشكال استعادة الحق والتوازن في الحياة ، وحماية وطن مفقود بالكلمات من الضياع أو الاندثار أو الغياب .
يتأمل محمود درويش في مغزى تجربته الشعرية :
" ربما يكون تاريخي الشعري هو بناء وطن بالكلمات لأن هذا هو عجزي ، وهذه هي قوتي .أنا لم أسع إلى ذلك ، ولكني أقبل ذلك ، أقبل أن أستخرج من ركام الغياب وجوداً معنوياً يتحقق يتحول إلى قديم . إن أحد التعريفات الأساسية للشعر هو تلك الرغبة التي لن تتحقق ، وعندما تتحقق في القصيدة ، تتجدد الرغبة في قصيدة غير محققة ، لهذا فإنه جنون أن يكون الإنسان شاعراً ، لأنه يبحث عن انتحار دائم ويومي لانهاية له " (29) .
وفق هذا السياق ، يقوم درويش بإحلال رؤاه حول مسألة الشعر والالتزام خلافاً التصورات التي تعاطت معها كفكرة إيديولوجية ثابتة في تحولاتها ، وكذلك حول قضية الثورة في الإبداع والإبداع في الثورة بديلاً عن النظرة الميكانيكية التي قدمتها باعتبارها نموذجاً شعرياً مقدماً ، معزولاً عن حركية الواقع .
وبهذا المعنى ، ليس للشاعر الملتزم ، ولا ينبغي له ، أن يجسد بوقاً لعقيدة إيديولوجية ، وتبعاً ، وخلافاً لنماذج قدمها شعراء التزام ، " لايقدم حلولاً ، ولا يعد بمحطة نهائية " (30) ، ذلك أن " أي حل هو وأد للقصيدة " (31) . كما أن درويش يواصل طرح أسئلته وقلقه وتقديم شعر جديد "بكل ما تعنيه عبارة الشعر الجديد من مسؤوليات " (32) .
وفي مقابل الرؤية التي قدمت تحديداتها للشعر الثوري باعتباره " البعد اللغوي " (33) ، يربط درويش في فهمه للشعر الثوري بين " الجمالية والفعالية " سعياً للإجابة عن سؤال جدوى هذا الشعر . يكتب درويش :
"هناك من ينحاز إلى جمالية الشعر ، وهناك أيضاً فهم بطيء يبحث عن جدوى الشعر . وهو تعارض قديم ، وسوء تفاهم قديم ، لم يستقر على جواب ناجز : الجمالية والفعالية . الشعر لا يكون مجدياً ما لم يكن جميلاً . فهنا بحث عن توازن بين جمالية الشعر وفعاليته . الناس في الأزمات يحتاجون إلى خدمات فورية من القصيدة ، وقد لا يستطيع الشاعر أن يقدمها ، مع أن الشاعر لديه الرغبة في تقديم هذه الخدمات . ولكنه معني ، حتى يظل شاعراً ، بتحقيق هذا التوازن بين الجمالية والفعالية ، ولكن الجمالية قد لا تستجيب للفورية المطلوبة " (34).
هذا التطابق بين الجمالية والفعالية يؤكد إلحاحية الوظيفة الشعرية والإجتماعية معاً . أي أن يكون في وسع القصيدة أن تحقق فعلاً ثورياً في اللغة معادلاً لفاعليتها الثورية في المجتمع ، وبهذا تتحقق معادلة الإبداع في الكلمة والإبداع في الفعل ، وعندها تتجسد فاعلية الكلمة كفعل مبدع .
وطالما أن الكلمة المبدعة تمتلك قابلية أشد على إحداث الفاعلية ، فإنها تقيض لنفسها أن تكون فعلاً ثورياً ، إضافة إلى إحداث فعل الثورة الفنية .
وتأسيساً على هذا ، لا يمكن الاقتراب من مفهوم الشعر الثوري بمعزل عن مفهوم الثورة ، ذلك أن تحقيق فعل ثوري في اللغة كصوغ تعبيري لا يتأتى من تثوير اللغة في الشعر وحده بمعزل عن الصياغات التي تنجزها الثورة في ذات الإنسان ووواقعه .
ووفق هذه الصيغة ، يصر درويش على العلاقة الجدلية بين حركية الثورة في الشعر والواقع ، وحركيتهما في الثورة .
وبهذه الرؤية يقيم علاقة تحاور " مع بعض أنماط التفكير في فهم الأدب داخل الثورة " في مقالته " الثورة في الإبداع والإبداع في الثورة " (35) عام 198، تشكل استخلاصاً لرؤياه :
" هناك أدب تبشيري يأمل أن يكون في خدمة الثورة دون أن يحقق ثورة فنية ، وهناك أيضاً مفهوم يحاول أن يحاصر صلة الأدب بالثورة بدعوى حرية الأدب . أرى أن النظرتين بعيدتان عن الصواب ، فالأدب منحاز إلى الثورة ، ولكن حتى يكون جديراً بها لا بد له من تحقيق التعبير الثوري داخل البنية الفنية . ولهذا لابد من الثورة داخل الإبداع والإبداع داخل الثورة ، لا وضع الإبداع والثورة في حالة تضاد " (36).
:.-الهوامش :
1- أنظر . مجلة الجديد الصادرة في فلسطين المحتلة . عدد حزيران عام 1969 . أعادت مجلة الآداب نشر هذه المقالة في عدد آب 1969.
2-أنظر مجلة الآداب . م س . ص5
3-أنظر . مجلة الأسبوع الأدبي . بيروت . ت . 13-3-1972. ص46
4-أنظر . مجلة الطريق . عددنيسان ص56.
5-أنظر . نفس المصدر . نفس الصفحة . والتوسع أنظر ما تلاها .
6-أنظر . نفس المصدر. ص 60
7-أنظر . مقدمة " عصافير بلا أجنحة " . بيروت . دار العودة . دون تاريخ .
لم نعثر على المقدمة في أعماله الكاملة الصادرة عن دار بيروت في طبعتها الثالثة عشر 1989.
8-أنظر . مجلة الطريق . م س . ص75.
أعمال الشاعر الكاملة تضم هذا الديوان ، مبتدئة به . م س . ص5
9- أنظر . نفس المصدر .ص 57
10-كتبت معظم قصائد هذه المجموعة عام 1969 ، وصدر خلال إقامته في موسكو .
أنظر . الأعمال الكاملة . م س . ص249.
11- أنظر . مجلة الآداب .عدد أيلول . عام 1970. ص4.
12-أنظر . صدى لبنان . حوار منشور مع الشاعر . بيروت . 29-2-1972.ص6.
13- أنظر . نظرية الشعر . 5-مرحلة مجلة شعر.القسم الثاني .منشورات وزارة الثقافة .دمشق 1996.مقالة "أنقذونا من هذا الشعر".ص609.
كان درويش قد نشر هذه المقالة في مجلة الكرمل . العدد السادس . 1982.
14- أنظر . نظرية الشعر . م س. ص609.
15-.أنظر . نفس المصدر. ص607.
16-أنظر.نفس المصدر.ص 609
17-أنظر.نفس المصدر.نفس الصفحة .
18-أنظر . نفس المصدر .ص610.
19-أنظر . نفس المصدر. ص610-611.
20-أنظر.نفس المصدر.ص611.
21- أنظر. نفس المصدر.نفس الصفحة .
22-أنظر.نفس المصدر.ص615.
23-أنظر.نفس المصدر.ص614.
24-أنظر.نفس المصدر.ص612.
25-أنظر.نفس المصدر.نفس الصفحة.
26-أنظر.نفس المصدر.نفس الصفحة.
27-أنظر.نفس المصدر.ص616.
28-أنظر.نفس المصدر.نفس الصفحة.
29-أنظر.مجلة لوتس. عدد65-66.عام 1988.حوار مع محمود درويش.ص254.
30- أنظر. نفس المصدر.ص256.
31- أنظر. نفس المصدر.نفس الصفحة.
23- أنظر. نفس المصدر. 257.
33- أنظر.أدونيس. مقالة "الشعر والثورة" .الهدف. عدد20. تاريخ 6-12-1969.ص18.
أعاد أدونيس نشر المقالة في كتابه " زمن الشعر" .دار العودة.بيروت .ط3. 1983.
وقد ولدت هذه المقالة إثر طغيان الإحتفائية النقدية العربية بقصيدة الشعر المقاوم . وفيها يدعو إلى أن على الشاعر الثوري أن يحقق حالة خلق لغوي معادلاً لما يخلقه الثوري في الواقع.
ولمزيد من التوسع أنظر رد محمد دكروب على مقالة أدونيس هذه ، دفاعاً عن الشعر المقاوم ، في كتابه " الأدب الجديد والثورة " . دار الفارابي.بيروت. 1980.
34 - أنظر. لوتس. م س . ص227.
35-أنظر. إفتتاحية مجلة الكرمل . عدد1. عام 1981.
36- أنظر. لوتس. م س . ص259.
.


ثانياً :
في الممارسة الشعرية :

1- من شاعرية " البيت " إلى شعرية القصيدة :

