أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الموزاني - الفجر















المزيد.....

الفجر


حسين الموزاني

الحوار المتمدن-العدد: 4694 - 2015 / 1 / 17 - 00:18
المحور: الادب والفن
    


حسين الموزاني
الفجر
مقطع من رواية

قطعنا الطريق واجمين بعض الشيء، لأنّ المساحة الزمنية كانت قصيرة بين النقاش الذي كاد أن يتحوّل إلى عراك والذهاب إلى حفلة الرقص، وبين الحين والآخر كانت نيكول تتبادل بضع مفردات مع جوزپه لتقرصه كلّ مرّة بأطراف أصابعها فيكركر كالطفل، ثمّ يلوذ بالصمت ثانيةً ويئنّ.
وحالما دخلت القبو دوّى الصخب في أذنيّ مندفعاً هادراً جعلني اضطرب فارتجفت ساقاي، واجتاحني خليط من الغناء والصراخ وموسيقى الروك اند رول، وفوق ذلك صرير مكبرات الصوت المشوشة بفعل الصخب الذي انتشر في أرجاء المكان بعد تشبّعت به الجدران وأخذ طريقه كالسهام إلى الأجساد المستسلمة المستلبة. فطفت في القبو متهجياً كأنّني أطارد أشباح الأصوات المختلطة الصارخة. وتوغل الصخب في جسدي. كنت أدرك أيضاً أنّني عندما أصاب بتخمة الصخب أجد نفسي أكثر انسجاماً والفة مع المكان. فأمسكت رأسي بيدي مسكة الكمّاشة وعصرته من نواح كثيرة مختلفة عصرات وقرصات موضعية دقيقة في محاولة لإِيقاف التخثّر في الدم واستعار نار الصخب تحت فروة الرأس ووضعت يدي على هامة رأسي كالأسير وطف أسأل عن الحمّام، حيث نظفت جوفي وقمت أخرج فحيحاً عالياً، أجذب أنفاسي بين لحظة وأخرى ثمّ أكتمها وكأنّي أنظف بها معدتي. وبقيت متشبثاً بالمغسلة بضع دقائق إلى أن استعدت بعضاً من عافيتي. فغسلت وجهي وبللت شعري وصففته بأصابعي إلى الوراء وخرجت من الحمّام إِنساناً جديداً فعلاً. قويّاً وحالماً وبحثت عن صاحبيّ، فوجدتهما قد اختارا طاولة قريبة من ساحة الرقص.
طلبت منّي نيكول أن أحرس الطاولة ثمّ مضت ترقص مع جوزپه الذي رقص رقصاً متميزاً وملتزماً في الوقت ذاته التزاماً دقيقاً بالإِيقاع المتسارع لأغنية رود ستيورات Every Picture Tells A Storyالتي ألفتها أذناي منذ زمن طويل، بينما اكتفت نيكول بتحريك جذعها وقدميها. وبعد فترة الرقص هدأت الموسيقى قليلاً، بل تغيّرت تماماً، وأصبحت هذه المرّة لحناً قديماً لبنك فلويد. ورأيت جوزپه يضع يديه العملاقتين على خصر نيكول النحيل، تماماً تحت انسياب النهدين وهي مغمضة العينين، وتحرّك جذعها الفتيّ والمشدود على نحو متموّج. فتركت نوبة الحراسة وغادرت الطاولة ونزلت إلى الميدان أطوف حولهما مغمضاً عينيّ مثلهما، متظاهراً بالاستسلام إلى النغمات البارعة الرقراقة التي كانت تخفي لوعةً وشكوى بين ثناياها، بل إنّني لمست فيها حرقةً تشبه حرقة الفراق. وكانت المقطوعة طويلة إلى حدّ ما، أو ربّما كان واضع الأسطوانات قد أعادها مرّتين.
