أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - علي المدن - المسألة الدينية ومحطات الوعي الثلاث في الثقافة العراقية















المزيد.....


المسألة الدينية ومحطات الوعي الثلاث في الثقافة العراقية


علي المدن

الحوار المتمدن-العدد: 4708 - 2015 / 2 / 2 - 13:41
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


المحطة الأول: مجلة "العلم"

هناك ما يبدو وكأنه تقليد تاريخي أن يكون لكل جيل مجلتهم، تعبِّر عن ثقافة أبنائه وهمومهم ومشاكلهم الفكرية، وتحمل أسئلة الواقع الذي يعيشونه، وأنماط التفكير السائدة في مقاربة تلك الأسئلة. في العراق، كانت مجلة "العلم" التي أصدرها هبة الدين الشهرستاني عام 1910م تمثل الاستجابة الأبرز أمام صدمة اكتشاف التفوق الغربي وتطوره الصناعي. كان "العلم" سمة هذا التفوق وعنوانه، ولذا كان أمراً متوقعا أن يختاره صاحبها اسماً لمجلته. إنها مجلة (دينية فلسفية سياسية علمية صناعية) كما كُتب على غلافها!، والهدف من إصدارها ـــــ كما يقول مؤسسها ـــــ مواجهة الحملة التبشيرية الغربية والإرساليات المسيحية، و"ترويج" الإسلام الذي وجده: (أصح الشرائع دليلاً، وأقومها سبيلاً، وأقواها قبولاً، وأوفقها مع العقل والعلم والحضارة الحاضرة، وأسبقها بياناً للمكتشفات الحديثة). وهذا يفسر لنا ما نجده على صفحاتها من اهتمام بالغ بإشكاليتين:
الإشكالية الأولى: تتعلق بفكرة "الاكتشافات العلمية"، وإثبات أسبقية الدين الإسلامي على الغرب في معرفتها، أو في حثه وعدم ممانعته من الانشغال بها، على الضد من الديانة المسيحية التي واجهت وعارضت تلك المكتشفات. وقد استولت هذه الإشكالية على مجمل ما نشر في المجلة، حتى شكّلت المواد العلمية فيها نسبة (38.9 بالمئة) من مجموع ما نشر فيها من مقالات حتى احتجابها عن الصدور (1).
الإشكالية الثانية: تتعلق بالديانة المسيحية وتناقض عقائدها مع العقل؛ نقضا لما ظنوه من استقواء هذه الديانة بالعلم ومكتشفاته، واتخاذها وسيلة للانتشار والتبشير ومعارضة المعتقدات الإسلامية. وهنا أيضا حلّت المواد المكرسة لهذه القضية على صفحات المجلة بالمرتبة الثانية بعد المواد التي تتناول الإشكالية الأولى، وانخرطت المجلة في نقد موسع، هو نفسه النقد التقليدي الموروث عن كتب الملل والنحل، للمعتقدات المسيحية وما شابهها من معتقدات وطقوس "أُلحقت" بالإسلام وهي ليس منه.

المحطة الثانية: مجلة "الأضواء"

