أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حسن محسن رمضان - لقاء الصالون الثقافي النسائي















المزيد.....



لقاء الصالون الثقافي النسائي


حسن محسن رمضان

الحوار المتمدن-العدد: 4702 - 2015 / 1 / 27 - 15:50
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



مقدمة في الفكر السلفي المتطرف

تلقيت دعوة كريمة من الصالون الثقافي النسائي لعقد حوار عن موضوع الفكر السلفي المتطرف. فكرة الصالون هي أن المحاضر يُلقي موضوعه من خلال مبدأ "الطاولة المستديرة"، بمعنى أن للحضور حق مساوٍ تماماً للضيف المُحاضِر في طرح تصوراتهم وأسألتهم وقناعاتهم واعتراضاتهم وذلك خلال وقت طرح الموضوع وليس بعد الانتهاء منه. ويجب أن أعترف بأن هذه التجربة فريدة ومفيدة جداً وتستطلع آفاقاً أرحب وتستدعي من المحاضر أن يرجع باستمرار لمخزونه المعرفي أمام مداخلات وأسئلة واستفسارات عند كل جزئية من الموضوع، إلا أنها تأخذ وقتاً أطول بكثير من جانب الضيف لبناء موضوعه أمام الحضور، فما كان مفترضاً أن ينتهي بحوالي خمسين دقيقة، استغرق ثلاث ساعات بالتمام والكمال من التفاعل الثقافي والحواري النشط المستمر الذي لم يهدأ للحظة. تم عقد اللقاء أمس مساءً، 26 يناير 2015، في فندق ريجنسي هنا في الكويت. وقد طلبن مني القائمات على الحوار عند وصولي أن يكون الموضوع باللغة الإنجيليزية لأن بعض السيدات من الحضور لا يتكلمن العربية، وهكذا كان. ولا يجب أن يفوتني أن أتقدم بالشكر الجزيل للسيدة الفاضلة عبير الخالدي التي تولت التنسيق لهذا اللقاء وتحملت بصبر شديد طلبي المستمر لتغيير موعد اللقاء من تاريخ لآخر ثم لآخر. كما أتقدم بالشكر الجزيل للشاعرة نجود الياقوت التي أهدتني ديوانها الجديد، بعد انتهاء اللقاء، تعبيراً عن شكر الصالون الثقافي النسائي.



1- مقدمة في مصطلح "السلفية"



في سنة 167 قبل الميلاد ثار مجموعة من الكهنة اليهود من سكان القرى، يسمون بـ "الموكابيين"، ضد الإمبراطورية السلوقية (Seleucid Empire)، ولتنتهي هذه الثورة بسقوط القدس بيد الثوار اليهود ومن ثم ليحكموها لحوالي قرن كامل. جرى تصوير هذه الثورة على أنها ضد التدخل الرسمي غير اليهودي في الطقوس والعقائد اليهودية، إلا أن الحقيقة هي أن هذه الثورة كانت (حرب أهلية) موجهة بالدرجة الأولى ضد اليهود من أنصار كهنة المعبد اليهودي الذي يجري تعيينهم من جانب السلوقيين، ثم هي بالدرجة الثانية موجهة ضد السلوقيين. فحقيقة هذه الثورة هي أن ثوار يهود من سكان القرى الفقراء من غير ذوي التعليم فيما عدى التعليم الديني الصارم، يقتلون يهود آخرين من سكان المدن الذين تبنوا الثقافة الهيلينية في مجالات متعددة من حياتهم، لأنهم باعتقادهم قد تأثروا بالمناخ الهيليني الفلسفي فيما يخص عقائدهم وطقوسهم اليهودية، وأنه باعتقادهم أن أسفار التوراة، أسفار موسى الخمسة الأولى في العهد القديم، جرى تهميشها لصالح أفكار وضعية فلسفية يونانية، وبسبب ذلك جرى تدنيس المعبد اليهودي. وإذا ما انتقلنا من هذه الحادثة وقفزنا حوالي 1800 سنة إلى الأمام، إي إلى بدايات القرن السادس عشر الميلادي مع مارتن لوثر وانشقاقه عن الكنيسة الكاثوليكية ورفضه لبعض تعاليمها ومن ثم تأثر كالفن الفرنسي بتعاليمه، ثم ما تبع ذلك من مذابح متبادلة بين الكاثوليك والبروتستانت والتي أشهرها ما يُعرف بحرب الثلاثين عام [1618-1648]، أكثر حروب أوروبا دماراً وقتلاً، وذهب فيها من الضحايا بالملايين ما لا يحصى عدده، حتى أنه في بعض التقديرات فإن ألمانيا قد فقدت حوالي نصف سكانها من الذكور كقتلى في هذه الحرب، فإننا سنجد حالة، في بعض محاورها، مشابهة للحالة اليهودية الأولى. فحقيقة هذه الحرب هي أن فرقة مسيحية كاثوليكية تؤمن بأنها هي وحدها تملك (العقيدة القويمة) كانت تقتل فرقة مسيحية أخرى بروتستانتية لأنها هرطوقية [كافرة، مبتدعة]، والعكس. وفي سبيل ذلك ارتكب من التوحش في تلك الحروب ما لا يُعرف له مثيل في تاريخ الحروب [الجيش السويدي فقط، دون غيره، خرب أو أحرق 18 ألف قرية ألمانية]، بل التفنن في التعذيب والقتل والتخريب بلغ ذروة في التاريخ المسيحي لم يعرف لها التاريخ الإنساني مشابه واستمرت لمدة طويلة بعد ذلك وعانى منها السكان الأصليين في الأمريكتين وأستراليا. اليوم، لدينا حالة إسلامية مشابهة في بعض محاورها لهذين المثالين أعلاه.

