أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف رزق - شِعريَّةُ قَصِيدَةِ النَّثرِ















المزيد.....



شِعريَّةُ قَصِيدَةِ النَّثرِ


شريف رزق

الحوار المتمدن-العدد: 4711 - 2015 / 2 / 5 - 13:06
المحور: الادب والفن
    


شريف رزق

شِعريَّةُ قَصِيدَةِ النَّثرِ

تَجَلِّيَاتُ مَا بَعْدَ الحَدَاثةِ في فَضَاءِ قَصِيدَةِ النَّثر

لقدْ اسْتَطَاعَتْ قصيدَةُ النَّثرِ أنْ تُؤسِّسَ منطقَهَا الجماليَّ على مُسْتَوَياتٍ مختلفَةٍ، أبرَزُهَا : الإيقاعُ ، بلاغَتُهَا الخاصَّةُ ، الرُّؤيا ، التَّركيزُ على الوَاقعِ المعيشِ وَالأنَا الفَرديَّةِ ، في أشْوَاقِهَا الحقيقيَّةِ الخَاصَّةِ ، وَأثْبَتَتْ أنَّ كُلَّ شيءٍ في الحياةِ صالحٌ أنْ يكونَ مَادةً شِعريَّةً حَيَّةً وَخَصيبَةً ،وَبهذَا تمكَّنَتْ أنْ تَشُقَّ طريقَهَا الخاصَّةَ ، وَأنْ تُشَكِّلَ فَضَاءً جديدًا ؛ تَتَبَدَّى فيْهِ خُصُوصِيَّتُهَا الفَارقَةُ عَبْرَ خُصُوصيَّةِ أبعادِهَا الشِّعريَّةِ المختلِفَةِ ، فباعْتِمَادهَا على إيقاعِ التَّجربةِ ، بتحوُّلاتِهِ الجيَّاشةِ الحرَّةِ ، قامَتْ بفصْلِ الشِّعرِ عنْ النَّظمِ وَحَرَّرتْهُ ، وَألغَتْ تبعيَّةَ إيقاع التَّجربةِ لإيقَاعِ العَروضِ ، كَمَا تخلَّصَتْ مِنْ الرُّؤى القائِمَةِ العَامةِ ، وَمِنْ النَّبرَةِ الخَارجيَّةِ الجهيرَةِ ، وَرَكَّزَتْ على خُصُوصيَّةِ التَّجربَةِ ، وَخُصُوصيَّةِ النَّبرَةِ الشِّعريَّةِ وَخُصُوصيَّةِ الأدَاءِ ، وتجاوَزَتْ مَفْهُومَ الصُّورَةِ البلاغيِّ إلى المفهومِ البَصَريِّ ، وَأطْلَقَتْ الصَّوتَ الدَّاخليَّ العميقَ ؛ ليرتَعَ بحُرِّيَّةٍ مُطْلَقَةٍ ، وَتخفَّفَتْ مِنْ حَالةِ العاطِفيَّةِ الصَّاخبَةِ الَّتي طَالما ارْتَبَطَتْ بدرجَةِ الإيقاعِ العَرُوضِيِّ ، وَعَكَفَتْ على تفاصِيلِ الوَاقعِ ؛ فاسْتَبْدَلَتْ بِالذَّاكرَةِ المعرفيَّةِ الذَّاكرَةَ البَصَريَّةَ ، وَرَكَّزَتْ على مَا نعيشُهُ ، على الأشْيَاءِ ذَاتها في حُضُورِهَا الفيزيقِيِّ الحيِّ ، وَاسْتَثْمَرَتْ السَّردَ الشِّعريَّ ، بطاقاتِهِ غَيْرِ المحدُودَةِ ، وَتَشَبَّثَتْ بالإنسانيِّ الحميْمِ ، وَبِالحِسِّيِّ ، وَبالذِّاتِ الإنسانيَّةِ ، حَتَّى في أقْصَى حَالاتها هَشَاشَةً ، في نَبْرَةٍ شِعْريَّةٍ ، أكْثَر ذَاتيَّةً وَإنسَانيَّةً ، وَبهذَا اسْتَطاعَتْ أن تُشَكِّلَ مَعَالمََ مَشْهَدِهَا الخَاصِّ وَشَكْلِهَا الجدَيْدِ وَمَلامحِهَا الجماليَّةِ ؛ الَّتي يُمْكِنُ أنْ نَرْصُدَهَا على المحورَيْنِ الأسَاسِيَّينِ ، الآتِيينِ :
* الشَّكل - البِنَاءُ المشْهَدِيُّ .
- الشِّفاهيَّةُ وَتَدَاوليَّةُ الخِطابِ .
- خُمودُ العَاطفيَّةِ وَحِيَاديَّةُ الأدَاءِ .
- التَّفاصِيليَّةُ .
- التَّشْذيرُ .
- تَصَدُّعُ الحدودِ الموضُوعَةِ بَيْنَ الأجْنَاسِ الأدبيَّةِ .
- تَشَظِّي الحكايَةِ وَلا معقوليَّةُ السَّردِ .

* المَوْضُوعُ - جَسَدَانيَّةُ الذَّاتِ الفَرديَّةِ .
- جماليَّاتُ القُبْحِ .
وَبهذِهِ الملامحِ مُجْتَمِعَةً تَشَكَّلتْ مَعَالمُ شِعْريَّتِهَا المغايرَةِ ، غَيْرَ أنَّ هَذَا لا يَعْني أنْ هَذِهِ الملامِحَ هِيَ المسئولةُ عَنْ إنْتَاجِ شِعْريَّتِهَا ؛ فَمِنْهَا مَا لا يَقْتَصِرُ على الشِّعرِ وَحْدَهُ ، وَإنَّمَا على أدَبِ مَا بَعْدَ الحدَاثَةِ عَامَّةً ، كَمَا لا يمكِنُ إغْفَالِ الجوهَرِ الشِّعريِّ .
وُيلاحَظُ أنَّ انْتِشَارَ هَذِهِ الشِّعريَّةِ لمْ يأتِ تاليًا لمحدَّدَاتٍ نَظَريَّةٍ مُحَدَّدةٍ ، وَإنَّمَا أتَى اسْتِجَابَةً لإنجازَاتٍ جماعيَّةٍ ، شَرَعَتْ آليَّاتها تَتَرَسَّخُ مِنْ تَدَاوُلها في نماذِج شِعريَّةٍ مُتَوَاليَةٍ وَمُتَبَاينَةٍ ، احْتَشَدَ بهَا المشْهَدُ الشِّعريُّ ، دُونَ مَنْهَج ٍوَاضِح ٍ، فيْمَا يَبْدُو ، في البِدَايَةِ ، غَيْرَ أنَّ المشْهَدَ تَكَشَّفَ عَنْ تحديْدِ المعَالمِ ، وَاتَّضحَ أفقٌ جديدٌ ، وَهُوَ مَا جَعَلَ قصيدَةَ النَّثرِ مَشْرُوعًا مُتَكَامِلاً يَتَخَطَّى اعْتِبَارهَا مجرَّدَ قصيدَةِ نَثْرٍ .
إنَّ مَرْحَلَةَ مَا بَعْدَ الحداثَةِ في تَاريخِ قصيدَةِ النَّثرِ العَربيَّةِ ، تُشَكِّلُ عَلامَةً فارقةً ، بَعْدَ مَرْحَلَةِ شِعريَّةِ جماعَةِ مجلَّةِ: (شِعْر) اللبنانيَّةِ ، في سِتينيَّاتِ القَرْنِ الماضِي ، وَقَدْ سَاهَمَ في تَشْكيْلِ مَعَالمَ شِعريَّةِ مَا بَعْدَ الحدَاثَةِ في مَشْهَدِ قصيدَةِ النَّثرِ العَرَبيَّةِ ، مجموعَةٌ كَبيرَةٌ مِنْ أجْيَالٍ مُخْتَلِفَةٍ ؛ فَمِنْ شُعَراءِ السِّتينيَّاتِ تبرزُ تجربَةُ سَعْدي يُوسف ، وَمِنْ شُعَرَاءِ السَّبعينيَّاتِ تَبْرُزُ مجموعَةٌ مِنْ التَّجَاربِ ؛ مِنْهَا تجربَةُ وَديع سَعادة وبَسَّام حَجَّار ومحمَّد صَالح وآخَرِينَ ، وَمِنْ شُعَرَاءِ الثَّّمانينيَّاتِ مجموعَةٌ أكْبَرُ ، يُمَثِّلونَ أهَمَّ شُعَرَاءِ هَذَا الجيْلِ ، كَذَلكَ شُعَرَاءُ التِّسعينيَّاتُ ، في مُعْظَمِ الأقْطَارِ العَرَبيَّةِ ؛ فَهَذَا التَّحوُّلُ لمْ يَكُنْ وَليدَ جِيْلٍ ، مُحَدَّدٍ ؛ بَلْ نِتَاجُ مَرْحَلةٍ حَضَاريَّةٍ كَامِلَةٍ ، شَارَكَ فيْهَا الطَّليعَةُ مِنْ مختلَفِ الأجيَالِ الشِّعريَّةِ الفَاعِلَةِ في المشْهَدِ الشِّعريِّ ؛ الَّذين لمْ يَتَبَنَّوا شَكْلَ قصيدَةِ النَّثرِ فَقَطْ ؛ بَلْ جماليَّاتِ مَا بَعْدَ الحدَاثَةِ في مَشْهَدِ قصيدَةِ النَّثرِ ؛ الَّتي تمثَّلَتْ في الأشْكالِ الآتيَةِ :-

البِنَاءُ المَشْهَدِيُّ
المشْهَدُ Scene ، اصْطِلاحًا ، هُوَ الفَضَاءُ: الحيِّز ؛ الَّذي يَضُمُّ بَيْنَ جنباته مفردات الموقف الشِّعريِّ ، الَّتي يَضَعُهَا السَّاردُ وَضْعًا دَالاً ، وَتَعْمَلُ عينا السِّاردِ ، هُنَا ، عَمَلَ كاميرا السِّينمَا ؛ الَّتي تَسْتَقْصِي أبعَادَ وَتَفَاصِيلَ هَذَا المشْهَدِ ، في حِيادٍ ، وَفي البنَاءِ المشْهَديِّ يكونُ التَّركِيزُ على الأبعَادِ المكانيَّةِ فيمَا تَتَبَاطأ حَرَكَةُ الزَّمن . والمشْهَديَّةُ هيَ اعْتِمَادُ آليَّاتِ صِنَاعَةِ المشْهَدِ بأبعادِهِ البَصَريَّةِ ؛ لِتحقيْقِ المجازِ البَصَريِّ ، وَتَرْكِ بلاغَةِ الصُّورَةِ الجزئيَّةِ اللغَويَّةِ إلى بَلاغَةِ الصُّورَةِ الكُليَّةِ البَصَريَّةِ ؛الَّتي يبدو فيْهَا أنَّهُ كُلَّمَا كَانَ المشْهَدُ خَاليًا مِنْ التَّعليْقِ المباشِرِ وَالثَّرثَرَةِ الفَضْفَاضَةِ كَانَ أبْلَغَ "(1) ، غَيْرَ أنَّهُ لَدَى البَعْضِ ، كَانَ المعرفيُّ يُغالِبُ البَصَريَّ ممَّا يُشوِّشُ على جماليَّاتِ المشْهَدِ ،كَمَا كَانَ لدى غيرهِمْ وَلَعٌ بإقامَةِ نهاياتٍ مجازيَّةٍ للمَشْهَدِ ، وَأحْيَانًا إسْقَاطِ تعليقاتٍ ذهنيَّةٍ عَليْهِ ، وَهَؤلاءِ الآخِيرونَ هُمْ أسْوَأُ مُنْتِجِي تيَّارِ يانيس ريتسوس (1909–1990) في الشِّعرِ العَرَبيِّ ؛ لقدْ كَانَ رتيسوس يَعْمَدُ إلى التَّركِيزِ على التَّفاصِيلِ الصَّغيرَةِ لِصِنَاعَةِ قصيدَةٍ عاريَةٍ مِنْ الضَّجيجِ ، مُكْتَفِيَةً بِأقلِّ القَليْلِ مِنْ العنَاصِرِ المبتَذَلَةِ البَسِيْطةِ ؛ الَّتي تَصْنَعُ الحيَاةَ اليوميَّةَ ، وَأحيَانًا التَّركِيز في نهايَاتِ القصَائدِ على تحَوُّلِ الأشْيَاءِ غَيْرِ المتوقَّعِ ، على الفانتَازيَا وَالتَّحَوُّلاتِ السِّحريَّةِ للأشْيَاءِ(2) ؛ بحيثُ تَتَعَلَّقُ شِعريَّةُ النَّصَّ بخاتمتِهِ بدرجَةٍ كبيرَةٍ ، وَهِيَ نهايَاتٌ كثيرًا مَا تكونُ مُبَاغِتةً ، يمتزجُ فيْهَا ، الكُلِّيُّ بِالنِّسبيِّ ، أوْالوقائِعِيُّ بِالرُّؤيويِّ ، وَمْنْ ذَلكَ هَذَا النَّصُّ لِسَعْدي يُوسف (1934 - ) بعنوَانِ : "عَصَافير".
" هَذَا الصَّباح أبْصَرْتُ للمَرَّةِ الأولى عُصْفُورًا
كَانَ عَلى سَاقٍ دَقيقَةٍ لِنبْتةِ ذُرَةٍ صَفْرَاءَ .
نبْتةٍ يَتَزَيَّنَ بهَا الفندقُ البَحَريُّ
العُصْفُورُ ينظِفُ نَفْسَهُ
السَّاقُ تَهْتَزُّ
عُصْفُورٌ ثانٍ يأتِي
السَّاقُ تميلُ :
عُصْفُورٌ ثالثٌ
السَّاقُ تسْجُدُ خاطِفَةً
فجْأةً ، وَبخَطفةٍ وَاحدَةٍ ، تطيرُ العَصَافيرُ الثَّلاثةُ
مبتعدِةً عنْ الفندقِ البَحَريِّ
وَتَحْتَ قميصِي تَرْتعِشُ آلافُ العَصَافيرِ ." (3)

