أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - تفروت لحسن - - الفلسفة كما نحيا بها - : تجربة بيير أَضُو Pierre Hadot















المزيد.....


- الفلسفة كما نحيا بها - : تجربة بيير أَضُو Pierre Hadot


تفروت لحسن

الحوار المتمدن-العدد: 4700 - 2015 / 1 / 25 - 17:21
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



" اتهمت الفلسفة ، وتتهم دوما ب "الغموض". والسبب في هذا الاتهام هو أنها تحاول إزالة الغموض عما يعتبره الناس واضحا . فالفلسفة ليست إذن خطابا غامضا، بل هي خطاب ضد الغموض الذي يستثر وراء الوضوح الذي يقبله الناس مجانا من اللغة اليومية، لغة المشهور، لا بل لغة الإشهار والموضة "(3). إذا كان هذا هو الجواب الذي قدمه الجابري حول راهن الفلسفة عامة، والعربية الإسلامية خاصة، فإن الواقع يشهد على أن الفلسفة، على امتداد تاريخها، اتهمت بالإبهام اللغوي و التجريد الخطابي. ورغم تغير الظروف وتبدل الشروط لإنتاج المقال الفلسفي في الزمن الراهن، فإن الفلسفة وأهلها مازالوا لم يتحرروا من صك التهمة ؛ غموض اللفظ واللبس الدلالي. وإذا كانت مظاهر الاتهام تختلف باختلاف السياقات الثقافية والشروط الزمانية، فإن التباين في درجات نقد ونقض الفكر الفلسفي راجع إلي صفة وهوية أعداء الفلسفة، سواء أعلنوا عدواتهم للفلسفة وكشفوا عن حقدهم على أهلها، أو عارضوها بطرق ضمنية وغير مباشرة، بل ومحتشمة. وتاريخ الفلسفة يشهد على أن الذين عارضوا التنوير الفلسفي والفكر النقدي هم العامة، سواء كانوا من صنف العلماء ذوي النزعة " المفرطة في العلم " أو من عصابة رجال الدين، الفقهاء والقساوسة أصحاب التطبيب الكهنوتي، أو العوام الجهلة، أي الرعاع.
يمكن أن يبدو للبعض أن هذا الواقع قد تغير اليوم، وأن الفلسفة أصبحت لها مكانة جليلة في مجتمع اليوم. لكن رغم هذا الظاهر، فإن كشف اللثام عن هذا الاعتقاد يكشف على أن الفلسفة مازالت تعاني من أساليب النبذ بنفس التهمة، مع فارق في الأسلوب، تصريحا لذلك أو تلميحا له. فغير الفلاسفة، دعاة التقنية والعلم، أصحاب المال والأعمال وأهل السياسة.... مازالوا يحملون في باطنهم الضغينة للفلسفة والهجوم على أهلها، فنصادف نفر من هؤلاء يردد الإدعاء بلا جدوى الفلسفة، وعدم نفعها، باعتبار أنها خطاب على خطاب، بمعنى آخر، إنها مجرد لغو وكلام فارغ، أو كما قال هاملت : " كلمات وكلمات وكلمات ". وهذا معناه أن الفلسفة، في نظر هؤلاء، غير نافعة مادمت تتصف بالبوار، أي أشبه بالمرأة العاقر التي لا تلد، لأنها لا تنتج ما هو مادي ملموس ونفعي. فهي عديمة الجدوى، وحتى في أحسن الحالات، تكون مجرد ترف فكري يؤثث بعض الفضاءات الخاصة للتخفيف من ضغط اليومي بنفس الشاكلة التي كان بها الفيلسوف، قديما، يسكن في فضاء أصحاب السلطة والتسلط ويعيش على فتات موائد رغد أهل السلطة. فالذين يزعمون أن الفلسفة مجرد ترف يقرون في نفس الوقت أنها فضلة زائدة لا فضل لها على الوضع البشري والحياة اليومية للفرد والجماعة. وكل هذه الادعاءات هي عداء متجدد للفلسفة في ثوب جديد. ف" غير الفلاسفة، يعتبرون لغة الفلسفة لغة مستعصية على الفهم و خطابا مجردا ؛ فهمه و إدراكه وقف على نخبة من المختصين الذين جعلوا من قضايا الفلسفة، و أسئلتها الشائكة و المعقدة، انشغالا يزاوله البعض ممن انخرطوا في هذا النشاط إما لثروتهم، أو لضرب من ضروب الحظ السعيد ...