فعقدت يديّ خلف ظهري وانحنيت أطوّح برأسي وأدور حول نفسي كالمجذوب حتّى أصابني الدوار وصرت أرى نجوماً وكواكب وردية وبيضاء وحمراء تخطف في الفضاء الغامض المتأرجح. وشعرت بسخونة تحت جفني، فكانت سخونة لا تشبه الحرقة ولا النعاس، بل الرغبة في التخلص من الركام البارد في داخلي، ربّما كانت جزءاً من وحشتي الداخلية، أو قبري الدنيوي. وتمنّيت أن تسندني نيكول بيدها الجرمانية، بل تمنيت أن تضمّني يد امرأة مصرية حانية. يا إلهي أين ذهبت فاتنات مصر، أين ذهبت ربّات السحر والخصب؟ وعندما فتحتُ عينيّ لكي أستغيث بهما، أبصرت أزواجاً كثيرين يطوفون مستغرقين في دفء الأغاني التي كان إِيقاعها يتبدّل كلّ أخرى وأصبحت الآن خفيفة مرحة. كان البعض منهم يتطلّع إِليّ بدهشة لأنّني كنت أرقص وحيداً منفرداً. وفي إحدى الالتفاتات لمحت ابتسامة كبيرة تنسكب على وجه امرأة كانت تراقص رجلاً أحمر الشعر، ومسطّح الرأس من الخلف بشكل بارز. وكانت ابتسامتها شديدة الكثافة لدرجة أنّها كانت تحتاج وقتاً طويلاً لتختفي ببطء وهدوء وراء شفتيها المرهفتين المصبوغتين بحمرة وردية، مخلفةً نوعاً من الشكّ والإغراء. وحاولت إِقناع نفسي بأنّني كنت الهدف من وراء هذه الابتسامة المباغتة. وكلّما تلصّصت إلى وجهها الذي كانت تتجاذبه الومضات السريعة الحادّة التي تعكسها كرات البلّور المعلقة في السقف رأيت الابتسامة ذاتها وهي ترتسم فصيحةً واسعةً وأشد مضاءً من رشقات الضوء البلّوري الذي تبعثه الكرات الزجاجية. وفي البدء خلت أنّ المرأة مجبولةً بالفطرة على هذه الابتسامة الجذلة والسخيّة التي انسكبت بصمت على شفتيها. فجأة تذكّرت أنّني عندما كنت أطوف حول نفسي كالدرويش اصطدمت مرّات كثيرة بالأجسام الراقصة، لأنّني كنت أسمع أصواتاً تحذّرني «حاسب يا جدع، حاسب يا باشا، على مهلك، من غير دفش لو سمحت!» وعندما اقتربتُ من المرأة لاحظت أنّها لم تكن صغيرة السنّ مثلما أوحى لي مظهرها عن بُعد، بل امرأة ناضجة، بالغة النضج، وكان وجهها العميق السمرة يشي بخبرة واضحة. ورأيت شفتيها تنفرجان وتقولان كلاماً لم أتمكن من التقاطه كاملاً، فأعاد الرجل ذو الشعر الأحمر ما قالته بلهجة بدت لي غريبة بعض الشيء في هذا المكان «مالك يا رجل، حاسب، شو هالخبط والدفش؟ كأنّك ما بتفهم عربي!»
نعم؟ أنا؟ سألت نفسي كما لو أنّني أسأل شخصاً غريباً. ومن جديد تبدّل ليس اللحن والإِيقاع وحدهما، بل حتّى نصوص الأغنيات نفسها، فصارت هذه المرّة عربيةً محليةً، مصرية على وجه الدقة، فنشطت همّة الراقصين، بينما غادر أولئك أصحاب الشعر الأصفر حلبة الرقص، وحتّى الرجل ذو الشعر الأحمر الذي نهرني كان قد ترك الميدان لصاحبته وأخذ مقعداً قريباً من طاولة نيكول وجوزپه. وكانت نيكول تتطلع في وجهي بنظرات تحدّ حارقة لم أستطع معرفة سببها. فتقدّمت من الرجل الذي نهرني وسألته إن كان مصرياً، فهزّ رأسه بالنفي وقال:
ـ «ليس بتسأل؟ سوري. من سورية».
ـ «سوري؟»
ـ «طبعاً. هلاق قلتلك إنّي سوري. شو ما بتسمع؟ طيب أنت من وين؟».
ـ «من العراق».
ـ «بس أواعيك غير شكل؟»
ـ «صحيح أنا عراقي، بس جاي في الحقيقة من ألمانيا».