مِنْ العَصَافيرِ الَّتي غَادَرَتْ مَشْهَدَ الشَّاعرِ، وَالعَصَافيرِ الَّتي ارْتَعَشَتْ دَاخِلَ الشَّاعرِ ، على إثْرِها ، تحدُثُ الارْتجافةُ الشِّعريَّةُ، في خَاتمةِ المشْهَدِ ، وَلمْ يكتفِ الشَّاعرُ هُنَا ، بِسِينمَائيَّةِ المشْهَدِ ، وَشِعريَّةِ المشْهَدِ البَصَريِّ ؛ الَّذي تغَيَّبَ فيْهِ السَّاردُ ، إلاَّ مِنْ ضميرِ المتكلِّمِ في السَّطرِ الأوَّلِ مَرَّةً ، وَفي السَّطرِ الأخيرِ مَرَّةً أخْرَى ، وَتُهَيمِنُ حَرَكةُ المشْهَدِ البَصَريِّ ، وَهِيَ تنقلُ بحيادٍ ، في أدَاءٍ سِينمائيٍّ ، تفاصِيلَ المشْهَدِ الكُلِّيِّ بجزئيَّاتِهِ المتَكامِلَةِ المتَضَامَّةِ ؛ وَإنَّمَا رَكَّزَ على خَاتمةِ المشْهَدِ ؛ لِيَكْتَمِلَ بِهِ البنَاءُ المشْهَدِيُّ .
وَعَلى هَذَا النَّحوِ يبدو العَمَلُ الشِّعريُّ ، هُنَا ، أكْثَرَ اقْتِرَابًا مِنْ طبيعَةِ العَمَلِ السِّينمائيِّ ؛ حيثُ يُركِّزُ الشَّاعرُ على مُفْرَدَاتِ المشْهَدِ البَصَريِّ ، وَيَقُومُ بِتَبْطِيءِ حَرَكةِ الزَّمنِ ؛ ليُحدِثَ مَا أسْمَاهُ روبرت همفري بالمونتاجِ الزَّمنيِّ ، وَيُتَابِعُ المتلقِّي الحدَثَ " مُعَاصِرًا وُقُوعَهُ كَمَا يَقَعُ بِالضَّبطِ وَفي نَفْسِ لحظَةِ وُقوعِهِ ، لا يَفْصِلُ بَيْنَ الفِعْلِ وَسَمَاعِهِ ، سِوَى البُرْهَةِ الَّتي يَسْتَغرقُهَا صَوْتُ [ السَّاردِ ] في قوْلِهِ ؛ وَلِذلكَ يُسْتَخْدَمُ المشْهَدُ للَّحَظَاتِ المشْحُونَةِ "(4) ، وَيُتِيْحُ هَذَا المنْهَجُ لِلشَّاعرِ أدَاءً أقْرَبَ إلى الموضُوعيَّةِ ، وَالحيَاديَّةِ ، وَلا يبدو مَعَهُ النَّصُّ حَالةً شِعريَّةً ؛ بَلْ مَشْهَدًا شِعْريًّا وَثائِقيًّا .
وَيَتَبَنَّى السَّردُ الشِّعريُّ أحْيَانًا ، آليَّاتِ السَّردِ السِّينمائِيِّ ؛ فيرْصُدُ عَنَاصِرَ المشْهَدِ وَمُفْرَدَاتِهِ ، بطريقَةِ المونتاجِ ؛ "عَبْرَ تَوَالي سِلْسِلةٍ مِنْ الكَادرَاتِ أوْ المشَاهِدِ السِّينمائيَّةِ الَّتي يأتي أحَدُهَا في أعقابِ الآخَرِ(5) ، كَمَا نَرَى في هَذَا المجتزأ ليحى جابر(1961- ):
" الخَطَّاطُ مُنْهمكٌ على لافتةٍ لصَرَّافٍ
تَحْتَ قدميْهِ يافطةٌ لتظاهُرَةٍ .
رَغْوةُ صَابونٍ تترسَّخُ على زُجَاجِ مَقْهَى .
طاولةٌ مُرَبَّعةٌ لِمُجتمِعينَ تَحْتَ قبَّعَاتٍ .
رَجُلٌ يحْملُ دَجَاجَةً تُفرفِرُ بَيْنَ يديْهِ .
يتناقشُ بحدَّةٍ مَعَ آخَرٍ يَحْملُ بَيْضَةً .
رَجُلٌ يُمزِّقُ أوْرَاقَ رُوزنَامةٍ
وَيَرْميْهَا في صَحْنِ مُتَسوِّلةٍ .
نَادَلٌ يكنسُ حُرُوفًا وَأوْرَاقًا .
صيصانٌ بَيْنَ الطَّاولاتِ .
على طاولةٍ مُسْتَطيلَةٍ
حَقيبَةٌ سمسُونايت .
نَظَّارَةٌ سَوْدَاءُ . قفَّازَاتٌ بيْضٌ .
دُمْيَةُ مَا نيكانٍ . عُكَّازَاتٌ .
ضمادَاتٌ مَلفوفةٌ حَوْلَ الكَرَاسِي .
في الخَارج.
تَنْزَلقُ عَرَبَةُ مُقْعَدٍ بَيْنَ السَّيارَاتِ ." (6)
وَحَيْثُ يَرْصُدُ الشَّاعرُ مُفْرَدَاتُ المشْهَدِ الشِّعريِّ ؛ مُتَّحدًا بِعَيْنِ الكاميرا ، تَتَشَكَّلُ سِينمَائيَّةُ السَّردِ الشِّعريِّ ؛ عَبْرَ جماليَّاتِ المشْهَدِ ، كَمَا في قَوْلِ كريم عبد السَّلام (1976- ):
" في حَرِّ الظَّهيرَةِ الصَّبيُّ وَاقفٌ أمَامَ البيْتِ .
وَالفتَاةُ بالدَّاخِلِ تَرْقبُ حَرَكتَهُ .
ثُمَّ تَخْرُجُ الفتَاةُ مُبْتَسِمَةً وَتَسيْرُ عَلى جَانبِ الشَّارعِ
وَعَلى الجَانبِ الآخَرِ يسيْرُ الصَّبيُّ ، فيْمَا يَتَبَادَلانِ النَّظَرَاتِ .
الفتَاةُ تَتَعثَّرُ خُطُوَاتُهَا وَالصَّبيُّ يَعْبُرُ إليْهَا.
بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ خُطْوَةً تشْتَبكُ أصَابعُهُمَا ." (7)
وَيَتَبَدَّى الوَعْي بِسِينمَائيَّةِ الحدَثِ اليومِيِّ ، وَإدْرَاكِ الوَاقعِ كَنَصٍّ سِينمَائيٍّ ؛ بممثِّلينَ يملئونَ المشْهَدَ ، وَمُتَفَرِّجينَ خَارجَ المشْهَدِ ، لَدَى كريم عبد السَّلام ، في تعبيرِهِ عَنْ دَمَويَّةِ الوَاقعِ عَبْرَ مَنْظورٍ سِينمَائيٍّ فنتازيٍّ ؛ تَرْصُدُ فيْهِ الذَّاتُ الشَّاعِرَةُ ، مِنْ غُرْفتِهَا المظْلِمَةِ ، المشْهَدَ الخارجِيَّ ؛ بِاعْتِبَارِهِ مَشْهَدًا تمثِيليًّا خَالِصًا ، على هَذَا النَّحوِ :
" المُمَثِّلونَ وَالعُمَّالُ في الخَارجِ يَسْتَعدُّونَ ،
المَشَاهِدُ لاتَتَوَقَّفُ مُنْذُ أنْ بَدَءُوا يُصَوِّرُونَ فيلمَهُمْ .
سَيَّارَةٌ مُسْرِعَةٌ تَعْبُرُ وَتَسْحَقُ فَتَاةً عَابرَةً
وَالمُتَفَرِّجُونَ في شُرُفاتِ المَنَازلِ
يُرَاقبُونَ البُقَعَ الحَمْرَاءَ والتَّشَنُّجَاتِ
وَالفَتاةُ العَابرَةُ لِلشَّارعِ تَمُوتُ
وَالمُخْرجُ لاتُعْجبُهُ مِيْتَةُ الفَتَاةِ العَابرَةِ
فيُكرِّرُ تَصْويرَ المَشْهَدِ عَشْرَ مَرَّاتٍ
وَفي كُلِّ مَرَّةٍ
تَمُوتُ فَتَاةٌ جَديدَةٌ
وَتَهْرَبُ سَيَّارَةٌ بسُرْعَتِهَا مِنْ المَشْهَدِ
وَيَتَفَرَّجُ المُتَفرِّجُونَ
دُونَ أنْ يَنْتَبْهُوا إلى أنَّ العُمَّالَ في الخَلفيَّةِ
يَنْقلُونَ الجُثَّةَ مِنْ عُرْضِِ الشَّارعِ ، ثمَّ يَضَعونَهَا
في كيْسٍ بلاسِتيكيٍّ ، وَيُنَظِّفونَ المَكَانَ ، تَمْهيدًا
لإعَادَةِ المَشْهَدِ ."(8)
إنَّ اقترَابَ الشِّعرِ مِنْ عَالم السِّينمَا ، كثيرًا ، جَعَلَهُ يَتَخَفَّفُ مِنْ مجازِ الجمْلَةِ ، وَمِنْ النِّهايَاتِ المجازيَّةِ ، المصْنُوعَةِ ، في الخوَاتِيْمِ ، بُغْيَةَ إحْدَاثِ لفْتَةٍ عَاجِلَةٍ إلى المشْهَدِ كَكُلٍّ ؛ لمتَابَعَةِ تَفْجِيرِهِ الدَّلاليِّ .

الشِّفاهيَّة ُوَتَدَاوليَّةُ الخِطَابِ
جَاءَ النُّزوعُ إلى الشِّفاهيَّةِ انْقِلاباً على اسْتِحكَامِ الخِطَابِ الشِّعريِّ ، الَّذي وَصَلَ إلى ذُرَاهُ على أيدي شُعَرَاءِ السَّبعينيَّاتِ المصْريِّينَ ، وَهُوَ مَا تمثَّلَ في تكثيفِ المجازِ اللغويِّ ، وَالإزاحَةِ اللغويَّةِ ، وَالصُّورِ المعقَّدَةِ ، سَعيًا إلى جَعْلِ النَّصِّ فَضَاءً للتآويلِ المفتوحَةِ ، جَاءَ النُّزُوعُ إلى الشِّفاهيَّةِ مُعزِّزًا قيمةَ التَّداوليَّةِ ، وَتخليْصِ اللغَةِ مِنْ كهنوتها التَّاريخيِّ ، وَمِنْ اسْتِرَاتيجيَّاتِ البلاغَةِ ، وَمُؤكِّدًا على التَّمسُّكِ بلغَةِ الحيَاةِ اليوميَّةِ ، وَتَرَاكيبِهَا، وَمَنْطِقِهَا الجمَاليِّ الخاصِّ، سَعْيًا إلى " تحقيْقِ الالتحَامِ الحميْمِ بِالوَاقعِ ، وَليْسَ مجرَّدَ مُعَايشتِهِ على البُعْدِ"(9) ، وَسَعْيًا إلى الإخْلاصِ لوظيفَتِهَا التَّوصِيليَّةِ ، وَهُوَ مَا يقودُ - أحْيَانًا - إلى تَقَشُّفٍ لغويٍّ ، وَاعْتِمَادِ مُفْرَدَاتٍ دَارجَةٍ ، وَتِكرَارِ أبنيَةٍ عاميَّةٍ ، وَالتَّركيزِ على المنطقِ الجماليِّ الشِّفاهيِّ الحيِّ ، وَهَذَا الانهمَامُ بِالوَعْي الشِّفاهيِّ يَصُبُّ في اهْتِمَامِ مَا بعدَ الحدَاثَةِ ، ضِمْنَ إعْطائِهَا الصَّدَارَةَ " للثَّقافَةِ الشَّعبيَّةِ ؛ كتَحَدٍّ لمعيَارِ الفَنِّ الرَّفيْعِ ، حَدَاثيًّا كَانَ أمْ تقليديًَّا."(10)
وَهَكَذَا عَمَدَتْ القصيدَةُ الجديدَةُ إلى بلاغيَّاتِ الصُّورِ المعيشَةِ المتنامِيَةِ ؛ الَّتي تبدو" كأحْدَاثٍ مُفْرَطةٍ في وَاقعيَّتِهَا ، لمْ تَعُدْ لهَا أيَّةُ مَضَامِين أوْ أهْدَاف خَاصَّة "(11) ، سِوَى التَّحقُّقِ الحيَاتيِّ الحىِّ ، وَتَسْعَى الذَّاتُ المتكلِّمَةُ ، في النَّصِّ ، إلى الالتحَامِ بهذَا المعيشِ ، وَمِنْ ذَلكَ هَذَا النَّصُّ ، لعلي منصور( 1956 - ) بِعنوانِ :" عِنْدَ الفُنْدَقِ العَائِمِ ".
" أمُّكَ ،وَاللهِ ، ظُفْرُهَا بعَشْرٍ
مِنْ هَؤلاءِ النِّسوَةِ .
اللوَاتي ...
لمْ يَجْلسْنَ سَاعةً وَاحِدَةً
أمَامَ الفُرْنِ
هلْ تَرَمَّلتْ وَاحِدةَُ مِنْهُنَّ ، مَثَلاً ، في الثَّلاثِيْنَ
وَعُلِّقَ في رَقبتهَا ثَلاثةُ أطفَالٍ
وَأخْتُهُمْ في الرَّحِمْ .
أُرَاهِنُ :
وَلا وَاحِدَة مِنْهنَّ تَعْرفُ كيْفَ تَسْلُخُ أرْنَبَةً بَعْدَ ذَبْحِهَا
وَشَكْلُهنَّ ضَاجَعْنَ رجَالاً كثِيْريْنَ
غيْرَ أزْوَاجهنَّ
وَليْسَ بَعيْدًا
أنَّهنَّ يَعْمَلنَ جَوَاسِيسْ !!." (12)
وَمِنْ ذَلكَ ، أيْضًا ، هَذَا المجتزَأُ ، لمؤمن سمير (1975– ) :
" هَادئًا تَمَامًا
كُنْتُ أمْشي وَنَفْسِي
عنْدَمَا نَادَتْني الدِّمُوعُ
الَّتي في عيونِ الخَيْلِ
لِعِلْمِكُمْ
ليسَتْ قَسْوةُ صَاحبِ " الحَنْطُورِ "
هيَ السَّبَبُ
وَليسَتْ رَدَاءَةُ الطَّعامِ
وَلا فِكْرَةُ العبودَيَّةِ في حَدِّ ذَاتِهَا
وَلكِنْ
اجْلِسُوا
اجْلِسُوا لأقُصَّ عليْكُمْ ."( 13 )
هَكَذَا يَتَحَكَّمُ مَنْطقُ الكَلامِ ، في طَريقَةِ السَّردِ الشِّعريِّ ؛ فَيَبْدُو الحسُّ الشِّفاهيُّ مُهَيْمِنًا على الصِّياغَةِ الشِّعريَّةِ ، وَأحياناً يَنْزَعُ النَّصُّ إلى الشِّفاهيَّةِ ، دُونَ أنْ يَعْتَمِدَ المنطِقَ الجماليَّ لِلُغَةِ الحديثِ ، فَيَعْلُو منطقُ المجازِ اللغَويِّ على البَوْحِ الإنسانيِّ ، وَتَبْدُو الخلفيَّةُُ المعرفيَّةُ أكْثَرَ مِنْ فِعْلِ القَوْلِ ،كَمَا نجدُ في هَذَا المجتزأ ، لِعزمِي عبد الوهاب (1964 - ) :
" أمتلِكُ حِذَاءً وَاحِدًا
وَتسْعَةً وَعشْريْنَ شتَاءً
وَصُورَةً لمَاجدة الرُّومي
سَرَقتُهَا مِنْ صَديقٍ لا يُحبُّ قَرَاءَةَ الكُتُبِ
وَعَلَّقتُهَا على حائِطٍ
في غُرْفة نَوْمي
ثُمَّ تَابَعْتُ مِنْ مِقْعدِي
حَرْبَ "الشَّبَحِ "وَ " البَاترويت "
لِذَلكَ ... أرْجُوكم لا تُصَدِّقُوني
حِيْنَ أرْفَعُ إبهَامِي
تأييدًا لِكلامٍ
لمْ أسْمَعْهُ...،
فالعَالَمُ أضْيَقُ مِنْ حِذَاءٍ
وَأكْثَرُ برودَةً مِنْ
عَيْنِ دِيكتاتُورٍ زُجَاجيَّةٍ
وَكلُّنَا نكذِبُ
منذُ أنْ دَحْرَجَتْنَا طفولتُنَا
مِنْ عَصَا الأبِّ
إلى شَارعٍ جَانبيٍّ ."(14)
لا يكتفِي الشَّاعرُ بِالمعيْشِ الحياتيِّ ، وَإنَّمَا يُسَلِّطُ عليْهِ الحسيَّ المعرفيَّ ، ذَا الموقِفَ السِّيَاسِيَّ الوَاضِحَ ؛ لِتَتَوَلَّدُ الإيماءَاتُ الشِّعريَّةُ المعرفيَّةُ ؛ الَّتي تُشَكِّلُ كَسْرًا مُتَوَاليًا للإيهَامِ بمعَايَشَةِ الحكيِّ ، وَبَيْنَمَا مَثَّلَ السَّردُ الشِّعريُّ الإنسانيُّ الحميْمُ المتَشَكِّلُ مِنْ المعيْشِ التَّدَاوليِّ - كَمَا تبَدَّى عِنْدَ علي منصور ، على سَبيلِ المثَالِ - انحِيَازًا لوَعْي مَا بَعْدَ الحدَاثَةِ لمْ يَتَخَلَّصْ السَّردُ الشِّعريُّ الحياتيُّ المموَّةُ بِالمعرفيِّ - في النَّموذَجِ الَّذي مَثَّلَهُ عزمي عبد الوهاب - مِنْ الحدَاثيَّةِ ، فَبَيْنَمَا انْشَغَلَ الأوَّلُ ببلاغَةِ القريْبِ ، نَزَعَ الأخيرُ إلى البَحْثِ عَمَّا وَرَاءَهُ ، وَعِنْدَ الأوَّلِ لا شَيءَ تحتَ التَّجربَةِ إلاَّ التَّجربَةِ ، وَلاوَرَاءَ السَّطحِ سِوَى السَّطحِ ؛ المعيْشِ وَالبسِيْطِ وَاليومِيِّ ، فيْمَا لايَزَالُ الأخيرُ جَانحًا إلى ثَقَافَةِ النُّخبَةِ وَالنُّخبويَّةِ .(15)