علينا الاغتراف مبدئيا أن ترشيح تلميذ واحد لامتحانات الباكالوريا، و إدراكه مقام الكتابة الفلسفية، أمر يتطلب نفقات مالية مكلفة يتحملها أولياؤه و كل المساهمين في هذه العملية. ففي ماذا تفيده فعلا « في الحياة » كتابة تمرين إنشائي؟ و في أي شيء تنفعه مناقشة قضايا فلسفية، كالعلاقة بين الحقيقة و الذاتية، أو الضرورة و العرض، أو الشك المنهجي الديكارتي...، في عالم تهيمن عليه التقنية العلمية و الصناعية، و يُقـوّم فيه كل شيء تبعا للمردودية و الربح التجاري؟
لم تكن الفلسفة غائبة تماما عن العالم الخارجي، عن شاشات التلفزة مثلا. ذلك أن الإنسان المعاصر لا يتملكه إحساس بإدراك العالم إلا حين معاينته له على هذه الشاشات المربعة. نشاهد من حين لآخر في هذا البرنامج التلفزي أو ذاك، فلاسفة يأسرون الجمهور بفنهم في القول، نقتني على التو كتبهم، نتفحصها، لكن سرعان ما نطرحها جانبا، إذ ينتابنا إحساس بالضجر من لغة معقدة و عصية عن الفهم، و كأن الأمر يتعلق فقط بانشغالات بعض المحظوظين و ترفهم، ممن لا تأثير لهم على الاختيارات الكبرى في الحياة "(4).
إذا كان البعض يعتقد أن
مجد الفلسفة يكمن في كونها ترف، و خطاب غير مفيد، فإننا نلاحظ أنه خلافا لهذه المواقف العدائية اتجاه الفلسفة، وإبطالا لكل أساليب المماحكة والمماراة التي يتبناها خصوم الحكمة، تنهض همة الفيلسوف " بيير أضوPierre Hadot" للرد على هؤلاء وتبيان تهافت آرائهم ودحض زعمهم. كل ذلك من أجل إعادة القيمة للفلسفة وإيجاد مكانا ملائما لها في مجتمع اليوم. ولتحقيق هذا المقصد يقترح هذا الفيلسوف ما يسميه " الفلسفة كما نحيا بها " أو الفلسفة فنا للعيش " أو " الفلسفة أسلوب حياة "(5). فكيف يمكن للفلسفة أن تغير موقعها وتتخذ مكانها الطبيعي، أن تكون في خدمة الحياة ؟ وماذا يقصد بالفلسفة كأسلوب حياة ؟ وما هي المستندات الفلسفية والشواهد التاريخية لهذه الفلسفة التي نحيا بها ؟
تستدعي مقاربة هذه التساؤلات، حسب Pierre Hadotالأخذ ببعض المقدمات، ومنها :
v قراءة النص الفلسفي تقتضي تغيير طريقة التعامل مع المقروء، فليس النص الفلسفي هو مجموعة من الفقرات المبنية بأسلوب نسقي. إنه ليس ذلك الخطاب النظري المجرد، ولا الخطاب من الدرجة الثانية، أي خطاب حول خطاب. فالفلسفة التي نحيا بها تلزمنا أن ننظر ألي النص الفلسفي بصيغة الجمع، فهناك الشذرة والقبس والومضة واللمحة واللقطة والخاطرة والرسالة والمحاورة....وهذه الخاصية تستلزم أن قراءة النص ليست فقط تفسيرا وتعليقا وحواشي أو تفسيرا للتفسير. فالقراءة هي رياضة فلسفية تولد لدى القارئ إقبالا على التأمل والتبصر واستلهام العبر للتعامل مع الحياة.
v هذه القراءة تلزمنا بتغيير استراتيجية التعامل مع الفلسفة القديمة، ففك ما انعقد من قول فلسفي عند القدامى، يتطلب التحرر من بعض أمراض الحداثة، الحداثة كمنهج للقراءة، فلا ينبغي أن نسقط التصورات الحديثة على النصوص القديمة، هذه الأخيرة التي لم تكن مجرد لغة، بل لغة تحمل سمات من يتكلمونها ؛ فنصوص القدامى هي تعبير عن نمط في العيش وأسلوب في الحياة.