ـ «مخلّط؟»
ـ «لا, صافي، الجواز بس».
ـ «شو متجوز؟».
ـ «أقصد الباسبورت.».
ـ «فاهم. فاهم، عم بسألك متجوز؟».
ـ «كنت».
ـ «وين تعلّمت الدفش؟ إن شاء الله في ألمانيا؟»
ـ «على أساس أنّ الدفش نوع من الرقص الأوروبي الحديث، يعني عادة التخلص من الرواسب النفسية!»
ـ «باين عليك مثقف. الاسم الكريم؟».
ـ «حمدان».
ـ «دحروج».
ـ «دحروج؟» قلت بدهشة واستدركت على وجه السرعة: «دحروج لقب لبناني، ماهيك؟»
ـ «مضبوط. بس في الحقيقة ما في فرق. كليتنا شوام. إن شاء الله تقصد حاوي؟»
ـ «نعم، نعم، تلخبطت شوية، آسف، نسيت الأسماء».
ـ «ما في داعي للاعتذار. كلّ واحد وطبعو. هيك حال الدنيا، واحد حاوي»، قال دحروج وضمّ يديه معاً إلى صدره، «والثاني دحروج»، ثمّ أفردهما ودفعهما إلى الأمام بحركة سريعة فاتحاً كفّيه مثلما تفتح عربةُ حمل طلاقتيها لتفرغ حمولتها. فبدا لي حديثه ذو الطابع التصويري مثيراً وممتعاً، فسألته عن مهنته، قال إنّه يشتغل بالجرائد.
ـ «كاتب يعني؟»
ـ «والله صار لنا شي سنتين نشتغل بالجرايد».
ـ «وقبل؟»
فقال
ـ «تفضّل أستريح. ليس واقف؟» فجلست وأعدت السؤال:
ـ «وقبل الجرايد؟»
ـ «كنت صاحب مطعم».
ـ «وين؟».
ـ «في الشام. وين لكن؟ في معلولة».
ـ «أنا بصراحة في الوقت الحاضر أيضاً صاحب محل. بس بالزمانات كنت مثلك اشتغل بالجرايد».
ـ «إِيه خيّو. نعم مضبوط الحكي، هيك سنّة الحياة! بس إحنا في سورية ولبنان، يعني في بلاد الشام، نشتغل بالعكس. في الأوّل نبتدي بالشاورما وبعدين، لما يفتحها الله، نصير نكتب. كلشي بالعكس. شو بدك تشرب؟»
فصمتُّ لحظة أتأمّل عباراته التي ألقاها ببداهة وثقة عالية بالنفس، كما لو أنّه يتحدّث إلى نفسه، فلم أنتبه إلى سؤاله. وحين أعاد السؤال أصبت بدهشة كبيرة، إِذ أنّها المرّة الأولى التي أسمع فها سوريّاً يعزمني على الشرب. فقلت بارتباك:
ـ «أنا؟»
ـ «شو؟ فيه واحد غيرك؟»
ـ «لا، لا، آسف، إنّي أجيب شرب. شتريد أنت؟»
ـ «عم بسألك شو بتحب تبشرب؟ أنا كنت قاعد قبلك، باين عليك مثقّف، بس معقّد كتير!»
ـ «بيرة، أشرب بيرة.» قلت، لكنّني لم أكتف بالطلب، إِنّما أشرت إلى المرأة صاحبته وسألته بحذر فيما إِذا كانت هي أيضاً سوريةً، فقال ضاحكاً:
ـ «بسم الله الرحمن الرحيم. بلّشتْ مشاكل العراقيين؟ سورية مصرية، شو الفرق يعني؟»
ـ «لا، لا، طبعاً، ماكو فرق، هيك حكيتها للمجاملة، مجرد سؤال...».
وهمّ دحروج بالنهوض، إِلاّ أنّ صاحبته أقبلت والابتسامة العجيبة متجمدة على وجهها. وقدّمها لي بإشارة من يده دون كلام، فقلت «حمدان.».
فقالت:
ـ «أحلام».
