أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى مدثر - مظاريف















المزيد.....


مظاريف


مصطفى مدثر

الحوار المتمدن-العدد: 4701 - 2015 / 1 / 26 - 22:42
المحور: الادب والفن
    



"لقد كنت منتصباً.."
- منتصب القامة؟
- بالطبع لا. أية قامة؟
الطبيب قال لي أكتب بصدق وأكتب كل شيئ.
وضع القلم وأخذ يفكر في كلام الطبيب.
كان الطبيب قد سأله سؤالاً بدا له غريباً:
- هل تهوى الكتابة؟
ربما كانت اللحظة الوحيدة التي أحس فيها بخطر الأسلوب الذي اتبعه الرفاق. لابد أنهم قالوا له إن لي اهتماماً أدبياً طفيفاً. ربما لم يقولوا طفيفاً. بل إن المسئول السياسي بالذات، الذي كان يضخم الأشياء بطبيعة موقعه القيادي، لابد أكد للطبيب أنني أديب مكتمل. ومهما يكن فإن تعليمات الطبيب بالكتابة صادفت أهلها.
أحس بنوع من الزهو الكتوم.
أعاد قراءة تلك الجزئية وأضاف إلى صفحة أخرى:
"فستانها الكلوش الوردي وزجاجة البيبسي بين شفتيها بحمرتهما المقطوعة من رأس الشهوة.."
تأمل الفكرة وارتحل إليها. أحس بحوجته لأن يباعد بين فخذيه إذ أن بنطاله الضيق لم يقدر على احتواء ما يحدث هناك بشكل جيد.
ثم عطس مروان.
عطس عطسةً كبرى غائرة الصوت. أو ربما لم تكن عطسة. هذا ما أحسه لحظتها. لمرتين لم يستطع أن يلتفت إليه فسأله وظهره له:
- هل نفترض أن هذه كانت عطسة ؟ لم يأخذ مروان سؤاله كمزحة. فهو لا يمزح أبداً لكنه أنكر أنه عطس واحتج على الدقائق التي بددها في هذا الأمر. صمت رواد الحجرة الآخرين وأكبوا على مذكراتهم يعلفونها علفاً.
الحجرة كانت حجرة قراءة صغيرة في كلية الآداب.
خرج مسرعاً غب تلك العطسة يلملم أوراقه في الهرولة. أخرجه شيئ ما. ثم فجأة حل به ذلك الفزع. التفت جهة الغرب ليرى نحاساً يعم السماء. نحاس بعضه صقيل وبعضه يشي به الوعيد. ذهبت شمس ذلك اليوم إلى بيتها وراء النحاس. وقف مرتعداً في محطة البص. فلقد رأى نجمة تهوي في أثر الشمس الغاربة. تذكر أن الشمس تعاود الشروق. قرر الذهاب لفندق الشرق، ليطفئ ذاكرة الانوار المعشية ودوي العطس.
*
في اليوم التالي وبعد ثلاث ساعات في المعمل عاد لتلك الحجرة الصغيرة ليكمل كتابته فرأى سقالات قد أقيمت حول الغرفة وشاهد العمال يتضاحكون فرحين بانتهاء ورديتهم. لم ينتظره أحدٌهم كي يسأله. أحس بحيرة. أين سأكتب اليوم؟ سأل أحد الطلاب فعلم منه أن الحجرة تصدعت بشكل مفاجئ بالأمس. قال له دون تفكير: أنا أعرف السبب. تطلع إليه الطالب مندهشاً وسأله:
- أليس عندكم حجرات قراءة هناك؟
- أين؟
- في كلية الزراعة.
ضحك وقال له:
- لا!
أحس أن هناك عقبات تحدث في وجه انجازه تلك الكتابة ومنها عطسة مروان التي جاء تصدع البنيان مصداقاً لقوتها التي لم يدركها غيره من شحذ العقل الذي يقوم به هؤلاء الناس. ولكن هذا ما لم يكن يهمه. ما كان يهمه هو أنه لم يكمل صفحة حتى الآن. بالتأكيد الطبيب لن يكتفي بصفحة أو اثنتين. هل يعقل أن تكفي صفحتان لتحبير قصة حياة انسان أو حتى الشريحة المهمة منها؟
جلس في بار فندق الشرق يحتسى البيرة الرخيصة. ثم في تصاعد الخمر الأول أخرج أوراقه وقلمه. قرأ قليلاً وبنية التعديل لكنه عجز عن الكتابة. التفت وراءه بشيئ من الضيق.