السلفية، كمصطلح، (ليس مذهباً دينياً إسلامياً) كما يعتقد البعض، ولكنه (منهج عام) يقود الطريق إما إلى عقائد أو قناعات أو مواقف محددة. السلفية هي (قناعة راسخة بأن "الحقيقة" قد حازها أُناس [رموز] سابقون في الزمان، وأن "الطريق" إلى تلك الحقيقة هو بتبني آراؤهم وقناعاتهم ومناهجهم، ولا سبيل إلى "السعادة" [السعادة هنا هي بالمعنى العام المطلق للكلمة] إلا بالعودة إلى فضاء هؤلاء السلف الماضون). والترجمة الصحيحة المرادفة لـ (مصطلح) السلفية في اللغة الإنجليزية هي (Orthodoxy) (أرثوذكسية)، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من مفاهيم ومواقف وآراء. إذ جذر الكلمة اليوناني يشير إلى الاعتقاد الراسخ في (ذهنية السلفي) أياً كانت ديانته أو قناعاته الفكرية والأيديلوجية. فالكلمة اليونانية (أورثوس) (orthos) تعني (الصحيح أو القويم)، بينما كلمة (دوكسا) (doxa) تعني (الرأي أو الاعتقاد). وبالتالي فإن (كل موقف فكري أو أيديولوجي أو عقائدي يرى في نفسه، [يقيناً من دون أي احتمال ولو كان بسيطاً بخطأه]، بأنه صحاب الرأي أو الاعتقاد أو الأيديولوجية الصحيحة بسبب [تراث أو نصوص أو مواقف سابقة عليه تاريخياً] فإنه ينطلق من موقف [أرثوذكسي]، أي من موقف سلفي). ولذلك فإن (السلفية) لا تقتصر على دين محدد ناهيك على أن تقتصر على مذهب ديني واحد، لأن (كل توجه فكري أو عقائدي أو أيديولوجي أو حتى عرقي من الممكن أن يستظل تحت ظل "السلفية" كمنهج).

فـ "السلفية" هي (منهج) يرى أتباعه في زمان مضى معين ومحدد، برجاله وعقائده وآلياته وحتى حلول إشكالياته، هو أساس الخلاص ولب الحقيقة وطريق السعادة. والسلفي يعتقد بأن (المعرفة المنطقية والاستدلالية قد وصلت ذروتها مع هؤلاء القدماء [كلمة "قديم" هنا بمعناها النسبي]، ولا سبيل إطلاقاً لـ "حقيقة" من دون استخدام قواعد "سلفه" المنطقية والاستدلالية). وهذا "المنطق" السلفي يقود أتباعه إلى الاستنتاج أنه إذا ما تم تبني منهج هؤلاء "القدماء" فإن طريق "السعادة" هذا سوف يكون ممهداً للخلاص النهائي [الخلاص هنا أيضاً بالمعنى العام المطلق للكلمة، سواء في السماء أو على الأرض]. تلك هي خلاصة "الحقيقة" من وجهة نظر السلفي.

فالعقل السلفي لا يستطيع أن يشكك أبداً في (منطق وقواعد استدلال سلفه) [لاحظ ذلك في سلفيات الأديان الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام]. (عقله لا يعمل في هذا الفضاء إطلاقاً). بل هو يرفض من يشكك فيه، ويعاديه. ولكن عقله يعمل فقط، وحصراً، في (استنباطات مختلفة من خلال استخدام قواعد سلفه ومنطقهم ونصوصهم)، ولا شيء آخر. ولهذا السبب فإن "السلفي" يهمه جداً (حرفية النص، نص سلفه بالتحديد)، حتى وإن عابه على "السلفيات" الأخرى من دون أن يعي ذلك. إذ (النص) عند السلفي هو الشرعية الوحيدة، وما سوى ذلك وهم أو خديعة أو كذب. المنهج السلفي يقود أتباعه بالضرورة إلى (إيمان راسخ) بأن أدوات (سلفه) المنطقية والفكرية وربما حتى العملية والسلوكية هي الأفضل بمراحل كثيرة من الرؤية المعاصرة.

فالقضية عند (السلفي) ليست مخترعات وتطور علوم تجريبية كما يعتقد الكثير، القضية عنده هي مسألة (خلاص نهائي) ولكنها تأخذ أسماء وصور وأشكال متعددة ومختلفة باختلاف السلفيات مثل: (جنة، سماء، القدوم الثاني للمسيح، مملكة إسرائيل، المجتمع الشيوعي، عِرق مهمين ...الخ). ولذلك فإن (السلفية)، أياً كانت هذه السلفية، (تقود أتباعها إلى تلك النظرة التي تزدري الواقع المعاصر)، أي واقع مهما كان، لأنه لا يمثل بتاتاً تلك "المدينة الفاضلة" التي يتوهمون أنها ستقوم لو المجتمع تبنى مفاهيم "سلفه". (فالفرد السلفي في حالة حرب دائمة مع واقعه والمجتمع، لأنه، وببساطة، يزدريهم)، حتى وإنْ حاول اخفاء ذلك بسبب صراع مرحلي أو ضغوط مجتمعية أو قانونية. الفرد السلفي يؤمن إيماناً مطلقاً بأنه يمتلك الحقيقة النهائية المطلقة للخلاص، ولكنه يرى الواقع والمحيط الاجتماعي والسياسي يستعصي عليه ويرفض أن يخضع لحقيقته "السلفية"، فهما ضدان متناقضان. ولأنهما كذلك فهما، أي الفرد السلفي والمجتمع، في حالة حرب، خفية أو معلنة، إلا أن (أدوات هذه الحرب تختلف من سلفية لأخرى). فالسلفي يرى كل مَنْ يرفض الحقيقة السلفية التي يتوهم امتلاكها إما مبتدع أو كافر أو مجنون أو هرطوقي أو إرهابي أو خائن أو طابور خامس أو عدو أو شاذ متخلف أو ربما (سلفي)(!!!) ولكن من نوع رديئ، لأن مَنْ يرفض الحقيقة بإرادته، الحقيقة التي يقدمها هذا السلفي بالذات للآخر المختلف عنه، كما قال روجيه غارودي، هو مبتدع أو كافر أو مجنون أو خائن أو هرطوقي أو عدو ومكانه ساحات القصاص والمحاكمة أو المصحات العقلية لإعادة تأهيله.