ـ «أحلام، بيرة كمان؟» سألها دحروج، وعندما لاحظ تردّدها، أجاب بنفسه «بيرة، بيرة، بيرة، كلّنا عاوزين بيرة!» ومضى إلى دكّة البار بهمّة ونشاط مقاتل عربي متطوع، ورأسه الضخم بدا مخسوفاً من الخلف بشكل حادّ وجلّي للعيان. ورأيته يتوقف مرّة ويلتفت إِلينا مبتسماً كمن أراد أن يقول شيئاً ثمّ نساه.
فقالت أحلام:
ـ «شاب كويس».
ـ «مين؟»
ـ «دحروج! أنت مش مصري؟»
ـ «لا، مع الأسف، أجنبي. بس أنت مصرية، مش كده؟»
«آه، مصر... ية»، مطّت العبارة بتثاقل وكأنّها تتهجّى مفردة غريبة عصية على الحفظ. وبعد أن رمقتني بنظرة لاذعة متفحصة، عادة تسأل من جديد:
ـ «أجنبي إِزاي، وشعرك مش أشقر؟ قول بصراحة مش أصلك مصري؟»
ـ «أصلي من الهور، من (أم عين)، من العراق، من بلاد السندباد والخندباد والهندباد وكلّ حاجة...» قلت موضحاً ولعلّي استطردت في الإِيضاح.
ـ «بس إِيه اللي جمعكم سوى؟»
ـ «جمع مين؟»
ـ «صاحبك دحروج!»
ـ «دحروج؟» سألتُ متصنعاً الدهشة، لكنّني في الواقع كنت فرحاً باكتشافي أنّها حديثة التعرّف بالرجل، فقلبت دهشتي إلى نوع من الاستنكار على الصيغة التي طرحت بها سؤالها.
ـ «فيه واحد آخر أقرب من السوريين إِلنا؟ بصراحة مفيش أي مشكلة بيناتنا. إحنا شعب واحد وفرق بيناتنا الزمان، وإخوة وهمّنا هم واحد وحزبنا حزب واحد، وصار لنا أكثر من خمسة آلاف سنة جيران يعني، زي ما يقولوا بالعراقي: طيزين بفد لباس...».
قاطعتني أحلام بالغناء:
ـ «دحنا أصلاً... كُلّنا جيران من زما... ن/ دحنا أصلاً كلّنا جيرا... ن... وحبا... يب، حيران ليه يا جميل...».
ـ «الله، يا سلام، يا جميل يا جمال، يا جمال عبد الناصر!» هتفتُ من كلّ قلبي. كان صوتها فعلاً جميلاً ومنغماً على نحو مدرّب.
وشربنا بيرتنا المصرية وتحدّثنا وغنينا معاً، وشيئاً فشيئاً بدأت أرواحنا تتلمس بعضها البعض مثل فروع شجرة رقيقة وضائعة تريد الرجوع إلى الأصل. وبدا دحروج مرحاً حيوياً وذا مزاج برتقالي مفعم بالتهكّم. فروى لنا دفعة واحدة عشرين نكتة عن الشام والشوام، فأعدتها عليه مقلوبة عراقياً عملاً بمبدئه القائم على التعارض والتعاكس، وأحلام تصغي سعيدةً ومستأنسة بهذه الوحدة الليلية الفريدة، والفرح كان يشعّ من عينيها ومن صدرها الذي اهتز واختضّ قبل أن يتفجر ضحكاً صاخباً في نهاية كلّ نكتة «ولوه، العمى عماك، ولك شومالك حمار، بدك تسرق العنبة وإِلا تقتل الناطور؟»
بدي العنبة، بدي العنبة يا دحروج، والله ما بدي غيرها، بس إِذا فزّ الناطور شو بدي أعمل؟ وهنا اتّسعت الابتسامة البنفسجية وغمرتنا بعطرها اللامتناه، ثمّ أخذت تنتشر في المكان وتتوزّع على الراقصين والجالسين بعدالة كاملة كما البركة، والموسيقى التي كانت بعيدةً نائيةً صارت تتبدّل وتتقلّب من طور عربيّ إلى آخر أندلسيّ فمكسيكيّ فأمريكي. وهناك ثمّ تناهت إلى سمعي أغنية لويس أرمسترونغ «اتز أ وندرفول وورلد»، فرأيت الناس ينتفضون كلّهم ويهرعون إلى حلبة الرقص. فوجدتُ الفرصة مناسبة لكي أدعو أحلام للرقص، لكن دحروج أظهر ممانعةً ورأى أنّ من الأفضل لو أنّنا رقصنا ثلاثتنا معاً، فقلت: «إِيه! ولمَ لا؟ آه، يا ابن عمّي دحروج، كلّ ناطور عينه عين الذئب، بس أنا من الضحى نام وغفا ناطوري!»