طويلاً ، بقي البيت الشعري القديم ، المألوف ، بصدره وعجزه ، القائم على نظرية عمود الشعر ، والذي أصطلح عليه لاحقاً النموذج الشعري القديم ، شرطاً زمانياً ومكانياً للشاعرية ، ومعياراً لها .
صحيح أن " تغيراً ما" قد أصاب معماريته القديمة ، بإحداث ما اصطلح عليه تجديدات بما فيها تلك التي أنجزها شعراء المرحلة الرومانسية : خليل مطران ، نموذجاً ، بطرحه مفهوم : العصرية ضد النموذج الشعري القديم ، أو جماعة الديوان بمقترحها : التعبير عن الذات ضد النموذج الشعري القديم ، أو الرابطة القلمية التي جسدت : النبوءة والرؤيا ضد النموذج الشعري القديم ، ، وكذلك جماعة أبوللو التي قدمت : التجريب ضد النموذج الشعري القديم ، لكن هذا التغير ظل ، في شكله ، سطحياً لم يلامس كيان القصيدة العربية ، فبقيت ، جوهرياً ، كما كانت (1) ، حتى أطاحت الثورة الشعرية في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي ، نهائياً ، بنظرية عمود الشعر .
لكن هذه الثورة الشعرية لم تؤسس ، جوهرياً ، على كفاية إحلال " التفعيلة " محل البيت الشعري ، كما يمكن فهم نازك الملائكة في " قضايا الشعر المعاصر " (2) ، أنما ، بدءاً، طمحت " إلى إدخال مفهوم شعري حديث - في مستوى العصر الذي نحن فيه - إلى الأدب العربي "(3).
وبما أن هذا المفهوم نابع ، أصلاً ، من صميم حياتنا وبيئتنا الإجتماعية وتطور حياتنا " ، ومكثف ، أساساً ، في أن الشعر تجربة شخصية ينقلها بشكل فني يناسبها " (4)، فإن هذا الشكل لا يستجيب ، ولا يمكن ذلك ، إلا لفعل " الحرية " باعتباره " ضرورة اقتضاها هذا المفهوم "(5) ، ومختبراً تتجسد فيه ، وتتجلى عنه ، العملية الشعرية ، كلمة وروحاً .
أمر يتيح إبراز دلالة بحث الشاعر الجديد عن شكل جديد كضمانة حيوية تعبيرية باعتباره تمثلاً لروح الشاعر المتوحدة بروح عصره ، ممثثلاً لحساسية عكس التحولات النفسية - الروحية للذات في مرايا عصرها ، وهو بهذا يشكل جزءاً من فعل حداثي معكوس " بانهيار واهتزاز بنية الحياة وتجلياتها الفكرية " ( 6).
وبهذا الرؤية ، يغدو التعاطي مع فرضية " أن يتحرر الشكل من كل قالب مفروض ، وألا يخضع لغير الفن " (7)أحد مبررات وجود القصيدة ، بما هي تجسيد لإيقاعات شعرية دائمة التجدد والخلق في بناء جديد ينمو بتشابك وتفاعل العناصر جميعاً وصوغها علاقات جديدة فيما بينها .
ولأن كل " قصيدة جديدة " تنهض ، مقابل القديمة التي ظلت " صناعة ومعان " ، باعتبارها " تجربة متميزة" (8)، فإن لها " شكلها الخاص" (9)، في حين بقي للقصيدة القديمة عموماً " شكل واحد " يتكرر .
إن مصطلح القصيدة ، كثيراً ، ما كان يتماهى مع مفهوم " البناء " في الأدبيات المعاصرة ، لكنها كانت تعطي لمصطلح " القصيدة " مرتبة المهيمن بدل مصطلح " البيت " الذي كان في النقد القديم مهيمناً (10).
كما يمكن التدليل على مفاهيم أخرى أصبحت مرادفاً دالاً على مصطلح " القصيدة " مثل : " الهيكل" لدى نازك الملائكة (11)، أو " التشكيل" (12) في تعبيرات صلاح عبد الصبور ، ، أو " الوحدة العضوية (13)" في تنظيرات د. خالدة سعيد ، أو " التكوين " (14) في تحديدات سامي مهدي ، وكذلك توصيفات القصيدة ضمن " معمارية الشعر المعاصر "(15) في كتابات عز الدين اسماعيل ، أو توصيفاتها وفق بنائيتها كما في أدبيات كمال خير بك (16) ، باعتبارها مبحثاً عن بيت جديد يقطنه الشاعر الجديد مقابل البيت القديم ، سيقود إلى تصور القصيدة ، ومركزيتها في الوعي الشعري ، ويلح على ممارستها ونقدها كونها " وحدة متماسكة ، حية ، متنوعة " (17) ، في مواجهة القديمة القائمة على وحدة البيت المستقل ، وعلى القافية التي تنظم هذه الوحدة المتكررة " ، وكذلك " تلتمس جماليتها ، بالتالي ، في جمالية البيت المفرد " (18) .
كما أن هيمنة مصطلح القصيدة " ككل لا يتجزأ ، شكلاً ومضموناً " ،سبيل هدم الوعي النظري القديم و التقليدي ، كممارسة نصية أقامت تصوراتها على مسألة الفصل بينهما . لكن أدوات الشعر المعاصر لم تتحرر تماماً من سلطته على بناء القصيدة معاصرة في كثير من نماذجها ، فأحدث " تشققاً في هيكلها ووحدتها " (19) .
وبهذا تسقط كفاية تعاطي شاعر ما مع " الإمكانات التي تقدمها أبحر الشعر العربي الستة عشر للشاعر المعاصر الذي يهمه التعبير عن حياته في حرية وانعتاق " (20) كدلالة على حداثة شعريته ، وأن عاش في العصر الحديث أو في عصر حداثة ، طالما " لم يدرك روح هذا العصر ًْو يستوعبه إبداعياً وجمالياً ، ما لم يرافق الحداثة ويخترقه ، كاشفاً لنا عن أعماقه وأسراره وتجلياته "(21).
وفق هذه الرؤية ، فإن الشكل الشعري لا يوجد مستقلاً بذاته ، بل هو مرتبط " بمستوى وعي العالم وطريقة الاقتراب الجمالي منه " ، وبهذا لا يجب التصدي للشكل الشعري إلا بوصفه تجسيد " موقف رؤيوي من العالم وطريقة في النظر إليه والإقتراب منه " (22).
إن ربط الشكل الشعري ، في الممارسات الشعرية والتنظيرية على القصيدة ، بالتجربة الشعرية ، شكل مقدمة " لإسقاط التجريد وسلطة النموذج " (23) ، وقدمه كفعل وجودي ، دال على القصيدة وعلى تجربة الذات الشعرية ومؤرخ لهما معاً ، لكنه لم يتبلور إلا بإعادة التأمل في منجزات الممارسة الشعرية ، ونكران صيغ البناء الساكن ، الثابت ، القبلي - بكسر القاف وتسكين الباء- ، غير المستجيب لتوترات التجربة الشعرية وحركيتها وأسئلة قلقها الوجودي .
وبهذا المعنى يكون " الشكل الشعري " في حالة " حركة وتغير" ، أي أنه " ولادة مستمرة " . فالشكل الشعري " الحي هو الذي يظل في تغير دائم " (24) ، وبهذا يقيض لذاته أن يشكل عنصراً مصدرياً للشعرية وتأويلاتها .
لكن ، وبما أن الشكل الشعري بهذا يصبح " كيفية وجود " ، أي بناء فني ، و" كيفية تعبير ، أي طريقة " (25) ، فإنه لا يكتسب قابلية ومشروعية ، وبالتالي تمايزا ً عن القديم ، بالضرورة ، في هيكله كنموذج موحد ، مستقل بذاته ، بل " في الروح ، في الحضور الشخصي الجديد الأصيل تعبيراً ورؤيا" (26) .
وتأصيلاً على ذلك ، فإن الشكل الشعري يخلق بذاته معنى ومبررات وجوده باحتفاظه لذاته طاقة الإضافة ، فضلاً عن طاقة الإفتراق . وعندئذ يتجلى بوصفه أصلاً ًْو عنصراً فاعلاً في العملية الإبداعية ، لا شرطاً أولياً لها ، ومعياراً .
وهكذا يقترح الشكل الشعري ، بما هو تجاوز وتعبير ، ويتشكل ، بما هو فعل إبداعي ، متمثلاً في " حركة القصيدة وطريقة تكونها وعلاقة أجزائها ببعضها ، والأصوات الداخلية فيها ، ثم صورها وطبيعة الصور وأبعادها ، وتراكب هذه الصور ..." (27)، لا ممثلاً بالوزن والقافية فحسب .
إن نفي " إمكانية وجود النماذج " يعني تبني " مبدأ الإبداع المتكامل ، أي إبداع الشكل والمضمون ، وهذا يفترض توحد الشكل والمضمون توحداً تاماً أو ما يسمى الكتابة الشعرية " (28) .
وبهذا يصبح لزاماً إعلان إحلال نظرية " عمود القصيدة " بدلا ً من نظرية " عمود الشعر " (29) .
مع هذه الرؤية ، تتخلى الشاعرية عن مواجهة الشكل باعتباره قالباً ، وتتوحد معه بما هو فضاء شعري خصوصي ، مفتوح ..
روح متعدد في واحد ، وواحد في متعدد .
1-أ:
شكلت القصيدة - الفضاء ، كوحدة نصية ، بيتاً حراً ، حيوياً ، للذات الشاعرة ، ودلالة لشعريته .
كما جسد تحصنها برفض الامتثال للنموذج ، أي نموذج قديمه أو حديثه ، وبكلية وحدتها شكلاً ومضموناً ، ضرورة للتصدي لها بوصفها " عالماً شخصياً ، خاصاً " (30)مبدعاً بما هو تجاوز وتعبير مستمران .
هذه المفهومية اعتبرت مهاداً حراً ، حيوياً للممارسة النقدية ، على اختلاف أدواتها ورؤاها ، في إعادة بناء النص الشعري ، واشتقاق قوانينه الخاصة .
نحيل ، مثالاً ، إلى دراسات ثلاث أنجزت ، بآليات وفترات مختلفة نسبياً ، عالجت ، وتأسيساً على هذه الرؤية ، نصوصاً شعرية ثلاثة وصفت بالمركبة أو الشاملة (31) ، كقصيدة " أنشودة المطر" (32) لبدر شاكر السياب ، والتي اعتبرت أولى القصائد الجديدة ، في الشعر العربي الحديث ، المتمثلة في هذا النمط ، لتمتعها بحساسية قائمة على مزج مفاهيم من التراث الشعري العربي القديم بمفهوم القصيدة الطويلة الغربية ( 33) ، أو القصيدة الكلية ( 34)والتي تقاربها قصيدة أدونيس " هذا هو اسمي " ( 35) حيث " تبطل أن تكون لحظة انفعالية لكي تصبح لحظة كونية تتداخل فيها مختلف الأنواع التعبيرية نثراً ًْو وزناً ، بثاً وحواراً ، غناء وملحمة وقصة ، والتي تتعامل فيها بالتالي حدوس الفلسفة والعلم والدين (36)، أو القصيدة الدرامية الملحمية ، متجلية في قصيدة محمود درويش " سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا " (37) ، وهذه القصائد ، مثالاً ، تتقاطع في انتمائها لمفهوم القصيدة الطويلة التي أطلقها السياب ، واعتبرها " أنسب شكل للتعبير عن طبيعة الحياة العصرية المعقدة ، الحاملة للصراع " ( 38).
1-أ-1:
يلاحظ أحمد يوسف داوود في قراءته لقصيدة " سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا " لمحمود درويش أنها تحتفظ لذاتها بما وصفه " البناء الدرامي المتكامل " (39) . فالشاعر يبرز بعد - بضم البلء- القضية الفلسطينية - الموضوعي عبر الحدث - الفردي ( سرحان بشارة سرحان ، الفلسطيني الذي اغتال روبرت كندي أثناء حملته الداعية لدعم اسرائيل ) ، كي يستمد منها العناصر الملحمية لهذا البناء الشعري (40) ، كما أنه يستخدم " لغة شفافة وبسيطة إلى حد محاكاتها للحديث العادي " إمعاناً في زيادة التوتر ، ولكنها عميقة لأنها " تخلق علاقات جديدة بين الألفاظ دون تحذلق أو ابتذال ، وذلك عائد إلى حيوية التصوير وطبيعته ، إضافة إلى تعميق هذا العالم اللغوي بإدخال " أساليب : السرد التاريخي ، المونولوج الداخلي ، الوصف الخارجي لردود فعل البطل ، الحوار .. " (41)
كما أن " التصوير في القصيدة مركب ، وتنامي دلالات الصور مطرد ، لا يمكن إسقاط أية صورة جزئية منه دون الإخلال بالتوتر الشعوري الذي تفرضه القصيدة على قارئها ، وبالغاية التي ترمي إليها . فالصور ذات علاقات متوترة تستدعيها العبارات والمعاني وبنية النص " (42).
وتتحقق في القصيدة وضعية رفض اعتبار الإيقاع ( أو التفعيلة ) شرطاً قبلياً -بفتح القاف وتسكين الباء- ، ذلك أن " العبارات هي التي فرضت نوعية الموسيقا " (43) ، فهي " تتكاثف مع العبارة والصور لخلق الوحدة البنيوية في القصيدة ، بحيث يمكننا أن نقول : إن ثمة تلاحماً عضوياً حقيقياً بين الشكل والمضمون " (44) .
واستخلاصاً ، ثمة وشائج موحدة في تعاطي الممارسة النقدية مع القصيدة - الفضاء ، يمكنني استنطاقها بالتالي :
أ: التخلي عن مساءلة الشكل بمعزل عن المضمون ، وهذا مقيض على نفي أولوية العنصر الشكلي ، كنموذج قبلي ، مسبق ، أولي ، شرطي .
ب- أسبقية القصيدة - الفضاء على البيت الشعري - القالب ، ووحدة وتكامل بنائها : إدماغ الشكل والمضمون ، الذات والعالم ، التجربة والرؤيا والتعبير بشمولية .
ج-الإصرار على اللغة أو الجملة الشعرية مقابل اللفظة ، وعلى الصورة الشعرية بديلاً عن التشبيه أو الوصف ، وحركيتهما في البناء الشعري ، وتخليهما عن المألوف ، وتحولهما إلى رمز-عالم .
د-التداخل النصي .
1-ب:
بناء بيت شعري جديد الذي تمثل بالقصيدة الجديدة ، كمطلب للشاعر ، يتشابك مع نزعة تحقيق شخصية تجسد حضوره .
إن توصيف هذا الشكل التعبيري الجديد باللانموذج ، وتحصنه بحساسية التجدد الدائم يشكل استجابة لتوترات الفعل التعبيري الحر الذي طمح إليه الشاعر من جهة ، ولاضطرابات فعل التوتر الداخلي الذي مورس عليه نتيجة لانكسار الصورة المطلقة للإنسان والعالم في وعيه -المتمثلة بالنموذج القديم من جهة أخرى .
وبهذا المعنى ، فإن تحولات الشكل الشعري الجديد مبررة بتفجرات معاناة الذات الشاعرة إزاء خلق صورة خصوصية ، جديدة للإنسان والعالم ، وعلاقة مماثلة معهما . كما أن طبيعة هذا البناء ، كفضاء، تشكل دلالة على هذه الإشكالية .
إن احتضان الشاعر المعاصر للقصيدة الطويلة ، فضاء تعبيرياً جديداً ، ليس مرهوناً ، على طريقة الشاعر التقليدي ، بممارسة مظهر إعجازي ، بل بكونها بناء معقد التراكيب تتواشج فيه التجربة بعناصر الأسطورة والرمز والموروث .. تشكيلاً لرؤيا تكثف روح العصر ، بتفاعلاته وتجلياته .
وتأصيلاً على هذه الرؤية ، ينبغي التفريق ، مثالاً لا حصراً ، بين قصيدة من نمط " الذي يأتي ولا يأتي " (45) لعبد الوهاب البياتي (1929-1999) الطويلة في حجمها بمقاطع متكررة المعاني يغني أحدهما عن الآخر (46) ، وبين قصيدة أدونيس " أغاني مهيار الدمشقي " (47) المكونة من قصائد قصيرة بعناوين متفردة ، لكنها تشكل معمارية عضوية يؤسس كل منها بعداً خصوصياً في كينونة القصيدة بناء ورؤيا ، أو قصيدة " تلك صورتها وهذا انتحار العاشق " (48) لمحمود درويش حيث تتفجر العناصر الشعرية في تعددية توحدها الحركة الداخلية للإيقاع المتنامي للبناء - الفضاء الذي يبدو تماسكه خارجياً مكوكباً حول الوحدة الإيقاعية التي تقنع - بضم التاء وتشديد وكسر الياء - الذات والرؤيا والعالم الشعري المصاغ (49).
إذن ، وخلافاً للقصيدة العمودية القديمة المؤيدة بتصورات قٓ-;-بليّة ( وقوف على أطلال ، وصف راحلة ، حنين إلى حبيب غائب .. الخ ، أو تنويعات تحاكي ذلك كله في القصيدة التقليدية ) ، وأدوات مسبقة ( وزن ، قافية .. الخ ) تحدد جهة وطبيعة النية التعبيرية ، فإن القصيدة الجديدة تتحلل مما يخضعها لما هو منجز - بفتح الجيم - ، أو مرئي ، حتى وإن كان حديثاً فو يحيلها إلى قديمة ، مرئية طالما أتم فعل إنجازها ، وتظل في حالة اكتشاف لماهيتها في عملية خلقها .
وبهذا يتجلى البناء النصي في حساسية خصوصية تواترات العلاقة بين الشكل والمضمون المندمجين في مختبر هذه العملية ، وهذا ما يحسم دلالة معمارية القصيدة (50) طويلة كانت أم قصيرة (51) ويبرر اعتناق رؤية أن " القصيدة تخلق شكلها الذي تريده كالنهر يخلق مجراه " (52).
إن " وحدة العاطفة . أو تطور العاطفة في اتجاه واحد " ، أو " الخيط الشعوري الواحد " ..لا تكفي لتحديد تمايز معمارية القصيدة القصيرة المعاصرة عن التقليدية (53) ، لاحتفاظ الأخيرة بذات الروح وبأشكال متلونة ، فهو خاضع لذات الشرطية بين حدي الشكل والمضمون ، ولأدوات التكنيك الشعري .
لكن القصيدة القصيرة ، في بعض نماذج كثير من الشعراء المعاصرين ، بقيت تقارب بنية البيت الشعري القديم (54) ، وتتشكل بذات الروح التي أنتجته .
فيما هذه الاستثناءات دالة على نص استثنائي ، مخالف للمألوف ، متجدد وجديد أبداً :
1- يعانق قاتله كي يفوز برحمته : هل ستغضب مني إذا ما نجوت ؟
2- أخي .. يا أخي ! ما صنعت لتغتالني ؟ . فوقنا طائرات فصوّب إلى
3-فوق ! . أطلق جحيمك أبعد مني .. تعال إلى كوخ أمي لتطبخ من أجلك
4- الفول .. ماذا تقول ؟ وماذا تقول ؟ مللت عناقي ورائحني . هل تعبت ٓ-;- من
5- الخوف في ّ؟ إذن ، إرم ِ هذا المسدّس في النهر ! ماذا تقول ؟ .. عدوّ على
6- ضفّة النهر صوّب رشّاشه في اتجاه العناق ؟ إذن ، أطلق النار في اتجاه العدو ّ لننجو
7- معاً من رصاص العدوّ ، وتنجو من الإثم . ماذا تقول ؟ ستقتلني كي يعود
8- العدو ّ إلى بيته / بيتنا وتعود إلى لعبة الكهف ، ماذا صنعت َ للقهوة أمي
9- وأمك ؟ ماذا جنيت ُ لتغتالني يا أخي . لن أحل ّ وثاق العناق
10- ولن أتركك (55) .
يتحرر جسد هذا النص الشعري ، نهائياً ، من شكل وصورة البيت الشعري الإعتيادي ، القديم المألوف والحديث المعاصر ، ليبني مكانه فضاء دلالياً ، يتفرد بإيقاعات الكتابة الجديدة ،
هكذا تنصهر عناصر الكتابة في نسيج ممتلئ يجسدهاً بيتاً واحداً ، ويؤهلها للاحتفاظ لذاتها بما اصطلح عليه " الشكل القوي " ( 56) ، حيث يتضافر العنصران البنائيان ، الصوتي والمعنوي ، ويعملان في اتجاه واحد تحقيقاً لنيّة تعبيرية .
هنا يضحي العنصر الصوتي ( تفعيلة فعولن ) بمزايا الإنشاد ليصبح مغامرة لها وظيفة صيغة تجانسية في النص الشعري .
لكن ثمة عناصر مكونّة توحي بقراءة جديدة : اعتصام الكلام الشعري ّ بحركات التشكيل ، كما نشر النص في الديوان ، إضفاء لقيمة نحوية وجمالية ، والمحافظة على علامات الترقيم لما لها من مكانة في البناء النصي ّ على المستوى الدلالي ّ والعروضي ّ (57) .
بدءاً، هل يمثّل عنوان القصيدة " يعانق قاتله " صيغة تدوينيّة ، خاصة أن درويش يحمّل عناوين قصائد ديوانه " ورد أقلّ " كلها المفردات الأولى من البيت الأول ؟
بهذا ، يقترح الشاعر عنوان نصه فضاء أولياً للقراءة ، رافضاً أن يكون اسم القصيدة ، كما هو المعتاد ، مؤول ببعد فهرسي ، أو تدوينيّ .
ألم يكن بمقدوره أن يصوغ جسد قصيدته وفق صورة المألوف :
يعانق قاتله كي يفوز برحمته
:هل ستغضب مني كثيراً إذا ما نجوت ؟
أخي ، يا أخي !
ما صنعت لتغتالني ؟
..إلخ .. ويحافظ على تقاليد القراءة المعهودة للبيت الشعري المعاصر ؟
لا بد أن احتضان الشاعر لما اصطلح على تسميته " سيكيولوجيا الشكل " (58) تكفّلت يصوغ جسد النص على هذه الهيئة توحداً لعناصره .
إن الفاعل في جملة " يعانق قاتله كي يفوز برحمته " ، المقدّر بالضمير " هو " يظل مقنّعا ً في النص ، وينهي حضوره ، نحوياً ًْو معنوياً ، مع خاتمة الجملة التي تحمل في طياتها ضميراً متصلاً في محل جر بالإضافة بعد كلمتي " قاتل " و " رحمة " يحيل إليه .
يقودك النص لوصف جملته الشعرية بالسردية ، يتقنع خطابها بصوت الراوي ، كما يحوز تقسيمها وفق حساسية " الإبداء والإخبار " حيث يشغل حرف التعليل " كي " دور الوسيط بين جزأيها.
لكن النية هذه تتلاشى في النص بانتهاء الجملة ، ويتخذ القول الشعري شكلاً آخر بعد النقطتين : . وكأن الراوي ينشئ خبراً . هنا يرث الفاعل المقدر بالضمير " هو " الفعل " يعانق " دلالات ِ " أنا " الشاعر في الخطاب الشعري ، مكثفاً وكاشفاً فعله في الجملة الشعرية الأخيرة : " لن أحلّ العناق ولن أتركك ! " .
ينبني النص الشعري بعد النقطتين المفيدتين القول على أساس حواري ، لكنه حوار غير متكافئ ، حيث يغيّب القول ُ الشعري صوت القاتل / الأخ مكتفياً للتدليل عليه بجملة " ماذا تقول ؟" ، مردداً إجاباته .
من الطبيعي أن يكون حوار القاتل والضحية غير متكافئ ، إنما لمصلحة القاتل ، لكن صوت المقتول المؤجّل في النص ، أي أنا الشاعر ، تتقنع به ، وتغيّبه إلى حين .
إن البنية السردية مجسدة بخطاب الراوي ، والبناء الحواري ّ المتصاعد دراميّاً ، وتعدّد الأفعال ، تحيل النص إلى بنية درامية مسرحية ، وهذا بالضبط ما حرض الشاعر على بناء النص بشكل تعبيري ، مضحيّاً بحساسية الإنشاد واستقلالية البيت على أساس صوتي .
وبهذا ، يفيض جسد النص على الورقة موحٓ-;-داً ومتعدداً في آن ، معلناً تخليه عن تحكم التفعيلة في رسم حدود الكلمات ، ورفضه لوضعية القراءة المعهودة .
لقد أصبح من عادات القراءة تشييع البيت الشعري ببياض يلي آخر كلمة فيه ، ويعلن استقلاله بانتقال الخطاب الشعري إلى بيت لاحق آخر . فهل وقفة البياض في السطر/ البيت التاسع بعد كلمة " العناق " تستدرج هذه العادة ؟أم أنها وقفة مبتغاها إثارة تأمل العين القارئة للفعل التعبيري ، خاصة أن كلمة العناق المشبعة صوتياً تحيل إلى فعل يعانق في مفتتح القصيدة ؟
وما معنى إهمال الشاعر علامة الترقيم ( الفاصلة ) بعدها ؟ هل يحتل ّ البياض كوقفة هذه المكانة الدلالية ؟ .
إنها وقفة ممتلئة بقيمة صوتية ودلالية إذن ، لكن هل يمتثل ما بعدها لحساسية إخبارية على اعتبار أن ما قبلها يمتثل لحساسية إبدائية ؟
إن بنية النص الدرامية تتحلل ، نهائياً ، من حساسية الإبداء والإخبار في البيت القديم ، ومثل هذا التحلل مهّد لبناء فضاء شعري جديد ، ما تزال اختراقاته تتواصل ، وتشكل أهم ملامح القصيدة الجديدة .

