أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مي ابراهيم - حلم نملة















المزيد.....

حلم نملة


مي ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 4702 - 2015 / 1 / 27 - 08:36
المحور: الادب والفن
    


((حلم نملة))
تباطأت في اخر خطوتين لي قبل الوصول الى المحل الذي توجهت اليه في سوق شعبي مليء بصراخ الباعة المتجولين وغير المتجولين ومعبأ بضجيج المشترين المتفرجين وغير المتفرجين وعربات الحمل التي تحمل انواعا من بضاعات مطلوبة وغير مطلوبة.
عليً دين يجب ان اسدده. الدين ثقيل يحني هامتي التي ما زلت ازهو بقوامها المرفوع وان كنت اخفي بين فقراتها الاما نخرها الزمن بخفة تراودني بين فترة واخرى.
لست شيخا ولا عجوزا لكني اشعر بانني عشت الف عام وعام وشربت المر كاسا بعد كأس.
ما ان سمع صاحب المحل اصوات اقدامي عند بوابته المفتوحة حتى جاء بوجهه مهلهلا لي ووهو يحمل كرسيا بسيطا وضعه قربي لاجلس وارتاح عليه.
وقال لي بخباثته المعهودة اهلا وسهلا بك في محلي المتواضع هذا من جديد. كنت اتسائل عنك منذ ايام. لقد مرت فترة من الوقت ولم ارك فيها فاستغربت كثيرا لانك انسان ثقة ومواضب جدا على الوفاء بديونك لي ولا تفوًت اي فرصة لفعل هذا. لذا انا مرتاح جدا معك واعتبرك زبوني الاول بل حقا احس احيانا بانك صديقي الاقرب ولا اعتقد بان شيئا ممكن ان يفرق بيننا.
كنت استمع اليه وأحس بان في داخلي فجوة كبيرة وعميقةهي من تتلقى صوته المهذب واللطيف المصبوغ بنبرة اللؤم والتشفي.
قلت له اعذرني كنت فارغا هذه الفترة وليس مشغولا. وانت تعرف جيدا بانني عندما افرغ ولا اجد ما يشغلني انقطع عنك عادة. ابتسم وكشر لي عن ضحكة صفراء شبه بريئة وقال : اعرف اعرف هذا لا تنزعج مني فانا لا اسال عنك الا لانني افتقدك وليس لغرض ما لا سمح الله.
اجبته باتسامة صفراء كابتسامته: لا نخدع بعضنا الان فانا اكره المجاملات تعرفني جيدا. انت تقلق دوما من غيابي لانك تعتقد بانني لن اتي اليك لكي ادفع جزءا من ديني لك. فتح عينيه قليلا ومد طرف بوزه وقال :حقا ما تقول فنا ارغب برؤيتك في محلي دوما كي تدفع ما بقي عليك من دين.
ارتفعت سحابة من دخان اسود في راسي كغمامة في يوم شاحب وقلت: لماذا انا؟
استدار براسه الي وتجمدت نضراته فوق وجهي الشاحب.
قال: هل انت حزين؟
قلت: وهل يهمك هذا.
قال كلا ليس مهما لي فقط اسال لاني لا اراك حزينا كثيرا بما فيه الكفاية اليوم خاصة وانا اعرف بانك انسان رقيق جدا وحساس ولا تستطيع دفع شيئا من دينك لي دون ان ينتابك الحزن على فقدان ما تدفع به.
حاولت ان اخترق بنظري عينيه من جديد فلم اجد فيهما شيئا واضحا . لا شيء سوى ضباب املس بارد.
قلت مرة اخرى: لم تقل لي لماذا انا؟
قال : ماذا تقصد؟
قلت: لماذا علي انا ان ادفع لك دينا دوما؟ لماذا تركت الاخرين وشبعتني بديونك؟ لماذا لا ترحم ضعفي؟ .لماذا استغليت طيبتي او غبائي أو الاثنين معا وسمهما كما شئت...كي تنال مني وتثقلني بتلك الديون؟