المحطة الثانية لهذا التقليد التاريخي المشار إليه هي مجلة "الأضواء"، الصادرة عام 1960م في النجف عن جماعة العلماء. مع هذه المجلة تم تجاوز "صدمة التقنية" والتطور الصناعي الغربي، ولم يعد يشكل التفوق التكنولوجي قلقا كبيرا بالقياس لما يثيره هذا التفوق من دلالات ثقافية وتشريعية وفلسفية، خصوصا مع صعود المد الشيوعي الذي اعتبر وقتها التجسيد الأكبر لهذا التحدي. سيكون التركيز هذه المرة على قضايا أهم وأعمق، قضايا الفكر والعقيدة والعلوم الاجتماعية التي أفرزتها الحضارة الغربية، وستعلن المجلة عن نفسها كـ (جزء من حركة فكرية شاملة)، وظيفتها المشاركة في إيجاد العنصر الثاني من العناصر الثلاثة التي هي الشروط الحقيقية لنهضة أي أمة، بما فيها الأمة الإسلامية. والعناصر الثلاثة هي: وجود المبدأ الصالح، وفهم الأمة له، وإيمانها به. كتب محمد باقر الصدر في افتتاحية عددها الأول يقول: (فمسألة الأمة اليوم - وهي تملك المبدأ الصحيح وتؤمن به - أن تُقبل على تفهّم إسلامها، ووعي حقائقه، واستجلاء كنوزه الخالدة؛ ليملأ الإسلام كيان الأُمّة وأفكارها، ويكون محرّكاً حقيقيّاً لها، وقائداً أميناً إلى نهضة حقيقية شاملة) (2).
التصور المطروح عن المواجهة هنا يأخذ طابعا أيديولوجياً، أعني صراعاً من أجل تكريس منظومة فكرية متكاملة حول المعرفة وصلتها بالحياة والإنسان، مُشيَّدا على افتراض صحة هذة المنظومة وصوابها وحقانيتها بالجملة. ليس هذا فحسب، بل أرست المجلة مفهوماً عن العلوم الغربية على لسان كاتب افتتاحيتها ومؤسسها الحقيقي (محمد باقر الصدر)، يضعها كجزء من (الأيديولوجيا) الغربية؛ أي أن تلك العلوم والأفكار والنظريات تمثل في الحقيقة إفرازا للعقلية الغربية ونظرتها للحياة والعالم، أكثر من كونها كشفا موضوعيا عن الواقع. إن المعرفة الغربية وليدة الإطار الفكري الغربي، وهو الحجر الأساس الذي شيّدت عليه العلوم الإنسانية والاجتماعية في الغرب، تدور مداره وتتأثر به وتخضع لمقاييسه وتتجنب مناقضاته. وقد انتهت رؤية الصدر في هذا الصدد إلى تقديم توصيتين مهمتين (3)، ستتحكمان بكل ما كتبه طيلة عمره، ونجد تطبيقهما الصريح في كتابيه الشهيرين (فلسفتنا، واقتصادنا):
التوصية الأولى: (أن نكون على حظٍّ عظيم من الدقّة والوعي حينما نبحث عن الأفكار الاُوروبّية، لأجل أن نستطيع تعريتها عن إطارها الرسالي، والتعرّف على مدى صلتها بهذا الإطار وتأثّرها به).
التوصية الثانية: (من واجب المسلمين الواعين أن يجعلوا من الإسلام قاعدةً فكريةً وإطاراً عامّاً لكلّ ما يتبنَّون من أفكار حضارية ومفاهيم عن الكون والحياة والإنسان والمجتمع).
وهذا "الإطار الرسالي" الذي تحدث عنه الصدر هنا، هو ذاته ما سيدعوه لاحقا، وبنحو خاص في كتاب (اقتصادنا)، بالجانب أو الإطار (المذهبي). كما أنه نفسه ما سيفصّل الحديث فيه عند تفريقه بين "العلم" و"المذهب"، وهو ما سيزيده توضيحا بما لا مزيد عليه في مقدمته الثانية للكتاب المذكور، حين ذهب للقول بإن المناهج الحديثة للاقتصاد الأوروبي (ليست نتاجاً للقوانين العلميّة)، وإنما هي (وحتى الأفكار العلمية والفلسفية)، عبارة عن "تجربة تاريخية" للإنسان الأوروبي الحديث، ولدت من "مزاجه الخاص" وتتناسب معه ومع استعداده النفسي (4)، بعد أن تخلى عن السماء، وقادته ذاتيته المفرطة لتبني رؤية احترابية صراعية مأزومة عن الحياة، وجدت تجلياتها في الكثير من النزعات العدمية والوجودية التي انتشرت في دياره وبين أبنائه. لقد رسَّخت التوصية الأولى فكرة أن النظريات الغربية حول العلوم الاجتماعية والإنسانية ما هي إلا "أيديولوجيا"، أو مختلطة بها، وليست علوما موضوعية عن الواقع. كما ألهمت التوصية الثانية عقول المسلمين بضرورة توليد معرفة موازية للعلوم الغربية، معرفة ذات طابع إسلامي، وهو ما سيتطور في بعض أشكاله لاحقاً فيما بات يعرف بـ "أسلمة المعرفة". ويمكن النظر لمشروع "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" (1981م) واصداراته الكثيرة ومجلته "إسلامية المعرفة" (1995م) كأنموذجي جيد لما كان يفكر على غراره محمد باقر الصدر.