خُمُودُ العَاطفيَّةِ وَحِيَاديَّةُ الأدَاءِ
تُوْثرُ اللغَةُ الشِّعريَّةُ ، هُنَا ، انطِلاقًا مِنْ الحرْصِ على مَوْضُوعيَّةِ السَّردِ الشِّعريِّ أن تتخَفَّفَ مِنْ العَاطفيَّةِ ، وَمِنْ تَدَاعِيَاتِ الشُّعورِ الهادِرِ ؛ فَتَعْمَل في حِيَادٍ وَاضِح ٍ، وَنَبْرَةٍ خَافتَةٍ ، وَأدَاءٍ مَوْضُوعيٍّ تَسْجِيليٍّ ، وَتَتَفَجَّرُ الشِّعريَّةُ ، هُنَا ، في المشْهَدِ ، كَامِلاً ، بتفاصِيلِهِ المترَاصِفَةِ المتكامِلَةِ ، وَقَدْ أشَارَ فريدريك جيمسون إلى خمودِ العَاطِفَةِwaning of offect باعْتِبَارِهَا مِنْ أهَمِّ خَصَائصِ مَا بعدَ الحدَاثيَّةِ ، مُشِيرًا في الوقتِ ذَاتِهِ إلى أنَّهُ "بِالطَّبعِ لَنْ يكونَ دَقيقًا الإيحاءُ بأنَّ كُلَّ عاطِفَةٍ ، كُلَّ إحسَاسٍ ، أوْ شُعُورٍ ، كُلَّ ذَاتيَّةٍ ، قَدْ تَلاشَتْ مِنْ الصُّورَةِ الجديدَةِ. "(16)
وَيَرْكَنُ الشِّعرُ ، هُنَا ، إلى بَلاغَةِ الصُّورَةِ ، وَإلى عِلاقاتِ الأشْيَاءِ دَاخِلَ المشْهَدِ ، وَإلى الحيَادِ ، كَهَذَا النَّصِّ ، لمحمَّد متولي (1970 - ) بعنوانِ : " صَدِيقَانِ " :
" في شَاطيءٍ كَهَذَا
لا يَأتي سِوَى طائرٍ وَحيْدٍ
ليُحطَّ على حُطَامِ المَرَاكبِ
وَفي بيْتٍ كَهَذَا
إلى جوَارِ شَجَرَة ٍمَمْصُوصَةٍ
لا يجلسُ في الشُّرفةِ
سِوَى رَجُلٍ وَاحدٍ
لِيُرَاقبَ الطَّائرَ. " (17)
مِنْ علاقَةِ الأشْيَاءِ ، بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ، تَتَفَجَّرُ شِعريَّةُ هَذَا المشْهَدِ ؛ مِنْ التَّوازي الحَادِثِ في الحالتَيْنِ: الطَّائرِ الوَحيْدِ وَالرَّجُلِ الوَحيْدِ ، حُطَامِ المرَاكِبِ وَالشَّجرَةِ الممْصُوصَةِ ، وِحْدَةِ الطَّائرِ وَوحْدَةِ الرَّجُلِ ، وَانْفِصَالِ كُلٍّ مِنْ الطَّائرِ وَالرَّجُلِ عَنْ الجمَاعَةِ ، وَتأتي الخاتمةُ لِتُؤكِّّدَ على تَوَاصُلِ الحالتيْنِ ، وَالمؤلِّفُ الضِّمِنيُّ ، هُنَا ، لايُعَلِّقُ على المشْهَدِ ، عَبْرَ خِطَابِ السَّاردِ ، وَإنَّمَا يكتفِي ، فَحَسْب ، ببثِّ هَذِهِ الحالةِ عنْ طَريْقِ الصُّورَةِ ، خَلاصًا مِنْ أدَاءٍ عَاطفيٍّ رُومَانتيكيٍّ، كَانَ مِنْ الممكِنِ أنْ يفرضَهُ الموقِفُ ، وَتَتَوارَى النَّبرَةُ الذَّاتيَّةُ ، فَيَتَجَلَّى دَورُ البِنَاءِ السَّرديِّ المحكَمِ .
وَمِنْ ذَلكَ ، أيضاً ، هَذَا المجتزأُ ، لياسر عبد اللطيف ( 1969 - ) :
" الجَدُّ الَّذي أغرَتْكَ نظَّارَتَهُ الطِّبيَّةُ .
وَكُوفيَّتُهُ الصُّوفيَّةُ بتقليْدِ أسْلوبهِ في الحَيَاةِ .
ستجدُهُ – حِيْنَ تفتحُ عليْهِ الغُرْفَةَ –
وَاضِعًا سَمَّاعَاتِ الهيدفون على رَأسِهِ.
فاتحًا أسْفَارَ الفيدا أمَامَهُ
سَتُغلِقُ البابَ بَعْدَهَا – مُحْتَرمًا فيْهِ ذَلكَ
وَسَتَنْصَرفَ في هدوءٍ
وَمِنْ شُرفتِكَ الوحيْدَةِ
سَتُلقي بظلِّكَ إلى الشَّارعِ
لتدوسَهُ العَرَبَاتُ
وَرَاكبو الميكروبَاسِ
وَاليونيسكو،
وَجَامِعو القُطْنِ
وَأفرَادُ القبائلِ المنسيَّةِ في الصَّحرَاوَاتِ ."(18)
ثمَّةَ ، أيضًا ، حَالةُ الانْسِحَابِ وَالاسْتِيحَاشِ ؛ الَّتي تُشارفُ حَدَّ التَّلاشِي ، دُونَ ضَجيجٍ عاطِفيٍّ مِنْ الذَّاتِ البسيطَةِ المنكسِرَةِ الأسيَانَةِ ، وَهَذِهِ الذَّاتُ ذَاتَ وَعيٍ وَاضحٍ ، وَلكِنَّهَا مُسْتَمْتِعَةٌ بِالقليْلِ المتَاحِ ، كَمَا نجدُ في هَذَا المجتزإ لمحمود عبد الله ( 1978 - ) :
" جَرِّبُوا أنْ تَشْرَبُوا الشَّاي
في الشُّرفةِ بمَلابسَ دَاخليَّةٍ
وَبتَأمُّلٍ للفَضَاءِ
دُونَ أنْ تُعكِّروا صَفْوَ هَذِهِ اللحظَةِ
بالنَّظرِ لشُرَفاتِ الآخَريْنَ
وَعَرَبَاتِهمْ المُلوَّنَةِ." (19)
إنَّهَا الذَّاتُ الإنسانيَّةُ البسيطةُ ، في حَالاتها البَسِيطَةِ ، عَبْرَ أدائِهَا ؛ الَّذي لا يقِلُّ بَسَاطَةً ، وَهَذِهِ البَسَاطةُ تُعَدُّ إحْدَى السِّمَاتِ المهِمَّةِ ؛ الَّتي رَكَّزَ عليْهَا مُنظِّرو مَا بَعْدَ الحداثَةِ ؛ فَقَدْ حَدَّدَ فردريك جيمسون شِعْرَ مَا بَعْدَ الحداثَةِ ، بأنَّهُ " الشِّعرُ الَّذي يميلُ إلى البَسَاطَةِ ، وَالَّذي ظَهَرَ كردِّ فعل ٍضِدَّ الشِّعرِ الحداثيِّ المعقَّدِ الأكاديميِّ "(20) ، وَكثيراً مَا تُتيحُ لغةَ التَّفاصِيلِ للشَّاعرِ أنْ يعتمدَ المفَارقَةَ ؛ لتحقيْقِ حالةٍ شِعريَّةٍ دالةٍ، مِنْ عِلاقاتِ الأشْيَاءِ اليوميَّةِ بعضِهَا بِبَعْضٍ ؛ كَهَذَا النَّصِّ ، لعلي منصور، بعنوان :( فانتازيا ) :
" الشَّاعرُ المِسْكينْ
الشَّاعرُ الَّذي تَحَدَّثَ في قصيدَتِهِ
عَنْ جُنَيْهٍ ينزفُ دَمًا
فوقَ مَانشيت ( الانتِعَاش الاقتِصَادي ) !!
عَنْ فتاةٍ فَجَّرتْ خِصْرَهَا
عِنْدَ حَاجزٍ ،
وَأخْرَى تُفجِّرُ خِصْرَهَا في الأغَاني !!
عَنْ المَحْمُوميْنَ بالسُّؤالْ :
أفَائدةُ البنوكِ حَرَامٌ أمْ حَلالْ ؟!
بَيْنَمَا اللصوصُ يَعْبُرُونَ – في هدُوءٍ –
بأمْوَالِ المَحْرُوميْنْ !!
الشَّاعرُ المِسْكيْنْ ..
قادَهُ حَظُّهُ العَاثرُ ، لطَاولةٍ ، وَنَاقدِينْ !!
تَحَدَّثُوا عَنْ الفانتازيا ،
وَشَعْرَنةِ التَّفاصِيلْ !!
تَحَدَّثُوا عَنْ أسْطَرَةِ الوَاقعِ ،، وَابْتَسمُوا !!
ثمََّ صَفَّقَ الحُضُورُ الهَزَيلْ!!
يَا لَلشَّاعرِ المِسْكينْ !! ." (21)
وَقَدْ اكْتَسَبَتْ المفَارَقةُ منزلةً خَاصَّةً ، في شِعريَّةِ مَا بَعْدَ الحداثَةِ ؛ حَيْثُ جَعَلَتْ مِنْهَا إحْدَى آليَّاتها الأسَاسيَّةِ في إنتاجِ شِعريَّتِهَا .

التَّفاصِيليَّةُ
في مُقَابلِ شِعْرِ الحدَاثَةِ ؛ الَّذي رَكَّزَ على الكُلِّياتِ وَالمجرَّدَاتِ وَالمطلقَاتِ وَالميتافِيزيقَا ، جَاءَ شِعْرُ مَا بَعْدَ الحداثَةِ - في إطارِقصيدَةِ النَّثر - مُركِّزًا على الجزئيَّاتِ ، وَالتَّفاصِيلِ اليوميَّةِ المعِيْشَةِ ، وَالبُسَطَاءِ ، وَمُفْرَدَاتِ الوَاقعِ القريبَةِ ، وَالنِّسبيِّ ، وَالفيزيقَا ، وَالأشْيَاءِ في وُجُودِهَا الحقيقيِّ الحيِّ المتعيَّنِ ، وَهُوَ مَا مَثَّلَ صُعودَ الذَّاكرَةِ البَصَريَّةِ في مُقَابلِ الذَّاكرَةِ الذِّهنيَّةِ ، تجلِّى الوَاقعُ مِنْ حيثُ وُجُوده المتحقَّق لا المتَصَوَّر ، وَبهذَا مَثَّلَ هَذَا الشِّعرُ عَصْرَ الصُّورَةِ في الشِّعرِ العَرَبِيِّ ." لَقَدْ فَقَدَتْ الحكايَةُ الكُبْرَى مِصْدَاقيَّتَهَا "(22) ، كَمَا يقولُ جان فرانسو ليوتار (1924 – 1998) ، وَلهذَا تَشَبَّثَ الشَّاعرُ بأشْيَائِهِ الصَّغيرَةِ ، البَسِيطَةِ ، المتَعَدِّدةِ ، وَبِذَاتِهِ، وَبحكَايَاتِهِ الصَّغيرَةِ الحميمَةِ المعِيْشَةِ ؛ ليؤسِّسَ مِنْهَا خِطَابَهُ الشِّعريَّ الحقِيقيَّ الخَاصَّ ، مِنْ النِّسبيِّ البَسِيْطِ أمْكَنَ للشَّاعرِ أنْ يكتشِفَ المطلَقَ ، وَمِنْ الجزئيِّ تَبَدَّى لَهُ جَوْهَرُ الكُليِّ ، وَمِنْ القريبِ الحميْمِ الملموسِ يكتشِفُ الحقيقَةَ الكامِنَةَ العميقَةَ ، دُونَ أنْ يكونَ سَعْيُهُ الأسَاسيُّ - على سَبيلِ الإجْرَاءِ الشِّعريِّ – أنْ يَصِلَ إلى هَذِهِ الحقائقِ الفَلسَفيَّةِ الكُبْرَى؛ فَالشَّاعرُ هُنَا ، لا ينطلقُ مِنْ وَإلى الثَّقافيِّ أوْ الأيدولوجيِّ أوْ اليَقِينيِّ ، بَلْ يَبْدَأ بمَا يملكُهُ ، وَيُعَاينُهُ ، وَيَلْمَسُهُ ، وَيُحيطُ بِهِ ، وَيحيَاهُ بتفَاصِيلِهِ المتعدِّدَةِ الدَّقيقَةِ ، وَمِنْ ذَلكَ ، هَذَا النَّصُّ ، لعمَاد أبي صَالح (1967 - ) ، بعنوانِ : " وَسَنَصِلُ لِلسِّتينَ " :
" سَتَكونُ لَنَا بيوتٌ صَغيرَةٌ .
نَدْهنُهَا بالأخْضَرِ ..
ثمَّ الأزْرَقِ ، ثمَّ الأزْرَقِ
وَزَوْجاتٌ يَهْجُرْنَنَا بسببِ كَعْكِ العيْدِ
وَنُصَالحهنَّ ،وَيَهْجُرْنَنا حِيْنَ نُغازلُ صَديقَاتِهنَّ
سَيكونُ لَنَا جيْرَانٌ يُشَاجرُونَنَا
ثُمَّ يُهْدُونَنا أطبَاقَ الحَلْوَى ، وَيُشَاجرُونَنَا.
وَأطْفَالٌ نُدْركُهُمْ – بالكَادِ -
قبْلَ وُقوعِ المَاءِ السَّاخنِ
ثمَّ يَحْرقُهُمْ المَاءُ السَّاخنُ .
سَنَمْرَضُ أسْبوعيْنَ بالأنفلونزَا .
وَسَنَلْبَسُ سُتْرَاتٍ رماديةً ..
على بنطلونَاتٍ بيضَاءَ
سَيَكُونُ لَنَا بنَاتٌ جَميَلاتٌ
وَضَرُوريٌّ سَنَرْفُضُ خُطَّابَهُنَّ ..
وَنَحْنُ وَاضِعيْنَ سَاقًا على سَاقٍ ..
في حُجُرًاتِ الصَّالونِ .
بَنَاتٌ جَميلاتٌ سَنَقْبَلُ خُطَّابَهُنَّ ..
بَعْدَ أنْ يَمْتَنِعْنَ عَنْ الطَّعَامِ ثَلاثَةَ أيَّامٍ
سَتَكُونُ أيَّامًا صَعْبَةً ، وَالأوْلادُ يُؤدُّونَ الامتِحَانَاتِ
وَسَيَنْجَحُونَ .
يَرْسُبُ وَاحِدٌ ، وَيَنْجحُ .
سَيَقْتَرضُ أصْدقَاؤنَا منَّا ثَمَانيْنَ جُنيهًا ...
وَيَرُدُّونَهَا ثَلاثةً وَسَبْعيْنَ
وَأزْوَاجُ بنَاتِ خَالاتِنَا سَيُفْصَلُونَ مِنْ أعْمَالِهِمْ
وَيَعُودُونَ بَعْدَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
إنَّنَا – بالتَّأكيْدِ – سَنُحبُّ نِسَاءً غَيْرَ زَوْجَاتِنَا
وَنَهِمُّ أنْ نَتَزَوج عليْهِنَّ..
وَسَيُعَقِّلُنَا أُنَاسٌ في آخِرِ لَحْظَةٍ .
عَليْنَا – فَقَطْ – أنْ نَنْتَظرَ قليْلاً.
وَأنْ نَحُكَّ حُزْنَنَا – كَلَّ مَسَاءٍ .
بفُرْشَاةِ البَلاطَاتِ ." (23)
بهذِهِ الدِّقةِ الوَاضِحَةِ ، وَبِالتَّفاصِيْلِ المعِيْشَةِ الحيَّةِ العدِيدَةِ ، يُشيِّدُ الشَّاعرُ نَصَّهُ جُزْءًا جُزْءًا ، تَشْييدًا يَكْشِفُ عَنْ وَلَعِهِ بِوَقائعيَّةِ الشِّعرِ وَحَدَثيَّتِهِ . الشِّعرُ هُنَا احْتِفَالٌ بهذِهِ التَّفاصِيلِ وَتمجيْدٌ لهَا ، وَبِتَفَاصِيلَ أقَلٍّ ، وَبِنْيَةٍ أشَدِّ إحْكَامًا وَتَكْثِيفًا وَتَوْليدًا لِلدَّلالة الشِّعريَّةِ يُقدِّمُ مُحمَّد صالح(1942 - 2009) نَصَّه : " الصُّندوق " :
" تَرَكَتْ أمِّي تِسْعَةَ قَرَاريْطَ
وَخُلخَالينِ مِنْ فِضَّةٍ
وَضَفَائرَ مُسْتَعَارَةً
صُنِعَتْ مِنْ حَريرٍ
وَتَرَكَتْ هَذَا الصُّندُوقَ
أفتَحُهُ
فأجِدُ أشْيَاءَ أُمِّي
أجِدُهَا وَلا أجِدُ أمِّي ." (24)
لَقَدْ رَبَطَتْ التَّفاصِيلُ القَصيدَةَ بِالحيَاةِ ؛ بِوَقائِعِهَا ، وَطُقُوسِهَا ، وَبَدَلاً مِنْ أنْ تُصْبِحَ القصيدَةُ عَالمًًا مِنْ الكلمَاتِ وَالتَّصوُّرَاتِ أصْبَحَتْ عَالمًا مِنْ الوَقائعِ وَالأحْدَاثِ الحيَّةِ وَالأشْيَاءِ الحمِيْمَةِ ، وَتَرَاجَعَ دَورُ التَّأويلِ ؛ الَّذي رَأتْ فيْهِ مَا بَعْدَ الحدَاثَةِ وَسِيْلةً لِتَخْلِيصِ الموْقِفِ الشِّعريِّ إلى مُجَرَّدَاتٍ مُطْلَقَةٍ ، تَطْمِسُ خُصُوصِيَّةَ النَّصِّ ، وَانْطِلاقتَهُ الحرَّةَ ، وَتَرُدَّهُ إلى الدَّلالاتِ المركزيَّةِ العَامَّةِ الثَّابتَةِ .