لماذا عطس مروان تلك العطسة المهيبة ثم أنكرها؟ هي لم تكن عطسة طبيعية. وتلك الحجرة الصغيرة الوديعة أظن أن تلك العطسة عادلت عدة أطنان من المنسوفات. ثم ينكرها بكل بساطة . ظن النادل أنه يستدعيه لكنه ما إن رآه تذكر أنه التفت وراءه بشيئ من الضيق فدفع للرجل قيمة البيرة وخرج. قال لنفسه لن أعود للداخلية قبل أن أحس بأن عبء الكتابة قد خف.
ولكن المحاضرات والمعمل؟
رد على نفسه بالصوت الذي يلي الصمت: ولماذا تذهب أنت لطبيب يكلفك باختراع العلاج؟ أعتقد أن هذه النقطة تشير لتآمر الرفاق في اظهاري، دون أخذ الإذن مني، بأنني كاتب وكذلك آمنوا بالرجل كعالم في مجاله وعلاجه فريد. لكن هل هو فريد حقاً؟
في البص الذاهب لجنوب الخرطوم طرأت له فكرة أطربته مفادها أن الطبيب ربما خصه بشيئ مستحدث وناجع. صحيح، فهب أنني كنت شخصاً جاهلاً بالقراءة والكتابة فكيف كان سيعالجني. هل مئات الناس الذين جالت عيناي ترصدهم من نافذة البص سيكتبون قصص حيواتهم للأطباء ان طُلب منهم ذلك؟ الحسنة الوحيدة أن المواقف والبصات ستخلو سوى من عدد من الذين فرغوا من مثل هذه المشقة، يدخنون سجاير في الميادين الخالية وحولهم عدد من كتاب العرضحلات المثابرين اذ أن بعضهم لم يجد الوقت ليكتب أصالة عن نفسه!
ترك البص ومشى قليلاً إلى حيث منزل خالته.
دفع الباب برفق وكانت الخالة واقفة في وسط الفناء، فبادرته:
- أها ان شاء الله خير!
فهي لسنين تعوّدت أن يكون هنالك سبب لزيارته لها وهي أخت أمه.
قال دون أن يواجه عينيها كاشفات الكذب في حينه:
- الكلية بها حفل وازعاج وأنا عليّ كتابة ورأيت هنا أقرب من أن أذهب لأم درمان.
قالت له: حبابك. أعمل لك شاي أم تتعشى؟
اختار الشاي وسألها أين نجوى؟
قالت: لم تفعل أنت ما يكفي لايقاظها.
خرج صوت نجوى من غرفة قريبة:
- أنا هنا يا يمة. لم أنم بعد.
كانت تستذكر دروسها.
دخل غرفتها وقلّب بعض الأوراق. ثم جلس صامتاً قبالتها. وهي تنظر له بتفحص. سألته:
- هل هناك مشكلة؟
قال لها: لا بالعكس هناك حل يتم طبخه بإسلوب حديث.
- ماذا تعني؟
- هناك مشروع لانقاذي من الفناء والنفي يتكوّن من مشاهد متسلسلة يجب أن تكتب! وهناك مشهد منها مهم رويتيه أنت.
قالت له: دعني أفهم هل أنت بصدد قصة أم رواية؟
قال لها: لا هذي ولا تلك!
قالت له: هكذا ينبغي أن تفكر! أكمل الجامعة أولاً ودعك من القصص!
أطال النظر في عينيها فقالت له:
- لمن ستكتب؟
- لطبيبي.
- لماذا تريد أن يستكتبك أحدهم؟ المفروض أن تحتفظ بحقيقة نفسك. أنت الوحيد الذي يسمح بتناسل قصة حياته!
قال لها بصبر:
- أنا لا أكتب بعفوية. انها كتابة مدبّرة. كتابة تحريرية.
وتوقف ليسأل نفسه من اين أتى بوصف كتابة تحريرية أو كتابة مدبرة. أطرق يفكر أن الطبيب لم يقل له أكتب قصة حياتك.
هذه فرية فرّخها هو لظنه أن ما سيكتبه سيكون شيئاً ذا صدى أو أنه سيطبع في كتاب. قال لها:
- المشهد الحاسم هو ما حكيتيه أنت بنفسك. لا داعي لأن تحكيه الآن سأحكيه أنا وان كان هناك اعتراض تدخلي.