v اعتماد هذا المعنى الجديد- القديم للفلسفة، الفلسفة كما نحيا بها، يتطلب إعادة النظر في تعريف الفلسفة ذاتها، وفي تعث الفيلسوف. فالفلسفة، التي هي السعي لمحبة الحكمة لا إلى امتلاكها، ليست هي مجرد آراء وتصورات ومواقف مترجمة في خطابات مجردة، ولا هي تعليقات على خطابات، أي خطاب حول الخطاب، وإذا كان هم الفلسفات النظرية هو صياغة خطاب تأملي حول كل ضروب الخطاب الإنساني، علميا كان أم تقنيا، أم سياسيا، أم شعريا، أم فلسفيا، بحيث تنحصر مهمة الفلسفة في كونها خطابا واصفا للخطابات، فإن الفلسفة عند " أضو" أسلوب في الحياة وللحياة. ولذا فليس الفيلسوف هو من ينتج أنساقا من الكلمات والأفكار ، ولا من يصوغ مفاهيم، ولا من يدلل ويقدم على أطروحات، دعما أو إبطالا لها. هنا يقيم " أضو " تمييزا بين الفيلسوف الذي يجعل من التفلسف خادما للحياة وبين أستاذ الفلسفة الذي يجعل من هذه الأخيرة موردا للاسترزاق، انه الأستاذ الكناشي صاحب المدونات والكنانيش(6)، و الذي تتحدد مهمته في تقل أفكار الغير عبر استنساخ النصوص والتعليق عليها. فمع " أضو" لا مجال للحديث عن الفيلسوف إلا في علاقته بالحياة، إنه فيلسوف الحياة.
v اعتبار الفلسفة ضرورية، لا بمعنى الضرورة المنطقية، ولكن بمعنى الضرورة الوجودية - الأنطلوجية. و لذا فليست الفلسفة مجرد ترف فكري، بل إنها ضرورية للإنسان كإنسان، للإنسان في كينونته. وبذلك تكون الفلسفة نافعة للوجود البشري حتى في بعده المأساوي.
واستنادا لهذه المقدمات، عمد صاحب اتجاه " الفلسفة كأسلوب حياة " إلى قراءة الفلسفة القديمة، سواء اليونانية المتأخرة، سقراط، أفلاطون، أرسطو، الابيقورية، الرواقية، الكلبية.... أو الرومانية مع ماركوس أورليوس، وامتدت قراءته حتى للفترة المعاصرة، مثلا تفكيك الوظيفة العلاجية لخطاب لرسائل فتغنشتين.
فأين تتجلى ملامح " الفلسفة كما نحيا بها " في قراءات الفيلسوف " بيير أضو " لإرث القدامى ؟
تتميز قراءة" بيير أضو " وتتباين عن باقي أشكال تلقي الخطاب الفلسفي المعاصر للفلسفات القديمة، من حيث كونها تصادر على مفهوم الحياة كمفهوم مركزي في مقاربتها التأويلية ؛ فالكشف عن الجوانب المغمورة في القدامة الفلسفية يستند إلى درجة التعامل الذي أولته للحياة، فالحياة هي المعيار الأول وهي المقصد الأخير لكل فلسفة. وكل فلسفة ليس هذا شأنها تعتبر مجرد تجريد نظري لا طائل من ورائه. ولهذا ينطلق أضو في قراءته للقدامى من ثلاثة معايير متلازمة ومترابطة.
n المعيار الأول يدور حول البعد الأنطولوجي – الوجودي، وهو الذي يحدد اختيار الفيلسوف أو المدرسة الفلسفية لأسلوب الحياة، أي الطريقة التي يحيا الفيلسوف، أو كيف يتفلسف بحياته. فنظرة الفيلسوف للعدالة أو السعادة أو الموت أو الخير ... وكيفية تصريف تصوراته عمليا في اليومي المعيش هي ما يحدد قيمة فلسفته. فمثلا سقراط ليس فيلسوفا بأقواله وحكمه بطريقة مجردة، ولكنه فيلسوف بطريقة عيشه، بأفعاله و بأسلوب حياته. وبنفس المنوال يمكن اعتبار الفلسفات القديمة مدارس حياة أكثر من كونها مدارس نظر.
n البعد الثاني يتعلق بالرياضة الفلسفية – التمارين الروحية – التي يوظفها الفيلسوف لتحقيق اختياراته الوجودية. لكن ينبغي أن لا نخلط بين هذه الرياضة و ما نجده من أشكال تعبدية تيولوجية أو دينية. فالرياضة الفلسفية هي مختلف الأساليب التي يعتمدها الفيلسوف للسمو الذاتي والتحرر من مختلف أشكال الوهم والابتعاد عن الآراء الفارغة والأحكام الباطلة. إن الرياضة الفلسفية هي المنفذ الذي يمكن متعاطيها للتحول، تجاوز ذاته نحو ما هو أفضل. فإذا كانت الرياضة الفزيولوجية تقوي الجسد، فإن الرياضة الفلسفية الروحية تقوي النفس وتعالجها، فهي تجلب السكينة والتوازن الداخلي والذاتي.