التَّشذير
اعْتُبِرَ التَّشذيرُ مِنْ أهمِّ المظاهرِ الجماليَّةِ لمَا بعدَ الحداثَةِ ؛ حَيْثُ رَأتْ مَا بعدَ الحداثَةِ أنَّهُ لابُدَّ مِنْ " خَوْضِ حَرْبٍ ضِدَّ الكُلِّيَّةِ ، وَالإعْلاء ، بَدَلاً مِنْ ذَلكَ ، مِنْ شَأنِ فُنونِ وَعُلومِ المجتمَعِ بعدَ الصِّناعيِّ ، وَالَّتي تَتَمَثَّلُ فِكْرَتُهَا الرَّئيسيَّةُ في التَّجزيءِ بَدَلاً مِنْ التَّماسُكِ ."(25)
في شِعريَّة التَّشذيرِ ، يُصْبِحُ النَّصُّ نثارًا ؛ تَتَنَاثرُ الجُمَلُ الشِّعريَّةُ المكثَّفَةُ المشعَّةُ ، مُؤكِّدةً على منطقِ أنَّهُ كَمَا جَازَ أنْ تَكونَ القصيدَةُ جمُلةً وَاحدَةً جَازَ كَذَلكَ أنْ تَكون الجمْلَةُ الوَاحِدَةُ قصيدَةً كَامِلَةً ؛ تَتَنَاثَرُ الجُمَلُ الشِّعريَّةُ المشِعَّةُ ؛كَضَرَبَاتٍ مُتَوَاليَةٍ ، وَمُسْتَقِلَّةٍ ، في حَيِّزِ النِّصِّ ، بحيثُ يَبْدُو النَّصُّ - بِشَكْلٍ عَامٍّ - وَحَدَاتٍ شِعريَّةً مُتَجَاورَةً وَمُتَوَاليَةً ، كَأنْ " لَيْسَ ثمَّةَ تَرابُطٌ أوْ تَلاحُمٌ بينَ الجمَلِ في النَّصِّ ، وَكَأنَّ كُلَّ جملةٍ تُمثِّلُ عَالماً مُسْتقلاً عَنْ العَوَالمِ الَّتي تُمَثِّلهَا الجمَلُ الأخْرَى ."(26)
وَقَدْ رَأى البعضُ في نَصِّ التَّشذيرِ ،" نَسَقاً بنائيًّا يُوهِمُ بِالتَّفكيكِ فيْمَا يُبدِعُ نَصَّ الكسورِ وَالفَجَوَاتِ ، نَصَّ هَذَا العالمِ المتصدِّعِ "(27) ؛ أي أنَّ هَذا النَّصَّ جَاءَ انعكاسًا لانهيَارَاتِ الكيانَاتِ الكُبْرَى ، وَلِتَدَاعي أيدلوجيَّاتٍ وَنُظُمٍ ، وَتَشَظِّيهَا .
بَيْنَمَا رَأى مَادَان سَاروب أنَّ " الانتقالَ مِنْ الحداثَةِ إلى عَالمِ مَا بعدَ الحداثَةِ يُمْكِنُ التَّعرُّفُ عليْهِ إذَا مَا عَرفْنَا أنَّ الاغترَابَ عَنْ الموضوعِ قَدْ حَلَّ محلَّهُ تفتيتُ الموضُوعِ ."(28)
وَهَكَذَا اكْتَسَبَ التَّشذيرُ أهميَّتَهُ الكُبْرَى ، في شِعريَّةِ مَا بعدَ الحداثَةِ ، وَأصْبَحَ نَصُّهُ عقدًا مِن النُّصوصِ المتَتَابعَةِ ؛ الَّتي تُؤكِّدُ على مَبْدَأ التَّجزؤ وَالتَّشظِّي" ، كَمُقَابلٍ لِشُموليَّاتِ الحداثَةِ وَثَوَابِتِهَا "(29) ، أصْبَحَ النَّصُّ يَتَشَكَّلُ مِنْ سِلْسِلةٍ مِنْ النُّصوصِ المتواليةِ ، في فَضَائِهِ ، في كَثَافَةٍ شَديدَةٍ ، تُؤسِّسُ لجماليَّاتِ التَّشظِّي وَالتَّفكيْكِ وَالتَّفتيْتِ وَالتَّشذيرِ .
وَلهذَا النَّصِّ مَرْجِعيَّتَانِ أسَاسِيَّتَانِ :
* بِنيَةُ الهايكو اليَابانيِّ بِكثَافتِهَا الشَّديدَةِ المشعَّةِ ؛ الَّتي لمْ تُفْقِدْهَا التَّرجماتُ شِعريَّتِهَا .
* بُنى تُرَاثيَّة عربيَّةٌ عَديدَةٌ ، مِنْهَا : (في تُرَاثِنَا القَدِيم) : الحِكَمُ وَالأمْثَالُ ، وَالأحاديثُ النَّبويَّةُ ، وَأواخِرُكتابِ (نهجِ البَلاغَةِ) لِعليٍّ بن أبي طالبٍ ، وَالأقوالُ الصَّوفيَّةُ المرَكَّزَةُ العَدِيدَةُ ؛ الَّتي يأتي في طليعتِهَا : (المواقفُ وَالمخَاطبَاتُ) للنَّفَّريِّ ، و(الإشَارَاتُ الإلهيَّةُ) لأبي حَيَّان التَّوحِيديِّ ، وَفَنُّ التَّوقيعَاتِ . و(في تُرَاثِنَا الحديثِ) : (رَمْلٌ وَزَبَدٌ) لجبران خليل جبران ، يأتي في طَليعَةِ هَذِهِ الكتَابَاتِ.. (30)، وَلاشَكَّ أنَّ المرجعيَّةَ الأولى ؛ القريبَةَ (الهايكو اليَاباني) كَانَتْ مُحَفِّزًا قويًّا لإعادَةِ اكْتِشَافِ المرجعيَّةِ الثاَّنيَةِ ؛ البعيدَةِ ، في ضَوْءِ شِعريَّةِ التَّشذيرِ ، كَخَلاصٍ مِنْ إعَادَةِ إنتاجِ شِعرِ (الهايكو الياباني) ، ثمَّ بدأتْ الشِّعريَّةُ تَتَخَلَّصُ تَدْريجيَّا مِنْ رُؤى المرجِعيَّتيْنِ ، تحتَ تأثيرِ دَوَافعِ التَّجريبِ ، وَممَّنْ سَاهموا في تَرْسِيخِ هَذِهِ الظَّاهرَةِ : خزعل الماجدي ، ونصيف النَّاصري ، وزاهر الغافري ، وَرَعد عبد القادر ، ومنعم الفقير ، ومُنذر عامر ، ومحمَّد آدم ، وسيف الرَّحبي، ومحمَّد الصَّالحي ، وغيرهم ، وَمِنْ المشَاكِلِ الرَّئيسيَّةِ الَّتي تُهَدِّدُ شِعريَّةَ التَّشذيرِ : تِكرَارُ الأبنيَةِ ، الإلحاحُ على بِنْيَةِ المفَارَقَةِ ، التَّعَمُّدُ ، المنطِقيَّةُ المتَحَكِّمَةُ في إدَارَةِ الفِعْلِ الشِّعريِّ ، الاسْتِسْهَالُ .
وَلايَنْتَمِي إلى هَذِهِ الشِّعريَّةِ كَلُّ نَصٍّ شِعريٍّ قصيْرٍ ، وَهَذَا مَا تَكْشِفُهُ هَذِهِ المجتزآتُ مِنْ نَصِّ خزعل الماجدي (1951 - ) " أزْرَعُ يَدَكِ وَأقْطُفُهَا " :
أمَامَ هَذَا الشَّعرِ الطَّويلِ المُلتَهِبِ بسَوَادِهِ
سَجَدَ المَقَصُّ .
عندَمَا تَصُبِّيْنَ العَسَلَ
تسقطُ أصَابعُكِ مَعَهُ .
أخُو المَطَرِ هَذَا
فكيفَ لا أحبُّهُ ؟.
وَأنْتِ تُدَخِّنيْنَ
تَلْسَعِيْنَ ظَهْرَ حَيَوَانٍ رَاقدٍ في أعْمَاقي .
مِنْ هَوْلِ الليْلِ لَمَعَتْ سِيوفي
مِنْ هَوْلِ الليْلِ .
دُلَّني على ذَهَبٍ حَيٍّ
غَيْرِ شَعْرهَا .
أيُّهَا الكَلْبُ انْبَحْ عِنْدَمَا يَأتي أحَدٌ
مَعي فتَاتي .

منذُ سِنيْنَ
وَحْدَهُ في لَغَطٍ مُتَّصلٍ مَعَ القَمَرِ ." (31)

وَهَذِهِ النُّصوصُ لمنعم الفقير (1953 - ) :
" يُحِّدقُ بيَ الليْلُ
كَمَا لَوْ أنِّي مَطْلُوبٌ لَهُ .

عِنْدَمَا
ارْتَدَيتُ الهَوَاء َ
اعْتَرَضَتْ المِرْآةُ .
أعْضَائي
تَتَسَكَّعُ
بانْتِظارِ
الرَّغبَةِ .
في
الأرْضِ
اعْشَوْشَبَتْ
قَدَمَايَ .
لاتَنْحَنِِ
يَا جَسَدي
كَيْ
لايَتَدَحْرَج
رَأسِي ." (32)
وَهَكَذَا شَدَّد التَّشذيرُ على أنْ تَكونَ لِلوَمْضَةِ الشِّعريَّةِ الخاطِفَةِ دَلالاتٌ شِعريَّةٌ ، لالِجُمْلَةٍ شِعريَّةٍ ؛ بَلْ لِنَصٍّ شِعريٍّ كاملٍ شَديدِ الاختزالِ وَالإشْرَاقِ .

تَشَظِّي الحِكَايَةِ وَلا مَعْقُوليَّةُ السَّردِ
في مُقابلِ اهْتِمَامِ الحدَاثَةِ بِالشَّكلِ المغلَقِ ، وَالحكَايَةِ الكُبْرَى المُحْكَمَةِ ، جَاءَتْ مَا بعدَ الحدَاثَةِ ؛ لِتُؤكِّدَ على الشَّكلِ المفتوحِ ، وَالحكايَاتِ الصُّغرى المتشَظِّيَةِ ، وَلامَعْقُوليَّةِ السَّردِ ، وَتَفَجُّرِ المرَكْزِ الحِكَائيِّ ، "وَالتَّشابُكِ الاختِلاطِيِّ ، وَانهيَارِ المعقوليَّةِ وَالممكِنيَّةِ ، وَالنُّزوعِ السِّريَالي"(33) ، في السَّردِ ، وَيُمثِّلُ هَذَا الملمَحَ ، بِوضُوحٍ ، سَرْدُ فتحي عبد الله (1957- ) الشِّعريِّ ، في مُعْظَمِهِ ؛ ففي دِيوانِهِ الأوَّل : "راعي الميَاهِ "، نقرأُ :
"يَحْدثُ دَائمًا
هبوطِي مِنْ الأعَالي
وَفيَضَانٌ في قاعِ المَنْزلِ
أرَتِّبُ أمْوَاتي الأعزَّاءَ
وَبقليلٍ مِنْ الهِدُوءِ
أضَعُ القَوَاربَ
سَلاسِلُ في كُلِّ اتِّجَاهٍ
وَالرَّذاذُ يَحْتَكرُ المينَاءَ
لِمُلاكمٍ أبْيَضَ
رُبَّمَا يَعْبُرونَ بقُمْصَانٍ
خَفيفَةٍ
وَأدْعُو النَّادلَ في
هَوَاءِ الصَّباحِ
لِيُرتِّبَ الزّهورَ
فمَا زَالتْ الحَديقَةُ
تَحْتَاجُ لطائرٍ ." (34)
يُقدِّمُ الشَّاعرُ، هُنَا ، نوْعاً مِنْ شَذْرَنَةِ الحكَايَةِ ؛ الَّتي تَتَدَاخَلُ فيْهَا الصّورُ، في أدَاءٍ سَرديٍّ ، هَذَيانيٍّ ، أقرْبَ إلى الشَّطحِ السِّرياليِّ ، يَتَمَحْورُ حَوْلَ التَّجربَةِ ، وَلايبدُو مَشْغُولاً بِنَقْلِهَا. إنَّ تَشَظِّي الزَّمنِ يقودُ إلى تَشَظِّي الحدَثِ ، وَإلغَاءِ التَّسلسُلِ المنطِقيِّ ، وَتَدَاخُلِ الأحْدَاثِ وَالأزْمِنَةِ وَالأمْكِنَةِ ، وَفي ديوانِهِ :"سَعَادَةٌ مُتَأخِّرَةٌ " ، نقرأُ :
" في الصَّبَاحِ
أسْمَعُ حَيَوانَاتٍ غَريْبَةً
قطارَاتٌ يَجُرُّهَا فلاحونَ
وَسَابلةٌ يَضَعُونَ الورودَ
أمَامَ المَقابرِ
مُلاكِمًا يَهْتفُونَ لَهُ
يَتَذَكَّرُ بلُغَاتٍ مَهْجُورَةٍ
حَدِيقةً لِمُوسِيقَارٍ عَجوزٍ
فَمَنْ يَسْتَطيْعُ في الثَّلاثيْنَ
أنْ يَدَّخِرَ حَرَارَةً
لأكثَر مِنْ ذَلكَ
خَاصَّةً وَأنَا مُهَدَّدٌ
بسَرَطانِ الرِّئةِ
وَيَزُورُني مَنْ شَارَكُوا
في الحُروبِ
وَأبنَاءِ الهِلالِ
الَّذينَ ذَهَبُوا ."(35)