كيف يصف السلفي نفسه ويراها؟

ليس مستغرباً أبداً أن نقرأ في كتابات السلفيين، بغضّ النظر عن مدى تطرفهم من عدمه، أوصافاً لطائفتهم من على شاكلة "أهل الحديث وأهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة والفرقة الناجية"، أو "أنه لا يصلح للعباد سوى هذا المنهج، وكيف لا يكون كذلك وأهله هم الفرقة الناجية"، وهم "أهل الأثر وأهل الحق وأهل الحديث"، وأن هذا المنهج هو "سبيل السلف الصالح"، وأنهم أصحاب "الطريق السوي والمنهج الصحيح"، وأن فهمهم للإسلام هو "فهم سلف الأمة الهداة المهتدين". وقد جزم ابن تيمية بأن "السلفية الطريقة المُثلى". وخلاصة هذه الأوصاف وأشباهها هو ادعاء إمتلاك "الحقيقة" بصورتها الإسلامية وبشكلها النهائي والمطلق في وجه خصومهم ومخالفيهم. وكيف لا يكون إمتلاكهم للحقيقة بشكلها النهائي والمطلق مفروغاً منه عندهم وقد قرر إبن تيمية في مجموع فتاويه "إن مذهب السلف لا يكون إلا حقـاً، فإن كان موافقـاً له باطناً وظاهراً فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطناً وظاهراً" .

ويسترسل ابن تيمية في وصف أهل الحديث، أو السلفيين، تحت فصل يعقده في مجموعة فتاويه تحت مسمى: "كونهم أعلم ممن بعدهم وأحكم وأن مخالفهم أحق بالجهل والحشو" ، فيقول في وصفهم "فهم أكمل الناس عقلاً، وأعدلهم قياساً، وأصوبهم رأياً، وأسدّهم كلاماً، وأصحهم نظراً، وأهداهم استدلالاً، وأقومهم جدلاً، وأتمهم فراسة، وأصدقهم إلهاماً، وأحدّهم نظراً ومكاشفة، وأصوبهم سمعاً ومخاطبة، وأعظمهم وأحسنهم وجداً وذوقـاً". ثم يأتي تقرير إمتلاك "الحقيقة" بشكل لا لبس فيه ولا شك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم "وهذا يُعلم تارة بموارد النزاع بينهم وبين غيرهم، فلا تجد مسألة خولفوا فيها إلا وقد تبين أن الحق معهم‏.‏ وتارة بإقرار مخالفيهم ورجوعهم إليهم دون رجوعهم إلى غيرهم، أو بشهادتهم على مخالفيهم بالضلال والجهل‏.‏ وتارة بشهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض‏. وتارة بأن كل طائفة تعتصم بهم فيما خالفت فيه الأخرى، وتشهد بالضلال على كل من خالفها أعظم مما تشهد به عليهم" .

بل يذهب ابن تيمية إلى أكثر من ذلك إذ يقول "ثم لأهل الحديث من المزية أن ما يقولونه من الكلام الذي لا يفهمه بعضهم هو كلام في نفسه حق، وقد آمنوا بذلك" . فعند ابن تيمية أن كلام أهل الحديث هو "حق" بغض النظر إن فهمه بعضهم أم لا، وبغض النظر تماماً عن إمكانية فهمه عند غيرهم من باب أولى. فهذا "الكلام" يتعالى بالضرورة، في أذهان السلفيين، على إنتقاد المنتقدين أو تفنيدهم له أو إستفهامهم عن معناه إن لم يفهموه أو حتى حقيقة أنه يستعصي على الفهم أو المنطق بعد محاولات الشرح والتفسير والتبرير لأنه، وببساطة، "في نفسه حق" ويجب الإيمان بذلك.

ولا مجال للإستغراب أو الدهشة هنا من هذا الرأي لإبن تيمية إذا عرفنا من هو المؤسس الحقيقي للدعوة السلفية من وجهة نظر السلفيين. فعندما سُئل الشيخ ناصر الدين الألباني عن حقيقة ما نُسب إليه من قوله "إن مؤسس الدعوة السلفية هو الله"، أجاب الألباني "نعم قلت ذلك، وهذه ليست صفة، فالتحدث عن الله عز وجل بلغتنا للتعبير عن حقيقة واقعية" .

والحقيقة أن الأمر أوضح من ذلك في أذهان السلفيين، فالشيخ ناصر الدين الألباني يقول جازماً عن السلفيين "هم وحدهم الذين يمثلون الفرقة الناجية من النار من الفرق الثلاث والسبعين التي سُئِل عنها الرسول (ص) وقال (هي في النار)". والمسألة هي مسألة عقيدة يجزم بها شيوخ السلفية جزماً قاطعاً لا لبس فيه. فعندما سُئل الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية عن قول النبي محمد: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) وعن احتمال أن جماعة التبليغ وجماعة الإخوان المسلمين أن تكونا ضمن الاثنتين والسبعين في النار، أجاب الشيخ ابن باز "من خالف عقيدة أهل السنة والجماعة دخل في الاثنتين والسبعين". ويبدو أن هذا الجواب لم يُقنع السائل، فأعاد السؤال على الشيخ بقوله " فهل هاتين الفرقتين من ضمن الاثنتين والسبعين؟"، فأجاب الشيخ جازماً "نعم، من الاثنتين والسبعين" . وهذا الرأي للشيخ عبد العزيز بن باز ما هو في الواقع إلا ترديدٌ لرأي ابن تيمية في مجموعة فتاويه عندما أكّد لمن سأله بأنّ "أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية، أهل الحديث والسنة" .