كان عالماً دافئاً متفتحاً ساحراً حقّاً هذا الذي اختلطت فيه الأنور والأجساد بوحدة فريدة من الرحمة والثراء. وأمسكت بيد أحلام بتردّد أوّل الأمر، وربّما أكثر تردّداً منها، فانزلقت يدي من فرط نعومة يدها، فقبضت عليها مرّة أخرى وشبكت أصابعي كلّها بأصابع يدها ورأيت دحروج يفعل ما فعلت وأنا أردّد بين الحين والحين «اتز أ وندرفول وورلد...» وأحلام لم تزل منشغلةً بإطلاق فراشاتها وصدرها العامر يرتج ناضجاً وثرياً في ظلمة الليل البهيم، فنسيت لوهلة طويلة آلام عظامي وجراحي، جراح الغيبة والعزلة والفراق. ها أنذا الآن في هذه الحلبة السحرية حرّ طليقٌ، لا سلطان لي في الدنيا سوى جسدي المنفعل المنتصب، فكم هي سهلة وبسيطة رغبة النفس، وكم صعباً أن تنال النفس مرادها!
وأخذ صوت أرمسترونغ يخفت شيئاً فشيئاً وتهفت معه دورة الأجساد، فسمعت نيكول تهمس في أذني، إنّهما سيغادران الحانة، لكنّها قالت ذلك بإِلحاح وبنوع من الإِغراء أثار دهشتي، فوجدت نفسي أنصاع إلى رغبتها دون إِرادة. فكان بلاغاً آنياً بارعاً، نقلني من حالة الوهم إلى الحلم ومن ثمّ قادني إلى الصحو، وكلّ ذلك تمّ في ظرف ثوان قليلة، فابتسمت يائساً مستسلماً. كنت قادراً أيضاً على البقاء، لكنّني توجست من أن أثقل على أحلام ودحروج، أو أفسد ليلتهما. وكما لو أنّ أحلام نفسها شعرت بالحرج الذي أصابني، فهتفت بصوت قوّي وصل إلى أذني صافياً عميقاً «بكرى، على بكرى، وكلّ ليلة وكلّ يوم دنا حستناك هنا في الوقت ده!»
أيوه، أيوه يا أحلام، يا بعد أمي وأبي، غداً غداً، هذه هي الشجاعة والفصاحة بعينها، لا بدّ أن يحل الغد الباكر، لكي آتي إليك محمولاً هذه المرّة على أسنّة الرماح...
4
عندما دخلت إلى غرفة الضيوف في دار نيكول، حيث أمضيت ليلتي الأولى في مصر، وكانت النافذة مشرعةً تهبّ من خلفها نسائم خفيفة جافة ورقيقة. فجلست على حافة الفراش المتين المدكوك القطن. وتعجبت من أنّني لم يعد بي أدنى فضول أو رغبة في معرفة ما يفعله مضيفاي. وبدت يداي صفراوين كما الجدار وكنت وحيداً وشاحباً في الغرفة الكبيرة الخالية من الأثاث. وهناك، على الطربيزة الصغيرة المفلطحة وضعت ساعة ضخمة، كانت عقاربها تتك تكات قوية خشنة الصوت، لكن الساعة نفسها بدت مهملة قديمة ذات مقبض معدني وقائمتين منتفختين من الوسط خافتتي اللمعان وميناء فسيح قهوائي مترب، وقد مسحت بعض أرقامه، وعقارب فسفورية خضراء. كان صوتها بطيئاً متقطعاً يشبه الحشرجة، چك، چك، چك... وللحظة حسبتها وكأنّها تقتفي آثار زمني النفسي وحده؛ بل تخيلتها وكأنّها تخيط لي بعقاربها المائلة سروالاً زمنياً مليئاً بالساعات والدقائق، چك، چك، چك...