تَصَدُّع الحدودِ المَوْضُوعَةِ بَيْنَ الأجْنَاسِ الأدَبيَّةِ
إنَّ القولَ بنقاءِ النَّوعِ الأدبيِّ لمْ يَعُدْ مُقْنعًا ؛ فعَلَى مُسْتَوَى المنجَزِ الأدَبيِّ ، لمْ تَكُنْ الأشْكَالُ دَوَائرَ مُغْلَقَةً أوْ جُزُرًا مُنْعَزِلةً دَاخلَ الخريطَةِ الأدبيَّةِ ، كَمَا تَسْعَى نظريَّةُ الأنْوَاعِ الأدَبيَّةِ إلى تَكْريْسِهِ ؛ " فَالحدودُ بَيْنَهَا تُعْبرُ بِاسْتِمرَارٍ، وَالأنْوَاعُ تُخْلَطُ أوْ تُمْزَجُ..وَتُخْلَقُ أنْوَاعٌ جَديدَةٌ "(35). وَقَدْ رَكَّزَتْ مَا بَعْدَ الحدَاثَةِ ، على قِيْمَةِ " مُنَاهَضَةِ الشَّكلِ المنْتَهِي ، وَدَعَتْ للشَّكلِ المفتوحِ."(37)
وَلمْ تكْتَفِ قصيدَةُ النَّثرِ بِكَوْنهَا شَكْلاً شِعريَّا جديدًا ، وَإنَّمَا تَجَاوَزَتْ ذَلكَ إلى مَفْهُومٍ أكْثَر شمولاً ، ينزعُ إلى كَوْنِهِ شَكْلاً جَامِعًا ؛ يجمعُ في فَضَائِهِ شَتَّى الإمكانيَّاتِ المتَاحَةِ في الأشْكَالِ الأدبيَّةِ الأخْرَى، وَيَصْهَرُهَا في نَسِيْجِه العَامِّ ، وَبِنْيَتِهِ الشَّاملَةِ ،وَمِنْ التَّجارَبِ البَارزَةِ في هَذَا السِّياقِ : (النَّشيدة) لعلاء عبد الهادي (1956 - ) ؛ حَيْثُ يخرجُ فيْهَا علاء على إطَارِ القصيدَةِ إلى آفَاقِ الشَّكلِ المفتوحِ ، وَشِعريَّةِ الكتَابَةِ ، مُسْتَثْمِرًا في بنائِهَا أنْوَاعًا أدبيَّةً مُتعدِّدَةً ، تَشْمَلُ مُجْمَلَ الكِتَابَةِ الأدبيَّةِ ، وَهِيَ : النَّثرُ الفَنيُّ ، النَّثرُ الصُّوفيُّ الشِّعريُّ ، القِصَّةُ القَصِيرَةُ ، المسرَحُ ، الشِّعرُ؛ بِتَجَليَاتِهِ المخْتَلِفَةِ ، تأسِيسًا لمبدأ:وَحْدَةِ التَّجربَةِ وَتَعَدُّدِ الأدَاءِ ؛ فَبِجَانِبِ إمْكانيَّاتِ الشِّعرِ المخْتَلِفَةِ ، يَتَجَلَّى السَّردُ في خِبرَاتِهِ الكُبْرَى ؛ ففي المقَامِ الأوَّلِ سَردٌ يُبَاري أدَاءَ النَّفَّريِّ ، وَيَتَّحدُ بِهِ ، وَفي المقَامِ الثَّاني سَردٌ يُنَاظرُ (طَوْقَ الحمَامَةِ) لابْنِ حَزْمٍ الأندلُسِيِّ ، وَيُوَظِّفُ فيْهِ نصوصًا شِعريَّةً عَربيَّةً أيروسيَّةً ، وَفي المقَاميْنِ الثَّالثِ وَالرَّابعِ سَردٌ يُنَازعُ سَردَ الجاحِظِ وَالتَّوحيديِّ ، وَيَسْتَثْمرُ في مجرَاهُ الكثيرَ مِنْ مَقُولاتِ نظريَّةِ الأدَبِ العَربيِّ ، وَأبياتًا مِنْ عيونِ الشِّعرِ العَربيِّ ، وَفي المقَامِ الأخيرِ سَردٌ ينتمِي إلى أدَبِ المجلِسيَّاتِ ؛ وَبخاصَّةٍ : مقَامَة القَريضِ لبديعِ الزَّمَانِ الهَمَذَانيِّ .
يُؤدِّي النَّثرُ الخالِصُ – دَاخِلَ البنيَةِ الشِّعريَّةِ الكامِلَةِ – أدْوَارًا شِعْريَّةً مُتَعَدِّدةً ، وَيَسْتَثْمِرُ النَّصُّ ، بِشَكْلٍ أسَاسيٍّ ، تقنيَةَ المقَامَاتِ ؛ حَيْثُ يقومُ النَّصُّ على بَطَلٍ وَرَاويةٍ (38)، وَحَيْثُ تَتَعَانقُ فيْهَا شِعريَّةُ النَّثرِ الفَنيِّ وَشِعريَّةُ القَصيدِ ، وَبَطَلُ المقَامَةِ ، هُنَا ، ليْسَ شَخصيَّةً غَيْريَّةً ، بَلْ (أنَا) أخْرَى ؛ قَرِينٌ ، وَبنيَةُ المقَامَةِ ، هُنَا ، تَسْتَقِلُّ عَنْ عُنْصرٍ بِنائيٍّ أسَاسِيٍّ في بنَاءِ المقَامَاتِ ، وَهُوَ الزُّخرفُ البديعيُّ ، وَبخاصَّةٍ السَّجع ، وَالملاحَظُ ، هُنَا ، إطلاقُ مُصْطَلَحِ المقَامِ ، وَهُو مَا يَسْتَدعِي دَلالتَهُ الصُّوفيَّةَ .
يبدأ كُلُّ مقامٍ ، بِسَرْدٍ شِعريٍّ ، ثمَّ يتحَوَّلٌ إلى شِعرِ التَّشطيرِ الحُرِّ ؛ الموزونِ أوْ المنثورِ ، وَيَتَمَتَّعُ كُلٌّ مِنْ السَّردِ الشِّعريِّ وَالتَّشطيرِ الحُرِّ بِتَجلِّيَاتٍ مختلِفَةٍ ؛ حيثُ تَتَّسِعُ البِنيَةُ الشِّعريَّةُ في (النَّشيدَةِ) ، لمحاوَرَةِ التُّراثِ الصُّوفيِّ وَالتُّراثِ النَّقديِّ وَتُرَاثِ العِشْقِ وَالتُّراثِ الشِّعريِّ بآليَّاتِهِ المتعدِّدةِ .
تتنَّوعُ تجلِّيَاتُ الشِّعرِ، دَاخِلَ بِنيَةِ (النَّشيدَةِ) الشِّعريَّةِ ؛ لِتَشْمَلَ تَصَانيفَ الشِّعرِ الأسَاسِيَّةِ المتوَاجِدَةِ في المشْهَدِ الشِّعريِّ ، كَمَا يلي :
- شِعرُ الوزْنِ وَالقافيَةِ الكِلاسِيِّ ،وَمِنْهُ رثاءُ الرَّاويةِ لقرينِهِ في هَذَا النَّصِّ :
" رَثيتُكَ يَاقَرينُ وَلا أُصَـادي وَلمْ أكُ مِنْ جَفَاكَ ، وَلمْ تُعَـادِ
تُدثِّرُ دَفْقَةُ الشَّهقَاتِ صَـدْري وَكَمْ خَالَعتُ في صَحْـوي رُقـَادي
لِمُعْتَقلِ اللسانِ بغير شَكْوٍ طـَوَاهُ الوَقتُ يأتي في سُهَادي
فَكَانَتْ دَعْــوَتي لِلقاكَ شَوْقًا وَكَانَ فِرَاقنَا وَصْلاً وَ هَادي
عَلامَ تَحُضُّني زُفَّاتُ خَطْوٍ تُهِيْجُ نَشيدَتي صَمْتًا وَشَادي
فَكَمْ يَتَوَارَى في النُّسَّاكِ شَجْوٌ وَكَمْ تَتَجَاهلُ الخُطُواتُ حَادي " (39)
شِعرُ الَّتفعيلَةِ ، المعتمِدِ على تِكرَارِ التَّفعيلَةِ ،وَتِكرَارِ بعضِ الحروف، وَاسْتِثمارِ الفَراغِ ؛ لإبرَازِ البُعدِ الإيقاعيِّ للنَّصِّ :
" هِيَ ذِي ... تُنَازعُني الفَضَاءْ
وَتَسُوقُ لي الفَجَوَاتِ
تَمْلؤهَا الرُّؤى !
هَذَا أنَا المَبْسُوطُ
خَطَّ مَلاحِمًا
هَلْ أسْتَريحُ كَمَا اسْتَرَاحَ الخَطوُ في شَبَقِ الدُّعَاءْ ؟
صَوْتي يُعَتِّقُ حُلْمَهُ
فَوْقَ السَّمَاءْ ." (40)
شِعرُ النَّثرِ الحُرِّ free verse المعتمِدِ على اسْتِثمَارِ طاقاتِ النَّبرِ؛ لإبرازِ الإيقاعِ، كَمَا يُسَاعِدُ على تمديدِ الإيقاعِ علاقاتُ السُّطورِ الشِّعريَّةِ بعضِهَا ببعضٍ ، وَمِنْهُ : علاقَةُ السَّببيَّةِ ، أوْالنَّتيجَةِ ، أوْالعَطفِ ، أوْالتعليْلِ :
" كَمْ فَاحَ إسْرَائي بفَضَائحَ أشْرَعَتْهَا المُمْكِنَاتُ
فقبلتُ الأمَانةَ
وَتَعَاطتنِي البلادُ .
تغضَّنَتْ نَافذتي ...
وَأنَا أُرْجعُ البَصَرَ.. إلى غَيْمَةٍ شَاردَةٍ
أفتحُ قلبي .. بمَا دَسَّتْهُ التَّبَاريحُ ..
فيدخلُ قلبي غُرابٌ ،
كَتَبَ نبوءَتَهُ بريشتيْنِ مِنْ صُرَاخٍ ،
وَمَا تَبَقَّي في العروقِ
تَمَاهَيْتُ دَاخِلِي ." (41)

شِعرُ التَّشذيرِ وَالصَّفَاءِ اللغويِّ المقطَّرِ :
" يَشُدُّني جَسَدي إليَّ
وَمَا مَدَدْتُ لَهُ يَدِي ! " (42)

" هَذي قَدمٌ
يَتَعَرَََّقُ مِنْ تَعَبي فيْهَا الغَيْمُ ." (43)

شِعرُ النَّثرِ الَّذي يعتمِدُ التَّفاصِيليَّةَ وَاليوميَّ المعِيْشِ :
" مَرََّتْ دقيقتانِ
تَأخَّرْتُ عَنْ " التَّوقيعِ " قليلاً ...
سَيُوقِّعُ لي صَديقِي
صَبَاحًا جَديدًا ... ! " (44 )

" حَارَةُ " مُسَعد " تُمشِّطُ هَوَاءَ "مايو".
البَقَّالُ يُرتِّبُ أحْلامَهُ
بعضُ الغُبارِ المُنَدََّى تَقْذفُهُ ميَاهُ الَمحَال ِ
وَالحَارةُ تحثُّ قاطِنيهَا على المكوثِ
تختلقُ حِكْمَتَهَا بحكاياتٍ شَائعةٍ ...
عَنْ القنَاعَةِ وَالرِّضَا !. " (45)

- شِعرُ النَّثرِ المتدفِّقِ الجُمَلِ وَالإيقاعِ غيرِ المقطَّعِ Prose Poem ، وَمِنْهُ هَذَا النَّصُّ ، ذو النَّبرةِ الرَّخيَّةِ العميقَةِ ؛ المتشبِّعَةِ بلغةِ النَّفَّريِّ :
" لا تَصحُّ المُحَادَثةُ إلاَّ بَيْنَ ناطقٍ وَصَامتٍ . العِلْمُ المُسْتَقرُِّ هُوَ الجَهْلُ المُسْتَقِرُّ . الجَهْلُ حَدٌّ في العِلمِ ،لأنَّ المَعْرفَةَ الَّتي مَا فيْهَا جَهْلٌ هِيَ المَعْرفَةُ الَّتي مَا فيْهَا مَعْرفَةٌ . فاحْمَلْ عِلْمَكَ في تعلُّمِكَ، فإذَا علِمْتَهُ فألقِ مَا مَعَكَ . أعْدَى عَدوٍّ لكَ إنَّمَا يُحَاولُ إخْرَاجَكَ مِنْ الجَهْلِ لا مِنْ العِلْمِ.. لأنًَّ العَالِمَ يَرَى عِلْمَهُ وَلا يَرَى المَعْرفَةَ ، فإنْ لمْ تَرَني وَرَاءَ الضِّديْنِ رُؤيةً وَاحِدَة، لمْ تَعْرفْنِي ." (46)
هَكَذَا تَتَوَاشَجُ الأنواعُ الأدبيَّةُ دَاخِلَ البنيَةِ الشِّعريَّةِ الكُبْرَى ، وَتَتَعدَّدُ التَّجليَّاتُ ، في فَضَاءِ نَصٍّ جَامِعٍ ، مفتوحٍ بجهاتِهِ الشِّعريَّةِ على الأنحاءِ .