رفع ورقته وقرأ لها:
"كانت هي ونجوى وفتاة أخرى محل استهداف من شابين يعيشان في المنزل الملاصق لهن. كانوا جميعهم يتحدثون بالتلفون بين البيتين
إلى أن جاء اليوم الذي أخطرهم فيه أحد الشابين، الأكثر مجوناً في الغالب، أن اليوم هو فرصتهم للعبور. سألتهم نجوى، حسب روايتها: ماذا يعني العبور قالتا لها: العبور هو القفز فوق الحائط بين البيتين وأمسكتا عن آثاره. رفضت نجوى، حسب روايتها، وعبرت الأخريان بتسلق الحائط والنزول في البيت المجاور. نجوى، بجانب عدم اخلاقية التصرف، كانت تخاف من المخاطر العادية. كلب شرس مثلاً أو أن يدخل ضيف مفاجئ لا يستطيعون رده من الباب أو أن تعود أم الولدين لأي سبب، من الخليج، فتجد هذا اللقاء الشبابي وتنسج منه ما تشاء.."
سألها: هل عندك مانع في هذه السردية؟ لن أغيّرها!
قالت له: لن تغيرها؟ جميل. لو زدت عليها كلمة واحدة سوف لن نبقى أصدقاء. سردية غاية في القبح، ولكنها مناسبة ليقرأها طبيب!
قال لها: طيب. دعيني أكتب واذهبي أنت إلى أمك قبل أن تحس بأنا نتآمر على شيئ.
عند باب الغرفة التفتت لتقول له: إنت بتاع مشاكل! ولكن تبدو غريباً هذه المرة.
حال ذهابها انقض بقلمه على الورق وكتب: "نجوى شوهت المنظر..لقد كانت رائدة العبور لمنزل العزّابة…" ثم أوقف قلمه ليفكر. لماذا يقرأ الطبيب كلام عن نجوى. ربما هو أمر معيب أن أذكر اسمها. لكنه قرر أن يترك تلك العبارة عن نجوى كما هي فربما استعان بها الطبيب في شيئ. وبعد تأمل تذكر أن هذا ما قالته حبيبته عن نجوى. وكتب بغيظ أنها لم تنكر ذهابها مرة واحدة لمنزل العزابة وأنه صححها فهو لم يكن ذهاباً، بل كان قفزاً فوق الحائط. وكتب كذلك أنه صرف النظر عن براءتها حتى لو كان سبب ذهابها لاستعادة الكرة الطائرة، مع ملاحظة أنه لم تكن هناك كرة. متى كنت تلعبين الكرة؟ ومع مَن؟ وعاد هو يفكر في أن الطبيب سوف لن يجد في كتابته سوى الفكاهة وبالتالي قد يتوصل إلى غير التشخيص والعلاج اللذين يرجوهما. لابد أن الطبيب يعلم أن الحالة النفسية والوقائع المرتبطة بصاحب الحالة لا تتطابقان بالضرورة. ولذلك يمكن تخيّل مريض عاد للطبيب الذي طلب منه الكتابة عن حالته بأوراق خالية من أي كتابة أو رسومات. أي انسان بلا وقائع، يا لمهزلة الطب حينها! وبالطبع ستجد طبيباً يقرأ الأوراق الخالية وباقتدار.
وعندما دخلت نجوى تحمل عدة الشاي، بادرها بآرائه تلك حارصاُ على اخفاء كونها شوهت المنظر أو أنها رائدة في القفز وقال لها:
لقد اصطحبني بعض الرفاق لمقابلة طبيب ماهر، طيبب ديمقراطي، تعرفين أنني مررت بظروف صعبة.
نظرت نجوى داخل عينيه ثم مسحت يدها بطرف بنطاله وقالت له:
- ما كان ينبغي أن تذهب لطبيب.
غضب منها وسألها:
- أطقّع يعني؟ لقد كانت بعض الشموس تغرب داخل غرفتي والكوابيس!
قالت له:
- يمكنك تغيير الغرفة أو أن تنام بلا عشاء!
قال لها بصبر:
- هنالك رابط بين سكوت الكلام والمرض النفسي.
قالت له وهي تصب كوباً من الشاي المخلوط بالحليب، المأثرة الوحيدة لزيارة خالته وبنتها نجوى.