الهوامش :
1- أنظر . أدونيس . زمن الشعر . م س . ص 13
وكذلك . نظرية الشعر . م س . ص 253.
2- أنظر . نازك الملائكة . قضايا الشعر المعاصر . ط1. دار العلم للملايين . بيروت . 1962. ص63 وما تلاها .
3-أنظر . يوسف الخال . نظرية الشعر . م س . ص433
أو أنظر المقالة منشورة في مجلة شعر . سنة 6. عدد 24 . خريف 1962 .
4-أنظر . نفس المصدر . ص434.
5- أنظر . نفس المصدر. ص433.
6- أنظر . فاضل العزاوي . نظرية الشعر . م س . ص654.
المقالة ذاتها منشورة في مجلة الناقد . عدد 68 . شباط 1994 .
7- أنظؤ . أدونيس . زمن الشعر . م س . ص15.
المقالة ذاتها منشورة في مجلة شعر كما قدمنا
8- أنظر . المصدر نفسه . ص 39 .
كذلك . نظرية الشعر . م س . ص257
9-أنظر نفس المصدر . نفس الصفحة .
1- 0-. محمد بتيس . الشعر المعاصر . ج 3 . دار توبقال . المغرب . ط2. 1996. ص69.
11- أنظر . نازك الملائكة . قضايا الشعر المعاصر . م س . ص226.
12- أنظر . صلاح عبد الصبور . حياتي في الشعر . دار العودة . بيروت . 1969. ص19.
13- أنظر .للتوسع . د خالدة سعيد . حركية الإبداع . دار الفكر . بيروت . ط 3. 1986
14-أنظر . سامي مهدي . نظرية الشعر . م س . ص868.
15- أنظر . عز الدين اسماعيل . الشعر العربي المعاصر . قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية . دار العودة . بيروت . ط 2 . 1972. ص238 ومايليها .
16- أنظر . كمال خير بك . حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر . المشرق للطباعة والنشر والتوزيع . بيروت . 1982. ص349وماتلاها
17- أنظر . أدونيس . زمن الشعر . م س . ص39
أو مجلة شعر .عدد21. م س . ص95.
18- نفس المصدر . نفس الصفحة .
19- نفس المصدر . نفس الصفحة .
20- نازك الملائكة . قضايا الشعر المعاصر . م س . ص19.
21- أنظر . فاضل العزاوي . نظرية الشعر . م س . ص625.
22- المصدر نفسه . ص 640
23-أنظر . خالدة سعيد . مجلة قضايا وشهادات . الحداثة (2). عدد2.شتاء1991. ص 69.
24- أنظر أدونيس . نظرية الشعر . م س . ص 798.
25- أنظر أدونيس . نظرية الشعر . م س . ص 14.
26- نظر أدونيس . نظرية الشعر . م س . ص 798.
27- أنظر . خالدة سعيد . نظرية الشعر . م س . ص273.
28- أنظر . خالدة سعيد . حركية الإبداع . م س . ص92.
29- أنظر . نفس المصدر . نفس الصفحة
30- أنظر . أدونيس . مقدمة للشعر العربي . دار العودة . بيروت . ط2 . 1983. ص100.
31- أنظر . إلياس خوري . دراسات في نقد الشعر . دار ابن رشد . ط2 . بيروت . 1981. ص 28.
32- أنظر . ديوان بدر شاكر السياب . دار العودة . بيروت . 1971. ص474.
33- أنظر . إلياس خوري . دراسات في نقد الشعر . م س . ص29.
34- أنظر . أدونيس. مقدمة للشعر العربي . م س . ص117.
35- أنظر . أدونيس . الأعمال الشعرية الكاملة . دار العودة . بيروت . المجلد الثاني . بيروت . 1971. القصيدة
36- أنظر . أدونيس . مقدمة للشعر العربي . م س . ص117.
37-أنظر . ديوان محمود درويش . دار العودة . بيروت . ط13. 1989. ص 145.
38-أنظر . عيسى بلاطة . بدر شاكر السياب . دار النهار للنشر . بيروت 1978. ط2 . ص445.
39-أنظر . أحمد يوسف داوود . لغة الشعر . منشورات وزارة الثقافة . دمشق . 1980. ص202.
40-أنظر . نفس المصدر . نفس الصفحة .
41-أنظر . نفس المصدر. نفس الصفحة .
42-أنظر . نفس المصدر . ص 204.
43- أنظر . نفس المصدر . ص 205.
44- نفس المصدر . نفس الصفحة .
45- أنظر . عبد الوهاب البياتي . الذي يأتي ولا يأتي . دار الآداب . بيروت . 1966.
46- أنظر . د. غالي شكري . شعرنا الحديث إلى أين ؟.ط1. دار الآفاق . بيروت .1968. ص95.
47-أنظر . أدونيس . الأعمال الشعرية الكاملة . م س . ج1. ص319
48-أنظر . للمزيد
Al Al-shar’ . A analytical study of the adopts ion poet. Alshar all. An analytical study of the adonsisian poet. Pp 182,195
49- أنظر . محمود درويش . الأعمال الشعرية الكاملة . م س . ص547
50- أنظر . للمزيد . إلياس خوري . الذاكرة المفقودة . مؤسسة الأبحاث العربية . بيروت . 1982. ص39 وما تلاها .
50- أنظر .
Herbert Read, From in modern poetry. London 1984. P.66
51-أنظر . عز الدين اسماعيل . الشعر العربي المعاصر ، قضاياه الفنية والمعنوية . م س . ص238 وما تلاها .
52-أنظر . أدونيس . مقدمة الشعر العربي . م س . ص116.
53- أنظر . عز الدين اسماعيل . الشعر العربي المعاصر . م س . ص25.
54- أنظر . للمزيد. د. علي الشرع . بنية القصيدة القصيرة في شعر أدونيس. دراسة . منشورات اتحاد الكتاب العرب . دمشق. 1987. ص59 وما تلاها .
55- أنظر . محمود درويش . ورد أقل . دار العودة . بيروت . 1993. ط6. ص33.
56- أنظر . جان كوهين . بنية اللغة الشعرية . ترجمة محمد الولي ومحمد العمري . دار توبقال . الدار البيضاء . المغرب . ط1. 1986. ص56.
57- أنظر . محمد بنيس. الشعر العربي المعاصر . م س . ص120.
وكذلك للتوسع أنظر . جان كوهين . بنية اللغ الشعرية . م س . فصل المستوى الصوتي . النظم . ص51.
58- أنظر . المصدر نفسه . ص56.