وهذا يقود السلفيين إلى تقسيم المسلمين، أو من يدخل تحت اسم المسلمين من وجهة نظر السلفيين، إلى فرقتين. فقد أكّد أحد المصادر السلفية أن "التقسيم إلى سلفيين وبدعيِّين ليس مصطلحاً علمياً، ولن يصير كذلك، لكنه إصطلاح واقعي أملاه الواقع المشهود في الأمة" . ثم يمضي نفس المصدر ليشرح لنا أكثر عن سبب هذا التقسيم فيقول "إن هذا التقسيم الذي أملاه الواقع المشهود، هو تحقيق لنبوءة المصطفى (ص) مما هو كائن في مستقبل هذه الأمة، بما أوحى الله إليه ربه سبحانه، كما أسلفنا من قبل، ولتبقى طائفة من هذه الأمة قائمة بأمر الله وعلى الحق الذي ارتضاه رب العباد للعباد" .

وقد لخص لنا ابن تيمية هذا الرأي بشكل واضح لا لبس فيه فقال "إن الذين يعيبون أهل الحديث ويعدلون عن مذهبهم، جهلة زنادقة منافقون بلا ريب. ولهذا لما بلغ الإمام أحمد عن إبن أبي قتيلة أنه ذُكر عنده أهل الحديث بمكة فقال (قوم سوء)، فقام الإمام أحمد وهو ينفض ثوبه ويقول: زنديق، زنديق، زنديق. ودخل بيته" .

أما أهل الزيغ والبدع والضلالة، فالموقف منهم من وجهة النظر السلفية فيلخصه أبو إسماعيل الصابوني بقوله "لا يحبونهم ولا يصحبونهم ولا يسمعون كلامهم ولا يجالسونهم ولا يجادلونهم في الدين ولا يناظرونهم، ويرون صونَ آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرّت بالآذان وقَرّت بالقلوب ضرّت وجرّت عليها من الوساوس والخُطات الفاسدة ما جرّت". فالموقف السلفي من مخالفيهم هو الرفض القاطع حتى إلى الإستماع إلى حجج الفريق الآخر ومناظرتهم خوفـاً من أن يتطرق الشك إلى قلوبهم. وفي الحقيقة إن هذا الموقف ينم عن الإشكالات المتعددة التي يواجهها المنهج السلفي عند طرحه على التفنيد العقلي والمنطقي. ولذلك، فإن الأسلم لاستمرارية هذا المنهج في محيط الزمان والمكان هو فرض انغلاقه على نفسه في مواجهة الآخر المختلف، وهذا واضح جداً عند استعراضنا للمجتمعات الحديثة التي تتبنى المنهج السلفي. كما أنه يتبدى واضحاً في كل الجماعات، صغيرة كانت أو كبيرة، في العالم المعاصر والتي تتبنى هذا المنهج ضمن محيطها الديناميكي المتنوع وذو التفاعل الإنساني على أكثر من صعيد. فالسياق العام للمنهج السلفي ينطلق من موقف مبدئي وهو أن الآخرين هم "أهل بدعة" ويجب عليهم أن يرجعوا إلى مضلة "الفرقة الناجية"، وعليهم، أي المخالفين، أن يستمعوا إلى أتباع النهج السلفي وإلى حججهم وآرائهم. ما سوى ذلك، فإنه جدال في الدين في يؤدي بالسلفي إلى الشك والوسواس وهو منهي عنه من السلف الصالح.


من هم "السلف" عند السلفيين؟

حتى نفهم المنهج السلفي يجب علينا أولاً أن ننظر في أساسيات ومبادئ هذا النهج. معنى كلمة "السلف" لغوياً، الجماعة المتقدمون. و "سَلَفُ الرجل" هم آباؤه المتقدمون. أما عند السلفيين فإن مصطلح السلف يُطلق على مجموعة من الناس تضم الصحابة والتابعين وتابعي التابعين عاشوا في القرون الثلاثة الأولى من صدر الإسلام. هذا الشرط الذي يقيدهم بالقرون الثلاثة الأولى من صدر الإسلام هو بسبب حديث النبي محمد "خيرُ القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوامٌ تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته". ويتم التعبير في المصادر السلفية عن أصحاب هؤلاء القرون بـ "خير القرون وأولاها بالاقتداء والاتّباع، وهي القرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية" . ويلحق بهؤلاء في المفهوم السلفي عدة من الفقهاء والمحدثين الذين تبنوا النهج السلفي في الفقه والإفتاء وحفظ الحديث الشريف.

ويقف في مقابل "السلف" مصطلح "الخلَف". عرّفهم السلفيون على أنهم "الذين خلَفوا المسلمين الأوائل واختلفوا معهم في المنهج والتطبيق، وتأثروا بمناهج الفلاسفة والمتكلمين فقدموا العقل على النقل وصرفوا النصوص عن ظواهرها وعَدَلوا عن الوقوف عند ظاهر النص". وخلاصة الموقف السلفي من الخَلَف في مواجهة السلف ما ذكره أحد المصادر السلفية من "أن العقل لا يتصور أن يكون الخلف أعلم بالله ودينه من السلف، إذ أن الدواعي عند السلف لمعرفة الحق أكثر، وصفاء الدين أعظم، والباطل أدحر. أما عند الخلف فالشبهات أكثر، والبدعة في أزمنتهم أشهر، والحيرة بينهم أوفر" .


2- أسس وأدوات المنهج السلفي المتطرف


تتركز أسس وقواعد عقيدة السلفيين بشتى توجهاتهم وآرائهم حول ستة أسس رئيسية :

1- تقديم الشرع (النقل أو النص) على العقل.
2- عدم تأويل النقل.
3- حصرهم لمصدر التلقي في باب الاعتقاد على القرآن والسنة .
4- عدم التفريق في أحاديث النبي محمد الواردة إلينا بين المتواتر وحديث الآحاد.
5- فهمهم للنصوص مبني على فهم "السلف" لها.
6- ذم التقليد في الدين.

الأساس الأول، ففيما يتعلق بتقديم النص على العقل فإن المنهج السلفي يعتبر أن "النص"، وهو ما يُعبر عنه أحياناً بالشرع أو النقل، هو "الأسلم والأعلم والأحكم، لأنه لا يأتيه الباطل ولا يعتريه الضلال. فالمنقول عندهم مقدم على المعقول"، فهم يجعلون العقل تابع ومحكوم بالشرع. فالمنهج هنا هو "تقديم الرواية على الدراية، حيث يبدؤون بالشرع ثم يخضعون العقل له". والسبب في تقديم ظاهر النص على دلالة العقل لديهم هو أن "الأوائل كانوا أكثر دراية وفهماً للشرع من غيرهم، فالمعقول ما وافق هديهم، والمجهول ما خالفهم. ولا سبيل إلى معرفة هديهم وطريقتهم إلا هذه الآثار" .