- سكوت الكلام هو تذهيب ساحر لحالة الغيرة. تدري؟ من الذهب يعني! هل تؤسس مرضاً بحاله على سكوت الكلام؟ لماذا لا تكتفي بما قالته هي؟
- لأنني لا أرضى أن يكون في بالها شخصان!
رشفت من كوبها وأشارت له بشفتين مذمومتين أن يفعل. وساد الصمتَ بينهما، يفكران، رشفٌ كالشخير.
وحضرت في ذهنه أفكار عدة للكتابة ثم حضرت الخالة تحمل صينية عشاء. وبعد كل ذلك الذي كان مهموماً خلاله ، بعد الفراغ من الطعام والاجابات الكاذبة على أسئلة الخالة وبنتها ذات القدرات الهائلة في تغيير شكلها وتبني جميع المواقف في ثنايا أية لحظة، انسحبت الخالة وبنتها من الغرفة. بدت له الخالة أعرف من بنتها بحاجته لخلوة، مارآه رسالياً بشكل ما، حتى أن تأخر بنت الخالة وراء أمها كي تفعل له واحدة من حركاتها الأثيرة لديه لم يحز على اهتمامه البتة.
وانبرى يكتب كما لم يفعل في حياته، وأتى على ورق لا يخصه في الغرفة وفتح المصاريع بحثاً عن مزيد من الورق. ثم فكر في المظروف قبل أن يكمل كتابته. المظروف لابد أن يكون تاريخياً في شكله! وسوّلت له نفسه أن يفتح صندوقاً بدا مخفياً بصورة ماكرة
تحت سرير خشبي سمين الأرجل بشكل لافت. فوجد داخل الصندوق مظروفاً فخيماً مختوماً بالشمع فنزع عنه الشمع بلا تردد وفض أسراره دون أن يعيرها أي اهتمام، مستعرضاً في ذهنه ما قد يكون المرحوم زوج خالته يظن عن نفسه وهو يترك وصية هي بالضرورة فقيرة وبها كثير من النصائح التي لا تسمن. قلّب المظروف وتأكد أنه ثمين وأدهشه أن المرحوم لم يترك أثراً عليه من قبيل : أذكرونا فإن الذكرى وما أدراك! قلب المظروف وتأكد من نظافته. ثم بدأ رحلة أخرى داخل الغرفة بحثاُ عن ماركر أسود. فوجد أشياء مدهشة وأخرى لم يفهم وظيفتها. واستقر رأيه أن يكتب اسم الدكتور على المظروف بقلمين. فعل ذلك كثيراً. وكان عليه قضاء بعض الوقت في تحبير ما بين الأثرين. ورأى أن لا بأس من ذلك. لقد كان الصبح قريباً في الواقع. وعاد يتذكر ما كتب. وابدى اعجابه بنفسه فلقد كتب قصيدة، ليست منه، ولكن كان يحفظها وبث في سرده المهيب عن الخيانة والغيرة كثيراً من الحكم الشائعة وغير الشائعة وتحدث عن وضع السكن بالنسبة للناس العزابة والمآزق. وكتب فقرات كاملة عن الاثارة الجنسية التي لا يأبه بها مرتكبوها. وكان كلما يعيد قراءة إحدى هذه الفقرات يعجز عن التفريق بين حبيبته وبنت خالته نجوى. بل توقف للحظات عندما طرأ عليه أن هذا مردوده ليس في حسن كتابته بل في قدرات الأخيرة على تغيير شكلها والانتقال من اللاتأثير لفعالية متراوحة ومدهشة وغالباً مثيرة جنسياً. وواصل في تحبير الفراغات في اسم الدكتور بقلم حبر ناشف أسود وكان ينتبه كلما علا صرير القلم. ولربما تشكك أكثر من مرتين في أن مكتوبه العظيم لم يتناول بشكل واضح قضية احتماله للعيش بعد تحطم علاقته. واستهجن فكرة نجوى أن يغفر لحبيبته سقطة ربما كانت الوحيدة وذلك لوجود كلمة ربما. كذلك شغلته للحظات مسألة كتابته لبعض المصطلحات الطبية مما يعد تطاولاً على الطبيب على أنه اهتم أكثر بأنه كتب بلا حياء عن قبلاتهما الطويلة واقترابهما من ممارسة الجنس. وقال لنفسه: ايها الأحمق! هذا طبيب وليس رئيس لجنة مصنفات. ثم قرر أن يخصص جزءاً من الليل الذاهب في اخفاء آثار اختراقه لأسرار العائلة وفتحه ذلك الصندوق وتذكر أن يخفي المظروف داخل ملابسه الداخلية حين خروجه ثم واصل تحبير الفراغات في اسم الدكتور على المظروف ومراعاة تخفيف صوت الصرير.