2- من شاعرية التفعيلة إلى شعرية الإيقاع :
إحلال مفهوم " الإيقاع " بدل " التفعيلة " ، في الممارسة التنظيرية ، قدّم اعتباره عنصراً دالّاً في الممارسة الشعرية على كونه تصوّراً قَبْلِيّاً .
بهذا تحلّلت الممارسة الشعرية من تداعيات مشروع قوننة الشعر المعاصر ، وضبطه على أساس عروضي ، كما تبنّته نازك الملائكة تيمّنا ً بالفراهيدي (1) ، بوصفه " يتناول الشكل الموسيقي للقصيدة ، ويتعلق بعدد التفعيلات في الشطر ، ويُعنى بترتيب الأشطر والقوافي " (2) ، تجري انتقالاته " وفق قانون عروضي يتحكم فيه " (3) ، ويقوم على " وحدة التفعيلة " (4) .
انهدام هذه النظرة مْبتدٍئ ٌ بتشريع امتلاك الشاعر " أوزانه الخاصة " (5) ، واستجابة حركتها إلى مقتضيات بنية القصيدة ونظامها الخصوصي ( 6) .
فطالما أن الشعر نفاذ " إلى نواة الحياة البشرية " (7) ، والتحام بحقيقة العصر ، فإن على إيقاعه " أن يُحيي نبض الوجود كما يحيي نبض الدم إيقاع القلب " (8) ً، ويتمثل " الإحساس بجوهر متموج لا يُدرك إدراكاً كلياً ًْو نهائياً هو جوهر عصرنا الحاضر " (9) .
وبهذا ، فإن هيمنة " الإيقاع " مبرّرة بضرورات فعل الخلق الإبداعي ذاته ، وتعميق تصوّر القصيدة الجديدة عملية ً لا تستند إلى معايير متواضع عليها في خلق ذاتها .
فطالما أن أسبقية " القصيدة " على " البيت " ألغت إمكانيّة التماس جماليتها في جماليته كعنصر مفرد مستقل بذاته ، وقدّمت إمكانية جديدة لتلمّس إدراك جمالية الشكل الجديد باعتباره وحدة حية متماسكة (10) تتعامل دوالّها بخصوصية تواترات عملية الخلق الإبداعي ّ، فإنها أطاحت نهائياً بتصوّر التفعيلة الدالَّ الأكبر في القصيدة الجديدة ، والمعيار الحاسم المحدِّد لهويّتها وتاريخها .
فكما أن أسبقية القصيدة لا تكفي البيت بوصفه جزءاً من خطاب مكتمل ، لكنها لا تتبنّاه بوصفه عنصراً قٓ-;-بليّاً ، و لا تقدمه باعتباره كتلة مستقلّة بذاتها لها جماليتها المفردة ، فإن أسبقية الإيقاع لا تلغي التفعيلة كعنصر دال ّ يبني في تفاعله مع العناصر الأخرى الخطاب ، لكنها لا تتعاطى معها كوحدة قَبليّة لها وضعيّتها وتصوّراتها المسبقة .
إن الإيقاع ، كدال ّ، يبني الخطاب ولا ينفصل عنه ، مادام " تنظيماً لكل من المعنى والذات عبر حركيتهما في الخطاب " (11) ، وتجاوزٓ-;- التفعيلة لبناء الإيقاع في الخطاب يجسده كبناء يخترق العلافة الأوليّة لعناصره الدالّة ، بما يمكّن الذات من كتابة تاريخها دون تصورات محددة ، ما دام " مجهولاً " من قبلها ، و " ليست هي المتحكمة فيه " (12) ، ويجعل مقابلة الإيقاع للبحر الشعري ّ بوصفه أوسع وأكثر حركيّة وتمثلاً لتواترات الذات الشاعرة عبوراً إلى اعتبار القصيدة شكلاً خاصاً من أشكال الخطاب له سماته اللغوية الخاصة (13) .
ووفق هذه الرؤية، فالإيقاع فعل حركي ّ في تكوّنات الفضاء الشعري ّ وتحقّقه ، فهو " ابتكار " أيضاً ككل ّ عناصر العملية الإبداعية ، لأنه " نابع من الداخل " (14) النصي ّ في مختبرها ، ويشكّل شاعريته باحتضانه لعناصر النسيج الكلي ّ ، بحيويّته غير المنضبطة إلا بتواترات الذات الكاتبة الصاعدة إلى مستقر ّ حرّ ، ولهذا تكاد تصعب قوننَتُه ، وإن كان يمكن ملاحظة ودراسة أهم نماذجه المهيمنة .
1- صباح الخير يا ماجدْ
2- صباح الخير والإبيض ْ
3-قم ِ اشرب ْ قهوتي ، وانهض ْ
4- فإن جنازتي وصلت ، وروما كالمسدّس
5- كل ّ أرض الله روما ، يا غريب الدار ، يا لحماً يغطّي الواجهات ِ، وسادةَ
6- الكلمات ِ ، يا لحم الفلسطيني ّ ، يا خبز المسيح الصلب ، يا قربان حوض الأبيض
7- المتوسّط .. اختصر ِ الطريق عليك يا لحم الفلسطيني ّ ، يا سجادة َ الوثني ّ،
8- يا كهف الحضارات القديمة، يا خيام الحاكم البدوي ّ، يا درع الفقير ويا زكاة
9- المليونير ، ويا مزاداً زاد من طلبات هذي السوق ، يا حلم الفلسطيني ّ في
10- الطرقات ِ ، يا نهراً من الأجساد في واحدْ
11- تجمّعْ ، وأجمع الساعد ْ (15)
ثمة علاقة مع الإيقاع ، بطرائق خصوصية تتحكم بها خصوصية الممارسة الشعرية للذات الشاعرة ، باعتباره دالّاً في بناء الفضاء الشعري ّ وغير معزول عن صورة الخطاب الشعري ومعناه ، وهذا ما مكّن ، إضافة إلى تضافر العناصر الشعرية الأخرى ، من جديّة الإنتقال إلى وحدة القصيدة بكونها بيتاً حرّاً يتوحّد فيه الصوت والمعنى .
إن تباين أشكال البناء الإيقاعي في القصيدة الجديدة يستجيب لرؤيا أسبقية القصيدة على العناصر المكونّة لها ، بما فيها الإيقاع ، في الممارسة الشعرية . هكذا يصبح الإيقاع أيضاً عنصراً يتقدم ، مع الدوال ّ الأخرى في المختبر الشعري ، ابتغاء تأسيس فعل إبداعي ّ حرّ يؤسَس مع ولادة القصيدة ويتكشف بصورتها اللانهائية ، طالما أنه لا يخضع ، ويرفض هذا ، لقياس قَبلي .
لكن أسبقية القصيدة لا يلغي ، بالضرورة ، وحدة الإيقاع ، بل يلغي التعامل معه كوحدة مستقلة ، قَبليّة تتحكم في صوغ الذات الشاعرة ، وتحديد هويتها وحرية ممارستها .
وفق هذه الصيغة ، لا تقبل الذات الشاعرة على الإيقاع بوصفه معياراً يمارس عليها وعياً نظريّاً سلطوياً مسبقاً ، ولا تتقبّله في ممارستها الشعرية كونه مقياساً أولياً لانسجامها .
هكذا يتم إعلان القطيعة نهائياً مع البيت القديم الذي ظل حريصاً على توافقه ما استطاع مع الأداة الوزنية مما أخضعه إلى حد كبير لصورة يستقل ّ بها صوتياً ودلالياً ، وأوقفه على قافية تتضافر فيها هاتان الدلالتان .
إن القافية في القصيدة الجديدة ليست منشغلة في تحديد نهاية البيت ، وإن كانت لا تنفي ذلك ، بل توظف ذاتها باعتبارها جزءاً من طبيعة اللغة الشعرية ، بما هي تجاوز لمهمة استدعاء ٍ صوتيّ محض : بهذه الذائقيّة تتمتع القافية في المقطع الدرويشي ، المستقى من قصيدة " الحوار الأخير في روما " المهداة إلى الشهيد " ماجد أبي شرار" ، وإن بدت ظاهرياً تنهي وحدات إيقاعية متساوية ( تفعيلتي مفاعلتن ) في الأبيات ( 1، 2،3، و 11) ، بينما لا تلتزم بهذا في البيت (10) ، وتتجلى في بداية وخاتمة المقطع الذي يبني مكانه/جسده بأبيات شعرية مخالفة للمألوف .
لكن جسد النصّ الشعري ّ ينبني بحساسية إيقاعية داخلية خصوصية قائمة على توقيع يمارسه كلام شعري بنهايات متشابهة ، ويحيل إلى إيقاعات ، أو توقيعات أو قافية ، داخلية ( الواجهات ، الكلمات ، الحضارات ، طلبات ، الطرقات ، والفلسطيني ّ - مكررة ثلاث مرات - ، الوثني ، البدوي ، ووسادة ، سجادة ) ، إضافة إلى كلام بقياسات متساوية ( لحم ، خبز ، كهف ، درع ) ، مما يعلن عن تشكيل إيقاعي ّ مؤسّس على وحدات صوتية ، أو صوتيّة و نحوية ، يشكل حركيته الداخلية وفق تواترات خاصة ، متفردة .
لكن هذه الوحدات ( الكلمات ، الفلسطيني ّ، الوثني ّ، البدوي ، الطرقات ) تُشبع إيقاعياً ب " يا " النداء التي تشكل عنصراً صوتياً ودلالياً جوهرياً في البناء . إلا أن ياء النداء ( المكررة 12 مرة ) تحيل إلى المنادى أبداً " ماجد" -الاسم الأوّل الذي يمنح الخطاب تحوّلات تعدد النص الشعري ّ واتساعه ، وتبيح له اختراق ذاته دلالياً ، وهي إحدى مزايا القصيدة الجديدة لدى درويش ، بشكل عام .
كما أن تكرار جملة " صباح الخير " وكلمة " روما" الصوتي والدلالي يصر ّ على إيحاءاتهما في الفضاء النصي ّ . فالتصبيح على المنادى المفرد : ماجد / المتعدد الفلسطيني ّ إصرار على رفض الإنصياع للموت ، وليكن أن مشهد الجنازة التي وصلت يخص ّ الشاعر ( وفي هذا إحالة إلى التوحد مع ماجد / رمز وصورة الفلسطيني ّ المتحوّلة والدائرة ، ذلك أن جسد الأرض جميعاً مختزل في روما - المسدّس المصوّب إلى الرأس / الفلسطيني ّلاغتياله ) .
بهذا فإن التداخل النصي ّ ، وهجرة النص ّ يتعددان باتساع تحوّلات الإيقاع الشعري نفسه ، يتجاوز الزمان بصيرورة الرؤيا التي تحاور أبدية المخاطب أو المخاطب الأبدي ّ ، وتتجاوز المكان / الحدث المكثّف في جسد المخاطب / ماجد إلى الآخر / نهر الإجساد في واحد ، الجاري أبداً في الخطاب الشعري ّ .
إن حركيّة الإيقاع ، كخاصيّة بنائيّة تفضي إلى التعامل مع مبدأ البناء الشعري ّ باعتباره " ليس سكونياً، (17) . وبهذا يتجاوز الإيقاع نشاطيته المعهودة القائمة على استثارة نظام أصوات اجتذابي ّ(18) ، أو إطرابي ّ ينشغل بتطهير حدود الوحدة الصوتية ( أو البيت ) إلى خلق قابلية خصوصية تتيح له الإنتشار في الذات الكاتبة والقارئة معاً .
الهوامش :
1- أنظر . نازك الملائكة . قضايا الشعر المعاصر . م س . ص 95.
2- أنظر . نفس المصدر . ص 67.
3- أنظر . نفس المصدر . ص 74.
4- أنظر . نفس المصدر . ص 78.
5-. أنظر . نظرية الشعر . م س .ص135
رد رئيف الخوري على استفتاء الشعر العربي بين التقييد والتحرير . استفتاء مجلة الآداب . سنة أولى . عدد 8 . آب . 1953
6- أنظر . نفس المصدر . ص138.
رد د. عبد القادر القط على الإستفتاء نفسه
7- أنظر . نفس المصدر . ص314 .
أو مجلة الآداب . سنة 9 . عدد 5 . آذار . 1961. مقالة ماجد الحكواتي " مفاهيم الشعر والأصالة لدى الشاعر الحديث ".
8- أنظر . نفس المصدر . ص238 .
مقالة رينيه حبشي " الشعر في معركة الوجود " .
أو في مجلة شعر . السنة الأولى . العدد الأول . عام 1957.
9-أنظر . د. غالي شكري . شعرنا إلى أين ؟ . م س . ص 110.
10- أنظر . أدونيس. م س . ص357.
11- أنظر . محمد بنيس . الشعر العربي الحديث . الشعر المعاصر . م س . ص105.
12- أنظر .Henri Mesconnic. Critique du rhythms.op.cit.p.225
يورده محمد بنيس .نفس المصدر . نفس الصفحة .
13- أنظر . جان إيف تادييه . النقد الأدبي في القرن العشرين . ت. د. قاسم مقداد . منشورات وزارة الثقافة . دمشق . 1993. ص26 .
14- أنظر محمد بنيس . الشعر العربي الحديث . الشعر المعاصر . م س . فصل النص وبناء الإيقاع . ص 105.
وللتوسع ، كذلك أنظر . كمال أبو ديب . في البنية الإيقاعية للشعر العربي . دار العلم للملايين . بيروت . 1974.
وكمال أبو ديب . بنية التجلي والخفاء . نحو قوانين بنيوية لتطوير الإيقاع الشعري . ظواهر في الشعر الحديث . دار العلم للملايين . بيروت . 1979.
15- أنظر . محمود درويش . حصار لمدائح البحر . دار العودة . بيروت 1985. ص73 .
.