أما الأساس الثاني للمنهج السلفي، وهو عدم تأويل النقل، فإن المنهج السلفي يأخذ بظاهر الألفاظ وما دلت عليه من مفاهيم من دون تكلف التأويل لها وصرفها عن ظاهرها. وهذا المحور هو الأساس في الصراع السلفي مع باقي الفرق الإسلامية الأخرى وخصوصاً الأشعرية والمعتزلة. خير من يلخص الموقف السلفي هو شيخ الحنابلة في وقته أبو محمد البربهاري إذ يقول عن هذا المبدأ: "هو التصديق بآثار الرسول (ص) بلا كيف ولا شرح، ولا يُقال لِمَ، ولا كيف، فالكلام والخصومة والجدال والمراء المحدث يقدح الشك في القلب وإن أصاب صاحبه الحق والسنة".

والأساس الثالث عند السلفيين، وهو منهج الاستدلال، فيُقصد فيه هو الاقتصار في تلقي أحكام الدين، أصوله وفروعه، على القرآن والسنة، وأن "لا يعارضا بشيء من المعارضات، لا بمعقول، ولا رأي، ولا قياس، ولا ذوق، ولا وجد، ولا مكاشفة، ولا منام، ولا غير ذلك" . فالموقف السلفي هو أن النبي محمد قد أتى بوحيين، وليس واحداً. الوحي الأول هو القرآن، والوحي الثاني هو سُنته، وكلام الله وكلام النبي سواء في الاعتقاد والعمل والقبول، وكلاهما من الله سبحانه وتعالى . ولكن بما أن بعض نصوص الحديث الشريف تعارض نصوصاً أخرى في القرآن الكريم، بل إنها تعارض نصوصاً أخرى من الحديث الشريف نفسه ، فإن الموقف السلفي هو أنهم: "لا يضربون كتاب الله وسنة رسوله بعضهما ببعض، بل يؤمنون بكل ما ورد فيهما، مع علمهم يقيناً أن كتاب الله لا ينقض بعضه بعضاً وأن سنة رسول الله (ص) كذلك، وأن الكتاب والسنة لا يتعارضان ولا يتناقضان لأنهما وحي مُنزّل من عند الله، وما كان كذلك فلا يتعارض ولا يتناقض، ولذا لا يجادلون في كتاب الله ولا سُنة رسوله (ص) فإن الله قد ذمّ الذين يعارضون بين آياته أو بينها وبين سنة رسوله (ص)" .

أما الأساس الرابع عند السلفيين فهو عدم التفريق في أحاديث النبي محمد الواردة إلينا بين الحديث المتواتر وحديث الآحاد. فالحديث المتواتر هو الذي سمعه أو رواه عن النبي عدد من الصحابة لا يُحتمل معه ورود اللبس أو الشبهة في نقله إلينا. قال الخطيب البغدادي في تعريف الخبر المتواتر "هو ما يُخبر به القوم الذين يبلغ عددهم حداً يُعلم عند مشاهدتهم بمستقر العادة أن اتفاق الكذب منهم محال، وأن التواطؤ منهم في مقدار الوقت الذي انتشر الخبر عنهم فيه متعذر، وأن ما خبّروا عنه لا يجوز دخول اللبس والشبهة في مثله، وأن أسباب القهر والغلبة والأمور الداعية إلى الكذب منتفية عنهم، فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سبيلهم قُطع على صدقه وأوجب وقوع العلم ضرورة". أما حديث الآحاد فهو ما رواه صحابي واحد فقط عن النبي، وهو بهذا على العكس من تعريف المتواتر. وقد اتفقت أغلب الفرق الإسلامية على أن حديث الآحاد لا يفيد إلا الظن ولا يوجب العلم لأن "النَقَلة وإن كانوا عدولاً فالغلط جائز عليهم والكذب لغرض خفي جائز عليهم، لأن العدل أيضاً قد يكذب والوهم جائز عليه، فإنه قد يسبق إلى سمعهم خلاف ما يقوله القائل وكذا إلى فهمهم" كما نقل الإمام الغزالي عن من يتبنى هذا الرأي. ولذلك فإن حديث الآحاد لا يفيد العلم واليقين ولا يُحتج به في الاعتقاد ولكنه يفيد غلبة الظن إذا كان صحيحاً خالياً من العلل، ولذلك قال الخطيب البغدادي "خبر الواحد لا يُقبل في شيء من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم بها والقطع عليها، والعلة في ذلك أنه إذا لم يُعلم أن الخبر قول رسول الله (ص) كان أبعد من العلم بمضمونه".

أما السلفيون فيصرون على أن خبر الواحد، أو حديث الآحاد، يفيد اليقين والعلم والاعتقاد والعمل برغم كل إشكاليات نقل وتدوين الحديث السابقة. بل إنهم يصرون على أن التفريق في الحديث الشريف على أساس أنه حديث متواتر أو آحاد هو نوع من البدعة. هذا الموقف بالذات من حديث الآحاد هو أحد أهم الركائز المحورية في الفكر السلفي المتطرف. إذ يكفي أي أحد أن ينبش كتب الحديث النبوي ليعثر على حديث يتعلق بجزئية معينة، وبعد أن يفحص رجال سنده ليعرف درجة صحته، بمخزونه الشخصي من علم نقد رجال الحديث وجرحهم، ومن ثم يحوله إلى منهج عمل وسنة نبوية لازمة بغض النظر تماماً عن آراء الفقهاء وتقرير المذاهب الرسمية. بل إن الأمر سوف يخرج عن حدود سيطرة حتى السلفيين انفسهم ذوي التوجه المهادن لمؤسسات الحكم القائمة في بلدانهم بسبب هذا الجزم بتبني أحاديث الآحاد في العقيدة والعمل، إذا صح سندها، لأن جميع الفرق السلفية، المعتدلة والمتطرفة أو التي تحتار في تقسيمها إلى أي الطرفين تنتمي، من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق تملك حديثاً نبوياً أو أكثر تدعم حجتها في تفسيق أو تبديع أو تضليل أو تكفير مخالفيها. وكل متطرف سلفي يملك أيضاً حديثاً نبوياً أو أكثر يبيح له، من وجهة نظره، أن يقتل ويدمر ويسفك دماء الأطفال والنساء والشيوخ ضمن أمور أخرى كثيرة ربما سوف يحويها هذا الكتاب أو لا يحويها. بل إن بعضهم يملك حتى آراء أو مواقف من أحد أفراد "السلف الصالح" تدعم حجته وعمله.