على أنه حين خطا من الغرفة في الصباح لم يفعل ذلك في فناء المنزل بل وجد نفسه داخل غرفة خالته وبنتها اللتان لم يدهشهما دخوله عليهن ولم يغيّرن من وضعيهما على السرير الذي تشاركتاه. وبادرته الخالة بروح مرحة:
- كتابة الجن هذي! ماذا كنت تكتب طول الليل؟ صرير قلمك أقض مضاجعنا!
وقبل أن يترك تعبير الألم يحتل وجهه أضافت نجوى:
- ربما كتب خطاباً غرامياً مطوّلا!
ثم غمزت له بعينها. فنظر إلى صدره، كيف يعلو ويهبط دون أن تسمعا كركبة المظروف!
وقال لهما:
- صباحكما خير. مستعجل، لن أنتظر الشاي! معذرة.
وشرع يمشي بلا تنفس. لم يلتفت حتى وهو يصفع الباب خلفه.
-----------

وجدهم يعالجون أسلاك مكبر الصوت، الذي لا صبر له على اطلاق زعيقه!
وكان مروان، صاحب العطسة، بينهم! وكان هو قد ترك المظروف أمانة عند صاحب كشك الليمون.
كاد يمسك الميكرفون ليعلن انتهاءه من كتابة ما أوصاه به الطبيب. على الأقل في الأجزاء الأولى المحتوية على اشعار وقصائد.
قال لأحدهم وهو يتابع مروان بشغف:
- ماله مروان هذا؟
- ماله؟
- لقد انشغلت عن كتابة بلاغ عنه. لقد عطس عطسة نابية ذلك المساء.
- ززززز! عطسة نابية؟ كيف هذا؟
- لقد تصدّع مبنى حجرة القراءة…..
واجتمع حوله الرفاق يسألون بعضهم البعض عن حاله. وقال له سامر:
- يا رفيق! غداً تذهب لمقابلة الطبيب.
قال له:
- عظيم! أنا جاهز مما جميعه!
-----------------
لم تعجبه الصرامة في تصرفات الطبيب.
كان قد وصل العيادة عند العاشرة بصحبة سامر الذي اختفى فجأة، ثم رآه، داخل حافلة مرت، من نافذة غرفة الطبيب.
قال لنفسه: توقفي يا أنتِ عن تقمص شخصية الأديب حالة كونه يسلّم نصه الفريد لناشر. إنها كتابة تتم في سياق معالجة طبية.
وقد يكتب لك الطبيب مضاد حيوي أو حبوب امساك. لماذا تتوقع جائزة بينما يمكن لبعض الأسرار التي بثثتها في كتابتك أن تدفع
بالطبيب لصفعك او طردك من مكتبه. وارتعب من فكرة ضياع نصه، ضياع مظروفه في لحظة أي خلل في التمظهر!
أحس أن الطبيب يرصد أفكاره بدقة. وبدا له ضخماً وغامضاً ليس مثل رؤيته له في المرة الأولى.
وتفرغ له الطبيب من ترهات الهيئة الطبية التي استغرقته ونظر له من فوق نظارته السميكة قائلاً
- كيف يا أبو الشباب؟
- بخير يا دكتور!
- هل كتبت شيئاً.
وبحماس، مد له المظروف المحكم الإغلاق. تصاعد انزعاج سريع إلى وجه الطبيب وهو يقرأ اسمه على المظروف. تريث قليلاً وقال له:
- هل كتبت كل شيئ!
- نعم! كل شيئ وأكثر.
- وهل أحسست بإرتياح بعد الكتابة؟
- يا سلام يا دكتور ارتياح ما بعده!
وما من سبيل لمنع صوت أعلى من صوت العطسة من أن يزلزل أركانه . إنه صوت المظروف تمزقه يدا الطبيب دون فتحه!
وصرخ بصوت ممطوط يتأبى على مفارقة جسده:
- لماذااااااااااااااااااا؟
انتصب الطبيب يتحسس أجراساً ممبثوثة على مكتبه ويسحب درجاً. ودخل اثنان من أعوانه.