3- من شاعرية الكلمة إلى شعرية اللغة :
مبدأ الحريّة الذي قاد الممارسة الشعرية إلى تعطيل اعتبار الإيقاع خاصيّة تلتصق بالعنصر العروضي ، أو بالتوقيع الصوتي ّللحروف ، أو بقياس الكلمة ، أو تناسبها وانتظامها في النسق الشعري بشكل منفصل ، مكّن من رفض التعامل مع الكلمة كوحدة مستقلة باعتبارها أساس العملية الشعرية ، كما تبدّى في التقاليد الكلاسيكية ، وحرّض على إطلاق دعوات تقضي بخلق لغة جديدة بإبطال الأشكال السائدة للعلاقات بين كلماتها ، بما فيها القواعد المركبّة لها .
ما يعني أن تقدّم الممارسة الشعرية الجديدة ، كما اقترحنا في الفصل السابق ، الإيقاع ٓ-;- عنصراً نابعاً من طبيعة لغة الزمن الشعري ، يتجلّى فيها ويشكّل أحد صورها ومعانيها .
وبما أن لغة الخطاب الشعري ٌ منتظمة بعلاقات خصوصية غايتها أداء رسالة خصوصية ، فإن الإيقاع يؤكّد فاعليته من كونه ، أولاً ، عنصراً دالّاً يجسّد في ذاته أداة انسجام عناصر هذا الخطاب ، ذلك أن الإيقاع الجمالي ٌ للكلمات في لغة الشعر كامن ، بدئياً ، في حساسيتها المستمدّة ، أصلاً ، من تلويناتها ، وأشكال توحدّها ، ودرجات تمغنط كلّ منها في مدار جارتيها .. الخ .
إن صور الإنفعالات البشرية ، والصور الطبيعية ، والأفكار ، إذا جُرّدت ، ذات طبيعة محددة ، لكنها تتحوّل إلى نوعية في اللحظة الشعرية ، حيث يٌقبض على مدارك التعبير عنها كوقائع ، أو ظواهر ، أو هواجس . كما أن إعادة هذه الإنفعالات ، أو الصور، أو الأفكار ، في لغة شعرية ما يتحدّد بمقدار قوّة و حيويٌة الكلمات التي تحدّد بدورها شكل و وتيرة التعبير . وهذا ما سيخلق نوع هذه اللغة ، وبالتالي معاناة الكلمة في النص ، حيث أنها لا تشفع له إذا لم تجسّد مزايا ورموز هذه المعاناة في فعل التلقّي .
لا شك ان إدراك أهمية وخطورة التعاطي مع الكلمة أحد أسرار العبقرية الشعرية ، لكنها - أي الكلمة - ، وبصورتها المجرّدة ، لا تعني أكثر من ذاتها ،. ولهذا فإن عليها أن تنتقل ، في المختبر الشعري ، من اصطلاحيتها المعجميٌة إلى دلالاتها الرمزية ذات الظلال المتعددة ، مما يمنحها طاقة أكثر غنى ومن وظيفتها المتراكمة في الوعي والذاكرة ، وهذا ما يفسح للقاموس الشعري أن يخلق مجالاً حيوياً لحركية وتعددية قصيّتين .
إن " ضرورة التعبير " التي ساقت نازك الملائكة " إلى اكتشاف الشعر الحر " ، كما قدّمت ، ذاتها التي قادتها إلى افتراض مستقبلي ّ يتمثّل في أن ينجز الشاعر المعاصر " تغييراً جوهرياً على القاموس اللفظي المستعمل في عصره ، فيترك استعمال طائفة كبيرة من الألفاظ التي كانت مستعملة في القرن المنصرم ، ويدخل مكانها ألفاظاً جديدة لم تكن مستعملة " (1) .
تجعل الملائكة ، إذن ، تجديد الكلام الشعري ّ من أولويات القصيدة الحديثة ، الأمر الذي يحيل ، ثانية ، إلى الكشف عن عناصر لغوية تتمثٌل روح العصر ، وتُجنّب اللغة من الالتصاق بصورتها المجرّدة .
لكن ّمجرد إبدال ألفاظ منصرمة ، أو قديمة ، أو مألوفة ، بأخرى لا يعني ، بالضرورة ، فعلاً شعرياً حداثياً . ما يعيد إلى الأذهان ممارسة شعراء ما اصطلح عليها " العصريّة " الذين أدخلوا كلمات عصرية كالكهرباء والبخار وغيرها ، فيما ظلوا محتفظين بالكلام الشعري ّ القديم ألفاظاً وعلاقات ٍ وُبنى .
كما اعتبر بدر شاكر السياب أن الاهتمام باللفظة من " بين الأشياء التي يؤكد عليها الشعر الحديث " ، لا تعني أن " الشعراء القدامى لم يكونوا يحسنون استعمال الألفاظ " ، بل يقود إلى " أن على الشاعر الحديث الذي خلّف له الأوائل إرثاً هائلاً من الألفاظ التي رثّت لكثرة ما تداولتها الألسن والأقلام ، مكلّف بأن يعيد إليها اعتبارها ، أن يخلع عليها جِدّة وينفخ فيها من روح الشباب " ما دام " لكل ّ لفظة تاريخ يختلف من لغة إلى لغة ، ولها كيان خاص ّ يستمد ّ ألوانه من ذلك التاريخ ومن استعمال الشاعر لها " (2) .
لكن ، وطالما أن الكلمات ، بتجريديّتها ، رموز أشياء ، فإنها في اللحظة الشعرية تصبح شيئاً رمزياً أو رامزاً ، أي أن المفردة في النص الشعري ّتضطرنا للانتقال حسّاً ووعياً ، بعلاقتها مع الكلمات التي تؤلف الخطاب ، إلى التعامل مع كتلة رموز . وهذا ما يشكّل شكل اللغة ومادتها ، وهي تُسيّر المعنى وتشحنه بطاقات موجهّة ، خاصة أننا نسائل اللغة في الشعر ، لا الأفكار .
إن حركة الكلمة كامنة في قدرتها على تعميم ذاتها في أفق دلالي ّ أكثر اتساعاً من معناها المعجمي ّ المحنّط من خلال حركيٌتها في سياق تكوينها في الخطاب ، وهي إذا شاركت بفعاليّة ونشاطيّة تنتقل إلى مدار آخر في الذاكرة حسيّاً وذهنياً .
وطالما اقترح أدونيس التعبير الشعري " على اعتبار أنه " جزء من الحالات النفسيّة والشعورية " ، و" التعبير " ، أصلاً ، " لغة " ، فاإنها - أي اللغة - " كائن حي ّ يتجدّد بتجدّد هذه الحالات . وإذا كان الشعر الجديد يعبر عن نفسه تعبيراً جديداً ، فإن هذا يعني أن له لغة متميزة ، خاصة . يتضح ذلك إذا عرفنا أن مسألة التعبير الشعري ّ مسألة انفعال وحساسيّة وتوتر ، لا مسألة نحو وقواعد . ويعود جمالية اللغة في الشعر إلى نظام المفردات وعلاقاتها ، بعضها بالبعض الآخر ، وهو نظام لا يتحكّم به النحو ، بل الإنفعال أو التجربة ، ومن هنا كانت لغة الشعر لغة إيحاءات على نقيض اللغة العامة ، أو لغة العلم التي هي لغة تحديدات " ( 3).
وفق هذه الرؤية ، لا يتجلى موقف أدونيس متفقاً مع استنباط لغة شعرية مؤسسة على معجم الكلام الحياتي ّ المتجدد ، حين يصرّ على وظيفتها الإيحائية من جهة ، ومن جهة أخرى يتظهّر رافضاً للغة العاميّة ، كمادة تعبيرية شعرية ، تخترق ما سمي جدار اللغة ليوسف الخال .
وهكذا ، فإن ملاحقة تصوّرات ممارسي الفعل الشعري ّ لأشكال تكوّن اللغة الشعريّة في المختبر الشعري ّ يطرح في جوهره تصوراتهم لطبيعة ووظيفة اللغة الشعرية ذاتها ، ووظيفتها التعبيرية .
فيما ، يوحّد محمود درويش في مقترحه للغة بين الفعاليتين : الجمالية والحياتية ، حيث تتقدم اللغة الشعرية بوصفها عنصر الرؤيا الشعرية التي تشكل العالمين : الشعري / الجمالي والواقعي / الوجودي ، بوصفها لقاء بين البعدين : الزمني / التاريخ ، والكوني / الأبدي .
3-أ:
يتداخل ، كثيرا ً، مفهوم الممارسة الشعرية ، في تصورات ممارسي الفعل الشعري ، بالوظيفة التعبيرية ، وربما طال هذا التشابك مفهوم التجربة الشعرية ، ودور الشاعر نفسه .
إن إلحاح مبدعي ومنظري الشعر المعاصر على اللغة الشعرية كقضية محورية جعلها الدالّ الأكبر والأساس على تحولات عناصر مختبر الممارسة الشعرية وتفاعلاتها ، وتجلياتها ، انطلاقاً من ، وتكثيفاًل ، رؤية خصوصية للإنسان والعالم .
3-ب: تتبدى الوظيفة التعبيرية للغة الشعرية في الممارسة الشعرية الدرويشية ، وهي تجسّد حضورها ربطاً للجمالي ّ بالوجودي ّ، تظل مُجتذَبة لمسارات متحركة تتكشف علائقها من نظامها الشعريّ انسجاماً مع التطوّر الكلي ّ لعناصر الرؤيا الشعريّة ( 4).
وتأسيساً ، فإن إعادة تشكيل الواقع (5) - حتى في حالات صمته ، حين يصبح هذا الواقع ،كتجربة بيروت مثلاً ، " الكتابة الإبداعية المثيرة " نفسها ، أو كتابة الزمن في لقائه مع الكونيّ مخاضاً لتجربة شعرية مُعمّقة تتيح " لقاء ثقافة شاملة " (6) يتكثّف فيها التجلّي الإنساني ّ ، تتقدم في فضاء متجدد ، متطور ، مؤسس على بناء " علاقة مع التاريخ واللغة والآخر " (7).
وهكذا ، فإن ملامسة محمود درويش لوضعيّة اللغة الشعرية تُلغي إجمالها بوصفها بنية ً منعزلة عن عناصر الفعل الشعري ّ برمتّه ، وكأن ّ تأمله في تصوّر اللغة الشعرية ينتقل إلى مفهوم الخطاب الشعري ّ.
الأرض تكسر قشر بيضاتها وتسبح بيننا
خضراء تحت الغيم ، تأخذ من سماء اللون زينتها
لتسحرنا ، هي الزرقاء والخضراء ، تولد من خرافتها
ومن قرباننا في عيد حنطتها . تعلمّنا فنون البحث عن أسطورة التكوين .
سيدة على إيوانها المائي ّ .
سيدة المديح . صغيرة لا عمر يخدش وجهها . لا ثور
يحملها على قرنيه . تحمل نفسها في نفسها وتنام في أحضانها
هي . لا تودعّنا ولا تستقبل الغرباء . لا تتذكّر الماضي
فلا ماضي لها . هي ذاتها ولذاتها في ذاتها . تحيا فنحيا
حين تحيا حرّة خضراء . لم تركب ْقطاراً واحداً معنا ، ولا جملاً
وطائرة . ولم تفقد وليداً واحداً . لم تبتعدْ ولم تفقد ْ
معادنها . ولم تخسر ْ مفاتنها . هي الخضراء فوق مياهها الزرقاء ( 8).
تكاد اللغة الشعرية في الممارسة الدرويشية ، خاصة في نماذجها الأخيرة ، تقترح ذاتها معادلاً للشكل الشعري ّ برمّته ، إيقاعات ٍ وإشارات و دلالات ومنظومات .. مصرّة على اكتساب نشاطيّة شاعريتها من مقدرتها على الكشف عن علاقاتها المكوّنة لها في تفاعلها مع التكوينات التاريخية والثقافية المجسّدة في ذاتها من جهة ، وفي الآخر حساً ووعياً من جهة أخرى .
وبهذا ، فإنه يتعامل مع اللغة باعتبارها ثابتاً في نظام شعري متحرك ، أي كموروث ذي مقدرة وقابلية على استعادة حيويته عبر تفجير طاقاته بحساسية جديدة تتمثّل إيقاعات شخصيّة العصر وروحه . وهذا ما يشكل مدعاة تبنّي ممارسته الشعرية لصيغة " التعبير الحسي ّ" ، ذلك أن " النص الذي لا تلامس لغته حواس اللمس و الشمّ والذوق هو نص ّيعاني من خلل في الرؤيا الشعرية والتطبيق الشعري " (9) .
هذه الآليّة تجسّد سلطة نصّه الإبداعي حيث تحرف اللغة عن معطياتها وتحرّضها على الالتباس بغوايات دلالية مغايرة ، وبالتالي تحرف الواقع عن صورته من خلال تحويله إلى شبكة عوالم مأسورة بتشكيل شعري ّخصوصي ّ ، حيث يصبح " لا وجود لهذا الواقع خارج التشكيل " (10) المُبدَع .
إن تأسيس وطن للشاعر ولشعبه بالكلام (10) ، أي باللغة ، تشكّل فضاء أولياً لفهم المشروع الجمالي الدرويشي المتصاعد ، و المتجدد .

الهوامش :
1- أنظر . نازك الملائكة . مقدمة " شظايا ورماد " . ديوان نازك الملائكة . دار العودة . بيروت ط2. 1979. ص11.
2- أنظر . خضر الوالي . آراء في الشعر والقصة . مطبعة دار المعرفة . بغداد . 1956. ص22.
3-أنظر . أدونيس . نظرية الشعر . م س . ص358-359
وكذلك . زمن الشعر . م س . ص40.
4- أنظر .الكرمل . عدد 47. تاريخ 1993. ص136 حوار مع الشاعر .
5- أنظر . لوتس . م س . ص254
6- أنظر . محمود درويش . ذاكرة للنسيان . دار توبقال للنشر . الدار البيضاء . 1987. ص46-47
7- انظر . الكرمل . عدد 47. م س . ص125
8- أنظر . نفس المصدر . ص134.
9-أنظر . محمود درويش . أرى ما أريد . م س . ص52
10- أنظر . الكرمل . م س . ص 138.



4- من شاعرية الواقع إلى شعرية الأسطورة :
4-أ:
منذ خمسينات القرن الماضي ، ارتبط مفهوم التجربة بظاهرة الترميز الأسطوري (1) .
فطالما أن مفهوم التجربة عُني بضرورة التعبير ، أساساً، عن الذات في مواجهة طغيان سلطة النموذج ، أو عن الحياتي ّ بدل المجرّد ، فإن الإنشغال بالأسطورة شكّل رحماً لتكريس هذه الرؤية عبر انزياح الشعري ّمن المطلق التاريخي ّ، وبالتالي من المعنى البلاغي ّ إلى التجسيد الصوٓ-;-ري ّ.
إن ترافق تعاطي الشعراء المعاصرين مع الأسطورة باعتبارها سؤال ً" البحث عن الذات وتعيين هوية الذات الحضارية " (2) مع تفاعلهم مع قضية تحديد علاقة هذه الذات بأسئلة الحضور الإنساني ّ ، واستنباط مفاهيم وتصوّرات وقيم جديدة ، جعل معاناة رحلة البحث هذه موصولة بقلق ذي طابع حضاري ّ ، ذلك أنه " قلق تعانيه ذات تبحث عن هويتها الحضارية ، وتفتّش عن قيمها ، المؤقتة والدائمة ، في تلك الحضارة " (3).
لقد شكلت الأسطورة معادلاً للتجربة بما هي عملية بحث متواصل عن الذات الشعرية في أفق مفتوح على التاريخ يؤهّل هذه الذات لتجسيد كلية الذات الإنسانية في حضورها عبر تمثل الأسطورة التجربة ذاتها .
وبهذا المعنى ، تصبح الأسطورة صورة للتجربة بدلالاتها ورموزها وأبعادها .. وليست مجرّد استثمار أسماء أو شخصيات أو استعارات حتى . هكذا ، تتجلى الأسطورة عنصراً دالّاً في النص الشعري ّ يتفاعل مع العناصر الدالّة الأخرى ، ويطلق الذات في مناخات التعدّد الإنساني ٌ.
كما أن تمثّل الأسطورة ظاهرة القلق الحضاري ّتلك زمنَ الفعل الشعري ّالإبداعي ّ نفسه كحالة توتّر وصدام ، بحث واكتشاف ، خلق وولوج في المستقبل .. قدّم الصورة الأسطورية على التأمل في المطلق ، ومهّد لنهوض مفاهيم جديدة في اللغة الشعرية مثل الإيحاء (3) ، أو السحر والإشارة (4) ، أو الغموض (5) ، أو القناع (6) ، أو لغة الكشف (7) ، أو التأويل (8) ، أو لغة لا تُسِمّي (9) ، وغيرها باعتبارها جزءاً من الرؤيا الشعرية ، وأحد أشكال أسرارها ، وخصائص مكوّنة لمفهوم الشعر الجديد .
إذن ، فحضور التجربة أسّس لتأمّل عناصر اللغة الشعريّة (10) بحثاً عن دلالات تعبيريّة جديدة كثّفها الترميز الأسطوري ّ ، وأبرزها في مدارها التاريخي ّ- الإنساني ّ.
إن تصاعد الإقتراب من الدلالة الإسطوذية بوصفها أكثر عمقاً من استخدام رمزي ّ- استعاري ّ أطلق التعبير في فضاءات جديدة ، أصبحت معه الأسطورة صورة لجسد النص الكلي ّ.
4-1جأ:
قصيدة درويش الجديدة ، سيما في نماذجها المتأخرة ، تلاقي الأسطورة بالتاريخ . ذلك أنها لا تستجلب الأسطورة منعزلة عن سياقاتها ودلالاتها المتوالدة في دورة التاريخ اللانهائيّة . إنها تنبثق باعتبارها أحد تجليات الذاكرة والوعي الإنسانيين ، لكنها تتحرك في امتدادات الفعل التاريخي ّ- الإنساني ّ.
وتأصيلاً على هذه الرؤية ، تُستقدم الأسطورة رمزاً ودلالات ٍ .. لتساهم في تشكيل زمن شعري ّ يُعاد بناؤه برؤى جديدة تلتحم بإيقاعات الواقع ، وتُطلق في فضاءات مفتوحة على حركة التاريخ برمّته . بهذا ، تتفرّد القصيدة الدرويشية الجديدة ، وتتعدّد ، مجسّدة حالة شعريّة خصوصيّة تنقل " الواقع إلى مستوى الأسطورة .. وتزجّ بالأسطورة في تفاصيل الواقع " . أي أنها - نقصد القصيدة الدرويشية - " أسطورة للواقع ، وواقعية للأسطورة " (11) .
لقد انشغلت قصيدة درويش الجديدة ، ومنذ تجليّاتها الأولى ، بأسطرة التجربة الوجوديّة الفلسطينيّة ، وإعطائها بعداً ملحميّاً ينقل تراجيدياها إلى مصاف التراجيديات الكبرى في التاريخ الإنساني ّ . كما أن نيّة تحرّك ِ قصيدته في فضاءات " المثلّت الفرعوني ّ، البابلي ّ، الكنعاني ّ" (12)شكّلت منظوراً جديداً لإطلاق الزمن الخصوصي ّ إلى مدارات الزمن الكوني ّ.
وبهذه الرؤية ، تتكشّف قصيدة درويش الجديدة عن شخوص وحيوات ودلالات مكانيّة لها ملامح أسطوريّة . إن شخصية " راشد حسين " في قصيدة " كان ما سوف يكون " ( 13) ، أو " أحمد العربي ّ" في قصيدة " أحمد الزعتر " ( ، أو " سرحان بشارة سرحان " في " سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا " (15) ، أو " عز الدين القلق " في " الحوار الأخير في باريس " (16) ، مثالاً لا حصراً ، تصوغ أسطورتها في تناقضها التراجيدي ّ مع جسد الموت المقيم في فضاء تسكنه روح الحياة ، وتجسّد صدامها التراجيدي ّ مع جسد الموت المحيق عبر كتابة روح الحياة باختراقها الفجائعي ّ له . وتتمثّل في هذه الشخصيّات أبعادها الأسطوريّة حين تصبح تناقضات الموت والحياة مسرحاً داخليّاً لها من جهة ، ولحركيّتها في التاريخ من جهة أخرى .
وهذا كله أيضاً أجد مزايا القصيدة الدرويشية الجديدة ، ومآثرها .
وكان صديقي يطير
ويلعب مثل الفراشة حول دم
ظنه زهرةً
كان مستسلماً
للعيون التي حفظت ظلّه
وكان يرى ما تراه العيون التي حفظت ظله
كان مزدحماً
بالأزقّة والذاهبين إلى السجن والسينما
بالليالي التي امتلأت بالليالي
وباللغة الفاسدة ْ