n يمثل الخطاب الفلسفي البعد الثالث للفلسفة كأسلوب للحياة، فطبيعة الخطاب، بصيغته، منظومه، منطوقه ومفهومه، يجب أن تطابق الاختيار الوجودي والرياضة الفلسفية. فلكل فيلسوف خطاب يخصه وأسلوب يميزه. فلسقراط الحوار، ولأبيقور الرسالة، ولديوجين جوامع الكلم...بل يمكن للغة أن تمثل أسلوبا علاجيا كما هو الأمر عند فتجنشتين.
انطلاقا من هذه الاعتبارات، انعطف " أضو" Hadot على دراسة الفلسفات القديمة ؛ ففلسفة سقراط تزاوج بين الأبعاد الثلاثة : التواضع في الحياة والمعرفة، ثم الدعوة إلى الانشغال بالذات بعد معرفتها، واعتماد الحوار لتوليد الأفكار. ومن خلال هذه المقاربة عمل " أضو" على إنصاف سقراط من أساليب التجريح التي حوكم بها سقراط كما الشأن بالنسبة لنيتشه الذي انقض على سقراط بمطرقته واصفا إياه بالقبيج في مظهره، المتناقض في غرائزه و المريض لزمن طويل(7). وإذا كان نيتشه قد انتقد اعتماد سقراط على الجدل والعقل، بل واعتبر ذلك مؤشرا على إحلال المرض في التاريخ البشري، فإن " أضو " سار عكس ذلك، فهو أراد إعادة الاعتبار لسقراط وإنصافه، ومنحه المكانة اللائقة به في تاريخ الفكر البشري. فاستخدام سقراط للحوار هو شيء إيجابي لأنه عندما يسأل محاوريه يجعلهم يكتشفون جهلهم بالقيم التي تنظم حياتهم، ويدفعهم إلى أن يتعلموا إخضاع أفكارهم للعقل. " لم يكن (سقراط) يلح إلا على نوع من الاتفاق بين مخاطبيه. بمعنى آخر، إن الحوار هو تقدم مشترك من خلال اتفاقات متعاقبة بين مخاطبين متحاورين. فبمقتضاه يمتثلون لمقتضيات التماسك العقلاني ويرقون إلى وجهة نظر مشتركة لا فردية. هكذا يتكشف ويتحقق الانشغال بالآخر من خلال الحوار ذاته. يتعلق الأمر بمعرفة وجود وجهة نظر أخرى غير وجهة نظرنا، ويتعين، من هذا المنطلق، على كل من السائل والمجيب، أن يتجاوزا وجهتي نظريهما في اتجاه الامتثال للمقتضيات الموضوعية للعقل. من هذا المنظور بالذات، يتحدد الانشغال بالذات كنجاح للذات في تجاوز فرديتها والتهيؤ للانخراط في رؤية كونية، عقلانية وموضوعية. فسقراط رجل الشارع، كان يحاور الجميع، يجوب الأسواق وقاعات الرياضة، و معامل الفنانين، و حوانيت التجار، يلاحظ و يناقش، و لايدعي قط امتلاك المعرفة، يتساءل فقط، و يدفع بمحاوريه لمساءلة ذواتهم، و إعادة النظر في سلوكاتهم، و البداهات التي تسكنهم.
لا يشكل الخطاب الفلسفي من هذا المنظور غاية في ذاته، لكنه في خدمة الحياة الفلسفية. قوام الفلسفة ليس هو الخطاب، بل الحياة و الفعل. اعترف الإغريق بسقراط كفيلسوف لا من خلال خطاباته، بل انطلاقا من نمط حياته، و طريقة موته. لقد ظلت الفلسفة اليونانية سقراطية بوصفها نمط حياة أكثر مما هي خطاب نظري. أما الجديد عند (سقراط) بهذا الخصوص، أو بالأحرى ما نسبه (أفلاطون) إليه فهو استعماله لأول مرة لمقولة: "الانشغال بالذات"(8).