لقد كانت مناقشات الصدر "كلّيانية"؛ تعارض منظومة فكرية بمنظومة فكرية أخرى، وإلا فإن توصيته بالحس التاريخي عند دراسة الأفكار الغربية، وإن كانت على مستوى كبير من الأهمية، وكذا تفسيره التاريخي لتوغل ما أسماه بالنزعة "المادية" داخل العقل الغربي، وربطها بالعقلية التجريبية التي شاعت منذ بداية التطور الصناعي، وتداعيات الروح الفكرية التشكيكية بالآراء، والتمرّد على الدين وقيمه (لاسيما بنسختها المسيحية آنذاك) (5)، إلا أن النتائج (واللوازم) التي رتبها على هذا التفسير كانت من السعة بمقدار يصعب تبريره تاريخيا ومعرفيا. من تلك النتائج: اعتباره الأفكار الغربية القيمية مادية نفعية لذائذية (6)، ومنها اعتباره الأفكار والنظريات الغربية حول الإنسان والحياة والمجتمع والكون (هكذا بكلِّيتها) مؤسسة على فكرة "الديموقراطية" (= الحريات الأربع)، وهذه الأخيرة لا تُقام في رأيه إلاّ على أساس فلسفة مادية خالصة (7)، ومنها اعتباره الأنموذج الإسلامي (أيضا بكلِّيته) الأنموذج الوحيد الصالح لمعالجة مشاكل الإنسان المعاصر، المتوافق مع احتياجاته الروحية، والقادر على حل مشكلاته.
إننا هنا أمام معارضة لفكرة بفكرة أخرى على أساس من الملائمة للطبيعة البشرية ومصلحتها من عدمه، وهذا ما نعنيه بالأيديولوجيا، أي ترتيب نتائج دون مناقشة مفصّلة، مستقلة ومستأنفة، للجهاز المفاهيمي لتلك النظريات والعلوم، ولا مصادراتها المعرفية، ولا آلياتها المنهاجية. لم يدخل في نقاشات "تحليلية" جدية بشأن المراجعات الغربية الهائلة حول الذات البشرية، والوعي الأخلاقي، ومفهوم الله وفلسفة النبوة، أو معنى الوحي، أو التجربة الدينية، أو علاقة الوعي بالتاريخ، أو نزعة التقديس الإنسانية، أو إشكاليات الأسلوبية الدينية ... إلخ. لقد انصب جهده على معارضة المنظومة الرأسمالية والماركسية بالمنظومة الإسلامية، وهي مهمة قضت بالاختزال من جانب، والتعميم من جانب آخر.
كان من الممكن أن تكون مطالبة الصدر بالدقة والوعي حين البحث عن الأفكار الغربية، لأجل تعريتها عن "أُطرها الرسالية/ المذهبية"، أكثر "تفهما"، بل و"قبولاً"، لو كانت عبارة عن دعوة للفحص "التاريخي ـــــ المعرفي" عن صحة تلك الأفكار والنظريات وقابليتها على التعمم (كما يفعله الغربيون أنفسهم باستمرار)، إلاّ أن هذا ليس ما حدث!، فقد فسرَّها متلقّو خطابه على أنها "حكم نهائي" بمحدودية تلك الأفكار والنظريات تاريخيا، وعجزها عن تفسير وتقييم الحياة الإسلامية، فكرا وممارسة، قديما وحديثا. وصار الجميع يتبارون في تسفيه تلك النظريات ووسمها بالسطحية (بل والتآمرية، بعد ربطها بالذاكرة الاستعمارية لتلك الدول). والصدر لم يساعد على ذلك نظريا فقط كما أوضحناه سابقا، بل وعمليا، عبر توصياته بإعادة تأسيس العلوم الإسلامية كما في التوصية الثانية وانخراطه القوي والفاعل جدا في ذلك التأسيس من خلال كتابيه (فلسفتنا واقتصادنا).
ما فات هذه النظرة التي أُسست عليها "مجلة الأضواء" كتجربة، هو هذه الثقة التي وضعتها الحضارة الغربية في العقل، وفي الحرية، المنفتحة وجوديا ومعرفيا على آفاق تجربة الكائن البشري، دون تعصب لاتجاه ولا معاداة لمبدأ، بل التائقة للتبصر الموضوعي المرن في واقع الفكر والحياة والكون.
وهي لهذا "تجربة" غير "منغلقة"، في جميع صيغها، على "مُثلٍ منخفضة" كما تصور الصدر (8)، مضادة للقيم الدينية، ومؤسسة على الإلحاد، بل هي تعبير عن الجانب المعرفي الواقعي المتاح للبشرية. نعم، إن مضمونها ومحتواها "إنساني"، ولكنه ليس مضمونا حبيسا على توجه "لاهوتي" خاص، وهذا في الواقع "فضيلته" الكبرى، لأنه ملتزم بأن يبقى مضمونا نقديا لا يرضخ للمصادرات حتى ولو كانت نبيلة.
لا أنوي التوسع هنا أكثر في تحليل آراء وأفكار محمد باقر الصدر، فهذه مهمة خصصتُ لها دراستين ستنشران قريبا، وإنما قادنا الحديث عن "مجلة الأضواء" وما تمثله في تاريخ العراق الفكري والثقافي من توجهات، إلى الحديث عن الصدر وبعض آرائه ذات الصلة؛ لأن الرجل يعد المؤسس والموجّه الحقيقي لسياساتها، وذلك من خلال الافتتاحيات التي كتبها لأعدادها الأولى، والتي نقلنا عنها آنفاً.