جَسَدانيَّةُ الذَّاتِ الفَرديَّةِ
كَانَ الجسَدُ الإنسانيُّ في شِعريَّةِ الحدَاثَةِ كائنًا فلسفيًّا ، أوْ أيدلوجيًّا، وَمَعَ شِعريَّةِ مَا بعدَ الحداثَةِ اسْتَعَادَ حقيقتَهُ البيولوجيَّةَ الأسَاسِيَّةَ ؛ ليُصْبِحَ كائنًا مِنْ لحم ٍوَدَم ٍ، وَحَوَاس ٍ، وَكَانَتْ الذَّاتُ الإنسانيَّةُ ذاتًا كُلِّيَّةً جمعِيَّةً ؛ ذَاتَ رُؤى مُطْلَقَةٍ وَمَعْرفيَّةٍ شَاملةٍ ، وَمَعَ شِعريَّةِ مَا بعدَ الحدَاثَةِ أصْبَحَتْ ذاتًا فَرديَّةً عَاديَةً ؛ لاتدَّعي أكثرَ مَا تكونُ بِالفِعْلِ وَمَا تملكُهُ حَقيقةً ، لا تهربُ مِنْ إنسَانيَّتِهَا وَصَبَواتهَا وَإحبَاطاتهَا وَتَشَوُّقاتهَا وَانْكِسَاراتهَا إلى آفاقٍ تخييليَّةٍ وَمَعْرفيَّةٍ ، وَلاتَتَكتَّمُ لُغةَ الجسَدِ ، وَلا تحجبُ تطوُّحاتِهِ وَإشْرَاقاتِهِ وَصَبَواتِهِ الحقيقيَّةَ .
إنَّ اسْتِعَادَةَ إنسانيَّةِ الإنسَانِ ، مِنْ زِحَامِ التَّشكِيلاتِ اللغويَّةِ وَالمجازيَّةِ ، وَالتَّركيزِ عَلى مَاهُوَ جَسَديٌّ وَمَعِيْشٌ في التَّجربَةِ الإنسَانيَّةِ ، في طَليعَةِ اشْتِغَالاتِ الشِّعريَّةِ الرَّاهِنَةِ ، وَقَدْ تَعَالَقَ تحرُّرُ الإنسَانيُّ بِتَحرُّرِ الشِّعريِّ مِنْ شَتَّى المفاهِيمِ وَالمحدَّداتِ الشِّعريَّةِ ، في خَطَابٍ شِعريٍّ حُرٍّ ؛ تَتَجَسَّدُ فيْهِ حُريَّةُ الذَّاتِ الإنسَانيَّةِ .
وَقَدْ تبَدَّتْ خصوصِيَّةُ هَذِهِ الذَّاتِ على محوريْنِ رَئيْسِيْنِ مُتَكَامِليْنِ ، يحفظَانِ لهَا خُصوصِيَّتَهَا الخَالصَةَ ، هُمَا:
الفَضَاءُ الإيروسيُّ .
التَّاريخُ الطُّفوليُّ الشَّخصِيُّ.

فَعَلَى المحورِ الأوَّل ؛ الفَضَاءِ الإيروسِيِّ
رَكَّزتْ مَا بعدَ الحدَاثَةِ على تحريرِ الجسَدِ مِنْ آليَّاتِ القمعِ المضْرُوبَةِ حَوْلَهُ ، وَالكَشْفِ عَنْ صَوْتِهِ السِّريِّ وَتَوَقُّدِهِ الجنسيِّ ، وَكَانَ هَذَا التَّركيزُ جزءًا مِنْ اهتِمَامِهَا بِالمعِيْشِ وَاليوميِّ وَالحياتيِّ وَالشَّخصيِّ ؛ فالبُعْدُ الجِنْسِيُّ أحدُ الأبعادِ الرَّئيسيَّةِ لِلْجَسَدِ ، وَيَقِفُ وَرَاءَ الكثيرِ مِنْ صورِ الفِعْلِ الإنسانيِّ عَامةً .
يَتَعَامَلُ شَاعرُ مَا بعدَ الحداثَةِ مَعَ فِعْلِ الجنْسِ بِاعْتِبَارهِ فعْلاً إنسانيًّا طبيعِيًّا خَالِصًا، مِنْ أحْدَاثِ الحيَاةِ اليوميَّةِ الحميمَةِ ، ضِمْنَ تفاصِيلَ حياتيَّةٍ عاديَّةٍ أخْرَى .
تَتَكَاشَفُ الذَّاتُ الشِّعريَّةُ ، هُنَا ، في نبرةٍ حميمَةٍ وَخَالصَةِ الصِّدقِ ، وَلا تَسْعَى إلى الاتِّجَارِ الرَّخيصِ بِالثَّقافةِ الجنسيَّةِ ، أوْإثارَةِ بعضِ المحرومِيْنَ وَالمكبوتِيْنَ وَالمحبَطِيْنَ ، وَلكنَّهَا تَسْعَى إلى القبضِ على صورٍ إنسانيَّةٍ حقيقيَّةٍ ، ظَلَّ الفَنُّ سَاكتًا عَنْهَا طويلاً ، وَنابذاً لهَا، نقرأُ لأحمد يماني (1970 - ) هذَا المقطَعَ :
" كُلّ أسبوعٍ في سُوقِ الثُّلاثاءِ
طُرُقٌ طويلةٌ مَليئةٌ بِالنَّسَاءِ ، أتَحَرَّكُ في الوَسَطِ
وَأتْرُكُ ليدي اليُمنَى أنْ تَسْقُطَ
على الأرْدَافِ المُنْتَصِبَةِ، طريَّةٌ وَمُنْتَصِبَةٌ ،
مُحَدَّدةٌ جِدًّا وَمائيَّةٌ جِدًّا ،
هَذَا مَا أحُبُّهُ تَمَامًا
أتَحَرَّكُ لِسَاعَةٍ أوْ سَاعتَيْنِ
وَأعودُ مُحَمَّلاً بآلافِ الصِّورِ
الَّتي أسْتَخْدِمُهَا لترطيْبِ خَيَالي ،
وَإثارَةِ عِضْوي مُتَوسِّطِ الحَجْمِ
كَيْ يَقْذفَ ملايينَ النِّسَاءِ مِنْ فتْحَتِهِ الصَّغيرَةِ ." (47)
وَلياسر عبد اللطيف (1969-) ، هَذَا النَّصُّ ، بعنوانِ :" الحَالمة ":
" لأنَّ لَهَا تَاريخًا طويلاً مِنْ الاسْتِمْنَاءِ
كَانَتْ إذَا تَعَيَّنَ لَهَا الجنْسُ
تُبقِي عَيْنَهَا مفتوحتيْنِ تَحْتَ حُمَّى القُبَلاتِ
وَأثنَاءَ المُضَاجَعَاتِ المَبْتُورَةِ
تُبقِي عَيْنَهَا مفتوحَتَيْنِ لا التِهَامًا لِلَّحظَةِ
وَإنَّمَا اخْتِزَانًا لَهَا ؛ لِيَتَسَنَّى لَهَا اسْتِدْعَاؤهَا
في لَحَظَاتِ الوحدة المُطْلَقَةِ ." (48)
وَكثيرًا مَا تَتَكاشَفُ هَذِهِ الذَّاتُ في اعْتِرَافاتٍ ، تكشفُ فيْهَا انتِهَاكاتهَا وَخُرُوقَاتهَا لِكُلِّ مَايُحِدُّ مِنْ أشْوَاقِهَا وَصَبَواتهَا ، وَمِنْ ذَلكَ هَذَا المجتزأ لأسَامة الدَّناصوري (1960 – 2007):
" سَامِحِيني يَا صَدِيقَتِي
لأنِّي طِوَالَ حَدِيثِنَا
وَكُلَّمَا طُرفَتْ عَيْنُكِ
كُنْتُ أخْتَلِسُ نَظْرَةً سَريعَةً إلى جُزْءٍ مِنْكِ :
مَنْبَتِ الشَّعرِ المَائلِ قليلاً
إلى أعْلَى يَمِيْنَ الجَبْهَةِ
إثْرَ جُرْحٍ قديمٍ في الخَدِّ.
سِيولةِ الكَتِفِ العَاري
وَحِيْنَ ذَهَبْتِ إلى دَوْرَةِ الميَاهِ
كُنْتُ أبْكي وَأنا أرَى جَسَدَكِ الصَّغِيْرَ
يَمْرُقُ مِنْ بَيْنَ المَوَائدِ
هَلْ يَجبُ أنْ أخْبرُكِ
أنِّي لمْ أتَعَمَّدْ لَمْسَ ذِرَاعَكِ وَأنَا أشْعِلُ لَكِ السِّيجَارَةَ ؟
لكنِّي أقولُ لَكِ :
إنَّ هَذِهِ الهَديَّةَ الثَّمينَةَ
جَعَلتْ بقيَّةَ أعْضَائي تَبْتَهِلُ طيلَةَ السَّهْرَةِ
شَاكِرَةً ليدي اليُسْرَى ." (49)

وَعلى المحورِ الثَّاني ؛ التَّاريخِ الطُّفوليِّ الشَّخصيِّ
شَدَّدَتْ مَا بعدَ الحداثَةِ على مَرْحَلةِ الطُّفولَةِ ، ضِمْنَ تَرْكيزِهَا على الإنسانيِّ وَالشَّخصيِّ وَالحميْمِ . لَقَدْ كَانَ الإنسانُ ، في الحدَاثَةِ كائِنًا مَعْرفيًّا ابستمولوجيًّا – وَكَانَ مِنْ قَبْلُ كائِنًا أيدلوجيًّا – وَمَعَ ما بعدَ الحدَاثَةِ اسْتَطَاعَ أنْ يَسْتَعِيدَ حَقيقَتَهُ كَكَائنٍ بَشَريٍّ ؛ ذِي حَيَاةٍ حقيقيَّةٍ فِعْليَّةٍ ، وَمَرْحَلَةُ الطُّفولَةِ مِنْ أهَمِّ مَرَاحِلِ الحيَاةِ ؛ فيْهَا يَتِمُّ اكْتِشَافُ العَالَمِ ، وَالاصْطِدَامُ بِسُلُطَاتِهِ وَآليَّاتِهِ القَمْعيَّةِ ، فيْهَا البَرَاءَةُ وَالبَسَاطَةُ وَالرَّهَافَةُ ، كثيرونَ حَاوَلوا أنْ يَبْلُغَوا أُفُقَ الطُّفولَةِ وَيُحَلِّقُوا فيْهِ وَيَتَمَاهَوا دَاخِلَهُ ، وَيَتَبَنَّوا رُؤيَةَ الطُّفولَةِ لِلْعَالمِ ، وَتَمَرُّدَهَا الإنْسَانيَّ البسيطَ على السُّلُطَاتِ الاجتماعيَّةِ المضروبَةِ حَوْلهَا ، وَاكْتِشَافهَا المفَارَقاتِ ، وَمِنْ هَذِهِ الشِّعريَّةِ هَذَا المجتزأُ لياسر عبد اللطيف :
" في حَيِّنَا الصَّغيرِ ، لَمْ يكُنْ هُنَاكَ سِوَى طبيْبٍ وَاحِدٍ ،
يُعَالجُ جَميْعَ أنْوَاعِ المَرْضَى
وَكثيرًا مَا كَانَ يَتَجَاوزُ دَوْرَهُ كَطبيْبٍ ؛
لِيقومَ بدورِ المُصْلحِ الاجْتِمَاعِي وَالوَاعِظِ الأخْلاقيِّ . وَكَانَتْ أيَاديهِ البَيْضَاءُ على كُلِّ بَابٍ مِنْ بيوتِ الحَيِّ ؛ لِلحَدِّ الَّذي جَعَلَ المُدَرِّسيْنَ يُشِيْدُونَ بهِ في بدَايَاتِ الدِّروسِ ، وَإمَامُ المَسْجدِ طَالَمَا دَعَا لَهُ عَلى منبرِ الجُمْعَةِ ، لكنِّي أبدًا لمْ أقتنِعْ بعقاقيرِهِ ، وَفائِدَتُهُ الوَحيدَةُ بِالنَّسبَةِ لي في حَديْثٍ سَمِعْتُهُ يُلَخِّصُ فيْهِ مَعْنَى الحَيَاةِ لِعَجُوزٍِ تَبيْعُ الوَرْدَ بجَانبِ سُورِالمَدْرَسَةِ وَمَازلْتُ أحْتَفِظُ لَهُ بصُورَةٍ طريفَةٍ التقَطَهَا لنَا أبي خِلالَ زيَارَةِ الطَّبيْبِ لِمَنْزِلنَا بِسَبَبِ إِحْدَى وَعَكَاتي الطُّفوليَّةِ .
كُنْتُ فيهَا أجْذِبُ لِحيَتَهُ الصَّغيْرَةَ ، وَهُوَ يَقُومُ بتَمْريضِي في طَقْسٍ مِنْ طُقُوسِهِ غيْرِ المُجْديَةِ ." (50)
وَمِنْ هَذِهِ الشِّعريَّةِ ، أيضًا ، هَذَا المجتزأُ لهدى حسين (1972 – ) :
" تُدينُ لي مَدْرَسَةُ الرَّاهباتِ بأرْبَعَةَ عََشَرَ عامًا مِنْ القُدوةِ الحَسَنةِ في الإذَاعَةِ المَدْرسِيَّةِ ، وَانْزعَاجٍ أبلهٍ عندَمَا تُؤكِّدُ إحْدى الطَّالباتِ أنَّ الزِّي المَدْرَسِيَّ يجبُ اختِرَاقهُ بشْكلٍ مَا، وَأرْبَعَةِ أعْوامٍ قايضَتْني بهَا الجَامعَةُ رئَةً تؤهِّلُني لامْتصَاصِ غُبَارٍ أشدّ ، وَللحنينِ إلى أصْدقاءِ الطُّفولةِ الَّذينَ مَازَالتْ أسْمَاؤهُمْ مَحْفُورَةً على أبْوَابِ حَمَّامَاتِ المَدْرَسَةِ ، وَالَّذينَ تَسَاقَطوا الآنَ في طريقِ العَوْدَةِ في أكيَاسٍ للتَّبوُّلِ اللا إراديِّ ، سَتَطْرَبُ العَجَائزُ المُتَصَابيَاتُ لاكْتِشَافِ عطورهنَّ في ذكورَةٍ تُريدُ أنْ تَتَقَافزُ مِنْ فَتَحَاتٍ مِنْ السَّراويلِ ، تَمَامًا ، كانْفِلاتِهِمْ مِنْ فَتَحَاتِ السُّورِ المَدْرَسِيِّ ." (51)

وَلَدَى البعْضُ كَانَ الكثيُر مِنْ اسْتِحضَارِ عَوَالم الطُّفولَةِ ؛ بِتَفَاصِيلِهِ البسِيْطَةِ الدَّقيقةِ غيْرَ بَريءٍ تمامًا ؛ حيثُ وَقَفَتْ الرُّؤيةُ السَّرديَّةُ للشَّاعرِ السَّاردِ ، أحْيانًا ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَشْهَدِ الطُّفولَةِ المسْتَعَادِ ، وَحَافَظَتْ على وجودِ المسَافَةِ الزَّمنيَّةِ بينهُمَا ، وَفي أفضَلِ الحالاتِ كانتْ الذَّاتُ السَّاردةُ تَتَوَحَّدُ مَعَ الذَّاتِ الطُّفوليَّةِ ، وَتُلْغِي هَذِهِ المسَافةَ ، وَتَتَجَنَّبُ أيَّ وصَايةٍ على فِعْلِهَا أوْ بثِّ أيَّ رسَالةٍ ، فَقَطْ كَانَتْ تكتفِي باخْتِيارِ الموقفِ الدَّالِ وَعَرْضِهِ .
وَكثيرًا مَا تُتيحُ الرُّؤيَةُ السَّرديَّةُ الطُّفوليَّةُ لِلشَّاعرِ ، التَّعبيرَ عَنْ مَوْقفِ الشَّاعرِ السَّاردِ مِنْ عَالمِ الكِبَارِ وَتحدِّيهِ الدَّائمِ لَهُ ، وَمُقَاومَتِهِمْ ، وَمُرَاوغَتِهِمْ أحْيانًا .وَمِنْ ذَلكَ هَذَا المجتزأ لإيمان مِرسَال : (1966 - ) :
" رُبَّمَا الشُّباكُ الَّذي كُنْتُ أجْلِسُ بجَانِبهِ
كَانَ يَعِدُني بمجدٍ غيرِ عَاديٍّ
كتبْتُ عَلى كُرَّاسَاتي
إيمان ...
طالبَةٌ بمَدْرَسَةِ : إيمان مِرسَال الابتدائيَّةِ
وَلَمْ تَسْتَطعْ عَصَا المُدرِّسِ الطَّويلِ ،
وَلا الضَّحكاتُ الَّتي تنطُّ مِنْ الدِّكاتِ الخلفيَّةِ ،
أنْ تُنْسِيني الأمْرَ
فكَّرتُ أنْ أُسَمِّي شَارعَنَا باسْمِي
شَرْطَ تَوْسيعِ بيوتِهِ
وَإقامَةِ غُرَفٍ سِريَّةٍ
بمَا يَسْمَحُ لأصْدقَائي بالتَّدخيْنِ دَاخلَ أسِرَّتِهِمْ ،
دُونَ أنْ يَرَاهُمْ أخوتُهُمْ الكبَارُ ." (52)
وَيُلاحَظُ أنَّ الشَّاعرَ- في هَذِهِ الشِّعريَّةِ - يُركِّزُ على الجسَدِ كَمَا يَعْرفُهُ ، وَكَمَا يُعَايشُهُ ، لا كَمَا اسْتَوْعَبَهُ عَنْ طريقِ المثاقَفَةِ ، كَمَا أنَّ احْتِفاءَهُ بِالطُّفولةِ ، تَشَبُّثٌ بحيوَاتٍ يُجَاهدُ كَيْ لا تُفْلِتُ مِنْهُ وَتَتَلاشَى .