يتعلق الأساس الخامس في المنهج السلفي بإصرارهم على أن فهمهم للنصوص مبني على فهم "السلف" لها. إذ أنهم يجزمون بأن "العقل لا يتصور أن يكون الخَلَف أعلم بالله ودينه من السلف" ، وأنه "لا يُعقل أن يكون الخلف أعلم من السلف وأحكم منهم على اعتبار أن السلف هم الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، فهل يتصور أن أحداً أعلم من الصحابة وأحكم في أمور الدين ولو أنفق الواحد ممن خلفهم مثل أحُدْ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" . قال ابن القيِّم الجوزية عن رأي الصحابة أنه "رأي أفقه الأمة، وأبرّ الأمة قلوباً، وأعمقهم علماً، وأقلهم تكلفاً، وأصحّهم قصوداً، وأكملهم فطرة، وأتمهم إدراكاً، وأصفاهم أذهاناً، الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول".

أما الأساس السادس في المنهج السلفي فهو ذم التقليد في الدين. فالمنهج السلفي يلزم اتباعه بالنظر في الدليل من القرآن والسنة ابتداءً للخروج بالرأي الشرعي أو العقيدة وعدم جواز تقليد المذاهب الإسلامية سواء كانت سنية أو غيرها وأقوال العلماء والفقهاء فيها إلا في أمور لا نص فيها. قال أبو شامة عبد الرحمن بن اسماعيل "ومنهم من قنع بزبالة أذهان الرجال وكناسة أفكارهم وبالنقل عن أهل مذهبه، وقد سُئل بعض العارفين عن معنى المذهب، فأجاب أن معناه دين مُبَدّل" . يلخص ابن تيمية الموقف السلفي من تقليد المذاهب الأربعة بقوله "متى اعتقد أنه يجب على الناس اتِّباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة الأربعة دون الآخر، فإنه يجب أن يُستتاب، فإنْ تابَ وإلا قُتل".


في مصطلح "الجماعة"

قد يثور اعتراض هنا مفاده أن السلفيين يؤكدون دائماً على أهمية الإنضواء تحت راية "الجماعة" ويحذرون الناس من الفُرقة، بل إن بعضهم يورد زيادة في حديث افتراق أمة الإسلام إلى ثلاث وسبعين فرقة بنص "كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة" . كما أنهم ينقلون حديثاً عن النبي محمد: (عليكم بالسواد الأعظم)، وفسروها على أنها الجماعة. فكيف يستقيم هذا مع الموقف الإلغائي لكل من خالف فهمهم ونهجهم من مذاهب المسلمين وعقائدهم؟

الجواب على هذا السؤال يكمن في الفهم السلفي لكلمة "الجماعة" ودلالتها. فمن وجهة النظر السلفية فإن مصطلح الجماعة لا يفيد إطلاقـاً الكثرة العددية، ولكنه يفيد حصراً من هو على "العقيدة السلفية" ولو كان فرداً واحداً. قال محقق كتاب الشريعة للآجري في شرحه على حديث الفرقة الناجية وأنها الجماعة في أحد الفاظ الحديث، وتارة السواد الأعظم، وبعد قول الإمام الآجري بأن معانيها واحدة: "ليس المراد الكثرة العددية، كما يدّعيه بعض الأدعياء. قال ابن مسعود (إنّ الجماعة من كان على الحق وإن كنت وحدك). ويقول أبو شامة (حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد به لزوم الحق واتِّباعه وإن كان المتمسك بالحق قليلاً والمخالف كثيراً، لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي (ص) وأصحابه رضي الله عنهم. ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم)". وجاء في مصدر آخر: "لقد تبين لذي عينين أن الجماعة هي ما وافق الحق ولو كان وحده، وهذه الطائفة المنصورة وُصِفت في أحاديث الرسول (ص) بأنها ظاهرة على الحق، وكذلك لفظ الطائفة يقع على الواحد فما فوق في لغة العرب (...) فلا جرم أن تكون هذه الطائفة المنصورة هي الجماعة، وهي السواد الأعظم، لأنها الجماعة". ثم ينقل نفس المصدر من كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للإمام اللالكائي قوله في وصف الفرقة الناجية، أي السلفية والسلفيون، ما يلي: "إنهم السواد الأعظم والجمهور الأضخم" ، وينقل عن ابن تيمية قوله "لهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السُنة والجماعة، وهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم"، وينقل أيضاً عن ابن حبان رأيه "الجماعة بعد الصحابة هم أقوام اجتمع فيهم الدين والعقل والعلم ولزموا ترك الهوى فيما هم، وإن قلّت أعدادهم، لا أوباش الناس ورعاعهم وإن كثروا"، ثم يعضّد رأيه هذا بنقولات مختلفة من ابن القيّم والإمام الشاطبي وابن قتيبة الدينوري. أما ابن تيمية في منهاجه فهو أكثر تحديداً لمصطلح الجماعة، فقد قال "والجماعة هم المجتمعون الذين ما فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فالذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً خارجون عن الجماعة" . إذن ما يقصده السلفييون من مصطلح "أهل السُنة والجماعة" و "السواد الأعظم" هم أتباع المنهج السلفي بالتحديد، ولا عبرة بعددهم، كثرة أو قلّة، حتى ولو كان المُتّبع للنهج السلفي واحد فقط فهو يُعتبر جماعة.