المحطة الثالثة: مجلة "قضايا إسلامية معاصرة"

أما المحطة الثالثة للتقليد التاريخي الذي افتتحتُ هذه السطور بذكره، فهو بحسب تصوري مجلة "قضايا إسلامية معاصرة"، صدرت سنة (1997م). وبالرغم مما يمكن ملاحظته من انطلاقة "محافظة" بعض الشيء في العددين الأولين المخصصين لدراسة "الفكر السياسي الإسلامي"، ومع معرفتي ببعض ملابسات مرحلة التدشين وقتذاك، فإنه يمكننا القول إن المجلة بدأت تشق طريقها الخاص منذ بواكيرها، حين نقد رئيس تحريرها موقفي "الاستلاب" و"التلفيق" في التعاطي مع الفكر الغربي، ليكتب في العدد الثالث منها، قائلا: (أما التوفيق الذي يحلل المركبات الذهنية المتنوعة، ويفحصها ويغربلها بدقة، ليقف على الخصائص النوعية لعناصرها ومكوناتها الأساسية، ويتعرّف على سمات كل واحدة منها، والأطار المعرفي الذي خلقت في فضائه، ثم يلاقحها بعناصر أخرى تتعادل معها في مركب متجانس، تتسق مكوناته بانسجام وتوازن، فإن هذا التوفيق لا يعمل على تناشز المفاهيم، وخلق أفكار مضطربة هجينة، وإنما يؤدي إلى تفاعل إيجابي بين مظاهر التفكير الإنساني، فيوحّد إبداعات العقل في نسق منتظم، تتناغم مكوناته في إيقاع مشترك، مهما تباعدت مواطنه وتنوعت تجلياته).
إن ما يميز "قضايا إسلامية معاصرة" هو هذه الإطلالة الممتدة على تجارب قرن كامل مع الأفكار والمناهج، تجارب فيها الكثير من ضيق الأفق وسعته، والكثير من الاستلاب والرفض، والكثير من السطحية والعمق. هذه التجربة الفريدة التي أتيحت لها، جعلتها تتجاوز تلك العثرات، لتتعامل بروح نقدية منفتحة، واستيعاب أعمق لمناهج الفكر الغربي ومفاهيمه ونظرياته، مع مراجعة وفهم أشمل وأكثر واقعية لتراثنا الإسلامي. إنها إعادة لفحص واستجلاء الأسئلة القديمة، مضافا لها تلك الأسئلة الجديدة التي أفرزتها التطورات الهائلة في علوم الاجتماع والنفس والألسنيات والمناهج وغيرها، في ضوء تصور أكثر تحررا من ضغوط الهوية والمواجهة الأيديولوجية والصراع القطبي بين عالمين: (مسيحية وإسلام) أو (غرب وشرق) أو (حداثة وأصالة).
والنقطة التي ينبغي لنا التوقف عندها ونحن على أعتاب محطة جديدة من الوعي الإسلامي، هي التساؤل عن مصير أهم ما ميَّز الوعي السابق ـــــ أعني التوصيتين المتقدمتين ـــــ ماذا حل بهما؟ وكيف تم التعاطي معهما؟ يبدو لي أن المرحلة الجديدة لم تقطع صلتها بالتوصيتين بقدر ما أعادت صياغتهما بنحو مختلف. ولم تتبلور هذه الصياغة الجديدة إلاّ بعد مرور سبع سنوات من صدور المجلة، تحديدا عام 2003م. كان الهاجس المسيطر قبل هذا العام هو (إعمال العقل المسلم واسترداد وظيفته الخلاقة المبدعة، وتحرير الوعي من الأنساق المسدودة) (ع6: ص5)، "إعمالٌ" يتخطى الحواجز (الإقليمية والقومية والعصبوية والطائفية بين المفكرين في العالم الإسلامي) (ع6: ص5)، ولا يتحيَّز لقراءة على حساب أخرى، إلاّ بمقدار (صوابها وأصالتها باستلهام الكتاب والسنة، واستدعاء ما يلزم من عناصر التراث ووعيها للعصر وما يحفل به من تيارات شتى) (ع6: ص5). وهذا المستوى من الرؤى المنفتحة تمثل امتداداً طبيعياً للمرحلة السابقة، إلاّ أنها لازالت تقصر خطابها على "مفكري العالم الإسلامي"، وتتقيد بفكرة وجود "أصالة"، مهمتها "إصلاحية" تطمح لـ "إعادة بناء المعارف الإسلامية" (ع15: ص7). ومن الواضح أن هذه الأفكار تشكل جوهر التوصية الثانية التي قدمها الصدر.
