أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامر أبوالقاسم - الحقل التربوي وإكراهات واقع التدين ومتطلبات إرادة التحديث















المزيد.....


الحقل التربوي وإكراهات واقع التدين ومتطلبات إرادة التحديث


سامر أبوالقاسم

الحوار المتمدن-العدد: 1315 - 2005 / 9 / 12 - 10:38
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أثارت إشكاليتا التحديث والتدين، في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي المغربي، العديد من الإشكالات المرتبطة بوضعنا العام الموسوم بالأزمة. لكن، هل استطاعت أن تتمكن من إثارة الإشكالات المرتبطة بالمجال التربوي، بنفس القدر الذي عرفته في تلك المجالات، سواء على المستوى الأسري أو المدرسي أو الإعلامي أو المجتمعي بشكل عام ؟ وهل استطاعت، فعلا، أن تنفذ إلى مجال الاهتمام بالتخطيط والتوجيه التربويين على مستوى واقعنا التعليمي على الأقل ؟
فإذا كان هذا الواقع ، في الآونة الأخيرة ، قد أفرز نقاشا حادا حول هاتين الإشكاليتين كمعضلتين أساسيتين في سياق التدبير " الإرادي " و " النظري " لعملية الإقلاع التنموي ، فإن النقاش حول الإشكاليتين ذاتهما في إطار علاقتهما بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، بالرغم من الغزارة التي تميز بها ، ما زال في حاجة ماسة إلى المزيد من التمحيص للتمكن من استخلاص بذور التجاوز الممكنة والمحتملة الكامنة في طيات هذا الواقع ، من منظور التطور الاجتماعي والتاريخي .
أما بشأن علاقة الإشكاليتين بالمجال التربوي ، في اعتقادنا ، فإن هذا البعد من النقاش لم يعرف- بعد- نوعا من الجدية اللازمة ، التي بإمكانها مد مختلف الفاعلين بالعديد من المؤشرات الدالة على المستويات الفعلية والميدانية للتخلف الكامنة في بنية مجتمعنا المغربي من جهة ، والعوامل المساعدة على تلمس مخارج وآفاق هذا الوضع مستقبلا من جهة أخرى .
إن مفهوم التربية ، وانطلاقا من واقع مغربنا المعاصر ، لم يبق سجين تحديد " مهامه وغاياته في خدمة الفرد ومساعدته على النمو عن طريق إثارة تعددية الاهتمامات لديه " كما ذهب إلى ذلك Herbart، ولا حبيس " العملية التي تمارسها الأجيال الراشدة على الأجيال التي لم تنضج بعد النضج اللازم للحياة الاجتماعية، عبر إثارة عدد من الحالات الجسمية والفكرية والأخلاقية التي يتطلبها منه المجتمع السياسي في مجمله، والوسط الاجتماعي الذي يهيأ له بوجه خاص، كما يذهب إلى ذلك Durkheim، ولا قابعا في العملية التي تسمح للكائن الإنساني بتنمية قدراته الجسمية والعقلية وعواطفه الاجتماعية والجمالية والأخلاقية، بهدف تحقيق مهمته كإنسان جهد المستطاع كما ورد ذلك في تعريف Reboul.
بل إن مفهوم التربية يكمن في ذاك الفعل الذي يروم القيام" بإتاحة نمو قدرات كل شخص بصورة متكاملة قدر الإمكان كفرد، وفي الوقت نفسه، كعضو داخل المجتمع يحكمه التضامن، بحكم اعتبار التربية غير منفصلة عن التطور الاجتماعي، وهي تشكل إحدى ركائزه وقواه المحددة له" حسب منظور الرابطة العالمية للتربية الجديدة.
وعليه يمكن الذهاب بعيدا، إلى حد القول: إن أي عمل يتغيى التحقق من مصداقية وجدية" الفعل" أو "الطموح" التربوي في ظل واقع حالتنا الوطنية، ليس بوسعه أن يكون "موفقا"، سوى في حالة الأخذ بعين الاعتبار درجات التعقيد الناتجة عن وضعية التداخل القائمة بين هذا المستوى من التحديد المفاهيمي لفعل التربية، وما يفرضه مفهوم وواقع الأمية في المجتمع المغربي من معيقات وإكراهات من جهة، وكذا ما يتطلبه مفهوم وطموح الفعل التنموي من تحديات ويستشرفه من آفاق مستقبلية من جهة أخرى.