فكلما ورد حث السلفيون الناسَ على الإلتزام بالجماعة ونبذ الفُرقة فهم يقصدون، تحديداً ولا معنى سواه، الإنضواء تحت المنهج السلفي ونبذ ما سواه من مناهج ومذاهب، ولا معنى لهذه الدعوة من السلفيين غير هذا المعنى في ادبياتهم ومصادرهم وأقوال شيوخهم.

والشيخ محمد بن عبد الوهاب كان أشد الجميع وضوحاً وتحديداً لهذا المفهوم، إذ كتب في إحدى رسائله ناقلاً عن ابن القيّم في كتابه اعلام الموقعين ومتبنياً لنفس الموقف مع اسهاب طويل قبل نقله هذا "وقد شذ الناس كلهم في زمن أحمد بن حنبل، إلا نفراً يسيراً، فكانوا هم الجماعة. وكان القضاة يومئذ والمفتون والخليفة وأتباعهم كلهم هم الشاذون، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة".

هذا الاعتقاد الجازم بأن "الجماعة" لا تعني عموم المسلمين ولا تعني الكثرة العددية ولا تعني ما اتفقت عليه المذاهب الإسلامية الأخرى، بل إنها تعني أصحاب "المنهج السلفي" بالتحديد حتى وإن كان شخصاً واحداً فقط، وإلى جانب الاحتكار الحصري للنجاة من النار مع التهميش المتعمد للمدارس والآراء الفقهية المخالفة ومدارسها وجامعاتها وشيوخها. إذ أن المنطق "السلفي" لهؤلاء المتطرفين يتمركز حول أنهم هم "الجماعة والسواد الأعظم" حتى وإن كان أتباعهم ليسوا أكثر من أن يحويهم كهف من كهوف تورا بورا، أو شقة صغيرة في جزيرة بالي في اندونيسيا. وعلى أساس أن آرائهم تعتمد على المنهج السلفي من وجهة نظرهم، فإن مبدأ العصمة السلفي سوف يشملهم بداهة، وبما أنهم هم "الجماعة" فإن ذلك يستدعي بالضرورة بأنهم هم، وليس سواهم حتى وإن كانوا سلفيين أيضاً ممن لا يرون رأيهم، الطائفة المنصورة. هذا الفهم لمصطلح الجماعة وتلك العقيدة الجازمة بإحتواء العصمة بسبب المنهج السلفي سوف يؤديان إلى رفض كل مفاهيم القبول والتعايش مع الآخر المختلف، وإلى رفض كل الأفكار المخالفة للفكر السلفي. هذا، بالضرورة، يؤدي إلى فشل كل محاولات الحوار والتفاهم مع أصحاب الفكر والمنهج المختلف لأن الخيار من وجهة النظر السلفية هو اثنين، إما تكون مع الحق والفرقة الناجية والمنصورة، وهم هنا يتكلمون عن أنفسهم، أو أن تكون مع من سوف يُقذفونَ في النار. ماذا سوف تختار أنت؟


3- لماذا يقاتل المتطرفون داخل البلاد الإسلامية؟

يعتقد الكثير، بسبب التركيز الإعلامي، أن هدف المتطرفين الإسلاميين هو الدول الأوروبية والولايات المتحدة. إلا أن الحقيقة هي أبعد ما تكون عن ذلك. إذ أدبياتهم واضحة وصريحة في أن (القتال داخل الدول الإسلامية مقدم على القتال خارجها) وإنما الهجمات التي أتت خارج الدول الإسلامية كانت (ردة فعل على قضايا محددة وليست هدف في ذاتها). بل أن رأيهم أن المسلم الكافر هو (أغلظ كفراً من الكافر الأصلي مهما كان دينه، وقتال هذا المسلم الكافر مقدم على مَنْ سواه). فـ (الهدف) عندهم هم (ما يرونهم على أنهم كفار من أصل مسلم)، وقتالهم وقتلهم يجب أن يسبق الآخرين، وذلك (على عكس ما تصوره الآلة الإعلامية عن أهدافهم). وفي سبيل إثبات هذه النقطة سوف أنقل اقتباسات من شخصيتين مؤثرتين في الفكر السلفي المتطرف هما أيمن الظواهري وأبو قتادة الفلسطيني (عمر محمود عثمان أبو عمر).

يشرح أيمن الظواهري في أحد رسائله مسألة الأولويات. ففي هذا الصدد يجزم الظواهري بأن من هم في داخل وطنه وبلاده أولى بقتاله وقتله وتدميره وتفجيره وجهاده من غيرهم لأن "حفظ رأس المال مقدم على الربح":

"في حساب الإسلام وأصول شريعته يُقدّم قتال هؤلاء الحكام المرتدين على غيرهم من الكفار الأصليين لثلاثة أسباب:
الأول، أنه قتال دفع متعين، وهو مقدم على قتال الطلب، لأن هؤلاء الحكام المرتدين عدو تسلط على بلاد المسلمين. قال ابن تيمية (أما قتال الدفع، فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعاً، فالعدو الصائل يفسد الدين والدنيا، لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه).
الثاني، أن المرتد أغلظ عقوبة من الكافر الأصلي، قال ابن تيمية (وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي)، وقال أيضاً (وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي)، وقال أيضاً (والصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة بدؤوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب، فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين، وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه، وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة وإظهار الدين، وحفظ رأس المال مقدم على الربح).
الثالث، لأنهم العدو الأقرب" .