جَماليَّاتُ القُبحِ
وَاجَهَتْ مَا بعدَ الحدَاثةِ النُّزوعَ إلى المقدَّسِ وَالسَّامي وَالنُّخبويِّ ، بِالتَّركيزِ على المهْمَلِ وَالمهَمَّشينَ وَالبُسَطاءِ ؛ فَكَانَتْ أقرَبَ إلى الشِّعارِ الَّذي رَفَعَتْهُ جماعَةُ (الفَنِّ وَالحريَّةِ) – في أواخِرِ الثَّلاثينيَّاتِ :" يحيَا الفَنُّ المنْحَطُّ "!، وَلحالةِ رامبو(1854 – 1891) ،حينَ خَطَّ في (فَصْل في الجحِيْم) :
" ذَاتَ مَسَاءٍ أجْلَسْتُ الجَمَالَ على حِجْري ، فَوَجَدْتُهُ حَامِضًا ، فَرَمَيْتُهُ ، تَسَلَّحْتُ ضِدَّ العَدَالةِ ."
يُواجِهُ الشَّاعِرُ هَذَا الجَمَالَ الحامِضَ ، بجماليَّاتٍ مُضَادةٍ ؛ تقومُ بِوَخْزِ أحَاسِيْسِهِ ، وَتحدِّي ذَائِقَته ، وَانْتِهاكِهَا ، بِاشْتِغَالهَا على عالمِ القُبْحِ ؛ بِتَفَاصِيلِهِ الواقعيَّةِ المسْقَطَةِ وَالمسْكوتِ عَنْهَا ، وَتَرْكيزِهَا على تفاصِيلِ البُسَطَاءِ وَالمهَمَّشِينَ وَالمسْحوقيْنَ ، وَهَذِهِ الجماليَّاتُ المضَادَّةُ مِنْ أبْرَزِ الأسْلِحَةِ الجمَاليَّةِ ، الَّتي وَاجَهَتْ بهَا مَا بعدَ الحدَاثَةِ جماليَّاتِ النُّخبَةِ السَّامِيَةِ الفاسِدَةِ ، طَعْنًا في ذَائِقَتِهَا ، وَرْفَعاً لعالمٍ آخَرٍ ، وَحَيَوَاتٍ أخْرَى ، في مُوَاجَهَةِ عَالمهَا وَحَيَوَاتهَا .
لاينتهِكُ الشِّعرُ ، هُنَا ، النَّموذَجَ الشِّعريَّ المكرَّسَ فَقَطْ ؛ وَإنَّمَا يَتخَطَّاهُ إلى كَسْرِ هَذِهِ الذَّائقَةِ الجَمَاعيَّةِ الرَّسميَّةِ ، بِاسْتِخْدَامِ مَا أسْقَطَهُ المجتمعُ ، اسْتِخدَامًا جَديدًا وَمُفَارقًا ؛ فَقَصيدَةُ النَّثرِ لمْ تخرُجْ ، فَقَطْ على النِّظامِ الشِّعريِّ السَّابقِ ؛ لِتَحْقيقِ نظامِهَا الخاصِّ ، وَإنَّمَا اتَّخَذَ الخروجُ شَكْلاً أوْسَعَ ، يَتَعَدَّى النَّمَطَ الشِّعريَّ ، إلى الخروجِ على سَائرِ "الطُّرقِ الممَهَّدَةِ شُعوريًّا وَفكريًّا ، وَتَقْديمِ رُؤيَةٍ مخالِفَةٍ لِلعَالمِ ، خَارِجَةً على أخلاقيَّاتِهِ وَقَوَانينِهِ ، جَارحَةً لحسِّهِ العَامِّ وَمُسيِّلَةً لدَمِهِ لا لِدِمُوعِهِ فَحَسْب." (53)
وَهَكَذَا جَعَلَتْ هَذِهِ القَصِيدَةُ ثورَتهَا الشِّعريَّةَ جُزْءًا ، وَعَلامَةً ، على ثورَةٍ أشْمَلَ ؛ تَشْمَلُ الحسَّ العامِ المهَيْمِنِ بأخلاقيَّاتِهِ المركزيَّةِ وَمحظورَاتِهِ الصَّارمَةِ .
وَهَذَا نَصٌّ لهدى حسين ، بعنوانِ : " مُتعة التَّأمُّل " :
" العيونُ الَّتي حَوْلي – كَأنَّهَا طَحَالبُ مَيِّتةٌ
تسيلُ بعَفَنٍ على وُجُوهِ المارَّةِ
أسْتَطيعُ الآنَ بوقاحَةٍ أنْ أثبِّتَ عينيَّ
على سَرَاويلِهِمْ وَأتفوَّهُ بكلمَاتٍ بذيئَةٍ ." (54)
وَهَكَذَا لمْ تجدْ هَذِهِ القَصيدَةُ غَضَاضَةً في اسْتِعمَالِ القبيحِ وَتَشْفيرِهِ ، وَتحميلِهِ بِالرِّسَالةِ الشِّعريِّةِ ، وَقَدْ تخيَّرَ الشَّاعرُ إيهاب خليفة (1973 - ) ، الصَّراصِيرَ ؛ لِيَجْعَلَهَا رَمْزًا ، وَيُحَمِّلُهَا رسَالةً شِعْريَّةً سَاميَةً ؛ تَتَضَمَّنُ مُقَاوَمَةَ الجمَاعَةِ الفَاسِدَةِ ، في نصه: "ثورة الصراصير"، ومنه :
- 1-
أيُّهَا الأفنديَّةُ
لاتَقْبَلُوا إهَانَاتٍ أكْثَرَ
وَلْتَكُنْ لَدَيْنَا العَزيْمَةُ لرَدْعِ أيِّ مُبيدَاتٍ
كُلّ يَوْمٍ تَزْدَادُ تَحَرُّشَاتُ البَشَرِ
كُلّ يومٍ يَمُوتُ منْ خيرَةِ أبنائِنَا
صَرْصُورٌ وَاعِدٌ .

-2-
اطَّلعْنَا على وَسَاخَاتِ البَشَرِ
وَنَعْمَلُ كَلَجْنَةِ تَفْتيشٍ على قَذَارَاتِهِمْ
لنَفْهَمَ سِرَّ أنْ يَعْزلَ الإنْسَانُ بُرَازَهُ
وَفي نَفْسِ الوقتِ لا يَتَنَصَّلُ مِنْ القتْلِ أوْ الكَذبِ
تَوَاجُدُنَا في البَالوعَاتِ دَليْلٌ على أنَّنَا طُلاَّبُ عِلْمٍ
وَليْسَ صَحيْحًا أنَّنَا نُحِبُ الكَريْهَ مِنْ الرَّوَائِحِ
وَلكِنْ نَحْنُ عُلَمَاءٌ
نُجْري تَجَاربِنَا عَلى أنْفُسِنَا
أوَّلاً بأوَّل ." (55)
على هَذَا النَّحوِ الانتقامِيِّ يُوَاجِهُ شَاعرُ المشْهَدِ المهَمَّشِ وَاقِعَهُ الشَّائِهَ ، وَيُبَادلَهُ طَعْنًا بِطَعْنٍ ، وَاشمئزَازًا بِاشْمِئزازٍ ؛ ينتقِي رمُوزَهُ الصَّادمَةَ ، مِنْ وَاقِعِهِ المهَمَّشِ المنبوذِ ، بِأشَدِّ مَا اصْطُلِحَ على تَصْنِيْفِهِ بِالقُبْحِ ، وَيُحَدِّدُ مَوْقفَهُ مِنْ الوَاقعِ المرْكَزيِّ وَالكتَابَةِ المركزيَّةِ على السَّوَاءِ ؛ فَيُجَابِهَ القِيَمَ الأخْلاقيَّةَ وَالذَّائقَةَ المجتمعيَّةَ ، في الوقتِ ذاتِهِ الَّذي يُوَاجِهُ القيَمَ الجمَاليَّةَ وَالفِكريَّةَ المهَيْمِنَةِ على خِطَابِهِ ، بِقيَمٍ وآليَّاتٍ بَديلَةٍ ؛ فَيَجْعَلَ الوَضِيْعَ سَامِيًا وَالسَّامِي وَضِيعًا ، وَاللاإنْسَانيَّ إنْسانيًّا ،كَمَا في هَذَا النَّصِّ ، لماهر صبري (1969- ) ، بِعنوانِ :" لمنْ يُرَبِّتُ على ظَهْرِهِ " :
" كَلْبٌ أجْرَبُ
في حَاجَةٍ لِمَنْ يُرَبِّتُ على ظَهْرِهِ
يَقِفُ تَحْتَ الأمْطَارِ
يزيدُهُ البَللُ قُبْحًا
يَسْتَجْدي حُبًّا .. وَيَتَذَكَّرُ

يَقْتَربُ مِنْ الأقْدَامِ
يَلْتَمِسُ حَرَارَةَ الأجْسَادِ
تَصْرُخُ امْرَأةٌ في هَلَعٍ
فيَجْري إلى الشَّارعِ المُظْلِمِ
خَوْفًا مِنْ العِصِيِّ
وَأحْجَارِ الصِّبيَانِ

بجوَارِ جِدَارٍ خَشِنٍ
وَقَفَ يَسْتَعْطِفُ الأحْجَارَ
يَحُكُّ جَسَدَهُ المُتَآكِلَ
وَيَتَذَكَّرُ
لكِنَّهُ لمْ يَعُدْ يَتَذَكَّرُ
سِوَى الشَّعرِ المُتَسَاقِطِ
مِنْ الجَسَدِ
الَّذي هُوَ في حَاجَةٍ لِمَنْ يُرَبِّتُ عَلَيْهِ ."(56)
وَعَلى المحورِ نَفْسِهِ اتَّخذَ الشَّاعِرُ البهاء حسين (1969 - ) الكِلابَ رَمْزًا شِعريَّا ، يُحَمِّلُهُ دَلالاتٍ جَديدَةً ، وَعَديدَةً ، كَمَا نجدُ في هَذِهِ المقاطِعِ الثَّلاثَةِ :
" الكِلاب ُ
لا تعْنِيهِمْ الشُّهرَةُ
أنا شَخْصيًّا لا تعْنِيني كَثِيرًا
إنَّمَا الوِحْدَةُ الَّتي تَرِنُّ
في عيونِنَا
رَنينًا أجْوَفَ.
الوِحْدَةُ الكَلْبَةُ الَّتي تَتَرَقرَقُ في الضَّميرِ ."

" لكِنَّ أبي
أوْصَاني أنْ أُقيْمَ احْتِفَالاً مَهِيبًا لَهُ
بشَرْطِ ألاَّ أدْعُو الكِلابَ
الَّتي يَتَعَفَّفُ حَتَّي عَنْ ذِكْرِ اسْمِهَا
أوْصَاني أنْ أُطَارِدَهَا
تَبًّا لَهَا
الكِلابُ الَّتي وَقَعَتْ في حُبِّ النُّجومِ
وأبي لِلأسَفِ لا يُحِبُّ النُّجومَ ."

" أُمِّي الكَلْبَةُ بَدَأتْ تَلْعَبُ بذَيْلِهَا ." (57)
يَسْتَخْدمُ شَاعرُ الهامِشِ الشِّعريِّ وَالحياتِّي ، جماليَّاتِهِ المعِيْشَةَ المضَادَّةَ ؛ لُيعبِّرَ بهَا عَنْ أحَاسِيْسِهِ الحقيقيَّةِ وَحياتِهِ الحقيقيَّةِ ، بِأشْيَائِهِ الحقيقيَّةِ ، يَكْتُبُ صبحي موسي (1972 - ) :
" لا أحَدَ يَعْرفُ الشِّعرَ أكْثَرَ مِنَّا ، وَلا أحَدَ يُصَدِّقُ أنَّنَا نقولُ شِعرًا أفْضَلَ مِمَّا يقولُهُ العُظَمَاءُ ، ليْسَ لأنَّنَا نَمْلكُ مَا يَمْلكونَهُ مِنْ اللغَةِ ،وَلكِنْ لأنَّنَا نَمْلكُ المُعَانَاةَ ، فَهُنَا في تِلكَ الضَّواحِي النَّائمَةِ عَلى حُدودِ المَدينَةِ ، يُمْكِنُنَا أنْ نَقْبِضَ عَلى الشِّعرِ في أنبوبَةِ الصَّرفِ ، في الجُدرَانِ الَّتي تَهَالَكَتْ مِنْ الرَّشْحِ في العََرَبَاتِ الحَربيَّةِ القديمَةِ الَّتي تَحَوَّلتْ إلى خَطٍّ مِلاحِيٍّ لِنقْلِنَا وَسَطَ الغَائِطِ ، في رصَاصِهَا الَّذي نَعُودُ بهِ إلى بيوتِنَا كُلَّ يوْمٍ كَأنَّنَا عُمَّالُ مَحَاجِرٍ ، هُنَا لا أحَدَ يَعْرفُ الشِّعرَ سِوَانَا ، لأنَّنَا نَطْرَبُ لِصَوْتِ شعبان عبد الرَّحيمِ ، وَنَسْعَدُ بتجْوَالنَا بَيْنَ أبْنَاءِ المَجَاعَاتِ ، وَنُحَدِّثُ الرَّاحِلينَ الَّذين اضْطُررنَا لِلإقَامَةِ مَعَهُمْ."(58)
إنَّ السَّعيَ إلى انْتِهَاكِ قوَاعِدِ الجميْلِ المستقرَّةِ في المجتمَعِ ، بِاسْتِخْدَامِ القُبحِ ، يُذكِّرُ بِالدَّاديَّةِ الَّتي كَانَتْ أوَّلَ ثَوْرَةٍ ضِدَّ الفَنِّ القَائمِ ، وَضِدَّ قوانينِهِ الإبدَاعيَّةِ المهَيْمِنَةِ ؛ حَيْثُ تَوَالَتْ صَدَمَاتُهَا لِلذَّوقِ الفَنيِّ ، وَقَوَاعدِ الفَنِّ ، وَالَّذائقَةِ الاجْتِمَاعيَّةِ ؛ فَتَوَسَّعَ مُصَوِّرُوهَا في رَسْمِ القَاذُورَاتِ وَالفَضَلاتِ وَالمسْتَهْلَكَاتِ ، وَشَكَّلُوا مِنْهَا أعْمَالهمْ الفنيَّةَ ، كَمَا أكَّدوا ثَوْرَتَهُمْ على تَقاليدِ الفَنِّ ، حِيْنَ وَضَعَ مارسيل دوشامب شَاربًا لِلموناليزا ، وَحِيْنَ وَضَعَ مَبْوَلَةَ حَمَّامٍ في قاعَةِ العَرْضِ(59). لَقَدْ كَانَ الهدَفُ الأوْضَحُ لِلدَّاديَّةِ " تحطيمَ الصُّورَةِ القَائِمَةِ وَخَرْقِ التَّابو الجمَاليِّ السَّائدِ الَّذي يَعْتَقِدُ فيْهِ الجميْعُ "(60) ، وَقَدْ أعْقَبَتْ الدَّاديَّةُ جماعَاتٌ مُتَوَاليَة تُرسِّخُ لِتيَّارٍ ضَدِّ الفَنِّ ، وَكَانَ مِنْهَا جماعَةُ فلكسس الأمْريكيَّةُ ؛ الَّتي دَعَتْ إلى تنظيْمِ إضْرَابٍ في نيويورك أمَامَ مُتْحَفِ الفَنِّ الحديثِ وَمُتْحَفِ الميتروبوليتان وَمَرْكَزِ لينكولن ، وَحَمَلَ المُضْرِبُونَ لافِتَاتٍ تُنَادِي بتَدْميرِ الثَّقافَةِ الجادَّةِ ، وَتَدْميرِ الفَنِّ ، وَتَدْميرِ المتَاحِفِ الفنيَّةِ ، وَتَدْميرِ قَاعَاتِ الموسِيْقَى ، بَلْ وَتَدْميرِ مَرْكزِ لينكولن نَفْسِهِ ."(61)
وَمَا حَدَثَ مَعَ الدَّادييْنَ عَشِيَّةَ انْدِلاعِ الحرْبِ العالميَّةِ الأوْلى ، حَدَثَ مَعَ مَا بَعْدَ الحدَاثييْنَ العَرَبِ عَشِيَّةَ َبِدَايَةِ الحرْبِ الأمريكِيَّةِ على العِرَاقِ ، لَقَدْ أصْبَحَ الموقِفُ الشِّعريُّ الصَّادِمُ العنيفُ جُزْءًا مِنْ مَوْقفٍ ثَوْريٍّ أشْمَل ، يَتَوَاشَجُ فيْهِ الجمَاليُّ وَالاجتماعِيُّ وَالسِّياسِيُّ ، غَيْرَ أنَّ البَعْضَ قَدْ تَصَوَّرَ أنَّ مُجَرَّدَ انْتِهَاكَاتِ الذَّوقِ العَامِ ، في حَدِّ ذاتهَا ، فِعْلٌ شِعريُّ يمتَلِكُ قيْمَةً شِعريَّةً ذَاتيَّةً ، وَهَذَا مِنْ بابِ الوَهْمِ .