إن هذا المنحى في التحليل لواقع مجتمعنا التربوي، يفرض نفسه بقوة وإلحاح، وذلك من منطلق تعدد حقول الممارسة التربوية من جهة أولى، ومن تعدد اهتمامات ومنظورات ومرجعيات الباحثين وتخصصاتهم من جهة ثانية، ومن تغير مفهوم التربية بتغير الأحوال والعصور من جهة ثالثة، وهذا هو الأهم. وهو المنحى الذي يدفع في اتجاه طرح التساؤل العريض حول ما إذا كانت التربية عندنا تقتصر على مفهوم" إعداد الخلف لممارسة نفس الأدوار بمعاودة نفس الصيغ والأساليب الممارسة" ( سلسلة التكوين التربوي ، العدد الأول ، 1994 ) أم أنها تتسع لتشمل نوعا من إدخال التغيير على بعض هذه الأدوار والأساليب. وكذا حول ما إذا كانت البيداغوجيا في واقعنا التربوي تقوم بمهامها وأدوارها على مستوى تجديد الفهم التربوي وتحديث آليات ضبطه وتوجيهه.
فشعار الإقلاع والتغيير داخل أي مجتمع غير حبيس المدلول المتمثل في تنويع أساليب الخطابة، أو مجرد التنصيص عليه في خطب وأدبيات المؤسسات والإطارات المعنية، بل هو مرتهن إلى وجود من يتبناه عمليا وميدانيا، كأسلوب في العيش والتخطيط والتدبير، وكنهج لاندماج الجميع في حياة هذه الأمة. ومن ثمة، فإن قلق السؤال المنهجي والمعرفي بخصوص انعكاسات إشكاليتي التحديث والتدين على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لا يوازيه أو يفوقه سوى قلق محاولة الإجابة عن حجم الآثار السلبية أو الإيجابية للإشكاليتين معا على المستوى التربوي، الذي يعنى بـ" إنضاج" النشء و" تحضيره" للمستقبل القريب والمتوسط والبعيد معا.
إن سؤال التحديث، علاوة على كونه سؤال التمفصل بين التنميط والنمذجة والتقليد والاستكانة من جهة، والتحرر والاجتهاد والعمل والإبداع من جهة أخرى، فهو سؤال الفرق بين النظرية والتطبيق الذي لا يزال بحاجة إلى معالجة جدية في حالتنا الوطنية، وهو ما يطرح المشكل المرتبط بالدور الذي يمكن أن يلعبه الدين في المجتمع المغربي. وما يهمنا الآن بشكل براغماتي من هذا السؤال، هو مجموع القيم التي صاحبت الفكر التحديثي عموما، وهي قيم تصلح للارتكاز عليها وجعله منطلقا للدخول في مسلسل التطوير وإنجاز النقلات النوعية المطلوبة في مجال التقدم، سواء على مستوى الدولة أو على مستوى المجتمع.
هذا الاتجاه في التحليل، ينبني أساسا على أن الحداثة، تقوم على منظومة قيمية نظرية، يمكنها الخضوع لمنطق التسليم والنجاعة والصلاحية والقابلية للتعميم، والإرادة الإنسانية المحدّثة هي بالضرورة تقوم على أساس القراءة والفهم البشريين المتعديين والمتنوعين. فالحداثة إذا، هي منظومة قيمية معيارية مفتوحة أمام أكثر من قراءة أو إبداع واحد.
وهذه حقائق لابد لنا كمغاربة من الوقوف عليها وقت التعاطي مع هذه المنظومة القيمية النظرية، وعلينا ألا نقف عند حدود كما لو أن الإشكال يكمن في طريقة وشكل القراءة والفهم، إذ هناك تجارب تحديثية يؤدي التأمل فيها إلى الدفع في اتجاه طرح السؤال حول مراد الحداثة منها.
فهل يجب التعامل مع الحداثة من منطلق دلالات منطوق منظومتها النظرية، أم على أساس دلالات فهمنا لها، الممكن والمحتمل، حسب السياقات الواقعية لكل تجربة مجتمعية، أم بناء على المعيارين معا وما يطرحانه من إكراهات وتحديات؟ لذلك فنحن غير مضطرين للاستمرار في الاعتقاد الراسخ بنجاعة التنميط والنمذجة والتقليد، فيما يخص التعبير عن الإرادة في تحديث الدولة والمجتمع.