ما بالك تركت بقية اهلي وجيراني وتحاملت علي بكل هذا الحقد الفطري بداخلك وانا اراك تنتشي فرحا في كل مرة ادفع منها جزءا من ديني اليك لماذا؟
ابتسم لي وقال: لانك معطاء. كلما اطلب منك ان تدفع.. تدفع وانت ساكت. وان تذمرت فانك تتذمر بعيدا عني وبصمت .
سمعت كلماته وانا اطاطأ راسي وانظر الى نملة على التراب قرب قدمي وهي تجر ورقة خضار صغيرة وقعت في السوق من سلال احد الباعة ربما. انفصلت قليلا عن عن مكاني وزماني ولم اعد اشاهد الا تلك النملة وهي ترفع حملا اكبر من حجمها بكثير وتسير بخطى ثابته وما ان تتعب حتى تفلت حملها تتركه لترتاح وهي تتحرك بقربه ثم بتدأ بجره وحمله من جديد. حتى انطلقت بعيدا عن قدمي وسارت في ردب مجهول واختفت.
الى اين ذهبت؟ سمعت صوته يكلمني . قلت لا شيء انا هنا. قال اذا انت هنا فهيا ادفع واذهب لاني لدي اعمالا اخرى اقوم بها وحسابات اخرى في دفترك افتحها لأرتب الدين القادم عليك كي تدفعه ايضا.
عرفت انني لا بد ان ادفع الان واذهب لانني لم اعيد اطيق النظر الى وجه المليء بالتجاعيد.
اخرجت بيدي المتبقية كيسا من جيب معطفي الشتوي فتحته واخرجت قميصا ملوثا بالدم اليابس.
اتسعت حدقتا عينيه الخبيثتين ومد يده اليمنى ليسحبه مني بسرعة ولكني منعته . فاعاد ووضع يديه في جيوبه وهو ينظر الي بترقب وصمت.
رفعت القميص الملوث بالدم اليابس الى وجهي واغمضت عيني وشممت رائحته. اه يالها من رائحة.
انه عطرا لن تمحوه الذاكرة بعد اليوم. مزيجا من رائحة الدم اليابس والعرق المتصبب الناشف في طيات القماش وكذلك بقايا من رشة عطر كان ابني قد وضعه قبل ان يغادر بيتنا اخر مرة. استنشقت بفصي رئتي ذلك العطر المخلوط بين ثنايا القميص ودمعت عيناي.
قال لي كفى اعطني هذا.
مددت يدي بالقميص له فتناوله مني ونشره بين يديه وهو يبتسم. الان اوفيت جزءا من دينك. جميل جدا. هل هو لابنك؟
اجبت نعم.
متى حدث هذا؟
منذ اسبوعين.
ولماذا لم تاتني الا اليوم فقط؟
لقد جلبوا جثته من الجبهة منذ 3 ايام. انهيت فاتحته وجئتك بما طلبت مني.
قال: جيد جيد لا تتاخر في المرات القادمة فانا لا احب الانتظار.
قلت: حسنا كم بقى لدي من دين لديك؟
قال سانظر الان في دفاتري. دخل للمحل وعاد وبيده دفترا مهتريا مليئا بارقام وشخابيط وقال حسنا لن ادعك تنتظر الموت كثيرا بعد اليوم. فقد خسرت الكثير. وفي كل مرة تخسر احدا او شيئا. انقص من عمرك سنوات وسنوات وهذا هو دينك لدي.
ولكن (قالها وهو يبتسم) اعتقد بانك دفعت الكثير لي لكي اضعك في اقرب فرصة على فراش الموت .
قلت لماذا باقرب فرصة؟
قال: اتريد الحقيقة ايها الصديق العزيز لقد اصبح منظرك كئيبا جدا لي حتى انا ملاك الموت. اصبح منظرك يرثى له بعد ان خسرت زوجتك اولا ثم بيتك وتهجرت وخسرت عملك وبترت يدك في احدى الحروب والان قتل ابنك في احدى جبهات القتال..اصبحت انا ارثي لحالك وما عدت افرح برؤيتك. وافضل ما افعله ان انهي الامك هذه باقرب فرصة ربما لن يبقى عليك الا دفع دين صغير اخر ساعتبره القشة التي ستقضم ظهر بعيرك ..ثم اواريك الموت والتراب بعدها.