وكان يودّعني كلما جاءني ضاحكاً
ويراني وراء جنازته
فيطل ّ من النعش :
هل تؤمن الآن أنهم ُ يقتلون بلا سبب ٍ ؟
قلت ُ: من هُمْ
فقال : الذين إذا شاهدوا حلماً
أعدّوا له القبر والزهر والشاهدة (17)
أسطرة الذات عبر تجاور وتناقض عنصري الموت والحياة كإيقاع داخلي ّ لحركتها في الفعل التاريخي ّ ، كما تبنيها القصيدة الدرويشية الجديدة ، يستكمل ملامح مسرحه التراجيدي ّ في صراعه الخصوصي ّ، الملحمي ّهذا في مضامين رؤيوية متعددة . منها ، مثالاً لا حصراً :
أ- أسطرة الرموز الطبيعية بتقديسها وأنسنتها ، وأسطرة الهزيمة بغنائها وجعلها عذاباً إنسانياً مسيحياً ، كما يتبلور خاصة في مجموعتي " هي أغنية ، هي أغنية " (18) ، و " ورد أقل ّ" (19) . حيث يتجلى بوضوح الإنشغال بكتابة زمن الذات الأسطوريّة الخصوصيّة في الزمن الكوني ّ عبر صياغتها برؤى تتشابك فيها أسطورة الذات بأسطورة الجماعة الإنسانية ، مما يجعل منهما أسطورة كونيّة .
على السفح ، أعلى من البحر ، أعلى من السرو ، ناموا
لقد أفرغتهم سماء الحديد من الذكريات ، وطار الحمام ُ
إلى جهة حدّدتها أصابعهم شرق أشلائهم .
أما كان من حقّهم أن يرشّوا على قمر الماء ريحان أسمائهم
وأن يزرعوا في الخنادق نارنجة كي يقل ّ الكلام ُ ؟

ينامون أبعد مما يضيق المدى فوق سفح تحجّر فيه الكلام ُ
ينامون في حجر صك ّ من عظم عنقائهم ..
وفينا من القلب ما يستطيع الوصول قريباً إلى عيد أشيائهم
وفينا من القلب ما يستطيع انتشال الفضاء ليرجع هذا الحمام ُ
إلى أول الأرض . يا أيها النائمون على آخر الأرض فينا ، سلامُ
عليكم .. سلام ُ (20)
ب- خلق عالم الأسطورة الخصوصيّة بعناصر واستعارات ورموز الأسطورة الإنسانيّة عبر تذويب ذاكرة التاريخ الإنساني ّ في الزمن الخصوصي ٌ .
وفق هذه الرؤية ، يجسّد الروايات الإنسانية محاكاة للرواية الخصوصيّة ، مما يدعّم إطلاقها في المدى الكوني ّ نقيضاً للرواية العدوّة التي تسعى لمحوها من ذاكرة التاريخ الإنساني ، ويجعل منها أفقاً لتجلّي الرواية والأسطورة الإنسانيّة ذاتها (21) . هذه الرؤيا ، تتقٌدم بجلاء ، مثالاً لا حصراً ، في مجموعة " أرى ما أريد " (22) ، سيما في قصائد " هدنة مع المغول أمام غابة السنديان " (23) ، و " مأساة النرجس ، ملهاة الفضّة " (24) و " الهدهد " (25) ، وكذلك في مجموعة " أحد عشر كوكباً " (26) ، خاصة في قصائد " خطبة الهندي الأحمر قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض " (27) ، و " حجر كنعاني ّ في البحر الميّت " (28) ، و " سنختار سوفوكليس " (29) .

إِلى أَيْنَ، يَا سَيِّد البِيضِ، تأخُذُ شَعْبي،... وَشَعْبَك?
إِلى أَيِّ هَاوِيَةٍ يَأْخُذُ الأرْضَ هذا الرّوبوتُ الْمُدَجَّجُ بَالطَّائِرات
وَحَامِلَهِ الطَّائراتِ، إِلى أَيِّ هاويةٍ رَحْبَةٍ تَصْعَدون?
لَكُم ما تَشاؤونَ: رُوما الجديدةُ، إِسْبَارْطةُ التكنولوجيا
وأَيديولوجيا الجنون،
ونَحنُ، سَنَهْرُبُ مِنْ زَمَنٍ لَمْ نُهَيِّئْ لَهُ، بَعْدُ، هاجِسَنا
سَنَمضى إِلى وَطَنِ الطَّيْرِ سِرْبًا من الْبَشَرِ السَّابِقين
نُطِلُّ على أَرضِنا مِنْ حَصى أَرْضِنا، مِنْ ثُقوبِ الْغُيوم
نُطِلُّ على أَرْضِنا، مِنْ كَلامِ النُّجُومِ نُطِلُّ على أرضِنا
مِنْ هَواءِ الْبُحَيْراتِ، من زَغَبِ الذُّرَةِ الْهَشِّ، مِن
زَهْرَةِ القَبْرِ، من وَرَقِ الحُورِ، من كُلِّ شيء
يُحاصِرُكم، أَيُّها البِيضُ، مَوْتى يَموتونَ، مَوْتى
يَعِيشونَ، مَوْتى يَعودونَ، مَوْتى يَبوحونَ بالسِّرّ،
فَلْتُمْهِلوا الأَرْضَ حتى تَقولَ الحَقيقةَ، كلَّ الحَقيقة،
عَنكم
وعنّا...
وعنّا
وعنكم! (30) .
ج- أسطرة معاناة المكان تعميقاً لتراجيديا الأسطورة الذاتيّة .
وتبعاً لهذه الرؤية ، تتفشى دلالات المكان/ الأرض في القصيدة الدرويشية الجديدة كعنصر محوري ّ متعدّد ، حامل لرؤيا الرواية الأسطورية الفلسطينيّة ، تتماهى تفاصيله / تفاصيلها من أحجار وأشجار وطيور (31) .. الخ مع الإحساس والوعي بالصراع الملحمي ّ مع الرواية الأخرى ، ويتجلّى / تتجلّى فيهما .
معاناة المكان الخصوصي ّ في قصيدته ، خاصة بعد تجربة الخروج من بيروت ، تُثرى باختزالات دلاليّة مثيرة ، حين تتداخل مع معاناة رموز مكانية أخرى مثل " بيروت " و" الأندلس " أو مدنها مثل " غرناطة " أو " قرطبة " ، وغيرها (32) ، وتفتح الرؤى على دلالات تاريخية متشابكة في فجائيّتها مع تاريخ المكان الخصوصي ّ .
من أين الطريق إلى نوافذ قرطبة
أنا لا أهاجر مرتين
ولا أحبك مرتين
ولا أرى فى البحر غير البحر ..
لكنى أحوّم حول أحلامى ..
وأدعو الأرض جمجمة لروحى المتعبة
وأريد أن أمشى
لأمشى
ثم أسقط فى الطريق
إلى نوافذ قرطبة (33) .
هكذا ، تصبح العودة إلى تاريخ المكان الماضي دخولاً في التاريخ الآني المداهَم بفقدان المكان الخصوصي ّ . وبهذه الرؤيا ، يحضر رمز الأندلس ، مثلاً ، في قصائد متل " اللقاء الأخير في روما " (34) ، أو " قصيدة بيروت " (35) تمكيناً للشحنات دلاليّة تخترق معاني الأسماء والرموز لتوحٌدها في معاناتها مع المكان الخصوصي ّ .
لكن ّ استحضار الدلالات الأندلسيٌة في هكذا نماذج ظلّت تدور في فلك الغنائي ّ ، العاطفي ٌ ولم تكتمل كفضاء يُبنى عليه النص ّ الشعري ٌ كما هو الحال في قصيدة " أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي ٌ" (36) .
تراجيديا المكان الأندلسي ّ الملتبسة مع تراجيديا آخر ملوك غرناطة " أبي عبدالله الصغير " تثوير للتصدّع الذاتي ّ - التاريخي ّ لحظة الخروج من التاريخ ، وتقنّع الشاعر بهذه الشخصيّة التاريخيّة المنكسرة تمثّل ٌ لروح تراجيدي ّ يتماثل فيها الماضي الأندلسي ّ والحاضر العربي ٌ وهي خطيئة الخروج من التاريخ في عصر تملي فيه الرواية التاريخيّة العدوّة أسطورتها .
إن زمن " أبي عبدالله الصغير " الذي سلّم مفاتيح مدينته للملك الأسباني ّ يتشابه والزمن الآني حيث تفرض شروط الآخر في معاهدة سلام تُداهم التاريخ الفلسطيني ّ وتكسر أسطورته ، وهنا يصبح المشترك الزمني ّ تجسيداً لمعاناة المكان في الذات المتصدّعة / الصوت الشعري ّ المتعدّد والمركّب الذي يتداخل فيه الشاعر والشخصية التاريخيّة في توتّر تُمحى فيه حدود الزمن الموضوعي ّ ، وينفتح على تراجيدياه التاريخية بكل ّ أسرارها . كُنْ لِجيتارَتي وَتَراً أَيُّها الْماءُ؛ قَدْ وَصَلَ الْفاتِحون
وَمَضى الْفاتِحون الْقُدامى. مِنَ الصَّعْبِ أَنْ أَتَذَكَّرَ وَجْهي
في الْمَرايا. فَكُنْ أَنْتَ ذاكِرَتي كَيْ أَرى مافَقَدْت...
مَنْ أَنا بَعْدَ الرَّحيلِ الْجَماعِيَّ؟ لي صَخْرَةٌ
تَحْمِلُ اسْمِيَ فَوْقَ هِضابٍ تُطِلُّ على ما مَضى
وانْقَضى...سَبْعُمائَةِ عامٍ تُشَيِّعُني خَلْفَ سُورِ المَدينَة...
عَبَثاً يَسْتَديرُ الزَّمانُ لأُنقِذَ ماضِيَّ مِنْ بُرْهَةٍ
تَلِدُ الآنَ تاريخَ مَنْفايَ فِيَّ... وَفي الآخَرين...

كُنْ لِجيتارَتي وَتَراً أَيُّها الْماءُ, قَدْ وَصَلَ الْفاتِحون
وَمَضى الْفاتِحونَ القُدامى جَنوباً شُعوباً تُرَمِّمُ أَيّامَها
في رُكامِ التَّحَوُّلِ: أَعْرِفُ مَنْ كُنْتُ أَمْس, فَماذا أَكُونْ
في غَدٍ تَحْتَ رَاياتِ كولومبسَ الأَطْلَسِيَّةِ؟ كُنْ وَتَراً
كُنْ لِجيتارَتي وَتَراً أَيُّها الْمَاءُ. لامِصْرَ في مِصْرَ, لا
فاسَ في فاسَ, وَالشّامُ تَنْأَى. لا صَقْرَ في
رايَةِ الأَهْلِ, لانَهْرَ شَرْقَ النَّخيلِ الْمُحاصَرْ
بِخُيولِ الْمَغولِ السَّريعَةِ. في أيِّ أَنْدَلُسٍ أَنْتَهي؟ هاهُنا
أمْ هُناكَ؟ سأَعْرِف أَنّي هَلَكْتُ وأَنّي تَركْتُ هُنا
خَيْرَ مافِيَّ: ماضِيَّ. لَمْ يَبْقَ لي غَيْرُ جيتارتي
كُنْ لِجيتارَتي وَتراً أَيُّها الْماءُ. قَدْ ذَهَبَ الْفاتِحون
وأتى الفاتحون .. (37) .
إن سقوط غرناطة كان تكريساً لاستباحة أسطورة التاريخ العربيّ ، وتأسيس تاريخ آخر على أنقاضه ، ظل فيه العربي ّ ضحيّة أسطوريّة لا تزال تتمسّك بمحاولة الدخول إلى التاريخ الذي بدأ مع المكان الذي انتهى فيه .
وارتباطاً بتراجيديا المكان المؤسطٓ-;-ر شعرياً في قصيدة " خطبة الهندي ّ الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض " المٌداهم بفناء تاريخه لحظة تأسيس الأمريكي لتاريخه بمحو تاريخ الهندي بإبادته ، تصبح أسطرة معاناة المكان الشخصي ّ / الفلسطيني ّتأويلاً للإنساني ّ / الكوني ّ، خاصة وأن سقوط غرناطة ورحلة كولومبوس حدثتا في عام 1492 ، وشكلتا انعطافه جارفة في التاريخ الإنساني ّ،. مما يدلّل على أن احتضان درويش لهذا التاريخ لحظة ٓ-;-كتابة تاريخ جديد لمكانه الخصوصي ّ / أرضه دلالةً على نيّته أسطرة َ المكان / الضحيّة في بعده الكوني ّ .
ووفق هذه الرؤية ، فإن التحليق الأسطوري ّ ، في قصيدتي درويش هاتين ، لمعاناة المكان / الأرض في الحضور التاريخي - الإنساني ّ تقديس ٌ لها باعتبارها حدّاً إلهياً يتعدّى كونه حدوداً في مملكة الخرائط ، أو في علاقة صاحب المكان / الأرض بالآخر دون الحضور الإلهي ّ المقدّس
عالِيَةٌ روحُنا , وَالمْراعي مُقَدَّسَةٌ , وَالنّجومْ
كَلَامٌ يُضيءُ ... إِذا أَنْتَ حَدَّقْتَ فيها قَرَأتَ حكايتَنَا كُلَّها :
وُلِدْنا هُنا بَيْنَ ماءٍ وَنارٍ .. ونُولَدُ ثانيَةٌ في الْغُيومْ
على حافُة السّاحِلِ اللأَزَوَرْدِيِّ بَعْدَ الْقيامَةِ ... عَمَّا قَليلْ
فلا تَقْتُلِ الْعُشْبَ أكْثَرَ , للْعُشْبِ روحٌ يُدافِعُ فينا
عَنِ الرّوحِ في الأَرْضِ/
يا سَيِّدَ الخْيَلِ ! عَلِّمْ حِصانَكَ أَنْ يَعْتَذِرْ
لِروحِ الطَّبيعَةِ عَمَّا صَنَعْتَ بِأَشْجارِنا :
آه ! يا أُخْتِيَ الشَّجرةْ
لَقَدْ عَذَّبوك كَما عَذَّبُوني
فلا تطلبي المْغَْفرَةْ
لحطَّابِ أُمي وأُمكْ ..(38) .