ففعل التحديث حينما يطرح كحاجة مجتمعية، يفرض بالضرورة الارتكاز في عملية النهوض التنموي الشامل على مقومين أساسيين: الحرية والعقل. وهما أساسان رئيسيان في عملية تحرير الإنسان من الاستكانة والجمود والانغلاق أولا، وتحكيم العقل في تدبير السلوكات والتصرفات الفردية والجماعية ثانيا، وتنظيم العلاقات الاجتماعية الناتجة عن هذا التجمع البشري داخل مجال إقليمي واحد ثالثا، وتقنين هذه العلاقات سواء في بعدها الأفقي داخل المجتمع، أو في بعدها العمودي في ارتباطها بالدولة كمجموع مؤسسات ذات مصالح داخلية على المستوى المركزي، أو ذات مصالح خارجية على المستويات الجهوية والمحلية رابعا. وفعل التحرير والتحكيم والتنظيم والتقنين هذا يلزم أن يطال جميع القضايا والمشاكل التي تعترض سبيل التحرك التنموي الشامل، بما في ذلك التعاطي مع مسألة التدين.
وما يهم بالأساس في عملية تحديث المجتمع، هو هذه القيم الأربعة التي حملها معه الفكر التحديثي في مجتمعات وحضارات أخرى، سواء كانت غربية أو شرقية، شمالية أو جنوبية. المهم هو أن يتم الارتكاز عليها في سياق بناء المشروع، الذي نريده أن ينطلق- على أقل تقدير- من نقطة التفاعل الإيجابي مع معطى الحداثة كما تبلور وتطور خارج مدارنا الحضاري الخاص، لكنه لا يخرج عن سقف المدار الإنساني والكوني، الذي لا يملك أحد القدرة على إخراجنا منه، لسبب بسيط، يكمن في امتلاكنا للصفة الإنسانية، التي تعتبر القاسم المشترك بين البشر على الصعيد العالمي والكوني. وعلى أكبر قدر من التقدير الإيجابي، نريد لفعلنا أن ينطلق من نقطة القدرة على إبداع شكل من أشكال الحداثة المعبرة عن تواجد معين لقيم ومثل هوياتية بالنسبة لمجتمعنا المغربي.
فسؤال التحديث إذا، مركزه الإنسان، وحينما نتناول الإنسان من زاوية التحديث، معناه أن ليس بالإمكان إقامة علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية ودينية وفكرية داخل مجال إقليمي محدد، إلا على قاعدة المواطنة والديمقراطية. وذلك من منطلق الغايات الواضحة، المكثفة لمجموع المصالح الممكنة والمُعبَّر عنها من طرف الأفراد والجماعات، لضمان بناء علاقات مؤسسة على قاعدة الحقوق والواجبات، ولضمان حرية التعبير عن الرأي من مختلف المواقع التي يتم التواجد بها، سواء عرقية أو دينية أو جهوية أو غير ذلك، وكذا لضمان الإيمان بالاختلاف كحق للجميع. ولتشييد صرح بنية مؤسساتية تعمل على توفير آليات الصيانة من الأخطار المحدقة بعملية التطوير والتأهيل المجتمعي، والتي تتجسد في العمل التنموي الشامل، ذي المرتكز الأساسي، المتمثل في حقوق الإنسان.
أما سؤال التدين، فبالإضافة إلى كونه سؤال التمفصل بين القداسة والإطلاقية والتعالي والخلود من جهة والإنسية والواقعية والنسبية والمحدودية من جهة أخرى، فهو سؤال الإدراك بأن الاعتقاد لا يستغرق سوى جزءا من المحدودية في الأمد، وهو يتطلب التمييز بين الدين والتدين.
ففعل التدين، حينما يطرح كحاجة لدى الفرد، يتطلب ضرورة الارتكاز في عملية النهوض بالشأن الديني داخل المجتمع على ركنين أساسين: الحق في الاختلاف وحرية الاعتقاد « لا إكراه في الدين حتى يتبين الرشد من الغي » الآية 256 من سورة البقرة. فهما عماد تحرير المجتمع وتنظيمه؛ تحريره من كل أشكال الوصاية والحجر على الأفراد من جهة « وما جعل عليكم في الدين من حرج » الآية 78 من سورة الحج، وتنظيمه من حيث الالتزام باحترام إرادة الفرد واختيار معتقده وتوجيه سلوكاته وتصرفاته، بما لا يتناقض ولا يتعارض مع الإرادة الجماعية في التعاقد الاجتماعي العام من جهة أخرى.