كانت عيناي ويداي مثبتتان على الكيس الذي جلبت به قميص ابني الوحيد الشهيد.
في داخلي انتشرت مسحة من الفرح..يالله متى ستنتهي احزاني.. لم يبق الا دين صغير وتنتهي الحياة وارتاح الحمد لله.
نهضت من الكرسي سارحا وبدات امشي بعيدا عن محل الديون وفي وسط السوق وضجيجه ارتطمت بصبي صغير يجلس على التراب بين عربات الباعة المتجولين فصاح اه. قلت له ماذا تفعل وانت تجلس في وسط السوق الا تخاف ان يدعسك الناس.
ابتسم الطفل لي فاحسست بالفرح قليلا وقال: عمو تعال انظر. قلت ماذا؟ قال: تعال انظر ماذا ارى انا هنا. انحنيت بقربه قليلا لاشاهد ماذا يرى.
قال.: لقد تابعتها منذ فترة وهي لم تمل ولم تكل وما زالت تمشي ولم تتعب. نظرت جيدا فرأيت تلك النملة الصبورة ما زالت تحمل حملها الثقيل فوق ظهرها وتمشي بلا كلل ولا ملل نحو هدف لا اعرفه.
الصبي كان مبتسما وقال لي بنشوة وبرائة الاطفال: عمو..انا ايضا ساصبح مثلها حتى لو كان حملي ثقيلا فلن امل ولن اكل ساكبر وساصبح نملة بشرية واعمل طوال الوقت مهما جرى ربما ساصبح انذاك بحال افضل اليس كذلك عمو؟
نظرت الى عيني الصبي المتفائلتين وفجاة ادركت كم كنت غبيا..كم كنت واهما.كم كنت ساذجا وانا اعتقد باني ادفع كل تلك الديون لاموت.
تركت الصبي يحادثني وركضت من جديد نحو محل ديون الموت..فلم اجده وكانه اختفى من الوجود.
كم خدعت نفسي.
كلما جرى كان امتحانا لي . لتحملي.. لصبري ..لقوتي..
لم يكن امتحانا للموت
بل كان امتحانا للحياة
لم يكن امتحانا للخسارة
بل امتحانا للامل
عدت الى وسط السوق حيث الصبي . ما زال يجلس هناك بملابسه الممزقة وعينيه اللامعتين ووجهه الضعيف الاصفر.
قلت له اين اهلك: قال انا وحيد في هذه الدينا.
سالته وماذا تفعل بهذه الدنيا؟ قال اعمل حمالا بالسوق واكل الفضلات.
قلت له : وما رايك بان تعمل عندي؟
ابتسم ابتسامة كبيرة وقال :حقا عمو؟
وماذا اعمل؟ سافعل كل ما تريد فانا ضعيف حقا لكنني قوي البنية وسترى اتحمل الكثير.
قلت له: لا باس .اول عمل ستعمله هو انك ستذهب للمدرسة كل يوم وتعمل كتلميذ. هل تستطيع فعل هذا؟
فتح عينيه بقوة ورايت كيف امتلئت فجوات عينيه بدموع صافية عكست ضوء الشمس ونزلت على بشرته القمحية المتسخة. قال: حقا عمو ستاخذني للمدرسة واصبح تلميذا؟ قلت له نعم سنفعل هذا.
امسكت بيده واخذته معي وحدثته ونحن نمشي: اقول لك اول شيء ستذهب معي للبيت لتغسل نفسك ثم سنشتري لك ثيابا جديدة كي تلبسها في المدرسة ثم ستاكل معي وتكبر وتكبر ثم تكبر وربما ستصبح في يوما ما طبيبا او مهندسا او ربما ستبيع الخضروات بالسوق لا يهم هذا..المهم انك ستكون نملة جميلة ومثابرة اليس كذلك؟
قال لي : نعم عمو بالتاكيد ساكون اشطر نملة وستفتخر بي .
ضحكنا سوية وتلاشت ضحكاتنا مع ضجيج السوق وصراخ الباعة.



#مي_ابراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصيدة
- خانوك ياوطني


المزيد.....




- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مي ابراهيم - حلم نملة