الهوامش:

1- أنظر . د. أسعد رزوق . الأسطورة في الشعر المعاصر . دار مجلة آفاق . بيروت . 1959 . ص25
2- أنظر . نفس المصدر . ص22
3-أنظر . يوسف الخال . الحداثة في الشعر . م س . ص 79
4-أنظر . أدونيس . كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل . المكتبة العصرية . بيروت . ط1 . 1965. ص16
5-أنظر . د. غالي شكري . شعرنا الحديث . م س . ص13
6-أنظر . د . جابر عصفور . أقنعة الشعر المعاصر . مجلة فصول . مجلد 1. عدد4. 1981. ص123.
وكذلك .د. علي جعفر العلاق . الشعر والتلقي . دار الشروق . عمان. 1975. ص105
7- انظر . د. خالدة سعيد . حركية الإبداع . م س . ص14.
8-أنظر . د عبد العزيز بومسهولي . الشعر والتأويل . قراءة في شعر أدونيس . دار إفريقيا للنشر . المغرب . لبنان .1989. ص10.
9-أنظر . محمد بنيس . الشعر العربي الحديث . م س . ص225.
10- أنظر . نفس المصدر . نفس الصفحة وللتوسع ما تلاها .
11--أنظر . مجلة الشعراء . عدد خاص 504. ربيع وصيف 1999. حوار مع الشاعر . ص 19.
13-أنظر . نفس المصدر . ص 38
13- أنظر . ديوان محمود درويش . م س . ص585
14-أنظر. نفس المصدر. ص595
15--أنظر. نفس المصدر. ص 665
16--أنظر . محمود درويش . حصار لمدائح البحر . م س . ص49
17- أنظر. نفس المصدر. ص 54
18-- أنظر . محمود درويش . هي أغنية هي أغنية . دار العودة . بيروت . ط4. 1993.
19- أنظر . محمود درويش . ورد أقل . م س .
20- أنظر . نفس المصدر. ص31
21- أنظر . للتوسع . مجلة الشعراء . م س . مقالة فخري صالح . محمود درويش صناعة الأسطورة الفلسطينية . ص131
22-أنظر . محمود درويش . أرى ما أريد . دار العودة . بيروت . 1993. ط3
23- أنظر . نفس المصدر . ص31
24-أنظر . نفس المصدر . ص47
25-أنظر . نفس المصدر . ص79
26--أنظر . محمود درويش . أحد عشر كوكباً . دار العودة . بيروت . 1993. ط4
27-أنظر . نفس المصدر . ص29
28- أنظر . نفس المصدر . ص47
29-أنظر . نفس المصدر . ص57
30-أنظر . نفس المصدر . ص44-45
31-أنظر . للتوسع . د كامل الصاوي . تراكمات الغياب . م س . ص23 وما تلاها .
32-أنظر . للمزيد . د. علي جعفر العلاق . الشعر والتلقي . م س . ص107 وما تلاها .
33-أنظر . محمود درويش . حصار لمدائح البحر . م س . ص93-94
34-أنظر . نفس المصدر . ص63
35-أنظر . نفس المصدر . ص87
36-أنظر . محمود درويش . أحد عشر كوكباً . م س . ص5
37-أنظر . نفس المصدر . ص22
38-أنظر . نفس المصدر . ص33-34


5- من شاعرية التجريدي ّ إلى شعريّة الحياتي ّ:
5-أ:
منذ خمسينات القرن الماضي ، أيضاً ، تزامنت ظاهرة الاقتراب من الحياتي ّ مع ظاهرة الترميز الأسطوري ّ كأحد تجليّات الإصرار على كتابة التجربة الخصوصيّة .
هذه الروح الباحثة عن كتابة إبداعية جديدة لتجربة الذات الشاعرة مسٌت لحظة الخلق الشعريّة ، كون هاتين الظاهرتين تشتركان في مقاطعة التجريدي ّ المطلق وتجسيد إيقاعات التجربة بالصورة أو الأسطورة بانزياحات جوهرية في الكلمة ، تصورات وعلائق .
إن نهوض تفاصيل ومفردات الحياتي ّ ، وصور وحالات المعيشي ّ ، إلى اللغة استقدم ، لا بد ّ، استبدالاً للعناصر اللغوية المألوفة ، واختراقاً لبُناها المعهودة القائمة على التجريديّة والذهنيّة ، مما خص ّ الكلام الشعري ٌ بطاقات دلاليّة جديدة ، ومكّن الرؤيا الشعرية من ولوج فضاءات مجهولة ، حيويّة ، ومتعددة ، خاصة أن هذا النهوض تعمّق في ملامسة الصوت الشعري ٌ بأبعاده المختلفة ( الأنا ، الآخر /الأنا، نحن .. الخ ) ، والعالم ٓ-;- الشعري ّ بمداراته المتنوعة على صعيد العلاقات بين العناصر الدالّة المتفاعلة و البناء بشكل عام ّ.
ولأن ملاحقة هذه الاتجاهات لا يشكّل مشغلاً لبحثنا هذا ، فإن عنايتنا بنماذج يتكثّف فيها انحسار الموضوعات الكونيّة الكبرى ، وانشغال الرؤيا الشعريّة على عوالمها من أشياء وحالات الحياتي ّ والمعيشي ٌ .
5-ب
يتأمَّلُ أَيَّامَهُ في دخان السجائر،
ينظُرُ في ساعة الجَيْب:
لو أَستطيع لأبطأتُ دَقَّاتها
كي أُؤخِّر نُضْجَ الشعير!...
ويخرج من ذاته مرهقاً نزقاً:
جاء وقتُ الحصادْ
أَلسنابلُ مثقلةٌ، والمناجلُ مهملةٌ، والبلادْ
تَبْعُدُ الآنَ عن بابها النبويِّ.
يُحَدِّثُني صَيْفُ لبنانَ عن عِنَبي في الجنوب
يُحَدِّثُني صَيْفُ لبنانَ عمَّا وراء الطبيعةِ
لكن دربي إلى الله يبدأ
من نَجْمَةٍ في الجنوب...

- هل تُكَلِّمُني يا أَبي؟
- عقدوا هُدْنَةً في جزيرة رودوس ،
يا بني!
- وما شأننا نحن، ما شأننا يا أبي؟
- وانتهى الأمرُ ...
- كم مرّةً ينتهي أَمرُنا يا أَبي؟
- إنتهى الأمر. قاموا بواجبهم:
حاربوا ببنادقَ مكسورةٍ طائرات العدوّ.
وقمنا بواجبنا، وابتعدنا عن الزَنْزَلَخْتِ
لئلاّ نُحرِّكَ قُبَّعَةَ القائد العسكريّ.
وبعنا خواتم زوجاتنا ليصيدوا العصافير
يا ولدي!

- هل سنبقى ، إذاً ، ههنا يا أبي
تحت صفصافة الريح
بين السموات والبحر؟

- يا ولدي! كُلُّ شيء هنا
سوف يُشْبِهُ شيئاً هناك
سنُشْبِهُ أَنفُسَنا في الليالي
ستحرقنا نجمة الشَبَه السرمديَّةُ
يا ولدي!

- يا أَبي ، خفِّف القولَ عَنِّي!
- تركتُ النوافذَ مفتوحةً
لهديل الحمامْ
تركتُ على حافَّة البئر وجهي
تركتُ الكلامْ
على حَبْلهِ فوق حبل الخزانةِ
يحكى ، تركتُ الظلامْ
على ليله يتدثَّرُ صُوفَ انتظاري
تركت الغمامْ
على شجر التين ينشر سِرْوالَهُ
وتركتُ المنامْ
يُجدِّدُ في ذاتِهِ ذاتَهُ
وتركتُ السلام
وحيداً ، هناك على الأرض...

- هل كُنْتَ تحلُمُ في يَقْظتي يا أَبي؟
- قُمْ . سَنَرْجِعُ يا ولدي!(1)
عادة ما تتشابك النماذج الشعرية المؤسسة على حضور الحياتي ّ - المعيشي ّ في مقدرتها على صياغة نسيج نصي ّ مبني ّ على درامية العلاقات بين الأشياء ، أو تفكٌكها ، أو ربطها بين أشياء وعوالم متباينة ، لكنها في القصيدة الدرويشية الجديدة تتقدّم بمقترحات جمالية بكيمياء معاناة الكلمة والروح في توهج جمرة الكشف عن الذات والعالم ، لاكتشافها في ماء الكتابة الجديدة التي تتقدّم فيها حياتهما نحو ضفّة تخرج من رماد الموت مبللّة بأنفاس الأبدية .
إن حساسيّة المفردات العادية ، اليومية تحرّض الصورة على أن تخلع عنها مزايا التجريد والمطلق وتُحيلها إلى جسد مقروء . كما أن نسج هذه المفردات الحياتيّة في صورة مجسّدة تسمو بنكهة الإنساني ّ يرفع حساسيّتها من العادي ّ المألوف إلى مستوى يشحنها بدلالات وإيحاءات جديدة .
فيما تمارس الأشياء العادية ، اليومية ( دخان السجائر ، ساعة الجيب .. الخ ) قابلية صعود المفردات الحياتيّة من عاديّتها للمشاركة في صياغة العلاقات الدراميّة في النص ّ الشعري ٌ بدلالاته التاريخيّة القائمة على إعادة صياغة زمن الذاكرة .
هذه المفردات والأشياء الحياتية ، بما فيها المفرطة في عاديّتها ، تستمد حيويّة ومقدرة على الإدهاش حين تتجسّد في حركيّة صورة مصاغة بإيقاعات زمن الحلم المفتوح على تاريخ يبدأ من حديث الذاكرة الذي يفجّر نبرة الصوغ الحياتي ّ ، مما يجعل الكلام العادي ّ يرتقي بدلالاته وإيحاءاته إلى مستوى الحياة العاديّة ، والإنفتاح على حركيّتها .
5-2
تمثُل القصيدة الجديدة حساسية الاقتراب من روح الحياة ، أشياءً وتفاصيل وحالات ٍ و هواجس..، تجسّدت برؤيا كسر الصورة الكليّة المجردّة للعالم ، وإعادة بنائه بالتقاط حركية مفرداته ، وخلقه بما توحي به توتّرات التجربة ذاتها .
وفق هذه النظرة ، فإن الاتصال بعناصر وجزئيات الحياة ، واختبار تفاعلها في النص ّ ، تبعاً لما تستقدمه الرؤيا ، مكّن من الافتراق عن الأدوات التعليريّة المألوفة المؤسّسة على التجريديّة أو الذهنيّة ، وتشكيل عوالمها الشعريّة بالصورة المجسِّدة لحركية الحياتي ّ- المعاشيّ كما تستحضرها التجربة التي غالباً ما تسقط عن هذه المفردات أبعادها القيميّة ودلالاتها المعهودة .
كما أن كتابة التجربة الغالم ٓ-;- بناء على حركية الأشياء تُشيّئ ُ العالم ، وتسمح في المحصلة بكتابة تحولات الإنسان إلى عالم شيئٍي ّ من خلال إعطاء معانٍ جديدة للأشياء والعالم ، اولاً ، في علاقتهما بالإنسان .

الهوامش :
(1)- أنظر . محمود درويش . لماذا تركت الحصان وحيداً . دار الريس لندن . ط1 . 1991. ص36-37 .

6- من شاعرية الثابت المقدّس إلى شعرية التاريخي المتحوٌل
6-أ:
لقد جوهر ظهور القصيدة الجديدة ، بوصفها فعلاً حداثوياً ، في ذاته انكسار النموذج المسبق المرتبط ، أصلاً ، بمجمل العلاقات والتصورّات التي أنتجته . مما جعلها مجسّدة في ذاتها بدء خلق معايير وقيم جديدة تحرّكت ، في عمقها ، من الصورة الكليٌة المقدمة للعالم القٓ-;-بْلي ٌ المجرّد المقدٌس إلى مرايا الذات المتوتّرة نتيجة اصطدامها بالفعل الحداثوي ٌ المستقبلي ّ ، المتحولّة في حركتها التاريخية ، أو في حركيّتها في التاريخ ، عبر انخراطها و انفتاحها على الزمن الإنسانيّ ، والباحثة عن هويّتها الخصوصيّة في تعلّقها بإيقاعات تجربتها لكتابة تاريخ ذاتها الشعريٌة في أشكال متفردٌة في جمالياتها .
وبهذا أصبح التوتّر ميزة الذات الشعرية الأساسية ، الأمر الذي انعكس في مستويات متعدّدة و أشكال متشابكة على الهويّة ذاتها ، فقدّمها على هيئة متوتّرة ، منشورة ، ومتحوّلة في حركيّتها في آن .
توتّر الذات الشعرية هذه في بحثها عن هويٌتها و انشطارها في ذوات يتمناهبها التناقض والتضاد مهّد ، لا شك ّ ، لتبني الرمز الأسطوري أو القناع أو ابتداع شخصيات تحمل دلالات هذه الذات ورؤاها في صيغها المتعدٌدة والمتناقضة في آن ، وتجسّد مفاهيمها للفعل الحداثوي بما هو لحظة التوتّر ، أي التناقض والتصادم بين البنى السائدة ، وما تتطلبه حركته العميقة التغييريٌة من البنى التي تستجيب لها وتتلاءم معها (1) بصيرورته وتوالداته التاريخية .
إن انكسار الصورة الكلية للعالم القٓ-;-بلي ّ عمٌق توتّر الذات في بحثها عن هويتها الخصوصية باعتبارها إعلان بدء خلق يستند أساساً على التجربة الخاصة التي هي بدء خلق أيضاً مما قاد إلى الانتقال من المقدّس إلى التاريخي ٌ المتحول .
6-2