وفي هذا المحور بالذات، يكرر الظواهري موقفه من رفض تقديم قتال الأعداء الخارجيين على "كفار" بلاده. فضمن رده على مقولة لمرشد الإخوان المسلمين في مصر محمد حامد أبو النصر يقرر بأن الكافر الوطني أغلظ كفراً من غيره، وأنه بكفره قد تحول إلى أجنبي عن أهل بلده:

"وننبه على شبهة تطرأ للبعض في هذا المقام، منها ما يقوله حامد أبو النصر مرشد الإخوان: (الجهاد لا يكون إلا ضد العدو الأجنبي للوطن). فنقول إنه لا فرق بين أن يكون العدو الكافر أجنبياً عن البلد أو من أهلها فارتد وتسلط عليها. إذ إن علة وجوب قتاله الكفر، وليست العلة كونه أجنبياً أو وطنياً، فضلاً عن أن الكافر قد صار بكفره أجنبياً عن المسلمين أهل البلدة، وذلك لقوله تعالى ﴿قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عملٌ غير صالح﴾. والذين يفرقون بين الكافر الأجنبي والوطني كالذي يفرق بين الخمر المستورد والمحلي (...) بل إن هذا الذي نسميه بالكافر الوطني أغلظ كفراً لكونه مرتداً، كما قال ابن تيمية رحمه الله (وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي)".

أما أبو قتادة الفلسطيني (عمر محمود عثمان أبو عمر) فأخذ على عاتقه أيضاً أن يبين للناس السبب في تقديم قتال المرتدين في بلاد الإسلام على الكفار الأصليين المحتلين للديار الإسلامية والذين يعيثون فيها قتلاً وتخريباً. فهو يبتدئ بالتأكيد على أن "حكم المرتد في ديننا، كما هو شأن هؤلاء الحكام، أغلظ وأشد من حكم الكافر الأصلي"، وبالكافر الأصلي يقصد اليهود والنصارى وكل شخص على غير دين الإسلام. ويشرح هذه الغلظة بأن "حُكم قتال المرتدين أشد من حكم قتال الكفّار الأصليين"، ثم يعود ويكرر شارحاً "المرتد أحكامه في القتال أشد من الكافر الأصلي، وكذلك لا يجوز مصالحة ومهادنة وأمان المرتدين، ويجوز مصالحة ومهادنة وموادعة الكفار الأصليين". ويكرر مرة أخرى وبصور أكثر وضوحاً "أحكام قتال المرتدين أشد من أحكام قتال الكفَار الأصليين. ولما علمنا أن حكام بلادنا مرتدون، فلا يجوز مصالحة أحد منهم أو مسالمته أو مهادنته تحت دعوى المصلحة، أي أنه لا يجوز لجماعات الجهاد أن تداهن أحداً من هؤلاء المرتدين أو تسالمه أو تتعاون معه في قتالها لطائفة الكفر في بلدها" .

وبعد هذا البيان أعلاه، وبعد أن أقسم لقرائه "والله إن قتال هؤلاء المرتدين أحب وأفضل من قتال اليهود"، وبعد أن أكد لهم أن "الجهاد في سبيل الله تعالى فهو ضد المرتدين قبل غيرهم لأن رأس المال مقدم على الربح وتحقيق الزيادة"، شرع أبو قتادة في تعداد أسباب تقديم القتال داخل الدول الإسلامية قبل غيرها من الدول الكافرة أو الدول المحتَلة من جانبهم. فأكد لقرائه أولاً أن السبب هو لأنهم "أقرب إلينا من غيرهم"، وبالإضافة إلى أن قتالهم أولى من الكافر الأصلي فإنه يعتبر قتالهم من نوع (جهاد الدفع) الذي يدفع فيه المسلمون عدواً غزا أرضهم . وفي هذه النقطة الأخيرة بالذات، يُسهب أبو قتادة ليؤديه شرحه إلى أن قتال هؤلاء الحكام فرض عين على كل مسلم ومسلمة. يقول "فتسلط المرتدين على بلاد المسلمين هو من جنس دخول الكفرة بشوكتهم بلاد المسلمين، لأن مناطه مناطه، فقتالهم فرض عين حتى يظهر دين الله، وتُحمى البيضة، وتحفظ الحوزة، ويخزى العدو" . وفرض العين هذا في قتال (جهاد الدفع)، أي ضد الدولة ومؤسساتها، يخصص له أبو قتادة مقالاً لبيان وجوب "جهادهم"، فيقول فيه:

"فإذا تبين لنا أن هذه الطوائف هي طوائف ردة وكفر، وجب على المسلمين جميعاً، وجوب جهاد الدفع، أن يقاتلوا هذه الطوائف حتى تزول أو تعود إلى الإسلام. وحكم قتال هذه الطوائف هو حكم قتال الدفع، وهو فرض عين، ولا شرط لوجوبه سوى القدرة. فإذا عدمت القدرة وجب الإعداد. فليس هناك من حال تجيز للمسلم أن يخرج عن هذه الأحكام، جهاد الطائفة أو الإعداد لهذا الجهاد، مع التنبيه أن القدرة هي شرط وجوب لا شرط صحة. فمن قاتلهم وقد أيقن بهلاكه وعدم حصول الغلبة فهو مجاهد مأجور غير مأزور. فإن عدمت القدرة على الإعداد وجبت الهجرة، فإن عدم القدرة عليها وجبت العزلة" .



#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بولس – 9 - بولس وإنجيل مرقس
- بولس – 8 – بولس وإنجيل مرقس
- بولس - 7 - بولس ويسوع
- بولس – 6 – بولس ويسوع
- بولس – 5 – بولس والشيطان
- بولس – 4 – عقيدة التبرير
- بولس - 3 - بولس والشيطان
- بولس – 2 – بولس والشيطان
- بولس - 1
- في مسألة طيران بولس
- حرام - وسيأتي
- مغالطات يسوع المنطقية - 4
- مغالطات يسوع المنطقية - توضيح
- مغالطات يسوع المنطقية - 3
- مغالطات يسوع المنطقية - 2
- مغالطات يسوع المنطقية - 1
- الإزدواجية العقلانية المسيحية
- في مسألة كلبية يسوع
- في مسألة عري يسوع
- نصوص كذب يسوع


المزيد.....




- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- لوموند: المسلمون الفرنسيون وإكراهات الرحيل عن الوطن


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حسن محسن رمضان - لقاء الصالون الثقافي النسائي