الإحَالاتُ وَالتَّعلِيقَاتُ

(1) د.صلاح فضل - قِراءَة الصُّورة - مكتبة الأسرة : الهيئة المصْريَّة العامة للكِتَاب - 2003 - ص : 96 .
(2) فخري صالح - يانيس ريتسوس في الشِّعرِ العربيِّ المعاصِر : ولادَةُ قصيدَةِ التَّفاصِيل - مجلَّة:(الثَّقافَة الجديدة) - العدد : 98 - نوفمبر 1996 - ص ص : 39 - 40.
(3) سعدي يوسف - يوميَّاتُ الجنوبِ يوميَّاتُ الجنون - دار ابن رشد - بيروت - 1981 - ص : 16.
(4) د. سيزا قاسم - بناءُ الرِّوايَةِ - مكتبة الأسرة : الهيئة المصْريَّة العامة للكِتَاب - 2004 - ص : 94 ، وَقَدْ اسْتَبْدَلنَا كلمةَ السَّارد بالرّوائي ؛ لتُلائِمَ السِّيَاقَ .
(5) فاضل الأسود - السَّردُ السِّنيمائيُّ - الهيئة المصْريَّة العامة للكِتَاب - 1996- ص :168 .
(6) يحى جابر - الزُّعران- بيروت - 1991 - ص : 39 .
(7) كريم عبد السَّلام - فتاةٌ وَصَبيٌّ في المدافن - دار الجديد - بيروت - 1999 - ص : 11 .
(8)كريم عبد السَّلام - نَائِمٌ في جوار الجوارسِيك بَارك - طبعةٌ خَاصَّةٌ -2008 - ص : 11 .
(9) محمَّد عبد المطَّلب - قصيدَةُ النَّثرِ بينَ القَبُولِ وَالرَّفضِ - مجلَّة:(قوس قُزْح) - العدد : الأوَّل - مايو 2003 - ص : 77 .
(10) اندريا هوميسون - رَسْمُ خريطةٍ لمَا بعدَ الحدَاثيِّ - ضِمْنَ كتابِ: (مَدْخَل إلى مَا بعدَ الحدَاثَةِ) ، ترجمة : أحمد حَسَّان - كتابات نقديَّة - العدد : 26- الهيئة العامة لقصورِ الثَّقافة - مارس 1994- ص : 248 .
(11) جان بودريار - الصُّور الزَّائفة وَصُور الزَّيف - ضِمْنَ :(الحدَاثَةِ وَمَا بعدَ الحدَاثَةِ) - إعداد وتقديم : بيتر بروكر، ترجمة : د. عبد الوهاب علُّوب - مراجعة :د. جابر عصفور -منشورات المجمع الثَّقافي - الإمارات العربية المتحدة - الطَّبعةُ الأولى - 1995 - ص : 98.
(12) علي منصور - ثمَّةَ موسيقى تنزلُ السَّلالم - دار شرقيَّات - القاهرة - 1995- ص : 56 .
(13) مؤمن سمير - غايَةُ النَّشوَةِ - الهيئة العامة لقصورِ الثَّقافة - فرع ثقافة بني سويف - 2002 - ص : 23 .
(14) عزمي عبد الوهاب - بأكاذيب سوداءَ كثيرةٍ - كتاباتٌ جديدَةٌ - الهيئة المصْريَّة العامة للكتاب - 1998 - ص ص : 17 - 20 .
(15) رَاجِعْ : دليل النَّاقد الأدبي - لميجان الرِّويلي ، وسعد البَازعي - المملكة العربيَّة السُّعودية – الطَّبعة الأولى - 1995 - ص : 106 .
(16) فردريك جيسمون - المنطِقُ الثَّقافيُّ للرَّأسماليَّةِ المتأخِّرَةِ ، ضِمْنَ: (مَدْخل إلى مَا بعدَ الحدَاثَةِ) - سابق - ص ص : 69 - 70.
(17) مجلَّة :(الأربعائيُّون) - العدد : 413 - شِتاء 1992 - ص : 83 .
(18) ياسر عبد اللطيف - ناسٌ وَأحْجَار - د.ن - 1995 - ص : 8 .
(19) محمود عبد اللّه - لقطةٌ باردَةٌ - الهيئة المصْريَّة العامة للكِتَاب - 2002 - ص : 11.
(20) فردريك جيسمون - المنطقُ الثَّقافيُّ للرَّأسماليَّة المتأخِّرَةِ ، ضِمْنَ :(مَدْخَل إلى مَا بعدَ الحدَاثَةِ) - سابق - ص :70 .
(21) مخطوطٌ أهدانِيه الشَّاعرُ ، في فبراير 2004.
(22) جان فرانسوا ليوتار - الوَضْعُ مَا بعدَ الحدَاثيِّ- ضِمْنَ :(مَدْخَل إلى مَا بعدَ الحدَاثةِ) - سابق - ص: 18.
(23) مجلَّة:(الثَّقافة الجديدَة) - العدد : 65 - فبراير1994 - ص : 37 .
(24) محمَّد صالح - حياةٌ عاديةٌ - أصوات أدبيَّة - العدد : 305 - الهيئة العامة لقصورِ الثَّقافة - أكتوبر 2000- ص :23 .
(25) إليكس كالينكوس - رَسْمُ الخطِّ وَالفَاصِلِ : قراءَةٌ في كتابِ فردريك جيمسون : مَا بعدَ الحدَاثَةِ ، ترجمة: بشير السِّباعي - مجلَّة: (إبداع) - نوفمبر 1992 - ص : 49 .
(26) عابد خزندار - مَا بعدَ الحدَاثَةِ : عَنْ الحدَاثَةِ وَمَا بعدَهَا - مجلَّة: (إبداع) – نوفمبر 1992 – ص : 77 .
(27) يُمنى العِيد - كلامٌ محفورٌ على جَسَدٍ - مجلَّة:(كَلِمَات) - البحرين - العدد : 17 -1992 - ص : 30 .
(28) مادان ساروب - مَا بعدَ الحدَاثَةِ : تجارَةُ المعرفَةِ وَسُؤالُ التَّاريخِ -ترجمة : مرفت دياب - مجلَّة:(إبداع) - نوفمبر 1992 - ص : 65.
(29) دليل النَّاقد الأدبي - سابق - ص : 107 .
(30) رَاجِعْ : مِنْ مُقَتَرَحاتِ الحدَاثَةِ الرَّاهنَةِ ، لحاتم الصَّكَر ، بمجلَّة :(شُئون أدبيَّة) ، السَّنة السَّادسة - العدد : 21 - صيف 1992 - ص :20 .
(31) خزعل الماجدي - أزرعُ يدكِ وَأقْطُفُهَا - مجلَّة (إبداع ) -السَّنة التَّاسعة - نوفمبر 1992 - ص ص : 110 - 111 ، وَقَدْ سَبَقَ أنْ نُشِرَتْ هَذِهِ النُّصوصُ (وَسِوَاهَا) ، في صَحيفَةِ:(القَادسِيَّةِ) العِرَاقيَّةِ ، صَفْحَة:(ثقافَةِ) ، في تاريخ : 14/6/1991 .
(32) منعم الفقير - اللوعاتُ الأربع - دار سِينا للنَّشر - الطَّبعة الأولى - 1994 - الصَّفحات التَّالية ، على التَّوالي : 166 - 167 - 171 - 197- 200 .
(33) كمال أبو دِيب - اللحظةُ الرَّاهِنَةُ في الشِّعرِ - مجلَّة :(فصول) - المجلَّد الخامس عشر - العدد الثَّالث - خريف 1996- ص 18 .
(34) فتحي عبد الله - راعِي الميَاه - الهيئة المصْريَّة العامة للكِتَاب -1993- ص ص : 10-11.
(35) فتحي عبد الله - سَعَادَةٌ مُتأخِّرَة - 1998- الهيئة المصْريَّة العامة للكِتَاب - ص ص: 13-14.
(36) رينيه ويلك - مفاهيمُ نقديَّة - ترجمة :د. محمَّد عصفور - عالم المعرفَة - العدد :110 - الكويت - 1987 - ص : 376 .
(37) إيهاب حسن - ( دليل النَّاقد الأدبي ) - سابق - ص : 18 .
(38) عندَ بديعِ الزَّمانِ الهمذانيِّ (- 398 هـ) رَائِدِ المقامَاتِ وَوَاضِعِ دَعَائِمِهَا الشَّكليَّة ، كَانَ لِلمَقَامَةِ بَطَلٌ أسَاسِيٌّ ؛ هُوَ: أبو الفتحِ السَّكندريِّ ، وَراويَةٌ ؛ هو: عِيسى بن هِشَام ،وَتَبَعًا لِلهَمَذانيِّ أنجزَ الحريريُّ (- 516 هـ) مَقَامَاتِهِ ، وَاخْتَارَ لِبَطلِهِ اسْمَ: أبَا زيدٍ السِّروجيّ ، وللرَّاوِايَةِ اسْمَ : الحارث بن همَّام ، أمَّا لَدَى علاء عبد الهادي ، فَبَطَلُهُُ هُوَ : قَرينُهُ ، وَالرَّوايَةُ هُوَ: علاءُ الرَّاويَةُ ؛ فَالعِلاقَةُ بينهُمَا عَمِيْقَةٌ كَمَا نَرَى ، وَفي الختَامِ يَرْثِي الرَّاويَةُ قرينَهُ مُعْلِنًا انتهَاءَ حَالَةِ الانْفِصَالِ وَالتَّجلِّي الآخَرِ .
(39) علاء عبد الهادي - النَّشيدَةُ - أصواتٌ أدبيَّةٌ - العدد : 334 - الهيئة العامة لقصورِ الثَّقافة - مارس 2003 - ص : 166 .
(40) السَّابق - ص ص : 26 - 27 .
(41) السَّابق - ص : 17.
(42) السَّابق - ص : 20.
(43) السَّابق - ص : 125 .
(44) السَّابق - ص : 106 .
(45) السَّابق - ص : 50 .
(46) السَّابق - ص : 12 .
(47) أحمد يماني - شوارعُ الأبيضِ والأسْوَدِ - د.ن - 1995 - ص : 25 .
(48) ياسر عبد اللطيف - ناسٌ وَأحْجَارٌ - سَابق - ص : 64 .
(49) أسامة الدَّناصوري - عينٌ سَارحِةٌ وَعَيْنٌ مُنْدَهِشَةٌ - ميريت للنَّشرِ والمعلومَات - القاهرة - 2003 - ص ص : 42 - 43 .
(50) ياسر عبد اللطيف - ناسٌ وأحجارٌ - سَابق - ص : 12 .
(51) هدى حسين - ليكُنْ - الكتاب الأوَّل : المجلس الأعلى للثَّقافة - 1996 - ص : 31 .
(52) إيمان مرسال - ممرٌّ مُعتِمٌ يصلُحُ لِتَعَلُّمِ الرَّقص - دار شرقيَّات - 1995- ص ص : 13-14 .
(53) صلاح فضل - قراءَةُ الصُّورَةِ : مكتبة الأسرة : الهيئة المصْريَّة العامة للكِتاب - 2003 - ص : 117.
(54) مجلَّة:(الكِتَابَة الأخْرَى) - العدد الثَّامن - يونيو 1994 - ص : 85 .
(55) مجلَّة:(الكِتَابة الأخْرَى) - العدد 19/20 - فبراير 1999 - ص : 119 ، وَقَدْ نُشِرَتِْ هذِهِ القصيدَةُ - فيْمَا بعدُ - في ديوانِهِ :(طائرٌ مُصَابٌ بِأنْفلونزا) - القاهرة - 2006 ، وَالملاحَظُ أنَّ إيهاب خليفة يُشَدِّدُ على شِعريَّةِ الأشْيَاءِ البَسِيْطةِ المهْمَلَةِ الَّتي تُحيطُ بنَا ، وَتُشَاركُنَا العيْشَ ؛ ففي ديوانِهِ:(مَسَاءٌ يَسْتَريحُ على الطَّاولةِ) ، يكتُبُ نُصُوصًا شِعريَّةً عَنْ التوك توك ، وكيس قمامة أسود ، ونملَة ،..
(56) ماهر صبري- ماريونيت - كتاب الجرَاد : العدد : 3- القاهرة -1998- ص :77 .
(57) البهاء حسين - نصُّ الكِلاب - دار فرحَة للنَّشر وَالتَّوزيع - 2003 - ص ص :41، 49 ، 55 .
(58) صبحي موسى - لهذَا أرْحَلُ - الدَّار للطِّباعةِ وَالنَّشر - يناير 2006 - ص ص : 146-147 .
(59) رَاجِعْ : د. محمود البسيوني - الفنُّ في القرنِ العشرين - مكتبة الأسرة : الهيئة المصْريَّة العامة للكِتَاب - 2001 - ص : 140، د. خالد محمَّد البغدادي - اتجاهاتُ النَّقدِ في فنونِ مَا بعدَ الحدَاثَةِ - الهيئة المصْريَّة العامة للكِتَاب - 2008 - ص : 159.
(60) اتجاهاتُ النَّقدِ في فنونِ مَا بعدَ الحدَاثَةِ - سَابق - ص : 159 .
(61) السَّابق – ص : 188 .



#شريف_رزق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لانبعَاثَاتُ الأولى لقَصِيدَةِ النَّثر في مَشْهَدِ الشِّعر ا ...
- شِعريَّاتُ المشْهَدِ الشِّعريِّ المصْريِّ الجديد في قصيدَةِ ...
- تداخُلاتُ الأنواعِ الأدبيَّةِ والفَنيَّةِ في قصيدةِ النَّثرِ ...
- إِشكاليَّاتُ النَّوعِ الشِّعريِّ في قَصِيدةِ النَّثْر


المزيد.....




- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف رزق - شِعريَّةُ قَصِيدَةِ النَّثرِ