أما الموقف من التوصية الأولى، فقد بقيت سياسة المجلة حذرة من "منزلقات" العلوم الإنسانية الحديثة (ع15: ص10)، معترفة بوجود "تسرب" للبعد "المذهبي" (وهذا اصطلاح صدري كما نعرف) و"مركزية غربية" داخل تلك العلوم (ع16/ 17: ص12). يقول رئيس التحرير عبدالجبار الرفاعي: (لكن تورط المتكلم الجديد في هذه المهام، ومحاولته الحراثة في أرض بكر، واستعارته لمناهج وأدوات من العلوم الإنسانية الحديثة، من شأنه أن يوقعه في منزلقات، ربما تقوده الى دروب يبتعد فيها عن نور الوحي وهدي السماء؛ ذلك أن الثقة المطلقة في معطيات فلسفة العلم والهرمنيوطيقا وغيرها، والمبالغة في تطبيقها على النص والتراث، يفضي في بعض الحالات الى تجريد الدين من مضمونه الميتافيزيقي الغيبي) (ع15: ص10). ومثل هذا القول يرد في مكان آخر، حين كتب: (نحن لا ننكر تسرب البعد المذهبي والمركزية الغربية في العلوم الإنسانية الحديثة، ولا ننكر بعض التحيزات المعرفية فيها، غير أن ذلك لا يمنعنا من الانفتاح عليها، وتوظيف ما هو صالح منها؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها ولو كانت من أهل الضلالة) (ع16/ 17: ص12).
ما سيتغير في المرحلة اللاحقة عن هذا الخطاب هو تصور طبيعة المهمة ونمط التعاطي مع تلك العلوم، فبدل أن تكون المهمة "إصلاحية" تحولت إلى "نقدية"، وبدل أن تقصر اهتمامها بالمفكر المسلم نجدها تفسح المجال للمفكر الغربي بالظهور، وبدل "إعادة بناء" العلوم الإسلامية يأتي نقد مشروع "أسلمة المعرفة"، وبدل "الحذر" من العلوم الحديثة تحث ذريعة التحيز والمركزية يتم نقد "تغويل التراث بمقولاته المطلقة". وحتى مبررات مشاركة الفكر الغربي منتجاته لا تأتي بداعي أن "الحكمة ضالة المؤمن"، بل بداعي إلزام معرفي وشغف بالحقيقة، وتحديث للعقل المجتمعي. كان العدد (23) إيذانا بإعلان كل ذلك. وسيستمر هذا الخطاب حتى العدد (53) الذي يعد نقدا ذاتيا لمسيرة الفكرة الإسلامي والجماعات المنتمية إليه، يكتب الرفاعي موضحا ما تعنيه دعوته "لإنقاذ النزعة الإنسانية في الدين": (تعني بناء فهم آخر للدين، وتأويل مختلف للنصوص، عبر قراءة شاملة لهذه النصوص، تستلهم نظامها الرمزي، وما تختزنه من معان ومداليل، لا تبوح بها إلا من خلال عبور المنظومة المغلقة للفهم التقليدي لها، وتوظيف منهجيات ومفاهيم وأدوات ومعطيات المعرفة البشرية والعلوم الإنسانية الراهنة لتفسيرها في ضوء متطلبات العصر ورهاناته) (ع53 - 54: ص13)، إنها دعوة ليست إلى إعادة العلوم الإسلامية، وإنما إلى (بناء إلهيات عقلانية مستنيرة) على أنقاض الإلهيات الكلاسيكية (المصدر: ص14)، ذات طابع أنطولوجي عرفاني في مقاربة المسألة الدينية.