وما يجب التركيز عليه بقوة في عملية النهوض بالشأن الديني داخل مثل هذه البنية المجتمعية، هو مجموع تلك القيم الخلقية والاجتماعية، التي تحويها المنظومة الدينية وتحملها معها لفائدة الإنسانية. لذلك، فبناء أي مشروع نتغياه في إطار الاهتمام بالشأن الديني داخل المجتمع المغربي نريده أن يبدأ من درجة التفاعل الإيجابي مع المعطى الديني كما نشأ وترعرع داخل سقف المدار الإنساني العالمي « قل الله أعبد مخلصا له ديني » الآية 14 من سور الزمر.
إن تقديرنا الإيجابي، واعتزازنا بالإسلام كعقيدة لأغلب المغاربة، نريده أن يرتكز على قاعدة الاستيعاب الواعي لظروف وشروط نزول الوحي أولا، والفهم الموضوعي للسياقات التي طورت مستويات التعاطي الإنساني مع الوحي عبر التاريخ ثانيا، والقدرة على تملك طابع عصرنا الخاص في إبداع شكل من أشكال تديننا المعبر عن تواجد معين لقيم ومثل هوياتية مغايرة لما نعتقد كأغلبية مغربية « لا تدري لعل الله يُحْدِثُ بعد ذلك أمرا » الآية 1 من سورة الطلاق .
ومن ثمة، لا مناص من الإقرار بأن مركز اهتمام سؤال التدين هو الإرادة الإنسانية ذاتها « فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه » الآية 15 من سورة الفجر. شأنه في ذلك شأن سؤال التحديث المجتمعي. لذلك، عندما يتم تناول الإنسان من زاوية التدين داخل مجتمع ما، معناه أن ليس بالإمكان إقامة علاقات إنسانية داخل المدار الإنساني والكوني إلا على أساس منظومة قيمية أخلاقية واجتماعية، كتعبير عن الوعي بالكرامة « ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر » الآية 70 من سورة الإسراء، وكتعبير عن الوعي بالتحرر من جميع أشكال العبودية الموجودة على الأرض، إذ يقول القاضي عبد الجبار: « إن أحدا من العقلاء لا ينكر كونه قاصدا إلى الفعل ومريدا له ومختارا، ويفصل بين حاله كذلك وبين كونه كارها، ويفصل بين ما يريده من نفسه وما يريده من غيره. ومتى قويت دواعيه إلى الشيء أراده لا محالة، كما أنه إذا صرفه الداعي عن الشيء لم يرده، وربما كرهه » المغني في أبواب التوحيد والعدل، تحقيق الأب جورج قنواتي،الجزء السادس، ق: 2، ص:8. وكذا على أساس منظومة اعتقا دية إيمانية قائمة على إدراك الحق في الاختلاف، الذي تفرزه مركزية الاختيار الإنساني المبني على منطق الجزاء والعقاب « ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون » الآية 281 من سورة البقرة.
هذا المنحى في مقاربة سؤال التدين ينبني أساسا على أن الدين يقوم على قاعدة نص مؤسس، يخضع لمنطق التقديس والخلود والتعالي والإطلاقية. والتدين يقوم على أساس الفهم الخاص للنص المؤسس من جهة، وعلى قاعدة نصوص محايثة للنص المؤسس. فهي إذا، نصوص من نتاج القراءة والفهم البشري، وبالتالي هي عبارة عن فهوم إنسانية لدلالات النص المؤسس، قابلة لإعادة النظر بين الفينة والأخرى، من منطلق كونها موسومة بالطابع الإنساني الواقعي والنسبي والمحدود في الزمان والمكان « ولا يدينون دين الحق » الآية 29 من سورة التوبة.
وعليه، تولد في الواقع إشكالان، بخصوص التعاطي مع المسألة الدينية:
يكمن الأول في اللجوء إلى إعطاء النص الإنساني المحايث نفس القداسة والخلود والتعالي والإطلاقية التي للنص المؤسس.
ويكمن الثاني في اللجوء إلى انتقاء مناهج الاشتغال، التي يتم التعامل بواسطتها مع هذه النصوص، سواء المؤسسة منها أو المحايثة.
فإذا أضفنا الإشكالين إلى بعضهما أدى الأمر إلى الوصول إلى نقطة الثبات والسكون الدائري المنغلق على ذاته في الزمان والمكان، دون الخطو نحو مساحة التحول والتغير في هذه النصوص بأكملها.