فكيف أنني لم أتبه في الليلة الأولى؟ وفكّرت في أن أوقف دورانها الممل، أو أقلبها على الجانب الآخر. في هذه اللحظة سمعت قرعاً خفيفاً على الباب، فوقفت مضطرباً حائراً، لم أنطق بحرف واحد. ورأيت نيكول تنسل الغرفة إلى بدشداشة عربية بيضاء خفيفة ومرتفعة من الأمام بفعل توتّر الثديين واستدارتهما التامّة، فارتفعت أذيال الثوب من الأمام بمقدار شبر فوق الركبتين. وتراءت لي المرأة الملتهبة الحمراء وكأنّها في حالة قصوى من الانتصاب. حقّاً، لقد كانت متوترةً إلى درجة إنّها لم تكن قادرة على الكلام أو إعطاء تبرير ما لتصرّفها. وحالما سألتها عن جوزپه، وضعت راحتها على فمي، بينما رفعت سبابة يدها الأخرى المرتعشة وضغطتها على شفتيها وأخرجت وشوشةً ساخنةً في من فرط اللهب، وبمعنى «لا مجال الآن إلى الكلام»، نعم لقد كان الجسد يتحدّث، السيّد الجسد، وأيّ لغة تلك التي تحدث بها وأيّ فصاحة وأيّ جسد! فقفلتْ الباب بالمزلاج ونضت ثوبها بحركة واحدة سريعة متقنة، فانكشف عريها الجرماني ـ الاشتراكي أبيضَ براقاً ترفاً ومرتبكاً تحت ضوء المصباح الباهت الصفرة والساعة كانت تتكّ: ثديان بنيّان أحمران يتنفسان مرتجفين من شدّة الشبق والتوتر. فضممتها إلى صدري بقوّة وانقلبنا على الفراش المتيبس الألواح، فكاد الخشب المتعطش أنّ ينشرخ تحت ثقل جسدينا. وسرحت بيدي أبحث عن مفاتنها. فقبضت على متاعها، وكان صلباً ممتلئاً وناعماً، بل كان في الواقع أكثر سعةً من راحة يدي. فأشارت نيكول بسبابتها وحرّكتها حركةً سريعةً نحو متاعها، فأدركت أنّها قصدت اللحس، فتوجست من أنّني إِنْ فعلت ذلك فقد لا أبدو خبيراً على نحو كاف. وبدأت ألوم نفسي من جديد لأنّني تعلّمت أشياءً كثيرة لا معنى لها، أشياءً بلاغية ووطنية وثورية وقومية، لكنّني لم أتعلّم اللحس واللطع. وبدا لي متاع نيكول في هذه اللحظة أشدّ فصاحة من بلاغة العربان، بل أكثر صدقاً من مصائبهم ونكباتهم وحروبهم.
وهويت برأسي على النبع كالظمآن. وكنت أحسبُ أنّ اللسان يصبح طريّاً مرناً إِثر اللحس واللطّ، لكنّه كاد يتحوّل الآن إلى خشبة، حتّى أنّه جعلني أقع برهة في حيرة. وسرت في جسدي رعشة سريعة متذبذبة تشبه ألسنة البرق، فارتعدت أضلعي كلّها ارتعاد المقرور. هنا شعرت بنيكول وهي تجذبني برفق إلى الأعلى. فأخذت أداعبها وهي تطلق الآهات وتصرخ صراخاً لاهباً عنيفاً، وأي صراخ هذا الذي أطلقه الجسد! وبعد حين بتّ متأكداً من أنّها أيقظت بصراخها ليس جوزپه وحده، بل شارع أحمد عرابي برمته...



#حسين_الموزاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليلة القدر
- الاستجواب
- الثورة المستجدة في مصر وسقوط الجدار العربي
- الحلّاق الفرعوني
- عندما يتحوّل الدين إلى سياسة
- إرهاصات الحداثة
- مفهوم الحرب لدى زيغموند فرويد
- سياسة منح الجوائز الأدبية في ألمانيا
- هل هناك هويّة ثقافيّة مشتركة في العراق؟
- حوار مع حسين الموزاني
- مفهوم الحرب لدى فرويد


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الموزاني - الفجر