مراحل ثلاث: "رومانسية، ثورية، واقعية"

إلى هنا نكون قد وصفنا ثلاث محطات في وعينا بذاتنا ووعينا بعلاقتنا بالغرب كما تعكسه أهم الدوريات "الإسلامية" الصادرة في العراق، هي في الواقع ثلاث مراحل في طبيعة تعاطينا مع إشكالية الذات والآخر، وإشكالية التراث والحداثة. فضَّلنا أن نرى فيها لا مجرد "أشكال" للنشر، بل كتمثيل لمواقف فكرية في استيعاب قضايا الفكر الديني وإشكالياته. يمكننا وصفها تبعا لأنماط وعي الدارس، فتكون: رومانسية، وثورية، وواقعية. ويمكننا وصفها تبعا لإشكالية البحث، فتكون: تقنية، وأيديولوجية، وإيبستيمولوجية / أنطولوجية. في كل مرة تتطابق الإشكالية مع حجم وعي الدارس ومحيطه الثقافي وتحديات العصر الذي يعيش فيه، ومع خلاصته عن مضمون "الآخر الغربي" وما يعنيه ويمثله ويشكل جوهر تجربته، تلك التجربة التي اتسع، بل وتباين وتناقض، مفهومها الذهني المستخلص من الواقع الغربي الممتد على مدار قرون. قد تتداخل، ومازالت، المراحل، لأنها تمثِّل فئات اجتماعية قائمة في الواقع، تختلف وتتساكن وتتقاطع تبعا لتنوع الأفهام والمصالح، ولكن التمييز يبقى قائما، بل وواجبا، علينا ملاحظته، وفحصه، وتقييمه.
ما ينتظر دعاة الوعي الأخير أكثر بكثير من أسلافهم، لأن حجم التشوّهات باتت أكبر، والتحديات أعنف. لقد كان فيورباخ يقول إنه كرَّس نفسه لفضح استغلال الإنسان باسم الدين، وكان كيركگورد ومن لحقه من أتباع الوجودية المؤمنة يركّزون على تأمل أعماق التجربة الدينية، واليوم فلاسفة الدين يفحصون بنحو نقدي، تاريخي، معرفي، اجتماعي، نفسي، لغوي، جميع مسلَّمات الدين، ومدوناته القانونية، وتجلياته التاريخية، ومفاهيمه، ورموزه، وشخصياته ... إلخ. إن المطلوب اليوم منا أن نقوم بكل هذه الأمور مجتمعة! وهذه مهمة لا تناط بفرد، ولا بدورية، ولا بفئة اجتماعية، بل تناط بأجيال الأمة كلهم. وبحجم الكآبة البائسة التي صارت عليها المسألة الدينية في مجتمعاتنا، يجب أن تتظافر الجهود على دراستها وإعمال النظر في أبعادها كافة ... وهذه ليست إلا البداية.