يتضح مما سبق ذكره على أن البحث في مفهوم الكائن محصورا في الإنسان فقط هو السمة الأساسية التي يتميز بها الفكر المعاصر. وإذا كان الفكر الإسلامي في جزء من تجلياته أكد على ذلك، حين تم تفسير الألوهية توحيدا وعدلا من منطلقات إنسانية، وإذا كانت النزعة الإنسانية في الفكر الإسلامي قد وصلت إلى حدود تأسيس مفاهيم الألوهية على بعض المقدمات مما هو متعارف عليه في الشاهد وقياس ذلك على الغائب، وإذا كانت حرية الاختيار في هذا الفكر ذاته قد تمثلت في جوهر الإنسان العاقل المفكر والمكلف، إذ بدون تلك الحرية لا يصح تكليفه، وإذا كان هذا الفكر نفسه قد أثبت للإنسان اقتداره وفاعليته ومشاركته في الفعل على الحقيقة دون المجاز. فإن أية عملية، كيفما كانت مبرراتها، لا يمكنها في نهاية المطاف أن تحد من هذه الفاعلية الإنسانية، ولا أن تتجاوز حرية اختيار الإنسان العاقل المكلف، ولا أن تلغي النزعة الإنسانية كقاعدة للمتعارف عليه في الشاهد. تلك هي مشيئة وإرادة الله في خلقه.
وعلى هذا الأساس، إن كان للبعض حق الافتخار بقراءته وفهمه واقتراحاته، بخصوص قضيتي التحديث والتدين، فليس من حقه – في المقابل- الانتقاص أو التقليل أو حرمان الآخرين من الإعلان عن قراءات وفهوم واقتراحات مختلفة. فقد تكون ذات حس متميز، والله أعلم بدرجات نسبية الحقائق من الخلق. وعلى هذا الأساس، فالتعبير عن المواطنة والديمقراطية كقاعدة للتحديث المجتمعي من جهة، وعن الحق في الاختلاف وحرية الاعتقاد كقاعدة للتدين داخل المجتمع، بإمكانه أن يعمل على تجنيب المجتمع برمته من الدعوات الإطلاقية غير المتبصرة، والمؤدية حتما إلى الكوارث الاجتماعية، سواء على مستوى التعامل مع سؤال التحديث أو على مستوى التعاطي مع فعل التدين.

فالباحث مطالب بالانطلاق من أن إنسانية الإنسان إنما تتجسد في عقله وإرادته واقتداره. إذ أنه انطلاقا من العقل ومن الفاعلية الإنسانية، وليس من الخطوط الحمراء الاجتماعية والسياسية، يتركز الإنسان في ذاته. كما أن الباحث ملزم بتركيز بحثه في أهمية علميته وموضوعيته النسبيتين، للوصول إلى حد المشاركة في صياغة قوانين وقيم عصره، ولا ضرورة للتذكير بأنه بموجب التكليف يكون الإنسان قادرا على خلق أفعاله، وقياسا عليه، يمكن القول: بموجب المسؤولية يكون الباحث قادرا على خلق أفكاره ورؤاه.
ومن هنا يمكن التأكيد على أن أمر التنظير للعلاقة بالله، لابد للباحث خلاله أن يعمل على توسيع زاوية نظره، توخيا للموضوعية العلمية من جهة أولى، ومساهمة منه في تطوير آليات التفكير والرؤية الفكرية والسياسية المؤسسة من جهة ثانية، وخدمة للمصلحة المجتمعية العامة من جهة ثالثة.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن العقلانية لا تكمن سوى في صهر معطيات التجربة الإنسانية وقوانين العقل في نسق واحد، بعيدا عن أية حواجز رادعة، لا يسوغها سوى منطق الاعتبار المتخوف للهاجس الأمني، الخارج عن سياق الإيمان بمفهوم الاقتدار الإنساني كما اقتضته المشيئة الإلهية ذاتها.
فإذا كان للتجربة الإنسانية دور مهم في صياغة المعقولية التي يبنى على أساسها العدل الإلهي، فبالأولى والأحرى ـ حسب منطق دلالة الاقتضاء ـ أن يكون لها دور في صياغة المعقولية التي يتأسس عليها الفكر الإنساني، سواء في شقه الفكري أو السياسي أو الفقهي، خاصة في حالتنا الوطنية مقارنة مع باقي الحالات العربية المشرقية. وعلى هذا الأساس نذكر البعض ممن يشتغل معنا على نفس القضايا والمواضيع، في الساحة الثقافية، بأن لعصرنا وجغرافيتنا من المقومات والشروط ما يؤهل الإنسان المغربي للمساهمة في صياغة القواعد التي بإمكانها بلورة معقولية متجاوزة لمنطق الاستكانة للماضي.