لا يختلف الأمر عند باقي المدارس التقليدية، فالأبيقورية تعتبر الفلسفة التي نحيا بها ضرورية لجلب السكينة للنفس، بل إن هذه المدرسة بجعوتها إلى أن التعاطي للفلسفة ضروري للشاب كما للشيخ، فإنها تلمح إلى إبعاد الفلسفة المجردة لصالح الفلسفة الحية، فالفلسفة، حسب أبيقور، تعتبر مجرد كلام فارغ مادامت لا تخرج المرض من النفس بنفس الكيفية التي لا تكون بها للطب قيمته إذا لم يخرج المرض من الجسد. إن تجاوز الألم وتحقيق السعادة عند الأبيقورية مرهون بنوع الخطاب الفلسفي المعتمد، هذا الذي عليه أن يتحرر من " الرأي الفارغ "، كالخوف من الآلهة أو الخوف من الموت. على الخطاب الفلسفي أن يتوجه نحو المحايث، هنا و الآن. أما الرياضة الفلسفية والروحية داخل الحديقة الأبيقورية فمحكومة بالنظرة الوجودية للرغبة، بالنظرة التي تميز بين مراتب الرغبات. الرغبات التي لا هي بطبيعية ولا بضرورية ثم الرغبات الطبيعية وغير الضرورية وأخيرا الرغبات الضرورية والطبيعية الكافية وحدها لتحقيق سعادتنا. إن الرغبات الأساسية، بالنسبة للأبيقوريين،هي جسدية، ولذلك فالانشغال بالذات هو، بكل وضوح، انشغال بفردية كل واحد على حدة. وهو ما لا يجب فهمه على أنه ضرب من الأنانية بالمعنى المبتذل للكلمة بل كرغبة للعيش وفق الطبيعة والكينونة الكونية الكفيل ببتحصيل متعة الوجود الخالص.
أما عند الرواقيين، فالفلسفة تمكننا من التمييز بين ما يتوقف علينا وما لا يتوقف علينا. مثلا ، لا يتوقف على الذات أن تكون جميلة، ثرية، قوية بصحة جيدة أو أن تحقق نجاحات سياسية ومهنية. كل هذا وقف على عناصر خارجة عن سلطة الذات. وفي مقابل هذا، يتوقف على الذات أن تنوي شرا أو خيرا. لهذا يدعو الرواقي إلى العيش وفق الطبيعة، وفق ما نقدر على تحقيقه، دون نكلف، أي وفق ما يتعلق بنا، فالتعلق بتحقيق مالا يتعلق بنا هو الذي يجلب الألم الفردي والجماعي.
الفلسفة كما نحيا بها تقتضي مجموعة من التعلمات منها، " أن نتعلم كيف نحيا، أن نتعلم كيف نحاور، أن نتعلم كيف نموت وان نتعلم كيف نقرأ " . لكن للقراءة هنا خصوصياتها، قلا يتعلق الأمر بالتعليق على النصوص وتفسيرها، لكن بالقراءة كأسلوب في الحياة, " فنحن نقضي حياتنا في القراءة دون أن نعرف كيف نقرا, فالقراءة يجب أن تعلمنا متى نتوقف، وكيف نتحرر من همومنا، وأن نعود إلى ذواتنا ". (9)
ولتحقيق ذلك لا بد من الرياضة الفلسفية ( التمارين الروحية ) التي تمكن من العودة إلى الذات والاعتناء بها والاتهمام بها. وهذا ما سيشكل الموضوع الذي عكف عليه فوكو في مؤلفاته : " تأويل الذات " و " الاهتمام بالذات ".
ومن بين وجوه العناية بالذات، نذكر :
– لا تهمل نفسك واعتن بذاتك واهتم برغباتها وحاجياتها وانشغل بمطالبها
– انتبه إلى ما تحتاجه معرفة نفسك ولا يجب في كل الأحوال أن تنس نفسك
– لا تفرط في الأمنيات ولا تكثر من التعهدات واقتصد واعتدل في الضروريات
– لا تنذر ولا تتمنى ولا تلزم نفسك بما لا تفي به وبما لا تستطيع إنجازه.
– ثق بقدراتك الذاتية وعوّل على نفسك واستخدم قوتك في مواجهة القوى الخارجية
– اسخر من حياتك المعتادة وانقد آرائك من أجل أن تغير حياتك نحو الأفضل وتعيش حياة جيدة.
– ارتبط بنفسك أشد الارتباط وصالح ذاته على أحسن وجه وأقم علاقة راسخة ودائمة معها.
– ادفع الآخرين إلى العناية بأنفسهم ونبههم وادفعهم إلى تدبير ذواتهم وتحصيل الحياة الجيدة.