---------------------------------

أيقظه سامر بجلوسه بجانبه على النقّالة. ظل سامراً يتابع المحلول الوريدي بإهتمام دون أن يعلم أن الطرف المستفيد من انسياب السائل قد تيقظ. حيّاه سامر مندهشاً وسأله عن حاله الآن. فأومأ برأسه وابتسم. سحب سامر مظروفاً أبيض اللون كان قد أخفاه بين الأغطية وقال له:
- كانت هنا قريبة لك، اسمها نجوى. وقالت هذا المظروف لك.
قال له في وهن عادي، أبعد من أن يحتاج لمحلول وريدي:
- بل هو لك! للرفاق!
احتار سامر لكنه اسرع يفض المظروف. وسرعان ما استغرق في القراءة وخرج من الغرفة ليعيد قراءة أجزاء بعينها:
"في الصباح أخذت ما كتبت وذهبت للطبيب وكانت الأوراق داخل مظروف.
فقال الطبيب أول ما رأني: أها كتبت كل شيئ؟
قلت: نعم وناولته المظروف.
سألني: هل شعرت براحة بعد أن كتبت كل شيئ؟ فقلت كاذباً نعم.
فما كان منه إلا أن مزق المظروف إرباً إربا.
قلت للطبيب بزعل شديد:
لماذا مزقت أوراقي يا هذا عليك اللعنة. ليس لي نسخة منها. وكيف تمزقها دون أن تقرأها؟
وقال لي الطبيب إنه يعرف ما يفعل، فقلت له بل أنت تفعل ما لا تعرف! وأحتددنا وشتمته وشتمني وقال إنه سيرفع بلاغاً للحزب عن سلوكي المشين تجاهه. وخرجت من عنده وأنا أغلي من الزعل .
ولكن طريقة هذا الدكتور، ومع مرور الأيام، فعلاً أحدثت تحوّلاً ايجابياً في تعاملي مع الأعراض التي تسببت فيها أزمتي مع فلانة. فهو قد شجعني على اعتناق حالة الانجذاب (اللوناسي) وأنا لم أتخل عنها بل كنت أمارس أعراضها تحت مظلة هواية الفلك. وبذلك أصبحت لدي أعراض أنيقة أرتديها وأنا أدخل المراكز الثقافية أو مكتبة المين بكل كبرياء.
أكتشفت أن الفلك يمكن أن يُحَب وأقتنيت بسبب هذا الحب للفلك بعض الكتب الفلكية وصاحبت الناس الفلكيين من كليات العلوم والآداب والأقتصاد.
كان طلاب الطب والصيدلة وكليتاهما خارج موضوعي تماماً. وأهملت دروسي إهمالا فلكيا لكنني كنت شاطراً في مادة إسمها الفارماكوجنسي، أي أنها مادة غنوصية والغنوص لله، وعلمت لاحقاً انها أُلغيت أو استُبدلت.
كنت في خلواتي الفلكية أختار مثلاً شاطئ النيل. اذهب هناك لوحدي. أبحث عن النجوم في عز الظهر إلى أن أهتديت إلى النباتات التي كانت، بالطبع، أقرب لي من النجوم. فدرست أشكالها وصفاتها وقارنتها مع ما في الكتب وقد بلغ إهتمامي بالنباتات حداً جعل البعض من زملائي في كلية الصيدلة يعتقدون أنني طالب بكلية الزراعة وناس الزراعة أنفسهم كانوا قائلين أنني طالب معهم. بشكلٍ ما كنت دوبل أجنت…"
ظل سامر يراوح باب الغرفة ويقرأ ويضحك ومن خلفه تعبر سيارات وحافلات فوق الجسر العجوز. ويلتفت بين الفينة والأخرى نحو المريض الذي نزعوا عنه كل المحاليل، المريض الذي لم يعد على سريره.
انتهت



#مصطفى_مدثر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من لم تزوّدِ
- كيف سطا السيد هوجن على البنك
- كومباكت
- في متحف الفنون
- من نصوص العودة من الموت
- في الضُحا، أعلى الموت
- عربي
- مشاهد من (صح النوم)
- شاحنة ليلة، قصة قصيرة
- واقعة مؤلمة، قصة قصيرة
- تماماً، ليس بعد- قصة قصيرة


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى مدثر - مظاريف