المؤكد هو أن هناك حاجة ماسة في واقعنا المغربي إلى إعادة النظر في الحقل الميداني والمعرفي التربوي ، بما يجعلهما قادرين على أن يغطيا مجموع فعاليات الظاهرة الاجتماعية والسياسية في مختلف أبعادها من جهة، وكذا فعاليات الظاهرة التربوية والبيداغوجية من جهة أخرى، لأن هذه الظواهر مجتمعة هي فعالية إنسانية، يتداخل فيها كل ما يتصل بشخصية الإنسان برمتها من معطيات ذاتية ترتبط بالفرد نفسه، ومعطيات موضوعية ترتبط بالمؤسسات والشروط العامة والخاصة التي تمارس في إطارها عملية التربية.
فإذا كانت التربية تسعى إلى تكوين المواطنين المنتجين الصالحين المزودين بالقيم والكفايات والحساسيات الاجتماعية، عن طريق تنمية قوى الأفراد واستعداداتهم ومساعدتهم على أن يصلوا إلى أقصى ما يمكن بلوغه من نمو، وعن طريق توفير البيئة الإيجابية الصالحة لذلك، وإذا كانت التربية لا تتحقق كفعل إلا بتعديل سلوك الأفراد واكتسابهم الخبرات في الوجهة الصالحة التي يرضاها المجتمع ويوافق عليها، فهل يعمل كل من المجتمع والدولة على تعديل سلوكاتهما واكتسابهما الخبرات الكافية في الوجهة الصالحة التي يرضاها مواطنوهما ؟
وهل يمكن الجزم بأن الإشكال على مستوى الواقع التربوي يكمن في التفكير في نظم التربية وطرائقها بغية تقدير قيمتها، وبالتالي إفادة عمل المربين وتوجيهه؟ أم أنه يتمثل في البحث عن المبادئ الموجهة المستقاة من كافة العلوم لتجعل عمليات الفن التربوي العملي أكثر تطابقا مع العقل، وأكثر انسجاما مع الذكاء؟ أم أن الأمر لا يحتاج إلا إلى القيام بمعاينة دقيقة لمعطيات الواقع؟ أم أن الأمر أعقد من ذلك بحيث يستلزم تفكيرا نظريا رصينا من أجل خلق نوع من الانسجام بين الرأي التربوي والواقع التربوي؟
فمن أين وكيف نقارب واقع مؤسساتنا التربوي بالمغرب، فيما يتعلق بإشكاليتي التحديث والتدين، أمن زاوية الإرادة والاختيار، أم من ناحية القدرة والكفاءة؟ أي، هل يمكن للمؤسسة التربوية أن تكون مساهمة إلى جانب باقي المؤسسات الأخرى في النقاش وبلورة الأفكار والآراء والمواقف، أم أننا نريد لها أن تتقوقع على ذاتها ولا تقوم إلا بالمطلوب منها في سياق إعادة إنتاج نفس الأشخاص ونفس القيم ونفس السلوكات ...؟
إن واقعنا التربوي هو جزء من واقعنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي العام، وبناء عليه، فإن ما يمكن أن يطال هذا الواقع العام من أجوبة وحلول، فهو ملزم بأن يطال الواقع التربوي هو الآخر. ومن ثمة، ألا يمكننا التساؤل حول ما إذا كان هذا الحقل يتطلب نوعا من الإنصاف والاهتمام، بالشكل الذي يجعله مؤهلا للقيام بمهامه في سياق بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، وكذا حول ما إذا كان الإصلاح الذي يتم القيام به اليوم في مجال التربية والتعليم يدخل في هذا السياق أم أنه بعيد عنه كل البعد.
فسؤال مادة التربية الإسلامية في نظامنا التربوي والتعليمي ، حسب سياق تحليلنا هذا، هو سؤال مراجعة ونقد وتجاوز أنماط الاعتقاد والتفكير في الحقل الديني والتديني بالمغرب، لا سؤال الاحتفاظ بها كمادة أو التخلي عنها كما يذهب إلى ذلك من اعتاد العمل على توظيف الدين الإسلامي في معمعان العمل السياسي.



#سامر_أبوالقاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القوى الديمقراطية بين واقع التدين ومطلب التغيير الاجتماعي
- الأحزاب السياسية وضرورة توفير مناخ المصالحة بين الفرد والمجت ...
- حين تتحجر الأفكار


المزيد.....




- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامر أبوالقاسم - الحقل التربوي وإكراهات واقع التدين ومتطلبات إرادة التحديث