1 - تجدر الإشارة إلى النغمة التي ينطق بها اسم الفيلسوف والتي لا تطابق كتابته باللغة العربية. فرغم فراغ الساحة الثقافية العربية من دراسات حول هذا الفيلسوف، نجد أن ترجمة مقالة واحدة " هل الفلسفة ترف ؟ " وحوار واحد " مقولة الهم " بالعربية تكتب " هادو" كتعريب ل Hadot، والحال أن الفيلسوف فرنسي الأصل والموطن، وحرف الهاء لا ينطق في الفرنسية، ويمكن أن يكون اسم " حدو " في العربية أقرب من اسم " هادو "، بل نحن تعودنا أن عن ثلاثة فلاسفة يبدأ اسمهم بH، وهم هيجل، هوسرل وهايدغر، حيث ننطق H، بحرف " الهاء. بل إن بعض الدراسات الفرنسية تشير للفيلسوف Hadot اختصارا ب PA وليس PH. انظر :
- مقولة الهم، ترجمة عبد الله زارو، مجلة فكر ونقد، عدد 39، مايو 2001
- هل الفلسفة ترف، ترجمة محمد نجيب فرطميسي، أنفاس نت، السبت, 22 نوفمبر 2008.
2 - ( 1922 – 2010 ) مؤرخ فلسفة وفيلسوف فرنسي، اشتغل الى جانب ميشيل فوكو كأستاذ بكوليج دو فراس، تخصص في الفلسفة اليونانية و الرومانية. يدافع عن الفلسفة بوصفها فن العيش، و نمط في الحياة. اهتم بالتجارب الروحية والإنشغال بالذات في الفلسفة القديمة. من مؤلفاته :
- Exercices spirituels et philosophie antique, Paris, Albin Michel. (2002
- La philosophie comme manière de vivre, Paris, Albin Michel(2001).
- Qu’est-ce que la philosophie antique ?, Paris, Gallimard(1995).
- Wittgenstein et les-limit-es du langage, Ed. Vrin, 2004/06.

3 - - الجابري، محمد عابد، راهن الفكر الفلسفي، مجلة فكر ونقد ،ص 5، عدد 18، أبريل 1999
4 – P. HADOT, La philosophie est – elle un luxe ? in Exercices spirituels et philosophie antique, Paris, Albin Michel. (2002), p 3616363
5 – « La philosophie comme mode de vie », La philosophie comme manière de vivre »
6 - نستعير لفظ " أصحاب الكنانيش" من ابن رشد في كتابه " الكليات في الطب، فهو يميز بين الطبيب وأصحاب الكنانيش.
7 – Nietzche, F, crépuscule des idoles, le problème de socrate.
8 - مقولة الهم، ترجمة عبد الله زارو، مجلة فكر ونقد، عدد 39، مايو 2001
9 -Pierre Hadot, Exercices spirituels et philosophie antique, op. cit., p. 73-74, suivi, pour conclure, d’une citation exemplaire de Goethe.



#تفروت_لحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفلسفة والتربية : الإبهام المزدوج
- في الحاجة الى -الفلسفة التطبيقية-
- الفلسفة في متناول الجمهور : انتعاش أم انكماش
- درس الفلسفة بين : - الأستاذ - الطبيب - و - الأستاذ - الكناشي ...
- بعض مفارقات - مفهوم العقل - عند عبد الله العروي
- في التربية على حقوق الإنسان


المزيد.....




- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة إسرائي ...
- وزير الخارجية الأيرلندي يصل الأردن ويؤكد أن -الاعتراف بفلسطي ...
- سحب الغبار الحمراء التي غطت اليونان تنقشع تدريجيًا
- نواب كويتيون يعربون عن استيائهم من تأخر بلادهم عن فرص تنموية ...
- سانشيز يدرس تقديم استقالته على إثر اتهام زوجته باستغلال النف ...
- خبير بريطاني: الغرب قلق من تردي وضع الجيش الأوكراني تحت قياد ...
- إعلام عبري: مجلس الحرب الإسرائيلي سيبحث بشكل فوري موعد الدخو ...
- حماس: إسرائيل لم تحرر من عاد من أسراها بالقوة وإنما بالمفاوض ...
- بايدن يوعز بتخصيص 145 مليون دولار من المساعدات لأوكرانيا عبر ...
- فرنسا.. باريس تعلن منطقة حظر جوي لحماية حفل افتتاح دورة الأل ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - تفروت لحسن - - الفلسفة كما نحيا بها - : تجربة بيير أَضُو Pierre Hadot