ما حاجتي للمعرفهْ؟لم ينجُ منِّي طائرٌ أو ساحرٌ أو إمرأهْ
العرش خاتمةُ المطافِ ، ولا ضفافَ لقُوَّتي ومشيئتي قَدَرٌ .
صنعتُ أُلوهتي بيدي ، وآلهةُ القطيع مُزَيَّفهْ
ما حاجتي للمعرفهْ؟
السرُّ في الإنسان،والإنسان سَيِّدُ نفسه وسؤالِهِ
لا علم إلاّ ما يراهُ الآن ،والماضي دموعٌ مُتْرفهْ
ما حاجتي للمعرفهْ؟
أمشي أمامي واثقاً من صولجان خطايَ .
ظلِّي أزرقٌ والناسُ أشجاري وللتاريخ أن يأتي بكُلِّ قضاتِهِ وشهودِهِ ليؤرخوا فرحي بمملكتي وأولادي وسُورَ مدينتي وجلالَ أقنعتي وموتَ الأمسِ فيَّ وفي المؤرِّخ .
ههنا أحيا . هنا أحيا، هنا ما حاجتي للمعرفهْ؟
لا شأن لي بسلالتيكانوا رُعاةً ، أم ملوكاً ، أم عبيدْهذا أنا مَلِكٌ أنا ملك وحيدْوأُحِبُّ امرأتي وأعبدُها وأَلبسُ عُرْيَهاوأشدُّها من كل أطراف الدم الجنسيِّ في دمهاوأُطلقُ صرختي بفحيح حيواناتها الصغرى أُريدكِ مَرَّةً أُخرى، فلا تتحدثي عن زوجكِ الماضي وعن رجل سوايَأنا هنا . وأنا هناوأنا هناوهنا أنا...ما حاجتي للمعرفهْ؟
أنا كائنٌ في ما أكونْوأنا أناماضيَّ سرُّ لا يُؤرِّقني ،سأكمل ما بدأت من الجوابِ لأكملَهْا لا شأن لي بالأسئلةعمَّا مضى ،لا شأن لي ، لا شأنَ لي . وأنا جوابٌ للجوابْ، لا شأن لي في أصل أُمِّيسيَّان ، إن كانت أميرهْأو فقيرهْأنا واحدٌأحَدٌمَلكْما حاجتي للمعرفهْ؟
لم يسألوني مَرَّةً : من أي صُلْبٍ قد أتيت؟لم يسألوني : مَنْ أبوك ومَنْ أخوك ؟ ومن قتلتَ وهل قتلتْ؟لكنهم قالوا : ستثأرٌ للملكْفسألت : من قتل الملكْ؟وسألتُ : من قتل الملكْ؟أنا قاتلُ الملكِ . الملكْ هو والدي المجهول والراحلْوأنا بريءُ من دَمٍ واقفْبيني وبين الله . لم أعرفْ بأني القاتل الجاهل و هل الجريمة أنني قاتلْ أَمْ أَنَّني عارفْ؟!
أنا زوجُ أُمِّيوابنتي أُختيوتختي ، مثل عرشي، أوبئهْيا إمرأهْيا معرفهْما حاجتي لكما ، لماذا لم تموتا مثل موت الآلهة مَنْ أطلق الماضي عليّ كإخطبوط حول روحي التائهةمَنْ دسَّ في خمري سموم المعرفة
ما حاجتي للمعرفة . (2) .
6-3
شكّل توتر الذات الشعرية في جوهره تحولا ً معرفياً تجسد أساساً في الانتقال من صيغة اليقين إلى نبرة السؤال من خلال تهشيم الصورة النهائية للمطلق المقدّم من السلطة الأبوية باتجاه خلق ماهية وجودية جديدة للأنا وللعالم ، وهذا ما عكس بجدارة في سؤال الهوية نكران الانتماء للمعرفة القبلية و ملامسة ماهيتها وكيفيتها .
وتجلّت هذه الثورة المعرفيٌة في بعدها الأساسي ّ في انزياح العلاقة المقدسّة الموروثة باتجاه الإنسان ، أي من التصورات الإلهية المطلقة إلى الإنسانية المتحوّلة بأبعادها التاريخية ، الأمر الذي جعل سؤال المعرفة يقتضي إسقاط النموذج الأولي ّ ، القٓ-;-بلي ، ألقديم وإعادة تصوّر العالم إنطلاقاً من نقيضه الدائم .
هكذا ، يصبح الإنسان لدى درويش مكمن السؤال الوجودي ّ وسيّده ومفتاح المعرفة المفتوح على المستقبل المنفتح من حاضره إلى الأبدية ، نقيضا ً لتصورات الماضي المتمثل في وعيه بكاءمترفاً مذروفاً على أطلال الموروث .
6-4
هذه الرؤيا جعلت الأسطورة المقدمة في القصيدة الجديدة تتخذ دلالة معرفية أيضا ً ، حيث يتجسد الجديد - الميلاد نفياً دائماً للماضي - القديم ، كما يتمثل في رمز " الفينيق " ، مثلاً ، المؤسس ، أصلاً ، على رؤيا الإختراق والولادة ، أو " تموز " حيث تتكون عملية التحول في الصعود من العالم السفلي / الأرض مقابل الهبوط من العالم العلوي / السماء . وهذا ما مكٌن ، في المحصلّة ، الرموز الطبيعية : الماء والنار والهواء والتراب من الهيمنة كعناصر دالّاً في القصيدة الجديدة ( 3)

الهوامش :
1- أنظر . أدونيس. فاتحة لنهايات القرن . دار العودة . بيروت 1981. بيان الحداثة . ص 321 .
2- أنظر . محمود درويش . هي أغنية هي أغنية . م س . ص66-67
3- أنظر . محمد بنيس . الشعر المعاصر . م س . ص218 وما بعدها .

7- من شاعرية الماضوي ّ إلى شعرية اختراق الزمن .

7-1 :
التوتٌر ذاته عمّق تصدّع الذات الشعرية ، بما هي بدء خلق وإبداع أيضاً يتجاوز أو ينقطع عن الذوات الشعرية الماضوية ، في تاريخها ، مما جعل مجرد ميلاد هذه الذات يعني كتابة تاريخها الخاص .
لكن ٌهذا التاريخ لم يكن متصوٌراً بمعزل عن ذاكرة - تاريخ هذه الذات من جهة ، ولم يكن منفصلاً عن حركية ماضي -ذاكرة - التاريخ الجمعي ّ من جهة أخرى .
تصدي هذه لذات لزمن الماضي - الذاكرة التاريخ بغية كتابة تاريخها الخصوصي جسّد وعياً معرفياً ، رؤيوياً لحركيّة التاريخ لحظة كتابة زمنها الخصوصي ٌ ، وإعادة خلقه وإبداعه بما ينسجم مع إيقاعات هذا الزمن الخصوصي .
وبهذا المعنى ، أصبح لكل ذات شعرية مبدعة زمن تاريخها المكتوب من ناحية ، ومن ناحية أخرى زمن تاريخ مخلوق وفق حركية زمن تاريخها المكتوب ذاته .
لقد أمدّت هذه النزعة الشاعرية ٓ-;- العربية بأدوات وإيحاءات خلاقة ، وأطلقتها في مدارات جديدة ، أصبح معها الصوت الشعري متعدداً ومختزناً للتاريخ عبر توحّد دلالاته الخاصة بدلالات التجربة ، أو إبدال دلالات التجربة بالتاريخية عبر استعادة إشاراتها وإسقاطاتها . كما أنه أصبح يكتب الزمن : الماضي ، الذاكرة ، التاريخ بتفاعل المخيّلة الإبداعية مخترقاً تداعياته المنسوجة في أساطير وحكايات وأحلام ورؤى شكّلت في اللحظة الإبداعية صورة ً مكثّفة ً لحالة تصدّع الذات الشعرية ، الأمر الذي يقدّم القصيدة كوناً سحرياً متداخل الرموز والأشكال و المدلولات التاريخية والرؤى المستقبلية ، تتفاعل فيه عناصر مخزون الماضي ، بما فيه المكان ، وكتابة أسطورة المعاناة المعاصرة ، طالما أنهما ، أي المخزون والمعاناة ، يقيمان حواراً مفتوحاً على راهن ومستقبل هذه الذات . كما مهّد اختراق الزمن ، لا شك ّ، لاختراق الكلمة عبر تفجير شحناتها الدالة في الذاكرة ، ومنحها طاقة تعبيرية خلاقة .
7-2:
لقد اتخذ اختراق الزمن الذي أصبح أحد السمات الدالة على القصيدة الجديدة أشكالاً متعدٌدة ، لعل ّ ما يلتقط منها الحنين ُ إلى الذاكرة هروباً من تراجيديا التصدّع ، واستنهاض المكبوت الثقافي ّ تاريخياً ، وتثبيت رمزيّته في الراهن الثقافي ّ المعاصر ، واستنفار القوة الإيحائية لعناصر الزمن التاريخي التي تكثّف تجارب إنسانية ، وإحيائها في الذاكرة المعاصرة مستغلّة طاقاتها الدلالية بوصفها تعبيراً عن التجربة الذاتية التي تجسد في ذاتها عناصر التجربة الجمعيّة .
7-3 :
إلى أين تأخذني يا أبي؟
إلى جهة الريح يا ولدي …
… وهما يخرجان من السهل ، حيث
أقام جنود بونابرت تلاً لرصد
الظلال على سور عكا القديم ـ
يقول أبٌ لابنه: لا تخف. لا
تخفْ من أزيز الرصاص ! التصقْ
بالتراب لتنجو! سننجو ونعلو على
جبل في الشمال ، ونرجع حينَ
يعود الجنود إلى أهلهم في البعيدِ
ـ ومن يسكن البيت من بعدنا
يا أبي ؟
ـ سيبقى على حاله مثلما كان
يا ولدي !
تحسس مفتاحه مثلما يتحسس
أعضاءه ، واطمئن. وقال لهُ
وهما يعبران سياجاً من الشوك :
يا ابني تذكّرْ! هنا صلب الإنجليزُ
أباك على شوك صبارة ليلتين،
ولم يعترف أبداً. سوف تكبر يا
ابني، وتروي لمن يرثون بنادقهم
سيرة الدم فوق الحديدِ …
ـ لماذا تركت الحصان وحيداً؟
ـ لكي يؤنس البيت ، يا ولدي ،
فالبيوت تموت إذا غاب سكانها …
تفتح الأبدية أبوابها من بعيدٍ ،
لسيارة الليل. تعوي ذئاب
البراري على قمر خائف. ويقول
أب لابنه: كن قوياً كجدّك!


واصعد معي تلة السنديان الأخيرة
يا ابني، تذكّر: هنا وقع الانكشاريّ
عن بغلة الحرب ، فاصمد معي
لنعودَ
ـ متى يا أبي ؟
ـ غداً. ربما بعد يومين يا ابني!
وكان غدٌ طائشٌ يمضغ الريح
خلفهما في ليالي الشتاء الطويلة
وكان جنود يهوشع بن نون يبنون
قلعتهم من حجارة بيتهما. وهما
يلهثان على درب (قانا): هنا
مر سيدنا ذات يوم. هنا
جعل الماء خمراً. وقال كلاماً
كثيراً عن الحب، يا ابني تذكّر
غداً. وتذكر قلاعاً صليبية
قضمتها حشائش نيسان بعد
رحيل الجنود …(1)
7-4:
في " لماذا تركت الحصان وحيداً " يتجلّى اختراق الماضي لكتابة تاريخ الذات رؤيا معمّقة تتأمل بوعي ٍ رواية ماضي - تاريخ هذه الذات المكثِّفة في ذاتها الوعي ٓ-;- الجمعي ّ بهذه الرواية ، ، والمتوحّدة ، شأنها شأن ماضيها - تاريخها نفسه ، بمكانها الذي يدل ّ على صوت الروح وأثر الجسد المهدٌد بفعل محو ٍ يقترفه حلول الجسد الآخر / العدو ّ ليكتب روايته الأخرى - تاريخه الآخر .
لكن ٌهذا الاختراق المصاب بالتوتر من حضور لحظة الآخر / الغريب عن رواية الزمن والجغرافيا الخاصٌين معاً ، يروي مروره في جسد رواية الزمن والجغرافيا بما يقلقهما ويفسدهما في آن .
والذات الشاعرة ، وفق هذه الرؤيا ، في كتابتها لسيرتها وتاريخها الخصوصي ٌ ، بما هما تجل ّ للماضي والذاكرة الجمعيٌة ، تخترق الزمن لاستنطاق تفاصيل المكان بما يمكٌن جمالية علاقتهما ، الذات والمكان ، في الماضي وإحلالها في ذاكرة الراهن ، ويعيد ترتيب الزمن لكتابة سيرة وتاريخ المكان ذاته في نبضات الذات المعاصرة لإحالتها في ذاكرة المستقبل .
وهكذا فإن النص ٌ الشعري يتجلى عن استحالة رؤية تجليات الولادة لسيرة الذات والمكان معاً دون دون كتابة إشراقات تاريخ توحدهما في زمن الولادة الأولى القصي ّ في الماضي - الذاكرة - التاريخ .
وبهذا ، فإن ذهاب الذات الدرويشية " نحو السيرة : سيرة المكان حين تحتويه الجغرافيا لكي ينبسط فيه التاريخ ، وسيرة مواقع المكان حين تنقلب إلى محطات للجسد وعلامات للروح ء وتصنع ، بالتالي ، صيغة ملحميّة لسيرة ذاتية كثيفة تتحرك في فضاء ، لا كأي فضاء ، وتمسح الزمان من ارتفاع عين الطير ، ثم تختصر عناصرها في رحلة ارتداد نحو قطب صانع مشارك وضامن هو آدمي تراجيدي ٌ " (2) مؤوّل ، أصلاً ، بالانتصار لكتابة رواية الذات والتأريخ لزمنها في لحظة مداهمة الآخر لرواية ومكان هذه الذات .
كما أن درويش يتحول إلى " كتابة شبه سيرة ذاتية ، إلى توليف عناصر من عيشه الشخصي ّ مع عناصر من التاريخ الفلسطيني ّ الجماعي ، والحكايات والأساطير والاقتباسات القرآنية والتوراتية للتعبير عن الإحساس العميق بالمنفى الجماعي ّ والشخصي ّ" (3) تمثٌلاً لاحتضانه لمشروع جمالي ّ مؤسّس على إنهاض نص ّ شعري ٌ يشكٌل أفقاً إبداعياً في كينونة ثقافية ذات قابلية على صوغ الإحالات و التناص ، وإدخال الثقافات والمرجعيات في حركية تجعل الصوت الشعري ّ يخترق الزمن ويحاوره ويعيد خلقه في آن .
والذات الدرويشية لا تعنى برصد التاريخ ، كوقائع وحكايات ، بالقدر الذي تتأمله ، بوعي رؤيوي ّ، لاقتراح صيغة فنيّة لتحولاته الكبرى الحاضرة في اللحظة الإبداعية ، بلغة تكتب تاريخها الجديد هي أيضاً بصوغ جمالي ّ يتخلّص من الذائع المألوف ، ويفجٌر الشحنات الكامنة في تقنيات السرد والدراما وتداعيات الذاكرة واللاوعي . وبهذا فإنها تتحلّل دفعة واحدة من ثقل الحدث التاريخي ّ وعناء اللغة الشعرية المألوفة .
الهوامش :
1- أنظر . محمود درويش . لماذا تركت الحصان وحيداً . م س . ص32.33
2-أنظر . صبحي حديدي . غلاف لماذا تركت الحصان وحيداً . المصدر نفسه .
3-أنظر . مجلة . شعراء . م س. ص138

فصول من كتاب " الكلمة والروح في الشعرية العربية : السياب ، أدونيس ، درويش ، بنيس مثالاً . مقدمة في علم جمال شعري عربي " ، ويضم رسالة دكتوراه أنجزت عام 1999، ، ومحاضرات في جامعات ومعاهد ومحافل عديدة . الكتاب مترجم إلى الروسية وترجمت منه فصول إلى غيرها .
**أكاديمي وشاعر فلسطيني مقيم في موسكو



#عبدالله_عيسى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من وصايا فوزية العشر
- بابا الأقباط : لن أدخل القدس إلا محررة
- قبل وإبان وبعد حرب غزة . وكلاء - المقاومة - : الجدار العنصري ...
- سميح القاسم : وما ذاك موت
- الحب الضائع
- الاختلاط بين الواقع والهوس
- الحرية الوهم
- خطر الاحزاب الدينية
- الموسيقي والحياة
- أصحاب القوى
- السياسة والمستهلك
- حصاد حماقات الثورة المصرية
- شكل المجتمع والاستبداد
- الثقافة بين التطور والانهيار


المزيد.....




- أحمد عز ومحمد إمام.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وأفضل الأعم ...
- تيلور سويفت تفاجئ الجمهور بألبومها الجديد
- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله عيسى - محمود درويش . شعرية الخلق الجمالي