***


__________
(1) السالم، حمدان خضر، وأبو السعد، عدنان. "مجلة العلم فاتحة عهد الصحافة المتخصصة في العراق". الباحث الإعلامي، العدد3، 2007، ص38.
(2) الصدر، محمد باقر، الأعمال الكاملة، نشرة مركز الأبحاث- قم، ط1 - 1429هـ، مج5، رسالتنا: ص11. والمدرسة القرانية: ص30 وما بعدها.
(3) المصدر نفسه: ص ص 36 - 37.
(4) هذه النقطة (علاقة العاطفة بالتأسيس الفكري) واحدة من أهم الأفكار التي تمسك بها الصدر في نقده للفكر الغربي، ذاهبا للقول إن الفكر الغربي يتناقض مع "مزاج وعاطفة" المجتمعات الإسلامية وعاجز عن تحفيزها، على العكس من الفكر الإسلامي الذي يعد المعبر الحقيقي عن تلك المجتمعات والممتلك لقدرات هائلة على تحفيزها وبعث النهضة فيها، لاحظ طرحه المبكر لهذه الفكرة في افتتاحية العدد الثالث من مجلة الأضواء تحت عنوان (رسالتنا يجب أن تكون قاعدة للعاطفة)، ثم عاد لها أيضا في مواطن كثيرة جدا، كما في مقدمته للطبعة الثانية من كتاب "اقتصادنا".
(5) انظر مثلا: الأعمال الكاملة، مصدر سابق، مج5، المدرسة الاسلامية: ص41 - 42، ص44.
(6) المصدر السابق، الإسلام يقود الحياة: ص190. المدرسة الاسلامية: ص41.
(7) المصدر السابق، المدرسة الاسلامية: صص41 - 44. يعترف الصدر أن الحريات الأربع لم تشيد في العقل الغربي على أساس فهمٍ فلسفي مادي للحياة، ولكنه يرى عدم التشييد هذا مجرد "تناقض وعجز" أو "خداع وتضليل" أو "عجلةٍ وقلة أناة"! ثم يبادر إلى طرح "تأويله" لهذا الأساس المادي، فيذهب إلى أنه ليس إلاّ (عدم الإيمان بالله واليوم الآخر)، مجادلا أن الإيمان بكون الإنسان من صنع قوة مدبرة مهيمنة عالمة، قائمة على تنظيمه وتوجيهه، يقتضي من الإنسان ذاته الخضوعَ في توجيه حياته وتكييفها لتلك القوّة الخالقة. كما أن اعتقاد الإنسان بوجود حياة خالدة وراء هذه الحياة الدنيوية، منبثقة عنها، وملونة بطابعها، ومتوقفة على موازينها، يقتضي هو الآخر أن تنظَّم هذه الحياة الحاضرة بما يتناسب وتلك الحياة الأبدية. ولكن الديمقراطية بما هي حريات أربع تؤمن بأن النظام الاجتماعي ينبثق حصرا عن العقل البشري المحدود، ولا تؤمن بوجود شخصية (أو مجموعة من الأفراد) معصومة في رأيها، يوكل إليها حل المسألة الاجتماعية وإقامة حياة صالحة للأمة عليها، فهي إذا تلغي عمليا ذلك الإيمان بالله واليوم الآخر، وليس هذا إلاّ فلسفة مادية خالصة. ومن الواضح أن هذه المجادلة تتضمن مجموعة كبيرة من "المصادرات" الخاصة بفلسفة الدين، ومعنى الإيمان بالله، وفلسفة النبوة، واليوم الآخر وغير ذلك.
(8) الصدر، محمد باقر، الأعمال الكاملة، مصدر سابق، المدرسة القرانية: ص127، الدرس العاشر. ففي تصوره أن مشكلة الإنسان الغربي إنما هي في جعله "الحرية" هدفا أعلى "بلا مضمون ولا محتوى"، وقد عرفنا في الهامش السابق ما يراه الصدر مضمونها الحقيقي. هذا مع اعترافه (ص41 - 42) بأن الإنسان الغربي يمتلك (رصيدا عظيما) من النظريات، و (ثقافة متنوّعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية) وصفها بـ (تجارب البشريّة الذكيّة).



#علي_المدن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إدارة التوحش
- ما يستفزني
- بؤس الوجود الرمزي للمثقف
- نقد الممارسة الأيديولوجية عند ريمون رويَّه
- عذابات النص بين كاتبه ومترجمه ومتلقيه
- رسالة من الجماهير الغاضبة في البصرة
- التراث .. أداةً لتزييف الوعي
- بذرة التفلسف
- السياسة والأمل
- الرئيس فيلسوفا
- متى يكون السياسي فاشلا؟
- الأساطير المؤسسة للعمل السياسي في العراق: السياسة كحرفة
- هل يؤسس الإلحاد مذهبا إنسانيا في الحب؟ نقاشات تنموية في فضاء ...


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف موقع اسرائيلي حيوي ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف قاعدة -عوفدا- الجو ...
- معرض روسي مصري في دار الإفتاء المصرية
- -مستمرون في عملياتنا-.. -المقاومة الإسلامية في العراق- تعلن ...
- تونس: إلغاء الاحتفال السنوي لليهود في جربة بسبب الحرب في غزة ...
- اليهود الإيرانيون في إسرائيل.. مشاعر مختلطة وسط التوتر
- تونس تلغي الاحتفال السنوي لليهود لهذا العام
- تونس: إلغاء الاحتفالات اليهودية بجزيرة جربة بسبب الحرب على غ ...
- المسلمون.. الغائب الأكبر في الانتخابات الهندية
- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - علي المدن - المسألة الدينية ومحطات الوعي الثلاث في الثقافة العراقية